المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها


hania
10-18-2019, 06:22 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها
المؤلف: أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (المتوفى: 392هـ)
الناشر: وزارة الأوقاف-المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
الطبعة: 1420هـ- 1999م
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
المجلد الأول
المقدمات
تصدير
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير بقلم الأستاذ: محمد أبو الفضل إبراهيم رئيس لجنة إحياء التراث
القرآن الكريم كتاب الله الخالد، ودستور المسلمين الدائم {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ولم يكد يكتمل نزوله، وتُرتَّب بوحي من الله سوره وآياته، حتى كان محفوظًا في الصدور، مكتوبًا في الصحف، مرويًّا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوجوه الأحرف والقراءات.
وكان من الصحابة من رواه بحرف، ومنهم من رواه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرقوا في الأمصار، وتلقَّى عنهم التابعون، وعن التابعين أخذ مَنْ بعدهم، إلى أن انتهت الرواية إلى فريق من القراء في القرن الثاني من الهجرة، فانقطعوا للقراءات، واختصوا بها، وأخلَوْا ذرعهم لها، وجعلوا همهم الأكبر، وشغلهم الشاغل، العنايةَ بحصرها وضبطها، وتحرِّى الأَسناد الصحيحة في روايتها؛ حتى صاروا القدوة في هذا الشأن، إليهم تُشد الرحال، ويُقصَدون للتلقِّي عنهم من شتى الجهات، وكان منهم: نافع بن أبي نعيم بالمدينة، وعبد الله بن كثير بمكة، وعاصم بن أبي النَّجود بالكوفة، وأبو عمرو بن العلاء بالبصرة، وعبد الله بن عامر بالشام، وغيرهم ممن ذكرهم أصحاب كتب القراءات المشهورة.
قال صحاب النشر: "ثم إن القراء بعد هؤلاء المذكورين كثروا، وتفرقوا في البلاد وانتشروا، وخلفهم أمم بعد أمم، عُرِفت طبقاتهم، واختلفت صفاتهم، فكان منهم المتقن للتلاوة، المشهور بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بينهم لذلك الاختلاف، وقلَّ الضبط، واتسع الخرق، وكاد الباطل يلتبس بالحق؛ فقام جهابذة علماء الأمة، وصناديد الأئمة، فبالغوا في الاجتهاد، وبيَّنوا الحق المراد، وجمعوا الحروف والقراءات، وعزَوْا الوجوه والروايات، وميَّزوا بين المشهور والشاذ، والصحيح والفاذ، بأُصول أصَّلوها، وأركان فصَّلوها".
وقد انفسخت أمام هؤلاء العلماء مجالات البحث، وتنوعت المقاصد والأغراض، وأُثِر عنهم من الكتب والآراء ما لا يدخل تحت حصر، وما زالت عناية المسلمين قائمة بهذا الفن إلى اليوم -تصنيفًا وتدريسًا ورواية- في حلقات الدروس ومختلف المعاهد.
(1/3)
________________________________________
ومن العلماء الذين صنفوا في هذا الميدان الحسن بن أحمد بن عبد الغفار المعروف بأبي علي الفارسي، أحد أعيان القرن الرابع الهجري، أزهى العصور الإسلامية، وأحفلها بصنوف المعارف والآداب والعلوم، وضع كتابه "الحجة" في الاحتجاج للقراءات السبع، وبناه على كتاب أبي بكر بن مجاهد في هذه القراءات، وكان على نيَّة أن يضع كتابًا آخر في الاحتجاج للقراءات الشاذة؛ ولكن لم تيسر له ما أراد، وحالت محاجزات الأيام بينه وبين ما اعتزم.
فجاء تلميذه أبو الفتح عثمان بن جني، فقام بما هَمَّ به أستاذه ولم يفعله، وألف هذا الكتاب، وأتمه في أواخر عمره، بعد أن علت به السن، وطوى مراحل الشباب، واختار من القراءات الشاذة التي احتج لها ما كان له وجه يطمئن إليه في اللغة وأصول النحو وشواهد الشعر، أما ما عدا ذلك من القراءات فقد ردَّها وضعَّف القراءة بها، وقد رمى بتأليفه القربى إلى الله عز وجل، وابتغاء المثوبة منه، وأسماه كتاب "المحتسَب"؛ ليدل باسمه على الغرض الذي يريده به، لا على الموضوع الذي يديره عليه، كما يقول محققو الكتاب.
وقد رأت لجنة إحياء التراث الإسلامي -أداءً لرسالتها في بعث الكتب الأصلية- أن تقوم بنشر هذا الكتاب؛ فعهدت إلى ثلاثة من علماء العربية القيام بتحقيق هذا الكتاب والتعليق عليه؛ وهم: الأستاذ علي النجدي ناصف صاحب البحث الواعي عن كتاب سيبويه، والمقالات العلمية التي أودعها كتابه "قضايا اللغة والنحو"، والمرحوم الدكتور عبد الحليم النجار مترجم كتاب العربية ليوهان فك ومذاهب المفسرين لجولد زيهر وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان، وواضع التعليقات النافعة على هذه الكتب، والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي مؤلف كتاب "الإمالة في القراءات واللهجات العربية"، والبحث المستفيض الشامل عن أبي علي الفارسي.
وقد قاموا بما يستحقه هذا الكتاب من مقابلة نُسَخِه، وتحرير نصوصه، وتوجيه فصوله وأبوابه، بعد أن قدَّموه بمقدمة علمية؛ في التعريف بابن جني، ومنزلة كتابه "المحتسب" بين كتب القراءات.
والكتاب يقع في جزأين، وهذا هو الجزء الأول منه، ويتلوه الجزء الثاني -إن شاء الله- وعند إتمامه ستُلحق به الفهارس العامة المتنوعة، التي تيسِّر الانتفاع بالكتاب، وتكشف عن مقاصده وغاياته.
ونسأل الله هداية وعونًا، وتوفيقًا ورشدًا.
محمد أبو الفضل إبراهيم
(1/4)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
ومنه سبحانه نستمد العون، ونستلهم التوفيق، وعلى نبيه ورسوله محمد نصلي ونسلم، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
وبعد: فهذه مقدمة نسوقها بين يدي المحتسَب، ونورد فيها ترجمة مجملة لصاحبه، وكلمة عن نشأة الاحتجاج للقراءات وتطوره إلى القرن الرابع، وكلمة أخرى عن الكتاب المحتسب كما عرفناه.
"ابن جني"
هو عثمان بن جني الأزدي بالولاء؛ إذ كان أبوه جني مملوكًا روميًّا يونانيًّا لسليمان بن فهد الأزدي، وزير شرف الدولة قراوش، ملك العرب وصاحب الموصل1.
وجني -بإسكان الياء، وليس منسوبًا- معرب كني، ومعناه في العربية: فاضل، كريم، نبيل، جيد التفكير، عبقري، مخلِص2.
ولا يُعرف من نسب ابن جني غير أبيه، وله شعر يذكر فيه أن الله عوَّضه من نسبه علمًا إليه يُنسب وبه يشرف، وأنه يرجع بأرومته إلى قياصرة الروم، الذين دعا النبي لهم، قال:
فإن أُصبح بلا نسبٍ ... فعِلمي في الورى نسبي
على أني أَءُول إلى ... قُروم سادة نُجب
قياصرة إذا نطقوا ... أَرَم الدهرُ ذو الخطب3
أولاك دعا النبي لهم ... كفى شرفًا دعاء نبي
وكنيته أبو الفتح، وهي الكنية التي يُجريها في كتبه، ويصدر بها في المحتسب كلامه في الاحتجاج، على نحو ما يفعل شيخه أبو علي في الحجة.
__________
1 الكامل لابن الأثير: حوادث سنة 411.
2 مقدمة الخصائص: 8.
3 أرم: سكت.
(1/5)
________________________________________
وقد وُلد ابن جني بالموصل، وفيها نشأ، وإليها ينسب، وتختلف الروايات في تاريخ ميلاده؛ فابن خلكان في الوفيات وياقوت في المعجم يذكران أن مولده كان قبل الثلاثين والثلاثمائة، وأبو الفداء في مختصره يذكر أن مولده كان سنة 302هـ.
ويؤيد رواية ابن خلكان وياقوت أن ابن قاضي شهبة يقول في طبقات النحاة: إن ابن جني تُوفي وهو في سن السبعين، وقد رجحنا في موضع آخر أن وفاته كانت في سنة 392، فهذا يعني أن ولادته كانت سنة 322 أو سنة 321.
وقد يؤيد رواية ابن خلكان وياقوت أيضًا ويبعد رواية أبي الفداء قصة مرور الشيخ أبي علي بابن جني سنة 337 وهو متصدر للتدريس في مسجد الموصل، ثم قولة أبي علي له: تَزبَّبتَ وأنت حِصْرِم، حين اعترض عليه في قلب الواو ألفًا في نحو: قال، فوجده مقصرًا.
فأما أنها تؤيد رواية ابن خلكان وياقوت، فلأنها تقتضي أن يكون أبو الفتح إذ ذاك في الخامسة عشرة من عمره، وهي من أنسب سني العمر لمقالة أبي علي السابقة، فهي تعني أن ابن جني بجلوسه للتدريس فيها قد سبق أوانه، وتكلَّف من الأمر ما لا قِبَل لمن في مثل سنه به، وغير بعيد أن يقصِّر ابن جني في هذه السن في مسألة قلب الواو ألفًا، ولا سيما حين يكون صاحب الاعتراض فيها إمامًا من طراز أبي علي.
صحيح أنه يقلُّ أن يجلس امرؤ للتدريس في الخامسة عشرة من عمره؛ ولكن نبوغ ابن جني حقيق -فيما نعتقد- أن يجعله من هذا القليل، على أنه يجوز أن يكون الأمر كله مجرد مساءلة دارت بين أبي الفتح وبعض قرنائه، وأن أبا علي اختصه بالاعتراض؛ لأنه كان يبدو بينهم المقدَّم المرموق، وفُهم الأمر بعد ذلك لسبب من الأسباب على أنه جلوس للتدريس.
وأما أن هذه القصة تبعد رواية أبي الفداء، فلأنها تقتضي أن يكون أبو الفتح إذ ذاك في الخامسة والثلاثين، وما كان أبو الفتح ليقصِّر -وهو في هذه السن- في مسألة قلب الواو ألفًا، ولا لأبي علي أن يقول قولته تلك، وإلا بدت كلامًا لا مناسبة بينه وبين المقام الذي قيل فيه.
وأخذ ابن جني علومه عن كثير من رواة اللغة والأدب؛ منهم: أحمد بن محمد الموصلي، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحاج، وأبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم، ثم أبو علي الفارسي.
وقد صحبه ابن جني بعدما التقيا بالموصل سنة 337، ولازمه في السفر والحضر1.
__________
1 تجد تفصيل هذه التنقلات في كتاب "أبي علي الفارسي": 58-64.
(1/6)
________________________________________
وتذكر كتب التراجم أنه كان لأبي الفتح ثلاثة أولاد: علي، وعال، وعلاء. وقد أخذوا جميعًا عن أبيهم وتخرجوا عليه. ويتردد اسم عال وحده في كتب الطبقات، ولا يذكر ياقوت أنه أخذ عن أبي علي، وكذلك السيوطي في البغية؛ لكن القفطي يعده ممن أخذ العربية عن أبيه وعن أبي علي.
ويبدو أن أبا الفتح كان يعاني مع أسرته من هموم الحياة وتصاريفها، قال في خطبة المحتسب بعد أن ذكر ما كان عليه الشيخ أبو علي "من خلو سِربه، وإنبتات علائق الهموم عن قلبه":
"ولعل الخطرة الواحدة تخرق بفكري أقصى الحجب المتراخية عني في جمع الشتات من أمري، ودَمْل العوارض الحائجة لأحوالي، وأشكر الله ولا أشكوه، وأسأله توفيقًا لما يرضيه".
ويروي القِفطي في الإنباه أن ابن جني تُوفي سنة ثنتين وسبعين وثلثمائة1، ثم يعود فيذكر أنه خدم البيت البويهي: عضد الدولة، وولده صمصام الدولة، وولده شرف الدولة، وولده بهاء الدولة. وفي زمانه مات، وكان يلازمهم في دُورهم ويبايتهم2.
ومعلوم أن بهاء الدولة إنما ملك من سنة "379" إلى سنة "403" 3، وقد أهدى إليه أبو الفتح كتاب الخصائص.
ولهذا نرجح أن كلمة "سبعين" التي وردت في قول القفطي: "ثنتين وسبعين وثلاثمائة" محرفة عن كلمة "تسعين"، وأن وفاة أبي الفتح كانت سنة 392، وعلى هذا يكاد يجمع الرواة.
وكانت وفاته في بغداد، ودُفن في مقابرها، رحمه الله.
وقد أُحصي له في مقدمة الخصائص تسعة وأربعون كتابًا، ومع كل كتاب كلمة عنه. ونضيف هنا أن كتابه المسمى بالتمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري قد نُشر في بغداد سنة 1381هـ، سنة 1962م.
__________
1 إبناه الرواة: 2/ 336.
2 المصدر نفسه: 340.
3 شذرات الذهب: 3/ 166.
(1/7)
________________________________________
الاحتجاج للقراءات:
بدأ الاحتجاج للقراءات أول العهد به غضًّا يسيرًا، كدأب كل ناشئ يقبل النمو والتطور، فكان قليلًا مفرَّقًا لا يستوعب قراءة بعينها ولا عددًا من القراءات، وكان يعتمد على القياس وحمل القراءة على قراءة أخرى لمشابهة بينهما، إما في مادة اللفظ المختلَف في قراءته، وإما في بنيته، ثم أخذ يتجه مع ذلك إلى التخريج والاستشهاد.
فابن عباس -المتوفَّى سنة 68هـ- يقرأ: "نَنْشُرُها" بالنون المفتوحة والراء1، من قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} 2، ويحتج لقراءته بقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} 3.
وعاصم الجحدري -المتوفَّى سنة 128هـ- يقرأ: "مَلِكِ يوم الدين" بغير ألف، ويحتج على من قرأها "مالك" بالألف، فيقول: يلزمه أن يقرأ: "أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَالِكِ النَّاسِ"4.
وعيسى بن عمر -المتوفَّى سنة 149- يقرأ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} 5 بنصب الطير، ويقول: هو على النداء.
ويروون أن الكسائي قرأ أمام حمزة بن حبيب: "فَأَكَلَهُ الذِّيبُ"6 بغير همز، فقال حمزة: "الذئب" بالهمزة، فقال الكسائي: وكذلك أَهمز الحوت "فالتقمه الْحُؤت"؟ 7 قال: لا، قال: فلِمَ همزت "الذئب" ولم تهمز "الحوت"، وهذا "فأكله الذئب"، وهذا "فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ"؟ فرفع حمزة بصره إلى خلاد الأحول.... فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس فناظروه فلم يصنعوا شيئًا، فقالوا: أفدنا رحمك الله!
فقال لهم الكسائي: ... تقول إذا نسبت الرجل إلى الذئب: قد استذأَب الرجل، ولو قلت: قد استذاب بغير همز لكنت إنما نسبته إلى الْهُزال، تقول: قد استذاب الرجل إذا استذاب شحمه بغير همز، فإذا نسبته إلى الحوت تقول: قد استحات الرجل؛ أي: كثر أكله؛
__________
1 البحر المحيط: 2/ 293.
2سورة البقرة: 259.
3 سورة عبس: 22.
4 سورة الناس: 1.
5 سورة سبأ: 10.
6 سورة يوسف: 17.
7 سورة الصافات: 142.
(1/8)
________________________________________
لأن الحوت يأكل كثيرًا، ولا يجوز فيه الهمز، فلهذه العلة هُمز الذئب ولم يهمز الحوت.
وفيه معنى آخر: لا يسقط الهمز من مفرده ولا من جمعه، وأنشدهم:
أيها الذئب وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذؤب ضاريات1
ويكثر سيبويه المتوفَّى سنة 180 في كتابه من المفاضلة والاحتجاج لبعض القراءات التي قُرئت بها شواهده من القرآن الكريم، وأكثر معوَّله في ذلك على العربية ومبلغ القراءة التي يعرض لها من الموافقة للكثير الشائع من الأساليب واللغات، وعلى تحليل النص لإبراز معناه وإيضاح ما قد يكون بينه وبين أشباهه من فروق.
فيقول في باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده: "وحدثنا من نثق به أنه سمع من العرب مَن يقول: إِنْ عمرًا لمنطلق، وأهل المدينة يقرءون: "وَإِنْ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ" يخففون وينصبون، كما قالوا:
كأَنْ ثدييه حقان
وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله كما لم يغير عمل: لم يك، ولم أبل، حين حذف. وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء بالحذف كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضموا إليها ما"2.
وقال في باب الفاء: "وقال عز وجل: {فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ} فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملَكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعملون؛ ليجعلا كفره سببًا لتعليم غيره؛ ولكنه على كفروا فيتعلمون، ومثله: {كُنْ فَيَكُونُ} ، كأنه قال: إنما أمرنا ذاك فيكون"3.
وفي كتب معاني القرآن تخريجات لاختلاف الإعراب، واحتجاج لوجوه هذا الاختلاف، ونذكر على سبيل المثال كلام أبي يحيى زكريا الفراء -المتوفَّى سنة 207- عن آية: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} 4، وآية: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} 5.
وبدا لبعض القراء أن يجمعوا القراءات المختلفة، ويبحثوا عن أسنادها، فكان هارون بن موسى الأعور -المتوفَّى قبل سنة 200- أول مَن سمع بالبصرة وجوه القراءات، وألَّفها، وتتبع الشاذ منها، فبحث عن أسناده فيما يقول عنه أبو حاتم السجستاني6.
__________
1 إنباه الرواة: 2/ 258.
2 الكتاب: 1/ 283.
3 الكتاب: 1/ 432.
4 معاني القرآن: 1/ 105.
5 المصدر السابق: 210.
6 طبقات القراء: 2/ 348.
(1/9)
________________________________________
وألَّف يعقوب بن إسحاق الحضرمي -المتوفَّى سنة 205- كتابًا سماه الجامع، جَمَعَ فيه عامة اختلاف وجوه القرآن، ونَسَبَ كل حرف إلى مَن قرأ به فيما يقول الزبيدي1.
ويقول ابن الجزري في النشر عن أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفَّى سنة 224هـ: إنه كان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب، وجعلها فيما أحسب خمسًا وعشرين قراءة مع السبعة2.
ويقول ابن النديم عن محمد بن يزيد المبرد المتوفَّى سنة 285: إنه ألف فيما ألف كتاب احتجاج القراءة3.
ثم يجيء أبو بكر بن مجاهد -المتوفَّى 324هـ- فيؤلف كتابه الموسوم بقراءات السبعة، فيكون هو أول من سبَّع السبعة كما يقولون4، فأوحى كتابه هذا إلى العلماء بدراسات شتى تدور عليه أو تتصل به.
أ- فشرع أبو بكر محمد بن السري -المتوفَّى سنة 316- في تأليف كتاب يحتج فيه للقراءات الواردة في كتاب ابن مجاهد، فأَتَمَّ سورة الفاتحة، وجزءًا من سورة البقرة، ثم أمسك5.
ب - وألف أبو ظاهر عبد الواحد البزار -المتوفَّى سنة 349هـ- كتاب الانتصار لحمزة6.
ج- وألف محمد بن الحسن الأنصاري -المتوفَّى سنة 351هـ- كتاب السبعة بعللها الكبير7.
د- وألف أبو بكر محمد بن الحسن بن مِقسم العطار المتوفَّى سنة 362هـ:
1- كتاب احتجاج القراءات.
2- كتاب السبعة بعللها الكبير.
3- كتاب السبعة الأوسط.
4- كتاب السبعة الأصغر8.
هـ - وألف أبو علي الفارسي -المتوفَّى سنة 377- كتاب الحجة في الاحتجاج للقراءات السبعة.
و ويجيء ابن جني -المتوفَّى سنة 392- فيوحي إليه كتاب الحجة بالاحتجاج للقراءت الشاذة.
وبعد، فكأنما كان تأليف القراء الكتب في جمع القراءات ونسبتها والبحث عن أسنادها داعيًا لعلماء اللغة أن يؤلفوا الكتب في الاحتجاج لها، فقد مُهدت أمامهم السبيل، ومُدت لهم الأسباب، فكان جمع القراءات الخطوة الأولى والاحتجاج لها الخطوة التالية، والله أعلم.
__________
1 طبقات الزبيدي: 51.
2 كشف الظنون: 2/ 220.
3 الفهرست: 88.
4 إبراز المعاني: 5.
5 انظر: خطبة الحجة للفارسي.
6 الفهرست: 48.
7 الفهرست: 50.
8 المصدر السابق: 49.
(1/10)
________________________________________
مقدمة الكتاب "الْمُحْتَسَبُ":
ألَّف ابن مجاهد على رأس المائة الثالثة من الهجرة كتاب القراءات السبعة1؛ فانقسمت القراءات إلى شاذة وغير شاذة، وغلب وصف الشاذ على ما عدا القراءات السبع.
وبدا لأبي علي الفارسي أن يحتج للقراءات السبع؛ فألف كتابه الحجة، وفكَّر بعضَ الوقت أن يؤلف كتابًا مثله يحتج فيه للقراءات الشاذة؛ بل إنه فيما يقول ابن جني في مقدمة المحتسب: "قد هَمَّ أن يضع يده فيه ويبدأ به؛ فاعترضت خوالج هذا الدهر دونه، وحالت كبَواته بينه وبينه".
من أجل هذا تجرد ابن جني للقراءات الشاذة ينوب عن شيخه في الاحتجاج لها، ويؤدي حقها عليه، كما أدى شيخه حق القراءات غير الشاذة عليه؛ إذ كانت داعية الاحتجاج للنوعين ثابتة، والاستجابة لها لازمة؛ بل لعل داعية الاحتجاج للشاذ أثبت، والاستجابة لها ألزم.
قال في المقدمة يشرح غرضه من الاحتجاج للشاذ: " ... غرضنا منه أن نرى وجه قوة ما يسمى الآن شاذًّا، وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه، آخذ من سَمت العربية مهلة ميدانه؛ لئلا يُرَى مرى أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له".
ويقول في موضع آخر منها يبين رأيه في الشاذ ومكانه عند الله: ".... إلا أننا وإن لم نقرأ في التلاوة به مخافة الانتشار فيه، ونتابع مَن يتبع في القراءة كل جائز رواية ودراية، فإنا نعتقد قوة هذا المسمى شاذًّا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبُّله، وأراد منا العمل بموجبه، وأنه حبيب إليه، ومرضي من القول لديه".
وزاده رغبة في الإقبال على الشاذ والاحتجاج له أن أحدًا من أصحابه لم يتقدم للاحتجاج له على النحو الذي يريد، قال: "فإذا كانت هذه حاله عند الله ... وكان مَن مضى من أصحابنا لم يضعوا للحجاج كتابًا فيه، ولا أَوْلَوه طرفان من القول عليه؛ وإنما ذكروه مرويًّا مسلَّمًا
__________
1 النشر: 1/ 36.
(1/11)
________________________________________
مجموعًا أو متفرقًا، وربما اعتزموا الحرف منه فقالوا القول المقنع فيه ... حسُن بل وجب التوجه إليه، والتشاغل بعمله، وبسط القول على غامضه ومشكله".
فبذلك كان المحتسب في الاحتجاج لشواذ القراءات، ألفه أبو الفتح وقد عَلَت به السن، وأشرف على نهاية العمر، قال الشريف الرضي: كان شيخنا أبو الفتح النَّحْوِي عمل في آخر عمره كتابًا يشتمل على الاحتجاج بقراءة الشواذ1.
وقال أبو الفتح في مقدمة المحتسب: "وإن قصرت أفعالنا عن مفروضاتك وصلتها برأفتك بنا، وتلافيتنا من سيئات أنفسنا، ما امتدت أسباب الحياة لنا، فإذا انقضت علائق مُددنا، واستُوفي ما في الصحف المحفوظة لديك من عدد أنفاسنا، واستُؤنفت أحوال الدار الآخرة بنا؛ فاقبلنا إلى كنز جنتك التي لم تُخلق إلا لمن وسع ظل رحمتك".
وهذا كلام قلما يقوله إلا امرؤ غلب عليه التفكير في الآخرة، واستبد به حب التزود لها؛ لأنه يشعر أنه منيته قد دنت، وأن حياته قد آذنت بزوال، فهو يتخشع لله، ويبتغي إليه الوسيلة؛ عسى أن يثيبه الله مغفرة منه ورضوانًا، ولعله لذلك سماه المحتسب، واختار أن يدل باسمه على الغرض الذي يريده به، لا على الموضوع الذي يديره عليه.
ومنهج المحتسب كمنهج الحجة، لا يكاد يخالفه إلا بمقدار ما تقتضيه طبيعة الاحتجاج لقراءة الجماعة والقراءة الشاذة، فأبو الفتح يعرض القراءة، ويذكر مَن قرأ بها، ثم يرجع في أمرها إلى اللغة، يلتمس لها شاهدًا فيرويه، أو نظيرًا فيقيسها عليه، أو لهجة فيردها إليها ويؤنسها بها، أو تأويلًا أو توجيهًا فيعرضه في قصد وإجمال، أو تفصيل وافتنان، على حسب ما يقتضيه المقام، ويتطلبه الكشف عن وجه الرأي في القراءة.
وهو في الجملة أَخْذ بها واطمئنان إليها، وربما وقع في نفسك من كثرة ما عدَّد من خصائصها، واستخرج من لطفائها أنه يؤثرها ويحكم لها على قراءة الجماعة، كما في الاحتجاج لقراءة الحسن: "اهدنا صراطًا مستقيمًا"2.
وإن هو لم يجد للقراءة وجهًا يسكن إليه؛ إما لشذوذه في اللغة، وإما لحاجته في الاحتجاج إلى ضرب من التكلف والاعتساف، لم يتحرج أن يردها أو يضعف القراءة بها، لا يكاد يأخذها هي نفسها بهذا أو ذاك؛ ولكن يأخذ به الوجه الذي يتجه بها إليه، فهو أَخْذ غير مباشر ولا صريح.
فقال مثلًا في الاحتجاج لقراءة ابن مُحَيْصِن: "ثُمَّ أَطَّرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ"3 بإدغام الضاد في
__________
1 حقائق التأويل: 5/ 331.
2 سورة الفاتحة: 6.
3 سورة البقرة: 126، وانظر ص106 من هذا الجزء.
(1/12)
________________________________________
الطاء: "هذه لغة مرذولة". وقال في الاحتجاج لقراءة أبي جعفر يزيد: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"1 بضم التاء: "هذا ضعيف عندنا جدًّا".
وليس عجيبًا ولا منكورًا أن يتشابه الكتابان في المنهج على هذا النحو؛ فموضوعهما واحد، وصاحب الحجة أستاذ لصاحب المحتسب، ووَحْدَةُ الموضوع تستدعي تشابهًا في علاج مسائله، وللأستاذ في تلميذه تأثير، وللتلميذ في أستاذه قدوة.
ولهذا كان المحتسب -كما كانت الحجة- معرضًا حافلًا، يزخر بكثير من الشواهد والتوجيهات، وألوان من الآراء والبحوث اللغوية والصوتية، التي تدل على الغزارة والتمكن، وعلى شمول الإحاطة، ودقة الملاحظة، وبراعة القياس، وصحة الاستنباط.
وليس هذا بكثير على أبي الفتح، ولا هو مما يتعاظمه، فذلك دَأْبُه في كل ما عرفنا له من كتب، ثم هو بعد هذا قد ألف المحتسب في آخر حياته -كما سبق- أي: حين استفاضت تجاربه، واستحصدت مَلَكَاته، وبلغت معارفه غاية ما قُدر لها من نضج واكتمال.
على أن ابن جني كان يأخذ على الحجة أن الشيخ أبا علي قد أغمضه، وأطال الاحتجاج فيه؛ حتى عيَّ به القراء، وجفا عنه كثير من العلماء.
قال في مقدمة المحتسب: "فتجاوز فيه قدر حاجة القراء إلى ما يجفو عنه كثير من العلماء"، وقال في الاحتجاج لقراءة "تمامًا على الذي أحسنُ"2: وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب الحجة في قراءة السبعة، فأغمضه وأطاله حتى منع كثيرًا ممن يدِّعي العربية فضلًا عن القَرأَة وأجفاهم عنه".
فلم يشأ أن يكون في المحتسب كما كان شيخه من قبله في الحجة؛ لهذا لا تراه يُكثر مثله من الشواهد، ولا يمعن إمعانه في الاستطراد، ولا يغمض إغماضه في الاحتجاج، وهو يذكر هذا وينبه عليه في مواطن شتى من الكتاب.
فيقول في الاحتجاج لقراءة "لا تنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا"3: "والشواهد على ذلك كثيرة؛ لكن الطريق التي نحن عليها مختصرة قليلة قصيرة".
ويقول في الاحتجاج لقراءة "فَأَكْثَرْتَ جِدَلَنَا"4: ولولا أن القراء لا ينبسطون في هذه الطريق لنبهت على كثير منه؛ بل إذا كان منتحلو
__________
1 سورة البقرة: 34، وانظر ص71 من هذا الجزء.
2 سورة الأنعام: 154.
3 سورة الأنعام: 158.
4 سورة هود: 32.
(1/13)
________________________________________
هذا العلم والمترسمون به قلما تطوع1 طباعهم لهذا الضرب منه.... فما ظنك بالقراء لو جُشموا النظر فيه والتقري لِعَزْوره2 ومطاويه؟
ولعزوف ابن جني عن الإسهاب والإمعان في الاستطرد نراه في مقدمة المحتسب يفضل كتاب أبي حاتم السجستاني في الشواذ على كتاب قطرب "من حيث كان كتاب أبي حاتم مقصورًا على ذكر القراءات، عاريًا من الإسهاب في التعليل والاستشهادات التي انحط قطرب فيها، وتناهى إلى متباعد غاياتها".
على أن أبا الفتح -أحسن الله إليه- لم يلتزم الاقتصاد في الاستشهاد في كل مقام، ولا سيما حين تكون القراءة غريبة، يدعو ظاهرها إلى التناكر لها والتعجب منها.
فقد استشهد في قراءة: "اهدنا صراطًا مستقيمًا" بعشرة شواهد، بعضها من شعر المولدين، واحتج لقراءة: "وَلا أَدْرَأتُكُمْ بِهِ" فأطال الاحتجاج ما شاء الله أن يطيل، ثم ختمه بقوله: وهذا وإن طالت الصنعة فيه أمثل من أن تُعطَى اليد بفساده.
وعبارة المحتسب مرسلة متدفقة، فيها طلاوة بادية، وعليها مسحة ملازمة من عذوبة الفن وأناقته، مبسوطة في غير حشو ولا فضول، يشيع فيها الازدواج، ويطول الفصل، جزلة الألفاظ، لا تخلو أحيانًا من بعض الغريب الذي يحتاج في الكشف عن معناه الذي يقتضيه المقام إلى فضل تأَوُّل وإمعان، وفي مقدمة الكتاب أمثلة له متفرقة.
أما شواهد المحتسب فكثيرة؛ لكن يشيع فيها التَّكْرَار؛ لتكرر مقتضيات الاستشهاد بها، وجملتها من الشعر، وفيها قليل من حديث الرسول وكلام البلغاء والأمثال السائرة، وطريقته في إيرادها لا تخالف طريقة العلماء الآخرين؛ فهو ينسب بعضها ولا ينسب بعضها الآخر، ويرويها في أكثر الأمر أبياتًا كاملة، وفي أقله أجزاء من الأبيات، يبلغ أحدها شطر البيت، وقد يقل عنه أو يزيد عليه، وربما روى الشاهد مع بعض صلته، فإذا هو معها بضعة أبيات.
وأكثر شواهده مما يتردد في كتب اللغة وعلومها، وبينها طائفة من أشعار المولدين، يأتي بها للاستئناس والتمثيل، أو لإيضاح المعنى وتأييده، قال وقد روى بيتًا للمتنبي في أثناء الاحتجاج لقراءة "وَلِيَلْبَسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ"3 بفتح الباء: "ولا تقل ما يقوله مَن ضعفت نحيزته، وركت طريقته: هذا شاعر محدث، وبالأمس كان معنا، فكيف يجوز أن يُحتج به
__________
1 تنقاد.
2 شديده ومتجافيه.
3 سورة الأنعام: 137.
(1/14)
________________________________________
في كتاب الله -جل وعز- فإن المعاني لا يرفعها تقدُّم، ولا يُزري بها تأخر. أما الألفاظ، فلعمري إن الموضع معتبر فيها".
ومصادر المحتسب -كما يقول في المقدمة- نوعان: كتب يأخذ منها، وروايات صح لديه الأخذ بها.
فأما الكتب فهي:
1- كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، الذي وضعه لذكر الشواذ من القراءة.
2- كتاب أبي حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني.
3- كتاب أبي علي محمد بن المستنير قطرب.
4- كتاب المعاني للزجاج.
5- كتاب المعاني للفراء.
وأما ما صح عنده الأخذ به مما يرويه عن غيره فيقول عنه: "لا نألو فيه ما تقتضيه حال مثله من تأدية أمانته، وتحرِّي الصحة في روايته".
وقد نقل عن طائف من رواة اللغة وعلمائها، وسنقصر الكلام على نقله عمن يبدو أثرهم في الكتاب، ويكثر ذكرهم فيه.
ولم يكن ابن جني يتقبل كل ما ينقله أو يأخذه على ما خيلت؛ ولكنه كان ينظر فيه وينقده، في تلطف ورفق حينًا، وفي قوة وعنف حينًا آخر، صريحًا واضحًا، وحُرًّا مستقلًّا، وعادلًا منصفًا في كل حين، ينشد الحقيقة وينزل على حكمها أنَّى تكون.
لقد نقل عن سيبويه واستشهدج بكثير من شواهده، فوافقه وخالفه، وربما جاوز الوفاق إلى الدفاع، وجاوز الخلاف إلى الإنكار والملام، كما في الاحتجاج لقراءة: "وَيُعَلِّمْهُمُ الْكِتَابَ"1 بسكون الميم، فقد أورد قول امرئ القيس:
فاليوم أَشربْ غير مستحقِب ... إثمًا من الله ولا واغل
ثم قال: "وأما اعترض أبي العباس هنا على الكتاب، فإنما هو على العرب لا علي صاحب الكتاب؛ لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضًا غيره. وقول أبي العباس: إنما الرواية "فاليوم فاشرب"، فكأنه قال لسيبويه: كذبتَ على العرب، ولم تسمع ما حكيت عنهم! وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرَف؛ فقد سقطت كلفة القول معه".
__________
1 سورة البقرة: 129.
(1/15)
________________________________________
وكما في الاحتجاج لقراءة عيسى بن عمر "عَلَى تَقْوًى مِنَ اللَّهِ"1 بالتنوين، فقد رَوى أن سيبويه سُئل عن وجه التنوين هنا فقال: لا أدري، ولا أعرفه، وقال ابن جني يبين الوجه: "وأما التنوين فإنه وإن كان غير مسموع إلا في هذه القراءة، فإن قياسه أن تكون ألفه للإلحاق لا للتأنيث ... وكان الأشبه بقدر سيبويه ألا يقف في قياس ذلك، وألا يقول: لا أدري ... فأما يقول سيبويه: لم يقرأ بها أحد فجائز -يعني: فيما سمعه- لكن لا عذر له في أن يقول: لا أدري".
ونقل عن شيخه أبي علي الفارسي، فرَوى مما أنشده إياه من شواهد، وما أخذه عنه من أصول، ما انتهيا إليه من رأي في المسائل التي دار بينهما فيها حوار ومساءلة، يعرض كل أولئك في صراحة وأمانة، ثم يختم النقل ويعقب عليه بما قد يكون عنده من مزيد.
فتراه مثلًا يقول:
أنشدنا أبو علي.....، أو حدثني أبو علي، أو وهذا أخذناه عن أبي علي، ثم يقول: هذا آخر الحكاية عن أبي علي، وينتقل إلى إضافة ما يريد أن يضيف، مما يستقل به من رأي، فتراه مثلًا يقول: "ينبغي أن يُعلم ما أذكره"، أو: "وفيه عندي شيء لم يذكره أبو علي ولا غيره من أصحابنا"، أو: "ووجه ذلك عندي ما أذكره"، أو نحو ذلك مما يتردد كثيرًا في مواضع مختلفات من المحتسب.
ونقل عن الكسائي فأُعجب به وأَنكر عليه؛ ففي الاحتجاج لقراءة: "وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ"2 بضم الياء وفتح الدال يقرر أنها جاءت "على خدعَتْه نفسه لما كان معناه معنى انتقصته نفسه أو تخونته نفسه، ورأيت أبا علي يذهب إلى استحسان مذهب الكسائي في قوله:
إذا رضِيت عليَّ بنو قُشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
لأنه قال: عدَّى رضيت "بعلى" كما يعدَّى نقيضها وهي سخطت به، وكان قياسه رضيت عني، وإذا جاز أن يُجرى الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ، فهذا مذهب الكسائي، وما أحسنه!
وفي الحديث عن قراءة يعقوب: "وَيْكَ أَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ"3 بالوقف على "ويك" والابتداء "بأنه"، يقول بعد أن أورد بيت عنترة:
ولقد شفى نفسي وأَبرأَ سُقْمَها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
__________
1 سورة التوبة: 109.
2 سورة البقرة: 9.
3 سورة القصص: 82.
(1/16)
________________________________________
وقال الكسائي فيما أظن: أراد ويلك، ثم حذف اللام، وهذا يحتاج إلى خَبَرِ نبي ليُقبل".
ونقل عن ابن مجاهد فوثق به في النقل والرواية، وتعقبه في اللغة بالإنكار والمخالفة، فيقول في المقدمة عن كتابه في الشواذ: " ... أَثبتُ في النفس من كثير من الشواذ المحكية عمن له روايته ولا توفيقه ولا هدايته".
وينقل تفسيره لقراءة: "ولا يَوُوده حِفظها"1 بلا همز، ثم يقول: "خلَّط ابن مجاهد في هذا التفسير تخليطًا ظاهرًا، غير لائق بمن يعتد إمامًا في روايته، وإن كان مضعوفًا في فقاهته".
وينقل قراءة يحيى وإبراهيم السلمي: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"2 بالياء ورفع الميم، وينقل معها قول ابن مجاهد فيها: وهو خطأ، ثم يقول: قول ابن مجاهد إنه خطأ فيه سرف؛ لكن وجه غيره أقوى منه.
وينقل قراءة: "أنبهم" بوزن أعطهم، قراءة "أنبيهم" بلا همز، وقراءة "أنبئهم"3، وينقل معها أيضًا قول ابن مجاهد فيها: وهذا لا يجوز، ثم يمضي في الاحتجاج لهذه القراءات، والتماس الوجه لكل منها، حتى إذا بلغ من ذلك غايته قال: فقد علمت بذلك أن قول ابن مجاهد: هذا لا يجوز، لا وجه له؛ لما شرحناه من حاله، ورحم الله أبا بكر، فإنه لم يأْل فيما علمه نصحًا، ولا يلزمه أن يُري غيره مالم يُره الله تعالى إياه. وسبحان قاسم الأزراق بين عباده، وإياه نسأل عصمة وتوفيقًا وسدادًا بفضله.
ورأَيْنَا ابن جني في المحتسب يأخذ ببعض ما لم يرَ الأخذ به في الخصائص، فإذا هو بذلك لا يخالف رأيًا له وحسب؛ ولكنه يخالف مذهبه النحوي أيضًا.
قال في الخصائص: وسمعت الشجري أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحلقي في نحو يعدو وهو محموم، ولم أسمعها من غيره من عُقيل؛ فقد كان يَرِد علينا منهم من يؤنس به ولا يبعد عن الأخذ بلغته، وما أظنُّ الشجري إلا استهواه كثرة ما جاء عنهم من تحريك حرف الحلق بالفتح إذا انفتح ما قبله في الاسم على مذهب البغداديين ... وهذا قاسه الكوفيون، وأن كنا نحن لا نراه قياسًا؛ لكن مثل يعدو وهو محموم لم يُروَ عنهم فيما علمت4.
وقال في المحتسب في الاحتجاج لقراءة "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرَحٌ"5 بفتح القاف والراء: قَرْح
__________
1 سورة البقرة: 255.
2 سورة المائدة: 50.
3 سورة البقرة: 33.
4 الخصائص: 2/ 9.
5 سورة آل عمران: 140.
(1/17)
________________________________________
وقَرَح كالحلْب والحلَب.... وفيه أيضًا قُرْح على فُعْل، يقرأ بهما جميعًا، ثم لا أبعد من بعد أن تكون الحاء لكونها حرفًا حلقيًّا يفتح ما قبلها كما تفتح نفسها فيما كان ساكنًا من حروف الحلق، نحو قولهم في الصخْر: الصَّخَر ... ولعمري إن هذا عند أصحابنا ليس أمرًا راجعًا إلى حرف الحلق؛ لكنها لغات.
وأنا أرى في هذا رأي البغداديين في أن حرف الحلق يُؤَثر هنا من الفتح أثرًا معتدًّا معتمدًا، فلقد رأيت كثيرًا من عُقيل لا أحصيهم تُحرك من ذلك ما لا يتحرك أبدًا لولا حرف الحلق، وهو قول بعضهم: نحَوه، يريد: نحوه، وهذا ما لا توقف في أنه أمر راجع إلى حرف الحلق؛ لأن الكلمة بنيت عليه ألبتة، وبعد أن دلل على ذلك، وذكر ما سمعه من الشجري قال: ولا قرابة بيني وبين البصريين؛ لكنها بيني وبين الحق، والحمد لله.
وقد سمع ابن جني من عرب عُقيل، ونقل عمن يثق بعربيته منهم إلى المحتسب وغيره، كما فعل سيبويه من قبل؛ فتراه يقول في المحتسَب مثلًا: حضرني قديمًا بالموصل أعرابي عُقيلي، أو رأيت كثيرًا من عُقيل لا أحصيهم، أو سمعت غلامًا حدثًا من عُقيل ... وهكذا.
ويبدو أن سبب اختصاصه بني عُقيل بالأخذ والرواية أنهم كانوا بالكوفة والبلاد الفراتية والجزيرة والموصل، هاجروا إليها بعدما غُلبوا على مساكنهم في البحرين1.
وأفاد ابن جني في الاحتجاج للشواذ من لهجات القبائل، يرجع إليها ويُخرِّج على مقتضاها؛ ولهذا ورد في المحتسب كثير منها. وقد أفرد المرحوم الأستاذ تيمور ثبتًا لهذه اللهجات في صدر كل جزء من جزأي نسخة المحتسب المحفوظة في خزانته، رحمه الله.
ويذكرابن جني في المحتسب طائفة من أصول العربية وقواعدها العامة: من لغوية ونحوية وعروضية، دعته دواعي الاحتجاج وتأييد الرأي إلى إيرادها في مواطن شتَّى من الكتاب؛ من مثل: العرب إذا انطقت بالأعجمي خلَّطت فيه2، ويجوز مع طول الكلام ما لا يجوز مع قصره3، ووقوع الواحد موقع الجماعة فاش في اللغة4، والخطاب بالتاء أذهب في قوة الخطاب5، والقوافي حوافر الشعر، وتشبع العرب
__________
1 صبح الأعشى: 1/ 342.
2 انظر: الاحتجاج لقراءة "إسراييل" بلا همز، سورة البقرة: 40.
3 انظر: الاحتجاج لقراءة: "فأمتعه قليلًا ثم اضطره" على الدعاء، سورة البقرة: 126.
4 انظر: الاحتجاج لقراءة: "وملائكته وكتابه" على التوحيد، سورة النساء: 136.
5 انظر: الاحتجاج لقراءة: "فبذلك فلتفرحوا" بالتاء، سورة يونس: 58.
(1/18)
________________________________________
مدات التأسيس والردف والوصل والخروج عناية بالقافية؛ إذ كانت للشعر نظامًا، وللبيت اختتامًا1، والأمثال تجري مجرى المنظوم في تحمل الضرورة2.
وفي الكتاب كذلك عرض لبعض مسائل البلاغة؛ ففي الاحتجاج لقراءة ابن عباس: "إني أراني أعصر عِنَبًا"3 كلام عن بعض صور المجاز المرسل، وفي الاحتجاج لقراءة: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"4 كلام عن نظم الأسلوب وعَلاقته بإرادة ناظمه، وفي الاحتجاج لقراءة: "اهْدِنَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا"5 كلام عن التجريد، وهكذا.
فرضي الله عنك يا أبا الفتح، وأثابك بما صنعت في المحتسب لكتابه ولغة نبيه، لقد أعملت فيه عبقريتك، وبذلت له من جُهْدك ما شاء الله أن تبذل؛ حتى استوى بين يديك سِفْرًا جليلًا، وظل على الزمان ذكرًا حميدًا وأثرًا باقيًا.
علي النجدي ناصف، عبد الحليم النجار، عبد الفتاح شلبي
__________
1 انظر: الاحتجاج لقراءة: "يا حسره على العباد" بالهاء، سورة يس: 30.
2 انظر: الاحتجاج لقراءة: "قل رب احكم بالحق" بضم الباء والألف ساقطة على أنه نداء مفرد، سورة الأنبياء: 112.
3 سورة يوسف: 36.
4 سورة البقرة: 31.
5 سورة الفاتحة: 6.
(1/19)
________________________________________
النسختان اللتان اعتمدنا عليهما في تحقيق المحتسب:
اعتمدنا في تحقيق المحتسب على نسختين:
أولاهما: نسخة دار الكتب المصرية برقم 78، قراءات، وتاريخ نسخها سنة 528، وعدد أوراقها 169 ورقة، كتبت بخط مغربي، وتشتمل الصفحة الواحدة على 26 سطرًا، ويحتوي السطر الواحد في المتوسط على سبع عشرة كلمة، وفي الزاوية اليمنى من صفحة العنوان سبعة أسطر على هيئة مثلث قاعدته إلى أعلى، ورأسه إلى أسفل، والأسطر السبعة على النحو الآتي:
وإلى اليسار من هذا المثلث، وفي محاذاة السطر الثاني منه كتبت كلمتا: "مكتوب بآخره"، ثم طُبع بخاتم لم نتبينه. وإلى اليمين من هذا الخاتم وفوق المحتسب من عنوان الكتاب ما يأتي: "بفتح السين كما ضبطه ... "، وبقية الكلام لم نتبينه لانطماسه بالخاتم المذكور.
وإلى اليسار من أعلى هذا الخاتم، ومن وسطه الملاصق له عبارة لنا منها: من كتب ... المدني، وبقية الكلمات لم نتبينها لعدم ظهور بعضها، ولترميج بعضها الآخر.
وفي طرف الجانب الأيسر من الخاتم تمليك في ثلاثة أسطر:
من كتب
عبد ... أحمد بن محمد
.... .... ....
والمحذوف لم نتبينه.
(1/20)
________________________________________
وتحت هذا التمليك كلمتا: نعمان الحسنى في سطرين، وعبارة: "ثم صار في محاز أحمد باحسن كان الله له آمين" في أربعة أسطر.
وفي أسفل الختم عنوان الكتاب واسم مؤلفه في ثلاثة أسطر على النحو الآتي:
الكتاب المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها.
تأليف أبي الفتح عثمان بن جني النحوي رحمه الله، ويلي هذا ما كتبه الطاهر السلفي بخطه، وهذا نصه:
قرأ عليَّ هذا الكتاب الفقيه الأَجل العالم البر عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن سعيد الداني المقرئ حرسه الله من هذا النوع، وأنا أنظر في أصل كتاب أبي الحسن نصر بن عبد العزيز بن نوح الشيرازي الذي عليه خط علي بن زيد القاساني بسماعه، وكان يرويه عن مؤلفه أبي الفتح.
وقرأت أنا علَى مرشد بن علي بن القاسم المدني من أوله إلى ابتداء سورة المائدة، وأجاز لي رواية باقيه عنه كما أجازه له شيخه أبو الحسين الشيرازي عن القاساني عن مصنفه، وحضر قراءته من فقهاء الأندلس وغيرهم نفر لم يكمل لأحد منهم سماع جميع الكتاب سوى ولده النجيب أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحسن المقرئ وفقه الله تعالى.
وقد سمعا عليَّ أيضًا كتاب المحدِّث الفاصل بين الراوي والواعي، وهو كتاب مفيد في علم الحديث، أخبرنا به أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد أنا أبو الحسن علي أحمد بن علي الفالي، أنا أبو عبد الله أحمد بن إسحاق بِزَخَرْ باذ النهاوندي، أنا القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي مؤلفه. وكتاب نكت إعجاز القرآن الذي أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن ميمون النصيبي الكاتب، أنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني مؤلفه. وكتاب بيان إعجاز القرآن الذي أخبرنا به ابن بركات أنا سعيد بن علي الزنجاني أبو القاسم الصيدلاني الثقفي، أنا علي بن الحسن السجزي، أنا أبو سيلمان الخطابي.
وكتاب الجمعة وفضلها، ومسند عائشة تأليف القاضي أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي، أخبرنا به مرشد بن علي المديني، أنا علي بن محمد بن علي الفارسي، أنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن المفسر الدمشقي، أنا المروزي. وكتاب العلم الذي انتقاه عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي بكر أحمد بن محمد بن أبي عيد المهندس، أخبرنا مرشد أنا عبد الملك بن
(1/21)
________________________________________
عبد الله بن مسكين، أنا المهندس. وكتاب الأربعين في الخطب والمواعظ، أخبرنا به القاضي أبو نصر بن علي بن وَدْعان الموصلي مؤلفه. والمجالس الخمسة التي أمليتها أنا بسَلَماس1 سنة ست وخمسمائة، وغير ذلك من الأجزاء المنثورة.
وأجزت لهما جميع ما يصح عندهما من مسموعاتي ومجموعاتي، وأذنت لهما في رواية ذلك عني على الشرائط المرعية في الإجازات الشرعية. وكتب أحمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم السلفي2 الأصبهاني بالإسكندرية في صفر سنة ثمان وعشرين وخمسمائة حامدًا لله ومصليًا على رسوله وآله وصحبه وأزواجه. وقد جعلنا هذه النسخة أصلًا.
وأما النسخة الأخرى التي استعنا بها، فهي محفوظة بدار الكتب المصرية قراءات 252، وهي في مجلد واحد، عدد صفحاته 854 صفحة، وتم نسخها في 19 من ذي الحجة سنة 1335هـ، بخط الكاتب محمود بن عبيد الملقب بخليفة، المدرس بالمدارس الثانوية المصرية، وهي بخط نسخ واضح، وتحتوي الصفحة على 21 سطرًا، ويشتمل السطر على تسع كلمات في المتوسط.
وطول الصفحة 24سم، شغل بالكتابة منها 18سم، وعرضها 17سم، شغل بالكتاب منها 9سم، وورقها غليظ سميك.
وقد رمزنا لها بالحرف "ك".
__________
1 مدينة مشهورة بأذربيجان.
2 هو أبو طاهر السلفي الحافظ العلامة الكبير أحمد بن أحمد الأصبهاني، تُوفي سنة 576. شذرات الذهب: 4/ 255.
(1/22)
________________________________________
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال أبو الفتح عثمان بن جني "رحمه الله تعالى وعفا عنه":
اللهم إنا نحمدك أقصى مدى الحامدين، ونعترف بآلائك كما أَوْجبت على المطيعين من عبادك المعترفين، ونسألك أن تصلي على نبيك المرتضَى محمد وآله الطاهرين، وأن تحسن عوننا وتسديدنا على ما أجمعنا فيه القربة إليك في أملنا به لطف المسعاة فيما يدني منك، ويُحْظِي بالزُّلفة1 لديك، وأن تجعل أعمالنا لك، واتصالاتنا بك، ومطالبنا مقصورة على مرضاتك، وإن قَصُرت أفعالنا عن مفروضات وصَلْتَها برأفتك بنا، وتلافيتنا من سيئات أنفسنا ما امتدت أسباب الحياة لنا.
فإذا انقضت علائق مُدَدِنا، واستُوفِيَ ما في الصحف المحفوظة لديك من عدد أنفاسنا، واستؤنفت أحوال الدار الآخرة بنا، فاقلبنا إلى كنز2 جنتك التي لم تخلق إلا لمن وسع ظل رحمتك، واجعل أَمَامَنَا هاديًا من طاعاتنا لك، وزكوات ما علمتناه من وجوه حكمتك، وشرحت صدورنا لمعرفته من لطائف مودَعَات لغة نبيك، التي فضلتها على سائر اللغات، وفَرَعْتَ بها فيه سامي الدرجات، وخصصت بأشرفها طريقًا وألطفها مسرى وعروقًا، كتابك المنزل على لسان أمينك، المرسل إلى جنان صفيك خاتم الرسل، ثم مُعَقِّب الأنبياء والملل "صلى الله عليهم وسلم وبَجَّلَ وكرَّم".
وجعلتَ عنوان تصديقه، الباعثَ على سلوك طريقه، ما أَودعته من إعجاز كَلِمه الذي كدَّ بِمَهْلِه شدَّ المجدين، واستولى بأوله على آخر غاية الناطقين، ورَذِيت3 دون أدناه مُنَن
__________
1 الزلفة بالضم: المنزلة والقربة.
2 في ك: ظل.
3 ضعفت، يقال: رذي، وهو الضعيف من كل شيء.
(1/31)
________________________________________
البرِّزين، وخَطِلَت1 إليه المفوَّهين، وخرست لحكمه شقاشق الشياطين، فانتظم لغات العرب على مثناتها2.... 3 وارِدَ القراءات من متوجهاتها، فأتى ذلك على طهارة جميعه، وغزارة ينبوعه ضربين:
ضربًا اجتمع عليه أكثر قراء الأمصار، وهو ما أودعه أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد4 -رحمه الله- كتابه الموسوم بقراءات السبعة، وهو بشهرته غانٍ عن تحديده.
وضربًا تعدى ذلك، فسماه أهل زماننا شاذًّا؛ أي: خارجًا عن قراءة القراء السبعة المقدم ذكرها، إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالروايات من أمامه وورائه، ولعله -أو كثيرًا منه- مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه. نعم، وربما كان فيه ما تلطف صنعته، وتعنُف5 بغيره فصاحته، وتمطوه6 قوى أسبابه، وترسو به قَدَمُ إعرابه؛ ولذلك قرأ بكثير منه مَن جاذب ابن مجاهد عِنَان القول فيه، وما كَنَه عليه، وراده إليه؛ كأبي الحسن [2ظ] أحمد بن محمد بن شَنَبوذ7، وأبي بكر محمد بن الحسن بن مِقْسم8، وغيرهما ممن أدى إلى رواية استقواها، وأنحى على صناعة من الإعراب رضيها واستعلاها.
ولسنا نقول ذلك فسحًا بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءاتهم، أو تسويغًا للعدول عما أقرته الثقات عنهم؛ لكن غرضنا منه أن نُرِي وجه قوة ما يسمى الآن شاذًّا، وأنه ضارب في صحة الرواية بِجِرانه،
__________
1 خطل في منطقه: اضطرب كلامه. يريد أن ألسن المفوهين يتبين فيها الخلل والاضطراب إذا قيست إليه.
2 مثناة الجبل: طاقته وقوته، فمثناة اللغات: طاقاتها التي تتألف منها.
3 بمكان النقط في الأصل طمس لم نتبينه، وبمكانها في ك بياض.
4 هو أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي المعروف بابن مجاهد، ولد سنة 245هـ ببغداد، وصار إمامًا في القراءات، وهو أول من سبع القراءات، تُوفي سنة 324. طبقات ابن الجزري: 1/ 139.
5 عنف به: عذله ولامه، يريد أن فصاحته متفوقة، تلوم غيره على تخلفه في مضمار الفصاحة.
6 تمطوه: تمده.
7 الذي في القاموس "محمد بن أحمد بن شنبوذ". وفي التاج: وفي كتب الأنساب: "تفرد بقراءات شواذ كان يقرأ بها في المحراب، وأمر بالرجوع فلم يجب، فأمر ابن مقلة به فصفع فمات سنة 323"، وفيه: "ويوجد في بعض نسخ الشفاء لعياض: أحمد بن أحمد بن شنبوذ، وهو خطأ، والصواب محمد بن أحمد"، وفي طبقات ابن الجزري في ترجمة ابن مقسم أن ابن شنبوذ كان يعتمد على السنة في القراءة وإن خالف المصحف مع الموافقة للعربية، وله ترجمة واسعة في طبقات ابن الجزري: 2/ 52.
8 هو بغدادي أيضًا من أئمة القراءة، ويذكر عنه أنه كان يقول: إن كل قراءة وافقت المصحف ووجهًا في العربية فالقراءة بها جائزة، وكانت وفاته سنة 354. طبقات ابن الجزري 2/ 123.
(1/32)
________________________________________
آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه؛ لئلا يُرَى مرى1 أن العدول عنه إنما هو غض منه، أو تهمة له.
ومعاذ الله! وكيف يكون هذا والرواية تنميه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ؟ 2 وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ، وأَخذه هو الأخذ به، فكيف يسوغ مع ذلك أن ترفضه وتجتنبه.
فإن قَصُر شيء منه عن بلوغه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلن يقصر عن وجه من الإعراب داعٍ إلى الفسحة والإسهاب، إلا أننا وإن لم نقرأ في التلاوة به مخافة الانتشار فيه، ونتابع مَن يتبع في القراءة كل جائز رواية ودراية، فإنا نعتقد قوة هذا المسمى شاذًّا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبله، وأراد منا العمل بموجبه، وأنه حبيب إليه، ومرضيٌّ من القول لديه.
نعم، وأكثر ما فيه أن يكون غيره من المجتمع عندهم عليه أقوى منه إعرابًا وأنهض قياسًا؛ إذ هما جميعًا مرويان مسندان إلى السلف -رضي الله عنهم- فإن كان هذا قادحًا فيه، ومانعًا من الأخذ به؛ فليكونن ما ضعف إعرابه مما قرأ بعض السبعة به هذه حاله، ونحن نعلم مع ذلك ضعف قراءة ابن كثير3 "ضئاء"4 بهمزتين مكتنفتي الألف، وقراءة ابن عامر5: "وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائهم"6، وسنذكر هذا ونحوه في مواضعه متصلًا بغيره، وهو أيضًا مع ذلك مأخوذ به.
ولعمري، إن القارئ به من شاعت قراءته، واعتيد الأخذ عنه، فأما أن نتوقف عن الأخذ به؛ لأن غيره أقوى إعرابًا منه فلا؛ لما قدمنا، فإذا كانت هذه حالَه عند الله -جل وعلا- وعند رسوله المصطفى، وأولي العلم بقراءة القراء، وكان مَن مضى من أصحابنا لم يضعوا للحِجَاج كتابًا فيه، ولا أَوْلَوه طرفًا من القول عليه؛ وإنما ذكروه مرويًّا مسلَّمًا مجموعًا أو متفرقًا، وربما اعتزموا
__________
1 لئلا يرى مرى: لئلا يظن ظان.
2 سورة الحشر: 7.
3 هو عبد الله بن كثير، يرجع إلى أصل فارسي، لقي عبد الله بن الزبير وأبا أيوب الأنصاري وأنس بن مالك، وصار أمام القراءة في مكة، وأحد القراء السبعة، مات سنة 120. طبقات ابن الجزري: 1/ 443.
4 وردت هذه الكلمة في الآيات 5 من سورة يونس، و48 من سورة الأنبياء، و71 من سورة القصص. وهذا القراءة هي رواية قنبل عن ابن كثير، كما في إتحاف فضلاء البشر.
5 هو عبد الله بن عامر اليحصبي، يرجع في أصله إلى حمير، وهو من التابعين، وكان إمام أهل الشام في القراءة، وأحد القراء السبعة، توفي سنة 118. طبقات ابن الجزري: 1/ 423.
6 سورة الأنعام: 137.
(1/33)
________________________________________
الحرف منه فقالوا القول المقنع فيه، فأما أن يفردوا له كتابًا مقصورًا عليه، أو يتجردوا للانتصار له، ويوضحوا أسراره وعلله فلا نعلمه -حَسُن1؛ بل وجب التوجه إليه، والتشاغل بعمله وبسط القول على غامضه ومشكله، وما أكثر ما يخرج فيه بإذن الله، وأذهبه في طريق الصنعة الصريحة، لا سيما إذا كان مشوبًا بالألفاظ السمحة السريحة2، إلا أننا مع ذلك لا ننسى تقريبه على أهل القراءات؛ ليحظوا به، ولا ينأَوْا عن فَهْمِه.
فإن أبا علي3 -رحمه الله- عمل كتاب الحجة في القراءات، فتجاوز فيه قدر حاجة القراء إلى ما يجفو عنه كثير من العلماء "3و"، ونحن بالله وله وإليه، وهو حسبنا.
على أن أبا علي -رحمه الله- قد كان وقتًا حدَّث نفسه بعمله، وهَمَّ أن يضع يده فيه، ويبدأ به، فاعترضت خوالج4 هذا الدهر دونه، وحالت كبواته بينه وبينه، هذا على ما كان عليه من خلو سربه، وسروح فكره، وفروده 5 بنفسه، وإنبتات علائق الهموم عن قبله، يبيت وقواصي نظره محوطة عليه، وأحناء تصوره محوزة إليه، مضجعه مقر جسمه ومجال همته، ومغداه ومراحه مقصوران على حفظ بنيته. ولعل الخطرة الواحدة تخرق بفكري أقصى الحُجُب المتراخية عني في جمع الشتات من أمري، ودَمْل العوارض الجائحة لأحوالي، وأشكر الله ولا أشكوه، وأسأله توفيقًا لما يرضيه.
وأنا بإذن الله بادئ بكتاب أذكر فيه أحوال ما شذَّ عن السبعة، وقائل معناه مما يمن به الله -عز اسمه- وإياه نستعين وهو كافِيَّ ونعم الوكيل.
__________
1 جواب قوله: فإذا كانت هذه حاله عند الله.
2 يريد الألفاظ السهلة غير الغامضة، من قولهم: أمر سريح؛ أي: غير بطيء.
3 هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي النحوي المشهور، أستاذ ابن جني، انتهت إليه رياسة علم النحو، وصحب عضد الدولة فعظمه كثيرًا، ثم لحق بسيف الدولة فأكرمه، توفي سنة 377.
4 كذا في ك، والخوالج: الشواغل، من خلج بمعنى شغل وانتزع وجذب، وفي الأصل: حوالج بالحاء، ولم نجد لها معنى مناسبًا.
5 تفرده، يقال فرد -مثلث الراء- فرودًا: انفرد، وأبو علي لم يتزوج، فلم يكن له ما يشغله من أهل وولد.
(1/34)
________________________________________
اعلم أن جميع ما شذَّ عن قراءة القراء السبعة1 -وشهرتهم مغنية عن تسميتهم- ضربان:
ضرب شذ عن القراءة عاريًا من الصنعة، ليس فيه إلا ما يتناوله الظاهر مما هذه سبيله، فلا وجه للتشاغل به؛ وذلك لأن كتابنا هذا ليس موضوعًا على جميع كافة القراءات الشاذة عن قراءة السبعة؛ وإنما الغرض منه إبانة ما لطفت صفته، وأُغْرِبَتْ2 طريقته.
وضرب ثانٍ وهو هذا الذي نحن على سمته؛ أعني: ما شذ عن السبعة، وغمُض عن ظاهر الصنعة، وهو المعتمد المعوَّل عليه، المولَى3 جهة الاشتغال به. ونحن نورد ذلك على ما رويناه، ثم على ما صح عندنا من طريق رواية غيرنا له، لا نألو فيه ما تقتضيه حال مثله من تأدية أمانته، وتحرِّي الصحة في روايته، وعلى أننا نُنْحي4 فيه على كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد -رحمه الله- الذي وضعه لذكر الشواذ من القراءة؛ إذ كان مرسومًا به مَحْنُوَّ الأرجاء عليه، وإذ هو أثبت في النفس من كثير من الشواذ المحكية عمن ليست له روايته، ولا توفيقه ولا هدايته.
فأما ما رويناه في ذلك فكتاب أبي حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني5 -رحمه الله- أخبرنا به أبو إسحق إبراهيم بن أحمد القِرْميسيني6، عن أبي بكر محمد بن هارون الرُّوياني7
__________
1 هم: ابن عامر، وابن كثير، وقد سبق التعريف بهما "ص33" وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وكانت وفاته سنة 127، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وكانت وفاته سنة 154، وحمزة بن حبيب الكوفي، وكانت وفاته سنة 156، ونافع بن عبد الرحمن المدني، وكانت وفاته سنة 169، وعلي بن حمزة الكسائي الكوفي، وكانت وفاته سنة 189.
2 أغربت: جعلت غريبة، من قولهم: أغرب السلطان الرجل: أي نفاه وأبعده من بلده وجعله غريبًا.
3 كذا في ك، وفي الأصل: المولى عليه، ولم نتبين وجهًا لزيادة "عليه".
4 ننحي: نقبل، من قولهم: أنحى عليه ضربًا: أي أقبل.
5 هو إمام البصرة في اللغة والنحو والقراءة والعروض. ويقول ابن الجزري: "وأحسبه أول من صنف في القراءات"، توفي سنة 255هـ، ويقال سنة 250. طبقات ابن الجزري: 1/ 320، والفهرست لابن النديم: 87.
6 في طبقات ابن الجزري 1/ 7: "إبراهيم بن أحمد بن الحسن بن مهران أبو إسحاق القرماسيني، شيخ روى الحروف عن أبي بكر الأصبهاني وأحمد بن أنس الدمشقي صاحب ابن ذكوان، روى عنه إبراهيم بن أحمد الطبري" ولم يذكر وفاته. وإبراهيم الطبري ولد سنة 324، وتوفي سنة 393، كما في طبقات ابن الجزري. ومن هذا نعلم أن القرماسيني كان في القرن الرابع، القرن الذي كان فيه ابن جني، فهو القرميسيني صاحب ابن جني. وقد ورد مثل هذا السند في الخصائص: 1/ 75، وفي القاموس: قرميسين بالكسر: بلد قرب الدينور، معرب كرمانشاهان.
7 كذا في ك، وفي الأصل: محمد بن مقرون، وفي الخصائص1/ 75: "محمد بن هارون"، وفي طبقات ابن الجزري2/ 273: "محمد بن هارون الطبري، روى الحروف عن أبي حاتم السجستاني، وروى عنه الحروف محمد بن الحسن النقاش"، والرويان من طبرستان، فالظاهر أن صحة ما هنا: محمد بن هارون.
(1/35)
________________________________________
عن أبي حاتم، وروينا أيضًا في كتاب أبي علي محمد بن المستنير قطرب1 من هذه الشواذ صدرًا كبيرًا، غير أن كتاب أبي حاتم أجمعُ من كتاب قطرب لذلك؛ من حيث كان مقصورًا على ذكر القراءات، عاريًا من الإسهاب في التعليل والاستشهادات التي انحطَّ قطرب فيها، وتناهى إلى متباعد غاياتها.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن علي بن وكيع، عن أبي الحسن أحمد بن سعيد بن عبد الله الدمشقي، قال: حدثني محمد بن صالح المصري2 ورَّاق على بن قطرب، قال: قرأت على أبي محمد بن المستنير قطرب من سورة النحل إلى آخر القرآن، قال: وقرأت على علي بن قطرب من البقرة إلى النحل عن أبيه محمد بن المستنير بمصر في سنة تسع وأربعين ومائتين.
قال أبو الحسن الدمشقي: وحدثني أبو بكر العبدي بسر من رأى "3ظ" في سنة سبع وخمسين ومائتين، قال: سمعت أبا علي محمد بن المستنير قطربًا يمليه في مدينة السلام، فكتبت منه من البقرة إلى سورة مريم ثم قطع قطع الكتاب، قال: وسمع مني أبو بكر العبدي من سورة مريم إلى آخر الكتاب، وسمعت منه من فاتحة الكتاب إلى سورة مريم.
وأخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي سماعًا مع من قرأ عليه كثيرًا من هذا الكتاب، وأنا حاضره عن أبي الحسن بن محمد بن عثمان الفارسي عن الدمشقي أيضًا، وأخبرنا أيضًا بما في كتاب المعاني عن أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج3 بسماعه منه، وبمعاني الفراء عن ابن مجاهد عن الفراء، وروينا غير ذلك مما سنذكر سنده وقت إحضاره المقول على مشكله إن شاء الله.
اللهم أخلص أعمالنا لوجهك، وأَوسعنا من عافيتك وعفوك؛ إنك سميع الدعاء، فعَّال لما تشاء.
__________
1 كان يلازم سيبويه ويبكر إليه، فإذا خرج صباحًا وجده على بابه، فقال له مرة: ما أنت إلا قطرب ليل، وهو دويبة دائبة السعي، مات سنة 206. بغية الوعاة: 104.
2 كذا في ك، وفي الأصل: محمد بن طلح.
3 هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، تلميذ المبرد، وله من التصانيف: معاني القرآن، والاشتقاق، ومختصر النحو وغيرها، توفي سنة 311. بغية الوعاة: 179.
(1/36)
________________________________________
سورة فاتحة الكتاب:
قراءة أهل البادية1: "الْحَمْدُ لُله"2 مضمومة الدال واللام، ورواها لي بعض أصحابنا قراءة لإبراهيم بن أبي عبلة3: "الحمدِ لِله" مكسورتان، ورواها أيضًا لي قراءة لزيد بن علي -رضي الله عنهما- والحسن البصري رحمه لله4.
وكلاهما شاذ في القياس والاستعمال؛ إلا أن من وراء ذلك ما أذكره لك؛ وهو أن هذا اللفظ كثر في كلامهم، وشاع استعماله، وهم لِمَا كثر من استعمالهم أشد تغييرًا، كما جاء عنهم لذلك: لم يَكُ، ولا أَدْرِ، ولم أُبَلْ، وأَيْشٍ تقول، وجا يجي، وسا يسو، بحذف همزتيهما.
فلما اطرد هذا ونحوه لكثرة استعماله أَتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدأ وخبر؛ فصارت "الْحَمْدُ لُله" كعُنُق وطُنُب، و"الْحَمْدِ لِله" كإِبِل وإِطِل5.
إلا أن "الْحَمْدُ لُله" بضم الحرفين أسهل من "الْحَمْدِ لِله" بكسرهما من موضعين:
أحدهما: أنه إذا كان إِتْبَاعًا فإن أقيس الإِتْبَاع أن يكون الثاني تابعًا للأول؛ وذلك أنه جارٍ مجرى السبب والمسبَّب، وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، فتكون ضمة اللام تابعة لضمة الدال كما نقول: مُدُّ وشُدُّ، وشَمَّ وفِرِّ، فتتبع الثاني الأول، فهذا أقيس من إتباعك الأول للثاني في اقْتُل ادْخُل، ومع هذا فإن الإتباع -أعني: اقتل وبابه- لا يكاد يعتد؛ وذلك أن الوصل هو الذي عليه عقد الكلام واستمراره، وفيه تصح وجوهه ومقاييسه6، وأنت إذا وصلتَ سَقَطَتِ الهمزة، فقلت: فاقتل زيدًا، فادخل يا هذا، وليست كذلك ضمة الدال
__________
1 يراد بقراءة أهل البادية ما يقرؤه بعضهم بسليقته، لا يراعي الرواية في القراءة، ومن ذلك قراءة رؤبة: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَالا"، ذكرها الزمخشري في الكشاف.
2 سورة الفاتحة: 2.
3 تابعي أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة بنت يحيى الأوصابية، كما قرأ على الزهري وروى عنه وعن أبي أمامة وأنس، توفي سنة إحدى -وقيل: سنة اثنتين، وقيل: سنة ثلاث- وخمسين ومائة. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 19.
4 هو أبو سعيد الحسن البصري إمام أهل البصرة، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وكان جامعًا عالمًا رفيعًا فقيهًا حجة مأمونًا عابدًا كثير العلم فصيحًا، توفي سنة 110. شذرات الذهب: 1/ 136.
5 الإطل: الخاصرة.
6 في ك: مقايسه.
(1/37)
________________________________________
في مُدُّ، ولا فتحة الميم في شَمَّ، ولا كسرة الراء في فِرِّ؛ لأنهن ثوابت في الوصل الذي عليه معقد القول، وإليه مفزع القياس والصوب1، فكما أن مُدُّ أقيس إتباعًا من: اقتل؛ لما ذكرنا من الوصل المرجوع إليه المأخوذ بأحكامه، ولأن السبب أيضًا أسبق رتبة من المسبب، فكذلك "الحمدُ لُله" أسهل مأخذًا من "الحمدِ لِله".
والآخر: أن ضمة الدال في "الحمدُ" إعراب، وكسرة اللام في "لِله" بناء، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فإذا قلت "4و": "الحمدُ لُله" فقريب أن يغلب الأقوى الأضعف، وإذا قلت: "الحمدِ لِله" جنى البناء الأضعف على الإعراب الأقوى، مضافًا ذلك إلى حكم تغيير الآخِر الأول، وإلى كثرة باب عُنُق وطُنُب في قلة باب إِبِل إِطِل فاعرفه، ومثل هذا في إتباع الإعراب البناء ما حكاه صاحب الكتاب2 في قول بعضهم:
وقال اضرب الساقين إِمِّك هابل3
كسر الميم لكسرة الهمزة، ثم من بعد ذلك أنك تفيد من هذا الموضع ما تنتفع به في موضع آخر؛ وهو أن قولك: "الحمدُ لُله" جملة، وقد شبه جزآها معًا بالجزء الواحد -وهو مد أو عنق- فيمن أسكن ثم أتبع، أو السُّلُطان أو القُرُفْصاء أو الْمُنْتُن، دل ذلك على شدة اتصال المبتدأ بخبره؛ لأنه لو لم يكن الأمر عندهم كذلك لما أجروا هذين الجزأين مجرى الجزء الواحد، وقد نَحَوْا هذا الموضع الذي ذكرته لك في نحو قولهم في تأبط شرًّا: تأَبطي، وقولهم في رجل اسمه زيد أخوك: زيدي، فحذفوا الجزء الثاني، كما يحذفون الجزء الثاني من المركب في نحو قولهم في حضرموت: حضرمي، وفي رام هرمز: رامي، وكما يقولون أيضًا في طلحة: طَلْحي، فاعرف ذلك دليلًا على شدة اتصال المبتدأ بخبره، وما علمت أحدًا من أصحابنا نَحَا هذا الموضع على وضوحه لك، وقوة دلالته على ما أثبته في نفسك.
ومثله أيضًا في الدلالة على هذا المعنى قراءة ابن كثير: "فَإِذَا هِيَ تلَقَّفُ"4، ألا ترى إلى تسكين حرف المضارع من "تَلَقَّف"؟ فلولا شدة اتصاله بما قبله للزم منه تصور الابتداء
__________
1 الصوب: القصد، وفي ك: الضرب.
2 الكتاب: 2/ 272.
3 هابل: ذات هبل، من هبلته: أي ثكلته وعدمته، وفعله كفرح. انظر الخصائص: 2/ 145، 3: 141، وشرح شواهد الشافية: 178.
4 سورة الأعراف: 117، وفي البحر المحيط 4/ 363: وقرأ حفص "تَلْقَفُ" بسكون اللام من لقف، وقرأ باقي السبعة "تلقف" مضارع تلقف، حذفت إحدى تاءيه إذ الأصل تتلقف، وقرأ البزي بإدغام تاء المضارعة في التاء"، هذا والبزي يروي عن ابن كثير.
(1/38)
________________________________________
بالساكن، لا بل صار في اللفظ قولك: "هِيَتَّ"1 كالجزء الواحد الذي هو خِدَبَّ2 وهِجَفَّ3 وهِقَبَّ4، وهذا أقوى دلالة على قوة اتصال المبتدأ بخبره من الذي أريناه من قبله لما فيه إن لم تنعم به من وجوب تصور الابتداء بالساكن.
نعم، ومن ورائه أيضًا ما هو ألطف مأخذًا؛ وهو أن قوله سبحانه: "تلقف" جملة، ومشفوعة أيضًا بالمفعول الموصول الذي هو "مَا يَأْفِكُونَ"، وأصل تصور الجمل في هذا المعنى: أن تكون منفصلة قائمة برءوسها، وقد قرأها هاهنا كيف تصوِّرت شديدة الحاجة إلى المبتدأ قبلها؟ فإذا جاز هذا الخلط له، ووكادة الصلة بينه وبين ما قبله، فما ظنك بخبر المبتدأ إذا كان مفردًا؟ ألا تعلم أنه به أشد اتصالًا، وإليه أقوى تساندًا وانحيازًا؟ فاضم ذلك إلى ما قبله.
ونَحْوٌ مما نحن على سمته، وبسبيل الغرض فيه -حكاية الفراء عن بعضهم، وجرى ذكر رجل فقيل: ها هو ذا، فقال مجيبًا: نَعَم الْهَا هُوَ ذَا هُوَ، فإلحاقه لام المعرفة بالجملة المركبة من المبتدأ والخبر من أقوى دليل على تنزلها عندهم منزلة الجزء الواحد. نعم، وفي صدر هذه الجملة حروف التنبيه، وهو يكاد يفصلها عن لام التعريف بعض الانفصال، وهما مع ذلك كالمتلاقيتين المعتقبتين مع حَجْزِه بينهما وإعراضه على كل واحد منهما "4ظ".
ومن ذلك: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، قرأها الفضل الرقاشي: {وَأَيَّاكَ} بفتح الهمزة.
قال أبو الفتح: قد ذكرنا في كتابنا الموسوم بسر صناعة الإعراب: ما تحتمله إيّا من الْمُثُل: هل هي فِعَّل، أو فِعْيَل، أو فِعْوَل، أو إِفْعَل، أو فِعْلَل؟
أَمِنْ: آءَة6، أم من أَيَة، أم من أَوَيْتُ، أم من وَأَيْتُ، أم من قوله:
فأَوِّ لذكراها إذا ما ذكرتُها7
فأما فتح الهمزة فلغة فيها: إِياك وأَياك وهِيَّاك وهَيَّاك، والهاء بدل من الهمزة، كقولهم:
__________
1 أي: من هي تلقف في قراءة ابن كثير السابقة.
2 الخدب: الشيخ، والعظيم الضخم من النعام وغيره، والجمل الشديد الصلب.
3 الهجف: الظليم المسن، أو الجافي الثقيل منه ومنا.
4 الهقب: الواسع الحلق، والضخم الطويل من النعام وغيره.
5 سورة الفاتحة: 5.
6 الآءة: واحدة الآء؛ ثمر شجر يدبغ به الأديم.
7 عجزه: ومن بعد أرض بيننا وسماء.
ويُروى: فأوه. الخصائص: 2/ 89، 3/ 38.
(1/39)
________________________________________
في أرَقت: هَرقت، وأردت: هَردت، وأرحت الدابة: هرحت، وأَنرت الثوب: هنرت1، قال:
فهِياك والأمرَ الذي إن توسَّعَتْ ... موارده ضاقت عليك مصادره2
وقرأ عمرو بن فايد3: "إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِينُ" بتخفيف الياء فيهما جميعًا، فوزن إيا على هذا فِعَل كرِضًا وحِجًا وحِمًى، ونظيره: أيَا الشمس، قال طرَفة:
سقته إياةُ الشمس إلا لِثَاتِه ... أُسِفَّ ولم تكدِمْ عليه بإثمِدِ4
ويقال فيه: أَيَاءُ الشمس بالفتح والمد، قال ذو الرمة:
تَنازَعها لونان ورد وحُوُّةٌ ... ترى لأَيَاءِ الشمس فيه تحدُّرا5
وإِيًا فِعَل، وأَيَاء فَعَال، وكلاهما من لفظ الآية ومعناها، وهي: العلامة، وذلك أن ضوء الشمس إذا ظهر عُلم أن جرمها على وجه الأرض.
وحدثنا أبو بكر محمد بن علي قال: كان أبو إسحاق يقول في قول الله سبحانه: "إياك نعبد" أي: حقيقتك نعبد، وكان يشتقه من الآية وهي العلامة، وهذا يجيء ويسوغ على رأي أبي إسحاق؛ لأنه كان يعتقد في "إيَّاك" أنه اسم خُص به المضمر، فأما6 على قول الكافة فاشتقاقه فاسد؛ لأن "إيَّاك" اسم مضمر، والأسماء المضمرة لا اشتقاق في شيء منها، وينبغي أن يكون عمرو بن فايد إنما قرأ "إِيَاكَ" بالتخفيف؛ لأنه كره اجتماع التضعيف مع ثقل الياءين والهمزة والكسرة، ولا ينبغي أن يحمل "إيَاك" بالتخفيف على أنها لغة، وذلك أنا لم نرَ لذلك أثرًا في اللغة ولا رسمًا ولا مرَّ بنا في نثر ولا نظم. نعم، ومن لم يُخْلِد مع ثقته إلى نظر يُعْصم به ويتساند إليه بأمانته، أُتي من قبل نفسه من حيث يظن أنه ينظر لها، وكان ما دهاه في ذلك من أجل فقاهته لا أمانته.
وإذا جاز أن تخفف الحروف الثقال مع كونها صحاحًا وخفافًا؛ فتخفيف الضعيف الثقيل
__________
1 نرت الثوب أنبره من باب باع، وأنرته ونيرته بالتضعيف: جعلت له علمًا، ويقال للعلم: النير بالكسر.
2 لمضرس بن ربعي، أو طفل الغنوي. ويروى "المصادر" مكان مصادره. شرح شواهد الشافية: 476.
3 هو أبو علي الأسواري البصري، روى عنه الحروف حسان بن محمد الضرير وبكر بن نصر العطار. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 602.
4 إياة الشمس: ضوؤها، أُسف: ذر عليه، الإثمد: الكحل. ديوان طرفة: 33.
5 الحوة بالضم: سواد إلى الخضرة، أو حمرة إلى السواد، حوي كرضي، ولم أعثر على البيت في ديوان ذي الرمة.
6 في ك: وأما.
(1/40)
________________________________________
أَحْرَى وأَوْلَى، فمن ذلك قولهم في رُبَّ رَجُل: رُبَ رَجل، وفي أرَّ: أرْ1، وفي أيٍّ: أيْ، أنشدنا أبو علي للفرزدق:
تنظرتُ نصرًا والسماكين أَيْهُمَا ... عَلَيَّ من الغيثِ استهَلَّت مواطِرُه2
ويبدلون أيضًا ليختلف الحرفان فيخفا، وذلك قوله:
يا ليتما أُمُّنَا شالت نعامَتُها ... أَيْمَا إلى جنة أَيْمَا إلى نار3
وقالوا في اجلوَّاذ4: اجليواذ، "5و" وفي دِوَّان: ديوان، والشيء من هذا ونحوه أوسع؛ لكن كل واحد من هذه الحروف وغيرها قد سمع وشاع، فأما "إِيَاك" بالتخفيف فلم يسمع إلا من هذه الجهة، وينبغي للقرآن أن يُختار له، ولا يختار عليه.
ومن ذلك قراءة الحسن رضي الله عنه: "اهدنا صراطًا مستقيمًا"5.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون أراد -والله أعلم- التذلل لله سبحانه، وإظهار الطاعة له؛ أي: قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له: صراط مستقيم، ولسنا نريد المبالغة في قول من قرأ: "الصراط المستقيم" أي: الصراط الذي شاعت استقامته، وتُعولمت في ذلك حاله وطريقته، فإن قليل هذا منك لنا زاك عندنا وكثير من نعمتك علينا، ونحن له مطيعون، وإلى ما تأمر به وتنهى فيه صائرون، وزاد في حسن التنكير هنا ما دخله من المعنى؛ وذلك أن تقديره: أَدِمْ هدايتك لنا؛ فإنك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم؛ فجرى حينئذ مجرى قولك: لئن لقيتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتَلْقَينَّ منه رجلًا متناهيًا في الخير، ورسولًا جامعًا لسبل الفضل؛ فقد آلت به الحال إلى معنى التجريد؛ كقول الأخطل:
بِنَزوة لص بعدما مر مصعب ... بأَشعث لا يُفْلَى ولا هو يَقمَل6
__________
1 الأرير: صوت الماجن عند القمار والغلبة، أو هو مطلق الصوت.
2 نصر: هو نصر بن سيار. ديوان الفرزدق: 1/ 347.
3 البيت لسعد بن قرظ من العققة، شالت نعامتها: ارتفعت جنازتها. مختصر الشواهد للعيني: 299.
4 الاجلواذ: المضاء والسرعة.
5 سورة الفاتحة: 6.
6 قبله:
فسائل بني مروان ما بال ذمة ... وحبل ضعيف لا يزال يوصل
فلى رأسه يفليه: بحثه عن القمل، قمل رأسه كفرح: كثر قمله. ديوان الأخطل: 10، والخصائص: 2/ 177.
(1/41)
________________________________________
ومصعب نفسه هو الأشعث، وعليه قول طرفة:
جازت القومَ إلى أرحُلنا ... آخر الليل بيعفور خَدِر1
وهي نفسها عنده اليعفور.
أنشدنا أبو علي:
أفاءت بنو مروان أَمسِ دماءَنا ... وفي الله إن لم يحكموا حَكَم عدل2
وهو سبحانه أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكمًا عدلًا، فأَخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وفيه مع ذلك لفظ الرضا باليسير، فإذا3 جاز أن يَرضى الإنسان من مخلوق مثله بما رضي به الشاعر من محبوبه بما دل عليه قوله، أنشده ابن الأعرابي:
وإني لأَرضى منك يا ليلُ بالذي ... لو أبصره الواشي لقرَّت بلا بِلُهْ
بلا وبأن لا أستطيع وبالْمُنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العَجْلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله4
وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المولدين:
عدينا واكذبينا وامطلينا ... فقد أومنت من سوء العقاب
فلسنا من وعيدك في ارتياب ... ولا من صدق وعدك في اقتراب
ولكنا لشؤم الْجَدِّ منا ... نَفِر من العذاب إلى العذاب
وعليه قول الآخر:
عَلِّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
ودعيني أعيش منـ ... ـك بنجوى تطلُّبه
فعسى يعثر الزما ... ن بجنبي فينتبه5
__________
1 يروى البيد مكان القوم، جازت: أي جاز خيالها، وأنثه لأنه كأنه هي والخبر عنه خبر عنها، وإنما قال: آخر الليل؛ لأن التعريس -أي النزول وقطع السير- يكون أخر الليل، وعند التعريس والنوم يأتيه خيالها، اليعفور: ظبي تعلوه حمرة، الخدر: الفاتر العظام البطيء عند القيام. انظر الديوان: 68، والخصائص: 2/ 177، 475.
2 ورد هذا البيت في معاهد التنصيص 3/ 16، وفيه الشطر الأول هكذا:
أفادت بنو مروان قيسًا دماءنا
ولم ينسبه. وورد في حماسة ابن الشجرى: 4، في أبيات لأبي الخطار الكلبي هكذا:
أفادت بنو مروان قيسًا دماءنا ... وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل
انظر: الحصائص: 2/ 475.
3 جواب: "فاذا جاز أن يرضى ... " قوله في الصفحة التالية: "كان العبد البر.... أحرى ... ".
4 لجميل، وروي:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
وانظر: الأغاني: 7/ 80 طبعة الساسي.
5 كذا في ك، وفي الأصل ورد البيت الأول في الصلب والبيتان بعده في الهامش.
(1/42)
________________________________________
ونظائره كثيرة، قديمة ومولَّدة -كان1 العبد البر والزاهد المجتهد أحرى أن يسأل خالقه -جل وعز- مقتصدًا في سؤاله، وضامنًا من نفسه السمع والطاعة على ذلك من يأمره.
ويؤكد عندك مذهب "5ظ" من أنشدته آنفًا، ما حدثنا به أبو علي قال: لما قال كُثير:
ولست بِراض من خليلي بنائل ... قليل ولا أرضى له بقليل
قال له ابن أبي عتيق: هذا كلام مُكافئ، هلا قلت كما قال ابن الرقيات:
رُقَيَّ بِعَمْرِكُمْ لا تهجرينا ... ومنِّينا المنى ثم امطلينا2
وأنشدني بعض أصحابنا:
وعلليني بوعد منك آمله ... إني أُسَرُّ وإن أخلفت أن تعدي
وعليه قوله الله عز اسمه: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} 3 أي: هديناهم من نعمتنا عليهم، ونَظَرِنَا لهم صراطًا مستقيمًا.
وقال كثير:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم
وهذا كقولك: أمير المؤمنين على الصراط المستقيم لا فرق بينهما؛ وذلك أن مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته؛ من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته، ألا ترى إلى قوله:
وأَعلم إن تسليمًا وتركًا ... لَلَا متشابهان ولا سواء4
فهذا في المعنى كقوله: إن التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء.
ومن ذلك قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 5.
ذكر أبو بكر أحمد بن موسى أن فيها سبع قراءات: "علهُمُو"، و"عليهُمُ" بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، و"عليهُمْ" بسكون الميم مع ضمة الهاء، و"عليهِمي"، و"عليهِمْ" بكسر الهاء وسكون
__________
1 جواب: "إذا جاز...." في الصحفة السابقة.
2 الذي في الأغانتي 4/ 164: أنشد كثير بن أبي عتيق كلمته التي يقول فيها:
ولست براض ... البيت. فقال له: هذا كلام مكافئ ليس بعاشق، القرشيان أقنع وأصدق منك؛ ابن أبي ربيعة حيث يقول:
ليت حظي كلحظة العين منها ... وكثير منها القليل المهنا
وقوله أيضًا:
فعدي نائلًا وأن لم تنيلي ... أنه ينفع المحبَّ الرجاءُ
وابن الرقيات حيث يقول:
رُقَيَّ بعيشكم لا تهجرينا ... ومَنِّينا المنى ثم امطلينا
3 سورة النساء: 68.
4 لأبي حزام غالب بن الحارث العكلي. مختصر شرح الشواهد للعيني: 117.
5 سورة الفاتحة: 7.
(1/43)
________________________________________
الميم، و"عليهِمُو" بكسر الهاء وواو بعد الميم، و"عليهِمُ" مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير واو.
وزاد أبو الحسن سعيد بن مَسعدة الأخفش1 على ما قال أبو بكر ثلاثة أوجه، فصار الجميع عشرة أوجه؛ والثلاثة: "عليهُمِي" بضم الهاء وميم مكسورة بعدها ياء، و"عليهُمِ" بضمة الهاء وكسرة الميم من غير إشباع إلى الياء، و"عليهِمِ" بكسرة الهاء وكسرة الميم أيضًا من غير بلوغ ياء، فتلك عشرة أوجه: خمسة مع ضم الهاء، وخمسة مع كسرها.
قرأ "عليهُمُو" ابن إبي إسحاق2 ومسلم بن جندب3 والأعرج4 وعيسى الثقفي5 وعبد الله بن يزيد6.
وقرأ: "عليهِمِي" الحسن وعمرو بن فايد، ورُوي عن الأعرج: "عليهِمُ" مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير بلوغ واو.
وقرأ: "عليهُمُ" مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو، رويت عن الأعرج أيضًا.
قال أبو الفتح: أما "عليهُمُو" فهي الأصل؛ لأنها رَسِيلة7 عليهُما في التثنية؛ أعني: ثبات الواو كثبات الألف، وينبغي أن تعلم أن أصل هذا الاسم المضمر الهاء، ثم زيدت عليها الميم؛ علامة لتجاوز الواحد من غير اختصاص بالجمع، ألا ترى الميم موجودة في التثنية: "عليهُما"؟ وأما الواو فلإخلاص الجمعية.
وأما "عليهِمِي" فطريقه: أنه كسرت الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وضعف الهاء، فأشبهت لذلك الألف، لا سيما وهي تجاورها في المخرج، لا بل أبو الحسن يَدَّعي أن مخرج الألف هو
__________
1 هو الأخفش الأوسط، أحد الأخافش الثلاثة المشهورين، سكن البصرة وقرأ النحو على سيبويه، حدث عن الكلبي والنخعي، وروى عنه أبو حاتم السجستاني، مات سنة 210، وقيل: سنة 215. بغية الوعاة: 258.
2 هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي البصري، أخذ القراءة عرضًا عن يحيى بن يعمر وهارون بن موسى الأعور، مات سنة 117، وهو ابن ثمان وثمانين. طبقات القراء لابن الجزري: 410.
3 هو مسلم بن جندب أبو عبد الله الهذلي مولاهم المدني القاص، تابعي مشهور، عرض عليه نافع، وروى عن أبي هريرة وابن الزبير، وهو الذي أدَّب عمر بن عبد العزيز، وكان من فصحاء أهل زمانه، مات سنة 130 في أيام مروان بن محمد. طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 297.
4 هو عبد الرحمن بن هومز أبو داود المدني، تابعي جليل، أخذ القراء عرضًا عن أبي هريرة، ومعظم روايته عنه، روى القراءة عنه عرضًا نافع بن أبي نعيم، نزل الإسكندرية فمات بها سنة 117. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 381.
5 هو عيسى بن مروان أبو عمر الثقفي النحوي البصري، مؤلف الجامع والإكمال، مات سنة 149. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 613.
6 هو أبو عبد الرحمن القرشي المقرئ البصري ثم المكي، أمام كبير في الحديث ومشهور في القراءات، لقن القرآن سبعين سنة، وروى الحروف عن نافع وعن البصريين، مات سنة 213. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 463.
7 يريد أنها نظيرتها.
(1/44)
________________________________________
مخرج الهاء ألبتة. فكما أن الياء "6و" الساكنة إذا وقعت قبل الألف قلبتها ياء، نحو قولك في تحقير كتاب: كُتيِّب، كذلك كسرت الهاء، فكان انكسار الهاء للياء قبلها تغييرًا لحقها لهما، كما أن انقلاب الألف ياء لمكانها تغيير لحقها من أجلها، فصار اللفظ بها من بعد "عليهِمو"، فكرهوا الخروج من كسر الهاء إلى ضم الميم الواو من بعدها، فكسروا الميم لذلك؛ فصارت "عليهِمِوْ"، فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها؛ فصارت "عليهِمِي".
ومَن كسر الهاء وضم الميم وحذف الواو فقال: "عليهِمُ" فإنه لما انتهت به الصنعة إلى كسر الهاء احتمل الضمة بعد الكسرة؛ لأنها ليست بلازمة، إذ كانت ألف التثنية تفتحها؛ لكنه حذف الواو تفاديًا من ثقلها مع ثقل الضمة التي تجَشَّمها.
ومَن قرأ: "عليهُمُ" بضم الهاء والميم، فإنه حذف الواو استخفافًا، واحتمل الضمة قبلها دليلًا عليها.
لكن من قال: "عليهُمِي" بهاء مضمومة وياء بعد الميم ففيه نظر؛ وذلك أنه كُرِه ضمة الهاء وضمة الميم ووقوع الواو من بعد ذلك كما كُرِه في الاسم المظهر وقوع الواو طرفًا بعد ضمة، وذلك نحو قولهم في دَلْو وحَقْو1: أَدْل وأَحْق، وأصلها أَفْعُل أَدْلُوٌ وأَحْقُوٌ، ككلب وأَكْلُبٍ، فأبدلوا من الضمة كسرة تطرقًا إلى قلب الواو، فصارت في التقدير: أَدْلِوٌ وأَحْقِوٌ، فقلبت الواو ياء بعذر قاطع؛ وهو وقوع الكسرة قبلها، فصارت أَدْلِي وأَحْقِي، وكذلك أبدلت ضمة الميم من "عليهُمُو" كسرة فصارت "عليهُمِوْ"، فأبدلت الواو ياء للكسرة قبلها؛ فصارت "عليهُمِي".
وأما "عَلَيْهُمِ" بكسرة الميم من غير ياء، فإنه لما كانت الصنعة فيه إنما طريقها الاستخفاف، اكتفي بالكسرة من الياء.
وكذلك مَن قال: "عَلَيْهِمُ" بكسر الهاء مع ضم الميم اكتفي بالضمة من الواو، وقد ذكرناه.
ومَن قال: "عَلَيْهِمِ" بكسر الهاء والميم من غير ياء، فإنه اكتفى بالكسرة أيضًا من الياء استخفافًا، فأما قول الشاعر ورويناه عن قطرب:
فهمو بطانتهم وهم وزراؤهم ... وهُمِ القضاةُ ومنهم الحكام2
وروينا عنه أيضًا:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم ... همِ الناسَ لما أَخصبوا وتموَّلوا3
__________
1 الحقو: الكشح والإزار أو معقده.
2 الخصائص: 3/ 132.
3 لعروة بن الورد، ورُوي: كما الناس لما أمرعوا وتمولوا. الأغاني: 2/ 186.
(1/45)
________________________________________
فقوله: وهمِ القضاة، ومنهمِ الحكام، فيتحمل كسر الميم وجهين:
أحدهما: أن يكون حرَّكه لالتقاء الساكنين.
والآخر: أن يكون على لغة مَن قال "عليهُمِي"، فحذف الياء لالتقاء الساكنين من اللفظ، وهو ينويها في الوقف.
ووجه ثالث: أن يكون على لغة مَن قال: "عليهُمِ" بكسر الميم من غير ياء.
وقوله: "همِ الناس" يحتمل أيضًا هذه الأوجه الثلاثة.
وروينا عن قطرب أيضًا: عافكمِ الله، ففيه أيضًا ما فيما قبله، واللغات في هذا ونحوه كثيرة.
ومن ذلك قراءة أيوب السختياني1: "وَلا الضَّأَلِّينَ" بالهمز2.
قال أبو الفتح: ذكر بعض أصحابنا: أن أيوب سُئل عن هذه الهمزة، فقال: هي بدل من المدة لالتقاء الساكنين، واعلم أن أصل هذه ونحوه: الضاللين، وهو "الفاعلون" من ضلَّ يضل، فكره اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد على غير الصور المحتملة في ذلك، فأسكنت اللام الأولى وأُدغمت في الآخرة، فالتقى ساكنان: الألف واللام "6ظ" الأولى المدغمة فزيد في مدة الألف، واعتُمدت وطأة المد، فكان ذلك نحوًا من تحريك الألف؛ وذلك أن الحرف يزيد صوتًا بحركاته كما يزيد الألف بإشباع مدته.
وحكى أبو العباس محمد بن يزيد3 عن أبي عثمان4 عن أبي زيد5 قال: سمعت عمرو
__________
1 هو فقيه أهل البصرة، وكان علم الحفاظ، قال شعبة عنه: كان سيد الفقهاء، مات سنة 131. شذرات الذهب: 1/ 181.
2 سورة الفاتحة: 7.
3 هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إمام العربية ببغداد في زمانه، أخذ عن المازني وأبي حاتم السجستاني، وروى عنه نفطويه والصولي، ولد سنة 210، ومات سنة 285. بغية الوعاة: 116.
4 هو بكر بن محمد بن بقية، وقيل: ابن عدي بن حبيب، الإمام أبو عثمان المازني، وهو بصري، روى عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد، وروى عنه المبرد والفضل بن محمد اليزيدي، وكان قوي الحجة يقطع مَن يناظره، توفي سنة تسع أو ثمان وأربعين ومائتين. بغية الوعاة: 202.
5 هو سعيد بن أوس بن ثابت أبو زيد الأنصاري الإمام المشهور، كان إمامًا نحويًّا صاحب تصانيف أدبية ولغوية، وغلبت عليه اللغة والنوادر، توفي سنة 215 عن ثلاث وتسعين سنة. بغية الوعاة: 254.
(1/46)
________________________________________
ابن عبيد1 يقرأ: "فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَأَن"2، قال أبو زيد: فظننته قد لحن إلى أن سمعت العرب تقول: شَأَبَّه ومَأَدَّه ودَأَبَّة، وعليه قول كثير:
إذا ما العوالي بالعبيط احمَأَرَّت3
وقال:
وللأرض أما سودها فتجللت ... بياضًا وأما بِيضُها فادْهَأَمَّت4
وقد ذكرنا من هذا الضرب في كتابنا الموسوم بالخصائص5 ما فيه كفاية عن غيره.
ومن طريف حديث إبدال الألف همزة ما حكاه اللحياني6 من قول بعضهم في الباز: البأز بالهمزة، ووجه ذلك: أن الألف ساكنة، وهي مجاورة لفتحة الباء قبلها، وقد أَرينا في كتاب الخصائص وغيره7 من كتبنا: أن الحرف الساكن إذا جاور الحركة فقد تُنْزِله العرب منزلة المتحرك بها، من ذلك قولهم في الوقف على بكر: هذا بَكُر، ومررت ببكِر، ألا ترى حركتي الإعراب لما جاورتا الراء صارتا كأنهما فيها. ومنه قوله جرير:
لَحَبَّ المؤقدان إليَّ مؤسى8
__________
1 هو عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري، روى الحروف عن الحسن البصري وسمع منه، وروى عنه الحروف بشار بن أيوب الناقد، مات في ذي الحجة سنة 144. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 602.
2 سورة الرحمن: 74.
3 ورد في الديوان 2/ 97 الشطر من بيت هكذا:
وأنت ابن ليلى خير قومك مشهدًا ... إذا ما احمأرت بالعبيط العوامل
وهو من قصيدة في مدح عبد العزيز بن مروان. الخصائص: 3/ 126.
4 البيت لكثير أيضًا من قصيدة في رثاء عبد العزيز بن مروان، ويروى: والأرض مكان وللأرض. انظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 84، والخصائص: 3/ 127.
5 انظر: الخصائص: 3/ 145 وما بعدها.
6 هو علي بن المبارك، وقيل: ابن حازم، أبو الحسن اللحياني من بني لحيان بن هذيل بن مدركة، وقيل: سمي به لعظم لحيته، أخذ عن الكسائي وأبي زيد وأبي عمرو الشيباني والأصمعي، وعمدته على الكسائي، وأخذ عنه القاسم بن سلام. بغية الوعاة: 346.
7 انظر: سر الصناعة: 1/ 82 وما بعدها.
8 تمامه:
وجعدة إذ أضاءهما الوقود
والبيت من قصيدة لجرير مدح بها هشام بن عبد الملك، ورُوي: أحب المؤقدين، بصيغة أفعل التفضيل، وموسى وجعدة ولدا جرير، يمدحهما بالكرم والاشتهار به، فكنى عن الأول بإيقاد نار القرى، وعن الثاني بإضاءة الوقود لهما، قال البغدادي: "وقال السيوطي رحمه الله: جعدة بنته، وفيه بعد". انظر: سر الصناعة: 1/ 90، والخصائص: 2: 175، 3/ 146، 149، 219، وشرح شواهد الشافية: 429 وما بعدها.
(1/47)
________________________________________
فهمَز الواو في الموضعين جميعًا؛ لأنهما جاورتا ضمة الميم قبلهما، فصارت الضمة كأنها فيهما، والواو إذا انضمت ضمًّا لازمًا فهمزها جائز، نحو: "أُقِّتَت" في "وُقِّتت"1، و"أجوه" في "وجوه"2، ونظائر ذلك كثيرة.
وكذلك الفتحة قبل الألف في باز لما جاورتها صارت على ما ذكرنا كأنها فيها، والألف إذا حركت هُمزت على ما ذكرنا في "الضَّألِّين" و"جَأن"، فهذا وحهه.
فإن قلت: فقد حكي أيضًا جمعه بئزان بالهمز، فصارت لذلك كَرَأْل3 ورِئْلان، فما أنكرت أن يكون ذلك لغة في الباز لا على البدل الذي رمته؟
قيل: هذا وجه يُذهب إلى مثله، لكنا لم نسمع الهمز في هذا الحرف أصلًا إلا في هذه الحكاية، والواو فيه هي الشائعة المستفيضة.
حدثنا أبو علي قال: قال أبو سعيد الحسن بن الحسين4 يقال: بأز، وثلاثة أبواز، فإذا كثرت فهي البيزان.
وقالوا: بازٍ وبَوَازٍ وبُزاة، فباز وبزاة كغازٍ وغزاة، وهو مقلوب الأصل الأول5، وأنشدنا لذى الرمة:
كأن على أنيابه كل سُدْقَة ... صياح البوازي من صريف اللوائك6
وقالوا في تصريفه: بزا فلان يبزو إذا غلب، فكأن البازي اسم الفاعل في الأصل، ثم خص به هذا الجارح على وجه التسمية به له، كما أن الصاحب في أصله اسم الفاعل من صحب، ثم خص بالتسمية به، ونُسي أصل وصفيته.
وكما أن الوالد كذلك، فقد ترى إلى سَعَة تصرف هذا الأصل على الواو، ولم نسمع في تصرفه شيئًا من الهمز غير هذه الحكاية من هذه الجهة، على ما يقول في صاحبها. "7و"
__________
1 سورة المرسلات: 11.
2 سورة القيامة: 22.
3 الرأل: ولد النعام.
4 هو الحسن بن الحسين بن عبيد الله العتكي المعروف بالسكري، أبو سعيد النحوي اللغوي الرواية الثقة، سمع يحيى بن معين وأبا حاتم السجستاني والرياشي وخَلْقًا، وأخذ عنه محمد بن عبد الملك التاريخي، توفي سنة 275. بغية الوعاة: 218.
5 انظر: الخصائص: 1/ 7، 8.
6 السدفة: الظلمة، اللوائك: يريد المواضغ من الأسنان، من لاك يلوك إذا مضغ، ويُرْوَى: سحرة مكان سدفة، وضمير أنيابه للبعير المفهوم مما قبله. الديوان: 418، ورواه في الخصائص 1/ 7: أنيابها.
(1/48)
________________________________________
وحدثني أبو علي قال: قال أبو بكر1 في نوادر اللحياني: إنه لا يَتَرَقَّى بهما السماع إليه، وعلى أنه قد يمكن في الباز ما ذكرناه فلما سُمع فيه بَأْز بالهمزة أشبه في اللفظ، وإلا فقيل في تكسيره: بئزان، كما قيل: رئلان.
وإذا جاز استمرار البدل في نحو عيد وأعياد، وإجراؤه مجرى قَيْل وأَقْيَال مع أن البدل في حرف المد الذي لا يكاد يعتد البدل فيه للضعف، فأن يجوز استمرار هذا في الهمزة لأنها أقوى، فالأمر لذلك فيها أثبت وأحرى وأجدر، ألا ترى أنهم قالوا في تحقير قائم: قُوَيْئِم، فأثبتوا همزه كما أثبتوا همزة سائل من سأل؟ وقالوا في تحقير أدؤر: أُديئر، فأجروها مجرى همزة أرؤس. ولو كان مكان هذه الهمزة واو مبدلة من ياء لما ثبتت، وذلك قولك في تحقير عُوطَط2: عُيَيْطط، ولا تقر الواو وإن كانت عينًا.
وكذلك لو كسرت الطوبي والكوسي على فُعَل، لقلت: الطُّيَب والكُيَس.
ولو كسرتهما على مثيل حُبلى وحبالى لقلت: طَيابى وكياسى.
وعلى هذا قالوا في تكسير ريح: أرواح، فلم يحفلوا بانقلاب العين من ريح؛ لأن العمل إنما هو في الواو ليست3 لها عصمة الهمزة.
فأما ما حُكي عن عُمارة من قوله في تكسير ريح: أرياح، وعلى أن اللحياني أيضًا قد حكى هذا، فمردود عندنا، ومنعيٌّ عليه في آرائنا.
قال أبو حاتم4 وقد أغلظ في ذلك: أنكرتها على عمارة، قال: فقال لي: قد قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 5 قال: ولم يعلم عمارة أن الياء في الرياح بعد كسرة، فهذا أمر قاد إليه همز أيوب "الضَّالِّين"، وفيه أكثر من هذا، ولولا تنكُّب الإطالة كراهية الإملال والسآمة لأتينا به، وعلى أنه مثبت في أماكن من تأليفنا وإملائنا.
__________
1 هو محمد بن السري البغدادي النحوي أبو بكر بن السراج، وأخذ عنه أبو القاسم الزجاجي والسيرافي والفارسي والرماني، مات شابًّا في ذي الحجة سنة 316. بغية الوعاة: 44.
2 العوطط: الناقة التي لم تحمل أول سنة يطرقها الفحل ولا السنة المقبلة.
3 كذا في النسختين، ولعلها: "وليست" فتبدو العبارة أكثر وضوحًا.
4 انظر: الخصائص: 3/ 295.
5 سورة الحجر: 22.
(1/49)
________________________________________
سورة البقرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من ذلك قراءة "أَنْذَرْتَهُم"1 بهمزة واحدة من غير مدٍّ.
قال أبو الفتح: هذا مما لَا بُدَّ فيه أن يكون تقديره: "أأَنْذَرْتَهُم"، ثم حذف همزة الاستفهام تخفيفًا؛ لكراهة الهمزتين، ولأن قوله: "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ" لَا بُدَّ أن يكون التسوية فيه بين شيئين أو أكثر من ذلك، ولمجيء "أم" من بعد ذلك أيضًا، وقد حُذفت هذه الهمزة في غير موضع من هذا الضرب، قال:
فأصبحتُ فيهم آمنًا لا كمعشرٍ ... أتوني فقالوا: مِن ربيعة أم مضر؟ 2
فيمن قال: أم؛ أي: أمن ربيعة أم مضر؟
ومن أبيات الكتاب:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيثُ ابن سهم أم شعيث ابن مِنْقَر3
وقال الكميت:
طربتُ وما شوقًا إلى البِيض أطرب ... ولا لَعِبًا مني وذو الشيب يلعب؟ 4
قيل: أراد: أوذو الشيب يلعب؟
وقالوا في قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} 5 أراد: أوتلك نعمة؟ وقال:
لعمرك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبع رَمين الجمر أم بثمان؟ 6
__________
1 سورة البقرة: 6.
2 البيت لعمران بن حطان من شعر يقوله في قوم من الأزد نزل بهم متنكرًا ويشكر صنيعهم. انظر: الخصائص: 2/ 281.
3 للأسود بن يعفر، شعيث: حي من تميم ثم من بني منقر، فجعلهم أدعياء وشك في كونهم منهم أو من بني سهم، وسهم هنا: حي من قيس، ويروى شعيب بالباء وهو تصحيف. الكتاب: 1/ 485.
4 هذا مطلع إحدى هاشمياته. انظر: العيني على هامش الخزانة: 3/ 111، والخصائص 2/ 281.
5 سورة الشعراء: 22.
6 البيت لعمر بن أبي ربيعة من قصيدة قالها في عائشة بنت طلحة، يقول: الهاني النظر إليهن واشتغال البال بهن عن تحصيل رميهن الجمار بمنى، وعن علم عدد المرات: أهي سبع أم ثمان؟ الكتاب: 1/ 485، والخزانة: 4/ 447-449، والديوان: 556، وفيه "رميت" مكان "رمين".
(1/50)
________________________________________
"7ظ" يريد: أبسبع؟
وعلى كل حال فأخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس؛ وذلك أن الحرف نائب عن الفعل وفاعله، ألا ترى أنك إذا قلت: ما قام زيد، فقد نابت "ما" عن "أَنفي"، كما نابت "إلا" عن "أَستثني"، وكما نابت الهمزة وهل عن أَستفهم، وكما نابت حروف العطف عن أَعطف، ونحو ذلك.
فلو ذهبتَ تحذف الحرف لكان ذلك اختصارًا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا أنه إذا صح التوجه إليه جاز في بعض الأحوال حذفه؛ لقوة الدلالة عليه.
فإن قيل: فلعله حَذَف همزة "أَنْذَرْتَهُمْ" لمجيء همزة الاستفهام، فكان الحكم الطارئ على ما يشبه هذا من تعاقب ما لا يجمع بينه.
قيل: قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام على ما أرينا في غير هذا، فيجب أن يحمل هذا عليه أيضًا.
وأما همزة أفعل في الماضي، فما أبعد حذفها! فليكن العمل على ما تقدم بإذن الله.
ومن ذلك قراءة أبي طالوت عبد السلام بن شداد1، والجارود ابن أبي سبرة: "وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ"2 بضم الياء وفتح الدال.
قال أبو الفتح: هذا على قولك: خدعتُ زيدًا نفسَه؛ ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت على هذا: حُذف حرف الجر، فوصل الفعل؛ كقوله عز اسمه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 3 أي: من قومه، وقوله:
أمرتك الخيرَ4
__________
1 أبو طالوت عبد السلام بن شداد روى القراءة عن أبيه، وروى القراءة عنه الحسن بن دينار. طبقات القراءة لابن الجزري: 1/ 385.
2 سورة البقرة: 9.
3 سورة الأعراف: 155.
4 من قول عمرو بن معديكرب:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
النشب: المال الثابت كالضياع ونحوها، من نشب الشيء: إذا ثبت في موضعه ولزمه، وكأنه أراد بالمال هنا الإبل خاصة؛ فلذلك عطف عليه النشب، وقيل: النشب: جميع المال. الكتاب: 1/ 17.
(1/51)
________________________________________
أي: بالخير. وإن شئت قلت: حمله على المعنى فأضمر له ما ينصبه، وذلك أن قولك: خدعتُ زيدًا عن نفسه، يدخله معنى: انتقصتُه نفسَه، وملكتُ عليه نفسَه، وهذا من أَسَدِّ وأَدمث مذاهب العربية، وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عِنَان الكلام فيأخذه إليه، ويصرِّفه بحسب ما يؤثره عليه.
وجملته: أنه متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر، فكثيرًا ما يُجْرَى أحدهما مجرى صاحبه، فيُعْدَلُ في الاستعمال به إليه، ويُحتذى في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قوله الله جل اسمه: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ 1 وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: أَجْذِبك إلى كذا وأدعوك إليه، قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وعليه قول الفرزدق:
كيف تراني قاليا مِجَنِّي ... قد قتل الله زياداً عني2
فاستعمل "عن" هاهنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عني؛ لأنه إذا قتله فقد صُرف عنه.
وعليه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 3، وأنت لا تقول: رفثتُ إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها ومعها، لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عُدي بإلى كما يُعدَّى أفضيت بإلى، نحو قولك: أفضيت إلى المرأة، وهو باب واسع ومنقاد، وقد تقصيناه في كتابنا "الخصائص"4، فكذلك قوله عز وجل: "وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ" جاء على خَدعْتُه نفسَه، لما كان معناه معنى: انتقصتُه نفسَه، أو تخوَّنتُه نفسَه.
ورأيتُ أبا علي -رحمه الله- يذهب إلى استحسان مذهب الكسائي في قوله "8و":
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجنبي رضاها5
__________
1 سورة النازعات: 18.
2 يُروى:
كيف تراني قاليًا مجني ... أضرب أمري ظهره للبطن
قد قتل الله زيادًا عني
وكان الفرزدق هرب من البصرة إلى المدينة واختفى فيها؛ خوفًا من زياد بن أبيه لغضبة غضبها عليه، فلما بلغة موت زياد وهو في المدينة ظهر وأنشد هذا الرجز؛ إظهارًا للشماتة به، وفرحًا بالسلامة منه، وا لمجن: الترس، وقلاه كناية عن عدم الحاجة إليه. انظر: ديوان الفرزدق: 2/ 881، والخصائص: 2/ 310.
3 سورة البقرة: 187.
4 انظر: الخصائص: 2/ 308 وما بعدها.
5 البيت للقحيف العقيلي، يمدح حكيم بن المسيب القشيري. الخصائص: 2/ 331، والنوادر: 176، والخزانة: 4/ 247، ومختصر شرح شواهد العيني: 215.
(1/52)
________________________________________
لأنه قال: عدى رضيت بعلى، كما يُعدى نقيضها وهي سخطت به، وكان قياسه: رضيت عني، وإذا جاز أن يجري الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ.
فهذا مذهب الكسائي، وما أحسنه! وفيه غيره على سمت ما كنا بصدده، وذلك أنه إذا رضي عنه فقد أقبل عليه، فكأنه قال: إذا أقبلَتْ عليَّ بنو قشير، وهو غور1 من أنحاء العربية طريف ولطيف ومصون وبَطين2.
ومن ذلك قال ابن دريد3 عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو: "فِي قُلُوبِهِمْ مَرْضٌ"4 ساكنة.
قال أبو الفتح: لا يحوز أن يكون "مَرْض" مخففًا من مَرَض؛ لأن المفتوح لا يخفف؛ وإنما ذلك في المكسور والمضموم كإِبِل وفَخِذ، وطُنُب وعَضُد، وما جاء عنهم من ذلك في المفتوح فشاذ لا يقاس عليه، نحو قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْف صفقُه ... يراجع ما قد فاته برِداد5
يريد: سَلَف، فأسكن مضطرًّا، وعلى أننا قد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم "بالمنصف"6، وهو شرح تصريف أبي عثمان، وهذا ونحوه قد جاء في الضرورة، والقرآن يُتخير له ولا يتخير عليه.
__________
1 كذا في نسختي الأصل وك، ولا يبعد أن تكون "نحو".
2 بطين: بعيد الشاو.
3 هو محمد بن الحسن بن دريد الإمام أبو بكر الأزدي اللغوي، صاحب الجمهرة في اللغة، والمقصورة المشهورة، روى عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي وأبي حاتم السجستاني وأبي الفضل الرياشي، وروى عنه أبو سعيد السيرافي والمرزباني وأبو الفتوح الأصبهاني. بغية الوعاة: 30.
4 سورة البقرة: 10.
5 البيت للأخطل، رُوي "مغبون" مكان "متباع"، و"براجع" بالباء مكان "يراجع " بالياء، و"بوداد" مكان "برداد"،المبتاع: المشتري، الصفق: مصدر صفق البائع إذا ضرب بيده على يد صاحبه عند المايعة، والمراد إيجاب البيع، وضمير صفقه للمبتاع أو المغبون، والرداد بكسر الراء: مصدر راد البائع صاحبه إذا فاسخه البيع. انظر: الديوان: 137، وشرح شواهد الشافية: 18-21، والمنصف: 1/ 21.
6 انظر: المنصف: 1/ 21.
(1/53)
________________________________________
وينبغي أن يكون "مَرْض" هذا الساكن لغة في "مرَض" المتحرك؛ كالحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد، والشل والشلل، والعيب والعاب، والذَّيم والذَّام. وقد دللنا في كتابنا الخصائص على تقاود الفتح والسكون، ولأنهما يكادان يجريان مجرى واحدًا في عدة أماكن.
منها أن كل واحد منهما قد يُفْزَع ويُسْتَروح إليه من الضمة والكسرة، ألا تراهم قالوا في غُرُفات ونحوها تارة: غُرَفَات بالفتح، وأخرى: غُرْفَات بالسكون، كما قالوا في سِدِرات تارة: سِدَرات بالفتح، وأخرى: سِدْرات بالسكون.
وأجرَوْا أيضًا الياء المفتوحة في اقتضائها الإمالة مجرى الياء الساكنة، فأمالوا نحو: السَّيَال1 والصِّيَاح، كما أمالوا نحو: شَيْبان وقيس عَيْلان، وقالوا: ضرب يدها، فأمالوا فتحة الدال للياء المفتوحة، وقالوا أيضًا في تكسير جواد: جياد، فأعلُّوا العين كما أعلوها في ثوب وثياب، فأجروا "واو" جواد مجرى "واو" ثوب، وقالوا: مرِض مَرْضًا فهو مارض، كما قالوا: حَرِد2 حَرْدًا فهو حارد، والفعل كالأصل في مصادر الثلاثية لا سيما في المتعدي منها، والمتعدي أكثر من غير المتعدي؛ فلذلك ساغ فيها فَعْل.
وإنما كان المتعدي أكثر من غيره من قِبَل أن الفعل قد يكون حديثًا عن المفعول به، نحو: ضُرب زيدٌ، كما يكون حديثًا عن الفاعل، نحو: قام زيد. فكما لَا بُدَّ للفعل من الفاعل، فكذلك كثر المتعدي؛ لأن في ذلك تسبُّبًا إلى أن يكون الفعل حديثًا عن المفعول.
ومن ذلك قراءة يحيى بن يَعْمَر3 وابن أبي إسحاق وأبي السَّمال4: "اشتروِا الضَّلالة"5.
قال أبو الفتح: في هذه الواو ثلاث لغات: الضم، والكسر، وحكى أبو الحسن فيها الفتح: "اشتروَا الضَّلالة"، ورويناه "8ظ" أيضًا عن قطرب، والحركة في جميعها لسكون الواو وما بعدها، والضم أفشى، ثم الكسر، ثم الفتح.
__________
1 نبات أبيض له شوك طويل.
2 حرد عليه: غضب.
3 يحيى بن يعمر تابعي فقيه أديب نحوي مبرز، سمع ابن عمر وأبا هريرة، وأخذ النحو عن أبي الأسود، تُوفي سنة 129هـ. بغية الوعاة: 417.
4 أبو السمال -بفتح السين وتشديد الميم وباللام- العدوي البصري، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة، رواه عنه أبو زيد سعيد بن أوس. طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 27، وفي القاموس: "وأبو السمال العدوي قعنب المقرئ".
5 سورة البقرة: 16.
(1/54)
________________________________________
وإنما كان الضم أقوى لأنها واو جمع، فأرادوا الفرق بينها وبين واو "أو" و"لو"؛ لأن تلك مكسورة، نحو قول الله سبحانه: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} 1، ومنهم مَن يضمها2، فيقول: "لوُ اطلعت"، كما كسر أبو السَّمَّال وغيره من العرب واو الجمع تشبيهًا لها بواو "لو".
وأما الفتح فأقلها، والعذر فيه خفة الفتحة مع ثقل الواو، وأيضًا فإن الغرض في ذلك إنما هو التبلغ بالحركة لاضطرار الساكنين إليها، فإذا وقعت من أي أجناسها كانت أقنعت في ذلك، كما روينا عن قطرب من قراءة بعضهم: " قُمَ اللَّيْل"3 بالفتح، و"قُلَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ"4، وبِعَ الثوب. قال: وقيس تقول: "اشْتَرَءوا الضَّلالَةَ". قال: وقال بعض العرب: عصئوا الله مهموزة.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على إجراء غير اللازم مجرى اللازم، وقد كتبنا في هذا بابًا كاملًا في الخصائص5، وذلك أنه شبه حركة التقاء الساكنين -وليست بلازمة- بالضمة اللازمة في "أُقتت" وأدؤر وأُجُوه، إلا أن همز نحو "اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ" من ضعيف ذلك.
ولو وقفتَ مستذكرًا وقد ضمت الواو؛ لقلت: اشتروُوا، ففصلت ضمة الواو، فأَنشأت بعدها واوا، كأنك تستذكر "الضَّلالَة" أو نحوها، فتمد الصوت إلى أن تذكر الحرف. ولو استذكرت وقد كسرت لقلت: اشتروِي، فأنشأت بعد الكسرة ياء. ولو استذكرت وقد فتحت الوو لقلت: اشتروَا6، كما أنك لو استذكرت بعد مِن، وأنت تريد الرجل ونحوه لقلت: مِنا؛ لأنك أشبعت فتحة من الغلام، وفي منذ: منذو، وفي هؤلاء: هؤلائي. وحَكى صاحب الكتاب: أن بعضهم قال في الوقف: قالا، وهو يريد قال.
وحَكى أيضًا: هذا سَيْفُنِي، كأنه استذكر بعد التنوين، فاضطر إلى حركته فكسره، فأحدث بعده ياء. ولو استذكرت مع الهمز لقلت: اشترءوا، فالواو بعد الهمزة واو مَطْل الضمة، وليست كواو قولك: اجترءُوا، وأنت تريد: افتعلوا من الجرأة.
__________
1 سورة الكهف: 17.
2 هو المطوعي. إتخاف فضلاء البشر: 175.
3 سورة المزمل: 2، وفي البحر 8/ 360: "وقرأ الجمهور "قمِ الليل" بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين، وأبو السمال بضمها إتباعًا للحركة من القاف، وقُرئ بفتحها طلبًا للخفة".
4 سورة الكهف: 29، وفي البحر 6/ 120: "وقرأ أبو السمال قعنب: "وقلَ الحق" بفتح اللام حيث وقع، قال أبو حاتم: وذلك رديء في العربية".
5 انظر: الخصائص: 3/ 87.
6 انظر: المصدر السابق: 132.
(1/55)
________________________________________
ومن ذلك قراءة الحسن وإبي السَّمَّال: "وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلْمَاتٍ"1 ساكنة اللام.
قال أبو الفتح: لك في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: إتباع الضم الضم، والكسر الكسر، ومَن استثقل اجتماع الثقيلين فتارة يعدل إلى الفتح في الثاني يقول: ظُلَمَات وكِسَرات، وأخرى يسكن فيقول: ظُلْمَات وكِسْرَات، وكل جائز حسن.
فأما فَعْلة بالفتح فلَا بُدَّ فيه من التثقيل إتباعًا، فتقول: ثَمَرَة وثَمَرَات، قال:
ولما رأونا باديًا رُكَبَاتُنا ... على موطن لا نخلط الجِد بالهزل2
وقال النابغة:
وَمَقْعَدُ أيسار على رُكَبَاتهم ... ومربطُ أفراس وناد وملعب
وعليه قراءة أبي جعفر3: "من وراء الْحُجَرات"4.
وقال بشر:
حتى سقيناهم بكأس مرة ... مكروهة حُسَواتها كالعلقم
وقد أسكنوا "9و" المفتوح، وهو ضروة، قال لبيد:
رُحلن لشقة ونُصبن نصبا ... لوغْرات الهواجرِ والسَّمُوم5
وقال ذو الرمة:
أَبت ذكرٌ عَوَّدْنَ أحشاء قلبه ... خُفُوفًا ورفْضَاتُ الهوى في المفاصل6
روينا ذلك كله، وروينا أيضًا أن بعض قيس قال: ثلاث ظَبْيَات، فأسكن موضع العين، وروينا عن أبي زيد أيضًا عنهم: شَرْيَة وشَرْيات وهو الحنظل، والتسكين عندي في هذا أسوغ منه في نحو رفْضات ووغْرات، من قِبَل أن قبل الألف ياء محركة مفتوحًا ما قبلها، وهذا شرط اعتلالها بانقلابها ألفًا، وتحتاج أن تعتذر من ذلك بأن تقول:
لو قلبت ألفًا لوجب حذفها لسكونها وسكون الألف بعدها، وليس في نحو: رفضات ما يوجب الاعتذار من الحركة، وكان رفضات أقرب مأخذًا من ثمرات من قِبَل أن رفضة حدث ومصدر،
__________
1 سورة البقرة: 7.
2 انظر: الكتاب: 2/ 182.
3 هو الإمام أبو جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي المدني أحد القراء العشرة، تابعي مشهور كبير القدر، ويقال: اسمه جندب بن فيروز، وقيل: فيروز، عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وروى عنهم، وروى القراءة عنه نافع بن أبي نعيم وغيره، مات سنة 130هـ بالمدينة. طبقات ابن الجزري: 2/ 382.
4 سورة الحجرات: 4.
5 الوغرات: جمع وغرة؛ وهي شدة الحر. وانظر: الديوان: 6.
6 رفضات الهوى: ما تفرق من هواها في قلبه. وانظر: الديوان: 404.
(1/56)
________________________________________
والمصدر قوي الشبه باسم الفاعل الذي هو صفة، والصفة لا تحرَّك في نحو هذا، نحو: صَعْبة وصَعْبات، وخَدْلة1 وخَدْلات، ويدلك على قوة شبه المصدر بالصفة وقوع كل واحد منهما موقع صاحبه، وذلك نحو قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} 2 أي: غائرًا، وقولهم: قم قائمًا؛ أي: قيامًا، وعليه قول الفرزدق:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رِتاج قائمًا ومقام
على حَلْفَة لا أشتُمُ الدهر مسلمًا ... ولا خارجًا من فيَّ زُورُ كلام3
أي: ولا يخرج خروجًا. وعليه أيضًا كسروا المصدر، وهو فَعْلٌ عى ما يكسر عليه فاعل في الوصف وهو فواعل. أنشدنا أبو علي:
وإنك يا عم ابن فارس قُرْزُل ... معيدٌ على قيل الخنا والهواجر4
يريد جمع هُجْر، فكأنه كسَّر هاجرًا على هواجر.
وأنشدنا أيضًا:
فليتك حال البحر دونك كله ... وكنت لقى تجري عليه السوائل5
يريد السيول جمع سيل، وهو كثير جدًّا، فكذلك سَهُل شيئًا إسكان نحو: رَفْضة ووَغْرة؛ لكونهما حدثين ومصدرين لشبههما بالصفة. ويزيد في أُنْسك تسكن عين ما لامه حرف علة لما تُعقبُ من الاعتذار من تحريك عينه، امتناعهم من تحريك العين في فَعْلَة إذا كانت حرف علة، وذلك نحو: جَوْزَات ولَوْزَات وبَيْضَات، ألا ترى أنه لو حرك فقال: جَوَزَات وبَيَضَات؛ لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقول: لو أعللتُ لوجب القلب، فأقول: جازات وباضات؛ فيلتبس ذلك بما عينه في الواحد ألف منقلبة نحو: قارة6 وقارات، وجارة
__________
1 الخدلة وتكسر داله: المرأة العظيمة الساق المستديرتها، والجمع خدال.
2 سورة الملك: 30.
3 رُوي "واقفًا" مكان "قائمًا"، الرتاج: الباب العظيم؛ يعني: باب البيت ومقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويروى أن الفرزدق حج فعاهد الله بين الباب والمقام ألا يهجو أحدًا، وأن يقيد نفسه حتى يجمع القرآن حفظًا، فلما قدم البصرة قيد نفسه وحلف ألا يطلق قيده عنه حتى يجمع القرآن، وقال:
ألم ترني عاهدت ربي....
انظر: الكتاب: 1/ 173، وشرح شواهد الشافية: 72 وما بعدها.
4 البيت لسلمة بن الخرشب الأنماري يخاطب عامر بن الطفيل، قرزل بالضم: اسم فرس كان في الجاهلية، قال ابن الأعرابي: هو فرس عامر بن الطفيل، المعيد: الذي يعاود الشيء مرة بعد مرة. اللسان: قرزل وهجر.
5 رواه في اللسان "لقي" غير منسوب, واللقي بالفتح: الشيء الملقى لهوانه، وجمعه ألقاه.
6 القارة: الجبل الصغير المنقطع عن الجبال.
(1/57)
________________________________________
وجارات.
وإذا جاز إسكان العين الصحيحة، نحو: تَمْرات وشَعْرات؛ صار المعتل أحرى بالضمة. نعم، وربما جاء الفتح في العين إذا كانت واوًا أو ياء كما قال الهذلي:
أبو بَيَضَات رائحٌ متأَوِّبٌ ... رفيقٌ بمسع الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ1
وعذره في ذلك: أن هذه الحركة إنما وجبت في الجمع، وقد سبق العلم بكونها في الواحد ساكنة، فصارت الحركة في الجمع "9ظ" عارضة فلم تُحفل، وفي هذا بعد هذا ضعف، ألا ترى أن هذه الألف والتاء تبنى الكلمة عليهما، وليستا في حكم المنفصل؟ يدلك على ذلك صحة الواو في خُطُوات وكُسُوات، ولو كانت الألف والتاء في ذلك في حكم المنفصل لوجب إعلال الواو؛ لأنها لام وقبلها ضمة، كما أنك لو بنيت فُعُلَة على التذكير من غزوت لأعللت اللام فقلت: غُزُية، حتى كأنك نطقت بفُعِل منه فقلت: غُزٍ.
ولو بنيتها على التأنيث لصحت اللام فقلت: غُزُوَة، فعليه قلت: خُطُوات؛ لأنه مبني على التأنيث، ولو كان على التذكير قلت: خُطِيات، كما قلت: غُزٍ في فُعُل من الغزو.
قال أبو علي: يدلك على أن الكلمة مبنية على الألف والتاء اطِّراد إتباع الكسر للكسر في سِدِرات وكِسِرات مع عزة فِعِل في الواحد، وإنما حكى سيبويه منه: إبل لا غير، وهو كما ذَكر2، إلا أن مما يؤنس بكون حركة العين غير ملازمة ما رويناه عن قطرب فيما حكاه عن يونس من قوله في جِرْوة: إذا قلت جِرِوات فصحة الواو وهي لام بعد الكسرة تدلك على قلة الاعتداد بها، وعلى ذلك أن يقال: إن هذا شاذ، يدل على شذوذه امتناعهم أن يحركوا عين كُلْية ومُدْية، وأن يقولوا: كُلُيات ومُدُيات؛ لما كان يعقب ذلك من وجوب قلب الياء إلى الواو، فدلنا ذلك على أن نحو جِرِوات شاذ.
وبإزاء هذا أن يقال: هلا قلبوا فقالوا: كُلُوات ومُدُوَات، كما أنهم لو بنوا مثل فُعُلة من قضيت ورميت على التأنيث قلبوا فقالوا: رُمُوَة وقُضُوَة، فهذه أشياء تراها متكافئة أو كذلك، وعلى كل حال فالاختيار خُطْوات بالإسكان، ألا ترى أن الألف والتاء وإن بني الاسم عليهما فإن الجمع على كل حال خارج من الواحد الذي هو الأصل، فمعنى الفرعية موجود في الجمع
__________
1 البيت في وصف ذكر النعام، ولم أعثر عليه في ديوان الهذليين. الخصائص: 3/ 184، والمنصف: 1/ 343، والخزانة: 3/ 429.
2 سبق في الصفحة: 37 أن ذكر "الإطل" مع "الإبل"، وزاد عليهما في شرح الشافية 1/ 46 خمسة أخرى.
(1/58)
________________________________________
بتلفُّته إلى الواحد، وليست فُعُلَة إذا بنيت على التأنيث مما خرج عن تذكيره فيراعى فيه حكمه، كما رُوعي في الألف والتاء حكم الواحد، فاعرفه فصلًا.
ومن ذلك ما حكاه الفراء عن بعض القراء فيما ذكر ابن مجاهد "يَخَطَّف"1 بنصب الياء والخاء والتشديد. قال ابن مجاهد: ولم يُرْوَ لنا عن أحد.
قال أبو الفتح: أصله يَخْتَطف، فآثر إدغام التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، ولأن التاء مهموسة والطاء مجهورة، والمجهور أقوى صوتًا من المهموس، ومتى كان الإدغام يُقوِّي الحرف المدغم حسن ذلك؛ وعلته أن الحرف إذا أدغم خفي فضعف، فإذا أدغم في حرف أقوى منه استحال لفظ المدغم إلى لفظ المدغم فيه فقوي لقوته، فكان في ذلك تدارك وتلاف لما جُني علي الحرف المدغم؛ فأَسكن التاءَ لإدغامها والخاءُ قبلها ساكنة، فنقلت الحركة إليها، وقلبت التاء طاء وأدغمت في الطاء؛ فصارت "يَخَطَّف".
ومنهم من إذا أسكن التاء ليدغمها كسر الخاء لالتقاء الساكنين، فاستغنى بحركتها عن نقل الحركة إليها، فيقول: يَخِطِّف.
ومنهم من يكسر حرف المضارعة إتباعًا لكسرة فاء الفعل ما بعده فيقول: يِخِطِّف، وأنا إِخِطِّف، وأنشدو لأبي النجم: "10و"
تدافُعَ الشِّيبِ ولم تِقِتِّل2
أراد تقتتل، فأسكن التاء الأولى للإدغام، وحرك القاف6 لالتقاء الساكنين بالكسر فصار تَقتِّل، ثم أتبع أول الحرف ثانيه فصار تِقِتِّل.
وعلى هذا قالوا في ماضيه: خِطَّف، وأصلها اختطف، فأسكن التاء للإدغام فانكسرت الخاء لسكونها وسكون التاء، فحذف همزة الوصل لتحرك الخاء بعدها، وأُدغمت التاء في الطاء فصار "خِطَّف".
__________
1 سورة البقرة: 20، وقال في البحر المحيط 1/ 90: "وقرأ الحسن أيضًا وأبو رجاء وعاصم الجحدري وقتادة "يَخِطِّف" بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة، وقرأ أيضًا الحسن والأعمش "يِخِطِّف" بكسر الثلاثة وتشديد الطاء".
2 انظر: المنصف: 2/ 225، والطرائف الأدبية: 75.
(1/59)
________________________________________
ومنهم من يتبع الطاء كسرة الخاء فيقول: خِطِّف، وأنشدونا:
لا حِطِّب القومَ ولا القومَ سقى1
أراد: احتطب على ما مضى.
وحكى أبو الحسن عنهم: فِتِّحوا الأبواب؛ أي: افتتحوا، على ما تقدم.
وكذلك الكلم في قوله: يَهَدِّي ويَهِدِّي ويِهِدِّي2، وجاء المعذِّورن والْمُعِذِّرون والْمُعُذِّورن3، ومُرَدِّفين ومُرِدِّفين ومُرُدِّفين4، تُتْبِع الضم الضم، كما أتبعت الكسر الكسر. وأصله كله: المعتذرون ومرتدفون، وهو باب منقاد، وهذه طريقه.
ومن بعد فيسأل فيقال: ما مثال "يَخَطِّف"؟
قيل: إن أردت الأصل فيفتعِل؛ أي: يختطف، وإن أردت اللفظ ففيه الصنعة وعليه المسألة، فوزنه: يَفَطْعِل، وذلك أن التاء في يفتعل زائدة، فكما أنها لو ظهرت لكانت زائدة فكذلك إذا أَبدلت فالبدل منها زائد؛ لأن البدل من الزائد زائد، ألا ترى أن الطاء من "اصطبر" بدل من التاء في "اصتبر" الذي هو افتعل؟ فكما أن التاء زائدة فكذلك ما هو بدل منها -وهو
__________
1 البيت للشماخ، وصدره:
خب جروز إذال جاع بكى
الخب: اللئيم، والجروز: الأكول. اللسان: حطب.
2 سورة يونس: 35، من قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} .
وفي البحر المحيط 5/ 156: قرأ أهل المدينة إلا ورشًا "أم من لا يهدي" بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدال؛ فجمعوا بين ساكنين.
وقرأ أبو عمر وقالون في رواية كذلك إلا أنه اختلس الحركة.
وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء.
وقرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر كذلك إلا أنهم كسروا الهاء لما اضطروا إلى الحركة حرك بالكسر.
وقرأ أبو بكر في رواية يحيى بن آدم كذلك إلا أنه كسر الياء.
3 سورة التوبة: 90، من قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} .
4 سورة الأنفال: 9، من قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} .
قال في البحر المحيط 4/ 465: "وقرأ بعض المكيين فيما رَوَى عنه الخليل بن أحمد وحكاه ابن عطية "مُرَدِّفين" بفتح الراء وكسر الدال مشددة، أصله مرتدفين، فأدغم. ورُوي عن الخليل أنه يضم الراء إتباعا لحركة الميم، وقرئ كذلك إلا أنه بكسر الراء إتباعا لحركة الدال، أو حركت بالكسر على أصل التقاء الساكنين".
(1/60)
________________________________________
الطاء- زائد، فوزن اصطبر على أصله: افتعل، وعلى لفظه: افطعل، فكذلك وزن "يَخَطِّف" من الفعل على لفظه: يَفَطْعِل، فإذا ثبت ذلك -وقد ثبت بحمد الله- فوزن خِطِّف: فِطْعِل، ووزن تِقِتِّل: تِفِعْتِل، ووزن مُرُدِّفين: مُفُدْعِلِين؛ لأن الدال فيه بدل من التاء الزائدة، فهي زائدة من هذا الوجه، كما كانت الطاء في خِطِّف زائدة من هذا الوجه.
وكذلك لو قائل: ما مثل "ازَّيَّنَتْ"1 على أصله؟
قلت: تفعَّلت؛ أي: تزينت، وعلى لفظه: ازْفَعَّلَت.
وكذلك قالوا: "اطَّيَّرْنَا"2 ووزنه: اطْفَعَّلْنا، وكذلك قول العجلي:
من عبس الصيف قرون الإِجَّل3
يريد الإِيَّل، فإن اعتقدت أنه فِعْوَل أو فِعْيَل في الأصل فوزنه بعد البدل: فِعْجَل؛ لأن الجيم على هذا بدل من واو فِعْوَل أو ياء فِعْيَل، وهما زائدتان، فهي زائدة، فاعرف ذلك وقسه.
قال ابن مجاهد: وحكى الفراء أن بعض أهل المدينة يسكن الخاء والطاء ويشدد فيجمع بين ساكنين.
قال ابن مجاهد: ولا نعلم أن هذه القراءة رُويت عن أهل المدينة.
قال أبو الفتح: هذا الذي يجيزه الفراء من اجتماع ساكنين في نحو هذا لا يثبته أصحابنا؛
__________
1 سورة يونس: 24، من قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} .
2 سورة النمل: 47، من قوله تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} .
3 لأبي النجم، من أرجوزة وصف فيها الإبل لهشام بن عبد الملك، أولها:
الحمد لله الوهوب المجزل
وقبل الشاهد:
كأن في أذنابهن الشول
والضمير في أذنابهن للإبل، والشول: جمع شائل بلا هاء؛ وهي الناقة التي تشول بذنبها للقاح ولا لبن بها أصلًا، والعبس بفتحتين: ما يتعلق في أذناب الإبل من أبعارها وأبوالها فيجف عليها، يقال منه: أعبست، وعبس الوسخ في يد فلان: أي يبس، وخص العبس بالصيف؛ لأنه يكون أقوى وأصلب، فتشبهه بقرون الإيل لأنها أصلب من قرون غيرها، والإيل بضم الهمزة وكسرها: الذكر من الأوعال. شرح شواهد الشافية: 485.
(1/61)
________________________________________
وإنما هو اختلاس وإخفاء عليهم فيرون أنه إدغام، وإنما هو إخفاء للحركة وإضعاف للصوت، وهذا كما يُروى في قوله:
ومَسحِه مُرُّ عُقاب كاسِرِ1
أن الحاء مدغمة في الهاء، ويا ليت شعري كيف يجوز لذي نظر أو من يُخْلِد ألى أدني تفكير أن يدَّعِي أن هنا "10ظ " إدغامًا، أو أن تجمع بين ساكنين، وقد قابل به جزء التفعيل، وإذا وقع التحاكم إلى بديهة الحس؛ فقد سقطت كلفة إتعاب النفس، ألا ترى أن وزن قوله: "ومسحهِي" مفاعلن، فالحاء مقابَل بها عين "علن"، والعين أول الوتد، وهي كما ترى وتعلم محركة، أفيقابَل في الوزن الساكن بالمتحريك؟ وإذا أفضى الأمر في السفور إلى هاهنا حَسَر شبهة اللبس والعناء، وقد قلنا في كتابنا الموسوم "بسر الصناعة "2 في هذا ما فيه كفاية وغناء.
قال ابن مجاهد: وقد رُوي عن مجاهد والحسن "يَخْطِف"، ولم يبلغنا أن أحدًا قرأ "خَطَف" بفتح الطاء، فيُقرأ هذا الحرف يَخْطِف، وأحسب أن هذا غلط ممن رواه.
قال أبو الفتح: قد قلنا في كتابنا الموسوم "بالمنصف" وهو شرح تصريف عثمان في نحو هذا من قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْفَ صَفْقُه ... يراجع ما قد فاته بِرِداد3
فإذا تأملته أغنى عن إعادته إن شاء الله، وجملته: أن يكون استُغني بِخَطِف عن خَطَف في الماضي، وجاء المضارع عليه كما أن قوله: "سَلْف" يكون مُسَكَّنًا من "سَلِف" وإن لم يستعمل؛ استغناء بسلَف عنه، وقد شرحناه هناك فتركناه هنا.
__________
1 قبله:
كأنها بعد كَلالِ الزَّاجر
المسح: أن تتعب الإبل وتدبرها وتهزلها، يصف ناقة بأنها بعد طول السير والإجهاد تشبه عقابًا منقضة كسرت جناحيها عند انقضاضها. الكتاب: 2/ 413، وسر صناعة الإعراب: 1/ 65.
2 انظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 65، 66.
3 انظر: الصحفة 53 من هذا الجزء.
(1/62)
________________________________________
ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف ومجاهد وطلحة بن مصرِّف1 وعيسى الهمداني2: "وُقُودُهَا النَّاسُ"3.
قال أبو الفتح: هذا عندنا على حذف المضاف؛ أي: ذو وُقودِها، أو أصحاب وقودها الناس؛ وذلك أن الوُقود بالضم هو المصدر، والمصدر ليس بالناس؛ لكن قد جاء عنهم الوَقود بالفتح في المصدر؛ لقولهم: وَقَدَت النارُ وَقودًا، ومثله: أُولِعْتُ به وَلُوعًا، وهو حسن القبول منك، كله شاذ، والباب هو الضم.
وكان أبو بكر يقول في قولهم: توضأت وَضوءًا: إن هذا المفتوح ليس مصدرًا؛ وإنما هو صفة مصدر محذوف، قال: وتقديره: توضأت وُضوءًا وَضُوءًا؛ لقولك: توضأت وُضوءًا حسنًا؛ لأن الوَضوء عنده صفة من الوضاءة.
وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: رجل ساكوت بَيِّن الساكوتة، فقال: قياس مذهب أبي بكر في الوَضوء أن يكون هذا على أنه أراد رجل ساكوت بَيِّن السكتة الساكوتة.
وعليه قولهم فيما حكاه الأصمعي: رجل بَيِّنُ الضارورة؛ أي: بين الضَّرة، أو المضرة الضارورة.
وأما قولهم: لص بين اللَّصوصية، وحُرٌّ بين الحروية، وخصصته بالشيء خَصوصِيَّة، فإن شئت قلت: هو على مذهب أبي بكر لص بين اللَّصة اللَّصوصية، والْخَصَّة الْخَصوصية، والْحُرِّية الْحَرورية.
وإن شئت قلت غير هذا؛ وذلك أن ما لا يجيء من الأمثلة بنفسه قد يجيء إذا اتصلت ياء الإضافة به، وذلك كقول الأعشى:
وما أَيْبُلِيٌّ على هيكل ... بناه وصلَّب فيه وصارا4
__________
1 هو طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب أبو محمد، كوفي تابعي كبير، له اختيار في القراءة ينسب إليه، أخذ القراءة عرضًا عن إبراهيم بن يزيد النخعي والأعمش ويحيى بن وثاب، وروى القراءة عرضًا عنه عيسى بن عمر الهمداني وأبان بن تغلب وعلي بن حمزة الكسائي، وكانوا يسمونه سيد القراء، مات سنة 112هـ. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 343.
2 هو عيسى بن عمر الهمداني الكوفي القارئ الأعمى، مقرئ الكوفة بعد حمزة، عرض عليه الكسائي، مات سنة 156، وقيل: سنة 150. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 612.
3 سورة البقرة: 24.
4 بعده:
يرواح من صلوات المليـ ... ـك طورًا سجودًا وطورًا جؤارا
بأعظم منه تقى في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا
أيبلي: صاحب أيبل؛ وهي العصا التي يدق بها الناقوس، صلب: صور الصليب، صار: سكن. الديوان: 53.
(1/63)
________________________________________
فأيبلي كما ترى فَيْعُلِيّ، ولولا ياء الإضافة لم يجز ذلك، ألا ترى أنه لم يأتِ عنهم فَيْعُل؟ وكذلك قولهم في الإضافة إلى تحبة: تَحَوِيّ، ومثاله: تَفَلِيّ. وليس في كلامهم اسم على تفل، فكذلك جاز خَصوصية وأختاها، هذا مع ما حُكي "11و" عنهم من القَبول والوَضوء والوَلُوع والوَقود، فإذا جاء هذا المثال في المصدر من غير أن تصحبه ياء الإضافة فهو بأن يأتي معهما أجدر.
ومن ذلك قراءة رؤبة: "مَثَلا مَا بَعُوضَةٌ"1 بالرفع.
قال ابن مجاهد: حكاه أبو حاتم عن أبي عبيدة عن رؤبة.
وقال أبو الفتح: وجه ذلك: أن "ما" هاهنا اسم بمنزلة الذي؛ أي: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلًا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ.
ومثله قراءة بعضهم: "تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ"2 أي: على الذي هو أحسن.
وحكى صاحب الكتاب عن الخليل: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا؛ أي: الذي هو قائل لك شيئًا.
وعليه قوله:
لم أرَ مثل الفتيان في غِيَر الـ ... أيام ينسَوْن ما عواقبُها3
أي: ينسون الذي هو عواقبها، وحَذْفُ الضمير من هنا ضعيف؛ لأنه ليس فضلة كالهاء في نحو قولك: ضربت الذي كلمت؛ أي: كلمته.
وإن شئت كان تقديره: ينسون أيُّ شيء عواقبها؟ فتكون ما استفهامًا، وعواقبها خبرًا عنها، والجملة في موضع نصب بينسون، وجاز فيها التعليق؛ لأنها ضد يذكرون ويعلمون، فيجري مجرى قولك: لا تنسَ أيُّنا أحق بكذا، وأَتذكُرُ أَزيدٌ أفضل أم عمرو؟
ومن ذلك قراءة يزيد البربري: "وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"4.
__________
1 سورة البقرة: 26.
2 سورة الأنعام: 154، والرفع عن الحسن والأعمش كما في الإتحاف: 132.
3 لعدي بن زيد، وفي الأصل: غبر بالباء، وهو تحريف، وما أثبتناه هنا عن ك وهامش الأصل، ويروى عقب جمع عقبة بضم فسكون وهي الشدة، ويروى غبن، قال ابن الشجري: قوله: "في غبن الأيام" يدل على أنهم قد استعملوا الغبن المتحرك الأوسط في البيع، والأشهر غبنته في البيع غبنًا بسكون وسطه، والأغلب على الغبن المفتوح أن يستعمل في الرأي، فعله غَبِنَ يغبن مثل فرح يفرح، غبن رأيه، والمعنى في رأيه، ومفعول الغبن في البيت محذوف؛ أي: في غبن الأيام إياهم. الأغاني، طبعة دار الكتب: 2/ 147، والخزانة: 2/ 21.
4 سورة البقرة: 31.
(1/64)
________________________________________
قال أبو الفتح: ينبغي أن يُعلم ما أذكره هنا؛ وذلك أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلة وبعد الفاعل؛ كضرب زيد عمرًا، فإذا عناهم ذكر المفعول قدَّموه على الفاعل، فقالوا: ضرب عمرًا زيد، فإن ازدادت عنايتهم به قدموه على الفعل الناصبِه، فقالوا: عمرًا ضرب زيد، فإن تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رَبُّ الجملة، وتجاوزوا به حد كونه فضلة، فقالوا: عمرو ضربه زيد، فجاءوا به مجيئًا ينافي كونه فضلة، ثم زادوه على هذه الرتبة فقالوا: عمرو ضرب زيد، فحذفوا ضميره ونَوَوه ولم ينصبوه على ظاهر أمره؛ رغبة به عن صورة الفضلة، وتحاميًا لنصبه الدال على كون غيره صاحب الجملة، ثم إنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة حتى صاغوا الفعل له، وبنوه على أنه مخصوص به، وألغَوْا ذكر الفاعل مظهرًا أو مضمرًا، فقالوا: ضُرب عمرو، فاطُّرح ذكر الفاعل ألبتة. نعم، وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل ألبتة، وهو قولهم: أُولعت بالشيء، ولا يقولون: أولعني له كذا، وقالوا: ثُلِجَ فؤاد الرجل، ولم يقولوا: ثَلَجَهُ كذا، وامتُقع لونه، ولم يقولوا: امتقعه كذا، ولهذا نظائر، فرفضُ الفاعل هنا ألبتة واعتماد المفعول به ألبتة دليل على ما قلناه، فاعرفه.
وأظنني سمعت: أولعني1 به كذا، فإن كان كذلك فما أقله أيضا!
وهذا كله يدل على شدة عنايتهم بالفضلة؛ وإنما كانت كذلك لأنها تجلو2 الجملة، وتجعلها تابعة المعنى لها، ألا ترى أنك إذا قلت: رغبت في زيد، أُفيد منه إيثارك له، وعنايتك به، وإذا قلت: رغبت عن زيد، أُفيد منه اطراحك له، وإعراضك عنه، ورغبت في الموضعين بلفظ واحد "11ظ"، والمعنى ما تراه من استحالة معنى رغبت إلى معنى زهدت، وهذا الذي دعاهم إلى تقديم الفضلات في نحو قول الله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3، وإنما موضع اللام التأخير؛ ولذلك قال سيبويه: إن الجفاة ممن لا يعلم كيف هي في المصحف يقرؤها: "وَلَمْ يَكُنْ كُفُوًا له أَحَدٌ"4.
فإن قلت: فقد قالوا: زيدًا ضربته فنصبوه، وإن كانوا قد أعادوا عليه ضميرًا يشغل الفعل
__________
1 في القاموس: "ولع به كوجل ولعًا محرَّكة وولوعًا بالتفح، وأولعته وأولع به بالضم ... ".
2 في نسختي الأصل: تخلو، والظاهر ما أثبتنا.
3 سورة الصمد: 4.
4 عبارة سيبويه: "وجميع ما ذكرت لك من التقديم والتأخير، والإلغاء والاستقرار، عربي جيد كثير، فمن ذلك قول الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وأهل الجفاء من العرب يقولون: ولم يكن كفوًا له أحد، كأنهم أخروها حيث كانت غير مستقرة. انظر: الكتاب: 1/ 27.
(1/65)
________________________________________
بعده عنه حتى أضمروا له فعلًا ينصبه، ومع هذا فالرفع فيه أقوى وأعرب، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إياه ربَّ الجملة ومبتدأها في قولهم: زيد ضربته.
قيل: هذا وإن كان على ما ذكرتَه فإن فيه غرضًا من موضع آخر؛ وذلك أنه إذا نصب على ما ذكرت فإنه لا يعدم دليل العناية به، وهو تقديمه في اللفظ منصوبًا، وهذه صورة انتصاب الفضلة مقدمة لتدل على قوة العناية به، لا سيما والفعل الناصب له لا يظهر أبدًا مع تفسيره، فصار كأن هذا الفعل الظاهر هو الذي نصبه، وكذلك يقول الكوفيون أيضًا.
فإذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها، وبنَوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرب زيد -حَسُن.
قوله تعالى: "وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" لما كان الغرض فيه أنه قد عَرَفَها وعَلِمَها، وآنس أيضًا علم المخاطبين بأن الله سبحانه هو الذي علمه إياها بقراءة مَن قرأ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} 1، وقوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 2، هذا مع قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} 3، وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 4، وقال تبارك اسمه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} 5.
فقد عُلم أن الغرض بذلك في جميعه أن الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرب زيد، إنما الغرض منه أن يُعلم أنه منضرب، وليس الغرض أن يُعلم مَن الذي ضربه، فإن أُريد ذلك ولم يدل دليل عليه فلَا بُدَّ أن يذكر الفاعل فيقال: ضرب فلان زيدًا، فإن لم يفعل ذلك كلف علم الغيب.
ومن ذلك قراءة الحسن رحمه الله: "أَنْبِهِمْ"6 بوزن أَعْطِهِم، ورُوي عنه: "أَنبيهُمُ" بلا همز، ورُوي عن ابن عامر: "أَنْبِئْهِم" بهمز وكسر الهاء. قال ابن مجاهد: وهذا لا يحوز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن: "أَنْبِهِمْ" كأعطهم، فعلى إبدال الهمزة ياء على أنه يقول: أَنْبَيْتُ كأَعْطَيْتُ، وهذا ضعيف في اللغة؛ لأنه بدل لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
__________
1 سورة المعارج: 19.
2 سورة النساء: 28، وفي نسختي الأصل وك: "وخلق الإنسان عجولًا" فجمع جزءًا من هذه الآية وآية: "وكان الإنسان عجولًا" سورة الاسراء: 11.
3 سورة العلق: 2.
4 سورة الرحمن: 3.
5 سورة الرحمن: 15.
6 سورة البقرة: 33.
(1/66)
________________________________________
وحدثنا أبو علي قال: لقي أبو زيد سيبويه فقال: سمعت العرب تقول: قَرَيْتُ وتوضيت، فقال له سيبويه: فكيف تقول في المضارع؟ قال: أَقرأُ. هذا آخر الحكاية عن أبي علي1.
وزاد أبو العباس محمد بن يزيد فيها: فقال له سيبويه: فقد تركت إذن مذهبك.
ونحوه قراءة: "أن تَبَوَّيَا"2.
ويجوز على هذه القراءة "أَنْبِهُم" على أصل حركة الهاء وهو الضم؛ كقراءة مَن قرأ: "فخسفنا بِهُو وبدارِهُو الأرض"3.
وأما قراءته على الرواية الأخرى: "أَنبيهُم" فهو على قياس التخفيف الصريح، ولك في هذه الهاء على "12و" هذه القراءة الضم والكسر.
أما الضم4 فمن وجهين:
أحدهما: وهو الأظهر؛ إخراجها على الأصل فيه.
والآخر: وفيه الصنعة؛ وهو أن هذه الياء ليست بلازمة؛ وإنما اجتلبها تخفيف الهمزة؛ وذلك أن الهمزة إذا سكنت مكسورًا ما قبلها فتخفيفها القياسي أن تخلصها في اللفظ ياء، وذلك قولك في ذئب: ذيب، وفي بئر: بير، فقوله: "أَنبِيهم" بياء ساكنة ينبغي أن يكون على التخفيف القياسي، لا على أنه أبدل الهمزة ياء إبدالًا مستكرهًا على حد قولهم في البدل: قريب كأعطيت، فإنما كان ذلك كذلك من قِبَل أنه لو أَبدل لكان قد أَخرج الهمزة على أصلها إلى ذوات الياء، ولو كان فعل ذلك لوجب حذفه كما تحذف لام: أَعطيت وأَغزيت للوقف والجزم، كما حذفها في القراءة الأخرى لما أبدل فقال: "أَنْبِهِمْ"، ولو اعتقد أنه قد أبدل ألبتة لما جاز إثبات الياء في موضع الوقف، كما لا يجوز: أَعطيهم ولا أَغزيهم، إلا أن يحمل ذلك على الضرورة، وإثبات الياء في موضع الجزم والوقف؛ كقوله:
ألم يأْتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبونُ بني زياد 5
__________
1 عبارة أبي علي: "وحُكي عن أبي زيد قال: قلت لسيبويه: سمعت قريت وأخطيت، قال: وكيف تقول في المضارع؟ قلت: أقرأ، قال: يريد سيبويه أن قريت مع أقرأ لا ينبغي؛ لأن أقرأ على الهمز وقربت على القلب، فلا يكون أن يغير بعض الأمثلة دون بعض؛ فدل ذلك على أن القائل لذلك غير فصيح، وأنه مخلط في لغته. انظر: الحجة، النسخة المصورة بدار الكتب برقم 462، الجزء 3، الورقة 96.
2 سورة يونس: 87، وفي البحر 5/ 186: "قرأ حفص في رواية هبيرة: "تبويا" بالياء، وهو تسهيل غير قياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف".
3 سورة القصص: 81.
4 سيأتي ذكر وجه الكسر في الصفحة: 70.
5 البيت لقيس بن زهير العبسي، ويُروى: "ألم يبلغك" مكان "ألم يأتيك". الكتاب: 2/ 59، والنوادر: 203، والأغاني: 16/ 28.
(1/67)
________________________________________
فإن فعل ذلك ففيه على هذا ضرورتان:
إحداهما: الإبدال، ولا ضرورة إليه.
والآخر1: إثبات حرف العلة في موضع الوقف، وذلك ضرورة أفحش من الأولى؛ لكثرة الإبدال على قبحه، وقلة إثبات حرف اللين في موضع الوقف؛ لكن إذا اعتقد أنه خُفف لم يكن في هذه القراءة ضرورة ألبتة، وفي هذا كافٍ.
وإذا كان "أَنبيهِم" إنما هو على التخفيف القياسي، فكأن الهمزة حاضرة لأنها هي الأصل؛ إذ كان التخفيف له أحكام التحقيق، ألا ترى إلى صحة الواو والياء في تخفيف ضوء وفيء؛ وذلك قولك: هذا ضَوٌ وفَيٌ ونَوٌ وشَيٌ، بضمة الواو والياء مع تحركهما وانفتاح ما قبلهما، وترك قبلهما ألفين لذلك يدل على أن الواو والياء لما تحركتا بحركة الهمزة المحذوفة للتخفيف كانتا لذلك في حكم الساكنين، فكما تصحان هنا سكانتين في ضوء ونوء وفيء وشيء، كذلك صحتا متحركتين في ضَوٍ ونَوٍ وشَيٍ، وعلى ذلك صحت الواو والياء أيضًا في تخفيف نحو: جَيْئَل2 وحَوْءَب3 إذا خَففت فقلت: جَيَل وحَوَب، فكما تكون الياء مضمومة مع التحقيق في قوله: "أَنْبِئْهُم"، فكذلك تكون مضمومة مع التخفيف في قولك: "أَنبيهُم"؛ لما بيناه من أن حكم الهمزة المخففة حكم المحققة.
وسألت أبا علي -رحمه الله- فقلت: من أجرى غير اللازم مجرى اللازم فقال: في تخفيف الأحمر: لَحْمر، أيجوز له على هذا أن يقلب الواو والياء في حَوَب وجَيَل ألفًا، فيقول: حاب وجال؟ فقال: لا، وأومأ إلى أن حكم القلب أقوى من حكم الاعتداد بالحركة في لَحمر؛ أي: فلا يبلغ في الجواز ذلك لشناعته، وهو كما ذكر.
وقد يجوز عندي في قراءة الحسن -رحمه الله- هذه أن يكون أراد "أَنبهم" كقراءته في الأخرى، إلا أنه أشبع الكسرة فأنشأ عنها ياء، فقال: "أَنْبِيهم"، كما قد يجوز ذلك في قوله: "أَلَم "12ظ" يَأْتِيَك"؛ فإنه أشبع الكسرة فمطها، فبلغت ياء، وعليه الرواية
__________
1 كذا في النسختين، كأنه نظر إلى الخبر "إثبات".
2 الجيئل: الضبع.
3 الحوءب: الواسع من الأودية والدلاء، وانظر في الكلام عن اللفظين كتاب الخصائص: 3/ 93.
(1/68)
________________________________________
الأخرى التي ذكرها أبو الحسن وهي قوله: "أَلَمْ يَأْتِك"، وعليه أيضًا ما وجه بعضهم قوله:
كأن لم ترا قبلي أسيرًا يمانيا1
قال: أراد لم ترَ، ثم أشبع الفتحة فأنشا عنها ألفًا.
فإذا جاز ذلك ساغ الضم في الهاء أيضًا على أصل ضمتها.
فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: إنه لم يعتدد بالياء لما كانت زائدة مجتلبة للإشباع، فجرت لذلك مجرى ما ليس موجودًا، كما أن من مد "أوائل" إتباعًا كما ترى، على حد قوله:
نفي الدنانير تنقادُ الصياريف2
قال على هذا: أَوائيل، أقر الهمزة بحالها بدلًا من واو أواول؛ لبعدها من الطرف بالياء الحاجزة؛ لأن هذه الياء لَحَقٌ3 ونَيِّفٌ مجتلبة للإشباع، وليست لها عصمة ولا مُسكة، فجرت مجرى المنفردة ألبتة، كما يهمز فيقول: أوائل، فكذلك يهمز، فتقول: أوائيل، ولا يحفل بالياء حاجزًا لما ذكرنا، ولا يجرى عندي مجرى ياء طواويس ونواويس؛ إذ كانت الياء هناك ثابتة القدم؛ لكونها بدلًا من واو ناووس وطاووس الثانية؟
فالجواب: أنه إن ذهب إلى هذا على ما رمته كسر الهاء أيضًا؛ وذلك أن أقصى ما في
__________
1 صدره:
وتضحك مني شيخة عبشمية
والبيت لعبد يغوث بن وقاص الحارثي، وكان أسر يوم الكلاب، أسرته التيم، قال أبو علي القالي: "قال الأخفش: رواية أهل الكوفة: كأن لم ترن قبلي، وهذا عندنا خطأ، والصواب: ترى، بحذف النون علامة الجزم".
وفي المغني أن أبا علي خرجه "فقال: أصله ترأى بهمزة بعدها ألف، كما قال سراقة البارقي:
أُرى عيني ما لم ترأياه
ثم حذفت الألف للجازم، ثم أبدلت الهمزة ألفًا لما ذكرنا، ويريد "بما ذكرنا" إجراء المحرك مجرى الساكن وعكسه. انظر: ذيل الأمالي: 131 وما بعدها، وسر صناعة الإعراب: 1/ 86، والمغني وحاشية الأمير عليه: 1/ 200، 201.
2 صدره:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة
والبيت للفرزوق، ويروى "الدراهيم" مكان "الدنانير"، والهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر، والتنقاد: النقد؛ وهو تمييز الدراهم، يصف ناقته بسرعة السير في الهواجر، فيقول: إن يديها لشدة وقعها في الحصى تنفيانه فيقرع بعضه بعضًا، ويسمه له صليل كصليل الدراهم، إذا انتقدها الصير فنفى رديئها عن جيدها. انظر: الخصائص: 2/ 315، والكتاب: 1/ 10، والخزانة: 2/ 255.
3 لحق: يريد لاحقة، قال في الأساس: "وهو من اللحق: من اللاحقين".
(1/69)
________________________________________
هذا أن تكون الياء في "أنبيهم" مدة إشباعًا لا حكم لها، فكأنها ليست هناك، وإذا لم تكن هناك كسرة الياء -وهي تدعو إلى كسر الهاء- فعلى أي الوجهين حملته، فكسر الهاء هو الكلام.
وأما حديث كسرها من القسمة الأولى1 -وأنت تنوي بأنبيهم التخفيف القياسي- فهو على معاملة اللفظ؛ وذلك أن الملفوظ به الآن وإن كان تخفيفًا إنما هو الياء ألبتة، فعومل لفظها معاملة نحوه ونظيره، فكُسِرَت الهاء مع هذه الياء كما تكسر في نحو: عليهم وإليهم، كما أن قول الله عز وجل: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ} 2 أصله: لكن أنا، فخففت الهمزة وألقيت حركتها على النون فانفتحت، فصارت في التقدير: "لكنَنَا"، فلما التقى الحرفان المثلان متحركين كُره ذلك، وإن كانت حركة النون الأولى غير لازمة من حيث كانت من أعراض التخفيف، وأجريت مجرى اللازمة، فأُسكنت الأولى وأدغمت في الثانية؛ حملًا على حاضر الحال وإجراء غير اللازم مجرى اللازم3.
وقد كتبنا في الخصائص بابًا مفردًا في إجراء العرب غير اللازم مجرى اللازم، وإجراء اللازم مجرى غير اللازم، فاكتفينا به عن إعادته؛ لئلا يطول هذا الكتاب4.
نعم، وإذا كانت العرب قد أجرت الحرف الصحيح في نحو هذا مجرى ما لا يعتد به حتى لم يحفلوا بلفظ، نحو قولهم: منهِم واضربهِم، فأن يجروا الياء الساكنة مجرى ذلك لخفائها، ولأن لفظها نفسها داعٍ إلى الكسر -أجدر.
وأما الرواية عن ابن عامر: أَنبئهِم" بالهمز وكسر الهاء، فطريقه أن هذه الهمزة ساكنة، والساكن ليس بحاجز حصين عندهم، فكأنه لا همزة هناك أصلًا، وكأن كسرة الباء على هذا مجاورة للهاء، فلذلك كسرت "13و" فكأنه على هذا قال: "أَنبهِم".
ويدل على ما ذكرناه من ضعف الساكن أن يكون حاجزًا حصينًا قولهم: قِنْيَة5، وهي وهي من قَنَوْت، وصِبْيَة وهي من صَبَوْت، وعِلْية وهي من عَلَوْت، وعِذْي6 وهو من قولهم: أَرَضُون عَذَوات، وبِلْيُ سفر لقولهم في معناه: بِلْوُ، وهو من بلوت، ومنه ناقة عِلْيَان7 وهي من علوت، ودَبَّة8 مهيار وهو من تهور، وفلان قِدْيَة في هذا الأمر وهو من القِدْوة، وأصله
__________
1 سبق الوجه الأول في الصفحة: 67.
2 سورة الكهف: 38.
3 الخصائص: 3/ 92.
4 انظر المصدر السابق: 87 وما بعدها.
5 القنية: الكسبة؛ أي الكسب.
6 العذي والعذاة: الأرض الطيبة التربة الكريمة المنبت التي ليست بسبخة.
7 ناقة عليان: طويلة جسيمة.
8 الدبة: الكثيب من الرمل.
(1/70)
________________________________________
كله: قِنْوُ، وصِبْوة، وعِلْوة، وعِذْوُ، وبِلْو سفر، وناقة عِلْوان، ودَبة مِهْوَار، فقلبت الواو في ذلك كله للكسرة قبلها، ولم يعتدد الساكن بينهما حاجزًا لضعفه، فكأن الكسرة تباشر الواو فتقلبها لذلك ياء، كما تقلبها لو لم تجد بينهما حاجزًا، فكذلك الهمزة في "أَنْبِئهِم" لا تحجز على هذا النحو الذي ذكرناه.
وروينا عن أبي زيد فيما أخذناه عن أبي علي، وعن غير أبي زيد: منهِم ومنهِ ومنكِم وبِكِم، وأجرى كاف المضمر مجرى هائه، وسترى هذا فيما بعد إن شاء الله.
فقد علمت بذلك أن قول ابن مجاهد: هذا لا يجوز لأوجه له؛ لما شرحناه من حاله.
ورحم الله أبا بكر؛ فإنه لم يأْلُ فيما علمه نصحًا، ولا يلزمه أن يُرِي غيره ما لم يُره الله تعالى إياه، وسبحان قاسم الأرزاق بين عباده، وإياه نسأل عصمة وتوفيقًا وسدادًا بفضله.
ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"1.
قال أبو الفتح: هذا ضعيف عندنا جدًّا؛ وذلك أن "الملائكة" في موضع جر، فالتاء إذن مكسورة، ويجب أن تسقط ضمة الهمزة من "اسجدوا" لسقوط الهمزة أصلًا إذا كانت وصلًا، وهذا إنما يجوز ونحوه إذا كان ما2 قبل الهمزة حرف ساكن صحيح، نحو قوله عز وجل: "وَقَالَتُ اخْرُج"3، وادخلُ ادخلُ، فضُم لالتقاء الساكنين لتخرج من ضمة إلى ضمة، كما كنت تخرج منها إليها في قولك: اخرج.
فأما ما قبل همزته هذه متحرك -ولا سيما حركة إعراب- فلا وجه لأن تحذف حركته ويحرك بالضم، ألا تراك لا تقول: قل للرجلُ ادخُل، ولا: قل للمراةُ ادخُلي؛ لأن حركة الإعراب لا تُستهلك لحركة الإتباع إلا على لغة ضعيفة، وهي قراءة بعض البادية: "الْحَمْدِ لِلَّه" بكسر الدال، ونحو منه ما حكاه لي أبو علي: أن أبا عبيدة حكاه من قول بعضهم: دعه في حِرُمِّه، فحذف كسرة راء "حر"، وألقى عليها ضمة همزة أمه، وهذا عندنا على شذوذه أعذر من قوله: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"؛ وذلك أنه خفف همزة تثبت في الوصل وهو قولك: في هنِ أمه، فإذا كانت تثبت في الوصل جاز تخفيفها فيه؛ بل لا يكون التخفيف بإلقاء الهمزة ونقل الحركة إلا في الوصل، وليس فيه إلا شيء واحد؛ وهو حذفه حركة الإعراب لحركة غير ملازمة؛ وإنما هي للهمزة.
__________
1 سورة البقرة: 34، وفي البحر 1/ 152: "وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وسليمان بن مهران بضم التاء إتباعًا لحركة الجيم، ونقل أنها لغة أزدشنوءة ".
2 ما زائدة، وهو يكثر من زيادتها من كلامه.
3 سورة يوسف: 31.
(1/71)
________________________________________
وأما قوله: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا" فإن همزة "اسجدوا" يحذفها في الواصل ألبتة، وإذا كانت محذوفة ألبتة لم يكن إلى تخفيفها سبيل؛ لأن الوصل يستهلكها أصلًا، فحركة ماذا -يا ليت شعري! - تنقل وقد حُذف المتحرك بحركته أصلًا فلم يبقَ إلا الإتباع، وحركة الإتباع لا تبلغ مبلغ حركة تخفيف الهمز؛ من حيث كانت "13ظ" حركة الهمزة موجودة فيها في الابتداء والوصل جميعًا، فعلمت بذلك قوتها، وحركة الإتباع تجري مجرى الصدى الذي لا اعتداد به، ولا هو عندهم مما يعقد على مثله، فإذا ضعفت الحركة القوية فما ظنك بالحركة الضعيفة؟
ونحو من هذه الحكاية عن أبي عبيدة: مارواه أحمد بن يحيى: قال: كنا عند سعيد بن سَلْم1 أنا وابن الأعرابي فخرجا لصلاة العصر، وتأخَّرت لتجديد الطهر بعدهما، فلما خرجتُ قال لي ابن الأعرابي: أين أنت؟ ألا تسمع لهذا؟ قلت: ما هو؟ وإذا أبو سَرَّار الغنوي يتحدث، قال:
كنت أحضر العراق فإذا أردت أهلي وقد اشتريت منها وتبتَّتُّ2 أجتاز بامرأة عجوز لها بنيَّات، فإذا نزلت عليها بَهَشْن3 إلَيَّ وأَطَفْن بِي، فأَفرز لهن مما اشتريت شيئًا أدفعه إليهن، فغبرت زمانًا، ثم جئت العجوز فوجدتها غائبة عن بيتها، وإذا أولئك الجواري قد صرن نساء، فبهشن إليَّ على عادتهن، وجاءت العجوز فوجدَتني خاليًا معهن، فقالت: ما هذا؟ أفي السَّوَتَنْتُنَّه؟ أفي السوتنتنه؟ فقلت: وما في هذا؟ أردات: أفي السوءة أنتنه؟ فحذفت الهمزة من السوءة تخفيفًا، وألقت حركتها على الواو فانفتحت الواو، وألقت حركة الهمزة في أنتنه على كسرة التاء من السوءة فانفتحت، وحذفت همزة أنتنه فصارت: أفي السوتنتنه؟ 4
هكذا قال أحمد بن يحيى على كسرة التاء، وله وجه، إلا أنه مع هذا ضعيف؛ وذلك أن هذه الهمزة إذا خففت فحذفت، وألقيت حركتها على ما قبلها، لم يكن ذلك الذي قبلها إلا ساكنًا، نحو قوله تعالى في قراءة ورش عن نافع: "قَدَ افْلَحَ الْمُومِنُونَ"5، "وَالَارْض".
وحكى أبو زيد في خُبَأَة6: انه سمع بعضهم يقرأ: "ويمسك السماء أن تقع عَلَّرضِ"7، يريد: على
__________
1 هو سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم أبو محمد الباهلي البصري، كان عالمًا بالحديث والعربية، سمع عبد الله بن عوف وطبقته، وسكن خراسان، ثم قدم بغداد أيام المأمون فحدث بها وروى عنه ابن الأعرابي. بغية الوعاة: 255.
2 تبتت: تزودت.
3 بهش إليه: ارتاح وخف بارتياح.
4 انظر: الخصائص: 3/ 142.
5 سورة المؤمنون: 1.
6 امرأة خبأة: لازمة بيتها.
7 سورة الحج: 65.
(1/72)
________________________________________
الأرض، فحُذفت همزة أرض تخفيفًا، وأُلقي حركتها على اللام وهي ساكنة كما ترى، فصارت عَلَلَرض، فكره اجتماع اللامين متحركتين، فأسكن اللام الأولى وأدغمها في الثانية فصارت "علَّرض"، كما أسكن أبو عمرو: "لَكنَ نَا" حتى صار لذلك "لكنَّا"، فهذا التحفيف مع النقل إنما يكون إذا كان الأول الملقي عليه ساكنًا، فأما إذا كان متحركًا فقد حَمَتْه حركته أن يَقبل حركة أخرى غيرها.
والتاء من السوءة محركة، فكيف يمكن إلقاء الحركة عليها مع وجود حركتها فيها؟ وعليه قراءة الكسائي فيما حدثنا به أبو علي سنة إحدى وأربعين: "بما أُنزلَّيك1" قياسًا -فيما قال أبو علي- على لكنَّا.
قال أبو علي ما نحن عليه ونعى هذه القراءة، وقال لحركة لام أُنزل: فإذا قبح ذلك مع أن حركة اللام بناء، فما الظن بما حركته إعراب، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فالجناية إذن عليها فوقها عليها.
وقول أحمد بن يحيى: إنه ألقى فتحة أَنْتُنه على كسرة الهاء، طريقه: أنه لما نقل فتحة همزة أنتن إلى ما قبلها صادفت كسرة السوءة على شناعة النقل مع ذلك، فهجمت الفتحة على الكسرة فابتزَّتها موضعَها، وكلا القولين خبيث وضعيف، وعلى أننا قد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا لهجوم الحركات "14و" على الحركات، مختلفات كن أو متفقات2؛ لكنه ليس على هذا الذي كرهناه واستضعفناه.
فهذا كله يشهد بضعف قوله: "قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا". وفيه أكثر من هذا، ولولا تحامي الإملال لجئنا به، وفيما أوردناه كافٍ مما حذفناه.
ومن ذلك قال عباس: سألت أبا عمرو عن "الشِّجَرة"3 فكرهها، وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها.
__________
1 سورة البقرة: 4، وقد ذكر في البحر 1/ 241: أنها شاذة، ولم ينسبها.
2 انظر: الخصائص: 3/ 136.
3 أي: من قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} .
في سورة البقرة: 35، وفي البحر المحيط 1/ 158: "وقرئ "الشِّجَرة" بكسر الشين، حكاها هارون الأعور عن بعض القراء، وقرئ أيضًا "الشِّيَرة" بكسر الشين والياء المفتوحة بعدها، وكره أبو عمرو هذه القراءة وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها....".
(1/73)
________________________________________
وقال هارون الأعور عن بعض العرب: تقول الشِّجرة، وقال ابن أبي إسحاق: لغة بني سُليم الشِّجرة.
قال أبو الفتح: حكى أبو الفضل الرياشي قال: كنا عند أبي زيد وعندنا أعرابي فقلت له: إنه يقول الشِّيَرَة، فسأله فقالها، فقالت له: سله عن تصغيرها، فسأله فقال: شُيَيْرَة.
وأنشد الأصمعي لبعض الرجاز في أرجوزة طويلة:
تحسبه بين الإكام شِيَرة1
وإذا كانت الياء فاشية في هذا الحرف -كما ترى- فيجب أن تجعل أصلًا يساوق الجيم، ولا تُجعل بدلًا من الجيم، كما تجعل الجيم بدلًا من الياء في قولهم: رجل فُقَيْمِج2؛ أي: فُقَيْمِي، وعَربَانِج؛ أي: عَرَبَانِيّ3، وقوله:
حتى إذا ما أمسجت وأمسجا4
يريد أمست وأمسى. قال أبو علي: هذا يدلك على أن ما حذف لالتقاء الساكنين في حكم الحاضر الملفوظ به. قال: ألا ترى أنه أبدل من لام أمسيت بعد أن قدرها ملفوظًا بها، ولو كان الحذف ثابتًا هنا لما جاز أن يبدل من اللام شيء؛ لأن البدل إنما هو من ملفوظ به، كما أن البدل ملفوظ به.
قال: وليست كذلك لام عَشِيَّة إذا حقرتها فقلت: عُشيَّة؛ لأن الياء الثانية من عُشَيِّية لم تحذف لالتقاء الساكنين؛ لأنه لا ساكنين هناك، وإنما حذفت حذفًا للتخفيف؛ فلذلك سقط
__________
1 انظر: اللسان "شجر" ورواه في البحر 1/ 158:
تَحسِبَه بين الأنام شِيرَة
والإكام: جمع أكمة؛ وهي الموضع يكون أشد ارتفاعًا مما حوله، وهو غليظ لا يبلغ أن يكون حجرًا.
2 في سر الصناعة 1/ 192: "وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لرجل من بني حنظلة: من أنت؟ فقال: فقيمج. قال: قلت: من أيهم؟ قال: مرج؛ يريد: فقيمي ومري".
وفي القاموس المحيط: "والنسبة إلى فقيم كنانة فقمي كعرني، وهم نسأة الشهور في الجاهلية، وإلى فقيم دارم فقيمي.
3 عرباني: فصيح، قال في اللسان: "وتقول: رجل عربي اللسان إذا كان فصيحًا، وقال الليث: يجوز أن يقال: رجل عرباني اللسان".
4 يُعزى للعجاج، ولم أجده في ديوانه و"ما" ساقطة في الأصل. يريد أمست الأتن وأمسى العير، وقيل: أراد أمست النعامة وأمسى الظليم، والله أعلم. سر الصناعة: 1/ 194، وشرح شواهد الشافية: 486.
(1/74)
________________________________________
قول أبي العباس في تحقير العرب عَشِيَّة على عُشَيْشِيَة1؛ لأن الياء لم تثبت هنا فتبدل منها.
وقال أبو الحسن: إن قومًا يقولون في تحقير فَعلية من الياء: إن المحذوف منها الياء الثانية، فعلى هذا قال أبو علي ما قال.
ومما أبدلت فيه الجيم من الياء2 قوله -ورويناه عن غير وجه:
خالي عُوَيف وأبو عَلِجِّ ... المطعمان اللحمَ بالعَشجِّ
وبالغدواة فلق البَرْنِجِّ ... يُقْلَع بالوَد وبالصِّيصِجِّ3
وروينا أيضًا قوله:
يا رب إن كنتَ قلبت حِجَّتِج ... فلا يزال شاحج يأتيك بِج4
__________
1 في شرح الشافية 1/ 275: "وعشيشية تصغير عشية، والقياس عشية بحذف ثالثة الياءات كما في معية، وكأن مكبر عشيشية عشاة، تجعل أولى ياء عشية شينًا مفتوحة، فتدغم الشين في الشين، وتنقلب الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها".
2 قال سيبويه: "وأما ناس من بني سعد، فإنهم يبدلون الجيم مكان الياء في الوقف لأنها خفيفة، فأبدلوا من موضعها أبين الحروف، وذلك قولهم: هذا تميمج، يريدون تميمي، وهذا علج، يريدون علي، وسمعت بعضهم يقول: عربانج، يريدون عرباني". انظر: الكتاب: 2/ 288.
3 لرجل من البادية، ويروى "عمي" مكان "خالي"، و"كتل وقطع" مكان "فلق"، والفِلَق بكسر الفاء وفتح اللام: جمع فلقة؛ وهي القطعة، والبرنج: أصله البرني؛ وهو نوع من أجود التمر معرب، والود بفتح الواو: لغة في الوتد، والصيصج: أصله الصيصية بكسر الصادين وتخفيف الياء؛ وهي القرن، واحد الصيصي، وجمع الصيصي: الصياصي، وكان يقلع التمر المرصوص بالوتد وبالقرن، يفخر بعميه أو بخاليه.
وكان شدد ياء الصيصية في الوقف على لغة مَن يشدد ثم أبدل من الياء جيمًا، وزاد فأجرى الوقف مجرى الوصل، كما قال الراجز:
مثل الحريق وافق القَصَبّا
انظر: شرح شواهد الشافية: 213 وما بعدها.
وفي المنصف 1/ 178: "والذي عندي فيه أنه لما اضطر قلب إلى جيم مشددة عدل به إلى لفظ النسب وإن لم يكن منسوبًا في المعنى؛ كما تقول: أحمر وأحمري، فلم تحدث ياء الإضافة هنا معنى زائدًا، فإذا كان الأمر كذلك جاز أن يراد بالصيصج لفظ النسب كما تقدم.
فلما اعتزمت على ذلك حذفت تاء التأنيث؛ لأنها لا تجتمع مع ياءي الإضافة، فلما حذفت الهاء بقيت الكلمة في التقدير: صيصي بمنزلة قاضي، فلما ألحقتها ياءي الإضافة حذفت الياء لياءي الإضافة، كما تقول في الإضافة إلى قاض: قاضي، فصارت في التقدير صيصي، ثم إنه أبدلت من الياء المشددة الجيم كما فعلت في القوافي التي قبلها، فصارت صيصج كما ترى".
4 في النوادر: 164: وقال المفضل: وأنشدني أبو الغول هذه الأبيات لبعض أهل اليمن: يارب ... وزاد على ما هنا:
أقمر نهات ينزي وفرتج
وفي شرح شواهد الشافية: "ولم يخطر ببال أبي علي ولا على بال ابن جني رواية هذه الأبيات عن أبي زيد في نوادره؛ ولهذا نسباها إلى الفراء وقالا: أنشدها الفراء. ولو خطرت ببالهما لم يعدلا عنه إلى الفراء ألبتة؛ لأن لهما غرامًا بالنقل عن نوادره. رُوي "لا هم" مكان "يا رب".
الحجة بالكسر: المرة من الحجج، والشاحج: البغل والحمار، من شحج بالفتح يشحج بالفتح والكسر؛ أي: صوت، والأقمر: الأبيض، والنهات: النهاق، ينزي: يحرك، والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن.
يقول: "اللهم إن قبلت حجتي هذه فلا تزال دابتي تأتي بيتك، وأنا عليها محرك وفرتي في سيرها إلى بيتك". انظر: شرح شواهد الشافية: 215 وما بعدها، وسر الصناعة: 1/ 193.
(1/75)
________________________________________
قال أبو النجم:
كأن في أذنابهن الشُّوَّلِ ... من عبس الصيف قرون الإجَّل1
يريد: الإيَّل.
فقد يجوز أن تكون الجيم في شِجرَة بدلًا من الياء في شيرة لفشو شيرة، وقلة شِجرة.
ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي الطفيل2، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم الجحدري، وعيسى بن عمر الثقفي: "هُدَيَّ"3.
قال أبو الفتح: هذه لغة فاشية في هذيل وغيرهم؛ أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم ياء. قال الهذلي4:
سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهم ... فتُخِرِّمُوا ولكل جنب مَصْرَعُ
وروينا عن قطرب قول الشاعر5:
يطوف بي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ ... ويطعن بالصُّمُلَّة في قَفَيَّا
فإن لم تَثْأَرَا لي من عِكَبٍّ ... فلا أرويتما أبدًا صَدَيَّا
قال لي أبو علي: وجه قلب هذه الألف "14ظ" لوقوع ياء ضمير المتكلم بعدها، أنه موضع ينكسر فيه الصحيح، نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، فلما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، فقالوا: هذه عَصَيّ، وهذا فتيّ؛ أي: عصاي وفتاي، وشبهوا ذلك بقولك: مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا من كسر الألف للجر قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا أن تقلب ألف التثنية لهذه الياء، فتقول: هذان غلاميّ؛ لما فيه من زوال علم الرفع، ولو كانت ألف عصا ونحوها علمًا للرفع لم يجز فيها عصَيّ.
__________
1 انظر الصفحة 61 من هذا الجزء.
2 أبو الطفيل: ذكره ابن الجزري في طبقات القراء في ترجمة بكار بن عبد الله الذي روى عن هارون بن موسى عن إسماعيل المكي عن أبي الطفيل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَيَّ". طبقات القراء: 1/ 77 س24، وذكره كذلك في ترجمة محمد بن مسلم بن عبيد الله أبي بكر الزهري، الذي روى عن أبي الطفيل وآخرين. الطبقات: 2/ 262، س22.
3 من قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} سورة البقرة: 38.
4 هو أبو ذؤيب يرثي أبناء له خمسة هلكوا بالطاعون في يوم واحد.
ويروى "لسبيلهم" مكان "لهواهم"، ورُوي "ففقدتهم" مكان "فتخرموا".
أعنقوا: أسرعوا، من العنق وهو السير الفسيح، وتخرموا: تخطفهم الموت. وانظر ديوان الهذليين: 1/ 2.
5 هو المنخل اليشكري. وعكبه: هو عكب اللخمي صاحب سجن النعمان بن المنذر، الضملة: الحربة أو العصا. انظر: الخصائص: 1/ 177 واللسان: "عكب".
(1/76)
________________________________________
ومنهم من يبدل هذه الألفات في الوقف ياءات، فيقول: هذه عصيْ، ورأيت حبليْ، وهذه رَجَيْ؛ أي: الناحية؛ يريد رجًا.
ومنهم من يبدلها في الوقف أيضًا واوًا، فيقول: هذه عَصَو وأَفعَو وحُبَلَو.
ومنهم من يبدلها في الوصل واوًا أيضًا، فيقول: هذه حُبْلَو يا فتى.
ومن البدل في الوقف ياء ما أنشده بعض أصحابنا؛ وهو محمد بن حبيب1:
إن لِطيٍّ نسوة الفَضيْ ... يمنعهن الله ممن قد طغيْ2
بالمشرفيات وطعن بالقَنيْ ... يا حبذا جفانك ابن قَحْطَبيْ
وحبذا قدورك الْمُنْصَّبيْ ... كأن صوت غليها إذا غَلَيْ
صوت جمال هَدَرَيْ فَقَبْقَبيْ
أراد: ابن قحطبة، فإما أن يكون حذف الهاء للترخيم في غير النداء، فبقيت الباء مفتوحة، فأشبع الفتحة للقافية؛ فصارت قحطبًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وإما أن يكون أبدل الهاء ألفًا؛ فصارت قحطبة إلى قحطبا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وعلى ذلك يجوز أيضًا أن يكون قوله3:
كفعل الْهِرِّ يحترِشُ العَظايا
أراد: العَظَاية، ثم أبدل الهاء ألفًا؛ فصار العظايا.
وإن شئت قلت: شبه ألف النصب بهاء التأنيث فقال: العظايا، كما تقول: العظاية، وهذا قول أبي عثمان.
__________
1 هو محمد ابن حبيب أبو جعفر، قال ياقوت: من علماء بغداد باللغة والشعر والأخبار والأنساب، ثقة مؤدب، ولا يعرف أبوه، وحبيب أمه، تُوفي بسر من رأى سنة 245. انظر البغية: 30، والإنباه: 3/ 119.
2 الفضا: من نبات الرمل، وأهل الفضا أهل نجد لكثرته هناك. وانظر: المنصف: 1/ 160.
واقتصر فيه على الأشطر الثلاثة الأولى، وسيأتي بعد قليل كلامه عن: هدري وقبقبي.
3 هو أعصر بن قيس عيلان، وصدره:
ولاعب بالعشي بني أبيه
وقبله:
إذا ما المرء صم فلم يكلَّم ... وأَعيا سمعه إلا ندايا
والشاهد من أربعة أبيات يرويها اللسان "حمي" منسوبة لأعصر المذكور، وتنسب في حماسة البحتري 324 إلى المستوغر بن أبي ربيعة.
ويحترش العظايا: يصيدها، والعظاية: دويبة كسام أبرص. وانظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 183، والخصائص: 1/ 292.
(1/77)
________________________________________
وفيه قول لي ثالث؛ وهو أن يكون العَظايا جمع عَظَاية على التكسير، كما تقول في حمامة حمائم، فعظايا على هذا كمطايا وحوايا جمع حَوِيَّة1.
وأما قوله: الْمُنَصَّبَيْ فأراد المنصبة، فأبدل الهاء ألفًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، ولا يجوز أن يكون أراد هنا الترخيم؛ لأنه فيه لام التعريف، وما فيه هذه اللام فلا يجوز نداؤه أصلًا، فهو من الترخيم أبعد، وهذا يفسد قول من قال في قول العجاج:
أَوالِفًا مكة من وُرْقِ الْحَمِي2
إنه أراد الحمام ثم رخم؛ لأن ما فيه لام التعريف لا يُنادى اصلًا فكيف يرخم؟ 3
وأما قوله: هَدَرَيْ، فإنه أراد هدر، ثم أشبع الفتحة على حد قوله:
ينباع من ذِفرى غضوب جَسْرَةٍ4
فصار هدَرَا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فقال: هدَرَيْ.
وكذلك قوله: قَبْقَبيْ أراد قبقب5، ثم أشبع فصار قبقبا، وعلى هذا التخريج يسقط قول سيبويه عن يونس في قوله محتجًّا عليه بقول الشاعر:
دعوت لما نا بني مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْورِ6
__________
1 الحوية كغنية: استدارة كل شيء، وما تحوي من الأمعاء.
2 قبله:
ورب هذا البلد المحرَّم ... والقاطنات البيتَ غير الرُّيَّم
ويروي "قواطنًا" مكان "أوالفًا". انظر: الكتاب: 1/ 56، 58، والخصائص: 3/ 35، والديوان: 59.
3 قال ابن جني في الخصائص 3/ 135: "يريد الحمام، فحذف الألف فالتقت الميمان، فغير على ما ترى".
وقال الأعلم الشنتمرى "الكتاب: 1/ 8": "ووجه آخر: أن يكون حذف الألف من زيادتها، فبقي "الحمم" وأبدل من الميم الثانية ياء استثقالًا للتضعيف، كما قالوا: تظنيت في تظننت، ثم كسر ما قبل الياء لتسلم من الانقلاب إلى الألف، فقال: الحمي".
4 البيت لعنترة من معلقته، وبقيته:
زيافة مثل الفنيق المكرم
وضمير ينباع لعرق ناقته الذي يشبهه في البيت قبله برب أو قطران جعل في قمقم أوقدت عليه النار، فهو يترشح به عند الغليان، ويشبه رأسها بالقمقم.
والذفرى: ما خلف الأذن، والجسرة: الناقة الموثقة الخلق، والزيف: التبختر والفعل: زاف يزيف، والفنيق: الفحل من الإبل. انظر: شرح المعلقات السبع للزوزني: 144، واللسان: "نبع".
5 قبقب: هدر وصوت.
6 يقول: دعوت مسورًا لرفع نائبة نابتني فأجابني بالعطاء فيها وكفاني مئونتها، وكأنه سأله في دية، وإنما لبى يديه لأنهما الدافعتان إليه ما سأله منه. الكتاب: 1/ 176.
(1/78)
________________________________________
قال سيبويه1: لو كان لبيك اسمًا واحدًا -كما يقول يونس، وإنما قُلب في لبيك لاتصاله بالمضمر كما يُقلب في إليك وعليك -لما قال: فَلَبَّيْ "15و" يَدَيْ مِسْوَرِ، ولقال: فَلَبَّى يدَيْ مِسْوَرِ، على حد قولك: على يَدَيْ فلان، وإلى يَدَيْ جعفر، فثبات الياء مع المظهر يدلك على أنه لم يقلب في لبيك على حد ما قلب في إليك وعليك، وفي ذلك رد لقول يونس: إن لبيك مفرد كإلبيك وعليك.
قال أبو علي: يمكن يونس أن يقول: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فكما تقول في الوقف: عَصيْ وفَتيْ كذلك قال: فَلَبَّيْ، ثم وصل على ذلك، هذا ما قاله أبو علي.
وعليه أن يقال: كيف يحسن تقدير الوقف على المضاف دون المضاف إليه؟
وجوابه: أن ذلك قد جاء، إلا ترى إلى ما أنشده أبو زيد2 من قول الشاعر:
ضَخْمٌ نجارى طيِّب عُنْصُرِّي
أراد: عنصري، فثقَّل الراء لنية الوقف، ثم أطلق بالإضافة من بعد.
نعم، وإذا جاز هذا التوهم مع أن المضاف إليه مضمر، والمضمر المجرور لا يجوز تصور انفصاله، فأن يجوز ذلك مع المظهر الذي هو "يَدي" أولى وأجدر، من حيث كان المظهر أقوى من المضمر.
ومثله قوله:
يا ليتها قد خرجت من فَمِّه3
أراد: من فمه، ثم نوى الوقف على الميم فثقلها، على حد قوله في الوقف: هذا خالدّ، وهو يجعلّ، ثم أضاف على ذلك فهذا كقولهم: عنصرِّي.
ويُروى من فُمِّه بضم الفاء أيضًا، وفيه أكثر من هذا.
ومن ذلك قراءة الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى الثفقي والأعمش: "إسْراييل"4 بلا همز.
__________
1 عبارة سيبيويه في الكتاب 1/ 176: "وزعم يونس أن لبيك اسم واحد؛ ولكنه جاء على هذا اللفظ في الإضافة، كقولك: عليك ... فلو كان بمنزلة على لقال: فلبيْ يدي مسور؛ لأنك تقول: على زيد إذا ظهر الاسم".
2 لم نعثر عليه في النوادر، ورُوى "غض" مكان "ضخم". وانظر: الخصائص: 3/ 211.
3 بعده:
حتى يعود الملك في أُسطمه
أسطم البحر والحسب: وسطه ومجتمعه. انظر: اللسان "فوه"، والخصائص: 3/ 211.
4 سورة البقرة: 40.
(1/79)
________________________________________
قال أبو الفتح: إن لم يكن ذلك همزًا مخففًا فخَفِيَ بتخفيفه فعُبر عنه بترك الهمز، فذلك من تخليط العرب في الاسم الأعجمي.
قال أبو علي: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، أنشدنا:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْتَ اليوم كالْمُزَرَّج1
قال: وقياسه كالمزرجَن؛ لأنه من الزَّرَجون وهو الخمر، والنون في زَرَجون ينبغي أن يكون أصلًا بمنزلة السين من قَرَبُوس2.
وأنشدنا لرؤبة:
في خِدْرِ ميَّاسِ الدُّمى الْمُعَرجن3
فهذا من العُرجون، وكذا كان قياسه أن يقول: المزرجن. وإذا جاز للعرب أن تخلِّط في العربي وهو من لغتها، فكيف يكون -ليت شعري- فيما ليس من لغتها؟!
ومما خلطت فيه من لغتها قول لبيد:
دَرَس المنا بِمُتالع فأَبان4
__________
1 انظر: الخصائص: 1/ 359.
2 القربوس كحلزون، ولا يسكن إلا في ضرورة الشعر: حنو السرج.
3 رُوى "معرجن" فكان "المعرجن"، وقبله:
أما جزاءُ العارف المستيقن
عندك إلا حاجة التفكن
أو ذكر ذات الربَذ المعهن
العرجنة: تصوير عراجين النخل، وعرجن الثوب: صور فيه العراجين، التفكن: التندم، الربذ: العهون التي تعلق في أعناق الإبل، واحدتهما ربذة. الديوان: 161، والخصائص: 1/ 359، واللسان: "عرجن" و"فكن".
4 عجزه:
بالحبس بين البيد والسوبان
وقال ابن برى "عجزه":
فتقادمت بالحبس والسوبان
ورُوي:
فتقادمت فالحبس بالسوبان
ومتالع بضم الميم وكسر اللام: جبل بنجد، والحبس بالكسر ويروى بالفتح: جبل لبني أسد، وأبان بفتح أوله وتخفيف ثانيه: جبل بيد فيد والنبهانية أبيض, وأبان: جبل أسود، وهما أبانان، وسوبان كطوفان: جبل أو واد أو أرض. وفي الدرر اللوامع 2/ 208: "فالجبس" بالجيم، ولم نعثر عليه بهذا اللفظ فيما رجعنا إليه من مصادر، والراجح أنه تحريف. وانظر الديوان: 138، واللسان: "تلع"، ومعجم البلدان، والقاموس المحيط.
(1/80)
________________________________________
يريد: المنازل. وقال علقمة:
مُفدَّم بسَبَا الكَتان مَلْثُومُ1
أراد: بسبائب2، وهو كثير، ونكره الاستكثار من الشواهد والنظائر؛ تحاميًا لطول الكتاب.
ومن ذلك قراءة الزهري: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوَفِّ بِعَهْدِكُمْ"3 مشددة.
قال أبو الفتح: ينبغي -والله أعلم- أن يكون4 قرأ بذلك؛ لأن فَعَّلت أبلغ من أفعلت؛ فيكون على "أوفوا بعهدي" أبالغ في توفيتكم؛ كأنه ضمان منه سبحانه أن يعطي الكثير عن القليل، فيكون ذلك كقوله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 5، وهو كثير.
ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ"6.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أن فعَلت بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير؛ وذلك لدلالة الفعل على مصدره، والمصدر اسم الجنس، وحسبك "15ظ" بالجنس سَعَة وعمومًا، ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن حسان:
وكنتَ أذلَّ من وتِد بقاعٍ ... يشجِّجُ رأسه بالفِهْرِاوجِي7
ولم يقل: مُوجِّئ، فكأنه قال: يشجج رأسه بالفهر شاج؛ لأن واجئ فاعل كشاج. وأنشد أبو الحسن:
أنت الفداء لقِبْلَة هدَّمتَها ... ونقرتَها بيديك كلَّ مُنَقَّر
__________
1 صدره:
كأن إبريقهم ظبي على شرف
مفدم: على فمه خرقة، من صفة الإبريق على الاستئناف، ورُوي "مرثوم" مكان "ملثوم" من رثم أنفه؛ أي: كسره. وانظر: المفضليات: 402، والخصائص: 1/ 281، 2/ 437، الكامل: 2/ 69.
2 السبائب: جمع سبيبة؛ وهي الشقة البيضاء من الثوب.
3 سورة البقرة: 40.
4 في ك: قد قرأ.
5 سورة الأنعام: 160.
6 سورة البقرة: 49.
7 البيت من قصيدة هجا بها عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص، وكان ابن الحكم قد افتخر على ابن حسان بأن الخلفاء منا لا منكم، وأن الخلافة في قريش، وبنوة أمية منهم، وابن حسان من الأنصار، والأنصار هم الأوس والخزرج، وهم من أزد غسان من عرب اليمن قحطان.
والقاع: المستوي من الأرض، والفهر بكسر الفاء: الحجر ملء الكف، الواجي: الذي يدق اسم فاعل من وجأت عنقه إذا ضربته، وفي أمثال العرب: أذل من وتد بقاع. وانظر: الكتاب: 2/ 170، والخصائص: 3/ 152، وشرح شواهد الشافية: 343.
(1/81)
________________________________________
كأنه قال: ونقرتها؛ لأن قوله: كل منقَّر عليه جاء، وبعده قوله:
فطار كل مطير
فهذا على أنه كأنه قال: فطَيَّرَ كُلَّ مُطَيَّر، ولما في الفعل من معنى المصدر الدال على الجنس ما1 لم يجز تثنيته ولا جمعه؛ لاستحالة كل واحد من التثنية والجمع في الجنس.
فأما التثنية والجمع في نحو قولك: قمت قيامين، وانطلقت انطلاقين، وعند القوم أفهام، وعليهم أشغال. فلم يُثَن شيء من ذلك، ولا يُجمع ولم يرد وهو مُرادٌ به الجنس؛ ولكن المراد به النوع. وقد شرحنا ذلك في غير موضع من كتبنا، وما خرج من التعليق عنا.
ومن ذلك قراءة الزهري أيضًا: "وَإِذْ فَرَّقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ"2 مشددة.
قال أبو الفتح: معنى "فرَّقنا" أي: جعلناه فِرَقًا، ومعنى "فرَقنا": شققنا بكم البحر، وفرَّقنا أشد تبعيضًا من فرَقنا، وقوله تعالى: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} 3 يحتمل أن يكون فرقين، ويحتمل أن يكون أفراقًا؛ ألا ترى أنك تقول: قسمت الثوب قسمين، فكان كل قسم واحد منهما عشرين ذراعًا، كما تقول ذلك وهو جماعة أقسام.
ومن ذلك فرَقتُ شعره أي: جعلته فرقين، وفرَّقت شعره أي: جعلته فِرَقًا، وجاز هنا لفظ الجمع؛ لأن كل رجل منهم قد خرق من البحر وفَرَق خَرْقًا وفِرْقًا.
وقد يكون أيضًا في فرَقنا مخففة معنى فرَّقنا مشددة على ما مضى آنفًا في: "يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ".
ومن ذلك قال ابن مجاهد: حدثني عبد الله بن محمد4 قال: حدثنا خالد بن مرداس قال: حدثنا الحكم بن عمر الرُّعَيْني قال: أرسلني خالد بن عبد الله القسري إلى قتادة5 أسأله
__________
1 ما زائدة.
2 سورة البقرة: 50.
3 سورة الشعراء: 63.
4 هو عبد الله بن محمد بن شاكر أبو البختري العبدي البغدادي، روى القراء عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عاصم، وروى عنه ابن مجاهد وابن الأعرابي وابن الجارود. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 449.
5 هو قتادة بن دعامة أبو الخطاب السدوسي البصري الأعمى المفسر، أحد الأئمة في حروف القرآن، روى القراءة عن أبي العالية وأنس بن مالك، وسمع من أنس بن مالك وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وغيرهم، وروى عنه الحروف أبان بن يزيد العطار وغيره، تُوفي سنة 117. طبقات ابن الجزري: 2/ 25.
(1/82)
________________________________________
عن حروف من القرآن؛ منها قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، فقال قتادة: "فاقتالوا أنفسكم"1 من الاستقالة.
قال أبو الفتح: اقتال هذه افتعل، ويصلح أن يكون عينها واوًا كاقتاد، وأن يكون ياء كاقتاس.
وقول قتادة: إنها من الاستقالة، يقتضي أن يكون عينها ياء؛ لما حكاه أصحابنا عمومًا: من قِلت الرجل في البيع بمعنى أقلته، وليس في قِلت دليل على أنه من الياء؛ لقولهم: خِفت ونِمت، وهما من الخوف والنوم؛ لكنه في قولهم في مضارعه: أقيله.
وليس يحسن أن يحمله على مذهب الخليل في طِحت أطيح وتهت أتيه، أنهما فَعِلت أَفْعِل من الواو؛ لقلة ذلك.
وعلى أن أبا زيد قد حكى: ما هت الركِيَّةُ تميهُ2، ودامت السماء تديم؛ لقلة ما هت تميه، ولأن أبا زيد قد حكى في دامت تديم المصدر وهو دَيْمًا، فقد يكون هذا على أن أصل عينه ياء.
وحدثني أبو علي بحلب سنة ست وأربعين قال: قال بعضهم: إن قِلت الرجل في البيع ونحوه إنما هو من: قُلْتُ له افسخ هذا العقد، وقال لي: قد فعلتُ، فهي عند من ذهب إلى ذلك "16و" من الواو.
قال أبو علي: ويفسد هذا ما حكوه في مضارعه من قولهم: أقيله، فهذا دليل الياء.
قال: ولا ينبغي أن يحمل على أنه فَعِلَ يَفْعِلُ من الواو -يريد مذهب الخليل3- لقلة ذلك.
قال: لكنه من قولهم: تَقَيَّلَ فلان أباه، إذا رَجَعَتْ إليه أشباه منه. فمعنى أقلته على هذا: أني رجعت له عما كنت عقدته معه، ورجع هو أيضًا؛ فقد ثبت بذلك أن عين استقال من الياء، ولا يعرف في اللغة افتعلت من هذا اللفظ في هذا المعنى ولا غيره؛ وإنما هو استفعلت استقلت.
وقد يجوز أن يكون قتادة عرف هذا الحرف على هذا المثال، وعلى أنه لو كان بمعنى استقلت لوجب أن يُستعمل باللام، فيقال: استقلت لنفسي أو على نفسي، كما يقال: استعطفت فلانًا
__________
1 سورة البقرة: 54، وفي البحر 1/ 208: وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهمم: "فأقيلوا أنفسكم"، قال الثعلبي: قرأ قتادة: "فاقتالوا أنفسكم".
2 ماهت الركية تماه وتموه وتميه موهًا وميهًا ومووهًا وماهة وميهة، فهي ميهة ككيسة وماهة: كثر ماؤها، والركية: البئر.
3 انظر: المنصف: 1/ 261.
(1/83)
________________________________________
لنفسي وعلى نفسي، وليس معناه أن يسأل نفسه أن يُقِيلَه؛ وإنما يريد: أن يسأل ربه -عز وجل- أن يعفو عن نفسه. وكان له حرى1 -لو كان على ذلك- أن يقال: فاقتالوا لأنفسكم؛ أي: استقيلوا لها، واستصفحوا عنها.
فأما اقتال متعديًا، فإنما هو في معنى ما يجتره2 الإنسان لنفسه من خير أو شر ويقترحه، وهو من القول. قال:
بما اقتال من حُكْم عَلَيَّ طبيبُ3
أي: بما أراده واقترحه واستامه، وليس معنى هذا معنى الآية، بل هو بضده؛ لأنه بمعنى استَلِينُوا واستعطفوا. هذا ما يُحْضِرُه طريق اللغة، ومذهب التصريف والصنعة، إلا أن قتادة ينبغي أن يحسن الظن به، فيقال: إنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده فيه من رواية أو دراية.
ومن ذلك قراءة سهل بن شعيب النهمي4: "جَهَرةً"5 "وزَهَرةً"6، كل شيء في القرآن محرَّكًا.
قال أبو الفتح: مذهب أصحابنا في كل شيء من هذا النحو مما فيه حرف حلقي ساكن بعد حرف مفتوح: أنه لا يحرك إلا على أنه لغة فيه؛ كالزَّهْرة والزَّهَرة، والنَّهْر والنهَر، والشَّعْر والشَّعَر، فهذه لغات عندهم كالنشْز7 والنشَز، والحلْب والحلَب، والطرْد8 والطرَد.
ومذهب الكوفيين فيه أنه يحرك الثاني لكونه حرفًا حلقيًّا، فيجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه؛ كالبحْر والبحَر والصخْر والصخَر.
وما أرى القول من بعد إلا معهم، والحق فيه إلا في أيديهم؛ وذلك أنني سمعت عامة عُقَيل تقول ذاك ولا تقف فيه سائغًا غير مستكره، حتى لسمعت الشجري يقول: أنا محَموم بفتح الحاء، وليس أحد يدعي أن في الكلام مفَعول بفتح الفاء.
__________
1 حرى: وجه، فمن معاني الحرى: الناحية.
2 يجتر: يجر.
3 صدره كما في النوادر 244:
ولو أن مَيْتًا يُفْتَدَى لفديتُه
وهو في المنصف 3/ 92:
ومنزلة في دار صدق وغبطة ... وما اقتال.... .... .....
والبيت لكعب بن سعد الغنوي.
4 سهل بن شعيب: كوفي عرض على عاصم بن أبي النجود وعلى أبي بكر بن عياش، روى القراءة عنه عبد الله بن حرملة بن عمرو. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 319.
5 سورة البقرة: 55.
6 سورة طه: 131.
7 النشز: المكان المرتفع من الأرض.
8 الطرد: مزاولة الصيد.
(1/84)
________________________________________
وسمعته مرة أخرى يقول -وقد قال له الطبيب: مَصَّ1 التفاح وارم بثُفله: والله لقد كنت أبغي مصه وعِلْيَتُهُ تَغَذُو بفتح الغين، ولا أحد يدعى أن في الكلام يفَعَل بفتح الفاء.
وسمعت جماعة منهم -وقد قيل لهم: قد أقيمت لكم أَنزالكم2 من الخبز- قالوا: فاللحَم -يريدون: اللحْم- بفتح الحاء3.
وسمعت بعضهم وهو يقول في كلامه: ساروا نَحَوه بفتح الحاء، ولو كانت الحاء مبنية على الفتح أصلًا لما صحت اللام لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ ألا تراك لا تقول: "16ظ" هذه عصَوٌ ولا فتَوٌ؟ ولعمري إنه هو الأصل؛ لكن أصل مرفوض للعلة التي ذكرنا، فعلى هذا يكون جَهَرة وزَهَرة -إن شئت- مبنيًّا في الأصل على فَعَلة، وإن شئت كان إتباعًا على ما شرحنا الآن.
ومن ذلك قراءة الأعمش: "اثْنَتَا عَشَرَةَ"4 بفتح الشين.
قال أبو الفتح: القراءة في ذلك: "عَشْرة" و"عَشِرة"، فأما "عَشَرة" فشاذ، وهي قراءة الأعمش.
وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن ألفاظ العدد قد كثر فيها الانحرافات والتخليطات، ونُقضت في كثير منها العادات؛ وذلك أن لغة أهل الحجاز في غير العدد نظير عشْرة: عشِرة، وأهل الحجاز يكسرون الثاني، وبنو تميم يسكنونه، فيقول الحجازيون: نَبِقة وفَخِذ، وبنو تميم تقول: نبْقة وفخذ، فلما ركب الاسمان استحال الوضع فقال بنو تميم: إحدى عشِرة وثنتا عشِرة إلى تسع عشِرة بكسر الشين، وقال أهل الحجاز: عشْرة بسكونها، ومنه قولهم في الواحد: واحد وأَحد، فلما صاروا إلى العدد قالوا: إحدى عشرة، فبنوه على فِعْلَى، ومنه قولهم: عشْر وعَشرة، فلما صاغوا منه اسمًا للعدد بمنزلة ثلاثون وأربعون قالوا: عشرون، فكسروا أوله، ومنه قولهم: ثلاثون وأربعون إلى التسعون، فجمعوا فيه بين لفظين ضدين؛ أحدهما يختص بالتذكير والآخر بالتأنيث.
أما المختص بالتذكير فهو الواو والنون، وأما المختص بالتأنيث فهو قولهم: ثلاث وأربع وتسع في صدر ثلاثون وأربعون وتسعون. وكل واحد من ثلاث وأربع وخمس وست إلى تسع هكذا بغير هاء مختص بالتأنيث. ولما جمعوا في هذه الأعداد -من عشرين إلى تسعين- بين لفظي التذكير والتأنيث صلحت لهما جميعًا، فقيل: ثلاثون رجلًا، وثلاثون امرأة، وخمسون جارية وخمسون غلامًا، وكذلك إلى التسعين.
ومنه أيضًا اختصارهم من ثلثمائة إلى تسعمائة على أن أضافوه إلى الواحد، ولم يقولوا: ثلاث مئين،
__________
1 مصصته بالكسر أمصه، ومصصته أمصه كخصصته أخصه.
2 الأنزال: جمع نزل؛ وهو ما هيئ للنزيل.
3 في هامش الأصل: "في الأصل الفاء".
4 سورة البقرة: 60.
(1/85)
________________________________________
ولا أربع مئات إلا مستكرهًا وشاذًّا، فكما ساغ هذا وغيره في أسماء العدد قالوا أيضًا: "اثنتا عَشَرَة" في قراءة الأعمش هذه، وينبغي أن يكون قد روى ذلك رواية، ولم يره رأيًا لنفسه.
وعلى ذلك ما يُروى: من أن أبا عمرو حضر عند الأعمش فروى الأعمش: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة1، فقال أبو عمرو: إنما هو يتخوننا بالنون، فأقام الأعمش على اللام، فقال له أبو عمرو: إن شئت أعلمتك أن الله لم يعلمك من هذا الشأن حرفًا فعلت، فسأل عنه الأعمش، فلما عرف أبا عمرو وكبر عنده وأصغى إليه، وعلى أن هذا الذي أنكره أبو عمرو صحيح عندنا؛ وذلك أن معنى يتخولنا: يتعهدنا، فهو من قوله:
يساقِطُ عنه ورقُه ضارياتِها ... سِقاط حديد القَين أَخول أَخولا2
أي: شيئًا بعد شيء، ومنه قولهم: فلان يَخُولُ على أهله: أي يتفقدهم، ويتعهد أحوالهم، ومنه قولهم: خالُ مالٍ، وخائل مال: إذا كان حسن الرِّعْيَة والتفقد للمال3. والتركيب مما تُغير فيه أوضاع الكلم عن حالها في موضع الإفراد؛ من ذلك حكاية أبي عمرو الشيباني من قول بعضهم في حضَرَمَوْت: حضْرَمُوت "17و" بضم الميم؛ ليصير على وزن المفردات نحو عَضْر فُوط4 ويَسْتَعُور5.
ومن تحريف ألفاظ العدد ما أنشده أبو زيد في نوادره:
علام قتل مسلم تعمُّدا ... مذ سنة وخَمِسُون عددا6
بكسر الميم من خمسون، وعذره وعلته عندي أنه احتاج إلى حركة الميم لإقامة الوزن، فلم ير أن يفتحها فيقول: خَمَسون؛ لأنه كان يكون بين أمرين: إما أن يُظن أنه كان الأصل فتحها ثم أُسكنت، وهذا غير مألوف؛ لأن المفتوح لا يسكن لخفة الفتحة، وإما أن يقال: إن الأصل السكون فاضظر ففتحها، وهذا ضرورة إنما جاء في الشعر، نحو قوله:
مُشْتَبِهِ الأَعلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَق7
__________
1 الحديث في البخاري في كتاب العلم، وانظر: الخصائص 2/ 130.
2 البيت لضابئ بن الحارث البرجمي، يصف الثور وهو يردع عنه الكلاب.
والروق: القرن، حديد القين: الشرار. وانظر: الخصائص: 2/ 130، 3/ 290، واللسان: "سقط".
3 انظر: الخصائص: 2/ 129.
4 من معاني العضر فوط: ذكر العظاء.
5 من معاني اليستعور: الثوب يجعل على عجز البعير.
6 انظر: النوادر: 165، والخصائص: 2/ 77.
7 لرؤبة، وقبله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
الأعماق: النواحي القاصية، وعمق كل شيء: قعره ومنتهاه، المخترق: مكان الاختراق، اللماع: الذي يلمع سرابه يصف المفازة، وقوله: لماع الخفق؛ أي يلمع فيه السراب؛ أي يضطرب. وانظر: الديوان: 104، والمنصف: 2/ 308.
(1/86)
________________________________________
أي: الْخَفْق. ومنه قول زهير:
ثم استمروا وقالوا إن مشرَبكم ... ماء بشرقي سلمى فَيْدُ أو رَكَكُ1
قال أبو عثمان: قال الأصمعي: سألت أعرابيًّا -ونحن في الموضع الذي ذكره زهير- يعني هذا البيت؛ فقلت له: هل تعرف رككًا؟ فقال: قد كان هاهنا ماء يسمى رَكًّا.
قال الأصمعي: فعلمت أن زهيرًا احتاج إليه فحركه، فعدل عن الفتح2؛ لئلا يُعرف بأثر الضرورة، فعدله إلى موضع آخر فكسر الميم، فكأنه راجَع بذلك أصلًا حتى كأنه كان خمِسون ثم أسكن تخفيفًا، فلما اضطر إلى الحركة كسر، فكان بذلك كمراجع أصلًا لا مستَكرَهًا على أن يُرى مضطرًّا.
وأنَّسه أيضًا بذلك: ما جاء عنهم من قولهم: إحدى عشْرة وعشِرة، فصار خَمِس من خَمِسون بمنزلة عَشِرة، وصار خَمْسون بمنزلة عَشْر.
ومن ذلك قراءة يحيى بن وثاب3 والأشهب: "وَقُثَّائِهَا"4.
قال أبو الفتح: بالضم في القُثاء حسن الطريقة؛ وذلك أنه من النوابت، وقد كثر عنهم في هذه النوابت الفُعَّال كالزُّبَّاد5 والقُلَّام6 والعُلَّام7 والثُّقاء8، ومن هاهنا كان أبو الحسن يقول في رمان: أنه فُعَّال؛ لأنه من النبات، وقد كثر فيه الفعال على ما مضى، وأما قياس مذهب سيبيويه: فأن يكون فُعلان بزيادة النون؛ لغلبة زيادة النون في هذه المواضع بعد الألف.
وله أيضًا وجه من القياس: أنه من معنى رَمَتْتُ الشيء: غذا جمعت أجزاءَه، وهذه حال الرمان، وقد جاء بهذا الموضع نفسه بعض المولدين فقال:
ما يُحسِن الرُّمان يجمع نفسه ... في قِشِره إلا كما نحن
__________
1 استمروا: استقام أمرهم فمروا، وسلمى: أحد جبلي طيئ؛ وهما أجا وسلمى، وفيد أو ركك: ماءان بالبادية، وانظر: الديوان: 142، والخصائص: 2/ 334، والمنصف: 2/ 309.
2 يريد فتح ميم "خمسون" من بيت النوادر في الصفحة السابقة عاد إليه هنا ليتمه.
3 كذا في ك، وفي الأصل يحيى بن عيسى الثقفي، وفي موضع في هامشه: "المعروف في هذا عيسى بن عمر الثقفي"، وفي موضع آخر منه: "والصواب يحيى بن وثاب، وكذا وقع في المحتوى لأبي عمرو، وفي التحصيل للمهدوي"، وكلمة أخرى لم نتبينها. وفي البحر 1/ 223: "وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وغيرهما "وقُثائها" بضم القاف، وقد تقدم أنها لغة".
4 سورة البقرة: 61.
5 الزباد: نبت.
6 القلام: ضرب من الحمض، وفي نسختي الأصل: الفلام بالفاء، وهو تحريف.
7 العلام: الحناء.
8 الثفاء: الخردل.
(1/87)
________________________________________
ويدل على أنه من معنى الاجتماع والتضام تسميتهم لرمان البر: الْمَظَّ؛ وذلك لقوة اجتماعه، واتصال أجزائه، فهو من معنى المماظَّة المعازَّة، وهو إلى الشدة، ويدل على صحة مذهب سيبويه في أن الألف والنون إذا جاءتا بعد المضاعف كانتا بحالهما وهما بعد غير المضاعف، ما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن قومًا وردوا عليه فقال لهم: "مَن أنتم؟ " فقالوا: بنو غيَّان، فقال عليه السلام: "بل أنتم بنو رَشْدان"، أفلا تراه كيف اشتق الاسم من الغي والغَوَاية حتى حكم بزيادة النون؛ لأنه قابله بضده وهو قوله: "رشدان"، وترك أن يشتقه من الغَيْن، وهو إلباس الغيم؟ 1 ألا ترى إلى قوله:
كأني بَيْنَ خافِيتى عُقاب ... أصاب حَمامة في يوم غَيْن2
فصار "غَيَّان" عنده مع التضعيف "17ظ" الذي فيه بمنزلة ما لا تضعيف فيه من نحو: مَرْجان وسَعْدان، فكما يحكم بزيادة النون في مثل هذا من غير التضعيف، كذلك حكم بزيادتها مع التضعيف.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس: "وثُومِها3" بالثاء.
قال أبو الفتح: يقال: الثُّوم والفُوم بمعنى واحد؛ كقولهم: جدث وجدف، وقام زيد ثم عمرو، ويقال أيضًا: فم عمرو؛ فالفاء بدل فيهما جميعًا؛ ألا ترى إلى سَعَة تصرف الثاء في جدث، لقولهم: أجداث، ولم يقولوا: أجداف، وإلى كثرة ثُمَّ وقلة فُمَّ؟ ويقال: الفوم: الحنطة، قال:
قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... وَرَد المدينة عن زراعة فُوم4
أي: حنطة.
ومن ذلك قراءة زهير الفُرقُبي5: "الذي هو أَدْنَأ"6 بالهمز.
قال أبو الفتح: أخبرنا أبو علي عن أبي الحسن علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد
__________
1 انظر: الخصائص: 1/ 250.
2 انظر: الكامل للمبرد: 2/ 87، والمنصف: 3/ 48، واللسان: "غين".
3 سورة البقرة: 61.
4 لأبي محجن الثقفي، وانظر: اللسان "فوم"، وروايته فيه "واحد" مكان "واجد"، وهو تحريف.
5 هو زهير الفرقبي النحوي، له اختيار في القراءة، يروى عنه، وكان في زمن عاصم، روى عنه الحروف نعيم بن ميسرة النحوي. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 295، وفي البحر 1/ 233: "وقرأ زهير الفرقبي -ويقال له: زهير الكسائي- "أدنأ" بالهمز"، وفي القاموس: "وزهير بن ميمون الفرقبي الهمداني قارئ نحوي، أو هو بقافين".
6 سورة البقرة: 61.
(1/88)
________________________________________
عن الرياشي عن أبي زيد قال: تقول: دَنُؤ الرجل يَدْنُؤ دناءَة، وقد دَنأ يدنأ إذا كان دنيئًا لا خير فيه، غير أن القراءة بترك الهمز: "أدنى"، وينبغي أن يكون من دنا يدنو؛ أي: قريب.
ومنه قولهم في المعنى: هذا شيء مقارب للشيء ليس بفاخر ولا موصوف في معناه، ومن هذه المادة قولهم: هذا شيء دونٌ؛ أي: ليس بذاك، وقولهم: هذا دونك، فينتصب هذا على الظرف؛ أي: هو في المحل الأقرب، وينبغي أن يكون "دون" من1 قولك: هذا رجل دون، وصفًا على فُعْل كحُلْو ومُر، ورجل جُدٍّ2؛ أي: ذي جَدٍّ.
وقد يجوز أن يكون في الأصل ظرفًا ثم وصف به، ويُؤنِّسُ هذا المذهب الثاني أنَّا لا نعرف فعلًا تصرف من هذا اللفظ كدان يدون ولا نحوه، ولو كان في الأصل وصفًا لكان حرى أن يستعملوا منه فِعلا؛ كقولهم: قد حلا يحلو، ومن يَمَرُّ وأَمَرَّ يُمِرُّ، وقد جَدِدْتَ يا رجل. قال الكميت:
وجدت الناس غير ابني نزار ... ولم أذمهم شرطًا ودُونَا3
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: "ما سِأَلْتم"4 بكسر السين.
قال أبو الفتح: فيه نظر؛ وذلك أن هذه الكسرة إنما تكون في أول ما عينه معتلة كبِعت وخِفت، أو في أول فُعِل إذا كانت عينه معتلة أيضًا كقِيل وبِيع وحِلَّ وبِلَّ؛ أي: حُلَّ وبُلَّ، وصِعْق الرجل نحوه، إلا أنه لا تكسر الفاء في هذا الباب إلا والعين ساكنة أو مكسورة كنعم وبئس وصِعْق، فأما أن تكسر الفاء والعين مفتوحة في الفعل فلا.
فإذا كان كذلك فقراءتهما "سِأَلْتم" مكسورة السين مهموزة غريب، والصنعة في ذلك: أن في سأل لغتين: سِلْتَ تَسَال كخِفْتَ تَخَاف، وسأَلْتَ تَسْأَل كسَبَحَتَ تَسْبَح، فإذا أَسندت الفعل إلى نفسك قلت على لغة الواو: سِلْتُ كخِفْتُ، وهي من الواو؛ لما حكاه أصحابنا من قولهم: هما يتساولان.
ومن همز قال: سألت، فأما قراءته5: "سِأَلْتم"، فعلى أنه كسر الفاء على قول مَن قال: "سِلْتُم" كخِفْتُم، ثم تنبه بعد ذلك للهمزة، فهمز العين بعدما سبق الكسر في الفاء فقال: "سِأَلْتم"؛ فصار ذلك من تركيب اللغة.
__________
1 في ك: في قولك.
2 عظيم الحظ.
3 الشرط: الدون، وانظر اللسان: "شرط".
4 سورة: البقرة: 61.
5 في ك: قراءة.
(1/89)
________________________________________
ومثله ما رويناه عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى من قول بلال بن جرير:
إذا جِئْتَهم أو سآيلْتَهُم ... وجدتَ بِهِمْ علَّة حاضِرَه1
"18و" وذلك أنه أراد فاعلتهم ساءلتهم.
ومن العادة أيضًا أن تُقلب الهمزة في هذا الثاني، فيقال: سايلت زيدًا، ثم إنه أراد الجمع بين العوض والمعوض منه، فلم يمكنه أن يجمع بينهما في موضع واحد كالعرف في ذلك؛ لأنه لا يكون حرفان واقعين في موضع واحد عينين كان أو غيرهما، فأجاءه الوزن إلى تقديم الهمزة التي هي العين قبل ألف فاعلت، ثم جاء بالياء التي هي بدل منها بعدها؛ فصار سآيلتهم2.
فإن قيل ما مثال: سآيلتهم؟
قلت: هو فعاعلتهم؛ وذلك لأن الياء بدل من الهمزة التي هي عين، والبدل من الشيء يوزن بميزانه، ألا ترى أن من اعتقد في ياء أَيْنُق أنها عين أبدلت قال هي أَعْفُل؛ لأن الياء بدل من الواو التي هي عين نُوق، فالياء إذن عين في موضع العين، كما كانت الواو لو ظهرت في موضع العين، كما أن ياء ريح وعيد في المثال عين فِعْل، كما كانت الواو التي الياء بدل منها عين فعل في رِوْح وعِوْد، وهذا واضح.
وكذلك قوله أيضًا: "سِأَلْتم" بكسر الفاء على حد كسرها في سِلتم، ثم استذكر الهمزة في اللغة الأخرى فقال: سِأَلْتم، ويجوز أيضًا أن يكون أراد سَأَلْتم، فأبدل العين ياء كما أبدلها الآخر في قوله:
سالَتْ هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلَّتْ هذيلٌ بما قالت ولم تُصِبِ3
فصار تقديره على هذا إلى سِلْتُم من الوجه؛ أي: من طريق البدل، لا على لغة مَن قال: هما يتساولان، فلما كسر السين استذكر الهمزة فراجعه هنا، كما راجعه في القول الأول.
__________
1 انظر: الخصائص: 3/ 146، والبحر المحيط: 1/ 135.
2 قال في الخصائص 3/ 146: "يريد ساءلتهم، فإما زاد الياء وغير الصورة فصار مثاله: فعايلتهم، وإما أراد ساءلتهم كالأول، إلا أنه زاد الهمزة الثانية فصار تقديره: سآءلتهم بوزن: فعاءلتهم، فجفا عليه التقاء الهمزتين هكذا، ليس بينهما إلا الألف، فأبدل الثانية ياء...."، وعبارة الخصائص: "زاد الهمزة الأولى ... "، والكلام مع كلمة "الأولى" متناقض.
3 البيت لحسان، وبعده:
سألوا رسولهم ما ليس معطيهم ... حتى الممات وكانوا سبة العرب
والفاحشة التي سألتها هذيل أن يحل الرسول لها الزنا. الكتاب: 2/ 130، 170، وشواهد الشافية 339.
(1/90)
________________________________________
وقد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا في أن صاحب اللغة قد يعتبر لغة غيره ويراعيها1؛ فأغنى عن إعادته هنا.
ومن ذلك قراءة أبي السَّمَّال، رواها أبو زيد فيما رواه ابن مجاهد: "وَالَّذِينَ هَادَوْا"2 بفتح الدال.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون فاعَلوا من الهداية؛ أي: رامُوا أن يكون أهدى من غيرهم، كقولك: رامَوْا من رميت3، وقاضَوْا من قضيت، وساعَوْا من سعيت، فيقول في مصدر هادَوا: مهاداة؛ كقاضوا مقاضاة، وساعوا مساعاة، وقد هودِي الرجل يُهَادى مهاداة، إذا كان حوله من يمسكه ويهديه الطريق، ومنه قولهم في الحديث: "مر بنا يهادى بين اثنين"، ومنه قوله:
من أن يرى تهديه فتـ ... يان المقامة بالعشيه4
ومن ذلك قراءة قتادة: "وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ"5، وكذلك قراءته: "وَإِنْ مِنْهَا"6 مخففة.
قال ابن مجاهد: أحسبه أراد بقوله مخففة الميم؛ لأني لا أعرف لتخفيف النون معنى.
قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد صحيح؛ وذلك أن التخفيف في إِنَّ المكسورة شائع عنهم؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} 7، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} 8 أي: إنهم على هذه الحال. وهذه اللام لازمة مع تخفيف النون
__________
1 انظر: الخصائص: 14.
2 سورة البقرة: 62.
3 في نسختي الأصل: راميت، وهو مخالف لسياق الكلام.
4 لزهير بن جندب الكلبي، وقبله:
والموت خير للفتى ... فليهلكن وبه بقيه
ويُروى بيت الشاهد:
من أن يرى الشيخ البجا ... ل وقد يهادى بالعشيه
ويروى "وليهلكن" مكان "فليهلكن". ورجل بجال وبجالة وبجولة: وهو السيد العظيم مع جمال ونبل، وقد بجل ككرم بجالة وبجولة. وانظر: المعمرين: 26، وطبقات الشعراء للجمحي: 2.
5 سورة البقرة: 74.
6 أي: من قوله تعالى: "وَإِنْ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" سورة البقرة: 74.
7 سورة الفرقان: 42.
8 سورة القلم: 51.
(1/91)
________________________________________
فرقًا بين إِنْ مخففة من الثقيلة، وبين إِنْ التي للنفي بمنزلة "ما" في قوله سبحانه: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} 1، وقوله:
فما إنْ طبنا جُبْنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا2
وهذا واضح.
ومن ذلك قراءة الأعمش: "لما يَهْبُطُ"3 بضم الباء.
قال أبو الفتح: قد بينا في كتابنا "المنصف"4 -وهو تفسير تصريف أبي عثمان- "18ظ" أن باب فَعَل المتعدي أن يجيء على يفعِل مكسور العين؛ كضرب يضرب وحبس يحبس، وباب فَعَل غير المتعدي أن يكون على يفعُل مضموم العين؛ كعقد يقعد وخرج يخرج، وأنهما قد يتداخلان فيجيء هذا في هذا، وهذا في هذا؛ كقتل يقتُل، وجليس يجلِس، إلا أن الباب ومجرى القياس على ما قدمناه، فهبط يهبُط على هذا بضم العين أقوى قياسًا من يهبِط، فهو كسقط يسقط؛ لأن هبط غير متعدٍّ في غالب الأمر كسقط.
وقد ذُهب في هذا الموضع إلى أن هبط هنا متعد، قالوا ومعناه: لما يهبُطُ غيره في طاعة الله عز وجل؛ أي: إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه، إلا أنه حُذف هنا المفعول تخفيفًا، ولدلالة المكان عليه، ونسب الفعل إلى الحجر؛ لأن طاعة رائيه لخالقه إنما كانت مسببة عن النظر إليه؛ أي: منها ما يهبُط الناظر إليه؛ أي: يُخْضِعه ويُخْشِعه، وقد جاء هبطته متعديًا كما ترى، قال:
ما راعني إلا جناح هابطا ... على البيوت قَوطَهُ العلابِطَا5
وأعمله في القوط، فعلى هذا تقول: هبط الشيء وهبطته، وهلك الشيء وهلكته، قالوا في قول العجاج:
ومهمهٍ هالِك من تَعرَّجا6
__________
1 سورة الملك: 20.
2 البيت لفروة بين مسيك المرادي. ويروى "وما" مكان "فما". والطب: العادة. وانظر: الخصائص: 3/ 108، والخزانة 2/ 121.
3 سورة البقرة: 74.
4 انظر: المنصف: 1/ 186.
5 جناح: اسم راع، والقوط: القطيع من الغنم، والعلابط: واحدها علبطة؛ وهي القطيع أيضًا لا يقل عن خمسين، والبيت من ثلاثة أبيات رواها أبو زيد في النوادر: 173، انظر: الخصائص: 2/ 211.
6 بعده:
هائلة أهواله من أدلجا
والتعريج: حبس المطية على المنزل. وانظر: الديوان: 9، والخصائص: 5/ 210.
(1/92)
________________________________________
قولين؛ أحدهما: أنه كأنه قال: هالكِ المتعرجين، والآخر: هالكِ مَن تعرجا؛ أي: مهلك من تعرج1، فتقول على هذا: أصبحت ذا مال مهلوك، وهلكه الله يهلِكه هُلكًا. وإذا كانت كذلك، وكانت هبط هنا قد تكون متعدية، فقراءة الجماعة: "لما يَهْبِطُ" بكسر الباء أقوى قياسًا من يهبُط؛ لأن معناه لما يهبِط مبصرَه ويحطه من خشية الله.
ومن ذهب فيه إلى أن يهبط هنا غير متعد فكأنه قال: وإن منها لما لو هبط شيء غير ناطق من خشية الله لهبط هو، لا أن غير الناطق تصح منه الخشية؛ ألا ترى أن قوله:
لها حافِرٌ مثل قُعب الوليـ ... ـد تتخذُ الفار فيه مَغَارا
أي: لو اتخذت فيه مغارًا لغوره وتقعبه لوسعها وصلح لها، لا أنها هي تتخذ ألبتة.
ومثله مسألة الكتاب: أَخَذَتْنَا بالْجَودِ2 وفوقَه؛ أي: لو كان فوق الجود شيء من المطر لكانت قد أخذتْنا به.
وكلام العرب لمن عرفه، ومَن الذي يعرفه؟ ألطف من السحر، وأنقى ساحة من مشوف الفكر، وأشد تساقطًا بعضًا على بعض، وأمس تساندًا نفلًا إلى فرض.
ومن ذلك قراءة الأعمش: "يَسْمَعُونَ كَلِمَ اللَّهِ"3.
الكلام كل ما استقل برأسه؛ أعني: الجمل المركبة، نحو: قام محمد، وأبوك منطلق. وقد فَصَلْنَا في أول باب من الخصائص4 بين الكلام والقول، وأن كل كلام قول، وليس كل قول كلامًا.
فأما الكلم فلا يكون أقل من ثلاث، وذلك أنه جمع كلمة كثَفِنَة5 وثَفِن، ونَبِقَة ونَبِق، وسَلِمَة6 وسَلِم؛ ولذلك ما7 اختاره صاحب الكتاب على الكلام، فقال: هذا باب علم ما الكلم من العربية، ولم يقلك: ما الكلام؛ وذلك لأن الكلام كما قد يكون فوق الاثنين فكذلك أيضًا قد يكون اثنين، وسيبويه إنما أراد هنا8 ثلاثة أشياء:
__________
1 عبارته في الخصائص 2/ 210: "أحدهما: أن هالك بمعنى مهلك من تعرج فيه، والآخر: ومهمه هالك المتعرجين فيه كقولك: هذا رجل حسن الوجه، فوضع من موضع الألف واللام".
2 الجود: المطر الغزيز أو ما لا مطر فوقه.
3 سورة البقرة: 75.
4 انظر: الخصائص: 1/ 5.
5 من معاني الثفنة: الركبة.
6 السلمة: الحجر.
7 ما زائدة.
8 في ك: وسيبويه هنا.
(1/93)
________________________________________
الاسم والفعل والحرف، فترك اللفظ الذي قد يكون أقل من الجماعة إلى اللفظ الذي لا يكون إلا جماعة "19و".
ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة1 والحسن بخلاف والحكم بن الأعرج2: "إِلَّا أَمَانِيْ وَإِنْ هُمْ"3، و"لَيْسَ بِأَمَانِيْكُمْ وَلا أَمَانِيْ أَهْلِ الْكِتَابِ"4 الياء فيه كله خفيفة ساكنة.
قال أبو الفتح: أصل هذا كله التثقيل -أَمَانِيُّ جمع أُمْنِيَّة- والتخفيف في هذا النحو كثير وفاشٍ عندهم.
قال أبو الحسن في قولهم أثاف: لم يسمع من العرب بالتثقيل ألبتة.
وقال الكسائي: قد سمع فيها التثقيل، وأنشد:
أثافي سُفعًا في مُعَرَّسِ مِرجل5
والمحذوف من نحو هذا هو الياء الأولى التي هي نظيرة ياء المد مع غير الإدغام، نحو ياء قراطيس، وجراميق6، وأراجيح، وأعاجيب، جمع أرجوحة وأعجوبة، ألا تراها قد حذفت في قوله:
والبكراتِ الفُسَّجَ العطامسا7
__________
1 هو شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب، إمام ثقة مقرئ المدينة مع أبي جعفر وقاصيتها ومولى أم سلمة رضي الله عنها، عرض عليه نافع بن أبي نعيم وأبو عمرو بن العلاء، مات سنة 130. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 329.
2 في البحر المحيط 1/ 276: "وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج....".
3 سورة البقرة: 78.
4 سورة النساء: 123.
5 من معلقة زهير، وعجزه:
ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم
الأثافي: جمع أثفية؛ وهي الحجر توضع عليه القدر، والسفع: السود يخالط سوادها حمرة، المفرد سفعاء، والمعرس في الأصل: موضع التعريس؛ وهو نزول المسافر ليلًا، والمراد هنا: المكان الذي تنصب القدور فيه، والنؤى: نهير يحفر حول البيت ليجري الماء فيه عند المطر ولا يدخل البيت، والجذم: الأصل.
يقول: عرفت من آثار أم أوفى حجارة سودًا كانت تنصب القدور عليها، ونهيرًا كان حول البيت، كأنه أصل حوض أقيم هناك. الديوان: 4، وشرح المعلقات السبع للزوزني: 73.
6 الجراميق: جمع جرموق كعصفور؛ وهو ما يلبس فوق الخف.
7 لغيلان بن حريث الربعي، وقبله:
قد قربت ساداتها الروائسا
الروائس: جمع الرائسة؛ وهي المتقدمة لسرعتها ونشاطها، والبكرات: جمع البكرة؛ وهي الناقة الفتية، والفسج: جمع فاسج؛ وهي هنا السمينة، والعطامس: جمع العيطموس؛ وهي الناقة الحسناء. الكتاب: 2/ 119، والخصائص: 2/ 62.
(1/94)
________________________________________
وقوله:
وغير سُفْع مثل يحامِم1
يريد: يحاميم وعطاميس.
وروينا لعبيد الله بن الحر قوله:
وبُدِّلْتُ بعد الزَّعْفَران وطيبه ... صَدا الدِّرع من مستحكِماتِ الْمَسامِر
وعلى أن حذف الياء مع الإدغام أسهل شيئًا من حذفه ولا إدغام معه؛ وذلك أن هذه الياء لما أُدغمت خفيت وكادت تستهلك، فإذا أنت حذفتها فكأنك إنما حذفت شيئًا هو في حال وجوده في حكم المحذوف. نعم، وقد يحذف هذا الحرف ويؤتى بالعوض منه حرفًا في حال وجوده في حكم ما ليس موجودًا، وهو تاء التأنيث في نحو قولهم: فرازنة2 وزنادقة وجحاجحة3، فالتاء عوض من ياء فرازين وجحاجيح وزناديق، وكذلك قالوا مع الإدغام، وذلك قولهم في أثاني4 وأناسي: أثانية وأناسية، رواها أبو زيد. وإذا كانوا قد رضوا بالكسرة قبلها دليلًا عليها، وعوضًا منها فهم بأن يقنعوا بالتاء عوضًا منها أجدر.
ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي عمرو "وَآيَدْنَاه"5.
قال ابن مجاهد -على ما علمناه: ممدوة الألف خفيفة الياء. وقد رُوى عن مجاهد في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُك} 6 آيدتك، قال ابن مجاهد: على فاعلتك.
قال أبو الفتح: هذا الذي توهمه ابن مجاهد، وأن آيدتك فاعلتك لا وجه له، وإنما آيدتك أفعلتك من الأَيْد؛ وهو القوة.
وقال أبو علي: إنما كثر فيه أيَّدتك فعَّلتك؛ لما يعرض في آيدتُك من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين في آيدتك. وأنشدنا قوله:
ي
ُنْبي تجاليدي وأَقتادَها ... ناوٍ كرأس الفدَنِ الْمُويَد7
__________
1 لغيلان بن حريث، والسفع بها الأثافي، والمثل: المنتصبة القائمة، جمع ماثلة، واليحامم: جمع يحموم وهو الأسود. وانظر: الكتاب: 2/ 448، وسر صناعة الإعراب: 65.
2 فرازنة: الشطرنج، جمع فرزان، معرب، وجمعه في اللسان والقاموس فرازين، ولا يأتي القياس فرازنة. شرح الشافية 2/ 185.
3 الجحاجحة: السادة، جمع جحجاح.
4 كأنه جمع أثناء، وواحد الأثناء ثني كحمل، وهو من الثوب طيه.
5 سورة البقرة: 87.
6 سورة المائدة: 110.
7 ينبي الشيء: يدفعه عن نفسه ولا يتركه يستقر، من نبا جنبه عن الفراش: إذا لم يستقر عليه، تجاليدي: جسمي، الأقتاد: خشب الرحل، واحده قتد، أو هي أدوات الرحل كله، الناوي: السنام والظهر، الفدن: القصر المشيد، والمؤيد العظيم. وانظر: اللسان: "جلد"، والمنصف: 1/ 269.
(1/95)
________________________________________
فهذا من آيدته؛ أي: قويته؛ لأنه مُفعَل كمُكْرَم ومُقتَل1 ومُؤدَم2، ولو كان آيدتك -كما ظن ابن مجاهد فاعلتك- لكان اسم المفعول منه مُؤايَد كمقاتَل ومضارَب؛ ولكن قراءة من قرأ: "آتَيْنَا بِهَا" فاعلنا3، ولو كان أفعلنا لما احتاج إلى حرف الجر؛ لأنه إنما يقال: أتيت زيدًا بكذا وآتيته؛ كقولك: أعطيته كذا، فكذاك لو كان آتينا أفعلنا لكان آتيناها كقولك: أعطيناها، أنت لا تقول: آتيته بكذا، كما لا تقول: أعطيته بكذا، فقوله في تلك القراءة: "آتيناها" كقولك: حاضرنا بها، وشاهدنا بها، وهذا واضح.
ومعنى قول "19ظ" أبي علي: لو جاء آيدتك على ما يجب في مثله من إعلال عين أفعلت إذا كانت حرف علة فأقمت زيدًا وأشرته وأبعته -أي: عرضته للبيع- لتتابع فيه إعلالان؛ لأن أصل آيدت: أَأْيدت، كما أن أصل آمن: أَأْمن، فانقلبت الهمزة الثانية ألفًا لاجتماع الهمزتين في كلمة واحدة، والأولى منهما مفتوحة والثانية ساكنة، فهي كآمن وآلف، وفي الأسماء نحو: آدم وآدر4.
فكان يجب أيضًا أن تلقى حركة العين على الفاء وتحذف العين، فكان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوًا؛ لأنها قد تحركت وانفتح ما قبلها، ولَا بُدَّ من بدلها لوقوع الهمزة الأولى قبلها، كما قلبت في تكسير آدم أوادم، فكان يلزم على هذا أن تقول: أَوَدتُه كأَقَمْتُه وأدرته، فتحذف العين كما ترى، وتقلب الفاء التي هي في الأصل همزة واوًا فتعتل الفاء والعين جميعًا، وإذا أدى القياس إلى هذا رُفض، وكثر فيه فعَّلْتُ أيدت ليؤمن ذانك الاعتلالان، فلما استُعمل شيء منه جاء قليلا شاذًّا؛ أعني: آيدت.
وإذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت، وهي حرف علة على الصحة نحو قوله:
صددت فأَطولتِ الصدود5
وقولهم: أغيلت6 المرأة، وأغيمت السماء، وأَخْوصَ الرِّمثُ7، وأعوز القوم،
__________
1 من أقتله؛ أي عرضه للقتل.
2 من آدم الخبز؛ أي خلطه بالأدم.
3 في ك: فاعلناها، و"آتينا بها" في سورة الحج: 74، وفي الكشاف: أنها قراءة ابن عباس ومجاهد.
4 الآدر: من يصيبه فتق في إحدى خصيتيه.
5 هذا بعض قوله:
صدد فأطولت الصدد وقلما ... وصال علي طول الصدود يدوم
وينسبه في الكتاب إلى عمر بن أبي ربيعة، ولم نثعر عليه في ديوانه، وينسبه الأعلم والبغدادي إلى المرار الفقعسي. وانظر: الكتاب: 1/ 12، 459، والخصائص: 1/ 143، 257، والمنصف 1/ 191، والخزانة 4/ 287.
6 أغيلت المرأة ولدها: سقته الغيل؛ وهو اللبن ترضعه المرأة ولدها وهي حامل.
7 أخوص الرمث: تفطر بورق، والرمث: واحدته رمثة؛ وهو شجر من الحمض.
(1/96)
________________________________________
وأليث الشجر1، وأسوأَ الرجل. ولو خرج على منهج إعلال مثله لم يُخَفْ فيه توالي إعلالين كان خروج آيدت على الصحة لما كان يعقب إعلال عينه من اجتماع إعلالها مع إعلال الفاء قبلها أولى وأجدر؛ فقد ثبت أن قراءة مجاهد: "إذ آيدتك" إنما هو أفعلتك لا فاعلتك، كما ظن ابن مجاهد.
ومن ذلك قراءة يحيى بن يعمر: "جَبرَئِلّ"2 مشددة اللام، بوزن جبرَعِل، وعنه أيضًا وعن فياض بن غزوان3: "جَبْرَائيل" بوزن جَبْرَاعيل، بهمزة بعد الألف، وبهذا الوزن من غير همز بياءين عن الأعمش، و"مِيكاييل" من غير همز أيضًا ممدود، وقرأ "مِيكَئِلَ" بوزن ميكعل ابن هرمز الأعرج4 وابن محيصن.
قال أبو الفتح: أما على الجملة فقد ذكرنا في كتابنا هذا وفي غيره من كتبنا: أن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، وأنشدنا في ذلك ما أنشدَناه أبو علي من قول الراجز:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْت اليومَ كالمزَرَّج5
يريد: الذي شرب الزَّرجون وهي الخمر، وأنه كان قياسه المزرجن؛ من حيث كانت النون في الزرجون أصلية. نعم، وذكرنا أنهم قد يحرفون ما هو من كلامهم، فكيف ما هو من كلام غيرهم؟ إلا أن جبرَئِل قد قيل فيه: إن معناه عبد الله؛ وذلك أن الجبر بمنزلة الرجل، والرجل عبد الله، ولم يسمع الجبر بمعنى الرجل إلا في شعر ابن أحمر، وهو قوله:
اشرب براووق حُبيت به ... وانْعم صباحًا أيها الجبر6
قالوا: وإلٌّ بالنبطية: اسم الله تعالى، ومن ألفاظهم في ذلك أن يقولوا: كورِيال، الكاف بين القاف والكاف، فغالب هذا أن تكون هذه اللغات كلها في هذا الاسم إنما يراد بها جبريال الذي هو كوريال، ثم لحقها من التحريف "20و" على طول الاستعمال ما أصارها إلى هذا التفاوت، وإن كانت على كل أحوالها متجاذبة يتشبث بعضها ببعض.
__________
1 أليث الشجر: استعل ورقًا. وعبارة اللسان: أليث السخبر؛ وهو شجر يشبه الإذخر "حشيش طيب الرائحة".
2 سورة البقرة: 97، 98.
3 هو فياض بن غزوان الضبي الكوفي، مقرئ موثق، أخذ القراءة عرضًا عن طلحة بن مصرف، وروى الحروف عنه طلحة بن سليمان السمان. انظر: طبقات ابن الجزري: 2/ 13.
4 هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أبو داود المدني، تابعي جليل، أخذ القراءة عرضًا عن أبي هريرة وابن عباس، وروى القراءة عنه عرضًا نافع بن أبي نعيم، نزل الإسكندرية ومات بها سنة 127. طبقات ابن الجزري: 1/ 381.
5 انظر الصفحة 80 من هذا الجزء.
6 انظر: الخصائص: 2/ 21، واللسان: "جبر".
(1/97)
________________________________________
واستدل أبو الحسن على زيادة الهمزة في "جَبْرَئيل" بقراءة مَن قرأ "جبْريل" ونحوه، وهذا كالتعسف من أبي لحسن لما قدمناه من التخليط في الأعجمي، ويلزم فيه زيادة النون في زرجون؛ لقوله: كالمزرج، والقول ما قدمناه.
وأما "جَبْرايِيل ومِيكاييل" بباءين بعد الألف والمد فيقْوَى في نفسي أنها همزة مخففة وهي مكسورة، فخفيت وقربت من الياء فعبر القراء عنها بالياء، كما ترى في قوله عز وجل: "آلاء"1 عند تخفيف الهمز "آلاي" بالياء؛ وسبب ذلك ما ذكرناه من خفاء الهمزة المكسورة وقربها بذلك من لفظ الياء، كما قالوا في "شهر رمضان"2 في إدغام أبي عمرو: إن الراء من شهر مدغمة في راء رمضان، وهيهات ذلك مذهبًا، وعز مطلبًا، حتى كأنا لم نعلم أن الهاء في شهر ساكنة، وإذا أُدغمت الراء في راء رمضان التقى ساكنان ليس الأول منهما حرف مد كشبابَّة ودابَّة، ولا يكون ذلك إلا أن تنقل حركة الراء الأولى إلى الهاء قبلها، ولو فُعل ذلك لوجب أن يقال: شَهُرّ رمضان بضم الهاء، وليس أحد من القراء يدَّعي هذا فيه: مَن أدغم ومَن لم يدغم.
وأيضًا، فإنه إذا كان هذا النقل فإنما يكون3 في المتصل، نحو: يستعدّ ويردّ ويفرّ، فأما في المنفصل فإن ذلك لن يجيء في شيء منه إلا في حرف واحد شاذ اجتمع فيه شيئان، كل واحد منهما يحتمل التغيير له:
أحدهما: كونه علمًا، والأعلام فيما يكثر فيه ما لا يكون في غيره، نحو: معديكرب ومَوْهَب وتَهْلَل4 وحَيْوَة.
والآخر: كثرة استعماله، وهم لما كثر استعماله أشد تغييرًا، وذلك الحرف قولهم في عبد شمس: هذه عَبُشَمسَ بفتح السين، وأنت لا تقول في نحو هذا قوم موسى: هذا قَوْمُّوسى؛ لما ذكرناه من أن المنفصل في هذا النحو لم تنقله العرب كما نقلت المتصل.
فعلى هذا ينبغي أن نوجه قولهم في "جَبْرايِيل وميكاييل" ببياءين والمد؛ وذلك لأن المد إنما كان فيه لبقاء نية الهمزة المخففة ولفظه فيه، هذا هو القول؛ كقولهم بالمد، وإن كانت الألف والياء بعدها أتَمَّ صوتًا وأبعد ندى منها وبعدها غيرها من الحروف الصحاح، نحو: غرابيل وسرابيل وسراحين وميادين، وقد يجوز من بعد هذا أن تكون ياء صريحة من حيث كان الأعجمي يُتلَعَّبُ فيه بالحروف تَلَعُّبًا، فاعرف ذلك.
__________
1 سورة النجم: 55، وسورة الرحمن.
2 سورة البقرة، 185، وانظر الإتحاف: 93.
3 في ك: فإنه إنما.
4 اسم للباطل.
(1/98)
________________________________________
ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن رَوْح1 عن أبي السمال أنه قرأ: "أَوْ كُلَّمَا عَهِدُوا"2 ساكنة الواو.
قال أبو الفتح: لا يجوز أن يكون سكون الواو في "أو" هذه على أنه في الأصل حرف عطف كقراءة الكافة: "أوَكلما"؛ من قِبَل أن واو العطف لم تُسكن في موضع علمناه، وإنما يسكن بعدها مما يُخلَط معها فيكونان كالحرف الواحد، نحو قول الله تعالى: "وَهْوَ اللَّه"3، وقوله سبحانه: "وَهْوَ وَلِيُّهُم"4 بسكون الهاء، فأما واو العطف فلا تسكن من موضعين:
أحدهما: أنها في أول الكلمة، والساكن لا يبتدأ به.
والآخر: أنها هنا وإن اعتمدت5 على همزة الاستفهام قبلها فإنها مفتوحة، والمفتوح لا يسكن استخفافًا "20ط" إنما ذلك في المضموم والمكسور نحو: كرْم زيد وعلْم الله، وقد مضى ذكر ذلك، فإذا كان كذلك كانت "أو" هذه حرفًا واحدًا، إلا أن معناها معنى بل للترك والتحول بمنزلة أم المنقطعة، نحو قول العرب: إنها لأبل أم شاء؛ فكأنه قال: بل أهي شاء؟ فكذلك معنى "أو" هاهنا، حتى كأنه قال: "وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ بل كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ"، يؤكد ذلك قوله تعالى من بعده: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُون} ، فكأنه قال: "بل كلما عاهدوا عهدًا.... بل أكثرهم لا يؤمنون".
و"أو" هذه التي بمعنى أم المنقطعة -وكلتاهما بمعنى بل- موجودة في الكلام كثيرًا، يقول الرجل لمن يتهدده: والله لأفعلن بك كذا، فيقول له صاحبه: أَوْ يُحسن الله رأيك، أو يغير الله ما في نفسك؛ معناه: بل يحسن الله رأيك، بل يغير الله ما في نفسك، وإلى نحو هذا ذهب الفراء في قول ذي الرمة:
بدت مثلَ فرنِ الشمس في رَونَقِ الضُّحى ... وصورتِها أو أنت في العين أملحُ6
__________
1 في طبقات القراء لابن الجزري 1/ 285، 286: روح بن عبد المؤمن أبو الحسن الهذلي مولاهم البصري النحوي، وفيها أيضًا: "روح بن قرة البصري، وقال الداني: إنه غير روح بن عبد المؤمن، وتبعه في ذلك الذهبي، وقال الأهوازي: هو ابن عبد المؤمن بن قرة بن خالد البصري، قال ابن الجزري: إن صح ما ذكره الأهوازي في نسب روح بن عبد المؤمن يكونان واحدًا، ويكون ابن قرة نسب إلى جده، وإلا فهما اثنان، وهذا هو الصحيح".
2 سورة البقرة: 100.
3 سورة الأنعام: 3.
4 سورة الأنعام: 127، وفي نسختي الأصل: وهو وليه، وما أثبتناه هو الصواب.
5 في ك: واو اعتمدت.
6 لم أعثر عليه في ديوانه،, ويرويه الفراء في معاني القرآن 1/ 72 غير منسوب. وانظر: الخصائص: 2/ 458.
(1/99)
________________________________________
قال: معناه بل أنت في العين أملح، وكذلك قال في قوله الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} 1 قال: معناه بل يزيدون، وإن كان مذهبنا نحن في هذا غير هذا؛ فإن هذا طريق مذهوب فيه على هذا الوجه.
وقراءته هنا: "عَهِدُوا عَهْدًا" كأنه أشبه بجريان المصدر على فعله؛ لأن عهِدت عهدًا أشبه في العادة من عاهدت عهدًا، ومن ذلك الحديث المأثور: "مَن وعد وعدًا فكأنما عَهِدَ عهدًا"، وقراءة الكافة: "عاهَدُ واعَهْدا" على معنى أعطَوا عهدًا، فعهدًا على مذهب الجماعة كأنه مفعول به.
وعلى قراءة أبي السمال هو منصوب نصب المصدر، وقد يجوز أن ينتصب على قراءة الكافة على المصدر؛ إلا أنه مصدر محذوف الزيادة؛ أي: معاهدة أو عِهاداً؛ كقاتلت مقاتلة وقتالًا، إلا أنه جاء على حذف الزيادة كقوله:
عمرَكِ الله ساعةً حدِّثِينَا ... ودَعِينَا من قولِ مَن يؤذينا2
إنما هو: عمَّرتُكِ الله تعميرًا -دعاء لها- فحذفت زيادة التاء والياء، وعليه: جاء زيد وحده؛ أي: أُوحِدَ بهذه الحال إيحادًا، ومررت به وحده؛ أي: أَوحدته بمروري إيحادًا.
وقد يمكن أن يكون وحده مصدر هو يَحِد وحدًا فهو واحد، والمصدر على حذف زيادته كثير جدًّا، إلا أنه ليس منه قولهم: سلمت عليه سلامًا وإن كان في معنى تسليمًا؛ من قِبَل أنه لو أريد مجيئه على حذف الزيادة لما أُقِرَّ عليه شيء من الزيادة، وفيه ألف سلام زائدة، ومثله: كملته كلامًا، والسلام والكلام ليسا على حذف الزيادة؛ لكنهما اسمان على فَعال بمعنى المصدر، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة الحسن وابن عباس والضحاك بن مزاحم3 وعبد الرحمن بن أَبزَى4: "وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ"5بكسر اللام.
قيل: أراد "بالملِكين" داود وسليمان عليهما السلام.
قال أبو الفتح: إن قيل: كيف أطلق الله سبحانه على داود وسليمان اسم الملِك؛ وإنما هما عبدان له تعالى كسائر عبيده من الأنبياء وغيرهم؟
__________
1 سورة الصافات: 147.
2 أورده اللسان في "عمر" غير منسوب.
3 هو الضحاك بن مزاحم أبو القاسم، ويقال: أبو محمد الهلالي، تابعي، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، سمع سعيد بن جبير وأخذ عنه التفسير، توفي سنة 105. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 337.
4 هو عبد الرحمن بن أبزى الكوفي مولى خزاعة، روى عن عمر بن الخطاب وأُبي بن كعب رضي الله عنهما. طبقات ابن الجزري: 1/ 361.
5 سورة البقرة: 102.
(1/100)
________________________________________
قيل: جاز ذلك لأنه أَطلق عليهما اللفظ الذي يُعتاد حينئذ فيهما، ويطلقه الناس عليهما، فخوطب الإنسان "21و" على ذلك باللفظ الذي يعتاده أهل الوقت إذ ذاك، ونظيره قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 1؛ وإنما هو في النار الذليل المهان؛ لكنه خوطب بما يخاطب به في الدنيا، وفيه مع هذا ضرب من التبكيت له، والإذكار بسوء أفعاله، وقد مضى نحو هذا.
ومن ذلك قراءة الحسن وقتادة: "بَيْنَ الْمَرِ وَزَوْجِهِ"2 بفتح الميم وكسر الراء خفيفة من غير همز.
وقراءة الزهري: "الْمَرِّ" بفتح الميم وتشديد الراء.
وقراءة ابن أبي إسحاق: "الْمُرْء" بضم الميم وسكون الراء والهمز.
وقراءة الأشهب3: "الْمِرْء" بكسر الميم والهمز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن وقتادة: "بينَ الْمَرِ" بفتح الميم وخفة الراء من غير همز فواضح الطريق؛ وذلك أنه على التخفيف القياسي؛ كقولك في الخبء4: هذا الْخَبُ، ورأيت الْخَبَ، ومررت بالْخَبِ، تخذف الهمزة وتلقى حركتها على الباء قبلها. وتقول في الجزء: هذا الْجُزُ، ورأيت الْجُزَ، ومررت بالْجُزِ، وعليه القراءة: "الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"5.
وأما قراءة الزهري: "الْمَرِّ" بتشديد الراء فقياسه: أن يكون أراد تخفيف المرء على قراءة الحسن وقتادة، إلا أنه نوى الوقف بعد التخفيف؛ فصار "الْمَر" ثم ثقل للوقوف على قول من قال: هذه خالدّ، وهو يجعلّ، ومررت بفرجّ6، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فأقر التثقيل بحاله، كما جاء عنهم قوله:
__________
1 سورة الدخان: 49.
2 سورة البقرة: 102.
3 هو مسكين بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم أبو عمرو المصري المعروف بأشهب صاحب الإمام مالك، روى القراءة سماعًا عن نافع بن نعيم. طبقات القراء لابن الجزري 2/ 296.
4 الخبء: ما خُبئ وغاب، تسمية بالمصدر.
5 سورة النمل: 25، وهي قراءة أبي وعيسى. وانظر: البحر المحيط: 7/ 69.
6 كذا في الكتاب: 2/ 282، وفي الأصل: بعرج، وفي ك: بفرح، وكلاهما تحريف.
(1/101)
________________________________________
بِبازلٍ وجناء أو عَيْهَلِّ ... كأن مهواها على الكَلْكَلِّ1
يريد: العيهل والكلكل، وكبيت الكتاب:
ضخما يحب الخُلق الأضخمَّا2
فيمن فتح الهمزة3، يريد: الأضخم، فثقل ثم أطلق.
وفي هذا شذوذان؛ أحدهما: التثقيل في الوقف، والآخر: إجراء الوصل مجرى الوقف؛ لأنه من باب ضرورة الشعر.
وأما قراءة ابن أبي إسحاق: الْمُرْء بضم الميم والهمز فلغة فيه، وكذلك من قرأ: الْمِرء بكسر الميم، ومنهم من يضم الميم في الرفع ويفتحها في النصب ويكسرها في الجر فيقول: هذا الْمُرء، ورأيت الْمَرء، ومررت بالْمِرء؛ وسبب صنعة هذه اللغة: أنه قد أُلِف الإتباع في هذا الاسم في نحو قولك: هذا امرؤٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئٍ، فيتُبع حركة الراء حركة الهمزة، فلما أن تحركت الميم وسكنت الراء لم يمكن الإتباع في الساكن فنُقل الإتباع من الراء إلى الميم؛ لأنها متحركة، فجرى على الميم لمجاورتها الراء ما كان يجري على الراء، كما يقول ناس في الوقف: هذا بكُر، ومررت ببكِر؛ لما جفا عليهم اجتماع الساكنين في الوقف وشحوا على حركة الإعراب أن يستهلكها الوقوف عليها نقلوها إلى الكاف، وكما قال من قال في صُوَّم: صُيَّم، وفي قُوَّم:
__________
1 لمنظور بن مرثد الأسدي، وأمه حبة، ولذا ينسب إليهما أيضًا، وقبل الشاهد:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلي
أو تصبحي في الظاعن المولى
نسل وجد الهائم المغتل
البازل: الداخل في السنة التاسعة من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، والوجناء: الناقة الشديدة، والعيهل: الناقة الطويلة، والمغتل: من به الغلة وهي حرارة العطش، والمراد هنا حرارة الشوق. وانظر: النوادر: 53، والخصائص: 2/ 359، والمنصف: 1/ 11، وسر صناعة الإعراب: 1/ 178، وشواهد الشافية: 246 وما بعدها.
2 لرؤبة، ويروى: ضخم بالرفع، ويروى: ببدء مكانه، والبدء: السيد. وانظر: الكتاب: 1/ 11، 2/ 283، والمنصف 1/ 10، وسر صناعة الإعراب: 1/ 179.
3 في سر الصناعة 1: 180، ويروى: الأضخما والضخما ولا حجة فيهما؛ أي: لأن هذين الوزنين قد وردا كثيرًا في كلام العرب؛ مثل: أردب وأرزب، ومثل: خدب وهجف، فتشديد آخرهما غير طارئ للوقف، بخلاف أضخم بفتح الهمزة وتشديد الميم، فإن تشديد آخره طارئ للوقف؛ إذ ليس في الأوزان العربية وزن "أفعل" بفتح الهمزة وتشديد اللام.
(1/102)
________________________________________
قُيَّم، لما جاورت العين اللام أجراها في الاعتلال مجرى عات وعُتي1 وجاث2 وجُثي، وقد ذكرنا في تفسير ديوان المتنبي ما في هذا الحرف؛ أعني: المرء والمرأة من اللغات.
ومن ذلك قراءة الأعمش: "وَمَا هُمْ بِضَارِّي بِهِ مِنْ أَحَدٍ"3.
قال أبو الفتح: هذا من أبعد الشاذ؛ أعني: حذف النون هاهنا، وأمثل ما يقال فيه: أن يكون أراد: وما هم بضارِّي أحدٍ، ثم فصَل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر.
وفيه شيء آخر وهو أن هناك أيضًا "21ظ" "مِن" في من أحد، غير أنه أجرى الجار مجرى جزء من المجرور؛ فكأنه قال: وما هم بضاري به أحد، وفيه ما ذكرنا.
ومن ذلك قراءة قتادة وابن بُريدة وأبي السمال: "لَمثْوَبَةٌ4".
قال أبو الفتح: قد ذكرنا شذوذ صحتها عن القياس فيما مضى.
ومن ذلك قراءة أبي رجاء5: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنَسِّهَا"6 مشددة السين.
وقرأ سعد بن أبي وقاص والحسن ويحيى بن يعمر: "أو تَنْسَها" بتاء مفتوحة.
وقراءة سعيد بن المسيب والضحاك "تُنْسَها" مضمومة التاء مفتوحة السين.
وفي حرف ابن مسعود: "ما نُنْسِكَ من آية أو نَنسخْها".
قال أبو الفتح: أما "نُنَسِّها" فنُفَعِّلها من النسيان، فيكون فَعَّلْت في هذا كأفعلت في قراءة أكثر القراء: "نُنْسِها"، وهو في الموضعين على حذف المفعول الأول؛ أي: أو ننس أحدًا إياها؛ كقولك: ما نَهبُ من قرية أو نُقْطِعُها؛ أي: أو نُقطع أحدًا إياها.
ومن قرأ: "تَنْسَها" أراد: أو تَنْسها أنت يا محمد.
__________
1 عتا عتيًّا بضم العين وعتيًّا بكسرها وعتوًّا: استكبر وجاوز الحد، فهو عاتٍ وعتي، والجمع عُتي بالضم.
2 جثا كدعا ورمى جثوا وجثيًّا بضمهما: جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه، وهو جاثٍ، والجمع جُثِي بالضم والكسر.
3 سورة البقرة: 102.
4 سورة البقرة: 103.
5 هو عمران بن تيم أبو رجاء العطاردي البصري التابعي الكبير، ولد قبل الهجرة بإحدى عشرة سنة، وكان مخضرمًا، أسلم في حياة النبي ولم يره، عرض القرآن على ابن عباس وتقلنه من أبي موسى، وحدث عن عمر وغيره من الصحابة، مات سنة 105. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 604.
6 سورة البقرة: 106.
(1/103)
________________________________________
ومن قرأ "تُنْسَها" مر أيضًا على تنسها أنت، إلا أن الفاعل في المعنى هنا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون الْمُنْسِي لها هو الله تعالى.
والآخر: أن يكون الْمُنْسِي لها ما يعتاد بني آدم من أعراض الدنيا غمًّا أو همًّا، أو عدواة من إنسان، أو وسوسة من شيطان.
فأما قوله عز اسمه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 1 فقد يمكن أن يكون ما يحدثه من النسيان أعراض الدنيا مما شاء الله زيادة في التكليف، وتعرضًا بمقاساته ومقاومته للثواب.
ويدل على جواز كون المنسي هو الله تعالى -وإن كانت التلاوة "أو تُنْسَها"- قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 2، وقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 3 مع قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ} 4، وقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 5.
ويؤكد هذا قراءة ابن مسعود: "ما نُنْسِك من آية"، وفيه بيان، وقد يقول الإنسان: ضُرب زيد، وإن كان القائل لذلك هو الضارب، وهذا يدل على أن الغرض هنا: أن يُعلم أنه مضروب، وليس الغرض أن يعلم مَن ضربه؛ ولذلك بُني هذا الفعل للمفعول، وأُلغي معه حديث الفاعل؛ فقام في ذلك مقامه ورُفع رفعه، فهذه طريق ما لم يُسم فاعله.
ومن ذلك قراءة ابن عباس فيما رواه سليمان بن أرقم6 عن أبي يزيد المدني عن ابن عباس: "فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ"7، على الدعاء من إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الفتح: أما على قراءة الجماعة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} فإن الفاعل في "قال" هو اسم الله تعالى؛ أي: لما قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} .
وأما على قراءة ابن عباس: "فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ" فيحتمل أمرين:
__________
1 سورة الأعلى: 6.
2 سورة النساء: 28.
3 سورة الأنبياء: 37.
4 سورة العلق: 1.
5 سورة الرحمن: 3.
6 هو سليمان بن أرقم أبو معاذ البصري مولى الأنصار، وقيل: مولى قريش، روى قراءة الحسن البصري عنه، وروى الحروف عنه علي بن حمزة الكسائي. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 312.
7 سورة البقرة: 126.
(1/104)
________________________________________
أحدهما: وهو الظاهر، أن يكون الفاعل في "قال" ضمير إبراهيم عليه السلام؛ أي: قال إبراهيم أيضًا: ومن كفر فأَمْتِعه يارب ثم اضطرَّه يا رب "22و".
وحَسُنَ على هذا إعادة "قال" لأمرين:
أحدهما: طول الكلام، فلما تباعد آخره من أوله أُعيدت "قال" لبُعْدِها، كما قد يجوز مع طول الكلام ما لا يحوز مع قصره.
والآخر: أنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين، فكأن ذلك أَخْذٌ في كلام آخر، فاستؤنف معه لفظ القول، فجرى ذلك مجرى استئناف التصريع في القصيدة إذا خرج من معنى إلى معنى؛ ولهذا ما1 يقول الشاعر في نحو ذلك:
فدع ذا ولكن هل ترى ضوء بارق2
ويقول:
دع ذا وبهج حَسَبا مُبهَّجا3
فإذا جاز أن يصُرِّع وهو في أثناء المعنى الواحد نحو قوله:
ألا نادِ في آثارهن الغوانيا ... سُقين سِمَامًا ما لهن وما ليا
كان التصريع مع الانتقال من حال إلى حال أحرى بالجواز، فهذا أحد الوجهين.
وأما الآخر: فهو أن يكون الفاعل في "قال" ضمير اسم الله تعالى؛ أي: فأَمْتِعه يا خالق، أو فأمتعه يا قادر أو يا مالك أويا إله، يخاطب بذلك نفسه -عز وجل- فجرى هذا على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه؛ كقراءة من قرأ: "قَالَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"4 أي: اعلم يا إنسان، وكقول الأعشى:
وهل تُطيق وداعًا أيها الرجل5
__________
1 ما زائدة.
2 عجزه:
يضيء حَبِيًّا في ذرى متألق
والبيت لخفاف بن ندبة، والجبي: السحاب المتراكم، والذرى بضم الذال: جمع ذروة؛ وهي من كل شيء أعلاه. وانظر الأصمعيات: 14.
3 للعجاج. الديوان: 10.
4 سورة البقرة: 259، وقراءة "اعلم" بلفظ الأمر قراءة أبي رجاء وحمزة والكسائي. انظر البحر: 2/ 296.
5 صدره:
ودِّع هريرة إن الركب مرتحل
وانظر الديوان: 55، والخصائص 2/ 474.
(1/105)
________________________________________
وهذا يتصل بباب من العربية غريب لطيف وهو باب التجريد؛ كأنه يجرد نفسه منه ثم يخاطبها، وقد ذكرنا هذا الباب في كتابنا الخصائص1.
وهذا وإن كان مما لا ينبغي أن يُجرى في الحقيقة مثله على الله -سبحانه- لأنه لا تجزؤ هناك؛ فإنه يُجرى على عادة القوم ومذهب خطابهم، وقد نطقوا بهذا نفسه معه -تقدست أسماؤه- أنشدنا أبو علي:
أفاءت بنو مروان ظلمًا دماءنا ... وفي الله إن لم يَعدلوا حَكَمٌ عدل2
فجرى اللفظ على أنه جُرد منه شيء يسمى حكَمًا عدلًا، وهو مع التحصيل على حذف المضاف؛ أي: وفي عدل الله حَكَمٌ عدل. فتفهَّم هذه المواضع، فإن قدر الإعراب يضيع إلى معناها، وإن كان هو أول الطريق ونهجه إليها.
ويجوز في العربية: "ثم اضطَرِّهِي" بكسر الراء لالتقاء الساكنين، ثم تُبَيَّن الهاء بياء بعدها.
ويجوز أيضًا: "ثم اضطَرِّهِ" تكسر الهاء ولا تتم الياء.
ويجوز: "اضطَرِّهْ" بكسر الراء وفتحها والهاء الساكنة.
ويجوز: "ثم اضطَرُّهُو" بضم الراء كما روينا عن قطرب أن بعضهم يقول: شَمُّ يا رجل.
ويجوز الضم بلا واو.
ويجوز مع ضم الراء وفتحها تسكين الهاء. وقد ذكرت ذلك كله في أماكنه.
ومن ذلك قراءة ابن محصين: ثم "أَطَّرُّه"3 يدغم الضاد في الطاء.
قال أبو الفتح: هذه لغة مرذولة؛ أعني: إدغام الضاد في الطاء؛ وذلك لما فيها من الامتداد والفشو؛ فإنها من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها.
وهي: الشين والضاد والراء والفاء والميم، ويجمعها في اللفظ قولهم: ضُمَّ شَفْر، وقد أخرج بعضهم الضاد من ذلك وجمعها في قولهم: مِشفر.
قال: لأنه قد حُكي إدغام الضاد في الطاء في قولهم في "اضطجع": "22ظ" اطَّجع.
__________
1 انظر: الخصائص: 2/ 473.
2 انظر الصفحة 42 من هذا الجزء.
3 سورة البقرة: 126.
(1/106)
________________________________________
وأنشدوا قوله:
يا رُبَّ أبَّاز من العُفْر صدع ... تقبَّض الظلُّ إليه واجتمع1
لما رأى أن لا دعه ولا شِبع ... مال إلى أرطاة حِقْف فاطجع
ويُروى: "فاضطجع" وهو الأكثر والأقيس.
ويُروى أيضًا: "فالْطَجع" يبدل أيضًا اللام من الضاد.
فإن قيل: فقد أحطنا علمًا بأن أصل هذا الحرف اضتجع افتعل من الضجعة، فلما جاءت الضاء قبل تاء افتعل أُبدلت لها التاء طاء، فهلا لما زالت الضاد فصارت بإبدالها إلى اللام رُدت التاء فقيل: التجع، كما تقول: التجم والتجأ؟
قيل: هذا إبدال عَرَضَ للضاد في بعض اللغات، فلما كان أمرًا عارضًا، وظِلًّا في أكثر اللغات خالصًا؛ أقروا الطاء بحالها إيذانًا بقلة الحفل بما عرَض من البدل، ودلالة على الأصل المنحو المتعمد، وله غير نظير.
ألا ترى إلى قوله:
وكَحَل العينين بالعَوَاوِر2
وكيف صحح الواو الثانية وإن كان قبلها الواو الأولى بينهما ألف وقد جاوزت الثانية
__________
1 الأباز: الوثاب، ويريد به الظبي، والعفر: جمع أعفر؛ وهو الأبيض الذي ليس بشديد البياض، والصدع بالتسكين وقد يحرك: الخفيف اللحم، الدعة: الراحة والسكون، الحقف: التل المعوج من الرمل. ويروى: "الذئب" مكان "الظل". وسكن هاء "دعه" في الوصل لضرورة الشعر، ويقول الفراء: إنها لغة للعرب. وينسب هذا الرجز إلى منظور بن حبة الأسدي.
وانظر: المنصف 2/ 329، والخصائص: 1/ 63، 263، 3/ 163، وشواهد الشافية: 274 وما بعدها.
2 لجندل بن المثنى الطهوي، شاعر راجز إسلامي مهاج للراعي، وجندل من بن تميم، وطهية هي بنت عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم، غلب نسبة أولادها إليها، وقبل الشاهد:
غرك أن تقاربت أبا عرى ... وأن رأيت الدهر ذا الدوائر
حنى عظامي وأراه ثاغري ... وكحل.... ..... .....
وينسبه ابن جني في الخصائص 3/ 326 للعجاج. وتقاربت أبا عرى: قلت: يعني من قلتها قرب بعضها من بعض، وقيل: قربت من الدناءة، من قولك: شيء مقارب إذا كان دونًا، وثاغري من ثغرته: أي كسرت ثغره، وهو في الأصل المبسم ثم أطلق على الثنايا، والعواور: حمع عوار؛ وهو جمع العين، وفسر بالرمد، وبالوخز يجده الإنسان في عينه. وهو هنا يخاطب امراته. الكتاب: 2/ 274، والمنصف 2/ 49، والخصائص 1/ 195، 3/ 164، 326، وشرح شواهد الشافية: 374.
(1/107)
________________________________________
الطرف، ولم يقلبها كما قلبها في أوائل، وأصلها أواول لما ذكرنا؛ إذ كان الأصل هاهنا العواوير، وإنما حذفت الياء تخفيفًا وهي مرادة، فجعل تصحيح الواو في العواور دليلًا على إرادة الياء في عواوير، وكما جعل حذف النون من قوله:
إرهن بنيك عنهم أراهن بني1
أراد: بني، فحذف الياء الثانية لتخفيف القافية، وترك أن يرد النون من "بنين"؛ لأنه لم يَبْنِ الأمر على حذف الياء الثانية ألبتة؛ وإنما حذفها للوقف على الحرف المشدد في الروي المقيد، وكما أنشدنا أبو علي للفرزدق من قوله:
تنظرت نصرًا والسِّماكين أيهما ... علَيَّ من الغيث استهَلَّت مواطرُهُ2
أراد: أيهما، فاضطر إلى تخفيف الحروف فحذف الياء الثانية، وكانت ينبغي أن يرد الياء الأولى إلى الواو؛ لأن أصلها الواو، وأن يكون قياسًا واشتقاقًا جميعًا أولى، ولم يقل: أوهما، فيرد الواو الأصلية؛ لأنه لم يَبْنِ الكلمة على حذف الياء ألبتة، فيرد الواو، فيقول: أوهما؛ لأنه إنما اضطر إلى التخفيف هناك وهو ينوي الحرف المحذوف كما ينوي الملفوظ به، ويأتي نظيره في سورة القصص، وقد ذكرنا أخوات لهذا أكثر من عشر في كتاب الخصائص3؛ فلذلك قال: فالطجع، فترك الطاء بحالها كما قدمنا ذكره.
ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن ابن عباس في مصحف ابن مسعود: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا"4، وفيه: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ"5، وفيه: "وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ يَقُولُونَ أَخْرِجُوا"6.
قال أبو الفتح: في هذا دليل على صحة ما يذهب إليه أصحابنا من أن القول مراد مقدَّر
__________
1 رهنه عنه: جعله رهنًا بدلًا منه، ويقال:؟ إنه من الشعر الجاهلي. وانظر: اللسان "رهن".
2 انظر الصفحة 41 من هذا الجزء.
3 انظر باب في بقاء الحكم مع زوال العلة. الخصائص: 3/ 157.
4 كذا في الأصل "ويقولان" بالواو، ومثله في تفسير القرطبي 2/ 115 قال: قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} والمعنى: ويقولان: ربنا، فحذف، وكذلك هي في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا".
وفي البحر 1/ 388: وقراءة أبي وعبد الله: "يقولان" بإظهار هذه الجملة، ومثله في الكشاف 1/ 74 قال: "ربنا: أي يقولان ربنا، وهذا الفعل في محل النصب على الحال، وقد أظهره عبد الله في قراءته، فلعلهما روايتان"، والآية في سورة البقرة: 127.
5 سورة الزمر: 3.
6 سورة الأنعام: 93.
(1/108)
________________________________________
في نحول هذه الأشياء، وأنه ليس كما يذهب إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه، دون أن يكون القول مقدرًا معه؛ وذلك كقول الشاعر:
رَجْلانِ من ضبة أخبرانا ... إنا رأينا رجلا عريانا1
فهو عندنا نحن على: قالا: إنا رأينا، وعلى قولهم لا إضمار قول هناك؛ لكنه لما كان أخبرانا في معنى قالا لنا؛ صار كأنه "22و": قالا لنا، فأما على إضمار قالا في الحقيقة فلا.
وقد رأيت إلى قراءة ابن مسعود كيف ظهر فيها ما نقدره من القول؛ فصار قاطعًا على أنه مراد فيما يجري مجراه.
وكذلك قوله:
يدعون عنترُ والرماح كأنها2
فيمن ضم الراء من عنتر؛ أي: يقولون: يا عنتر، وكذلك من فتح الراء، وهو يريد: يا عنترة.
وكذلك {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 3 أي: يقولون، وقد كثر حذف القول من الكلام جدًّا.
ومن ذلك قال ابن مجاهد: قال عباس: سألت أبا عمرو عن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} فقال: أهل الحجاز يقولون: "يعلِّمُهم ويلْعَنُهم"4 مثقلة، ولغة تميم: "يُعْلِمْهم ويلْعَنْهم.
قال أبو الفتح: أما التثقيل فلا سؤال عنه ولا فيه؛ لأنه استيفاء واجب الإعراب؛ لكن من حذف فعنه السؤال، وعلته توالي الحركات مع الضمات، فيثقل ذلك عليهم فيخففون بإسكان حركة الإعراب، وعليه قراءة أبي عمرو: "فَتُوبُوا إِلَى بَارِئْكُمْ"5 فيمن رواه بسكون الهمزة. وحكى أبو زيد: "بَلَى وَرُسُلْنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ"6 بسكون اللام.
وأنشدنا أبو علي لجرير:
__________
1 انظر: الخصائص: 2/ 338.
2 عجزه:
أشطان بئر في لبان الأدهم
والبيت من معلقته. والأشطان جمع الشطن بالتحريك؛ وهو الحبل الذي يُستقى به، واللبان: الصدر، والأدهم: الأسود؛ يعني فرسه. وانظر: شرح المعلقات السبع: 152.
3 سورة الرعد: 23.
4 سورة البقرة: 129، 159.
5 سورة البقرة: 54.
6 سورة الزخرف: 80.
(1/109)
________________________________________
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فلا تعرفْكم العرب1
يريد: تعرفُكم. ومن أبيات الكتاب:
فاليوم أشربْ غير مُستَحقِبٍ ... إثمًا من الله ولا واغِلِ2
أي: أشربُ.
وأما اعتراض أبي العباس هنا على الكتاب، فإنما هو على العرب لا على صاحب الكتاب؛ لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضًا غيره.
وقول أبي العباس: إنما الرواية: "فاليوم فاشرب"، فكأنه قال لسيبويه: كذبتَ على العرب، ولم تَسمع ما حكيته عنهم. وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرَف فقد سقطت كلفة القول معه.
وكذلك إنكاره عليه أيضًا قول الشاعر:
"وقد بدا هَنْكِ من المئزر3
__________
1 البيت في هجاء بني العم؛ وذلك أنه لما تواقف جرير والفرزدق بالمريد للهجاء اقتتلت بنو العم يربوع وبنو مجاشع، فأمدت بنو العم بني مجاشع، وجاءوهم وفي أيديهم الخشب، فطردوا بني يربوع، فقال جرير: مَن هؤلاء؟ قالوا: بنو العم، فقال جرير يهجوهم:
ما للفرزدق من عز يلوذ به ... إلا بني العم في أيديهم الخشب
سيروا بني العم ... .... .... ...
ويُروى: "داركم" مكان "منزلكم"، ويروي: "ولم" مكان "فلا".
وانظر: الديوان: 49، والأغاني طبعة الدار: 3/ 257، والخصائص: 1/ 74، 2/ 317، 340.
2 لامرئ القيس.
والمستحقب: المكتسب، وأصل الاستحقاب حمل الشيء في الحقيبة، والواغل: الداخل على الشرب ولم يدع.
يقوله حين قُتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به، فلما أدرك ثأره حلت له بزعمه فلا يأثم بشربها؛ إذ قد وفَّى بنذره فيها. وانظر: الكتاب: 2: 297، والخصائص: 1/ 74.
3 للأقيشر الأسدي؛ وهو المغيرة بن عبد الله، وكان قد سكر فبدت عورته فضحكت منه امرأته، فقال ثلاثة أبيات، وصدر الشاهد:
رحت وفي رجليك ما فيهما
وقبله:
تقول: يا شيخ أما تستحي ... من شربك الخمر الى المكبر
فقلت: لو باكرت مشمولة ... صفرًا كلون الفرس الأشقر
وأراد بالهن: الفرج، فكنى عنه. وهن: كناية عن كل ما يقبح ذكره، أو ما لا يعرف اسمه من الأجناس.
وانظر: الكتاب: 2/ 297، والخصائص: 1/ 74، 3/ 95.
(1/110)
________________________________________
فقال: إنما الرواية:
وقد بدا ذاك من المئزر
وما أطيب العرس لولا النفقة!
وكذلك الاعتراض عليه في إنشاده قوله:
لا بارك الله في الغواني هل ... يُصبحن إلا لهن مُطَّلَبُ1
وقول الأصمعي: "في الغواني ما" يريد: في الغواني2 أَما، ويخفف الهمزة. وقول غيره: "في الغوان أَما"، ولو كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع والتسبب إليه لكان الرجل أقوم من الجماعة به، وأوصل إلى المراد منه، وأنفى لشغب الزيغ والاضطراب عنه.
فأما قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حِمامُها3
فحملوه على هذا؛ أي: أو يرتبط بعض النفوس حمامها؛ معناه: إلا أن يرتبط، فأسكن المفتوح لإقامة الوزن واتصال الحركات.
وقد يمكن عندي أن يكون يرتبط عطفًا على أرضها؛ أي: أنا تراك أمكنة إذا لم أرضها ولم يرتبط نفسي حمامها؛ أي: ما دمت حيًّا فأنا متقلقل في الأرض من هذه إلى هذه، ألا ترى إلى قوله:
قَوَّال مُحكَمَة جوَّاب آفاق4
وهو كثير في الشعر، فكذلك قول بني تميم: "يُعلِّمْهم ويلْعَنْهم" على ما ذكرنا.
ومن ذلك قراءة الزهري: "إلا لِيُعْلَم من يتبع الرسول"5 بياء مضمومة وفتح اللام. "23ظ"
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون يُعلم هنا بمعنى يعرف؛ كقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
__________
1 لابن قيس الرقيات. وانظر: الكتاب: 2/ 59، والمنصف: 2/ 67، والخصائص: 1/ 262، 2/ 347.
2 في الأصل: في الغواني ما، والسياق يقتضي ما أثبتنا.
3 البيت في معلقة لبيد. ويُروى: "يعتلق" مكان "يرتبط". وانظر: شرح المعلقات السبع للزوزني: 109، والخصائص: 1/ 74.
4 لتأبط شرًّا، وصدره:
حَمَّال ألوية شَهَّاد أندية
المفضليات: 29.
5 سورة البقرة: 143.
(1/111)
________________________________________
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 1 أي: عرفتم، وتكون "مَن" بمعنى الذي؛ أي: ليُعرف الذي يتبع الرسول، ولا تكون "مَن" هاهنا استفهامًا؛ لئلا يكون الكلام جملة، والجمل لا تقوم مقام الفاعل؛ ولذلك لم يجيزوا أن يكون قوله2: "هذا باب علم ما الكلم" أي: أي شيء الكلم، وعلم في معنى: أن يُعلَم، وقد ذكرنا ذاك هناك.
ومن ذلك قراءة ابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر وعاصم الجحدري وأبي رجاء بخلاف: "وإلَه أَبِيكَ"3 بالتوحيد.
قال أبو الفتح: قول ابن مجاهد بالتوحيد لا وجه له؛ وذلك أن أكثر القراءة: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} جمعًا كما ترى، فإذا كان أبيك واحدًا كان مخالفًا لقراءة الجماعة؛ فتحتاج حينئذ إلى أن يكون أبيك هنا واحدًا في معنى الجماعة، فإذا أمكن أن يكون جمعًا كان كقراءة الجماعة، ولم يحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة، وطريق ذلك أن يكون "أبيك" جمع أب على الصحة، على قولك للجماعة: هولاء أبون أحرار؛ أي: آباء أحرار، وقد اتسع ذلك عنهم. ومن أبيات الكتاب:
فلما تبين أصواتنا ... بكين وفدَّيْنَنَا بالأبينا4
وقال أبو طالب:
ألم ترَ أني بعد همٍّ هممته ... لفرقة حرمن أبين كرام5
وقال الآخر:
فهو يُفَدَّى بالأبين والخالْ6
__________
1 سورة البقرة: 65.
2 يريد: سيبويه في أول كتابه.
3 سورة البقرة: 133.
4 لزياد بن واصل السلمى. الكتاب: 2/ 101، والخزانة: 2/ 275. واللسان "أبي".
5 الخزانة: 2/ 275.
6 أورده اللسان في "أبي" غير منسوب، وجعل صدره:
أقبل يهوي من دوين الطربال
وفي "طربل" يقول: قال دكين:
جتى إذا كان دوين الطربال ... رجعن منه بصهيل صلصال
مطهر الصورة مثل التمثال
ومن معاني الطربال: المنارة، والصومعة، والهدف المشرف. ويروى: "مطهم" مكان "مطهر".
(1/112)
________________________________________
وقد أشبعنا هذا الموضع1 في شرح ديوان المتنبي.
ويؤكد أن المراد به الجماعة ما جاء بعده من قوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} فأبدل الجماعة من أبيك، فهو جماعة لا محالة؛ لاستحالة إبدال الأكثر من الأقل؛ فيصير قوله تعالى: "وإله أبيك " كقوله: وإله ذويك، هذا هو الوجه، وعليه فليكن العمل.
ومن ذلك ما حكاه ابن مجاهد عن ابن عباس: أنه قال: لا تقرأ {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} 2؛ فإن الله ليس له مثل؛ ولكن اقرأ: "بما آمنتم به".
قال: وروى عنه أيضًا أنه كان يقرأ: "بالذي آمنتم به".
قال: وقال عباس في مصحف أنس3 وأبي صالح وابن مسعود: "فإن آمنوا بما آمنتم به".
قال أبو الفتح: هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن؛ لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة. وصحة ذلك أنه إنما يراد: فإن آمنوا بما آمنتم به، كما أرداه ابن عباس وغيره، غير أن العرب قد تأتي بمثل في نحو هذا توكيدًا وتسديدًا، يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح4: مثلي لا يفعل هذا؛ أي: أنا لا أفعله، ومثلك إذا سئل أعطى؛ أي: أنت كذاك، قال:
مثلي لا يُحسن قولًا فَعْ فَعْ5
أي: أنا لا أحسنه. وفي حديث سيف بن ذي يزن: "أيها الملك، مثل من سَرَّ وبَر" أي: أنت كذاك. وهو كثير في الشعر القديم والمولد جميعًا.
__________
1 في ك: الموضوع.
2 سورة البقرة: 137.
3 هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري أبو حمزة، صاحب رسول الله وخادمه، روى القراة عنه سماعًا، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، وقرأ عليه قتادة ومحمد بن مسلم الزهري، توفي سنة إحدى وتسعين. طبقات القراء: 1/ 172.
4 في ك: القبح.
5 قبله:
لا تأمريني ببنات أسفع
وبعده:
والشاة لا تمشي علي الهملع
وفع فع: زجر الغنم ودعاؤها، وفي هامش الأصل: فع فع مع الهذيان، ورسم في الخصائص: فعفع، وبنات أسفع الغنم أضيف إلى أسفع، وهو فحل لها، والشاة هنا في معنى الجمع، وتمشي: تنمو وتكثر، والهملع: الذئب؛ كأنه يخاطب امرأته وقد أمرته باقتناء الغنم ورعايتها، فقال: لا أحسن ذلك. وانظر: الخصائص: 3/ 30.
(1/113)
________________________________________
وسبب توكيد هذه المواضع "بمثل" أنه يراد أن يُجعل من جماعة هذه أوصافهم تثبيتًا للأمر وتمكينًا له، ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم تَرْسُ فيه قدمه، ولم يؤمن عليه انتقاله إلى ضده.
ومثل ذلك أيضًا قولهم في مدح الإنسان: أنت من القوم الكرام، ومنْزِعُك إلى السادة؛ أي: لك في هذا الفعل سابقة وأول، فأنت مقيم عليه ومحقوق به، ولست "24و" دخيلًا فيه عن غير أول ولا أصل، فيخشى عليك نُبوك عنه.
ولما أريد مثل هذا في الثناء على الله -تعالى- ولم يجز أن يكون تابعًا لسلف، ولا موجودًا له فيه نظير؛ عدلوا به إلى وجه ثالث غير الاثنين المذكورين؛ وهو أن جُعل قديمًا فيه، راسخًا عليه، فكان أثبت له من أن يكون -عز وجهه- مبتدئه أو مرتجله، وذلك قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 1، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 2 ونحو ذلك من الآى، فاعرف ذلك أولًا ومبتكرًا. فكذلك قوله عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} أي: كانوا ممن يؤمن بالحق هذا الجنس على سَعته وانتشار جهاته فقد اهتدوا.
ورحم الله ابن عباس! فإن هذا القول وإن كان اعتراضًا عليه، فعنه أيضًا أُخذ وإليه رُد، وغير ملوم مَن نصر الجماعة، وبالله الحول والاستطاعة.
ومن ذلك قراءة الزهري: "لرَوُوف"3 بلا همز، ويُثقِّل.
قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون الهمزة فيه مخففة، فلما أخفاها التخفيف ظُنت واوًا للطف هذا الموضع أن تضبطه القراء؛ وذلك أنا لا نعرف في غير هذه اللفظة إلا الهمز، يقال: رؤُف به، ورأَف به، ورئِف، ولم نسمع فيه راف4 ولا رُفْتُ، والهمزة إذا خففت في نحو هذا لم تبدل، وإنما تُخْفَى، كقولك في سئول فعول من سألت: سَوُول، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة زيد بن علي عليه السلام: "أَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا"5 بفتح الهمزة خفيفة اللام، تنبيه.
__________
1 سورة النساء: 134.
2 سورة النساء: 96.
3 سورة البقرة: 143.
4 في القاموس: "رأف الله تعالى بك مثلثة وراف".
5 سورة البقرة: 150.
(1/114)
________________________________________
قال أبو الفتح: وجهه أن الوقوف في هذه القراءة على قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ثم استأنف مُنبِّهًا فقال: "أَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي"، كقولك مبتدئًا: ألا زيد فأعرض عنه وأقبل عليَّ، وكأنه -عليه السلام- إنما رأى لقول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ؛ فلو قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} لم يقوَ معناه عنده؛ لأنه لا حجة للظالمين على المطيعين، والذي يقوِّي قراءة الجماعة قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فهو معطوف على قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} . وإذا كان عطفًا عليه فأن يكون فهي عقد واحد معه أولى من أن يتراخى عنه، ويكون قوله على هذا: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} استثناء منقطعًا؛ أي: لكن الذين ظلموا منهم يعتقدون أن لهم حجة عليكم، فأما في الحقيقة وعند الله تعالى فلا.
فإن قلت: فقد فَصَل بقوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ثم عطف بقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} ، وقد كرهت الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
قيل: لما كان الأمر للمسلمين بترك خشية الظالمين إنما هو مسبب عن ظلمهم اتصل به اتصال المسبَّب بسببه، فجرى مجرى الجزء من جملته، وليس كذلك استئناف التنبيه بأَلَا، ألا تراها إنما تقع أبدًا في أول الكلام ومرتجلة؟ فاعرف ذلك فرقًا.
ومن ذلك قراءة علي وابن عباس -كرم الله وجوههما- بخلاف وسعيد بن جبير، وأنس بن مالك، ومحمد بن سيرين1، وأبي بن كعب2، وابن مسعود، وميمون بن مهران: "أَلَّا يَطَّوف بهما"3. "23ظ"
قال أبو الفتح: أما قراءة الجماعة: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} تقرُّبًا بذاك؛ أي: فلا جناح عليه أن يطوف بهما تقربا بذاك إلى الله تعالى؛ لأنهما من شعائر الحج والعمرة، ولو لم يكونا من شعائرهما لكان التطوف بهما بدعة؛ لأنه إيجاب أمر لم يتقدم إيجابه، وهذا
__________
1 هو محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرة البصري مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، إمام البصرة مع الحسن، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، مات سنة 110. طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 151.
2 هو أبي بن كعب بن قيس أبو المنذر الأنصاري، قرأ علي النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن العظيم، وقرأ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- للإرشاد والتعليم، اختلف في موته، فقيل: سنة 19، وقيل: سنة 20، وقيل: سنة 30، وقيل غير ذلك. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 31.
3 سورة البقرة: 158.
(1/115)
________________________________________
بدعة، كما لو تطوف بالبصرة أو بالكوفة أو بغيرهما من الأماكن على وجه القربة والطاعة كما تطوف بالحرم؛ لكان بذلك مبتدعًا.
وأما قراءة مَن قرأ: "فلا جُناح عليه ألَّا يطَّوَّف بهما"، فظاهره أنه مفسوح له في ترك ذلك، كما قد يفسح للإنسان في بعض المنصوص عليه المأمور به تخفيفًا؛ كالقصر بالسفر، وترك الصوم، ونحو ذلك من الرخص المسموح فيها.
وقد يمكن أيضًا أن تكون "لا" على هذه القراءة زائدة؛ فيصير تأويله وتأويل قراءة الكافة واحدًا؛ حتى كأنه قال: فلا جناح عليه أن يطَّوف بهما، وزاد "لا"، كما زيدت في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 1 أي: ليعلم.
وكقوله:
من غير لا عَصْف ولا اصطرافِ2
أي: من غير عصف، وهو كثير.
ومن ذلك قراءة الحسن: "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ"3.
قال أبو الفتح: هذا عندنا مرفوع بفعل مضمر يدل عليه قوله سبحانه: "لَعْنَةُ اللَّهِ" أي: وتعلنهم الملائكة والناس أجمعون؛ لأنه إذا قال: عليهم لعنة الله، فكأنه قال: يلعنهم الله، كما أنه قال:
تذكَّرت أرضًا بها أهلها ... أخوالَها فيها وأعمامَها4
__________
1 سورة الحديد: 29.
2 للعجاج، وقبله:
قد يكسب المال الهدان الجافي
ويروى: "بغير" مكان "من غير". والهدان ككتاب: الأحمق الثقيل، والعطف: الكسب، والاصطراف: التصرف في وجوه الكسب، افتعال من الصرف. وانظر: الخصائص: 283، والديوان: 40.
3 سورة البقرة: 161.
4 لعمرو بن قميئة، وكان خرج مع امرئ القيس في سفره إلى قيصر الروم، وهو يتحدث عن ابنته إذ ذكرها في قوله قبل:
قد سألتني بنت عمرو عن الـ ... أرض التي تنكر أعلامها
فيذكر أنها حين جاوزت أرض قومها ورأت بلادًا أنكرتها بكت، وهو يعني بذلك نفسه، فلم يعرف أنها كانت معه.
وانظر: الكتاب: 1/ 144، والخصائص: 2/ 427، والخزانة 2/ 247.
(1/116)
________________________________________
فقد عُلم أنها إذا تذكرت الأرض التي فيها أخوالها وأعمامها فقد دخلوا في جميع ما وقع الذكر عليه، فقال بعد: تذكرت أخوالها وأعمامها.
وكانه لما قال:
أسقَى الإله عُدُوات الوادي ... وجوفَه كل مُلِثٍّ غادي
كل أجش حالك السواد1
فقد سقى الأجش فرفعه بفعل مضر؛ أي: سقاها كل أجش. وهو كثير جدًّا.
ومن ذلك قراءة علي عليه السلام والأغرج، ورُويت عن عمرو بن عبيد2: "خُطُؤات"3 بضمتين وهمزة، وهي مرفوضة وغلط.
وقرأ أبو السمال: "خَطَوات" بفتح الخاء والطاء.
قال أبو الفتح: أما الهمز في هذا الموضع فمردود؛ لأنه من خطوات لا من أخطأت، والذي يُصرف هذا إليه أن يكون كما تهمزه العرب ولا حظَّ له في الهمز، نحو: حَلَّأت السويق، ورَثَأْثُ رُوحي بأبيات، والذئب يستنشئ4 ريح الغنم. والحمل على هذا فيه ضعف؛ إلا أن الذي فيه من طريق العذر أنه لما كان من فعل الشيطان غلب عليه معنى الخطأ، فلما تصور ذلك المعنى أَطلعت الهمزة رأسها، وقيل: "خُطُؤات".
وأما خَطَوات فجمع خَطْوة، وهي الفَعْلَة، والْخُطوة ما بين القدمين، والْخُطُوات كقولك: طرائق الشيطان، والْخَطَوات كقولك: أفعال الشيطان.
ومن ذلك قراءة أُبي وابن مسعود: "ليس البر بأن تولوا وجوهكم"5، قال ابن مجاهد: فإذا كان هكذا لم يجز أن يُنْصب البر.
قال أبو الفتح: الذي قاله ابن مجاهد هو الظاهر في هذا؛ لكن قد يجوز أن يُنْصب "24و" مع الباء، وهو أن تجعل الباء زائدة؛ كقولهم: كفى بالله؛ أي: كفى الله؛ وكقوله تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 6 أي: كفينا، فكذلك "ليس البر بأن تولوا" بنصب البر كما في قراءة السبعة.
__________
1 لرؤبة، ويروى: "جنبات" مكان "عدوات". والعدوات: جمع عدوة، وهي مثلثة: جانب الوادي. والملث من المطر: الدائم الملازم. وانظر: الكتاب: 1/ 146، والديوان: 173.
2 هو عمرو بن عبيد بن باب البصري، روى الحروف عن الحسين البصري وسمع منه، وروى عنه الحروف بشار بن أيوب الناقد، مات سنة 144. "طبقات ابن الجزري: 1/ 602.
3 سورة البقرة: 168.
4 الأصل: حليت، ورثيت، يستنشئ أي: يشم.
5 سورة البقرة: 177.
6 سورة الأنبياء: 47.
(1/117)
________________________________________
فإن قلت: فإن "كفى بالله" شاذ قليل، فكيف قست عليه "ليس"، ولم نعلم الباء زيدت في اسم ليس؛ إنما زيدت في خبرها، نحو قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} 1؟ قيل: لو لم يكن شاذًّا لما جوزنا قياسًا عليه ما جوزناه؛ ولكنا نوجب فيه ألبتة واجبًا، فاعرفه.
ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف وعائشة -رحمهما الله- وسعيد بن المسيب، وطاوس بخلاف، وسعيد بن جبير، ومجاهد بخلاف، وعكرمة، وأيوب السختياني، وعطاء: "يُطَوَّقُونَه"2.
وقرأ "يَطَّوَّقُونَه" على معنى: يتطوقونه مجاهد.
ورُويت عن ابن عباس، وعن عكرمة.
وقرأ "يَطَّيَّقُونَه" ابن عباس بخلاف، وكذلك مجاهد وعكرمة.
وقرأ "يُطَيِّقُونَه" ابن عباس بخلاف.
قال أبو الفتح: أما عين الطاقة فواو؛ لقوهم: لا طاقة لي به ولا طوق لي به؛ وعليه مَن قرأ "يُطَوَّقُونَه" فهو يُفَعَّلُونه منه، فهو كقوله: يُجَشَّمُونه، ويكلفونه، ويجعل لهم كالطوق في أعناقهم.
وأما "يطَّوَّقُونه" فيتَفعَّلونه منه، كقولك: يتكلفونه ويتجشمونه، وأصله: يتطوقونه، فأبدلت التاء طاء، وأدغمت في الطاء بعدها كقولهم: اطَّير يطَّير؛ أي: يتطير.
وتجيز الصنعة أن يكون يتفوعلونه ويتفعولونه جميعًا، إلا أن يتفعَّلونه الوجه؛ لأنه الأكثر والأظهر.
وأما "يَتَطَيَّقُونَه" فظاهره لفظًا أن يكون يتفيعلونه، كتحيَّز أي تفيعل.
أنشدنا أبو علي للهذلي:
فلما جلاها بالإِيَامِ تحيزت ... ثُبات عليه ذلها واكتئابها3
فهذا تفيعلت من حاز يحوز، ومثله تفيهق.
وقد يمكن أن يكون أيضًا يَتَطَيَّقُونه يتفَعَّلُونه، إلا أن العينين أبدلتا ياءين، كما قالوا في تهور الجرف: تهيَّر، وعلى أن أبا الحسن قد حكى هار يَهير.
__________
1 سورة النساء: 123.
2 أي من قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} من سورة البقرة: 184.
3 البيت لأبي ذؤيب، ورُوي: "تحيرت" مكان "تحيزت". الإيام: الدخان، وتحيزت: اجتمع بعضها إلى بعض، وثبات: جماعات. يصف النحل ومشتار العسل. ديوان الهذليين 1/ 79، والخصائص: 3/ 304.
(1/118)
________________________________________
وقد يمكن أيضًا أن يكون هار يهير من الواو فعِل يفعِل، كرأي الخليل في طاح يطيح، وتاه يتيه.
وليس يقوى أن يكون تيطوَّقونه يتفوعلونه ولا يتفعولونه، وإن كان اللفظ هنا كاللفظ بيتَفَعَّل؛ لقلته وكثرته.
ويُؤنِّس بكون يتطيقونه يتفعلونه قراءة مَن قرأ: "يَتَطَوَّقُونه"، وكذلك يُؤنِّس بكون يُطَيَّقُونَه يُفعَّلونه قراءة مَن قرأ: "يُطَوَّقُونه"، والظاهر من بعد هذا أن يكون يُفَيعلُونه.
ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي} 1 يعني: آدم -عليه السلام- لقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} 2.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على فساد قول مَن قال: إن لام التعريف إنما تدخل الأعلام للمدح والتعظيم، وذلك تحو: العباس، والمظفر، وما جرى مجراهما. ووجه الدلالة من ذلك: أن قوله "الناسي" إنما يُعنى به آدم -عليه السلام- فصارت صفة غالبة كالنابغة والصَّعِق، وكذلك الحارث والعباس والحسن والحسين، هي وإن كانت أعلامًا فإنها تجري مجرى "25ظ" الصفات؛ ولذلك قال الخليل: إنهم جعلوه الشيء بعينه؛ أي: الذي حرَث وعَبَسَ، فمحمول هذا أن في هذه الأسماء الأعلام التي أصلها الصفات معاني الأفعال؛ ولذلك لحقتها لام المعرفة كما تعرف الصفات، وإذا كان فيها معاني الأفعال، وكانت الأفعال كما تكون مدحًا فكذلك ما3 تكون ذمًّا، فهي تحقق في العلم معنى الصفة، مدحًا كانت الصفة أو ذمًّا.
فالمدح ما ذكرناه من نحو: الحارث والمظفر والحسين والحسن، والذم ما جاء في نحو قولهم: فلان بن الصَّعِق؛ لأن ذلك داء ناله4، فهي بلوى، وأن يكون ذمًّا أولى من أن يكون مدحًا، ألا ترى أن المدح ليس من مَقَاوم ذكر الأمراض والبلاوي، وإنما يقال فيه: إنه كالأسد، وإنه كالسيف؟ ومنه عمرو بن الحمِق، فهذا ذم له لا مدح، وعلى أنهم قد قالوا في الحمق: إنه الصغير اللحية، والمعنى الآخر أشيع فيه، ألا ترى إلى قوله:
فأما كيس فنجا ولكن ... عسى يغتر بي حَمِق لئيم؟ 5
ومنه قولهم: فلان بن الثعلب، فدخلته اللام، هو علم لما فيه من معنى الخِبِّ والْخُبث،
__________
1 سورة البقرة: 199.
2 سورة طه: 115.
3 ما زائدة.
4 في ك: ياله.
5 انظر: الكتاب: 1/ 478.
(1/119)
________________________________________
وذلك عيب فيه لا ثناء عليه، والباب فيه فاشٍ واسع؛ فقد صح إذن أن ما جاء من الأعلام وفيه لام التعريف فإنما ذلك لما فيه من معنى الفعل والوصفية، ثناء عليه كان ذلك أو ذمًّا له، وإنما دعا الكُتَّاب ونحوهم إلى أن قالوا: إن دخول اللام هنا إنما هو لمعنى المدح أن كان أكثره كذلك؛ لأنه إنما العرف فيه أن يسمى من الأسماء الحاملة لمعاني الأفعال مما كان فيه معنى المدح، لا أن هذا مقصور على المدح دون الذم عندنا لما ذكرنا.
ومن ذلك ما روى ابن مجاهد عن الزِّمْل بن جَرْوَل قال: سألت سالم بن عبد الله بن عمر عن النَّفْر فقرأ: "فمن تعجل في يومين فَلَثْمَ عليه، ومن تأخر فَلَثْمَ عليه"1.
قال أبو الفتح: أصله قراءة الجماعة: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} إلا أنه حذف الهمزة ألبتة، فالتقت ألف "لا" وثاء "الاثم" ساكنين، فحذف الألف من اللفظ لالتقاء الساكنين، فصارت "فَلَثْمَ عليه".
وقد مر بنا من حذف الهمزة اعتباطًا وتعجرفًا من نحو هذا أشياء كثيرة؛ من ذلك قراءة ابن كثير: "إنها لَحْدَى الكُبَر"2،
فهذا في الحذف كقوله: "فَلَثْمَ عليه"، إلا أن بينهما من حيث أذكر فرقًا؛ وذلك أن قوله: "لَحْدَى الكُبَر" إنما فيه حذف الهمزة لا غير، وقوله: "فَلَثْمَ عليه" أصله "فلا إثم"، فلما حذف الهمزة تخفيفًا -وإن لم يكن قياسًا- التقت الألف مع ثاء إثم وهي ساكنة، فحذفت الألف من "لا" لالتقاء الساكنين؛ فصار "فَلَثْمَ عليه".
ومثل ذلك سواء مذهب الخليل في "لن"، ألا ترى أن أصلها عنده "لا أن"، فلما حذفت الهمزة التقت ألف "لا" مع نون "أن" فحذفت الالف من "لا" لالتقاء الساكنين، وقد جاء نظيرًا لهذا من حذف الهمزة شيء صالح الكثرة؛ منه قوله:
إن لم أُقاتل فالبسوني برقعا3
أراد: فألبسوني، ثم حذف الهمزة.
وأنشد أبو الحسن:
تَضِبُّ لِثَاتُ الخيل في حَجَراتها ... وتسمع من تحت العجاج لَهَزْمَلا4
__________
1 سورة البقرة: 203.
2 سورة المدثر: 35، وفي البحر المحيط 8/ 378: "قرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير بحذف الهمزة، وهو حذف لا ينقاس، وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين".
3 الخصائص: 3/ 151.
4 تضب لثات الخيل: تسيل بالدم، وحجراتها: نواحيها، والعجاج: الغبار، والأزمل: الصوت. وانظر: الخصائص: 3/ 151.
(1/120)
________________________________________
أراد: لها أزملا، فحذف الهمزة. نعم، ثم حذف ألف "ها" لفظًا لسكونها وسكون الزاي من بعدها "26و" وعليه القراءة: "أريتَكَ هذا الذي كرَّمتَ عليَّ"1 يريد: أرأيتك.
وأنشد أحمد بن يحيى:
أريتك إن شطَّت بك العام نية ... وغالك مُصطَافُ الحِمى ومرابعه
وجاء عنهم: سا يسو، وجا يجي، بحذف الهمزة فيهما، وقد أثبتنا من هذا حروفًا جماعة في كتابنا الخصائص2، وعلى كل حال فحذف الهمزة هكذا اعتباطًا ساذجًا ضعيف في القياس، وإن فشا في بعضه الاستعمال.
ومن ذلك ما رواه هارون عن الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن: "وَيَهْلَكُ"3 بفتح الياء واللام ورفع الكاف "الحرثُ والنسلُ" رفع فيهما.
قال ابن مجاهد: وهو غلط.
قال أبو الفتح: لعمري إن ذلك تَرْك لما عليه اللغة، ولكن قد جاء له نظير؛ أعني قولنا: هلَك يهلَك، فعَل يفعَل، وهو ما حكاه صاحب الكتاب من قولنا: أَبى يأبَى، وحكى غيره: قنَط يقنَط، وسلَا يسلَى، وجبا4 الماء يجبَاه، وركَن يركَن، وقلا يقلَى، وغسا 5 الليل يغسَى. وكان أبو بكر يذهب في هذا إلى أنها لغات تداخلت؛ وذلك أنه قد يقال: قنَط وقنِط، وركَن وركِن، وسلَا وسلِي، فتداخلت مضارعاتها، وأيضًا فإن في آخرها ألفًا، وهي ألف سلا وقلا وغسا وأبي؛ فضارعت الهمزة نحو: قرأ وهدأ.
وبعد، فإذا كان الحسن وابن أبي إسحاق إمامين في الثقة وفي اللغة؛ فلا وجه لدفع ما قرآ به، لا سيما وله نظير في السماع.
وقد يجوز أن يكون يهلَك جاء على هلِك بمنزلة عطِب، غير أنه استغنى عن ماضيه بهلَك، وقد ذكرنا نحو هذا في كتبانا المنصف6.
__________
1 سورة الإسراء: 61، وفي إتحاف فضلاء البشر 173: وقرأ "أرايتك" بتسهيل الهمزة الثانية نافع وأبو جعفر، وعن الأزرق أيضًا إبدالها ألفًا خالصة مع إشباع المد للساكنين، وحذفها الكسائي، وحققها الباقون.
2 انظر "باب في حذف الهمز وإبداله" في الخصائص 3/ 149.
3 سورة البقرة: 205.
4 جبا الماء: جمعه.
5 غسا الليل: أظلم.
6 انظر: المنصف، الجزء الأول، الصفحة: 186.
(1/121)
________________________________________
ومن ذلك قراءة أبي السمال: "فإن زَلِلْتُمْ"1 بكسر اللام.
قال أبو الفتح: هما لغتان: زلَلْت وزلِلْت، بمنزلة ضلَلْت وضلِلْت، إلا أن الفتح فيهما أعلى اللغتين، واسم الفاعل منهما ضال، ولو جاء ضليل لكان قياسًا على ما جاء عنهم من فعيل في فَعَل من المضاعف، نحو: خَفَّ فهو خفيف، وعز فهو عزيز، وقل فهو قليل، وجد فهو جديد، وذلك أنه قد جاء فعيل في فعل من غير المضاعف، وذلك كسد البيع فهو كسيد، وفسد فهو فسيد، فلما جاء ذلك في غير المضاعف كان المضاعف أولى به؛ لثقل الإدغام في ضال وفار، وقد ذكرنا ذلك مشروحًا في غير هذا الموضع من كلامنا.
ومن ذلك ما رُوي عن قتادة في قول الله سبحانه: "فِي ظِلَالٍ مِنَ الْغَمَامِ"2.
قال ابن مجاهد: هو جمع ظِل.
قال أبو الفتح: الوجه أن يكون جمع ظُلة، كجُلة3 وجِلال، وقُلة وقِلال؛ وذلك أن الظل ليس بالغيم، وإنما الظُّلة الغيم، فأما الظل فهو عدم الشمس في أول النهار، وهو عرَض والغيم جسم.
ومن ذلك ما رواه ابن طاوس عن أبيه أنه قرأ: "وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ أَصْلِحْ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ"4.
قال أبو الفتح: خير مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أصلح إليهم فذلك خير. وإذا جاز حذف هذه الفاء مع مبتدئها في الشرط الصحيح نحو قوله:
بني ثُعَل لا تنكَعوا العنز شِرْبَها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم5
"26ظ" أي: فهو ظالم، كان حذف الفاء هنا، وإنما الكلام بمعنى الشرط لا بصريح لفظه، أجدر وأحرى بالجواز.
وقال: "إليهم" لما دخله معنى الإحسان إليهم، وقد ذكرنا نحو ذلك كثيرًا مما هو محمول على المعنى.
ومن ذلك قراءة مسلمة بن محارب6: "وَبُعُولَتْهُنَّ أَحَقُّ"7 ساكنة التاء.
__________
1 سورة البقرة: 209.
2 سورة البقرة: 210.
3 الجلة: وعاء من خوص.
4 سورة البقرة: 220.
5 لرجل من بني أسد. ولا تنكعوا: لا تمنعوا، الشرب: النصيب. انظر: الكتاب: 1/ 436.
6 هو مسلمة بن محارب بن دثار السدوس الكوفي، عرض على أبيه، وعرض عليه يعقوب الحضرمي. طبقات ابن الجزري 2/ 298.
7 سورة البقرة: 228.
(1/122)
________________________________________
قال أبو الفتح: قد سبق نحو هذا في قراءة أبي عمرو: "يأمُرْكم"، وأنشدنا فيه الأبيات التي أحدها قول جرير:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى ولا تعرفْكم العرب1
أراد: لا تعرفُكم، فأسكن الفاء استخفافًا لثقل الضمة مع كثرة الحركات.
ومن ذلك ما رواه هارون عن أَسِيد عن الأعرج أنه قرأ: "لا تُضارْ والدة"2 جزم، كذا قال، جزم.
قال أبو الفتح: إذا صح سكون الراء في "تضار" فينبغي أن يكون أراد: لا تضارِر، كقراءة إبي عمرو، إلا أنه حذف إحدى الراءين تخفيفًا، وينبغي أن تكون المحذوفة الثانية؛ لأنها أضعف، وبتكريرها وقع الاستثقال. فأما قول الله تعالى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} 3 فإن المحذوف هي الأولى؛ وذلك أنهم شبهوا المضعف بالمعتل العين، فكما قالوا: لستَ قالوا: ظلت، ومثله مَستُ في مسِستُ، وأحسْتُ في أحسستُ، قال أبو زُبيد:
خلا أن العِتاق من المطايا ... أحسن بن فهُنَّ إليه شُوسُ4
فإن قلت: فهلا كانت الأولى هي المحذوفة من تضارِر كما حذفت الأولى من ظلِلت ومسِست وأحسست؟
قيل: هذه الأحرف إنما حُذفن لأنهن شُبهن بحروف اللين، وحروف اللين تصح بعد هذه الألف نحو: عَاوَدَ وطَاوَلَ وبَايَعَ وسَايَر، والثانية في موضع اللام المحذوفة، نحو: لا تُرامِ.
فإن قيل: فكان يجب على هذا "لا تضارِ"؛ لأن الأولى مكسورة في الأصل؛ فيجب أن تُقر على كسرها.
__________
1 انظر الصفحة 110 من هذا الجزء، والمروي هنا عن أبي عمرو مع الشواهد التي أشار إليها هو: "يعلمهم"، "يلعنهم"، و"إلى بارئكم".
2 سورة البقرة: 233.
3 سورة طه: 97.
4 من قصيدة في وصف الاسد. ويروى: "سوى" مكان "خلا". وقبله:
فباتوا يدلجون وبات يسري ... بصير بالدجى هاد عموس
إلى أن عرسوا وأنخت منهم ... قريبًا ما يُحَس له مسيس
وعموس: قوى شديد، وشوس: جمع أشوس وشوساء، من الشوس؛ وهو النظر بمؤخَّر العين تكبرًا أو تغيظًا. وانظر: الخصائص: 2/ 438، والمنصف: 3/ 84، وشواهد الكشاف الملحق به: 69.
(1/123)
________________________________________
قيل: لا، بل لما حذفت الثانية وقد كانت الأولى ساكنة؛ لأنها كانت مدغمة في الثانية أُقرت على سكونها؛ ليكون دليلًا على أنها قد كانت مدغمة قبل الحذف، ولذلك نظائر منها قوله:
وكحَل العينين بالعواوِر1
صحح الواو الثانية وإن كانت تلي الطرف، وقبل الألف التي قبلها واو؛ لأنه جعل الصحة في الواو دليلًا على أنه أراد العواوير، ولو لم يرد لذلك لوجب أنه يهمز فيقول: العوائر، كما همزوا في أوائل وأصلها أواول، وكما جعلوا صحة العين في حَوِلَ وعَوِرَ دليلًا على كون المثال في معنى ما لا بد من صحته، وهو احولَّ واعورَّ، وكما جعلوا ترك رد النون في قوله:
ارهن بنيك عنهم أرهن بني2
دليلًا على أنه أراد بنيّ، فلما حذف الياء الثانية التي هي ضمير المتكلم لم يرجع النون من بنين؛ لأنه جعله دليلًا على إرادة الياء في بَنيّ، وأنه إنما حذفها للقافية، وهي في نفسه مرادة. وكما قال:
مال إلى أرطاة حِقف فاضطجع3
ثم أبدل الضاد لامًا فقال: الطجع، وقد كان يجب إذا زالت الضاد أن ترجع تاء افتعل إلى اللفظ، وذلك "27و" أن أصله اضتجع افتعل من الضجعة، فيظهر التاء كما يقال: التجأ إليه والتفت والتقم؛ لكنه ترك الطاء بحالها تنبيهًا على أنه يريد الضاد، وأنه لما أبدلها لامًا اعتدها مع ذلك اعتداد الثابت.
ولذلك نظائر كثيرة، فكذلك ترك الراء من "تُضَارْ"ساكنة كما كانت تكون ساكنة لو خرجت على الإدغام المراد فيها. نعم، وإذا كان نافع قد قرأ: "ومَحْيايْ ومماتي"4 ساكن الياء من "محيايْ"، ولا تقدير إدغام هناك كان سكون الراء من "لا تضارْ" -وهو يريد تضارّ- أجدر.
وبعد هذا كله ففيه ضعف، ألا ترى أنك لو رخمت قاصًّا -اسم رجل- على قولك: يا حارِ؛ لقلت: يا قاصِ، فرددت عين الفعل إلى الكسر لأنه فاعل، وأصله قاصِص، فمن هنا ضعفت هذه القراءة وإن كان فيها من الاعتذار والاعتلال ما قدمنا ذكره.
__________
1 انظر الصفحة 107 من هذا الجزء.
2 انظر الصفحة 108 من هذا الجزء.
3 انظر الصفحة 107 من هذا الجزء.
4 سورة الأنعام: 162.
(1/124)
________________________________________
وقد روي فيها تشديد الراء مع السكون، ويجب أن يكون هذا على نية الوقف عليها، رُوي ذلك عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع1.
ومن ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عليه السلام: "وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ"2 بفتح الياء.
قال ابن مجاهد: ولا يُقرأ بها.
قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد عندي مستقيم جائز؛ وذلك أنه على حذف المفعول؛ أي: والذين يتوفون أيامهم أو أعمارهم أو آجالهم، كما قال "سبحانه": {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ} 3، و {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} 4، وحَذْفُ المفعول كثير من القرآن وفصيح الكلام، وذلك إذا كان هناك دليل عليه، قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 5 أي: شيئًا، وأنشدنا أبو علي للحطيئة:
منعمة تصون إليك منها ... كصونك من رداء شَرعَبِيِّ6
أي: تصون الكلام منها، وهو كثير جدًّا.
ومن ذلك قراءة الحسن: "أو يعفُو الذي" 7 ساكنة الواو.
قال أبو الفتح: سكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل، وسكون الياء فيه أكثر، وأصل السكون في هذا إنما هو للألف؛ لأنها لا تحرك أبدًا، وذلك كقولك: أريد أن تحيا، وأحب أن تسعى، ثم شُبهت الياء بالألف لقربها، فجاء عنهم مجيئًا كالمستمر، نحو قوله:
كأن أيديهن بالْمَومَاة ... أيدي جَوارٍ بِتْنَ ناعماتِ8
__________
1 هو يزيد بن القعقاع المخزومي المدني، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور، كبير القدر، عرض القراءة على مولاه عبد الله بن عياش، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وروى عنهم، مات بالمدينة سنة 130، وقيل غير ذلك. طبقات القراء: 2/ 382.
2 سورة البقرة: 234.
3 سورة المائدة: 117.
4 سورة النحل: 28، 32.
5 سورة النمل: 23.
6 تصون إليك: أي عندك، الشرعبي: ضرب من ثياب اليمن. وروى: "تصور" مكان "تصون"، و"كصوك" مكان "كصونك" أي: تميل إليك منها عند العناق كإمالتك الرداء عند التحامك به. وانظر: الديوان: 35، والخصائص: 2/ 372.
7 سورة البقرة: 237.
8 يصف إبلًا دميت أخفافها وأراد أيدي جوار مخضبات، فلما كان الخضاب من التنعم قال: ناعمات، وهذا من الإشارة والوحي، وانظر: سمط اللآلي: 755.
(1/125)
________________________________________
وقال الآخر:
كأن أيديهن بالقاع القَرِق ... أيدي جوار يتعاطين الورِق1
وقال الأعشى:
إذا كان هادي الفتى في البلا ... دِ صدرُ القناة أطاع الأميرا2
فيمن رواه برفع الصدر.
وقال الآخر:
حُدْبًا حَدابير من الوَخْشَنِّ ... تركنَ راعيهن مثل الشَّنِّ3
وقال الآخر:
يا دار هند عفت إلا أثافيها4
وقال رؤبة:
سوَّى مساحيهن تقطيط الْحُقَقْ ... تَفْليلُ ما قارعْن من سُمرِ الطُّرَق5
وكان أبو العباس يذهب إلى أن إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضرورات؛ وذلك لأن الألف ساكنة في الأحوال كلها، فكذلك "26ظ" جعلت هذه، ثم شبهت الواو في ذلك بالياء، فقال الأخطل:
إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها ... رفعن، وأنزلن القطين المولَّدا6
__________
1 لرؤبة. وضمير أيديهن للإبل، والقَرِق: الأملس، وقيل: المستوي من الأرض الواسع، وخص بالوصف لأن أيدي الإبل إذا أسرعت في المستوى فهو أحمد لها، وإذا أبطأت في غيره أجهدها، والورِق: الدراهم. وانظر: الديوان: 179، والخزانة: 3/ 529، والخصائص: 1/ 306.
2 صدر القناة: أعلى العصا التي يقبض عليها لأنه أعمى، الأمير: الذي يأمره ويقوده. وانظر: الديوان: 95.
3 الحدابير: جمع حدبار أو حدبير؛ وهي من النوق التي انحنى ظهرها من الهزال ودبر، والوخشن: يريد به الوخش، وزاد فيه نونًا ثقيلة، والوخشن: رذالة الناس وصغارهم وغيرهم، يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد. وفي نسختي الأصل: الرخش بالراء، وهو تحريف.
4 نسبه في الكتاب 2/ 55 إلى بعض السعديين ولم يتمه.
5 مساحيهن: الضمير للحمر، جمع مسحاة؛ وهي الآلة التي يسحى بها الطين؛ أي: يجرف، واستعيرت المساحي هنا لحوافر الحمر، والتقطيط: قطع الشيء، وأرد به تقطيع حقق الطيب وتسويتها، نصبه على المصدر المشبه به؛ لأن معنى سوى وقطط واحد، وتفليل فاعل سوى؛ أي: سوى مساحيهن تكسير ما قارعت من الطرق، جمع طرقة؛ وهي حجارة بعضها فوق بعض. اللسان "قط، وسحا"، والديوان: 106، ورُوي في اللسان: "سم" مكان "سمر"، وذكر الكلمة بلفظها هذا في أثناء شرح البيت ولم أدرك لها معنى هنا، والظاهر أنه تحريف.
6 يُروى: "نزلن" مكان "رفعن". والقطين: الخدم. يقول: إذا أردت أن تلهو بحديثهن أسرعن السير، وأنزلن خدمهن لئلا يسمعوا كلامهن. وانظر: الديوان: 91، والخصائص: 2/ 342.
(1/126)
________________________________________
وقال الآخر:
فما سوَّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب1
فعلى ذلك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن: "أو يعفُو الذي"، فقال ابن مجاهد: وهذا إنما يكون في الوقف، فأما في الوصل فلا يكون، وقد ذكرنا ما فيه، وعلى كل حال فالفتح أعرب: "أو يعفُوَ الذي".
ومن ذلك قراءة علي -عليه السلام- وأبي رجاء وجُؤيَّة بن عائذ2: "ولا تَنَاسَوُا الفضل بينكم"3.
قال أبو الفتح: الفرق بين تَنْسَوْا وتَنَاسَوْا أن تنسوا نَهْي عن النسيان على الإطلاق: انْسُوه أو تَنَاسَوه.
فأما تناسوا فإنه نهي عن فعلهم الذي اختاروه، كقولك: قد تغافل وتصامَّ وتناسى: إذا أظهره من فعله، وتعاطاه وتظاهر به، وأما تَفَعَّل فإنه تَعَمُّلُ الأمر وتكلفه، كقوله:
ولن تستطيع الحلم حتى تحلما4
أي: حتى تَكَلَّفه.
ومثل الأول قوله:
إذا تخازَرتُ وما بي من خَزَر5
فإن قيل: ومَن ذا الذي يتظاهر بنسيان الفضل؟
قيل: معناه -والله أعلم- إنكم إذا استكثرتم من هجر الفضل، وتثاقلتم عنه؛ صرتم كأنكم متعاطون لتركه، متظاهرون بنسيانه. وهذا كقولك للرجل يكثر خَطَؤُه: أنت تتحايد الصواب تَوقِّيَ، عرف به، وأنت معتمِلٌ لما لا يحسن، وإن لم يقصد هو لذلك.
__________
1 لعامر بن الطفيل. وانظر: الخصائص: 2/ 342، والخزانة: 3/ 527.
2 في طبقات القراء لابن الجزري 1/ 199: جؤية بن عاتك، ويقال: ابن عائد، أبو نواس الأسدي الكوفي، روى القراءة عن عاصم، وروى القراءة عنه نعيم بن يحيى.
3 سورة البقرة: 227.
4 صدره:
تَحَلَّم عن الأدنين واستَبْقِ ودَّهُمْ
وانظر: اللسان "حلم".
5 تخازر: ضيق جفنه ليحدد النظر ... وانظر: الكتاب: 2/ 39، واللسان "خزر".
(1/127)
________________________________________
ويُحسِّن هذه القراءة: أنك إنما تنهى الإنسان عن فعله هو، والتناسي من فعله، فأما النسيان فظاهره أنه من فعل غيره به، فكانه أُنسي فنَسِيَ، قال الله سبحانه: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} 1.
وزاد في حسنه شيء آخر؛ وهو أن المأمور هنا جماعة، وتفاعَلَ لائق بالجماعة؛ كتقاطعوا وتواصلوا وتقاربوا وتباعدوا. فأما قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 2 فلاقَ به فعل "نسي"؛ لأن المأمور هنا واحد، ولأن العرف والعادة أن الإنسان لا يكاد يُحض على ما هو حلال له؛ بل الغالب المعتاد أن يُكفَّ عما ليس له تناوله، وعليه وضع التكليف لما يُستحق عن الطاعة فيه من الثواب، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ} 3، وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} 4، والآي في ذلك كثيرة.
فقوله إذن: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 3 أي: لك فيها حظ وحلال فتناوله، فلا بأس بتناول الحلال.
ولو قيل: "ولا تناس نصيبك" لكان فائدته: لا تُظهر سهوك عنه، وتتظاهر بنسيانك إياه، وذلك إذا ترك الحلال وهو في صورة الساهي عنه لم تكن له في النفوس منزلة الذي يتركه وهو عالم بحِلِّه له، وإباحته إياه، هذا هو العادة والعرف فيما يتعاطاه أهل الدنيا بينهم.
ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحن السلمي: "ألم تَرْ إلى الملأ"5 ساكنة الراء. "27و"
قال أبو الفتح: هذا لعمري هو أصل الحرف: رأَى يرأَى كرعَى يرعَى، إلا أن أكثر لغات العرب فيه تخفيف همزته؛ بحذفها وإلقاء حركتها على الراء قبلها على عبرة التخفيف في نحو ذلك، وصار حرف المضارعة كأنه بدل من الهمزة، وهو قولهم: انت ترى وهو يرى ونحن نرى، وكذلك أفعل منه، كقول الله سبحانه: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 6 وأصله: أَرْآك الله، وحكاها صاحب الكتاب عن أبي الخطاب7، ثم إنه قد جامع هذا تحقيق هذه الهمزة وإخراجها على أصلها، وذلك كقول سراقة البارقي:
أُرِي عينيَّ ما لم تَرْأَيَاه ... كلانا عالم بالتُّرَّهَات8
__________
1 سورة الكهف: 63.
2 سورة القصص: 77.
3 سورة طه: 131.
4 سورة الأعراف: 199.
5 سورة البقرة: 246.
6 سورة النساء: 105.
7 هو عبد الحميد بن عبد المجيد أبو الخطاب الأخفش الأكبر، مولى قيس بن ثعلبة أحد الأخافشة الثلاثة المشهورين، كان إمامًا في العربية، لقي الأعراب وأخذ عنهم وعن أبي عمرو بن العلاء، أخذ عنه سيبويه والكسائي ويونس. بغية الوعاة: 296.
8 انظر: ديوان سراقة: 78، واللسان "رأى"، والنوادر: 185، والترهات: الأباطيل، واحدها ترهة.
(1/128)
________________________________________
فخفف أري، وحقق ترأياه كقولك: تَرْعَيَاه، ورواه1 أبو الحسن ترياه على زحاف الوافر، وأصله "ترأياه" على أن مفاعلَتن لحقها العصب بسكون لامها؛ فنقلت إلى مفاعي لن، ورواية أبي الحسن: "بما لم تَـ" مفاعيل؛ فصار الجزء بعد العصب إلى النقص.
وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد:
ألم تَرءَ ما لاقيت والدهر أعصر ... ومَن يَتَمَلَّ العيش يرء ويسمع2
فأخرجه على أصله. وقرأت عليه عنه أيضًا:
هل ترجعَنَّ ليال قد مضَين لنا ... والعيشُ منقلب إذ ذاك أفنانا
إذ نحن في غرة الدنيا وبهجتها ... والدار جامعة أزمان أزمانا
ثم استمر بها شَيْحانُ مبتجِحٌ ... بالبين عنك بما يَرْآك شَنْآنا3
وقال آخر، وقرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى فيما أظن:
ألا تلك جارتنا بالغضا ... تقول أَتَرأَينَه لن يضيعَا4
وله نظائر مما خرج من هذا الأصل على أولية حاله.
ومن ذلك قال أبو بكر بن مجاهد: "التابوت"5 بالتاء قراءة الناس جميعًا، ولغة للأنصار6 "التابوه" بالهاء.
قال أبو الفتح: أما ظاهر الأمر، فأن يكون هذان الحرفان من أصلين؛ أحدهما: تَ بَ ت، والآخر: ت ب هـ، ثم من بعد هذا فالقول أن الهاء في "التابوه" بدل من التاء في "التابوت"، وجاز ذلك لما أذكره: وهو أن كل واحد من التاء والهاء حرف مهموس، ومن حروف الزيادة في غير هذا الموضع، وأيضًا فقد أبدلوا الهاء من التاء التي للتأنيث في الوقف، فقالوا: حمزهْ،
__________
1 في ك: روى.
2 بعده:
بأن عزيزًا ظل يرمي بحوزه ... إلى وراء الحاجزين ويُفرع
تملى العيش: استمتع به، والحاجزين: جمع حاجز، يفرع: يأخذ في بطن الوادي، خلاف يصعد. انظر: النوادر: 185، 186.
3 رُوي: "ولذتها" مكان "وبهجتها"، والشيحان بالفتح وبالكسر: الغيور، والمتبجح: الفخور. انظر: النوادر: 184، والخصائص: 2/ 364.
4 أورده في اللسان "رأى" ولم ينسبه.
5 سورة البقرة: 248.
6 في ك: ولغة الأنصار.
(1/129)
________________________________________
وطلحهْ، وقائمهْ، وجالسهْ، وذلك منقاد مطرد في هذه التاء عند الوقف، ويؤكد هذا أن عامة عُقيل فيما لا نزال نتلقاه من أفواهها تقول في الفرات: الفراه، بالهاء في الوصل والوقف.
وزاد في الأُنس بذلك أنك ترى التاء في الفرات تشبه في اللفظ تاء فتاة وحصاة وقطاة، فلما وقف وقد أشبه الآخِر الآخر أبدل التاء هاء، ثم جرى على ذلك في الوصل؛ لأنه لم يكن البدل عن استحكام العلة علة، فيُراعى حال الوقف من حال الوصل ويفصل بينهما، فأشبه ذلك قولهم في صِبيان وصِبية: صُبينا وصُبية؛ وذلك أن الأصل صِبوان وصِبوة، ثم قلب الواو ياء استخفافًا للكسرة قبلها، ولم يعتد بالساكن بينهما حاجزًا لضعفه، ثم لما ضموا "28ظ" وزال الكسر أقروا الياء بحالها؛ جنوحًا إليها لخفتها، ولعلمهم أيضًا أن البدل من الواو لم يكن عن استحكام علة فيعادوا الأصل لزوالها، فلما تصوروا ضعف سبب القلب قنَّعوا1 أنفسهم بالعدول إلى جهة الياء، فقالوا: صُبيان وصُبية، حتى كأن قائلا قال لهم: هلا لما زالت الكسرة راجعتم الواو، فقالوا: أَوَكَان القلب إنما كان عن وجوب أحدثته الكسرة حتى إذا فارقناها عاودنا الواو؟ إنما كان استحسانًا، وكذلك فليكن مع الضمة أيضًا استحسانًا.
ومن ذلك ما رُوي عن الزهري والأعرج وأبي جعفر بخلاف عنهم: "ولا يَوُودُه حِفْظَهُمَا"2 بلا همز، ولم يُقَل: كيف قالوا؟
قال ابن مجاهد: من لم يهمز قال: "يَوُودُه" فخلف الهمزة بواو ساكنة، فجمع بينها وبين الواو، فيجتمع ساكنان، فإن شاء ضمها فقال: "يَوُودُه"، ومن ترك الهمز أصلًا قال: "يَوْدُه"3.
قال أبو الفتح: خلَّط ابن مجاهد في هذا التفسير تخليطًا ظاهرًا غير لائق بمن يُعتد إمامًا في روايته، وإن كان مضعوفًا في فقاهته؛ وذلك أن قوله تعالى: {يَؤُودُهُ} لك فيه التحقيق والتخفيف، فمن حقَّق أخلصها همزة، قال: {يَؤُودُهُ} كيعوده، ومن خفَّف جعل الهمزة بين بين؛ أي: بين الهمزة والواو؛ لأنها مضمومة، فجرى مجرى قولك في تخفيف لَؤم: لَوُم، وفي مئونة: موُونة، ولا يخلصها واوًا لأنها مضمومة، فقوله: بلا همز؛ أي: يخففها، كذا أُحسِن الظن بهؤلاء المشيخة.
__________
1 قنعوا أنفسهم: أرضوها.
2 سورة البقرة: 255.
3 قال في البحر المحيط 2/ 280: "قرأ الجمهور: "يئوده" بالهمز، وقرئ شاذًّا بالحذف كما حذفت همزة أناس، وقرئ أيضًا: "يووده" بواو مضمومة على البدل من الهمز".
(1/130)
________________________________________
فأما ترك الهمز أصلًا فشاذ، وينبغي لمن هو دونهم أن يصان عن أن يُظن ذلك به، فقول ابن مجاهد: إنه يخلف من الهمزة واو ساكنة فيجتمع ساكنان شديد الاضطراب؛ وذلك أنه قد سبق أن سبيل هذا أن يُخفِّف ولا يبدل، وإذا كان مخفِّفًا فالواو متحركة لا ساكنة، فلا ساكنين هناك أصلًا.
نعم، ثم لما قال: إنه يجتمع ساكنان لم يذكر ماذا يُعْمَل فيهما؟ قال: وإن شاء ضمها فقال: "يَوُودُه"، وهذا هو الذي ينبغي أن يعمل عليه؛ ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يُضم الواو؛ بل الضمة على الهمزة، إلا أنها مخففة فقربت بذلك من الواو لضعفها مع ضمها.
وقوله فيما بعد: ومَن ترك الهمز أصلًا قال: "يَوْدُه" يؤكد ما كنا قدمناه من أن قوله: لا يهمز، إنما يريد به التخفيف لا يريد البدل والحذف، ولولا ذلك لم يَقل: ومن ترك الهمز أصلًا، فقوله: "أصلًا" يدل على أنه لا يريد التخفيف الذي كان قدَّمه.
وبعد، فمن ترك الهمزة أصلًا؛ أي: حذفها ألبتة كما يحذفها من قولهم: لاب لك؛ أي: لا أب لك، ومن قولهم: وَيَلُمِّه، وأصلها: ويلٌ لأُمه، ومن قولهم: ناس وأصلها أناس، والله في أحد قولي سيبويه الذي أصله فيه إله، وغير ذلك، فإنه إذا هو حذفها بقيت بعدها الواو التي هي عين الفعل ساكنة فصارت: "يَوْدُه" ومثاله على هذا اللفظ يَعلُه، وأصل هذا كله يَأْودُه كيعوده، يَفعُله كيقتله ونعبده، ثم نقلت الضمة من الواو التي هي عين الفعل "28و" إلى الهمزة التي هي فاء فعله، كما نقلت في يعود من الواو إلى العين فصارت "يئوده" كيعوده، ووزنه الآن يفْعُله، هكذا محصول لفظه، فإذا هو حذف الهمزة ألبتة -وهي فاء الفعل- بقي يَوْدُه في ومن يعلُه، والفاء على ما مضى محذوفة، وعلى أن هذا الحذف لا يُقْدِم أحدٌ عليه قياسًا لنكارته وضيق العذر في اقتباسه، اللهم أن يسمع شيء منه فيودَّى على ما فيه، ويُشرح حديثه بواجب مثله، ولا يحمل سواه على مثل حاله.
ومن ذلك ما رواه جويرية بن بشير، قال: سمعت الحسن قرأها: "أولياؤهم الطَّواغيت"1.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يُفهم هذا الموضع؛ فإن فيه صنعة؛ وذلك أن الطاغوت وزنها في الأصل فَعَلُوت، وهي مصدر بمنزلة الرغَبوت والرهَبوت والرحَموت، وقد يقال فيها: الرَّغَبُوتَى والرهبوتى والرحموتى، ويدل على أنها في الأصل مصدر وقوع الطاغوت على الواحد والجماعة
__________
1 سورة البقرة: 257.
(1/131)
________________________________________
يلفظ واحد، فجرى لذلك مجرى قوم عدل ورضًا، ورجل عَدلٌ ورضا، ورجلان عدل ورضا، فأما أصلها فهو طغيُوت؛ لأنها من الياء، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} 1، هذا أقوى اللغة فيها؛ لأن التنزيل ورد به.
وروينا عن قطرب وغيره فيها الواو، طغا يطغو طُغُوًّا، وقد يجوز على هذا أن يكون أصله: طَغَوُوت، كفَعَلُوت من غَزَوتُ: غَزَوُوت، وأنا آنس بالواو في هذه اللفظة لما أذكره لك بعد. ثم إن اللام قدمت إلى موضع العين، فصارت بعد القلب طَيَغُوت أو طَوَغُوت، فلما تحركت الياء أو الواو وانفتح ما قبلها قلبت في اللفظ ألفًا؛ فصارت طاغوت كما ترى. ووزنها الآن بعد القلب فَلَعُوت، ومثالها من ضربت: ضَرَبُوت، ومن قتلت قتلوت، هذا إلى هنا بلا خلاف.
وإذا جمع فصار طواغيت احتاج إلى نظر؛ فأما على أن يكون من طغوت فلا سؤال فيه؛ وذلك أن الألف على هذا كانت بدلًا من لام طغوت، فلما احتاج إلى تحريك الألف المنقلبة عنها ردها إلى أصلها وهو الواو، فقال: طواغيت، ووزنها الآن فلاعيت، ولو جاءت على واجب أصلها لكان طغاويت أو طغاييت، كقولك في ملكوت لو كسرتها: ملاكيت، ولو قلبت الواحد على حد قلب الطاغوت لقلت: مكلوت، وإن جمعت على هذا -أعني مقلوبًا- قلت: مكاليت، هذا على أن لام طاغوت واو، ماض منقاد على ما تراه.
لكن مَن ذهب إلى أن لام طاغوت ياء وجب عليه أن يجيب عن قلب الألف من طاغوت واوًا في قولهم: طواغيت، وكان قياسه على الطغيان أن يكون طياغيت.
والجواب: أن طاغوتًا وإن كان من ط غ ى فإنه بعد نقله وقلبه قد صار كأنه فاعول، فلما كسر قلبت ألفه واوًا كما تقلب في نحو تكسير عاقول وعواقيل2، وراقود3 ورواقيد، وهذا الشبه اللفظي كثير عنهم فاشٍ متعالَم بينهم؛ ألا تراهم قالوا: مررت بمالِكَ فأمالوا لشبهها بأَلف مالكٍ، وقالوا: طلبتا وعتَتا4، فأمالوا لشبه "28ظ" آخره بألف سكرى وبشرى؟ فكذلك شبهوا ألف طاغوت بألف جاموس وعاقول.
وحكى يونس في تحقير الناب نويب؛ وذلك أنه حمل الألف هنا إذا كانت عينًا على أحكام ما يكثر؛ وهو قلب العين عن الواو في غالب الأمر، وهو: باب ودار وساق ونار، فقال:
__________
1 سورة البقرة: 15.
2 العاقول: نبت، ويطلق أيضًا على معظم البحر وغيره.
3 الراقود: دن كبير أو طويل الأسفل يسيع داخله بالقار.
4 قال سيبويه: "سمعنا بعضهم يقول: طلبتا وطلبنا زيد؛ كأنه شبه هذه الألف بألف حبلى؛ حيث كانت آخر الكلام ولم تكن بدلًا من ياء". الكتاب: 2/ 263.
(1/132)
________________________________________
نُوَيب، وإن كان من الياء حملا على الباب الأكثر، وهو قولك في مال: مُويل، وفي ساق: سُويقة، وفي دار: دُوبرة.
وروينا عن قطرب في كتابه الكبير: طغى يطْغَى ويطغو، وطَغَيتُ وطغِيتُ وطَغوت طُغْيانًا وطُغْوَانًا وطَغْوًا وطُغُوًّا وطَغْوَى، فاعلم.
وألقى علينا أبو علي بحلب سنة ست وأربعين الكلام في طغيان، واعتزم في اللام الياء، فقال له فتى كان هناك من أهل مَنْبِج: فقد قالوا الطَّغوى، فقال أبو علي: خذ الآن إليك، هذا تصريفي، ينكر عليه احتجاجه بذلك؛ أي: ألا تعلم أن طَغْوَى اسم، وأن فَعلى إذا كانت اسمًا وكانت لامها ياء فإنها تقلب إلى الواو، نحو: التقوى والبقوى والفتوى والرَّعْوى والثَّنْوى والعوَّى1. وبعد، فإن كانت طغوى من طغوت فواوه أصلية كواو العدوى والدعوى، وإن كانت من طغيت فإنها بدل من الواو كالفتوى وبابها.
وأما الطواغي فجمع طاغية، قال الله سبحانه: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} 2 فهو يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون أُهلكوا بطغيانهم، كقولك: أُهلكوا بالبلية الطاغية؛ أي: التي لا قِبَل لهم بها.
والآخر: أن يكون أُهلكوا بطغيانهم؛ أي: بكفرهم.
ومثل الطاغية وكونها مصدرًا على فاعلة قوله: "لا يُسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةٌ"3 أي: لغو، وتكسير اللاغية لواغ، كعافية وعواف، وعاقبة وعواقب، ومثل الطاغوت الحانوت، وهي فَعَلوت من حنوت؛ وذلك أن الحانوت يشتمل على من فيه، فكأنه يحنو عليه، فهي من الواو، وقُلبت لامها إلى موضع العين فصار حَوَنوت، ثم قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت حانوت.
__________
1 البقوى: فعلى من بقي، والرعوى: فعلى من رعي، والثنوى: فعلى من ثني، والعوى: فعلى من عوي؛ وهي منزل من منازل القمر، تمد وتقصر، وألفها للتأنيث كألف بشرى وحبلى.
2 سورة الحاقة: 5.
3 سورة الغاشية: 11، وقراءة: "يسمع" مبنيًّا للمجهول مع رفع "لاغية" هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ورويس. الإتحاف: 270.
(1/133)
________________________________________
وقول علقمة:
حَانيَّةٌ حُومُ1
منسوب إلى حانيَة فاعلة من هذا اللفظ والمعنى، ألا ترى إلى قول عُمارة:
وكيف لنا بالشرب فيها وما لنا ... دوانيق عند الحانَوِيِّ ولا نقد
فأما الحانة فمحذوفة من الحانية، ومثالها فاعة، ومثلها البالة من قولهم: ما باليت بهم بالة، أصلها: بالية فاعلة من هذا الموضع، ثم حذفت اللام تخفيفًا، وإلى مثل ذلك ذهب الكسائي في "آية" أنها محذوفة من فاعلة: آيِية.
ومن ذلك قراءة ابن السَّمَيفَع2: "فبَهَتَ الذي كَفَرَ"3 بفتح الباء والهاء والتاء، وكذلك قرأ أيضًا نُعيم بن ميسرة4، وقرأنة أبو حيوة شريح بن يزيد: "فبَهُتَ" بفتح الباء وضم الهاء، والقراءة العامة: "فَبُهِتَ".
قال أبو الفتح: زاد أبو الحسن الأخفش قراءة أخرى لا يحضرني الآن ذكر قارئها، لم يسندها5 أبو الحسن: "فبَهِتَ" بوزن عَلِمَ، فتلك أربع قراءات.
فأما "بُهِتَ" قراءة الجماعة، فلا نظر فيها.
وأما "بَهِتَ" فبمنزلة خَرِق وفرِق وبرِق.
وأما "بَهُتَ" فأقوى "29و" معنى من بَهِتَ؛ وذلك أن فعُل تأتي للمبالغة كقولهم: قَضُو الرجل إذا جاد قضاؤه، وفقُه إذا قوي في فقهه، وشعُر إذا جاد شعره. وروينا عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى: أن العرب تقول:
__________
1 البيت بتمامه:
كأس عزيز من الأعناب عتَّقَها ... لبعض أربابها حانية حوم
الكأس: الخمر في إنائها، ولا تسمى الخمر كأسًا ولا الظرف كأسًا حتى يجتمعا، وأراد بالعزيز ملِكًا من ملوك الأعاجم، والحوم السود يريد أنها من أعناب سود، وهو على هذا من نعت الكأس؛ أي: خمر سوداء العنب، وصفها بالجمع على معنى ذات أعناب سود، ويقال الحوم: جمع حائم؛ وهو الذي يقوم عليها ويحوم حولها وهو على هذا من وصف الحانية، وهي جماعة الخمارين. وانظر: الكتاب: 2/ 72، والمفضليات: 402، وفيها: "أحيانها" مكان "أربابها"؛ أي: أعدها لفصح أو عيد أو نحو ذلك.
2 هو محمد بن عبد الرحمن بن السميفع أبو عبد الله اليماني، له اختيار في القراءة يُنسب إليه شَذَّ فيه، قرأ على أبي حيوة شريح بن يزيد، وقيل: إنه قرأ على نافع. طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 161.
3 سورة البقرة: 258.
4 هو نعيم بن ميسرة أو عمرو الكوفي النحوي، نزل الري وكان ثقة، روى القراءة عرضًا عن عبد الله بن عيسى بن علي، وروى الحروف عن أبي عمرو بن العلاء، وروى الحروف عنه علي بن حمزة الكسائي، تُوفي سنة 174. طبقات ابن الجزري: 2/ 342.
5 أوردها كذلك في البحر 2/ 289 مسندة إلى الأخفش، ولم يذكر قارئها.
(1/134)
________________________________________
ضرُبت اليد: إذا جاد ضربها، وكذلك بَهُت: إذا تناهى في الْخَرَق والبَرَق والحيرة والدَّهَش.
وأما "بَهَتَ" فقد يمكن أن يكون من معنى ما قبله، إلا أنه جاء على فَعَل كذَهَل ونَكَل وعجز وكَلَّ ولَغَب، فيكون على هذا غير متعدٍّ كهذه الأفعال.
وقد يمكن أن يكون متعديًا ويكون مفعوله محذوفًا؛ أي: فبَهَتَ الذي كفر إبراهيم عليه السلام.
فإن قيل: فكيف يجوز على هذا أن يجتمع معنى القراءتين؟ ألا ترى أن بُهِتَ قد عُرف منه أنه كان مبهوتًا لا باهتًا، وأنت على هذا القول تجعله الباهت لا المبهوت.
قيل: قد يمكن أن يكون معنى قوله: بَهت أي رام أن يبهَت إبراهيم عليه السلام، إلا أنه لم يستوِ له ذلك، وكانت الغلبة فيه لإبراهيم عليه السلام.
وجاز أن يقول: بَهَتَ، وإنما كانت منه الإرادة، كما قال جل وعز: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 أي: إذا أردتم القيام إليها، كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 2 أي: إذا أردت قراءته، فاكتفى بالمسبب3 الذي هو القيام، والقراءة من السبب الذي هو الإرادة.
وقد أفردنا لهذا الموضع بابًا في كتابنا الخصائص4.
ويجوز جوازًا حسنًا أن يكون فاعل "بَهَتَ" إبراهيم؛ أي: فبَهَت إبراهيمُ الكافرَ؛ ليلتقي معنى هذه القراءة مع معنى الأخرى التي هي: "فبُهِتَ الذي كفر"، وعليه قطع أبو الحسن.
فإن قيل: فما معنى هذا التطاول والإبعاد في اللفظ، ولم يقل: "بُهِتَ" وإبراهيم عليه السلام هو الباهت؟
قيل: إن الفعل إذا بُني للمفعول لم يلزم أن يكون ذلك للجهل بالفاعل؛ بل ليعلم أن الفعل قد وقع به، فيكون المعنى هذا لا ذكر الفاعل، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 5، وقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 6، وهذا مع قوله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} 7، وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} 8، فالغرض في نحو هذا المعروف الفاعل إذا بني للمفعول إنما هو الإخبار عن وقوع الفعل به حسب، وليس الغرض فيه ذكر من أوقعه به، فاعرف ذلك.
__________
1 سورة المائدة: 6.
2 سورة النحل: 98.
3 في نسختي الأصل: السبب، وهو تحريف.
4 هو "باب في الاكتفاء بالسبب من المسبب، وبالمسبب من السبب". الخصائص: 3/ 173.
5 سورة النساء: 28.
6 سورة الأنبياء: 37.
7 سورة ق: 16.
8 سورة العلق: 2.
(1/135)
________________________________________
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "فَصِرَّهُنَّ"1 مكسورة الصاد مشددة الراء وهي متفوحة، وقراءة عكرمة: "فَصَرِّهُنَّ إليك" بفتح الصاد، وقال: قَطِّعهُن، وعن عكرمة أيضًا: "فَصُرّهُنَّ" ضم الصاد وشدد الراء، ولم يقل مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، قال: وهو يحتمل الثلاثة، كمُدُّ ومُدَّ ومُدِّ.
قال أبو الفتح: أما "فَصِرَّهُنَّ" بكسر الصاد وتشديد الراء فغريب؛ وذلك أن يفْعِل في المضاعف المتعدي شاذ قليل، وإنما بابه فيه يفْعُل، كصَبَّ الماء يَصُبُّه، وشد الحبل يشده، وفرَّ الدابة يفرها2، ثم إنه قد مر بي مع هذا مِن يفْعِل في المتعدي حروف صالحة؛ وهي: ثم الحديث يَنُمه ويَنِمه، وعلَّه بالماء يعُلَّه ويعِلَّه، وهَرَّ الحرب يهُرُّها ويهِرُّها3، وغَذَّ العِرقُ الدم يغُذه ويغِذه4 "29ظ". وقالوا: حبَّه ويحِبُّه بالكسر لا غير، وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن أن بعضهم قرأ: "لن يَضِرُّوا الله شيئًا"5 بكسر الضاد في أحرف سوى هذه، ولمجيء المتعدي من هذا مضمومًا -وبابه وقياسه الكسر- نَظَرٌ ليس هذا موضعه، فيكون صِرَّهُن من هذا الباب على صَرَّه يصِرُّه.
وأما "صُرَّهن" بضم الصاد فعلى الباب؛ أعني: ضم عين يفعُل في مضاعف المتعدي، والوجه ضم الراء لضمة الهاء من بعدها، والفتح والكسر من بعد.
وأما "فصَرِّهُنَّ" فهذا فَعِّلْهُنَّ6 من صَرَّى يُصَرِّي: إذا حَبس وقَطع. قال:
رُب غلام قد صرَى في فقرته ... ماء الشباب عنفوانَ سَنْبته7
__________
1 سورة البقرة: 268.
2 فر الدابة: كشف عن أسنانها ليعرف ما سنها.
3 هر الحرب: كرهها.
4 كذا في نسختي الأصل، والذي في المعاجم بأيدينا: غذ العرق؛ أي سال.
5 سورة آل عمران: 176، وفي الأصل: فلن، وهو تحريف، وفي الإتحاف حين الكلام عن {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} الصفحة 107، وعن المطوعي: "لن يضِروكم" بكسر الضاد، وكذا: "فلن يضِر الله" ونحوه، أسند إلى ظاهر أو مضمر مفردًا وغيره.
6 الوزن هنا مع ملاحظة حرف العلة المحذوف كما لا يخفى.
7 للأغلب العجلي، وبعدهما:
أنعظ حتى استد سَم سمته
ويُروى: "رأت غلامًا" مكان "رب غلام". والفقرة: إحدى فقار الظهر، والمراد كلها، والسنبت والسنبتة: قطعة من الزمن، والسم: الثقب، والسمة بالكسر وتفتح: الاست، واستد الثقب: انسد. والمعنى: رب غلام امتنع عن غشيان النساء في فورة الشباب؛ حتى صار إذا أنعظ ينسد استه. وانظر: سر صناعة الإعراب: 175، واللسان والتاج "صري".
(1/136)
________________________________________
أي: حبسه وقطعه، ومنه الشاة المصراة؛ أي: المحبوسة اللبن المقطوعته في ضرعها عن الخروج.
وماء صَرًى وصِرًى: إذا طال حبسه في موضعه، ومنه الصراء للملاح1؛ وذلك أنه يمسك السفينة ويحفظها ويصريها عما يدعو إلى هلاكها.
ومن ذلك قراءة أبي جعفر والزهري: "جُزًّا"2.
قال أبو الفتح: أصله الهمز جزءًا، ثم خففت همزته على قولك في تخفيف الخبء: الخبُ، ثم إنك إذا خففت نحو ذلك ووقفت عليه كان لك فيه السكون على العبرة، وإن شئت الإشمام الجزُ، وإن شئت روم الحركة الجزُ، وإن شئت التشديد على خالدّ وهو يجعلّ، فيقول على هذا: الْجُزَّ، ثم إنه وصل على وقفه، فقال: جُزًّا.
ومثله مما أجرى في الوصل مجراه في الوقف من التشديد، ما أنشدناه أبو علي وقرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد ين يحيى:
ببازلٍ وجناء أبو عيهَلِّ ... كأن مهواها على الكلْكَلِّ3
يريد: العيهل والكَلْكَل.
وفيها ما قرأته على أبي بكر دون أبي علي:
تعرَّضتْ لي بمجاز حِلِّ ... تعرُّضَ الْمُهْرةِ في الطِّوَلِ4
وفيها:
ومُقلتان جوْنَتَا الْمَكْحَلِّ
وقد كان ينبغي إذ كان إنما شدد عوضًا من الإطلاق أن إذا أطلق عاد إلى التخفيف، إلا أن العرب قد تجري الوصل مجرى الوقف تارة، الوقف مجرى الأصل، فعلى هذا وجه القراءة المذكورة "جُزًّا"، فاعرفه.
ومن ذلك قراءة سعيد بن المسيِّب والزهري: "كمثل صَفَوانٍ عليه ترابٌ"5 بفتح الفاء.
__________
1 كذا في نسختي الأصل، والذي في المعاجم التي بأيدينا: الصاري: الملاح، وجمعه صُرَّاء.
2 من قوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} سورة البقرة: 260.
3 انظر الصفحة 102 من هذا الجزء.
4 رُوي: "بمكان" بدلًا من "بمجاز". والطول بكسر الطاء وتخفيف اللام: الحبل الذي يطول للدابة فترعى فيه. وانظر: شرح شواهد الشافية: 249.
5 سورة البقرة: 264.
(1/137)
________________________________________
قال أبو الفتح: أكثر ما جاء فعلان في الأوصاف والمصادر؛ فالأوصاف كقولهم: رجل شَقَذَان للخفيف، وقالوا: أكذب من الأَخيذ الصَّبَحَان1 بفتح الباء كما ترى، وقد رُوي الصبْحان بتسكينها، ويومٌ صَخَدان ولَهَبَان لشدة الحر، وعير فَلَتان2، ورجل صَمَيان: ماض منجرد.
وأما المصادر فنحو الوهجان والنَّزَوَان والغَلَيَان والغثيان والقفزان والنقران. والمعنى -في الوصف والمصدر جميعًا من هذا المثال- الحركة والخفة والإسراع، وهو في الأسماء غير الصفات والمصادر قليل، غير أنهم قد قالوا: الوَرَشان3 والكَرَوَان والشبهان لضرب من النبت4، وقيل: الشَّبُهان بضم الباء، وقالوا: العنَبان للتيس من الظباء النشيط، فإذا كان كذلك كان الصفَوان أيضًا مما جاء من غير الأوصاف والمصادر على فعَلان.
ومن ذلك قراءة "30و" الزهري ومسلم بن جندب5: "ولا تُيمِّموا الخبيث"6 بضم التاء وكسر الميم.
قال أبو الفتح: فيها لغات: أمَمْتُ الشيء ويممْتُه وأَمَّمْتُه ويَمَّمْتُه وتَيمَّمْتُه، وكله قَصَدتُه.
قال الأعشى:
تؤمُّ سنانا وكم دونه ... من الأرض مُحْدَوْدِبا غارُها7
وقال الآخر:
يمْمتُ بها أبا صخر بن عمرو
__________
1 قال في اللسان "صبح": "ومن أمثالهم السائرة في وصف الكذب قولهم: أكذب من الآخذ الصبحان. قال شمر: هكذا قال ابن الأعرابي، قال: وهو الحوار الذي قد شرب فروى، فإذا أردت أن تستدر به أمه لم يشرب لريه درتها، قال: ويقال أيضًا: أكذب من الأخيذ الصبحان، قال أبو عدنان: الأخيذ: الأسير، والصبحان: الذي قد اصطبح فروى، قال ابن الأعرابي: هو رجل كان عند قوم فصبحوه حتى نهض عنهم شاخصًا، فأخذه قوم وقالوا له: دلنا على حيث كنت، فقال: إنما بت بالقفر، فبينما هم كذلك؛ إذ قعد يبول، فعلموا أنه بات قريبًا عند قوم، فاستدلوا به عليهم واستباحوهم، والصبحان في ذلك كله مضبوطًا ضبطًا قلميًّا بسكون الباء.
2 نشيط.
3 طائرة: وهو ساق حر.
4 في القاموس أنه: "نبت شائك، له ورد لطيف أحمر وحب كالشهدانج"، والشهدانج: حب القنب.
5 هو مسلم بن جندب أبو عبد الله الهذلي مولاهم المدني القاص، تابعي مشهور، عرض على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وعرض عليه نافع، وروى عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وابن عمر، مات سنة 130. طبقات ابن الجزري: 2/ 296.
6 سورة البقرة: 267.
7 لم نعثر عليه في ديوانه.
(1/138)
________________________________________
وقال:
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عَرْمضُها طام1
الأَمُّ: القصد، ومثله الأَمْتُ، ومنه الإمام لأنه المقصود المعتمد، والإمام أيضًا: خيط البنَّاء؛ لأنه يمده ويعتمد بالبناء عليه، والأُمَّة: الطريقة لأنها متعمدة، قال الله سبحانه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} 2 أي: على طريقة مقصودة.
ومن ذلك قراءة الزهري: "إلا أن تَغْمُضُوا فيه"3 بفتح التاء من غمض، ورُوي أيضًا: "تُغَمِّضُوا فيه" مشددة الميم، وقرأ قتادة: "إلا أن تُغْمَضُوا فيه" بضم التاء وفتح الميم.
قال أبو الفتح: أما قراءة العامة؛ وهي: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} فوجهها أن تأتوا غامضًا من الأمر لتطلبوا بذلك التأول على أخذه، فأغمض على هذا: أتى غامضًا من الأمر، كقولهم: أعمن الرجل: أتى عَمان، وأعرق: أتى العراق، وأنجد: أتى نجدًا، وأغار: أتى الغور. واختيار الأصمعي هنا غار، وليس هذا على قول الأصمعي أتى الغور، وإنما هو غار؛ أي: غمض وانشام4 هناك، كقولك: ساخ وسرب، ولو أراد معنى صار إلى هناك لكان أغار، كما قال:
نَبِيٌّ يرى ما لا تَرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا5
ورواية الأصمعي: غار، على ما مضى، وليس المعنى على ما قدمنا واحدًا.
وأما "تُغْمَضُوا فيه" فيكون منقولًا من غَمَض هو وأغمضه غيره، كقولك: خفي وأخفاه غيره، فهو كقراءة مَن قرأ: "أن تَغْمُضُوا فيه"، ولم يذكر ابن مجاهد هل الميم مع فتح التاء مكسورة أو مضمومة، والمحفوظ في هذا غَمَض الشيء يغمُض، كغار يغور، ودخل يدخُل، وكمن يكمُن، وغرب يغرُب.
والمعنى: أن غيرهم يُغْمِضُهم فيه من موضعين:
أحدهما: أن الناس يجدونهم قد غَمَضُوا فيه، فيكون من أفعلت الشيء وجدته كذلك، كأحمدت الرجل: وجدته محمودًا، وأذممته: وجدته مذمومًا، ومنه قوله:
وقومٍ كرامٍ قد نقلنا قِرَاهمُ ... إليهم فأَتلفنا المنايا وأتلفوا6
__________
1 لامرئ القيس. ضارج: موضع في بلاد بني عبس، والعرمض: الطحلب الأخضر الذي يتغشى الماء، وطام: مرتفع. الديوان: 182، واللسان: عرمض.
2 سورة الزخرف: 23.
3 سورة البقرة: 267.
4 انشام في الشيء: دخل.
5 للأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر: الديوان: 135.
6 للفرزدق. ويروى: "وأضياف ليل قد نقلنا". وانظر: الديوان: 1/ 561.
(1/139)
________________________________________
أي: وجدناها مُتْلِفة.
وقوله:
فمضى وأخاف من قُتَيلة موعِدا1
أي: صادفه مخلفًا.
وقول رؤبة:
وأهيج الخلطاء من ذات البرق2
أي: صادفها مهتاجة النبت.
ومنه قوله الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} 3 أي: صادفناه غافلًا، ولو كان أغفلنا هنا منقولًا من غفل -أي: منعناه وصددناه- لكان معطوفًا عليه بالفاء "فاتَّبَعَ هواه".
وذلك أنه كان يكون مطاوعًا، وفعل المطاوعة إنما يكون معطوفًا بالفاء دون الواو، وذلك كقوله: أعطيته فأخذ، ودعوته فأجاب، ولا تقول هنا: أعطيته وأخذ، ولا دعوته وأجاب، كما لا تقول: كسرته وانكسر، ولا جذبته "30ظ" وانجذب؛ إنما تقول: كسرته فانكسر، وجذبته فانجذب، وهذا شديد الوضوح والإنارة على ما تراه.
وكذلك لو كان معنى أغفلنا في الآية منعنا وصددنا لكان معطوفًا عليه بالفاء، وأن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه4، وإذ لم يكن هكذا، وكان إنما هو "واتبع" فطريقه أنه لما قال: "أغفلنا قبله عن ذكرنا" فكأنه قال: وجدناه غافلًا، وإذا وُجد غافلًا فقد غفل لا محالة، فكأنه قال إذن: ولا تطع من غفل قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا؛ أي: لا تطع مَن فعل كذا، يعدد أفعاله التي توجب ترك طاعة الله سبحانه، ونسأل الله توفيقًا من عنده ودُنُوًّا من مرضاته بمنِّه ومشيئته، فهذا أحد وجهي "تُغْمَضُوا فيه"؛ أي: إلا أن توجدوا مُغْمِضين متغاضين عنه.
والآخر: أن يكون "تُغْمَضُوا فيه" أي: إلا أن تُدخلوا فيه وتُجذبوا إليه، وذلك الشيء الذي يدعوهم إليه، ويحملهم عليه هو: رغبتهم في أخذه ومحبتهم لتناوله، فكأنه -والله أعلم-
__________
1 للأعشى، وصدره:
أثوى وقصر ليله ليزودا
وروي: فمضت وأخلف. أثوى بالمكان: أقام، لغة في ثوى. وانظر: الديوان: 227، واللسان: أخلف، وثوى.
2 الخلصاء: أرض بالبادية، والبرق: جمع برقة؛ أرض غليظة مختلطة بحجارة ورمل. وانظر: الديوان: 105، واللسان: هيج، ومعجم البلدان.
3 سورة الكهف: 28.
4 لا يخفى ما فيه من التَّكْرَارِ مع ما قبله.
(1/140)
________________________________________
إلا أن تسوِّل لكم أنفسُكم أَخْذه فتُحسِّن ذلك لكم، وتعترض بشكه على يقينكم حتى تكاد الرغبة فيه تكرهكم عليه.
ويزيد في وضوح هذا المعنى لك ما روي عن الزهري أيضًا من قراءته: "إلا أن تُغَمِّضُوا فيه" أي: إلا أن تغمِّضوا بصائركم وأعين علمكم عنه؛ فيكون نحوًا من قوله:
إذا تخازرت وما بي من خزر1
وهو معنى مطروق، منه قول الله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} 2، وجاء به بعض المولدين فقال:
خالدَ اللُّؤْمِ أمغض ... أنت لا بل متغاضي
وآخرُ ذلك قول شاعرنا3:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يُتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسَه ... ويسومها طلب المحال فتتبع
وما أظرف الأول وأدمثه في قوله:
أبكي إلى الشرق ما كانت منازلها ... مما يلي الغرب خوف القِيل والقال
وأذكر الخال في الخد اليمين لها ... خوف الوُشاة وما بالخد من خال4
ومن ذلك قراءة الحسن: "اتقوا الله وذروا ما بَقِي من الربا "5 بكسر القاف وسكون الياء.
قال أبو الفتح: قد سبق ما في سكون هذه الياء المكسور ما قبلها في موضع النصب والفتح بشواهده، ومنه قول جرير:
هو الخليفة فارضَوْا ما رضِي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جَنَفُ6
__________
1 انظر الصفحة 127 من هذا الجزء.
2 سورة يوسف: 76.
3 هو أبو الطيب المتنبي يرثي أبا شجاع فاتكًا، ويروى: "فتطمع" مكان "فتتبع". وانظر: الديوان: 1/ 406.
4 لابن الأحنف، ورُوي: "منازلهم" مكان "منازلها"، و"في الخد" مكان "بالخد". وانظر: الخصائص: 3/ 316.
5 سورة البقرة: 278.
6 رُوي:
هو الخليفة فارضوا ما قضى لكم ... بالحق يصدع ما في قوله جنف
والجنف: الميل والجور. وانظر: الديوان: 390، والبحر المحيط: 2/ 337.
(1/141)
________________________________________
ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي زيد عن أبي السمال: أنه كان يقرأ: "ما بقِي مِن الرِّبُو"1 مضمومة الباء ساكنة الواو.
قال أبو الفتح: في هذا الحرف ضربان من الشذوذ:
أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازمًا.
والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأتِ إلا في الفعل نحو: يغزو ويدعو ويخلو، فأما "ذو" الطائية التي بمعنى الذي نحو قوله:
لأَنْتحيا للعظم ذو أنا عارقه2
فشاذ، وعلى أن منهم مَن يغير هذه الواو إذا فارق الرفع "31و" فيقول: رأيت ذا قام وأخوه، ومررت بذي قام أخوه.
وسألت أبا علي عن حكاية أبي زيد "فعلتُه من ذي إلينا"، فقال: أراد من الذي إلينا.
فقلت: فهذا يوجب عليه أن يقول: من ذو إلينا.
فقال -وهو كما قال: قد تغير هذه الواو في النصب والجر، وعلى أن "ذو" هذه لما كانت موصولة وقعت واوها حشوًا فأَشبهت واو طُومار3، كما أَشبهت عند صاحب الكتاب ياء معديكرب ياء دردبيس4.
والذي ينبغي أن يُتعلَّل به في الرِّبُو بالواو هو أنه فخَّم الألف انتحاء بها إلى الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم: الصلاة والزكاة، وكمشكاة، وكقولهم: عالم وسالم وسالف وآنف، وكأنه بيَّن التفخيم فقوي الصوت فكان الواو أو كاد، إلا أن الراوي أبو زيد، وما أبعده مع علمه وفقهه باللغة من أن تتطرق ظِنَّةٌ عليه في تحصيل ما يسمعه.
فإن قلت: فلعله شبه ذوات العلة بذوات الهمز فوقف على الواو، كما قالوا: هو الرِّدُو والبُطُو5.
قيل: هذه الواو إنما تكون مع الهمزة في هذا الكَلَو ومررت بالكَلَيْ في موضع الرفع، وموضع
__________
1 من الآية 278 من سورة البقرة.
2 لعارق الطائي، وصدره:
لئن لم تغير بعدما قد صنعتم
لأنتحيا: لأقصدا، عارقه: من عرق العظم إذا أكل ما عليه من اللحم. وانظر: الحماسة لأبي تمام: 2/ 326.
3 الطومار: الصحيفة.
4 الدردبيس: الداهية، والشيخ، والعجوز الفانية.
5 أصلهما الردء والبطء وأصل ما بعدهما الكلأ.
(1/142)
________________________________________
الرِّبُو جر بمن في قوله: "مِنَ الرِّبُو"، وعلى أن الكَلو مفتوح ما قبل الواو، والباء من الرِّبُو مضمومة، وعلى أي الأمر حملته فهو شاذ.
ومن ذلك قراءة الزهري ويعقوب: "ومن يُوتِ الحكمةَ"1 بكسر التاء.
قال أبو الفتح: وجهه على أن الفاعل فيه اسم الله تعالى؛ أي: ومَن يُوت الله الحكمة، مَن منصوبة على أنها المفعول الأول والحكمة المفعول الثاني، كقولك: أيَّهم تعطي درهمًا يشكرك.
ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف وأبي رجاء ومجاهد فيما رُوي عنه: "فنَظْرَة إلى ميْسُرة"2، وقراءة عطاء بن أبي رباح: "فناظِرُهُ"3 بالألف، والهاء كناية، ورُوي أيضًا عن عطاء: "فنِاظِرْهُ إلى ميْسُرِه" أمر.
قال أبو الفتح: أما "فنَظْرَة" بسكون الظاء فمسكَّنة للتخفيف من "نَظِرة "، كقولهم في كلمة: كَلْمة، وفي كَبِد كَبْد، لغة تميمية، وهم الذين يقولون في كَرُم: كَرْم، وفي كُتُب: كُتْب.
وأما "فنَاظِرْه" فكقولك: فياسره فسامحه وليس أمرًا من المناظرة؛ أي: المحاجة والمجادلة؛ لكنها من المساناة4 والمسامحة، فيقول على هذا: قد تناظر القوم بينهم الحقوق، كقولك: قد تسامحوا فيها ولم يضايق بعضُهم بعضًا.
ويقول عليه: لله متبايعان رأيتهما، فقد تناظرا؛ أي: تسامحا ولم يتحاجا.
__________
1 قراءة الجماعة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} مبنيًّا للمفعول. سورة البقرة: 269.
2 قراءة الجماعة: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . سورة البقرة: 280.
3 قال في البحر 2/ 340: وقرأ عطاء: "فناظرة" على وزن فاعلة، وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ... وقال: قرأ عطاء: "فناظره" بمعنى: فصاحب الحق ناظره؛ أي: منتظره، أو صاحب نظرته على طريقة النسب، كقولهم: مكان عاشب.
4 ساناه: راضاه وداناه.
(1/143)
________________________________________
وأما "إلى مَيْسُره" فغريب؛ وذلك أنه ليس في الأسماء شيء على مفْعُل بغير تاء؛ لكنه بالهاء، نحو: المقْدُرة والمقْبُرة والمشرُقة1 والمقنُوة2، وأما قوله:
أَبلغ النعمان عني مألُكا ... أنه قد طال حبسي وانتظار3
فطريقه عندنا: أنه أراد مألُكة -وهي الرسالة- غير أنه حذف الهاء وهو يريدها، كما قال كثير:
خليلي إنْ أمُّ الحكيم تَحَملت ... وأَخْلت لخيمات الْعُذَيب ظلالها4
يريد: العُذيْبَة "31ظ"، وكما قال ملك بن جبار الطائي:
إنا بنو عمكم لا أن نُباعلكم ... ولا نصالحكم إلا على ناح5
يريد ناحية. وكذلك قول الآخر:
بُثَيْن الزمى لا إن لا إن لزمتِه ... على كثرة الواشين أيُّ معون6
يريد معونة فحذف، وقيل: أراد جمع معونة، وكذلك قول الآخر:
ليوم روع أو فَعالِ مَكْرُم7
يريد: مكرمة ثم حذف، وقيل: أراد جمع مكرمة، وكذلك أراد هنا إلى ميسرته، فحذف الهاء. وحسن ذلك شيئًا أن ضمير المضاف إليه كاد يكون عوضًا من علم التأنيث، وإليه ذهب الكوفيون في قوله تعالى: {وَإِقَامِ الصَّلاةِ} 8 أنه أراد إقامة، وصار المضاف إليه كأنه عوض من التاء.
__________
1 المشرقة مثلثة الراء: موضع القعود في الشمس بالشتاء.
2 المقنوة من الظل؛ حيث لا تصيبه الشمس في الشتاء.
3 لعدي بن زيد، من قصيدة يخاطب فيها النعمان بن المنذر، وكان النعمان قد حبسه، المألك: الرسالة. الخزانة: 3/ 597، والمنصف: 2/ 104.
4 بعده:
فلا تسقياني من تهامة بعدها ... بلالًا وإن صوب الربيع أسالها
العذيبة: قرية بين الجار وينبع، والجار: بلد على البحر قريب من المدينة. معجم البلدان.
5 نباعلكم: أي نتزوج منكم وتتزوجوا منا، إلاعلى ناح: أي على ناحية وطرف من الأمر؛ أي: لا نصالحكم صلحًا خاصًّا مطلقًا. الخصائص: 3/ 212.
6 البيت لجميل. شرح شواهد الشافية: 67، والخصائص 3/ 212.
7 لأبي الأخزر الحماني، وصدره:
مروان مروان أخو اليوم اليمي
وأصل "اليمي" اليوم كحذر، نقلت اللام إلى موضع العين، فانقلبت الواو ياء. الخصائص: 3/ 212، وشرح شواهد الشافية: 68.
8 النور: 37.
(1/144)
________________________________________
ويشهد لهذا قراءة مَن قرأ: "فنَظِرَةٌ إلى مَيْسُرة"، قرأ بها نافع في جماعة من الصحابة، فاعرف.
ومن ذلك قراءة الحسن: "واتقوا يومًا يُرجعون فيه"1 بياء مضمومة.
قال أبو الفتح: فيه أنه ترك الخطاب إلى لفظ الغيبة كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 2، غير أنه تصور فيه معنى مطروقًا هنا فحمل الكلام عليه؛ وذلك أنه كأنه قال: واتقوا يومًا يَرجع فيه البشر إلى الله فأَضمر على ذلك، فقال: يُرجعون فيه إلى الله.
وقد شاع واتسع عنهم حمل ظاهر اللفظ على معقود المعنى، وترك الظاهر إليه، وذلك كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإفراد الجماعة وجمع المفرد، وهذا فاشٍ عنهم، وقد أفردنا له بابًا في كتابنا في الخصائص ووسمناه هناك بشجاعة العربية3، وكأنه -والله أعلم- إنما عدل فيه عن الخطاب إلى الغيبة فقال: يُرْجَعُون بالياء رفقًا من الله -سبحانه- بصالحي عباده المطيعين لأمره.
وذلك أن العود إلى الله للحساب أعظم ما يخوَّفُه ويُتَوعَّدُ به العباد، فإذا قرئ: "تُرجعون فيه إلى الله" فقد خوطبوا بأمر عظيم يكاد يستهلك ذكره المطيعين العابدين، فكأنه -تعالى- انحرف عنهم بذكر الرجعة فقال: "يرجعون فيه إلى الله". ومعلوم أن كل وارد هناك على أهول أمر وأشنع خطر، فقال: يرجعون فيه، فصار كأنه قال: يجازَوْن أو يعاقبون أو يطالبون بجرائرهم فيه، فيصير محصوله من بعد؛ أي: فاتقوا أنتم يا مطيعون يومًا يُعذَّب فيه العاصون.
ومَن قرأ بالتاء "ترجعون" فإنه فضل تحذير للمؤمنين نظرًا لهم واهتمامًا بما يُعقِب السلامة بحذرهم، وليس ينبغي أن يُقْتَصَر في ذكر علة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بما عادة توسط أهل النظر أن يفعلوه، وهو قولهم: إن فيه ضربًا من الاتساع في اللغة لانتقاله من لفظ إلى لفظ، هذا ينبغي أن يقال إذا عَرِي الموضع من غرض معتمد، وسر على مثله تنعقد اليد.
__________
1 قراءة الجماعة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ} بتاء مضمومة. سورة البقرة: 281.
2 سورة يونس: 22.
3 انظر: الخصائص: 2/ 360 وما بعدها.
(1/145)
________________________________________
فمنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1، هذا بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فليس ترك الغيبة إلى الخطاب هنا اتساعًا وتصرفًا؛ بل هو لأمر أعلى ومهم من الغرض أَعْنَى، وذلك أن الحمد معنًى دون العبادة، ألا تراك قد تحمد نظيرك ولا تعبده؛ لأن العبادة غاية الطاعة والتقرب بها هو النهاية "32و" والغاية؟ فلما كان كذاك استعمل لفظ "الحمد" لتوسطه مع الغيبة، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ولم يقل: لك، ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى أمد الطاعة قال: {إِيَّاكَ نَعْبُد} فخاطب بالعبادة إصراحًا بها، وتقربًا منه -عز اسمه- بالانتهاء إلى محدوده منها.
وعلى نحو منه جاء آخر السورة، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2 فأصرح بالخطاب لَمَّا ذكر النعمة، ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: غير الذين غضبتَ عليهم؛ وذلك أنه موضع تقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار الكلام إلى ذكر الغضب قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، حتى كأنه قال: غير الذين غُضِب عليهم، فجاء اللفظ مُنْحَرَفًا به عن ذكر الغاضب، ولم يقل: غير الذين غضبتَ عليهم، كما قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأسند النعمة إليه لفظًا، وزَوَى عنه لفظ الغضب تحسنًا ولطفًا.
فانظر إلى هذه اللغة الكريمة وشرفها، وتلاقي هذه الأغراض اللطيفة وتعطفها، الأقدام تكاد تطؤها، والأفهام مع ثقوبها صافحة عنها، ويا ليت شعري هل تكون سورة أكثر استعمالًا من سورة الحمد، وهذا جزء من أجزاء ما فيها ولم توضع عليه يد؟ شرح الله لإعظام أوامره صدرونا، وأحسن الأخذ إلى طاعته بأيدينا بقدرته وماضي مشيئته.
ومما يتلقاه عامة من يُسْأَل عنه بأنه أَخْذٌ باللغتين، وسعة باختلاف اللفظين: قراءة أبي عمرو: "وتفقَّد الطير فقال ما لِي لا أرى الهدهد"3 بسكون الياء من "لي"، وقراءته أيضًا: "وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني"4 بتحريك الياء.
وعلة ذلك ليس الجمع بين اللغتين كما يُفتي به جميع من تسأله عنه؛ لكنه لما جاز الوقف على قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ} ، وأن يستأنف فيقول: {لا أَرَى الْهُدْهُدَ} ، سكن الياء من "لي"؛ أمارة لجواز الوقوف عليها، ولما لم يحسن الابتداء بقوله: {لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} حرك الياء من "لي" قبلها؛ أمارة لإدراج الكلام ووصله؛ وذاك أن الحركة من أعراض الوصل،
__________
1 سورة الفاتحة: 5.
2 سورة الفاتحة: 7.
3 سورة النمل: 20.
4 سورة يس: 22.
(1/146)
________________________________________
والسكون من أعراض الوقف، فهل يحسن مع وجود هذا الفرق الواضح الكريم أن يُخلد دونه إلى التعذر بما يُخْلِدُ إليه الموهون المضيم؟ اللهم انفعنا بما استودعتناه1، واجعل بك اعتصامنا، وإلى طاعتك توجهنا، إنك لطيف بنا وأنت حسبنا.
ومن ذلك ما رواه مَتُّ بن عبد الرحمن2 قال: كان أهل مكة يقرءون: "وامرأْتَان"3 بسكون الهمزة.
قال أبو الفتح: وجه ذلك -والله أعلم- أنهم كانوا يخففون الهمزة فيضعفون حركتها على المعتاد من أمرها، فتقرب من الساكن.
ويدل على أن الهمزة المحركة إذا خففت في نحو هذا قريبة من الساكن، امتناعُ العرب من أن تبتدئ بها مخففة كما تمتنع من الابتداء بالساكن، فلما صارت إلى قولك: "وامراتان" بالَغوا في ذلك فأبدلوها ألفًا؛ فصارت: "وامراتان" بألف ساكنة، كما قال:
يقولون جهلًا ليس للشيخ عَيِّل ... لعمري لقد أعيلت وانَ رَقُوب4
يريد: وأنا، فخفف الهمزة فصار "وان"، ثم تجاوز ذلك إلى البدل فأخلصها في اللفظ ألفًا فقال: وان، فكذلك لما "32ظ" أبدل من همزة "وامرأتان" ألفًا فصار تقديره: "وامراتان"، ثم أبدل الهمزة من الألف وإن كانت ساكنة على ما قدمنا ذكره فيما قبل، وعليه قراءة ابن كثير: "وكَشفَتْ عن سأْقَيْها"5، ومنه: البأز والخأتم والعألم وتَأْبَلْتُ6 القدر، ونحو ذلك مما قدمنا ذكره، هذا طريق الصنعة فيه والتأتي له.
فأما أن يقدِّر به مقدِّرٌ على أنه أسكن الهمزة المتحركة اعتباطًا ألبتة هكذا فلا؛ لأنه لا نظير له، ألا ترى أن ما قبل تاء التأنيث لا يكون أبدًا إلا مفتوحًا، نحو: جوزة ورطبة، إلا أن تكون الألف المدة نحو: قتادة وقطاة؟ فأما الهمزة فحرف صحيح حامل للحركة؛ فتجب فتحته ألبتة.
__________
1 في ك: استودعتنا.
2 هو محمد بن عبد الرحمن النيسابوري النحوي يُعرف بمت، عرض القراءة على عيسى بن عمر الكوفي عن طلحة بن مصرف، وروى الحروف عن إسماعيل القسط وشبل بن عباد عن ابن كثير، روى عنه الحروف أحمد بن نصر ونصير بن يوسف، ودخل بغداد زمن الكسائي. طبقات القراء: 2/ 168.
3 سورة البقرة: 282.
4 البحر المحيط: 346، والرقوب هنا: الرجل لا يعيش له ولد؛ لانه يرقب موته ويرصده خوفًا عليه.
5 سورة النمل: 44.
6 تأبلت القدر: جعلت فيها التابل.
(1/147)
________________________________________
فإن قلت: أسكن الهمزة تشبيهًا لها بالألف من حيث تساوتا في الجهر، وفي الزيادة، وفي البدل، وفي الحرف، وفي قرب المخرج، وفي الخفاء -فقولٌ ما، غير أنه مخشوب1 لا صنعة فيه، ولا يكاد يُقنع بمثله.
ومن ذلك قراءة عمرو بن عبيد وأبي جعفر يزيد بن القعقاع2: "ولا يُضارّْ"3 بتشديد الراء وتسكينها.
قال أبو الفتح: أما تشديد الراء فلا سؤال فيه؛ لأنه يريد يضارَِر، بفتح الراء الأولى أو بكسرها، وكلاهما قد قرئ به؛ أعني: الفتح في الراء الأولى والكسر، والإدغام لغة تميم، والإظهار لغة الحجازيين على ما مضى؛ لكن تسكين الراء مع التشديد فيه نظر.
وطريقه: أنه أَجرى الوصل مجرى الوقف4، كقوله: سَبْسَبًّا5
__________
1 مخشوب: من خشب الشعر بكسر الشين: قاله من غير تنوق فيه ولا تعمل له.
2 هو يزيد بن القعقاع الإمام أبو جعفر المخزومي المدني القارئ، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور كبير القدر، ويقال: اسمه جندب بن فيروز، وقيل: فيروز، عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وروى عنهم، ورى القراءة عنه نافع بن أبي نعيم وسليمان بن مسلم بن جماز وعيسى بن ورودان وغيرهم، ومات بالمدينة سنة 130، وقيل غير ذلك. طبقات القراء: 2/ 382-384.
3 قراءة الجماعة: {وَلا يُضَارَّ} بتشديد الراء وفتحها. سورة البقرة: 282.
4 قال في الكتاب 2/ 282: "وأما التضعيف فقولك: هذا خالد، وهو يجعل، وهذا فرج، حدثنا بذلك الخليل عن العرب؛ ومن ثم قالت العرب من الشعر في القوافي: سبسبا، يريد السبسب، وعيهل يريد العيهل؛ لأن التضعيف لما كان في كلامهم في الوقف أتبعوه الياء في الوصل، والواو على ذلك، كما يلحقون الواو والياء في القوافي فيما لا يدخله ياء ولا واو في الكلام، وأجروا الألف مجراهما؛ لأنها شريكتهما في القوافي، ويمد بها في غير موضع التنوين، ويلحقونها في غير التنوين، فألحقوها بهما فيما ينون في الكلام ... ".
5 من قول رؤبة، وقيل: ربيعة بن صبيح:
إذا الدَبى فوق المتون دبا
وهبت الريح بمور هبا
تترك ما أبقى الدبى سبسبا
الدبى بفتح الدال: الجراد قبل أن يطير، المفرد دباة، المتون: جمع متن؛ وهو المكان الذي فيه صلابة وارتفاع، والمور بضم الميم: الغبار، السبسب كجعفر: القفر والمفازة. شواهد الشافية: 254-259.
(1/148)
________________________________________
وكلْكَلَّا1، وقد ذكرنا هذا الوصل على نية الوقف فيما مضى، وقد كنا ذكرنا فيما قبل ما يُروى عن الأعرج عن أبي جعفر من تسكين الراء على أنها مخففة، وأيًّا كان ففيه ما مضى.
وقراءة ابن محيصن: "ولا يضارُّ" رفع2، قال ابن مجاهد: لا أدري ما هي؟
وهذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف؛ وذلك على أن تجعل "لا" نفيًا؛ أي: وليس ينبغي أن يضار، كقوله:
على الحكم المأتي يومًا إذا قضى ... قضيتَه ألا يجور ويقصِدُ3
فرفع "ويقصد " على أنه أراد: وينبغي له أن يقصد، فرفع يقصد كما يرتفع ينبغي. فكذا هذا؛ أي: وينبغي ألا يضار. وإن شئت كان لفظ الخبر على معنى النهي حتى كأنه قال: ولا يضارِرْ، كقولهم في الدعاء: يرحمه الله؛ أي: ليرحمه الله، ويغفرُ الله لك؛ أي: ليغفر الله لك، ولا يرحمُ الله قاتلك، فرُفع على لفظ الخبر وأنت تريد: لا يرحمْه الله جزمًا، فتأتي بلفظ الخبر وأنت تريد معنى الأمر والنهي على ما ذكرنا.
ومن ذلك ما رواه الأعمش قال: في قراءة ابن مسعود: "يحاسِبْكم به الله يغفرْ لمن يشاء ويعذبْ من يشاء"4 جزمٌ بغير فاء.
قال أبو الفتح: جزم هذا على البدل من "يحاسبكم" على وجه التفصيل لجملة الحساب، ولا محالة أن التفصيل أوضح من المفصَّل، فجرى مجرى بدل البعض أو الاشتمال، والبعض
__________
1 من قول منظور بن مرثد الأسدي:
كأن مهواها على الكلكل
وموقعا من ثفنات زُل
موقع كفَّى راهب يصلي
مهواها: سقوطها، والضمير للبازل الوجناء في البيت قبله، الكلكل: الصدر، الثفنات: جمع ثفنة -بفتح الثاء وكسر الفاء- وهي ما يقع على الأرض من أعضاء البعير إذا استناخ كالركبتين، زل بضم الزاي: جمع زلاء؛ وهي الخفيفة، شبه الأعضاء الخشنة من الناقة لكثرة الاستناخة بكفي راهب قد خشنتا من كثرة اعتماده عليهما في السجود. شواهد الشافية: 250، وكان الأنسب "وكلكل" بالجر؛ لأنها مجرورة في الشاهد، بخلاف "سبسبا".
2 أي: مع التشديد، كما في البحر المحيط 2/ 354.
3 البيت لعبد الرحمن بن أم الحكم. الكتاب: 1/ 431.
4 سورة البقرة: 284. وقرأ ابن عامر وعاصم ويزيد ويعقوب وسهل: "فيغفر لمن يشاء ويعذب" بالرفع فيهما على القطع، وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفًا على "يحاسبكم". البحر المحيط 2/ 360.
(1/149)
________________________________________
كضربت زيدًا رأسه، والاشمال كأُحب زيدًا عقله. وهذا البدل ونحوه واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان، فمن ذلك قول الله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} 1؛ لأن مضاعفة العذاب هو لُقِيُّ الأثام، وعله قوله "33و":
رُويدًا بني شيبان بعض وعيدكم ... تُلاقوا غدا خيلي على سَفَوان
تلاقوا جيادًا لا تَحيد عن الوغى ... إذا ما غَدَت في المأزِق المتداني
تلاقوهم فتعوفوا كيف صبرهم ... على ما جَنَتْ فيهم يدا الحدثان2
فأبدل تلاقوا جيادًا من قوله: تلاقوا غدا خيلي، وجاز إبداله منه للبيان وإن كان من لفظه وعلى مثاله؛ لما اتصل بالثاني من قوله: جيادًا لا تحيد عن الوغى، وأبدل تلاقوهم من تلاقوا جيادًا؛ لما اتصل به من المعطوف عليه وهو قوله: "فتعلموا3 كيف صبرهم"، وإذا حصلت فائدة البيان لم تُبل أَمِنْ نفس المبدل كانت، أم مما اتصل به فضلةً عليه، أم من معطوف مضموم إليه؟ فإن أكثر الفوائد إنما تجتنى من الألحاق والفضلات. نعم، وما أكثر ما تُصْلِحُ الجمل وتتممها، ولولا مكانها لَوَهتْ فلم تستمسك.
ألا تراك لو قلت: زيد قامت هند لم تتم الجملة؟ فلو وصلت بها فضلة ما لتمت؛ وذلك كأن تقول: زيد قامت هند في داره، أو معه، أو بسببه، أو لتكرمه، أو فأكرمته، أو نحو ذلك، فصحت المسألة؛ لعود الضمير على المتبدأ من الجملة. وعليه قول كثير فيما أظن:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ... فيبدو وتاراتٍ يَجُم فيغرَق4
فبالمعطوف على يحسر الماء ما تمت5 الجملة، وفي هذا بيان.
__________
1سورة الفرقان: 68، 69.
2 الشعر لوداك بن ثميل المازني. ورُوي: "رويد بني" بالإضافة، وبين البيت الثاني والثالث قوله:
عليها الكماة الغر من آل مازن ... ليوث طعان عند كل طعان
الحماسة: 1/ 41، وسفوان: ماء على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة، وبه ماء كثير السافي، وهو التراب. معجم البلدان.
3 لفظ الشاعر: "فتعرفوا ".
4 البيت في ديوان ذي الرمة: 391، حسر الماء: انكشف.
5 ما زائدة.
(1/150)
________________________________________
سورة آل عمران:
بسم الله الرحمن الرحيم
من ذلك قراءة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأصحاب عبد الله وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي رجاء بخلاف ورُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الحيُّ القيَّام"1، وقرأ علقمة2: "الحيُّ القَيِّم".
قال أبو الفتح: أما "القيَّام" ففيعال من قام يقوم؛ لأن الله تعالى هو القيم على كل نفس، ومثله من الصفة على فيعال الغيْداق3 والبَيْطار، وأصله: القيْوَام، فلما التقت الواو والياء وسبقت الأولى بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصارت القيام، ومثله قولهم: "ما بالدار ديَّار"، وهو فيعال من دار يدور وأصلها دَيْوار، وأهل الحجاز يقولون للصَّوَّاغ: الصَّيَّاغ، فعلى هذا ينبغي أن يحمل لا على فَعَّال؛ لأنه كان يجب أن يكون صوَّاغًا، هذا هو الباب.
وأما الفيَّاد لِذَكر البوم فحمله أبو علي على أنه فَعَّال من الأسماء؛ وذلك أنه من فاد يفيد إذا تبختر. وأما الجيَّار للسُّعال فكذا يجب أن يكون أيضًا، وهو فَعَّال من لفظ "جَيْر" بمعنى نعم ومعناها؛ وذلك أن السَّعلة تجيب أختها كما أن جير جواب.
قال العجاج:
تجاوب الرَّعْدِ إذا تبوَّجا4
وأنشدنا أبو علي:
إذا حنَّت الأولى سَجَعْنَ لها معا
__________
1 سورة آل عمران: 2.
2 هو علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك أبو شبل النخعي الفقيه الكبير، ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ القرآن عرضًا عن ابن مسعود، وسمع من علي وعمر وأبي الدرداء وعائشة، عرض عليه القرآن إبراهيم بن يزيد النخعي وغيره، وكان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، مات سنة 62. طبقات القراء: 1/ 516.
3 الغيداق: الكريم، وشباب غيداق: ناعم.
4 قبله:
سحا أهاضيب وبرقا مرعجا
مرعجًا: متلألئًا، تبوج: صاح. وانظر: ديوان العجاج: 8، وروايته: يجاوب.
(1/151)
________________________________________
والحديث طويل لكن هذا طريقه.
وأما القَيِّم من قام يقوم بأمره، وهو من لفظ قيَّام ومعناه قال:
الله بيني وبين قيِّمها ... يفر مني بها وأَتَّبع
لما قال الشاعر هذا قيل له: لا، "33ظ" بل الله بين قيمها وبينك.
و"القيوم" قراءة الجماعة، فيعول من هذا أيضًا، ومثله الدَّيُّور في معنى الدَّيَّار.
ومن ذلك قراءة الحسن: "الأَنجيل"1 بفتح الهمزة.
قال أبو الفتح: هذا مثال غير معروف النظير في كلامهم؛ لأنه ليس فيه أفعيل بفتح الهمزة، ولو كان أعجميًّا لكان فيه ضرب من الحِجاج؛ لكنه عندهم عربي، وهو أفعيل من نجل ينجُل: إذا أثار واستخرج، ومنه نَجْلُ الرجل لولده؛ لأنه كأنه استخرجهم من صلبه وبطن امرأته، قال الأعشى:
أنجب أزمان والداه به ... إذ نَجَلاه فنعم ما نَجلا2
أي: أنجب والداه به أزمان إذ نجلاه، ففصل بالفاعل بين المضاف الذي هو أزمان وبين المضاف إليه الذي هو إذ، كقولهم: حينئذ، ويومئذ، وساعتئذ، وليلتئذ.
وقال أبو النجم:
تنجُل أيديهن كل منْجل
يريد: أيدي الإبل؛ أي: تثير بأيديها في سيرها ما تمر به من نبت وحجر وغيرهما.
وقيل له: إنجيل؛ لأن به ما3 استخرج علم الحلال والحرام ونحوهما، كما قيل: توراة، وهو فوعلة من وَرَى الزنْد إذا قدح وأصله وَوْرَيَة، فأبدلت الواو التي هي الفاء تاء كما قالوا: التُّجاه والتُّخَمة والتُّكْلان والتَّيقُور4، وهي من الوجه والوخامة والوكيل والوقار، وقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت توراة، فهذه من ورى الزند: إذا ظهرت ناره، وهذا من نَجَل ينجُل: إذا استَخْرج؛ لما في هذين الكتابين من معرفة الحِل والحِرْم كما قيل لكتاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- الفرقان؛ لأنه فرَّق بين الحق والباطل، وهذا الحديث الذي نحن عليه من بابٍ
__________
1 سورة آل عمران: 3.
2 رُوي: "أيام" مكان "أزمان". الديوان: 235.
3 ما زائدة.
4 التيقور: الوقار.
(1/152)
________________________________________
ضُمنه كتابنا الخصائص وسَمتُه: باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني1؛ وذلك أن التوراة من لفظ ورى، والإنجيل من لفظ ن ج ل، والفرقان من ف ر ق، والتوارة فوعلة، والإنجيل إفعيل، والفرقان فُعلان. فالأصول مختلفة والمباني كذلك، والمعاني واحدة ومعتنقة، وكلها للإظهار والإبراز والفرق بين الأشياء، أفلا ترى إلى هذه الحكمة الممرور بها، الواطئة الأقدام عليها، المسهو لعادة الدعة وقلة المراعاة والمراجعة عنها؟
وفي كل شيء له شاهد ... يدل على أنه واحد2
ونظائره تكاد تكون أكثر من الرمل، منه قولهم للمسك: صِوَار، فأصلاهما مختلفان: هذا من م س ك، وهذا من ص ور، ومثالاهما كذلك؛ لأن مِسْكًا فِعْلٌ، وصِوَار فِعَال، ومعنياهما واحد؛ وذلك لأنه سمي مسكًا لأنه بطيب رائحته يمسك الحس عليه استلذاذًا له، وصِوَار من صار يصور إذا عطف وجمع فأمسكت الشيء وعطفته وجمعته شيء واحد، ومنه قولهم: سحاب، قيل له ذلك كما قيل له حَبِيّ، فهذا من ح ب و، وهذا من س ح ب، وسحاب فَعال، وحبي فعيل، فالأصلان مختلفان، والمثالان اثنان، والمعنيان واحد، وذلك أنه لثقله ما3 ينسحب على وجه الأرض، وكذلك ما يحبو عليها، قالت امرأة "34و" تصف غيثًا:
وأقبل يزحف زحف الكسير ... كأن على عضديه رِفَاقا4
وقال أوس5 أو عبيد:
دانٍ مسفٌ فويق الأرض هَيْدبُه ... يكاد يدفعه مَن قام بالرَّاح
واللطيف الحسن الجميل كثير؛ لكن أين لك بالمحسن المستثير؟ فهذا حديث هذا المثال الذي هو الإنجيل، وأما فتحه فغريب؛ ولكنه الشيخ أبو سعيد -نضر الله وجهه ونوَّر ضريحه- ونحن نعلم أنه لو مر بنا حرف لم نسمعه إلا من رجل من العرب لوجب علينا تسليمه له إذا أُونست فصاحته، وأن نَبْهأَ6 به، ونتحلى بالمذاكرة بإعرابه، فكيف الظن بالإمام في فصاحته وتحريه وثقته؟ ومعاذ الله أن يكون ذلك شيئًا جنح فيه إلى رأيه دون أن يكون أخذه عمن
__________
1 الخصائص: 2/ 113-133.
2 لأب العتاهية. ويُروى: "آية" مكان "شاهد". الديوان: 70.
3 ما زائدة.
4 الرفاق: حبل يشد من الوظيف إلى العضد. وقد أورد اللسان "رفق" هذا البيت دون أن ينسبه.
5 يريد أوس بن حجر، ويرويه بعضهم لعبيد بن الأبرص، هيدب السحاب: ما تهدب منه، أراد الودق ينصب كأنه خيوط متصلة. سمط اللآلي: 441، والخصائص: 2/ 126، واللسان "هدب".
6 نهبأ: نأنس.
(1/153)
________________________________________
قبله، وبعد فقد حكى أبو زيد في السِّكِّينة: السَّكِّينة، بفتح السين وتشديد الكاف. فهذا فَعِّيلة وإن لم يكن لها نظير، وإفعيل أخو فِعِّيل، وأحسبني سمعت في بِرْطيل بَرْطيل، فهذا فَعليل بفتح الفاء، وأَفعيل وفَعليل وفَعِّيل يكاد يكون مثالًا واحدًا.
ومن ذلك قراءة أبي واقد الجراح: "رَبَّنَا لا تَزِغْ قُلُوبُنا"1.
قال أبو الفتح: هذا في المعنى عائد إلى قراءة الجماعة: "لا تُزغْ قلوبَنا"؛ وذلك أنه في الظاهر طلب من القلوب ورغبة إليها، فهو كقول الراجز فيما أنشده ابن الأعرابي:
يا رب لا يرجع إلينا طِفْيلا2
وفسره طفلًا، فظاهره الطلب والرغبة إلى ذلك الإنسان المدعو إليه؛ وإنما المسئول الله سبحانه، حتى كأنه قال: اللهم لا ترجعه إلينا، ويؤكد في ذلك النداء في قوله تعالى: "ربنا"، ويزيد في شرحه لك أنك تقول للأمير: لا ترهقني؛ لأنه يملك التنفيس عنك، ولا تقول له: أيها الأمير، أدخلني الجنة؛ لأن ذلك ليس له ولا إليه؛ فقد علمت إذن أن معنى "لا تَزِغْ قلوبُنا" هو معنى "لا تُزغ قلوبَنا"؛ ألا ترى أن القلوب لا تملك شيئًا فيطلب منها؟ فالمسئول إذن واحد وهو الله سبحانه.
ومن ذلك قراءة ابن عباس وطلحة: "يُرَوْنَهم مِثلَيهم"3 بياء مضمومة4.
قال أبو الفتح: هذه قراءة حسنة المعنى؛ وذلك أن رَأيتُ وأرى أقوى في اليقين5 من أُريتُ وأُرَى، تقول: أرى أن سيكون كذا؛ أي: هذا غالب ظني، وأرى أن سيكون كذا؛ أي: أعلمه وأتحققه؛ وسبب ذلك أن الإنسان قد يُريه غيره الشيء فلا يصح له، فمعناه إذن أن غيره يشرع في أن يراه ولا أنه هو لا يراه، وأما أرى فإخبار بيقين منه، فكذلك هذه الآية: "يُرَوْنَهم مِثلَيهم" أي: يُصوَّر لهم ذلك وإن لم يكن حقًّا؛ لأن الشيء الواحد لا يكون اثنين
__________
1 سورة آل عمران: 8.
2 رواية اللسان "طفل": لا تردد فيه، وطفيل إما أن يكون بناء وضعيًّا كرجل طريم -وهو الطويل- ويعني به طفلًا، وإما أن يكون أراد طفيلًا يصغره بذلك ويحقره، فلما لم يستقم له الوزن غير بناء التصغير وهو يريده، وهذا مذهب ابن الأعرابي، والقياس ما بدأنا به. اهـ.
3 سورة آل عمران: 13. قرأ نافع ويعقوب وسهل: "ترونهم" بالتاء على الخطاب، وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة. البحر المحيط: 2/ 394.
4 في المصدر السابق: وقرأ ابن عباس ويعقوب وسهل: "ترونهم" بالتاء على الخطاب، وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة.
5 في ك: النفس.
(1/154)
________________________________________
في حال واحد؛ ولكن قد يُظن ويتوهم شيئين بل أشياء كثيرة، ومثله قول الله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} 1، فهذا يُحسِّن هذه القراءة.
وأما قراءة الجماعة: "يَرَوْنَهم " فلأنها أقوى معنى؛ وذلك أنه أوكد لفظًا؛ أي: حتى لا يقع شك فيهم ولا ارتياب بهم أنهم مثلاهم، فهذا أبلغ في معناه من أن يكون مُرٍ يُرِيهم ذلك، فقد يجوز أن يتم له ذلك وقد لا، هذا في ظاهر الأمر؛ فأما على اليقين ومع الحقيقة فلا يجوز أن يكون "34ظ" الشيء الواحد شيئين اثنين فيما له كان واحدًا، ومما جاء مفصولًا فيه بين أَرَى وأُرَى قوله:
تَرَى أو تُراءَى عند معقِد غَرْزِها ... تهاويل من أجلاد هر مؤوَّم2
فلما قال: "ترى" استكثر ذلك؛ لأنه مع التحصيل لا حقيقة له، فأتبعه بما لان له القول الأول، فقال: أو تراءى، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة مجاهد: "زَيَّنَ لِلنَّاسِ حُبَّ الشَّهَوَاتِ"3 بفتح الزاي والياء.
قال أبو الفتح: فاعل هذا الفعل إبليس، ودل عليه ما يتردد في القرآن من ذكره، فهذا نحو قول الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} 4، وما جرى هذا المجرى.
ومن ذلك قراءة الناس: {شَهِدَ اللَّهُ} ، وقرأ أبو المهلب محارب بن دِثار5: "شُهَدَاءَ اللَّهِ"6 مضمومة الشين، مفتوحة الهاء، ممدودة على فعلاء.
__________
1 سورة الأنفال: 43.
2 البيت للممزق العبدي من قصيدة له قافية، ونصه كما في الأصمعيات 188:
ترى أو تراءى عند معقد غرزها ... تهاويل من أجلاد هر معلق
ولعل كلمة "مؤوم" في رواية الأصل من قول جابر بن حني:
أنافت وزافت في الزمام كأنها ... إلى غرضها أجلاد هر مؤوم
الغرز للناقة: مثل الحزام للفرس، والتهاويل: جمع تهويل؛ وهو ما هول به، أجلاد الشيء: شخصه بكماله، والمؤوم: القبيح الخلقة، العظيم الهامة. يريد: كان هرًّا علق عند معقد حزامها أنشب أظافره فيها، فهي تنفر وتسرع. وانظر: المفضليات: 210.
3 قراءة الجماعة: "زُين" مبنيًّا للمفعول. سورة آل عمران: 14.
4 سورة النساء: 120.
5 هو محارب بن دثار السدوسي الكوفي القاضي، عرض على أبيه عن عمر بن الخطاب، وروى عن جابر وابن عمر. عرض عليه ابنه مسلمة أحد شيوخ يعقوب، وكان من كبار العلماء. طبقات القراء: 2/ 42.
وفي البحر المحيط 2/ 403: وقرأ أبو المهلب عم محارب بن دثار: "شهداء الله"، على وزن فعلاء، جمعًا منصوبًا.
6 سورة آل عمران: 18.
(1/155)
________________________________________
قال أبو الفتح: هو منصوب على الحال من الضمير في المستغفرين؛ أي: يستغفرونه شهداء لله أنه لا إله إلا هو، وهو جمع شهيد، ويجوز أن يكون جمع شاهد؛ كعالم وعلماء، والأول أجود.
ومن ذلك قراءة الناس: {ذُرِّيَّةً} 1، وقرأ زيد بن ثابت: "ذِرِّيَّة" بكسر الذال، و"ذَرِّيَّة" بفتح الذال.
قال أبو الفتح: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ:
أحدها: ذرأ، والثاني: ذرر، والثالث: ذرو، والرابع: ذرى.
فأما الهمز، فمن ذرأ الله الخلق.
وأما ذرر، فمن لفظ الذر ومعناه؛ وذلك لما ورد في الخير أن الخلق كان في القديم كالذر.
وأما الواو والياء، فمن ذرَوت الحَب وذَريته، يقالان جمعيًا؛ وذلك لقوله2 سبحانه: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 3، وهذا للطفه وخفته، وتلك حال الذر أيضًا.
فهذه الأصول المنزوع إليها، المقود تصريف هذا الموضع عليها.
فأما "ذُرية" المضمومة، فإن أخذتها من ذرأ؛ فإنها في الأصل فُعِّيلة كمُرِّيق4، وأصلها ذُرِّيئة، فألزمت التخفيف أو البدل كنبِيٍّ في أكثر اللغة، وكالخابية5، وكالبرية، فيمن أخذها من برأ الله الخلق، وغير ذلك مما أُلزم التخفيف. ومثلها: {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} 6 فيمن جعله فُعِّيلًا من درأَت؛ وذلك لأنه يدرأ الظلمة عن نفسه بضوئه، وأصله على هذا دُرِّيءٌ فخفف، وقد قرئ به مهموزًا7.
وإن أَخذت الذُّرية من الذَّرِّ احتمل خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون فُعْلِيَّة كبختية وقمرية8.
والآخر: أن تكون منسوبة إلى الذر، إلا أنه غُير أولها؛ لما قد يعرض من التغيير لياءي الإضافة، كقولهم في الإضافة إلى أمس: إمسي، وإلى الأفق: أَفَقِي، وإلى الحرَم: حِرْمي، وإلى جَذِيمة: جُذمِيّ، وإلى عبيدة: عُبدِي، وإلى الدهر: دُهْرِي، وإلى السهل: سُهْلِي.
والثالث: أن تكون ذرية فُعِّيلة كمُرِّيقة؛ إلا أن أصلها ذُرِّيرة على هذا، فلما كثرت
__________
1 سورة آل عمران: 34.
2 في ك: لقول الله.
3 سورة الكهف: 45.
4 المريق: الذي أخذ في السمن من الخيل.
5 الخابية: الحب، من خبأ، وترك همزها.
6 سورة النور: 35.
7 وهذه قراءة أبي بكر وحمزة. إتحاف فضلاء البشر: 199.
8 البختية: الإبل الخراسانية، والقمرية: ضرب من الحمام.
(1/156)
________________________________________
الراءات أبدلوا الآخرة ياء وأدغموا فيها ياء فُعِّيلة التي قبلها، ونحو منه مما أبدل فيه أحد الأمثال ياء هربًا من تكريرها قولهم: تظنَّيْتُ، وتَسَرَّيْتُ، وتَلعَّيْتُ1 من اللُّعَاعة وهي يقلة، وقَصَّيتُ أظافري، وتفَضَّيْتُ من الفضة، وكقوله:
تقضِّيَ البازي إذا البازي كسر2
هو تَفعُّل من الانقضاض، وأصله تقَضُّض، كما أن أصل تظنيت تظننت، وتسريت تسررت؛ لأنه تفعلت من السُّرِّية فيمن أخذها من السِّر "35و" وهو النكاح، أو من السر لأنه3 في غالب الأمر مكتومة الأمر من صاحبة المنزل. وهذا قول أبي الحسن الكرخي. وأصل تلعيت تلععت، وأصل قصيت أظفاري قصصت، ويمكن أن يكون أُخِذت من أَقاصِيها فلا يكون مبدلًا، وأصل تفضيت تَفَضَّضْتُ، وقالوا: فأبدالوا مع الاثنين4 في أمللت الكتاب: أمليت، وقال الأسود بن يعفر:
وأقسمت لا أملاه حتى يفارقا5
يريد: أَملُّه، فأبدلوا الثاني منها ياء للتكرير، ثم أُبدلت الياء ألفًا؛ فصار أملاه.
وأخبرنا أبو علي قال: قال أحمد بن يحيى عنهم: "لا وَرَبْيِك لا أفعل"، يريد: لا وربك، ونظائره كثيرة. فأصل ذرية على هذا ذُرِّيرة فُعِّيلة كمُرِّيقة، فأُبدلت الراء الأخيرة لما ذكرنا ياء6، وأدغمت فيها ياء فُعِّيلة؛ فصارت ذُرِّيَّة.
والرابع: أن تكون فُعُّولة كجُبُّورة7 وكسبوح وقدوس، وأصله على هذا ذُرُّورة، فأبدلت الراء الأخيرة -لما ذكرنا من اجتماع الأمثال- ياء؛ فصارت ذُرُّويَة، ثم أبدلت الواو لوقوعها ساكنة قبل الياء ياء والضمة قبلها كسرة، وأدغمت في الياء المبدلة من الراء؛ فصارت ذُرِّية كما ترى.
__________
1 تلعيت: تناولت اللعاعة.
2 للعجاج، وقبله:
إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر
داني جناحيه من الطور فمر
في مدح عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك قد وجهه إلى أبي فديك الخارجي فقتله وقتل أصحابه. سمط اللآلي: 790، والديوان: 17.
3 كذا في النسختين، والظاهر أنها: لأنها، أو أن الضمير للشأن.
4 يريد: مع تكرير حرفين اثنين.
5 شواهد الشافية: 441.
6 في ك: ياء كما ذكرنا.
7 الجبورة: الجبروت.
(1/157)
________________________________________
والخامس: أن تكون فُعْلولة منه؛ كقُرْدودة1 وحُبْرورة2، وأصلها على هذا ذُرُّورة؛ فعُمل فيها ما عمل فيما يليها، فهذا حديث ذرية إذا كانت من ذرر.
وإن كانت من لفظ ذرو أو ذرى احتملت مثالين:
أحدهما: أن يكون فُعُّولة.
والآخر: أن يكون فُعِّيلة.
فإذا كانت فعولة من الواو فأصلها ذُرُّوَّة، كفعولة من غروت غُزُّوَّة، إلا أن الاسم طال وضوعفت في آخره الواو فاستثقلت، فأُبدلت اللام ياء للتخفيف فصار ذُرُّوية، فأبدلت الواو لوقوع الياء بعدها والواو ساكنة ياء والضمة قبلها كسرة كما قلبت هي ياء وأدغمت في الياء؛ فصارت ذُرِّيَّة.
ومثل ذلك مما أبدل لطوله وثِقَل تضعيف الواو أُدْحيَّة3، وأصلها أُدحُوَّة؛ لأنها من دحوت، وأَدعيَّة وأصلها أُدعُوَّة؛ لأنها من دعوت، وأُحْجِيَّة وأصلها أُحجوَّة؛ لأنها من حجوت؛ أي: ثَبَتُّ، وأُضحيَّة وأصلها أُضْحُوَّة؛ لأنها من الضحوة، فأبدلت لما ذكرنا؛ فصار جميعها إلى الياء.
وإن كانت ذُرية من الياء -وهي فُعُّولة- فخطبها أيسر؛ لأن أصلها ذروية، ولزمها من إبدال الواو وإدغامها ما لزم فيما قبلها. انقضى أمر ذُرية بضم الذال.
وأما "ذِرِّيَّة" بكسر الذال فتكون من ذرأ الله الخلق، فلا يجوز فيها إلا أن تكون فِعِّيلة، وأصلها ذِرِّيئة، ثم أُلزمت التخفيف أو البدل على ما مضى؛ فصارت ذِرِّيَّة.
فإن أَخذت ذِرِّية من الذر احتتملت أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون فِعْليَّة كحِيريِّ4 دهر.
والآخر: أن تكون منسوبة إلى الذر؛ إلا أنها كسر أولها للتغيير المعتاد مع ياءي الإضافة؛ كقولهم في أمس: إِمسي.
والثالث: أن تكون فِعِّيلة؛ كبِطيخة وجرِّيَّة5، وأصلها ذِرِّيرة، ثم غيرت الراء الأخيرة لكثرة الراءات ياء على ما مضى، ثم أُدغمت فيها الياء قبلها؛ فصارت ذِرِّيَّة.
__________
1 القردودة: ما ارتفع من الأرض.
2 الحبرور: ولد الحبارى، ولم نعثر عليه بالتاء فيما بين أيدينا من المعاجم.
3 الأدحية: مبيض النعام في الرمل.
4 يقال: لا آتيه حِيريّ الدهر، مشددة الآخر وتكسر الحاء؛ أي: مدة الدهر.
5 الجرية: الحوصلة.
(1/158)
________________________________________
الرابع: أن تكون "35ظ" فِعْليلَة كحِلتيت1 وحِبرير2، وأصلها على هذا ذِرِّيرَة، ثم فيها ما عمل في الذي يليها.
فإن أَخذت ذِرية من ذرو أو من ذرى لم تكن إلا فِعِّيله ألبتة، وأصلها من الواو ذِريوة، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء المد قبلها؛ فصارت ذِرية.
وإن كانت من الياء فلا صنعة فيها، فهي كفِعِّيلة من رميت رِمِّيَّة. انقضت ذِرية بكسر الذال.
وأما ذَرِّيَّة بفتح الذال فتكون من لفظ الذَّر، وتكون من لفظ ذرأ، وتكون من لفظ ذرو، وتكون من لفظ ذرى.
فإذا كانت من لفظ ذرر احتملت أن تكون فَعْلِيَّة كبَرْنِيَّة3، وأن تكون فَعُّولَة كخَرُّوبَة، وأن تكون فَعْلُولة كبَعْكُوكَة4، وأن تكون فِعِّيلة كسكينة، فتلك أربعة أوجه.
أما فَعْلِيَّة فأمرها واضح.
وأما فَعُّولَة فأصلها ذَرُّورة، فاجتمعت الراءات فأبدلت الآخرة ياء على ما قدمنا ذكره من تظنيت وتقضيت، فصارت ذَرُّوية، فلما اجتمعت الواو والياء وسكن الأول منهما قلبت الواو ياء، وأُدغمت الياء في الياء؛ فصارت ذَرِّية.
وأما فَعْلُولة فأصلها أيضًا ذَرُّورَة، فعُمل فيها من البدل والإدغام ما عمل في فَعُّولة.
وأما فَعِّيلة فأصلها ذَرِّيرَة، فأبدلت الراء الأخيرة لما ذكرنا ياء، وأدغمت فيها ياء المد قبلها؛ فصارت ذَرِّية.
فإذا كانت من لفظ ذرأ احتملت أن تكون فَعِّيلة كسكينة، وأن تكون فَعُّولة كخَرُّوبة.
فإذا كانت فَعِّيلة فأصلها ذَرِّيئة، فألزمت الهمزة التخفيف ألبتة أو البدل فقلبت ياء، ثم أدغمت فيها الياء قبلها؛ فصارت ذَرِّية.
وأما إذا كانت فَعُّولة فأصلها ذَرُّوءة، فأبدلت الهمزة ياء فصارت ذَرُّويَة، ثم أبدلت الواو ياء للياء بعدها، وأدغمت الياء المبدلة في الياء الثانية؛ فصارت ذَرِّيَّة.
ولا يجوز على هذا أن تكون همزة ذَرُّوءَة خففت؛ لأنه لو كان كذلك لقلبت واوًا لوقوع الواو قبلها، ثم أدغمت واو فَعُّولة فيها فصارت ذَرُّوَّة، كما أنك لو خففت مقروءة لقلت: مَقْرُوَّة، وهذا واضح.
__________
1 الحلتيت: صمغ الأنجذان -بفتح فسكون فضم- وهو نبات يقاوم السموم.
2 حبرير: جبل بالبحرين.
3 البرنية: إناء من خزف، والديك الصغير أول ما يدرك.
4 بعكوكة القوم بضم الباء وقد تفتح: آثارهم حيث نزلوا، أو خاصتهم، أو جماعتهم.
(1/159)
________________________________________
وأما فَعِّلية -أعني: ذَرِّيئة- فإنك إن أبدلتها أو خففتها استوى فيها اللفظان، فقلت: ذَرِّيَّة، كما تقول في تخفيف جِرِّيئة1 وأبدالها جِرِّيَّة، وهذا واضح.
وإذا كانت من لفظ الذَّرْوِ فإنها فَعِّيلة، وأصلها ذَرِّيوَة، فقلبت الواو لسكون الياء قبلها، وأدغمت الياء الأولى فيها؛ فصارت ذَرِّيَّة. ولا تحتمل وهي من الواو أن تكون فَعُّولة؛ لأنه كان يجب على هذا أن تكون ذَرُّوَّة، والحمل على أُدْحِيَّة جائز، إلا أنه ليس بالظاهر، وليس كذلك أُدْعِيَّة وأدحية وأضحية؛ لأنه قد أُمن أن يكون في الكلام أُفْعِيل؛ لأنه لم يأتِ عنهم، فلا بد إذن من أن يكون أصلها أُدْحُوَّة وأدعوة وأضحوة، فغيرت إلى الياء تخفيفًا استحسانًا لا وجوبًا، وليس كذلك ذَرِّية لو كانت من الذَّرْو؛ لأنه ليس واجبًا أن تكون فَعُّولة؛ بل قد يجوز أن تكون فَعِّيلة، فافهم ذلك.
وأما إذا كانت من ذرى، فإنها تحتمل أن تكون "36و" فَعُّولة وفَعِّيلة، فأصل فَعُّولة ذَرُّويَة، فأبدلت الواو للياء بعدها، وأدغمت الأولى في الثانية؛ فصارت ذَرِّيَّة.
وأصل فَعِّيلة ذَرِّية هكذا وكما ترى؛ لأنك أدغمت الياء الأولى في الثانية فصارت ذَرِّية، ومثلها من قَضَيْتُ قَضِيَّة، ومن رميت رمية. انتهى القول في ذُرية وذِرية وذَرية، ودعانا إلى إشباع القول عليها أن لم يتقدم أحد ببسطها، وحسبنا الله.
ومن ذلك قراءة إبراهيم2 فيما رواه المغيرة3 والأعمش عنه: "نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ بِالْحَقِّ"4 خفيفة الزاي، ورفع الباء من الكتاب.
قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على استقلال الجملة التي هي قوله عز اسمه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} .
ألا ترى أنه لا ضمير في قوله: "نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ" يعود على اسم الله تعالى؟ فعلى هذا ينبغي أن تكون جملة مستقلة أيضًا في قول مَن شدَّد الزاي ونصب الكتاب، فيكون اسم
__________
1 الجريئة: القانصة، والحلقوم.
2 هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي الكوفي الإمام المشهور الصالح الزاهد العالم، قرأ على الأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس، قرأ عليه سليمان الأعمش وطلحة بن مصرف، توفي سنة 90، وقيل: سنة 95. طبقات القراء: 1/ 29.
3 هو المغيرة بن مقسم أبو هاشم الضبي الكوفي الأعمى، روى القراءة عن عاصم بن أبي النجود، وروى عن إبراهيم النخعي، وأكثر روايته عنه، عرض عليه حمزة وأخذ عنه جرير بن عبد الحميد، توفي سنة 133. طبقات القراء: 2/ 306.
4 وقرأ الجمهور: "نزَّل" مشددًا، و"الكتابَ"بالنصب. سورة آل عمران: 3.
(1/160)
________________________________________
الله مرفوعًا بالابتداء، وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر عنه، ويكون {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} صفة له وثناء عليه، وإن شئت جعلت قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ثناء عليه معترضًا بين المبتدأ والخبر، ويكون {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} خبرين عنه، كحلو حامض.
وإن شئت جعلت قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبرًا عنه، و {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أيضًا خبرين عنه؛ فيكون له ثلاثة أخبار.
وإن شئت أن تخبر عن المبتدأ بعشرة أخبار أو بأكثر من ذلك جاز وحسن؛ لما يتضمنه كل خبر منها من الفائدة، فكأنه أخبر عنه وآثنى عليه، ثم أخذ يقص الحديث فقال: "نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ".
ومَن شدد الزاي ونصب "الكتاب" جاز أن يكون على قوله خبرًا رابعًا، وجاز أن يكون أيضًا جميع ما قبل "نزل" ثناء وإعظامًا، ويفرد قوله: "نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ" فيجعل خبرًا عنه؛ كقولك: الله سبحانه، وجل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، يأمر بالعدل، وينهى عن السوء. وفيه اكثر من هذا؛ إلا أن في هذا مقنعًا بحمد الله.
ومن ذلك قراءة مجاهد وحميد الأعرج1: "أَنَّ اللَّهَ يُبْشِرُكَ"2 بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين خفيفة.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا منقولًا من بَشِرْتُ بالأمر في وزن أَنِفْتُ وفَرِحْتُ؛ كقولك: بَطِر وأبطرته، وخرِق وأخرقته، يقال: بَشِر الرجل بالخير وأبشرته وبشَّرته وبَشَرْتُ خفيفة أيضًا.
ومن ذلك قراءة الأعمش: "إِلَّا رُمُزًا"3 بضمتين.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا على قول مَن جعل واحدتها رُمْزَة، كما جاء عنهم ظُلْمَة
__________
1 هو حميد بن قيس الأعرج أبو صفوان المكي القارئ، ثقة. أخذ القراءة عن مجاهد بن جبر وعرض عليه ثلاث مرات. روى القراءة عنه سفيان بن عينية وأبو عمرو بن العلاء وإبراهيم بن يحيى بن أبي حية وغيرهم. توفي سنة 130. طبقات القراء 1/ 265.
2 سورة آل عمران: 29. وقد قرأ ابن عامر وحمزة: "إن الله" بكسر الهمزة، وقرأ الباقون بفتح الهمزة. البحر المحيط: 2/ 446.
3 قراءة الجماعة: {إِلَّا رَمْزًا} بفتح الراء وسكون الميم. وفي البحر المحيط 2/ 453: وقرأ علقمة بن قيس ويحيى بن وثاب: "رُمُزًا"، بضم الراء والميم ... وقرأ الأعمش: "رَمَزًا" بفتح الراء والميم. اهـ. سورة آل عمران: 41.
(1/161)
________________________________________
وظُلُمة، وجُمْعَة وجُمُعَة، ويجوز أن يكون جَمَع رُمْزَة على رُمْز، ثم أتبع الضم الضم، كما حكى أبو الحسن عن يونس أنه قال: ما سُمع في شيء فُعْل إلا سُمع فيه فُعُل، وعليه قول طرفة:
وِرَادًا وشُقُر1
يريد: شُقْرًا.
ومن ذلك قراءة إبراهيم وأبي بكر الثقفي: "الْحَوَارِيُون"2 مخففة الياء في جميع القرآن.
قال أبو الفتح: ظاهر هذه القراءة يوجب التوقف عنها والاحتشام منها؛ وذلك لأن فيها "36ظ" ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها، وهذا موضع تعافه العرب وتمتنع منه.
ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3 وأصله العاديُون، فاستثقلت الضمة على الياء، فأسكنت وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها؟ فكان يجب على هذا أن يكون الحوارُون كالقاضُون والساعون، إلا أن هنا غرضًا وفرقًا بين الموضعين يكاد يقنع مثله؛ وذلك أن أصل هذه الياء أن تكون مشددة، وإنما خففت استثقالًا لتضعيف الياء، فلما أريد فيها معنى التشديد جاز أن تُحَمَّل الضمة تصورًا لاحتمالها إياها عند التشديد، كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزيون إلى أن أخلص الهمزة ياء ألبتة، وحَمَّلها الضمة تذكُّرًا لحال الهمز المراد فيها، وكما قال في مثال عضْرَفُوط4 من قرأت: قَرْأَ يُوء، فأبدل الهمزة الثانية التي كانت في قَرْأَءُوء ياء، ثم ضمها بعد أن أخلصها ياء وجرت مجرى الياء التي لا حظَّ فيها لشيء من الهمز.
فإن قيل: فأي الياءين حذف من الحواريين؟
قيل: المحذوفة هي أشبهها بالزيادة، وهي الأولى؛ لأنها بإزاء ياء العطاميس5 والزناديق.
فإن قيل: فبالثانية وقع الاستثقال، فهلَّا حذفت دون الأولى؟
__________
1 البيت بتمامه:
أيها الفتيان في مجلسان ... جردوا منها ورادا وشقر
جردوا الخيل: ألقوا عنها جلالها وأسرجوها استعدادًا للقتال، وراد: جمع ورد؛ وهو من الخيل ما كان بين الكميت والأشقر، الشقر: جمع أشقر؛ وهو من الدواب الأحمر. الديوان: 82.
2 سورة آل عمران: 52.
3 سورة المؤمنون: 7، وفي الأصل: "وأولئك"، وهو تحريف.
4 العضرفوط: دويبة بيضاء ناعمة، ويقال: العضرفوط: ذكر العِظاء.
5 العطاميس: جمع عطموس بضم العين وسكون الطاء؛ وهي الناقة الهرمة.
(1/162)
________________________________________
قيل: قد يُغيَّر الأول من المثلين تخفيفًا كما يغير الآخر، وذلك قوله:
يا ليتما أُمُّنا شالت نعامتها ... إيما إلى جنة أيما إلى نار1
يريد: أَمَّا، وكذلك القول في قيراط ودينار وديماس2 فيمن قال: دماميس، وديباج فيمن قال: دبابيج، وقد حذفت هذه الياء في الواحد من هذا الجمع. أنشدنا أبو علي وقرأته عليه أيضًا في نوادر أبي زيد:
بَكِّي بعينك واكف القَطْر ... ابن الحوارِي العالي الذِّكْرِ3
يريد: الحوارِيّ. وقد خففت ياء النسب في غير موضع مع كونها مفيدة لمعنى النسب، فكيف بها إذا كان لفظها لفظ النسب ولا حقيقة له هناك؟ ألا ترى أن الحواريَّ بمنزلة كرسي في أنه نسب لفظي، ولا حقيقة إضافة تحته؟
ومن ذلك قراءة الحسن: "أَنْ يُوتِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ"4، قال أحمد بن صالح5: كذا قال، قال ابن مجاهد: وعلى هذا ينبغي أن يكون أن يوتِيَ أحدًا.
قال أبو الفتح: لا وجه لإنكار ابن مجاهد رفع "أحد" مع قوله "يوتِيَ" مسمى الفاعل؛ وذلك أن معناه أن يوتِي أحد أحدًا مثل ما أوتيتم؛ كقولك: أن يحسن أحد مثل ما أُحْسِنَ إليكم؛ أي: أن يحسن أحد إلى أحد مثل ما أُحْسن إليكم، فتحذف المفعول ويكون معناه ومفاده أن نعمة الله سبحانه لا تُقاس بها نعمة. وهذا مع أدنى تأمل واضح.
ومن ذلك قراءة أبي حيوة6: "تُدْرِسُون"7 بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء.
__________
1 البيت لسعد بن قرظ من العققة. شالت نعامتها: ارتفعت جنازتها. مختصر الشواهد للعيني: 299.
2 الديماس بفتح الدال ويكسر: الكِنُّ، والسرب، والحمام.
3 البيت لابن الرقيات. النوادر: 205.
4 قراءة الجماعة: {أَنْ يُؤْتَى} ببناء الفعل للمجهول. سورة آل عمران: 73.
5 أحمد بن صالح الإمام الحافظ أبو جعفر المصري، أحد الأعلام، ولد سنة 170، قرأ على ورش وقالون وله عن كل منهما رواية، وعلى إسماعيل بن أبي أويس وأخيه أبي بكر عن نافع، وروى حرف عاصم عن حرمى بن عمارة بن أبي حفصة عن أبان العطار، وتوفي سنة 248. طبقات القراء: 1/ 62.
6 هو شريح بن يزيد أبو حيوة الحضرمي الحمصي، صاحب القراءة الشاذة ومقرئ الشام، روى القراءة عن الكسائي وغيره، وروى عنه قراءته ابنه حيوة، وروى أيضًا عنه قراءة الكسائي، توفي سنة 203. طبقات القراء: 1/ 325.
7 قراءة الجماعة: {تَدْرُسُونَ} بفتح التاء. وفي البحر المحيط 2/ 506: وقرأ أبو حيوة: "تدرسون" بسكر الراء، ورُوي عنه: "تُدَرِّسون" بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة. سورة آل عمران: 79.
(1/163)
________________________________________
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا منقولًا من درس هو وأَدرس غيره؛ كقولك: قرأ وأَقرأَ غيره. وأكثر كلام العرب درس ودرَّس غيره، وعليه جاء المصدر على التدريس "37و".
ومن ذلك قراءة الأعرج فيما يُروى عنه: "لَمَّا آتيناكم"1 بفتح اللام وتشديد الميم، "آتيناكم" بألف قبل الكاف.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة إغراب، وليست "لَمَّا" هاهنا بمعروفة في اللغة؛ وذلك أنها على أوجه:
تكون حرفًا جازمًا كقوله الله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} 2.
وتكون ظرفًا في نحو قوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} 3.
وتكون بمعنى إلا في نحو قولهم: أقسمت عليك لَمَّا فعلت؛ أي: إلا فعلت.
ولا وجه لواحدة منهن في هذه الآية.
وأقرب ما فيه أن يكون أراد: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمِنْ ما آتيناكم، وهو يريد القراءة العامة4: "لَمَا آتيناكم"، فزاد مِن على مذهب أبي الحسن في الواجب؛ فصارت "لَمِمَّا"، فلما التقت ثلاث ميمات فثقلن حذفت الأولى منهن، فبقي "لَمَّا" مشددًا كما ترى، ولو فُكت لصارت لَنْما، غير أن النون أُدغمت في الميم كما يجب في ذلك فصارت "لَمَّا". هذا أوجه ما فيها إن صحت الرواية بها.
وأما "آتيناكم" بالجمع فطريقه أنه لما ورد مع لفظ الجماعة من النبيين جاء أيضًا مجموعًا تعاليًا في اللفظ؛ كقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} 5، وقال سبحانه: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} 6، ولو كانت: وضربت لكم الأمثال، لم تبلغ في سمو اللفظ وتعاليه7 في قوله: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ} ، فتفهَّم معناه.
__________
1 قراءة جمهور السبعة: {لَمَا آتَيْتُكُمْ} بفتح اللام وتخفيف الميم. البحر المحيط: 2/ 509، سورة آل عمران: 18.
2 سورة آل عمران: 142.
3 سورة القصص: 22.
4 أي: في "لما" خاصة كما لا يخفى.
5 سورة الإنسان: 28.
6 سورة إبراهيم: 45.
7 في الأصل "تغاليه" بالغين، وما أثبتناه متفق مع ما قبله ...
(1/164)
________________________________________
ومن ذلك قراءة أبان بن تغلب1: "قُل صَّدَقَ اللَّهُ"2 بإدغام اللام في الصاد، وكذلك: "قُل سِّيرُوا"3.
قال أبو الفتح: علة جواز ذلك فُشو هذين الحرفين -أعني: الصاد والسين- في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما، فقاربتا بذلك مخرج اللام فجاز إدغامها فيهما، وكذلك هي أيضًا مع الزاي ومع الطاء، والدال والتاء. قرئ: "فَهَل تَّرى لهم"4، ومع الظاء والثاء والذال، قرئ: "هل ثُّوب الكفار"5، فأما اللام التي للتعريف فتُدغم في ثلاثة عشر حرفًا، وذلك معروف في موضعه، فلا وجه لإعادته.
ومن ذلك ما رواه مبارك6 عن الحسن أنه كان يقرأ: "بِثَلاثَهْ آلافٍ"7 و"بِخَمْسَهْ آلافٍ"8، وَقْفٌ ولا يُجري واحدًا منهما.
قال أبو الفتح: وجهه في العربية ضعيف؛ وذلك أن ثلاثة وخمسة مضافان إلى ما بعدهما، والإضافة تقتضي وصل المضاف بالمضاف إليه؛ لأن الثاني تمام الأول، وهو معه في أكثر الأحوال كالجزء الواحد، وإذا وصلت هذه العلامة للتأنيث فهي تاء لا محالة؛ وذلك أن أصلها التاء، وإنما يبدل منها في الوقف الهاء، وإذا كان كذلك -وهو كذلك- فلا وجه للهاء؛ لأنها من أمارات الوقف، والموضع على ما ذكرنا متقاضٍ للوصل، غير أنه قد جاء عنهم نحو هذا، حكى الفراء أنهم يقولون: أكلت لحمَا شاة، يريدون: لحم شاة، فيمطلون الفتحة فينشئون عنها ألفًا، كما يقولون في الوقف: قالا، يريدون: قال، ثم يمطلون الفتحة فتنشأ عنها الألف، وهذا المطل لا يكون مع الإسراع والاستحثاث؛ إنما يكون مع الروية والتثبت، وأنشد أبو زيد:
مَحْضٌ نِجَارى طيِّب عنصري9
__________
1 هو أبان بن تغلب الربعي أبو سعيد، ويقال: أبو أميمة الكوفي النحوي، جليل، قرأ على عاصم وأبي عمرو الشيباني وغيرهما، وأخذ القراءة عنه عرضًا محمد بن صالح بن زيد الكوفي، توفي سنة 141، وقيل: سنة 153. طبقات القراء: 1/ 4.
2 سورة آل عمران: 95.
3 سورة النمل: 69.
4 سورة الحاقة: 8، والإدغام قراءة أبي عمرو وهشام في المشهور عنه وحمزة والكسائي. إتحاف فضلاء البشر: 26.
5 سورة المطففين: 36، والإدغام قراءة حمزة والكسائي وهشام في المشهور عنه. المرجع السابق: 269.
6 هو المبارك بن الحسن بن هلال الثقفي، روى قراءة الحسن البصري. طبقات القراء: 2/ 40.
7 سورة آل عمران: 124.
8 سورة آل عمران: 125.
9 رُوي: "غض" مكان "محض". النجار: الأصل. الخصائص: 3/ 211.
(1/165)
________________________________________
يريد: عُنْصُرِي بتخفيف الراء، غير أنه "37ظ" ثقَّلها كما يفعل في الوقف، نحو: خالدّ وجعفرّ، وإذا جاز أن يُنوى الوقف دون المضمر المجرور، وهو على غاية الحاجة -للفطه عن الانفصال- إلى ما قبله جاز أيضًا أن يعترض هذا التلوم والتمكث دون المظهر المضاف إليه؛ أعني: قوله: "آلاف"؛ بل إذا جاز أن يعترض هذا الفتور والتمادي بين أثناء الحروف من المثال الواحد نحو قوله:
أقول إذ خَرَّت على الكَلْكالِ ... يا ناقتا ما جُلْت من مجالِ1
وقوله فيما أَنشدناه:
ينباع من ذفرى غضوب جسرة2
يريد: ينبع. وقوله أُنشدناه:
وأنت من الغوائل حين تُرْمى ... ومن ذم الرجال بِمُنْتَزَاح3
يريد: منتزَح مُفْتعَل من نزح، كان التأني والتمادي بالمد بين المضاف والمضاف إليه؛ لأنهما في الحقيقة اسمان لا اسم واحد أمثل، ونحوه قراءة الأعرج عن ابن أبي الزناد: "بثلاثهْ آلاف" بسكون الهاء، وقد ذكرناه فيما قبل، فهذا تقوية وعذر لقراءة أبي سعيد، وقد أفردناه في الخصائص4 بابًا قائمًا برأسه، وذكرناه أيضًا في هذا الكتاب.
ومن ذلك قراءة محمد بن السميفع: "قَرَحٌ"5 بفتح القاف والراء.
قال أبو الفتح: ظاهر هذا الأمر أن يكون فيه لغتان: قرْح، وقرَح، كالحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد، والشل والشلل. وفيه أيضًا قُرْح على فُعْل، يقرأ بهما جميعًا6.
__________
1 البحر المحيط 3/ 50، واللسان "كلكل". الكلكل: الصدر، أو ما بين الترقوتين، أو باطن الزور.
2 عجزه:
زيافة مثل الفَنيق المكدَم
والبيت لعنترة من معلقته. الذفرى: ما خلف الأذن، الجسرة: الناقة الموثقة الخلق، زيافة: شديدة التبختر، الفنيق: الفحل من الإبل، المكدم: المعضض. شرح المعلقات السبع للزوزني: 144.
3 لابن هرمة يرثي ابنه، وقيل: يمدح بعض القرشين، وكان قاضيًا.
ويروى: "حيث" مكان "حين"، و"تنمى" مكان "ترمى".الغوائل: جمع غائلة؛ وهي الفساد والشر، وقيل: الدواهي, وترمى بالبناء للمفعول، بمنتزاح: أي ببعد. سر صناعة الإعراب: 29، وشواهد الشافية: 25، والخصائص: 2/ 316، 3/ 121.
4 انظر: الخصائص: 3/ 121-124.
5 سورة آل عمران: 140.
6 قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف بضم القاف ووافقهم الأعمش، وقرأ الباقون بالفتح. إتحاف فضلاء البشر: 108.
(1/166)
________________________________________
ثم لا أُبْعدُ من بَعْدُ أن تكون الحاء لكونها حرفًا حلقيًّا يفتح ما قبلها كما تفتح نفسها فيما كان ساكنًا من حروف الحلق، نحو قولهم في الصخْر: الصخَر، والنعْل: النعَل. ولعمري، إن هذا عند أصحابنا ليس أمرًا راجعًا إلى حرف الحلق؛ لكنها لغات، وأنا أرى في هذا رأي البغداديين في أن حرف الحلق يؤثر هنا من الفتح أثرًا معتدًّا معتمدًا؛ فلقد رأيت كثيرًا من عقيل لا أحصيهم يحرك من ذلك ما لا يتحرك أبدًا لولا حرف الحلق، وهو قول بعضهم: نَحَوَه، يريد: نَحْوه، وهذا ما لا توقف في أنه أمر راجع إلى حرف الحلق؛ لأن الكلمة بنيت عليه ألبتة، ألا ترى أن لو كان هذا هكذا لوجب أن يقال: نحاة؛ لأنه فَعَلٌ مما لامُه واو، فيجري مجرى عصاة1 وفتاة.
نعم، وسمعت الشجري يقول في بعض كلامه: أنا مَحَموم، بفتح الحاء. وقال مرة وقد رسم له الطبيب أن يمص التفاح ويرمي بثُفْله فلم يفعل ذلك، فأنكره الطبيب عليه، فقال: إني لأبغي مصه وعِلْيَته تَغَذُو، يريد: تَغْذُو، ولا قرابة بيني وبين البصريين؛ لكنها بيني وبين الحق، والحمد لله، ويكون فتح الحاء من القَرَح لها ما قبلها كفتحها لها عين الفعل المضارع2، نحو: يسنَح ويسفَح ويسمَح.
ويُؤنِّس بذلك أن هذه الحروف حلقية، فضارعت بذلك الألف التي لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا، وهذا قدر ما يتعلَّل به، إلا أن الاختيار أن تكون "القَرَح" لغة.
ومن ذلك قراءة إبراهيم: "مِنْ قَبْلِ أَنْ تُلاقُوه"3.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أنك إذا لقيتَ الشيء فقد لقيَك هو أيضًا، فلما كان كذلك دخله معنى المفاعلة؛ كالمضاربة والمقاتلة، وقد جاء ذلك عينه في هذه "38و" اللفظة عينها، قالت امرأة:
هل الَّا الموت يغلي غاليهْ ... مختلطًا سافله بعاليهْ
لا بد يومًا أنني ملاقيهْ4
فأما ما قرأته على أبي علي في نوادر أبي زيد من قوله:
فارقَنا قبل أن نفارقه ... لما قضى من جماعنا وطَرا5
__________
1 في اللسان: قال الأزهري: ويقال للعصا عصاه بالهاء، ويقال: أخذت عصاته. قال: ومنهم من كره هذه اللغة.
2 يريد: أن فتح الحاء ما قبلها لأجلها وبسببها....
3 سورة آل عمران: 143، وهي أيضًا قراءة الزهري. البحر المحيط: 3/ 67.
4 رُوي: "ما هو الا" مكان "هل الا"، وانظر: الخصائص: 2/ 364.
5 البيت للربيع بن ضبع الفزاري. النوادر: 159.
(1/167)
________________________________________
فظاهره إلى التناقض؛ لأنا إذا فارقَنا فقد فارقْناه لا محالة، فما معنى قوله بعد: قبل أن نفارقه؟ وهو عندنا على إقامة المسبب مقام السبب في تفسيره: فارقَنا قبل أن نريد فراقه، فوضع المفارقة وهي المسبب موضع الإرادة لها وهي السبب؛ وذلك لقرب أحدهما من صاحبه.
ومثله قوله الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 1 أي: إذا أردت القراءة، وهو كثير قد مر في هذا الكتاب، وقد أفردنا له في الخصائص2 بابًا قائمًا برأسه.
ومن ذلك قراءة حطان بن عبد الله:3 "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُل"4، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود.
قال أبو الفتح: هذه القراءة حسنة في معناها؛ وذلك أنه موضع اقتصاد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وإعلام أنه لا يلزم ذمته ممن يخالفه تبعة؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5، وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 6، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 7، وقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} 8.
ومعلوم أن "إنما" موضوعة للاقتصاد والتقليد، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 9؟ فهذا كقوله: {مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 10، وقوله: {وَقَلِيل مَا هُمْ} 11، وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 12. فلما كان موضع اقتصاد به، وفكٍّ ليد الذم عن ذمته، وكان من مضى من الأنبياء -عليهم السلام- في هذا المعنى مثله، لاق بالحال تنكير ذكرهم بقوله: "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلُ".
وذلك أن التنكير ضرب من الكف والتصغير، كما أن التعريف ضرب من الإعلام والتشريف، ألا ترى إلى قوله:
فمن أنتم إنانسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصر13
__________
1 سورة النحل: 98.
2 انظر: الخصائص: 3/ 173-177.
3 هو حطان بن عبد الله الرقاشي، ويقال: السدوسي، كبير القدر، صاحب زهد وورع وعلم، قرأ على أبي موسى الأشعري عرضًا، قرأ عليه عرضًا الحسن البصري، مات سنة نيف وسبعين. طبقات القراء: 1/ 253.
4 قراءة الجمهور: "الرسل" بالتعريف. سورة آل عمران: 144.
5 سورة العنكبوت: 18.
6 سورة آل عمرن: 128.
7 سورة الرعد: 7.
8 سورة يونس: 42.
9 سورة فاطر: 28.
10 سورة هود: 40.
11 سورة ص: 24.
12 سورة سبأ: 13.
13 لزياد الأعجم. الدرر اللوامع: 1/ 137.
(1/168)
________________________________________
فأين هذا من قوله:
هذا الذي تَعْرِف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم؟ 1
ولهذا قال:
من حديث نَمَى إليَّ فما أطـ ... ـعَمُ غُمْضًا ولا ألذ شرابي2
فنكَّر الغمض احتقارًا له إذ كان لا يعرفه، وعرَّف الشراب إذ كان لا بد أن يشرب وإن قل. قال:
على كل حال يأكل المرء زادَه ... من الضر والبأساء والحدَثان
ولأجل ذلك لم تندب العرب المبهم ولا النكرة لاحتقارها، وإنما تندب بأشهر أسماء المندوب؛ ليكون ذلك عذرًا لها في اختلاطها وتفجعها، ويؤكده أيضًا قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 3، فجرى قوله سبحانه: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلُ" مجرى قولك لصاحبك: اخدم كما خَدَمَنَا غيرُك من قبلك ولا تبعة عليك بعد ذلك، فهذا إذن موضع إسماح له، فلا بد إذن من إلانة ذكره، وعليه جاء قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} 4 فأضاف "38ظ" سبحانه من عذرهم، وأعلَمَ ألا متعلق عليه بشيء من أمرهم، فلهذا حسن تنكير "رسل" هاهنا، والله أعلم.
وأما من قرأ: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فوجه تعريفهم ومعناه: أنكم قد عرفتم حال مَن قبله من الرسل في أنهم لم يطالبوا بأفعال مَن خالفهم، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم، فلما كان موضع تنبيه لهم كان الأليق به أو يومئ إلى أمر معروف عندهم.
ومن ذلك قراءة الأعمش، فيما رواه القطعي5 عن أبي زيد عن المفضَّل عن الأعمش: "ومَن
__________
1 للحزين الكناني، واسمه عمرو بن عبيد بن وهب بن مالك، أحد بني عبد مناة بن كنانة، يقوله في عبد الله بن عبد الملك بن مَرْوان، وكان من فتيان بني أمية وظرفائهم حسن الوجه، والناس يروون هذه الأبيات للفرزدق في مدح علي بن الحسين، ولم أعثر عليها في ديوانه. وانظر: الحماسة: 2/ 269.
2 يروى:
من حديث نمى إليَّ فما ير ... قأ دمعي وما أسيغ شرابي
وهو لعلفاء بن الحارث. معجم الشعراء: 423.
3 سورة غافر: 78.
4 سورة آل عمران: 44.
5 هو محمد بن يحيى بن مهران أبو عبد الله القطعي البصري، إمام مقرئ، مؤلف متصدر، أخذ القراءة عرضًا عن أيوب بن المتوكل وهو أكبر أصحابه، وروى الحروف سماعًا عن أبي زيد الأنصاري وغيره، وروى القراءة عنه أحمد بن علي الخزاز وغيره. طبقات القراء: 2/ 278.
(1/169)
________________________________________
يُرِدْ ثواب الدنيا يُوتِه منه ومَن يُرِدْ ثوابَ الآخرة يُوتِه منها وسنجزي الشاكرين"1 بالياء فيهما.
قال أبو الفتح: وجهه على إضمار الفاعل لدلالة الحال عليه؛ أي: يوته الله، يدل على ذلك قراءة الجماعة: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} بالنون.
وحديث إضمار الفاعل للدلالة عليه واسعٌ فاشٍ عنهم، منه حكاية الكتاب أنهم يقولون: إذا كان غدًا فائتني؛ أي: إذا كان ما نحن عليه من البلاء في غد فائتني، ومثله حكايته أيضًا:
مَن كذب كان شرًّا له؛ أي: كان الكذب شرًّا له. وعليه قول الآخر:
ومجوَّفات قد علا ألوانها ... أسآر جُرد مُتْرَصاتٍ كالنَّوَى2
أي: قد علا التجويف ألوانَها. وقول الآخر:
إذا نُهِيَ السفيهُ جرى إليه ... وخالَف والسفيهُ إلى خلاف3
وكما أضمر المصدر مجرورًا؛ أعني: الهاء في إليه -يعني إلى السفه- كذلك أيضًا أضمره مرفوعًا بفعله.
ومن ذلك قراءة ابن محيصن والأشهب والأعمش: "وكَأْيٍ"4 بهمزة بعد الكاف ساكنة، وياء بعدها مكسورة خفيفة، ونون بعدها، في وزن كَعْيٍ.
قال أبو الفتح: فيها أربع لغات: كأَيّ، وكاءٍ، وكأْي -وهي هذه القراءة- وَكَاءٍ في وزن كَعٍ.
ثم اعلم أن أصل ذلك كله "كأَيٍّ" في معنى كم كأكثر القراءة "وكأَيٍّ من قرية"5، وهي أَيٌّ دخلت عليها كان الجر، فحدث لها من بعد معنى كم، ولهذه الكاف الجارة حديث طويل في دخولها وفيها معنى التشبيه، وفي دخولها عارية من التشبيه، نحو: كأن زيدًا عمرو، وله كذا وكذا درهمًا، وكأَيٍّ من رجل، ثم إنها لما كثر استعمالها لها تلعبت بها العرب كأشياء يكثر تصرفها فيها لكثرة نقطها بها، فقَدَّمت الياء المشددة على الهمزة فصارت كَيَّأٍ بوزن كَيَّع،
__________
1 سورة آل عمران: 145.
2 المجوف من الدواب: الذي يصعد البلق منه حتى يبلغ البطن، والأسآر: جمع سؤر؛ وهو بقية الشيء، المترص: المحكم، من ترص الشيء تراصه، فهو مترص وتريص.
3 رُوي: "زجر" مكان "نُهي". انظر: معاني القرآن: 1/ 104، والخزانة 2/ 383.
4 سورة آل عمران: 146.
5 سورة محمد: 13.
(1/170)
________________________________________
ثم حذفت الياء المتحركة تشبيهًا لها بسيَّد وميت؛ فصارت "كَيْءٍ" بوزن كَيْعٍ، ثم قلبت الياء ألفًا وإن كانت ساكنة، كما قبلت في ييئس فقيل: ياءس؛ فصارت كاءٍ بوزن كَاعٍ.
وذهب يونس في "كاء" إلى أنه فاعل من الكون، وهذا يبعد؛ لأنه لو كان كذلك لوجب إعرابه؛ إذ لا مانع له من الإعراب.
وأما كأْي بوزن كَعْي، فهو مقلوب كَيْء الذي هو أصل كاء، وجاز قلبه لأمرين:
أحدهما: كثرة التلعب بهذه الكلمة.
والآخر: مراجعة أصل، ألا ترى أن أصل الكلمة كأي؟ فالهمزة إذن قيل الياء. وأما كَأٍ بوزن كَعٍ فمحذوفة من كَاءٍ، وجاز حذف الألف لكثرة الاستعمال، كما قال الراجز "39و":
أصبح قلبي صَرِدا ... لا يشتهي أن يردا
إلا عرادا عردا ... وصلِّيانا بردا
وعَنْكَثًا ملتبِدا1
يريد: عاردًا وباردًا. ألا ترى إلى قول أبي النجم:
كأن في الفُرْش العَرَادَ العاردا2
وكما قالوا: أَمَ والله لقد كان كذا، يريد أَما، وحَذف الألف.
فإن قلت: فما مثال هذه الكلم من الفعل فإن كَأَيٍّ مثاله كفَعْل؛ وذلك أن الكاف زائدة، ومثال أَيٍّ فَعْل كطَيٍّ وزَيٍّ، مصدر طويت وزويت، وأصل أي أوى؛ لأنها فَعْلٌ من أويت، ووجه التقائها أن "أي" أين وقعت فهي بعض من كل، وهذا هو معنى أَوَيْتُ؛ وذلك أن معنى أويت إلى الشيء تساندت إليه، قال أبو النجم:
يأوي ألى مُلْط له وكَلْكَلِ3
أي: يتساند هذا العير إلى ملاطيه وكلكله.
__________
1 هو الضب فيما تزعم العرب، حين يقال له: وردا يا ضب، العراد: نبت في البادية، وكذلك الصليان والعنكث، وفي التكملة قوله: "بردا" تصحيف من القدماء فتبعهم فيه الخلف. والرواية "زردا" وهو السريع الازدراد؛ أي: الابتلاع. ذكره أبو محمد الأعرابي. وانظر: اللسان "عرد"، والخصائص: 2/ 364.
2 يُروى: "القتاد" مكان "العراد". والعراد: حشيش طيب الريح. وانظر: الخصائص: 2/ 365.
3 الملط: جمع ملاط؛ وهو المرفق، الكلكل: الصدر، أو هو ما بين الترقوتين، أو باطن الزور.
(1/171)
________________________________________
ونحوه قول طفيل الغنوي:
وآلت إلى أجوازها وتَقَلْقَلت ... قلائد في أعناقها لم تُقَضَّب1
فمعنى آلت: أي رجعت، والآوي إلى الشيء: معتصم به وراجع إليه، هذا طريق الاشتقاق.
وأما القياس فكذلك أيضًا؛ وذلك أن باب أويت وطويت وشويت مما عينه واو ولامه ياء أكثر من باب حيِيت وعَيِيت مما عينه ولامه ياءان، ولو نَسبتَ إلى "أَيّ" لقلت: أَوَويّ، كما أنك لو نسبت إلى طيّ ولَيّ لقلت: طَوَوِيّ ولَوَوِيّ، وكذلك لو أضفت إلى الري لكان قياسه رَوَويّ. وأما قولهم: رازِيّ، فشاذ بمنزلة كلابِزِي وإصطخْرِزي.
وأما "كَاءٍ" فوزنه كعف وأصله "كَيَّأٍ"، ومثاله كعلَف، فحذفت الياء الثانية وهي لام الفعل، كما حذفت الثانية من ميت، فبقي كَيْء، ووزنه كَعْف، وقَلْبُ الياء ألفًا لا يخرجها أن تكون كما كانت عينًا، ألا ترى أن وزن قام في الأصل فعل لأنه قوم، ومثال قام في اللفظ فَعْل؟ فالألف عين كما كانت الواو التي الألف بدل منها عينًا، وأيًّا كان مثال "كأي" فإنه كفع؛ لأن الهمزة التي هي فاء عادت إلى مكانها من التقدم.
وأما "كَأٍ" بوزن كَعٍ فإنه كف، والعين واللام محذوفتان.
فإن قيل: لَمَّا حذفت الياء الثانية من "كَيَّأٍ" هلا رددت الواو على مذهبك؛ لأنه قد زالت الياء التي قُلبت لها العين قبلها ياء فقدرته كَوْءٍ.
قيل: لما تُلُعِّب بالكلمة تُنوسى أصلها فصارت الياء كأنها أصل في الحرف، ودعانا إلى اعتماد هذا وإن لم تظهر الياء إلى اللفظ أن الألف أُبدلت منها وهي ساكنة، وقلب الألف من الياء الساكنة أضعاف قلبها من الواو الساكنة، ألا تراهم قالوا: حاحيت2 وعاعيت وهاهيت، وأصلها: حيحيت وعيعيت وهيهيت، فقلبت الياء ألفًا؟
نعم، وقلبوها مكسورًا ما قبلها ألفًا، فقالوا في الحِيرة: حَارِي، كما قالوا في المفتوح
__________
1 رُوي: "وتمت" مكان "وآلت". الأجواز: الأوساط، لم تقضب: لم تقطع. يريد أنها لما هزلت اضطربت القلائد في أعناقها. الديوان: 8.
2 قال في المنصف: 3/ 77: يقال: حاحيت حيحاء وحاحاة، وهو التصويت بالغنم: إذا قلت: حاي، أنشد أبو زيد:
لَمِعزى أبيك الورق أهون شوكة ... عليك وحيحاء بها ونعيق
عاعيت: صوت مثله؛ وهو العيعاء والعاعاة، إذا قلت: عاي، هاهيت: صوت مثله؛ وهو الهيهاء والهاهاة، إذا قلت: هاي.
(1/172)
________________________________________
ما قبلها: طائي، وقالوا: ضرب عليه سَاية1، وهي فَعْلَة من سوَّيت، يُعْنى به الطريق، وأصلها سَوْيَة، فقلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة قبل الياء فصارت سَيّة، ثم قلبت الياء ألفًا فقيل: "ساية"، وهو أولى من أن تكون قلبت الواو من سوية ألفًا قبل القلب والإدغام، وإن أعطيت القول ثني مِقوده طال وطغى وأَمَلَّ وتمادى "39ظ".
ومن ذلك قراءة قتادة: "وكَأَي من نبي قُتِّل معه ربيون كثير"2 مشددة.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على أن مَن قرأ مِن السبعة قُتل أو قاتل معه ربيون، فإن "ربيون" مرفوع في قراءته بقُتِل أو قاتل، وليس مرفوعًا بالابتداء ولا بالظرف الذي هو معه، كقولك: مررت برجل يَقْرأُ عليه سلاح، ألا ترى أنه لا يجوز كم نبي قُتِّل بتشديد التاء على فُعِّل؟ فلا بد إذن أن يكون ربيون مرفوعًا بقتِّل، وهذا واضح.
فإن قلت: فهلا جاز فُعِّل حملًا على معنى كم؟
قيل: لو انصُرِف عن اللفظ إلى المعنى لم يحسن العود من بعد إلى اللفظ، وقد قال تعالى كما تراه: "معه"، ولم يقل: معهم، فافهم ذلك3.
ومن ذلك قراءة علي وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبي رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب4: "رُبِّيون" بضم الراء، وقرأ بفتحها ابن عباس فيما رواه قتاده عنه.
قال أبو الفتح: الضم في "رُبِّيون" تميمية، والكسر ايضًا لغة. قال يونس: الرُّبَّة: الجماعة. وكان الحسن يقول: الرِّبِّيون: العلماء الصُّبُر. قال قطرب: والجماعة أيضًا مع يونس؛ أي: فرق وجماعات.
__________
1 في اللسان "سوا": ضرب لي ساية: أي هيأ لي كلمة سواها ليخدعني.
2 سورة آل عمران: 146.
3 قال أبو حيان بعدما لخص كلام ابن جني عن قراءة قتادة: وليس بظاهر؛ لأن كأين مثل كم، وأنت خبير إذا قلت: كم من عان فككته، فأفردت، راعيت لفظ كم ومعناها الجمع، وإذا قلت: كم من عان فككتهم، راعيت معنى كم لا لفظها. وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير والمراد به الجمع، فلا فرق من حيث المعنى بين فككته وفككتهم، كذلك لا فرق بين قتلوا معهم ربيون، وقتل معه ربيون. البحر المحيط: 3/ 73.
4 هو عطاء بن السائب أبو زيد الثقفي الكوفي، أحد الأعلام، أخذ القراءة عرضًا عن أبي عبد الرحمن السلمي، وأدرك عليًّا، روى عنه شعبة بن الحجاج وأبو بكر بن عياش وجعفر بن سليمان، مات سنة 130. طبقات القراء: 1/ 413.
(1/173)
________________________________________
وكان ابن عباس يقول: الواحدة رِبْوَة، وهي عنده عشرة آلاف، وأنكرها قطرب، قال: لدخول الواو في الكلمة، وهذا لا يلزم؛ لأنه يجوز أن يكون بنَى من الرِّبوة فعِّيلًا كبطيخ، فصار رِبِّيّ، ومثله من عزوت عِزِّي، ثم جمع فقيل: رِبِّيون، وأما رَبيون بفتح الراء، فيكون الواحد منها منسوبًا إلى الرَّب، ويشهد لهذا قول الحسن: إنهم العلماء الصُّبُر، وليس ننكر أيضًا أن يكون أراد رِبيون ورُبيون، ثم غيَّر الأول لياء الإضافة كقولهم في أمس: إمسي.
ومن ذلك قراءة الحسن: "فَمَا وَهِنُوا"1 بكسر الهاء.
قال أبو الفتح: فيه لغتان: وهَن يهِن، ووهِن يوهَن، وقولهم في المصدر: الوهَن بفتح الهاء يُؤنِّس بكسر الهاء من "وهِن"، فيكون كفرِق فرَقًا وحذر حذرًا. وحدثنا أبو علي أن أبا زيد حكى فيه كسر الهاء في الماضي، وقولهم فيه: الوَهْن، بسكون الهاء يؤنس بفتح عين الماضي كفَتَر فَتْرُا.
ومن ذلك قراءة ابن محيصن، ورُويت عن يحيى وإبراهيم: "أَمْنَةً نُعَاسًا"2 بسكون الميم.
قال أبو الفتح: روينا عن قطرب أنه قال: الأَمْنة: الأمن، والأَمَنَة بفتح الميم: أشبه بمعاقبة الأمن، ونظير ذلك قولهم: الحبَطَ3 والحبَجَ4 والرَّمَث5، كل ذلك في أدواء الإبل. فلما أسكنوا العين جاءوا بالهاء فقالوا: مَغِل مَغْلَة6 وحَقِل حقلة7، وقد أفردنا بابًا في كتاب الخصائص لنحو هذا، وهو باب في ترافع الأحكام8.
__________
1 سورة آل عمران: 146.
2 قراءة الجمهور: {أَمَنَةً} بفتح الميم. سورة آل عمران: 154.
3 الحبط: وجع في بطن البعير من كلأ يستوبله.
4 الحبج: انتفاخ في بطن البعير من أكل العرفج.
5 الرَّمَث: أن تشتكي الإبل من أكل الرِّمْث -بكسر الراء وسكون الميم- وهو مرعى لها من الحمض.
6 المغلة: داء في الحيوان من أكل البقل مع التراب.
7 الحقلة: من أدواء الإبل، ووجع في بطن الفرس من أكل التراب.
8 هو في الخصائص: 2/ 108-113 بلفظ: "ترافع" بالراء، وفي الأصل: "تدافع" بالدال، وهو تحريف.
(1/174)
________________________________________
ومن ذلك قراءة الحسن والزهري: "أَوْ كَانُوا غُزًا"1 خفيفة الزاي.
قال أبو الفتح: وجهه عندي أن يكون أراد غزاة، فحذف الهاء إخلادًا إلى قراءة من قرأ: "غُزَّى" بالتشديد، ولا يُستنكر هذا؛ فإن الحرف إذا كان فيه لغتان متقاربتان فكثيرًا ما تتجاذب هذه طرفًا من حكم هذه.
قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن2 عن أحمد بن يحيى لبلال بن جرير:
إذا خفتهم أو سآيلتهم ... وجدتَ بهم علة حاضره3
وذلك أنه يقال: سألته عن حاله وسايلته على البدل، فلما ألف استماعهما تجاذبتا لفظه فجمع بينهما "40و" فيه لتداخلهما وتزاحم حروفهما، وقد حُذفت تاء التأنيث في أماكن قد ذكرناها: ناحٍ في ناحية، ومألُك في مألُكة. وأنشد ابن الأعرابي للعتابي يمدح الكسائي:
أبَى الذمَّ أخلاق الكسائي وانتحى ... به المجد أخلاق الأُبُو السوابق4
يريد: الأبوة جمع أب، كالعمومة جمع عم، والْخُئولة جمع خال، وهذا عندي أمثل من أن يكون خرَّج "أُبُوًّا" على أصله من الصحة، وأن يكون من باب نَحْو ونُحوّ، وبَهْو وبُهُو للصدر، ونجو ونجو للسحاب، وعلى أنه قد يمكن أن تكون الهاء مرادة في جميع ذلك، وقد قالوا أيضًا: ابن وبُنُوّ، والقول فيهما سواء.
ووجه آخر؛ وهو أن يكون مخففًا من "غُزًّى"، ونظيره قراءة علي عليه السلام: "وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَابًا"5، وبابه "كذَّابًا" كقراءة الجماعة. وقد يجوز أن يكون "كِذَابًا" مصدر كذَب الخفيفة، جرى على الثقيلة لدلالة الفعل على صاحبه، والقول الأول أقوى.
ومن ذلك قراءة ابن عباس فيما رواه عنه عمرو: "وشاوِرْهُمْ في بَعْض الأمر"6.
__________
1 قراءة الجمهور: {غُزًّى} بتشديد الزاي. سورة آل عمران: 156.
2 هو محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن الحسين بن محمد بن سليمان بن عبيد الله بن مقسم أبو بكر العطار المقرئ النحوي عالم بالعربية، حافظ للغة، حسن التصنيف، مشهور بالضبط والإتقان؛ إلا أنه سلك مسلك ابن شنبوذ، فاختار حروفًا خالف فيها أئمة العامة، ولد سنة 265، وتوفي سنة 355، وقيل: سنة 354. بغية الوعاة: 36.
3 انظر: الخصائص: 3/ 146، 280.
4 انظر: البحر المحيط: 3/ 93.
5 سورة النبأ: 28، وبالتخفيف يقرأ الكسائي. إتحاف فضلاء البشر: 266.
6 سورة آل عمران: 159.
(1/175)
________________________________________
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على أنك إذا قلت: شربت ماءك -وإنما شربت بعضه- كنت صادقًا، وكذلك إذا قلت: أكلت طعامك، وإنما أكلت بعضه.
ووجه الدلالة منه قراءة الباقين: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} والمعنى واحد في القراءتين، ونحن أيضًا نعلم أن الله سبحانه لم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي: في جميعه؛ كشرب الماء، وتناول الغذاء؛ وإنما المراد به العاني من أمر الشريعة وما أُرسل عليه السلام له، ومع هذا فقد قال سيبويه في باب الاستقامة والاستحالة من الكلام1: فأما المستقيم الكذب فهو قولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر ونحوه، فجعْلُه إياه كذبًا يدلك على أن مراده هنا بقوله: ماء البحر جميعه؛ لأنه لا يجوز أن يشرب جميع مائه، فأما على العرف في ذلك على ما مضى فلا يكون كذبًا.
ومن ذلك قراءة جابر بن يزيد وأبي نهيك وعكرمة وجعفر بن محمد: "فإذا عَزَمْتُ"2 بضم التاء.
قال أبو الفتح: تأويله عندي -والله أعلم- فإذا أَريتُك أمرًا فاعمل به وصِرْ إليه. وشاهده قول الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 3، وهذا ليس من رؤية العين؛ لأنه لا مدخل له في الأحكام، ولا من العلم؛ لأن ذلك متعد إلى مفعولين. فإذا نقل بالهمزة وجب أن يتعدى إلى ثلاثة، والذي معنا في هذا الفعل إنما هو مفعولان؛ أحدهما: الكاف، والآخر: الهاء المحذوفة العائدة على "ما"؛ أي: بما أراكه الله. فثبت بذلك أنه من الرأي الذي هو الاعتقاد، كقولك: فلان يرى رأي الخوارج، ويرى رأي أبي حنيفة ورأي مالك، ونحو ذلك؛ فرأيتُ هذه إذن قسم ثالث ليست من رؤية العين ولا من يقين القلب.
وجاز أن يَنْسب سبحانه العزم إليه؛ إذ كان بهدايته وإرشاده، فهو كقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 4، وقد جاء فيه ما هو أقوى معنى من هذا؛ وهو قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 5، فخرج اللفظ فيه نافيًا أوله ما أثبته آخره، والغرض فيه
__________
1 عنوان الباب كما في الكتاب 1/ 8: باب الاستقامة من الكلام والإحالة، وعبارته هناك: وأما المستقيم الكذب فقولك ...
2 سورة آل عمران: 159.
3 سورة النساء: 105.
4 سورة آل عمران: 128.
5 سورة الأنفال: 17.
(1/176)
________________________________________
ما قدمناه من أن الرمي لما كان بإقداره ومشيئته صار كأنه هو الفاعل له "40ظ" وهو كثير، منه قول الإنسان لمن ينتسب إليه: إنما أَرى بعينك وأسمع بأذنك والفعل منك؛ وإنما أنا آلة لك، ومن عَرف طريق القوم في اللغة سقطعت عنه مئونات التعسف والشُّبَه.
ومن ذلك قراءة ابن عباس وعكرمة وعطاء: "يُخَوِّفُكُمْ أَوْلياءَه"1.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على إرادة المفعول في يخوف وحذفه في قراءة أكثر الناس: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} . وليس هذا كقولنا: فلان يُخوِّف غلامه ويخوف جاريته مِن ضربه إياهما وإساءته إليهما. فالمحذوف هنا هو المفعول الثاني، وهو في الآية المفعول الأول على ما قدمنا.
ومن ذلك قراءة الحر النحوي2: "يُسْرِعون"3 في كل القرآن.
قال أبو الفتح: معنى "يسارعون" في قراءة العامة: أي يسابقون غيرهم، فهو أسرع لهم وأظهر خفوفًا بهم، وأما "يسرعون" فأضعف معنى في السرعة من يسارعون؛ لأن مَن سابق غيره أحرص على التقدم ممن آثر الخفوف وحده، وأما سَرُع فعادة ونحيزة؛ أي: صار سريعًا في نفسه.
وفعَل من لفظ فَاعلتُ ضربان: متعد، وغير متعد؛ فالمعتدي كضربت زيدًا وضاربته، وغير المتعدي كقمت وقاومت زيدًا. وأما أسرع وسَرُع جميعًا فغير متعديين؛ لكن سَرُع غريزة، وأسرع كلَّف نفسه السرعة؛ لكن سارع متعد4.
ومن ذلك ما رواه رَوْح5 عن أحمد عن عيسى أنه كان يقرأ: "بقُرُبان"6 بضم الراء.
__________
1 سورة آل عمران: 175.
2 هو الحر بن عبد الرحمن النحوي القارئ، سمع أبا الأسود الدؤلي، وعنه طلب إعراب القرآن أربعين سنة. بغية الوعاة: 176.
3 سورة آل عمران: 176.
4 أي: لأن المراد به المشاركة كما يفهم من تفسيره "يسارعون"، وليس المراد به معنى أفعل.
5 هو روح بن عبد المؤمن أبو الحسن الهذلي مولاهم البصري النحوي، مقرئ جليل ثقة ضابط مشهور، عرض على يعقوب الحضرمي، وهو من جلة أصحابة، وروى الحروف عن أحمد بن موسى وغيره، مات سنة 234 أو سنة 235. طبقات القراء: 1/ 285.
6 في الآية 183 من سورة آل عمران.
(1/177)
________________________________________
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون أصله "قُرْبان" ساكنة الراء والضمة فيها إتباع؛ لتعذر فُعُلان في الكلام. وحكى صاحب الكتاب منه السُّلُطان، وذهب إلى أن ضمة اللام إتباع كضمة الراء من القُرُفْصاء1؛ وإنما هي القُرْفُصاء بسكون الراء. ومثله من الإتباع ما حكاه من قولهم: مُنْتُن بضم التاء، وهو مُنْحَدُر2 من الجبل؛ أي: منحدر. وحكى أيضًا: أجُوءُك وأُنْبُؤُك. فأما العَرَقُصان3 والعَرَتُن4 فليس إتباعًا؛ لكنه يراد به العريْقُصان بالياء والعَرَنْقُصان يقال أيضًا، فحذفت الياء والنون، وكذلك العرَتُن إنما هو العَرَنْتُن، فحذفت النون. وكذلك العَبَقُر5 أصله العَبَيْقُر، فحذفت الياء، فهذا طريق حذف وليس طريق إتباع.
__________
1 ضبطت بالقلم في القاموس واللسان والخصائص 2/ 143 بسكون الفاء، وضبطت في الأصل بضمها، وهو تحريف.
2 كذا ضبطه بالأصل، ومثله في اللسان "حدر" وبعده: أتبعوا الضمة الضمة، وضبطه في الخصائص 2/ 143 بضم الحاء أيضًا، ولم يذكره في التصويب.
3 نبات جمته وافره متكاثفة.
4 شجر يدبغ به.
5 اسم موضع.
(1/178)
________________________________________
سورة النساء:
بسم الله الرحمن الرحيم
من ذلك قراءة أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد1: "الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامُ"2 رفعًا، قراءة ثالثة.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون رفعه على الابتداء وخبره محذوف؛ أي: والأرحام مما يجب أن تتقوه، وأن تحتاطوا لأنفسكم فيه، وحسن رفعه لأنه أوكد في معناه، ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت زيدًا، فزيد فضلة على الجملة، وإنما ذكر فيه مرة واحدة، وإذا قلت: زيد ضربته، فزيد رب الجملة، فلا يمكن حذفه كما يحذف المفعول على أنه نيِّف وفضلة بعد استقلال الجملة؟ نعم، ولزيد فيها ذكران:
أحدهما: اسمه الظاهر، والآخر: ضميره وهو الهاء. ولما كانت الأرحام فيما يُعنى به ويُقَوَّى الأمر في مراعاته؛ جاءت بلفظ المبتدأ الذي هو أقوى من المفعول.
وإذا نُصبت الأرحام أو جُرت فهي فضلة، والفضلة متعرضة للحذف والبِذْلة.
فإن قلت: فقد "41و" حُذف خبر الأرحام أيضًا على قولك، وقيل: أجل؛ ولكنه لم يحذف إلا بعد العلم به، ولو قد حُذفت الأرحام منصوبة أو مجرورة فقلت: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} لم يكن في الكلام دليل على الأرحام أنها مرادة أو مقدرة، وكلما3 قويت الدلالة على
__________
1 هو عبد الله بن زيد أبو عبد الرحمن القرشي المقرئ القصير البصري ثم المكي، إمام كبير في الحديث ومشهور في القراءات، لقن القرآن سبعين سنة، ثقة، روى الحروف عن نافع وعن البصريين وله اختيار في القراءة، روى عنه ابنه محمد شيخ أبي بكر الأصبهاني، مات في رجب سنة 213. طبقات القراء: 1/ 464.
2 سورة النساء: 1.
3 في ك: ولما.
(1/179)
________________________________________
المحذوف كان حذفه أسوغ، ونحو من رفع الأرحام هنا بعد النصب والجر قول الفرزدق:
يأيها المشتكي عُكْلًا وما جَرَمت ... إلى القبائل من قتل وإبآسُ
إنا كلك إذ كانت هَمرَّجةٌ ... نَسْبِي ونَقْتُل حتى يُسْلمَ الناس1
أي: من قتل وإبآس أيضًا كذلك، فقوَّى لفظه بالرفع؛ لأنه أذهب في شكواه إياه، وعليه أيضًا قوله:
إلا مُسْحَتا أو مُجَلَّف2
فيمن قال: أراد أو مجلَّف كذاك.
ومَن حمله على المعنى فرفعه وقال: إذا لم يَدَع إلا مسحتا فقد بقي المسحت وبقي أيضًا المجلَّف، سلك فيه غير الأول.
ومن ذلك ما رواه المفضل عن الأعمش عن يحيى وإبراهيم وأصحابه: "ألا تَقْسِطُوا3" بفتح التاء.
قال ابن مجاهد: ولا أصل له.
قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد مستقيم غير منكر؛ وذلك على زيادة "لا"، حتى كأنه قال: وإن خفتم أن تَقْسطوا في اليتامى؛ أي: تجوروا. يقال: قسط: إذا جاز، وأقسط: إذا عدل. قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} 4، وزيادة "لا" قد شاعت عنهم واتسعت، منه قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} 5، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا
__________
1 الهمرجة: الاختلاط، ولم نعثر على الشاهد في ديوان الفرزدق، وروى اللسان "همرج" الشطر الأول من البيت الثاني غير منسوب هكذا:
بينا كذلك إذ هاجت همرجة
2 من قول الفرزدق:
إليك أمير المؤمنين رمت بنا ... شُعوب النوى والهوجل المتعسف
وعض زمان يابن مَرْوان لم يدع ... من المال إلا مسحَتا أو مجلَّف
رُوي: "مسحب" بالرفع أيضًا، ورُوي: "مجرف" مكان "مجلف". الهوجل: المفازة البعيدة، المسحت: المبدد، المجلف: الذي أخذ من جوانبه، والذي بقيت منه بقية، وأما المجرف: فمن جرفه إذا ذهب به كله أو أخذه أخذًا كثيرًا. انظر: النقائض: 2/ 556، 557، والخزانة: 2/ 247، والديوان: 556.
3 سورة النساء: 3، وقراءة الجماعة بضم التاء.
4 سورة الجن: 15.
5 سورة الحديد: 29.
(1/180)
________________________________________
إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} 1، فيمن ذهب إلى زيادة "لا"، وقال: معناه: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، وعليه قول الراجز:
وما ألوم البِيضَ ألَّا تَسْخَرَا ... إذا رأين الشَّمَطَ القَفَنْدَرا2
أي: أن تسخر، والأمر فيه أوسع، فبهذا يعلم صحة هذه القراءة.
ومن ذلك ما رواه الأعمش عن يحيى بن وثاب والمغيرة عن إبراهيم قراءتهما: "وَرُبَعَ"3 مرتفعة الراء، منتصبة العين بغير ألف.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون محذوفًا من "رُباع" تخفيفًا، كما روينا عن قطرب:
إلا لا بارك الله في سهيل ... إذا ما الله بارك في الرجال4
فحذف ألف "الله". وقال الآخر:
مثل النَّقا لبّدَه ضربُ الطِّلَلْ5
يريد: الطِّلال جمع طَل6، كما قال القُحيف العقيلي:
ديار الحي تضاربها الطلال ... بها أهل من الخافي ومالُ7
ويقوى أنه أراد "رباع" ثم حذف الألف ترك صرفه كما كان قبل الحذف غير مصروف.
وأما رُبَعٌ فلا نعلم إلا ولد الناقة في أيام الربيع، وذلك مصروف في المعرفة والنكرة، وهذا واضح.
ومما حذفت ألفه تخفيفًا أيضًا قولهم: أَمَ والله لأفعلن كذا، يريد: أَمَا.
وكذلك قراءة من قرأ: "هأَنْتُمْ"8 في وزن أَعَنْتُمْ، الألف محذوفة من "ها". وأما قول الآخر:
وأتى صواحبُها فقلن هذا الذي ... منح المودة غيرنا وقلانا
فإنه لا يريد هذا الذي؛ بل يريد أَذا الذي، ثم أبدل همزة الاستفهام هاء، كقولهم: هرقتُ في أرقت، وهرحتُ الدابة في أرحتها، وهردتُ ذلك في أردت، وهِنْ فعلن في إِنْ
__________
1 سورة الأنعام: 109.
2 لأب النجم. الشمط: الشيب، القفندر: القبيح. الخصائص: 2/ 283. وفي الأصل: القعندر بالعين، وهو تحريف.
3 سورة النساء: 3.
4 انظر: الخزانة: 4/ 341، والخصائص: 3/ 134.
5 انظر: الخصائص: 3/ 234.
6 هو المطر القليل الدائم.
7 انظر: طبقات الشعراء: 225، والخافي: الجن.
8 سورة آل عمران: 66، ووردت في سور أخرى.
(1/181)
________________________________________
فعلتُ، وقد يجوز مع هذا أن يكون "41ظ" أراد هذا الذي مخبرًا، ثم حذف الألف على ما مضى.
ومن ذلك ما ذكره ابن مجاهد في "قيامًا وقِيَمًا"1، وهما في السبعة2 "قِوَامًا"، وقيل: "قَوَامًا"، واللغة بكسر القاف. قرأ "قَوَامًا" بالواو وفتح القاف ابن عمر. انتهى كلام ابن مجاهد ولم يذكر "قِوَامًا" عن أحد؛ لكنه أثبته.
قال أبو الفتح: يقال: هذا قِوَام الأمر: أي مِلاكه، ويقال: قاومته قِوَامًا كقولك: عاودته عِوادًا، كما قال:
وإن شئتم تَعَاودْنا عِوادا3
وأما "القَوَام" فمصدر جارية حسنة القَوام، فهو كالشَّطَاط4، فقد يجوز مع هذا أن يراد بِقِوام ما أراده من قرأ: "قِيامًا" فيخرجه على الصحة، كما قال العجاج:
يَخْلِطن بالتأَنُّس النِّوارا ... زَهوك بالصَّريمة الصِّوارا5
وقياسه النِّيار؛ لأنه مصدر فعل معتل العين، وهو نار ينور: أي نفر. قال:
أنورًا سَرْع ماذا يا فَروقُ ... وحبلُ الوصْل منتكِثٌ حذيقُ6
وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي المنصف7.
ومن ذلك قراءة الحسن: "يُورِثُ كَلالَةً"8، ويُورث أيضًا كالمقروء به في السبعة. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: "يُورِّثُ كَلالَةً".
__________
1 سورة النساء: 5، والمائدة: 97.
2 قال في البحر 1/ 170: وقرأ نافع وابن عامر "قيمًا"، وجمهور السبعة "قيامًا"، وعبد الله بن عمر "قِوامًا" بكسر القاف، والحسن وعيسى بن عمر "قَوامًا" بفتحها، ورُويت عن أبي عمرو.
3 صدره مع البيت الذي قبله:
سرحت على بلادكم جيادي ... فأدت منكم كوما جلادًا
بما لم تشكروا المعروف عندي ... ... ..... ..... ..... .....
من قصيدة في فرحة الأديب لشقيق بن جزء، وانظر: الخصائص: 2/ 309، 3/ 21.
4 الشطاط كسحاب وكتاب: الطول وحسن القوام واعتداله.
5 انظر: الديوان: 122، زها الابل: سار بها بعد الورد ليلة أو ليلتين، الصوار: القطيع من البقر، الصريمة: الأرض المحصودة.
6 لمالك بن زغبة الباهلي يخاطب امرأته، ويروى لأبي شقيق الباهلي واسمه جزء. يريد: أنفارًا يافروق، وقوله: سرع ماذا، يريد: سرع فخفف؛ أي: ما أسرع ذا، فذا فاعل وما زائدة. اللسان "نور"، حذيف: مقطوع.
7 المنصف: 2/ 303.
8 سورة النساء: 12.
(1/182)
________________________________________
قال أبو الفتح: يُورِث ويُورِّث كلاهما منقول من ورِث، فهذا من أورث، وهذا من ورث، فورِث وأورثته كوغِر صدره وأوغرته، وورِث وورَّثته كورِم وورمته. قال الأعشى:
مورِّثةٍ مالًا وفي المجد رفعة ... لِمَا ضاع فيها من قروء نِسائِكا1
وفي كلتا القراءتين هناك المفعولان محذوفان، كأنه قال: يورِث وارثه مالَه، أو يورِّث وارثَه ماله. وقد جاء حذف المفعولين جميعًا، قال الكميت:
بأَيِّ كتاب أَم بأَية سنة ... ترى حُبهم عارًا عليَّ وتحسب2
فلم يُعدِّ تحسب. و"كلالة" على نصبها في جميع القراءات.
ومن ذلك قراءة الحسن: "غَيْرَ مُضَارِ وَصِيَّةٍ"3 مضاف.
قال أبو الفتح: أي غير مضار من جهة الوصية، أو عند الوصية، كما قال طرفة:
بَضَّةُ المتجرَّد4
أي: بضة عند تجردها، وهو كقولك: فلان شجاعُ حربٍ وكريمُ مسألةٍ؛ أي: شجاع عند الحرب، وكريم عند المسألة، وعليه قولهم مِدْره5 حرب؛ أي: مِدْرَه عند الحرب، فهو راجع إلى معنى قولهم:
يا سارق الليلة أهل الدار6
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "فَاحِشَةٍ مُبِينَةٍ"7 مكسورة الباء ساكنة الياء، وقال: "بيِّنة".
قال أبو الفتح: يقال: بان الشيء وأبنته، وأبان وأبنته، واستبان واستبنته، وتبين وتبينته.
__________
1 قبله:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزائكا
ورُوي: "الحمد" مكان "المجد". يمدح هوذة بن علي الحنفي. الديوان: 19.
الدرر اللوامع: 1/ 152.
3 سورة النساء: 12.
4 من قوله في المعلقة:
رَحيبٌ قِطاب الجيب منها رفيقة ... بجس الندامى بضة المتجرد
قطاب الجيب: مخرج الرأس منه، بضة: بيضاء ناعمة البدن رقيقة الجلد. الديوان: 48.
5 المدره: المقدم في اللسان، والسيد عند الخصومة.
6 الكتاب: 1/ 89.
7 قرأ أبو بكر وابن كثير: "مبينة" بفتح الياء، وقرأ الباقون بالكسر. البحر المحيط: 3/ 204. سورة النساء: 19، وقد جاءت الآية كذا في الأصل بحذف الباء من قوله تعالى: "بفاحشة".
(1/183)
________________________________________
ومن أبيات الكتاب:
سلِّ الهموم بكل معطي رأسه ... ناج مخالط صُهبة مُتَعيِّسِ
مُغتالِ أحبُله مُبينٍ عنقُه ... في مَنكِب زَبَن المطيَّ عرندسِ1
وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد:
يبينُهم ذو اللب حتى تراهم ... بسيماهم بيضًا لحاهم وأَصْلُعَا2
ومن كلامهم: قد بَيَّن الصبحُ لذى عينين3، وقال:
تبين لي أن القَماءَة ذلة ... وأن أشداء الرجال طِيالُها4
وأنشدنا أبو علي:
فلما تبينْ غِبّ أمري وأمره ... وولَّت بأعجاز الأمور صدورُ5
وهو كثير "42و".
ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "وَآتَيْتُمُ احْدَاهُنَّ قِنْطَارًا"6 وصل ألف إحداهن.
قال أبو الفتح: قد تقدم نحو هذا فيمن7 قرأ: "فَلا اثْمَ عَلَيْهِ"، يريد: فلا إثم عليه بشواهده، وهذا حذف صريح، واعتباط مريح، نحو قوله:
وتسمع من تحت العجاج لها ازْملا8
وقد مضى.
__________
1 للمرار الأسدي. معطي رأسه: منقاد ذلول، ناج: سريع، الصهبة: أن يضرب بياضه إلى الحمرة، المتعيس: الأبيض، مغتال: الاغتيال: الذهاب بالشيء، أبان: اتضح، زبن: زاحم ودفع، العرندس: الشديد. ويروى: متين رأسه. يصف بعيرًا بعظم الجوف، فإذا شد رحله عليه اغتال أحبله واستوفاها. الكتاب: 1/ 85، 212.
2 للأسود بن يعفر. النوادر: 162.
3 بين: تبين، وهذا مثل يضرب للأمر يظهر كل الظهور. مجمع الأمثال: 2/ 39.
4 لأنيف بن زبان النبهاني من طيئ، شاعر إسلامي. القماءة: مصدر قمؤ؛ أي صار قميئًا، وهو الصغير الذليل. ويروى "أعزاء" مكان "أشداء". شواهد الشافية: 385-387.
5 لنهشل بن حري. ويروى: فلما رأى أن غب. الغب بالكسر: عاقبة الشيء كالمغبة. اللسان "غب"، وفيه نهشل بن جري، وهو تحريف.
6 سورة النساء: 20.
7 هي قراءة سالم بن عبد الله. البحر المحيط: 2/ 111.
8 صدره:
تضب لثات الخيل في حجراتها....
تضب لثات الخيل: تسيل بالدم، حجراتها: نواحيها، الأزمل: الصوت. الخصائص: 3/ 151، وانظر الصحفة 120 من هذا الجزء.
(1/184)
________________________________________
ومن ذلك قراءة ابن هُرْمُز: "الَّتِي أَرْضَعْنَكم"1 بلفظ الواحد.
قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون التي هنا جنسًا فيعود الضمير عليه على معناه دون لفظه، كما قال سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} 2، ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، فهذا على مذهب الجنسية، كقولك: الرجل أفضل من المرأة، وهو أمثل من أن يُعتقد فيه حذف النون من "الذي" كما حذفت من "اللذا" في قوله:
إن عَمَّيَّ اللذا3
ألا ترى أن قوله: "التي ارضعنكم" لا يجوز أن يُعتقد فيه حذف النون؛ لأنه لا يقال: اللتين، والقول الآخر وجه، إلا أن هذا أقوى لهذه القراءة، وعليه قول الأشهب بن رُميلة:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أُمَّ خالد4
يحتمل المذهبين: حذف النون من الذين، واعتقاد مذهب الجنسية على ما مضى.
ومن ذلك قراءة محمد بن السميفع: "كَتَبَ اللَّهُ عَلَيكم"5 مفتوحة الكاف، وليس بعد التاء ألف، والباء نصب.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دليل على أن قوله: "عليكم" من قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} في قراة الجماعة مُعلَّقة6 بنفس كتاب، كما تعلقت في "كَتَبَ اللَّهُ عَلَيكم" بنفس كتب، وأنه ليس "عليكم" من {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} اسمًا سُمي به الفعل7، كقولهم: عليك زيدًا، إذا أردت: خذ زيدًا؛ وذلك أن عليك ودونك وعندك إذا جُعلن أسماء للفعل لسن منصوبات المواضع، ولا هن متعلقات بالفعل مُظْهَرًا ولا مُضْمَرًا، ولا الفتحة في نحو: دُونك زيدًا فتحة إعراب كفتحة الظرف في نحو قولك: جلست دونك؛ بل هي فتحة بناء؛ لأن الاسم الذي هو عندك8 زيدًا
__________
1 سورة النساء: 23.
2 سورة الزمر: 33.
3 من قول الأخطل:
أَبَني كُلَيبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَذا ... قَتَلا المُلوكَ وَفَكَّكا الأَغلالا
وأحد عميه عصم أو حنش قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمرو وآكل المرار يوم الكلاب، والآخر عمرو بن كلثوم قاتل عمرو بن هند. الديوان: 44.
4 فلج: اسم بلد، ومنه قيل لطريق تأخذ من طريق البصرة إلى اليمامة: طريق بطن فلج. معجم البلدان، وانظر الكتاب: 1/ 96.
5 قراءة الجماعة: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بنصب كتاب. سورة النساء 24.
6 في ك: متعلقة.
7 يجيز الكسائي تقديم المفعول على اسم الفعل المنقول عن الظرف والجار والمجرور مستدلًّا بهذه الآية، وتقديرها عنده: عليكم كتاب الله؛ أي: الزموه. انظر: البحر: 3/ 214.
8 يقال: عندك زيدًا؛ أي: خذه.
(1/185)
________________________________________
بمنزلة صه ومه لا إعراب فيه، كما لا إعراب في صه ومه وحَيْهَل، غير أنه بُني على الحركة التي كانت له في حال الظرفية، كما أن فتحة لام رجل من قولك: لا رجل في الدار1، وهي الحركة التي تحدثها "لا" إعرابًا في المضاف والممطول، نحو: لا غلام رجل عندك، ولا خيرًا منك فيها، وكذلك قول الله تعالى: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} 2، الفتحة في نون "مكانكم" فتحة بناء؛ لأنه اسم لقولك: اثبُتوا، وليست كفتحة النون من قولك: الزموا مكانكم، هذه إعراب، وتلك في الآية بناء. وهذا موضع فيه لطف فتفهمه.
ولما دخل شيخنا أبو علي -رحمه الله- الموصل سنة إحدى وأربعين، قال لنا: لو عرفتُ في هذا البلد من يعرف الكلام على قولك: دونك زيدًا؛ لغدوت إلى بابه ورُحت. وكذلك قوله تعالى: "كَتَب الله عليكم" و {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُم} ، و {عَلَيْكُمْ} في الموضعين جميعًا منصوبة الموضع بنفس كَتَب وكتاب، ولو قلت: عليكم كتاب الله لما كان لقولك عليكم موضع من الإعراب أصلًا، ولا كانت متعلقة بشيء ظاهر ولا محذوف ولا مضمر على ما تقدم، فاعرفه "42ظ".
ومن ذلك قراءة إبراهيم والأعمش وحُميد: "فَسوْف نَصْليه نارًا"3 بفتح النون، وسكون الصاد.
قال أبو الفتح: يُروى في الحديث أنه أُتِيَ بشاة مَصْلِيَّة؛ أي: مشوية، يقال: صلاه يصليه: إذا شواه، ويكون منقولًا من صَلِي نارًا وصَلَيتُه نارًا، كقولك: كَسِي ثوبًا وكَسَوتُه ثوبًا، ومثله -إلا أنه قبل النقل غير متعد- شَتِر4 وشَتَرْتُه، وغارت عينُه وغُرْتُها.
وعليه قوله:
وصالياتٍ كَكَما يؤثفَيْن5
فهذا من صلي.
فأما قراءة العامة: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} بضم النون، فهو منقول من صلِي أيضًا، إلا أنه
__________
1 أي: فتحة بناء.
2 سورة يونس: 28.
3 سورة النساء: 30.
4 الشتر بالتحريك: انقلاب الجفن من أعلى وأسفل وانشقاقه، أو استرخاء أسفله، شترت العين وشترها.
5 لخطام المجاشعي. والصاليات: الأثافي لأنها صليت النار؛ أي: وليتها وباشرتها، ويؤثفين: ينصبن للقدر. أراد كمثل ما يؤثفين؛ أي: كمثل حالها إذا كانت أثافي مستعملة. وصف ديارًا خلت من أهلها، فنظر إلى آثارها باقية لم تتغير، فذكرته من عهد بها. الكتاب: 1/ 13، 203، 2/ 331.
(1/186)
________________________________________
نُقل بالهمزة لا بالمثال، كقولك: طعِم خبزًا وأطعمته خبزًا، وعلِم الخبر وأعلمته إياه؛ أي: عرف وعرفتُه.
والصَّلَى: النار منه، وهو من الياء لقولهم: صلَيْتُه نارًا.
وليست الصلاة من الياء لقولهم في جمعها: صلوات. قال لنا أبو علي سنة سبع وأربعين: الصلاة من الصَّلَويْنِ1، قال: وذلك لأن أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصَّلَويْنِ للركوع، فأما القيام فلا يخص الصلاة دون غيرها، وهو حسن.
ومن ذلك قراءة طلحة: "فالصَّوالِحُ قوانِتُ حوافِظُ للغيب"2.
قال أبو الفتح: التكسير هنا أشبه لفظًا بالمعنى؛ وذلك أنه إنما يراد هنا معنى الكثرة، لا صالحات من الثلاث إلى العشر، ولفظ الكثرة أشبه بمعنى الكثرة من لفظ القلة بمعنى الكثرة، والألف والتاء موضوعتان للقلة، فهما على حد التثنية بمنزلة الزيدون من الواحد إذا كان على حد الزيدان. هذا موجب اللغة على أوضاعها، غير أنه قد جاء لفظ الصحة والمعنى الكثرة، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} 3، والغرض في جميعه الكثرة، لا ما هو لما بين الثلاثة إلى العشرة.
وكان أبو علي ينكر الحكاية المروية عن النابغة وقد عرض عليه حسان شعره، وأنه لما صار إلى قوله:
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحا ... وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجدَةٍ دَما4
قال له النابغة: لقد قللت جفانك وسيوفك.
قال أبو علي: هذا خبر مجهول لا أصل له؛ لأن الله تعالى يقول: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} 5، ولا يجوز أن تكون الغرف كلها التي في الجنة من الثلاث إلى العشر.
وعذر ذلك عندي أنه قد كثُر عنهم وقوع الواحد على معنى الجميع جنسًا، كقولنا: أَهْلَكَ الناسَ الدنيارُ والدرهم، وذهب الناسُ بالشاة والبعير. فلما كثر ذلك جاءوا في موضعه بلفظ الجمع الذي هو أدنى إلى الواحد أيضًا؛ أعني: الجمع بالواو والنون والألف والتاء. نعم، وعلم أيضًا أنه إذا
__________
1 الصلا: وسط الظهر، أو ما انحدر من الوركين.
2 قراءة الجماعة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} . سورة النساء: 34.
3 سورة الأحزاب: 35.
4 يلمعن بالضحا: يريد بياض الشحم. وانظر: الكتاب: 1/ 181، والخزانة: 3/ 430.
5 سورة سبأ: 37.
(1/187)
________________________________________
جيء في هذا الموضع بلفظ جمع الكثرة لا يتدارك معنى الجنسية، فلهوا عنه، وأقاموا على لفظ الواحد تارة ولفظ الجمع المقارِب للواحد تارة أخرى؛ إراحة لأنفسهم من طلب ما لا يُدرك، ويأسًا منه، وتوقفًا دونه. فيكون هذا كقوله:
رَأى الأَمرَ يُفضي الي آخِرٍ ... فَصيَّر آخِرَهُ أوَّلا1
ومثل الجمع بالواو والنون والألف والتاء مجيئهم في هذا الموضع بتكسير القلة، كقوله تعالى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} 2.
وقول حسان: "43و"
وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجدَةٍ دَما3
ولم يقل: عيونُهم ولا سيوفُنا. وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا الخصائص.
ومن ذلك قراءة يزيد بن القعقاع: "بما حَفِظَ اللهَ" بالنصب4 في اسم الله تعالى.
قال أبو الفتح: هو على حذف المضاف؛ أي: بما حفظ دين الله وشريعة الله وعهود الله، ومثله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} 5 أي: دين الله وعهود الله وأولياء الله، وحَذْفُ المضاف في القرآن والشعر وفصيح الكلام في عدد الرمل سعة، وأستغفر الله. وربما حَذفت العرب المضاف بعد المضاف مكررًا؛ أُنسًا بالحال ودلالة على موضوع الكلام، كقوله عز وجل: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} 6 أي: من أثر حافر فرس الرسول. وقد ذكرنا في كتابنا ذلك هذا وغيره من كتبنا وكلامنا.
ومن ذلك قراءة الأعمش: "لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكْرَى"7 مضمومة السين، ساكنة الكاف من غير ألف.
وقراءة إبراهيم: "وَأَنْتُمْ سَكْرَى".
وفي قراءته أيضًا: "تُرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى"8.
__________
1 يروى: "غايته" مكان "آخره". وانظر: الخصائص: 1/ 209، 2/ 31، 170.
2 سورة التوبة: 92.
3 انظر الصفحة السابقة من هذا الجزء.
4 قراءة الجمهور بالرفع. سورة النساء: 34.
5 سورة محمد: 7.
6 سورة طه: 96.
7 سورة النساء: 43.
8 سورة الحج: 2.
(1/188)
________________________________________
قال أبو الفتح: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن وكيع عن الدمشقي عن ابن قطرب عن قطرب1 في كتابه الكبير: أن قراءة أبي زرعة الشامي: "وتَرَى النَّاسَ سُكْرَى وَمَا هُمْ بِسُكْرى".
وسألت أبا علي عن "سُكْرَى" فردد القول فيها، ثم استقر الأمر فيها بيننا على أنها صفة من هذا اللفظ والمعنى، بمنزلة حبلى مفردة كما ترى.
فأما "سَكْرَى" بفتح السين فيمن قرأ كذلك فيحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون جمع سكران؛ إلا أنه كُسِّر على فَعْلَى؛ إذ كان السكر علة تلحق العقل، فجرى ذلك مجرى قوله:
فَأَمَّا تَميمٌ تَميمُ بنُ مُرٍّ ... فَأَلفاهُمُ القَومُ رَوْبَى نِياما2
فهذا جمع رائب؛ أي: نومى خُثَراءُ الأنفس3؛ فيكون ذلك كقولهم: هالك وهلكى ومائد ومَيْدَى4، فيجري مجرى صريع وصرعى وجريح وجرحى؛ إذ كان ذلك علة بُلوا بها، وإن كان هالك ومائد ورائب فعلًا منسوبًا إليهم، لا مُوقَعًا في اللفظ بهم.
والآخر: أن يكون "سَكْرَى" هنا صفة مفردة، مذكرها سكران، كامراة سكرى. ويشهد لهذا الأمر قراءة مَن قرأ: "سُكْرى" بالضم، وهذا لا يكون إلا واحدًا. ويشهد للقول الأول قراءة العامة: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} . وجاز أن يوقع على الناس كلهم صفة مفردة تصورًا لمعنى الجملة والجماعة وهي بلفظ الواحد، كما جاز للَبيدٍ أن يشير أيضًا إلى الناس بلفظ الواحد في قوله:
وَلَقَد سَئِمتُ مِنَ الحَياةِ وَطولِها ... وَسُؤالِ هَذا الناسِ كَيفَ لَبيدُ5
ومن معكوسه في إيقاع لفظ الجماعة على معنى الواحد قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 6 والمراد به الواحد7، كلٌّ من كلام العرب.
__________
1 هو محمد بن المستنير أبو علي النحوي المعروف بقطرب، لازم سيبويه، وأخذ عن عيسى بن عمر، ومات سنة 206. بغية الوعاة: 104.
2 رَوْبَى: اثخنهم السفر والوجع، فاستثقلوا نيامًا، ويقال: شربوا من الرائب فسكروا. اللسان: "روب".
3 قوم خثراء: مختلطون.
4 ماد الجرل: اصابه غثيان ودوار من سُكْرٍ أو ركوب بحر.
5 انظر: الديوان: 25.
6 سورة آل عمران: 173.
7 يعني: نعيم بن مسعود الأشجعي. وانظر: الكشاف في تفسير الآية.
(1/189)
________________________________________
وقراءته: "وتُرَى الناسَ سُكرى" بضم التاء يقوي ما قدمناه من أن أُرَى في اليقين دون أَرى؛ لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} .
ومن ذلك قراءة ابن مسعود والزهري أيضًا: "أو جاء أحد منكم من غَيْط"1.
قال أبو الفتح: فيه صنعة، وذلك "43ظ" أن هذا الحرف مما عينه واو؛ لقوهم تغوَّط الرجل: إذا أتى الغائط، وهو مُطْمَأَنٌّ من الأرض كانوا يقضون فيه حوائجهم. وظاهر أمر غَيْط أنه فَعْل مما عينه ياء، بمنزلة شيخ وبيت. وأمثل ما ينبغي أن يقال فيه: إنه محذوف من فَيْعِل، كأنه في الأصل غيِّط كميت وسيد، ثم حذفت عينه تخفيفًا فبقي مَيْت وسيْد، ومثاله قَيْل2؛ لأن العين محذوفة.
فإن قلت: فإنا لا نعرف في الكلام غَيِّطًا كما عرفنا سيِّدًا وميِّتًا؟
قيل: قد يجوز أن يكون محذوفًا من فيعِل مقدرًا غير مستعمل، كما أن قولهم: يَذَر ويدع استُغني عنهما بِتَرَك، كما استُغني أيضًا بغائط عن غيِّط، وكما استغني أيضًا بذَكَر ولَمْحة عن مِذْكار ومَلْمَحة اللتين عليهما3 كسر ملامح ومذاكير.
ويؤكد هذا أن غائطًا إلى غيِّط أقرب من ذَكَر ولَمْحة إلى مِذْكار ومَلْمَحة؛ وذلك لأن ثاني فاعل ألف زائدة كما أن ثاني فيعِل ياء زائدة، والعين فيهما كليهما مكسورة، واللام تلي العين فيهما جميعًا، والياء أيضًا أخت الألف، فكأنهما مثال واحد من حيث ذكرنا، فَبِقدر هذا القرب بينهما ما4 حسنت إنابة فاعل عن فيعِل، لا سيما وكأن غَيْطًا في اللفظ غيِّط لقربه منه وزنًا.
وفيه قول ثانٍ؛ وهو أن يكون غَيْط فَعْلًا وأصله غَوْط، إلا أن الواو قلبت للتخفيف ياء، كما قلبوها إليها لذلك في قولهم: لا حَيْل ولا قوة إلا بالله؛ أي: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقالوا: هو أَليط بقلبي من كذا، وظاهر أمره أن يكون من لُطت الحوض أَلوطه؛ أي: ألصقت بعضه ببعض، فكذلك هو أَليط بقلبي: إذا لصق به، وأصله على هذا أَلْوط، وقلبت الواو ياء استحسانًا كأشياء نحو ذلك، نحو: العلياء وهي من علوت، والعَيْصاء بمعنى العوصاء5، فهذا الوجه أقرب، والأول أشد وأصنع.
__________
1 سورة النساء: 43.
2 القيل: الملك، أو من ملوك حمير، يقول ما يشاء فينفذ.
3 سقط في ك من قوله: "اللتين عليهما" إلى قوله: "ملمحة".
4 ما زائدة.
5 العوصاء: الكلمة الغريبة، ومن الدواهي الداهية الشديدة.
(1/190)
________________________________________
ومن ذلك1 قراءة حميد بن قيس2: "سَوْفَ نَصْلِيهِمْ نَارًا"3.
قال أبو الفتح: قد أتينا على ما في ذلك فيما مضى من هذا الكتاب آنفًا4.
ومن ذلك قراءة الحسن فيما رواه عنه قتادة: "تعالُوا"5 بضم اللام.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أنه حذف اللام من تعاليت استحسانًا وتخفيفًا، فلما زالت اللام من "تعالى" ضُمت لام تعال لوقوع واو الجمع بعدها، كقولك: تقدموا وتأخروا.
ونظير ذلك في حذف اللام استخفافًا قولهم: ما باليت به بالةً، وأصلها بالِيَة، كالعافية والعاقبة، ثم حذفت اللام كما ترى.
وذهب الكسائي في "آية" إلى أن أصلها: آيِيَة فاعلة، فحذفت اللام كما ذكرنا، ولو كانت إنما حذفت لام "تعالُوا" لالتقاء الساكنين كما حذفت لذلك في قولك للجماعة آمرًا: ترامَوا وتغازَوا؛ لبقيت العين مفتوحة دلالة على الألف المحذوفة، وكنحو قولك: اخشَوا واسعَوا، إذا أمرت الجماعة.
ونظير حذف اللام استحسانًا في هذه القراة قراءة الحسن أيضًا في قوله الله تعالى: "إِلَّا مَنْ هُوَ صَالُ الْجَحِيمِ"6.
حدثنا بذلك أبو علي، وذهب إلى ما ذكرناه من حذف اللام استخفافًا، وإلى أنه يجوز أن يكون أراد: إلا من هو صالون الجحيم؛ فحذف النون للإضافة، وحذف "44و" الواو التي هي عَلَم الجمع لفظًا لالتقاء الساكين، واستعمل لفظ الجمع حملًا على المعنى دون اللفظ، كقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 7، وله نظائر، إلا أن الظاهر ما ذهب إليه أبو علي.
وأما حديث "تَعَالَ" والقول على ماضيه ومضارعه وتصرفه، ومن أين جاز استعمال لفظ العلو في التقدم، فأَمْرٌ يحتاج إلى فضل قول، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع، إلا أن من جملته أنهم استعملوا لفظ التقدم والارتفاع على طريق واحد، من ذلك قولهم: قدَّمته إلى الحاكم، فهذا
__________
1 سقط في ك من قوله: "ومن ذلك قراءة حميد" إلى قوله: "قراءة الحسن".
2 هو حميد بن قيس الأعرج أبو صفوان المكي القارئ، ثقة، أخذ القراءة عن مجاهد بن جبر وعرض عليه ثلاث مرات، روى القراءة عنه سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء وغيرهما، توفي سنة 130. طبقات القراء: 1/ 265.
3 سورة النساء: 56، وفي الأصل: "ونصليهم نارًا" وهو تحريف.
4 انظر الصفحة 186 من هذا الجزء.
5 سورة النساء: 61.
6 سورة الصافات: 163.
7 سورة يونس: 42.
(1/191)
________________________________________
كقولك: ترافعنا إلى الحاكم، كذلك قولك للرجل: تعال، كقولك له: تقدم. وأصله أن التقدم تعالٍ، والتأخر انخفاض وتراخٍ، فافهمه.
ومن ذلك قراءة الحسن أيضًا: "لَيَقولُن"1 بضم اللام على الجمع. قال عبد الوارث2: سئل أبو عمرو3 عن قراءة الحسن: "لَيَقولُن" برفع اللام، فسكت.
قال أبو الفتح: أعاد الضمير على معنى "مَنْ" لا على لفظها الذي هو قراءة الجماعة؛ وذلك أن قول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} 4 لا يُعنى به رجل واحد؛ لكن معناه أن هناك جماعة هذا وصف كل واحد منهم، فلما كان جمعًا في المعنى أعيد الضمير على معناه دون لفظه، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 5، الحال فيهما واحدة، وكأن الموضع لحقه احتياط في اللفظ؛ خوفًا من إشكال معناه، فضُمَّ اللام من "ليقولُن" ليُعلم أن هذا حكم سارٍ في جماعة، ولا يُرى أنه واحد ولا أكثر منه، فاعرفه.
ومن ذلك قراءة الحسن ويزيد النحو: "يا لَيتَني كنْتُ معهم فأفوزُ فوزًا عظيمًا"6 بالرفع، قال روح: لم يجعل لليت جوابًا.
قال أبو الفتح: محصول ذلك أن يتمنى الفوز، فكأنه قال: يا ليتني أفوز فوزًا عظيمًا، ولو جعله جوابًا لنصبه؛ أي: إن أكن معهم أفز، هذا إذا أصبحت بالشرط، إلا أن الفاء إن دخلت جوابًا للتمني نُصب الفعل بعدها بإضمار أن، وعُطف أفوز على كنت معهم لأنهما جميعًا متمنيان، إلا أنه عطف جملة على جملة لا الفعل على انفراده على الفعل؛ إذ كان الأول ماضيًا والثاني مستقبلًا.
وذهب أبو الحسن في قوله عز وجل: "يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"7 بالرفع إلى أنه عطف عل اللفظ، ومعناه معنى الجواب: قال: لأنهم لم يتمنوا
__________
1 سورة النساء: 73.
2 هو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان أبو عبيدة التنوري العنبري مولاهم البصري، إمام حافظ مقرئ ثقة، ولد سنة 102، وعرض القرآن على أبي عمرو ورافقه في العرض على حميد بن قيس المكي، روى القراءة عنه ابنه عبد الصمد وغيره، مات سنة 180 بالبصرة. طبقات القراء: 1/ 478.
3 في هامش الأصل: "في الأصل: سئل عمرو".
4 سورة النساء: 72.
5 سورة يونس: 42.
6 سورة النساء: 73.
7 سورة الأنعام: 27.
(1/192)
________________________________________
ألا يكذبوا؛ وإنما تمنوا الرد، وضَمِنوا أنهم إن رُدوا لم يكذِّبوا، وعليه جاء قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 1. وعليه قول الآخر:
فَلَقَد تَرَكتِ صِبيَّةً مَرحومَة ... لَم تَدرِ ما جَزَعٌ عَلَيك فَتَجزَعُ2
والقوافي مرفوعة؛ أي: هي تجزع، ولو كان جوابًا لقال فتجزعا، وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا الموسوم بالتنبيه، وهو تفسير مشكل أبيات الحماسة.
ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان: "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ"3 برفع الكافين، قال ابن مجاهد: وهذا مردود في العربية.
قال أبو الفتح: هو لعمري ضعيف في العربية، وبابه الشعر والضرورة، إلا أنه ليس بمردود؛ لأنه قد جاء عنهم. ولو قال: مردود في "44ظ" القرآن لكان أصح معنى؛ وذلك أنه على حذف الفاء، كأنه قال: فيدركُكُم الموت، ومثله بيت الكتاب:
مَن يَفعَلِ الحَسَناتِ اللهُ يَشكُرُها ... وَالشَرُّ بِالشَرِّ عِندَ اللهِ مِثلانِ4
أي: فالله يشكرها، ومثله بيته أيضًا:
بنو ثُعل لا تنكَعوا العنز شِرْبَها ... بني ثعل من ينكَع العنزَ ظالِم5
فكأنه قال: فهو ظالم، فحذف الفاء والمبتدأ جميعًا، إلا أنه لما ترك هناك اسم الفاعل فهو لشبهه بالفعل كأنه هو الفعل؛ فيصير إلى أنه كأنه قال: من ينكع العنز يَظْلِمُ، وشَبَهُ الفعل في هذه اللغة أفشى من الشمس، حتى إنهم استجازوا لذلك أن يُولُوه نون التوكيد المختصة بالفعل، فقالوا:
أَريتَ إن جئتُ به أُملودا ... مُرَجَّلا ويَلبس البُرودا
أَقائِلُن أَحضِرِي الشهودا6
__________
1 سورة الأنعام: 28.
2 لمويلك المزموم يرثي امرأته. الحماسة: 1/ 381، والخزانة: 3/ 604.
3 سورة النساء: 78.
4 لحسان، وانظر: الكتاب 1: 435.
5 لرجل من بني أسيد. لا تنكعوا: لا تمنعوا، الشرب: النصيب. وانظر: الكتاب: 1/ 360.
6 من قصة هذا الرجز أن رجلًا من العرب أتى أمة له، فلما حبلت جحدها وزعم أنه لم يقربها، فقالت هذا الرجز.
تريد أخبرني أن ولدت ولدًا هذه صفته أتقول لي: أحضري الشهود على أن هذا الولد منك؟ إنك لن تقول ذلك وإنما ترضى بالولد، فأصبر فعسى أن أجيء بما يقر عينك. ويروى: "جاءت" مكان "جئت"، و"أحضروا" مكان "أحضري". انظر: الخزانة 4/ 574، وشرح الكامل للمرصفي 1/ 97، واللسان "رأي"، والخصائص: 1/ 136.
(1/193)
________________________________________
فكأنه قال: أيقولن، والنظائر فيه كثيرة جدًّا.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "إِلَى الْفِتْنَةِ رُكِّسُوا فِيهَا"1 مثقل بغير ألف.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أنه شيء بعد شيء؛ وذلك لأنهم جماعة، فلما كانوا كذلك وقع شيء منه بعد شيء فطال، فلاق به لفظ التكثير والتكرير، كقولك: غلَّقتُ الأبواب، وقطَّعتُ الحبال، وقد يكون معنى التكرير مع لفظ التخفيف، أنشد أبو الحسن:
أنت الفداء لقبلة هدَّمْتَها ... ونَقَرتها بيديك كلَّ مُنَقَّر
فصار "ونقرتها" كأنه قال: ونقَّرتها، يدل عليه مصدره الذي هو "مُنَقَّر". وهذا ونحوه مما يدل على اشتمال لفظ الأفعال على معاني الأجناس، حتى إن اللفظة الواحدة تصلح لكثيره صلاحها لقليله.
ومن ذلك قراءة الزهري فيما رواه عنه الوقاصي: "إلا خَطًا"2 مقصورًا خفيفًا بغير همز.
قال أبو الفتح: أصله خطأً بوزن خَطَعًا كقراءة العامة، غير أنه حذف الهمزة حذفًا على ما حكيناه عنهم من قولهم: جَا يجَى، وسَا يسُو. وهذا ضعيف عند أصحابنا وإن كان قد جاء منه حروف صالحة، إلا أنه ليس تخفيفًا قياسيًّا؛ وإنما هو حذف وخبط للهمزة ألبتة، وقد ذكرناه فيما قبل. ويجوز أن يكون أبدل الهمزة إبدالًا على حد قَرَبْتُ، فجرى مجرى عصا ومطا.
ومن ذلك قراءة إبراهيم: "إِنَّ الَّذِينَ تُوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ"3.
قال أبو الفتح: معنى هذا كقولك: إن الذين يُعَدُّون على الملائكة يُرَدُّون إليهم يحتسبون عليهم، فهو نحو من قولك: إن المال الذي تُوفَّاه أَمَةُ الله؛ أي: يُدفع إليها ويحتسب عليها، كأن كل ملَك جُعل إليه قبض نفس بعض الناس، ثم مُكن من ذلك ووفيه، أو كأن ذلك في بعض الملائكة، فجرى اللفظ على الجميع، والمراد البعض على ما مضى في هذا الكتاب.
__________
1 سورة النساء: 91.
2 سورة النساء: 92.
3 سورة النساء: 97.
(1/194)
________________________________________
ومن ذلك ما رواه الواقدي1 عن عباس عن الضبي2 عن أصحابه: "مَرْغَمًا"3، وقراءة الجماعة: {مُرَاغَمًا} .
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا إنما جاء على حذف الزيادة من راغَمَ، فعليه جاء مَرْغم؛ كمضرب من ضرب، ومذهب من ذهب. وأصل هذه المادة ر غ م، فمنه الرَّغام التراب "45و" وهو إلى الذل والشدة، والمراغِم: الْمُغَارُّ الذي يروم إذلال صاحبه، ومنه الحديث المرفوع: "إذا صلى أحدكم فليُلزم جبهته وأنفه الأرض حتى يخرج منه الرَّغْمُ" أي: حتى يذل ويخضع لله عز وجل، وعليه بقية الباب.
ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان4: "ثُمَّ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ"5 برفع الكاف، وقراءة الحسن والجراح: "ثُمَّ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ" بنصب الكاف.
قال أبو الفتح: ظاهر هذا الأمر أن "يدركُه" رفع على أنه خبر ابتداء محذوف؛ أي: ثم هو يدركه الموت، فعطف الجملة التي من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله، فهما إذن جملة، فكأنه عطف جملة على جملة. وجاء العطف هاهنا أيضًا لما بين الشرط والابتداء من المشابهات، فمنها أن حرف الشرط يجزم الفعل، ثم يعتور الفعل المجزوم مع الحرف الجازم على جزم الجواب، كما أن الابتداء يرفع الاسم المبتدأ، ثم يعتور الابتداء والمبتدأ جميعًا على رفع الخبر؛ ولذلك قال يونس في قول الأعشى:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نُزُل6
__________
1 هو محمد بن عمر بن واقد أبو عبد الله الواقدي المدني ثم البغدادي، روى القراءة عن نافع بن نعيم وعيسى بن وردان وغيرهما، وروى القراءة عنه محمد بن سعيد كاتبه، مات سنة 209 ببغداد، ودفن بمقابر الخيزران. طبقات القراء 2/ 219.
2 هو المفضل بن محمد بن يعلى بن عامر، أخذ القراءة عرضًا عن عاصم بن أبي النجود والأعمش، وروى القراءة عنه علي بن حمزة الكسائي وغيره، قال أبو بكر الخطيب: كان علامة إخباريًّا موثقًا، وقال أبو حاتم السجستاني: ثقة في الأشعار غير ثقة في الحروف، ومات سنة 168. طبقات القراء: 2/ 307.
3 سورة النساء: 100.
4 في البحر المحيط 3/ 336: "طلحة بن مصرف". وطلحة بن سليمان السمان مقرئ متصدر، أخذ القراءة عرضًا عن فياض بن غزوان عن طلحة بن مصرف، وله شواذ تُروى عنه. روى القراءة عنه إسحاق بن سليمان أخوه، وعبد الصمد بن عبد العزيز الرازي. طبقات القراء: 1/ 341.
وأما الأخر فطلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب أبو محمد، وقد تقدمت ترجمته في ص50 من هذا الجزء.
5 سورة النساء: 100.
6 يُروى:
قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا
الديوان: 63، والكتاب 1/ 429.
(1/195)
________________________________________
إنما أراد: أو أنتم تنزلون، أفلا تراه كيف عطف المبتدأ والخبر على فعل الشرط الذي هو تركبوا؟ وعليه قول الآخر:
إن تُذنبوا ثم تأْتيني بقيتكم ... فما عليَّ بذنب منكم فوت1
فكأنه قال: إن تذنبوا ثم أنتم تأتيني بقيتكم، هذا أوجه من أن يحمله على أنه جعل سكون الياء في تأْتيني علَم الجزم، على إجراء المعتل مجرى الصحيح نحو قوله:
ألم يأْتيك والأنباء تنمي2
فهذا جواب كما تراه.
وإن شئت ذهبت فيه مذهبًا آخر غيره، إلا أن فيه غموضًا وصنعة؛ وهو أن يكون أراد: ثم يدركْه الموت جزمًا، غير أنه نوى الوقف على الكلمة فنقل الحركة من الهاء إلى الكاف؛ فصار يدركُه، على قوله:
من عنَزِيِّ سبَّني لَمْ أضربُه3
أراد: لم أضربْه، ثم نقل الضمة إلى الباء لما ذكرناه، كقوله:
أَلْهَى خليلي عن فراشي مسجدُهْ ... يأيها القاضي الرشيد أَرشِدُهْ
أي: أَرشِدْه، ثم نقل الضمة، فلما صار يدركُهْ حرك الهاء بالضم على أول حالها، ثم لم يُعِدْ إليها الضمة التي كان نقلها إلى الكاف عنها؛ بل أقر الكاف على ضمها، فقال: "ثُمَّ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ"، وقد جاء ذلك عنهم. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بقول الشاعر:
إن ابن أحوص معروفًا فبلِّغُهُ ... في ساعديه إذا رام العلا قِصَرُ
__________
1 انظر: اللسان "بقي"، والبحر: 3/ 336.
2 عجزه:
بما لاقت لبون بني زياد
وهو لقيس بن زهير العبسي، ويروى: "إلم يبلغك" مكان "ألم يأتيك". الكتاب: 2/ 59، والنوادر: 203، والأغاني: 16/ 28.
3 صدره:
عجبت والدهر كثير عجبه
هو لزياد الأعجم. وعنزة: قبيلة من ربيعة بن نزار، وهم عنزة بن أسد بن ربيعة. وزيادة الأعجم من عبد القيس، وسُمي الأعجم للكنة كانت فيه. الكتاب: 2/ 287، وشواهد الشافية: 261.
(1/196)
________________________________________
أراد: فبلِّغْه، ثم نقل الضمة من الهاء إلى الغين فصار فبلِّغُهْ، ثم حرك الهاء بالضم وأقر ضمة الغين عليها بحالها، فقال: فبلغُهُ؛ وذلك أنه قد كثر النقل عنهم لهذه الضمة عن هذه الهاء، فإذا نُقلت إلى موضع قرَّت عليه وثبتت ثبات الواجب فيه.
وفي إقرار الحركة بحالها مع تحريك ما بعدها دلالة على صحة قول سيبويه بإقرار الحركة التي "45ظ" يحرك بها الساكن عند الحذف إذا رُد إلى الكلمة ما كان حُذف منها في نحو قوله في النسب إلى شِيَهٍ: وِشَوِيّ، وهذا مشروح هناك في موضعه، فهذا وجه ثانٍ كما تراه في قوله: "ثُمَّ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ" بضم الكاف، فاعرفه.
وأما قراءة الحسن: "ثُمَّ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ" بالنصب فعلى إضمار "أن"، كقول الأعشى:
لنا هضبة لا يَنْزل الذلُّ وسطها ... ويأْوي إليها المستجير فيُعْصَمَا1
أراد: فأَن يعصما، وهو ليس بالسهل؛ وإنما بابه الشعر لا القرآن. ومن أبيات الكتاب:
سأَترك منزلي لبني تميم ... وأَلحقُ بالحجاز فأَستريحا2
والآية على كل حال أقوى من ذلك؛ لتقدم الشرط قبل المعطوف، وليس بواجب، وهذا واضح.
وفيه أكثر من هذا، إلا أنا نكره ونتحامى الإطالة لا سيما في الدقيق؛ لأنه مما يجفو على أهل القرآن.
وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتابه الحجة، وظاهرُ أمره أنه لأصحاب القراءة، وفيه أشياء كثيرة قلما ينتصف فيها كثير ممن يدعي هذا العلم؛ حتى إنه مجفو عند القراءة لما ذكرناه.
ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن الأعرج: "أَنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ"3 بفتح الألف.
قال أبو الفتح: أن محمولة على قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أي: لا تهنوا لأنكم تألمون، كقولك: لا تجبن عن قرنك لخوفك منه، فمن اعتقد نصب أن بعد حذف الجر عنها فأن هنا منصوبة الموضع، وهي على مذهب الخليل مجرورة الموضع باللام المرادة، وصارت "أن" لكونها كالعوض في اللفظ من اللام.
__________
1 البيت لطرفة. ويروى: "يدخل" مكان "ينزل". الديوان: 139، والكتاب: 1/ 423.
2 الكتاب: 1/ 423.
3 سورة النساء: 104.
(1/197)
________________________________________
ومن ذلك قراءة يحيى: "فإنهم يِيلَمون كما تِيلَمون"1.
قال أبو الفتح: العرف في نحو هذا أن من قال: أنت تِئمن وتِئلف وإِيلف، فكسر حرف المضارعة في نحو هذا إذا صار إلى الياء فتحها ألبتة، فقال: هو يَأْلف، ولا يقول: هو يِيلف؛ استثقالًا للكسرة في الياء.
فأما قولهم في يَوْجَل ويَوْحَل ونحوهما: يِيجل ويِيحل بكسر الياء، فإنما احتُمل ذلك هناك من قِبَلِ أنهم أرادا قلب الواو ياء هربًا من ثقل الواو؛ لأن لياء على كل حال أخف من الواو، وعلموا أنهم إذا قالوا: يَيْجل ويَوحَل2، فقلبوا الواو ياء والياء قبلها مفتوحة كان ذلك قلبًا من غير قوة علة القلب، فكأنهم حملوا أنفسهم بما تجشموه من كسر الياء توصلًا إلى قوة علة قلب الواو ياء، كما أبدلوا من ضمة لام أَدلُو جمع دَلْوٍ كسرة فصار أَدلِوٌ لتنقلب الواو ياء بعذر قاطع؛ وهو انكسار ما قبلها وهي لام، وليس كذلك الهمزة؛ لأنها إذا كسر ما قبلها لم يجب انقلابها ياء، وذلك نحو: بئر وذئب، ألا تراك إذا قلت: هو يِئْلف، لم يجب قلب الهمزة ياء؟ فلهذا قلنا: إن كسرة ياء يِيجل لما يعقب من قلب الأثقل إلى الأخف مقبول، وليس في كسر ياء يئلف ما يدعو إلى ما تُحْتَمل له الكسرة، وليس فيه أكثر من أنه إذا كسر الياء ثم خفَّف الهمزة صار يِيلمون فأشبه في اللفظ ييجل، وهذا "46و" له قدر لا يُحتمل له كسر الياء، فاعرفه.
ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روته عائشة رضي الله عنها: "أُثُنا"3 بثاء قبل النون، ورُوي أيضًا عنها عنه عليه السلام: "أُنُثا" النون قبل الثاء. وقراءة ابن عباس: "إلا وُثْنا"، ورُوي عنه أيضًا: "إلا أُنُثا" بضمتين والثاء بعد النون، وقراءة عطاء بن أبي رباح: "ألا أُثْنا" الثاء قبل، وهي ساكنة.
قال أبو الفتح: أما "أُثُن" فجمع وَثَن، وأصله وُثُن، فلما انضمت الواو ضمًّا لازمًا قلبت همزة، كقول الله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَت} 4، وكقولهم في وُجوه: أجوه، وفي وُعِد: أُعِد، وهذا باب واسع. ونظير وَثَن وأُثُن أَسَد وأُسُد. ومن قال: "أُثْنا" بسكون الثاء فهو كأُسْد، بسكون السين.
__________
1 سورة النساء: 104.
2 كذا في النسختين، وظاهر السياق يقتضي "ييحل".
3 قراءة الجماعة: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} . سورة النساء: 117.
4 سورة المرسلات: 11.
(1/198)
________________________________________
حكى سيبويه هذه القراءة: "أُثْنا" بسكون الثاء.
وذهب أبو بكر محمد بن السري في قولهم: أَسَد وأُسُد إلى أنها محذوفة من أُسُود، ويقوي قوله هذا بيت الأخطل:
كَلَمْعِ أَيدي مَثاكيلٍ مُسَلِّبَةٍ ... يَندُبنَ ضَرس بنَاتِ الدَهرِ وَالخُطُبِ1
يريد: الخُطُوب، فقصر الكلمة بحذف واوها، ومثله قول الآخر:
إن الفقير بيننا قاضٍ حَكَمْ ... أن ترِد الماءَ إذا غاب النُّجُم2
يريد: النجوم.
وأما "أُنُثًا" بتقديم النون على الثاء، فينبغي أن يكون جمع أَنيث، كقولهم: سيفٌ أنيث الحديد، وذلك كقراءة العامة: {إِلَّا إِنَاثًا} يعني: به الأصنام. قال الحسن: الإناث كل شيء ليس فيه رُوح: خشبة يابسة وحجر يابس، قال: وهو اسم صنم لحي من العرب، كانوا يعبدونها ويسمونها أُنثى بني فلان، وعليه القراءة: "إِلَّا أوثانًا".
ومن ذلك قال حماد بن شُعيب3: قلت للأعمش: "يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ"4، فقال: أيعدُهم؟ إنما هو: "يَعِدْهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدْهُم" ساكنة.
قال أبو الفتح: قد تقدم القول على نحو هذا ما أُسكن في موضع الرفع تخفيفًا لثقل الضمة. قال أبو زيد فيما حكاه عنهم: "بَلَى وَرُسُلْنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ"5 بسكون اللام تخفيفًا على هذا.
__________
1 رُوي: "كلمح" مكان "كلمع"، المسلبة: المرأة التي مات ولدها، والتي تلبس السلاب بالكسر؛ وهي ثياب سود تلبسها النساء في المأتم، واحدتها سلبة بالتحريك، ضرس السبع فريسته: مضغها ولم يبتلعها، وضرسته الخطوب: عجمته على المثل. شبه أيدي الإبل إذا رفعتها بلمع نائحة تشير بخرقة. الديوان: 188، واللسان "ضرس، وخطب، وثكل".
2 رُوي:
إن الذي قضى بذا قاض حكم
وانظر: الخصائص: 3/ 134.
3 هو حماد بن أبي زياد شعيب أبو شعيب التميمي الحماني الكوفي، مقرئ جليل ضابط، ولد سنة 101، وأخذ القراءة عرضًا عن عاصم، ولما مات عاصم قرأ على أبي بكر بن عياش وغيره، وروى القراءة عنه عرضًا يحيى بن محمد العليمي وغيره، ومات سنة 109. طبقات القراء: 1/ 258.
4 سورة النساء: 120.
5 سورة الزخرف: 80.
(1/199)
________________________________________
ومن ذلك ما رواه الضبي عن أبي عبد الله المدني: "في يَيامَى النساء"1 بياءين.
قال أبو الفتح: القراءة المجمع عليها: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} بياء وتاء بعدها. ولا يجوز قلب التاء هنا ياء. والقول عليه -والله أعلم- أنه أراد أَيامى، فأبدل الهمزة ياء، فصارت "يَيامى"، وقلبت الهمزة ياء كما قلبت الهمزة ياء في قولهم: "قطع الله أَدْيَه"، يريدون: يده، فرد لام الفعل، وأعاد العين إلى سكونها؛ فصارت يَدْيَه، ثم أبدل الياء همزة فصارت أَدْيه، ولم أسمع هذا إلا من جهته، وأيًّا ما كان فقد قُلب الياء همزة.
ونظير قلب الهمزة في "أَيامى" إلى الياء حتى صارت "يَيامى" قولهم: باهلة بن يعصُر، فالياء فيه بدل من همزة أَعصُر؛ وذلك لأنه يقال: باهلة بن أَعصُر2 ويعصُر، وإنما سُمي أعصر ببيت قاله:
أبُنَي إن أباك غيَّر لونَه ... كرُّ الليالي واختلاف الأعصر3
فهذا دليل على كون "46ظ" الهمزة أصلًا والياء بدل منها.
وأما "أَيامى" فقالوا: إنها جمع أَيِّم، وأصلها عندهم أيائم كسيد وسيائد، كذا رواها ابن الأعرابي: سيد وسيائد بالهمز كما ترى، وفي هذا شاهد لقول سيبويه: إنه متى اكتنف ألف التكسير حرفا علة أَيَّيْنِ كانا وجاور الآخر منهما الطرف فإنه يهمز.
وشاهد ذاك أيضًا ما رواه أبو عثمان عن الأصمعي: أنهم قالوا: عيِّل وعيائل بالهمز.
وحكى أبو زيد:" سَيِّقة4 وسيائق بالهمز.
وكان أبو علي يُسَر بما حكاه أبو زيد من همز سيائق، ولم يقع له إذ ذاك ما حكيناه عن ابن الأعرابي من همز سيائد، ولا كان إذا ذاك وقع هذا الحرف إليَّ فأذكره له، كأشياء كانت تخطر لي أو تنتهي إليَّ فأحكيها له، فنقع مواقعها المرضية عنده.
ومذهب أبي الحسن بخلاف ذلك، فلما صارت إلى أَيائم قُدِّمت اللام وأُخرت العين فصارت "أَيامِي"، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف فصارت "أَيامَى"، ووزنها الآن فيالع، وأصلها أَيائِم فياعل؛ لأن أَيما فيْعِل، هذا مذهب الجماعة في أيِّم وأَيامى.
__________
1 سورة النساء: 127.
2 واسم أعصر: منبه بن سعد بن قيس عيلان. الخصائص: 2/ 86، 3/ 182.
3 انظر المصدر السابق، واللسان "عصر".
4 السيقة ككيسة: ما استاقه العدو من الدواب، والدريئة يستتر فيها الصائد فيرمي الوحش.
(1/200)
________________________________________
ولو ذهب به ذاهب إلى ما أذكره لم أرَ به بأسًا؛ وذلك أنه كأنه كسَّر آيِم فاعِل على فَعْلى، وهو أَيْمَى، من حيث كانت الأَيْمَة بليَّة ندفع إليها، فجرى مجرى هالك وهلكى، ومائد وميدى1، وجريح وجرحى، وزمن وزمنى، وسكران وسكرى، ثم كُسرت أيمى على أيامى، فوزن أيامى الآن على هذا فَعالى، ولا قلب فيها.
وأنت إذا سلكت هذه الطريق أحرزت غنمين، وكُفيت مئونتين:
إحداهما: أن تكون الكلمة على أصلها لم تقلب ولم يغير شيء من حروفها، والآخر: أنه لو كان الأصل "أيائم" لجاز؛ بل كان الوجه أن يُسمع؛ وإنما المسموع أيامى كما ترى، فاعرف ذلك، "فالييامى" على هذا القول فعالى، تكسير أَيْمَى على فَعْلَى، كهَلْكَى.
وعلى القول الآخر فيالِع.
ومما كُسِّر على فَعْلى ثم كسرت فعلى على فَعالى ما رويناه عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى في أماليه من قول بعضهم:
مثل القتالى في الهشيم البالي2
فهذا تكسير قتيل على قَتْلى، ثم قَتْلى على قَتَالى.
ومن ذلك قراءة عاصم الجحدري: "أَنْ يَصَّلِحَا"3.
قال أبو الفتح: أراد: يصطلحا أي يفتعلا، فآثر الإدغام فأبدل الطاء صادًا، ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء، فصارت يصَّلحا، ولم يجز أن تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الصفير، ألا ترى أن كل واحد من الطاء وأختيها والظاء وأختيها يُدغمن في الصاد وأختيها، ولا يدغم واحدة منهن في واحدة منهن؟ فلذلك لم يجز "إلا أن يَطَّلحا"، وجاز "يصَّلحا".
__________
1 المائد: من أصابه غثيان من سُكْر أو ركوب بحر.
2 لمنظور بن مرثد، وقبله:
فظل لحمًا تربَ الأوصال
وانظر: اللسان "قتل".
3 سورة النساء: 128. وقراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {يُصْلِحَا} بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام من غير ألف من أصلح، ووافقهم الأعمش، وقراءة الباقين بفتح الياء والصاد مشددة وبألف بعدهما وفتح اللام، على أن أصلها: يتصالحا. إتحاف فضلاء البشر: 117.
(1/201)
________________________________________
ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن في رواية عطاء عنه وقراءة عاصم الجحدري أيضًا: "وملائكتِه وكتابِه"1 على التوحيد.
قال أبو الفتح: اللفظ لفظ الواحد والمعنى معنى الجنس؛ أي: وكتبه، ومثله قوله سبحانه {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} 2 "47و" أي: كتبنا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} 3، وقال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 4، فلكل إنسان كتاب، فهي جماعة كما ترى، وقد قال: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} .
ووقوع الواحد موقع الجماعة فاشٍ في اللغة، قال الله تعالى: {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} 5 أي: أطفالًا، وحَسَّن لفظ الواحد هنا شيء آخر أيضًا؛ وذلك أنه موضع إضعاف للعباد وإقلال لهم، فكان لفظ الواحد لقلته أشبه بالموضع من لفظ الجماعة؛ لأن الجماعة على كل حال أقوى من الواحد، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة عبد الله بن أبي إسحاق6 والأشهب العقيلي: "يُرَءُّون الناس"7، مثل يُرَعُّون، والهمزة بين الراء والواو من غير ألف.
قال أبو الفتح: معناه يُبصِّرون الناس، ويحملونهم على أن يروهم يفعلون ما يتعاطونه، وهي أقوى معنى من "يُراءُون" بالمد على يفاعِلون؛ لأن معنى يراءونهم يتعرضون لأن يروهم، و"يُرَءُّونهم" يحملونهم على أن يروهم.
قال أبو زيد: رأت المرأة الرجل المرآة إذا أمسكتها له ليرى وجهه، ويدلك على أن يرائي أضعف معنى من يُرَئِّي قوله:
تَرَى أو تُرَاءَى عند معقد غرزها ... تهاويل من أجلاد هِرٍّ مووَّم8
__________
1 سورة النساء: 136.
2 سورة الجاثية: 28.
3 سورة الإسراء: 13.
4 سورة الاسراء: 14.
5 سورة الحج: 5.
6 هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي النحوي البصري جد يعقوب بن إسحاق الحضرمي، أحد القراءة العشرة، أخذ القراءة عرضًا عن يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، وروى القراءة عنه عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء وهارون بن موسى الأعور، وتوفي سنة 117، أو سنة 119. طبقات القراء: 1/ 410.
7 سورة النساء: 142.
8 انظر الصفحة 155 من هذا الجزء.
(1/202)
________________________________________
ومن ذلك قراءة ابن عباس وعمرو بن فايد1: "مُذَبْذِبِين"2 بكسر الذال الثانية.
قال أبو الفتح: هو من قوله:
خيالٌ لأمِّ السلسبيل ودونه ... مسيرة شهر للبريد المذبذِب3
أي: المهتز القلق الذي لا يثبت في مكان، فكذلك هؤلاء: يخِفُّون تارة إلى هؤلاء وتارة إلى هؤلاء، فهو مثل قوله: {لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلاءِ} 4، وهو من ذَبَّبْتُ عن الشيء: أي صرفت عنه شيئًَا يريده إلى غير جهته، وقريب من لفظه، إلا أنه ليس من لفظه، كما يقول البغداديون وأبو بكر معهم؛ وذلك أن ذَبَّبْتُ من ذوات الثلاثة، وذبذب من مكرر الأربعة، فهو كقولهم: عين ثرّة وثرثارة، وهو كثير في معناه. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا المنصف.
ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك5 بن مزاحم وزيد بن أسلم6 وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار وعطاء بن السائب7 وابن يسار: "إِلَّا مَنْ ظَلَمَ"8 بفتح الظاء واللام.
قال أبو الفتح: ظَلَم وظُلِم جميعًا على الاستثناء المنقطع؛ أي: لكن من ظلم فإن الله لا يخفى عليه أمره، ودل على ذلك قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} .
ومن ذلك قراءة مالك بن دينار وعيسى الثقفي وعاصم الجحدري: "والمقيمون"9 بواو.
__________
1 هو عمرو بن فايد أبو عبد الله الأسواري البصري، روى عنه الحروف حسان بن محمد الضرير وبكر بن نصار العطار. طبقات القراء: 1/ 602.
2 سورة النساء: 143.
3 للبعيث بن حريث. الحماسة: 1/ 148، والبحر: 3/ 377.
4 سورة النساء: 143.
5 هو الضحاك بن مزاحم أبو القاسم، ويقال: أبو محمد الهلالي الخراساني، تابعي، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، سمع سعيد بن جبير وأخذ عنه التفسير، توفي سنة 105. طبقات القراء: 1/ 337.
6 هو زيد بن أسلم أبو أسامة المدني، مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وردت عنه الرواية في حروف القرآن، أخذ عنه القراءة شيبة بن نصاح، مات سنة 130. طبقات القراء: 1/ 296.
7 هو عطاء بن السائب أبو زيد الثقفي الكوفي، أحد الأعلام، أخذ القراءة عرضًا عن أبي عبد الرحمن السلمي، وأدرك عليًّا، روى عنه شعبة بن الحجاج وغيره، ومات سنة 136. طبقات القراء: 1/ 513.
8 سورة النساء: 148.
9 سورة النساء: 162.
(1/203)
________________________________________
قال أبو الفتح: ارتفاع هذا على الظاهر الذي لا نظر فيه؛ وإنما الكلام في "المقيمين" بالياء، واختلاف الناس فيه معروف، فلا وجه للتشاغل بإعادته؛ لكن رفعه في هذه القراءة يمنع من توهمه مع الياء مجرورًا؛ أي: يؤمنون بما أَنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، وهذا واضح.
ومن ذلك قراءة إبراهيم: "وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى"1 اسم الله نصب.
قال أبو الفتح: يشهد لهذه قوله -جل وعز- حكاية عن موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2، وغير من الآي "47ظ" التي فيه كلامه لله تعالى.
ومن ذلك قراءة العامة: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} 3 بالفتح، وقراءة الحسن: "إِنْ يَكُونُ" بكسر الألف.
قال أبو الفتح: هذه القراءة توجب رفع يكون، ولم يذكر ابن مجاهد إعراب يكون؛ وإنما يجب رفعه لأن "إن" هنا نفي كقولك: ما يكون له ولد، وهذا قاطع.
ومن ذلك قراءة مسلمة: "فَسَيَحْشُرْهُمْ"4 "فَيُعَذِّبْهُم" ساكنة الراء والباء.
قال أبو الفتح: قد سبق نحو هذا، وأنه إنما يسكن استثقالًا للضمة. نعم، وربما كان العمل خَلْسًا فظُن سكونًا، وقد سبقت شواهد السكون بما فيه.
__________
1 سورة النساء: 164.
2 سورة الأعراف: 143.
3 سورة النساء: 171.
4 قوله تعالى: "فَسَيَحْشُرهم" من آية: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} ، وأما "يُعَذِّبهم" فمن آية: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . سورة النساء: 172، 173.
(1/204)
________________________________________
سورة المائدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من ذلك قراءة الحسن وإبراهيم ويحيى بن وَثَّاب: "وَأَنْتُمْ حُرْم"1 بإسكان الراء.
قال أبو الفتح: هذه اللغة تميمية، يقول في رُسُل: رُسْل، وفي كُتُب: كُتْب، وفي دجاج بُيُض2: دجاج بِيض؛ وذلك أنه صار إلى فُعْل، فجرى مجرى جمع أبيض إذا قلت: بِيض.
واعلم من بعد هذا أن إسكان "حُرْم" كأن له مزية على إسكان كُتُب؛ وذلك أن في الراء تكريرًا، فكادت تكون الراء الساكنة لما فيها من التكرير في حكم المتحركة لزيادة الصوت بالتكرير نحوًا من زيادته بالحركة، وكذلك الكلام في جِراب وجُرُب وسِراج وسُرُج، وكذلك القول فيما جاء عنهم من تكسير فرد على أفراد، فيه هذا المعنى الذي ذكرناه؛ وذلك أن التكرير في راء فرد كاد يكون كالحركة فيها فصار "فَرْد" وإن كان فَعْلًا ساكن العين، كأنه فَعْلٌ محركها، وقد تقصيت في هذا كتاب المحاسن وبسطته هناك ونظائره.
ومن ذلك قراءة أبي واقد والجراح ونُبَيْج والحسن بن عمران: "فِاصْطادُوا"3 بكسر الفاء.
قال أبو الفتح: هذه القراءة ظاهرة الإشكال؛ وذلك أنه لا داعي إلى إمالة فتحة هذه الفاء كما أُميلت فتحة الراء الأولى من الضرر لكسرة الثانية، وكما أُميلت فتحة النون من قولهم: "وإنا إليه راجعون"؛ لكسر الهمزة، ونحو ذلك. فمن هنا أَشْكل أمر هذه الإمالة، إلا أن هنا ضربًا من التعلل صالحًا؛ وهو أنه لك أن تقول: فاصطادوا، فتميل الألف بعد الطاء إذ كانت منقلبة عن ياء الصيد، فإن قلت: فهناك الطاء، فهلَّا منعت الإمالة، وكذلك الصاد.
__________
1 سورة المائدة: 1.
2 جمع بيوض، وصف من باضت الدجاجة ونحوها.
2 سورة المائدة: 2.
(1/205)
________________________________________
قيل: إن حروف الاستعلاء لا تمنع الإمالة في الفعل؛ إنما تمنع منها في الاسم، نحو: طالب وظالم، فأما في الفعل فلا، ألا تراهم كيف أمالوا طغى وقضى وهناك حرفان مستعليان مفتوحان؟
وسبب ذلك إيغال الأفعال في الاعتلال، وأنها أقعد فيه من الأسماء.
فإن قلت: فإنه لم يُحكَ في الطاء إمالة.
قيل: هي وإن لم تسمع معرضة، والكلمة لها معرضة فكأنها لذلك ملفوظ، كما أن مَن قال في الوقف هذا ماشْ، فأمال مع سكون الشين نظرًا إلى الكسرة إذا وصل فقال: هذا ماش، وكما أن من قال: أغزيت نظر إلى وجوب الياء في "48و" المضارع لانكسار ما قبل الواو في يُغزى، وكما أن من أعلَّ يخاف وأصلها يَخْوَفُ نظر إلى اعتلالها في الماضي وأصلها خَوِف، ولولا ذلك لوجب أَغْزَوْتُ ويَخْوَفُ؛ لأنه لا علة فيهما في مكانهما، وكما أن من قال في الإضافة إلى الصِّعِق1 صِعْقِي أقر كسرة الصاد مع فتحة العين نظرًا إلى أصل ما كان عليه من كسرة العين، ولذلك نظائر.
وإن شئت قلت: لما كان يقول في الابتداء: اصطادوا، فيكسر همزة الوصل، نظر إليها بعد حذف الهمزة فقال: "فِاصطادوا" تصورًا لكسرة الهمزة إذا ابتدأت فقلت: اصطادوا. فهذا وجه ثانٍ لما مضى.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود: "وَلا يُجْرِمَنَّكُم" بضم الياء "شَنَآنُ قَوْمٍ إِنْ يصَدُّوكُمْ"2 بكسر الألف.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة ضعف؛ وذلك لأنه جزم بإن ولم يأتِ لها بجواب مجزوم أو بالفاء، كقولك: إن تزرني أعطك درهمًا أو فلك درهم، ولو قلت: إن تزرني أعطيتك درهمًا قبح لما ذكرنا؛ وإنما بابه الشعر:
إن يسمعوا رِيبة طاروا لها فرحًا ... يومًا وما سمعوا من صالح دفنوا3
__________
1 لقب عمرو بن خويلد؛ وإنما لقب به لأنه أصابته صاعقة في الجاهلية. الاشتقاق: 297.
2 سورة المائدة: 3. وقرأ أبو عمرو وابن كثير: "إن صدوكم" بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة: {أَنْ صَدُّوكُمْ} بفتح الهمزة. البحر المحيط: 3/ 422، وإتحاف فضلاء البشر: 119.
3 لقعنب بن أم صاحب، واسمه ضمرة أحد بني عبد الله بن غطفان، شاعر إسلامي كان في أيام الوليد، ورُوي: "عني" مكان "يومًا". الحماسة: 2/ 179، وسمط اللآلي: 362.
(1/206)
________________________________________
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "وأَكيلُ السَّبُع"1.
قال أبو الفتح: ذهب بالتذكير إلى الجنس والعموم، حتى كأنه قال: وما أكل السبع، ولو قال ذلك لما كان لفظ "ما" إلا إلى التذكير، والأَكيل هنا إذن يصلح للمذكر والمؤنث، وأما الأَكيلة فكالنطيحة والذبيحة، اسم للمأكول والمنطوح كالضحية والبلية في قوله:
مثل البليَّة قالصا أهدامُها2
فنقول على هذا: مررت بشاة أكيل؛ أي: قد أكلها السبع ونحوه، وتقول: ما لنا طعام إلا الأَكلية؛ أي: الشاة أو الجزور المعدة لأن تؤكل، فإن كانت قد أُكلت فهي أَكيل بلا هاء، وكذلك أَكيل السبع هنا ما قد أَكل السبع بعضه.
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: "غَيْرَ مُتَجَنِّفٍ لإِثْمٍ"3 بغير ألف.
قال أبو الفتح: كأن متجنفًا أبلغ وأقوى معنى من متجانف؛ وذلك لتشديد العين، وموضوعها لقوة المعنى بها نحو تَصوَّن هو أبلغ من تصاون؛ لأن تصون أوغل في ذلك، فصح له وعرف به، وأما تصاون فكأنه أظهر من ذلك وقد يكون عليه، وكثيرًا ما لا يكون عليه، ألا ترى إلى قوله:
إذا تخازرتُ وما بي من خَزر4
فصار متجنِّف بمعنى مُتَمَيِّل ومتَثنٍّ، ومتجانف كمتمايل، ومتأَوِّد أبلغ من متاوِد، وعليه قراءة عبد الله بن أبي إسحاق والأشهب العُقيلي: "يُرَءُّون الناس"؛ أي: يُكرهونَهم على أن يروهم على ما يتجمَّلون به، ويراءُون يتصنعون لذلك فربما تم لهم، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى من كتابنا هذا.
__________
1 قراءة الجماعة: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} . سورة المائدة: 3.
2 صدره:
تأْوي إلى الأَطناب كلُّ رذية
والبيت للبيد من معلقته. الأطناب: حبال البيت، جمع طنب، الرذية: الضعيفة من كل شيء، والمراد بها البائسة الفقيرة، والبلية: الناقة التي تشد على قبر صاحبها حتى تموت، قالص: قصير، الأهدام: جمع هدم بالكسر؛ وهو الثوب البالي. الديوان: 139، وشرح المعلقات السبع للزوزني: 114.
3 قراءة الجماعة: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} . سورة المائدة: 3.
4 انظر: الكتاب: 2/ 239، واللسان "خزر". تخازر: ضيق جفنه ليحدد النظر.
(1/207)
________________________________________
ومن ذلك قراءة أبي رزين: "مُكْلِبين"1 ساكنة الكاف.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون "مُكْلبين" من قولهم: آسدتُ الكلب؛ أي: أغريته، وكذلك إكلاب الجوارح هو إغراؤها بالصيد وإسآدها عليه2 ليكون كالكلب الكلِب، كلِب وأكلبته كضرِي "48ظ" وأضريته، وغَرِي وأغريته، وأَسِدَ وآسدته، وعَرِص وأعرصته3، وهَبِصَ وأَهْبَصْتُه4.
ومن ذلك ما رواه عمرو عن الحسن: "وَأَرْجُلُكُم"5 بالرفع.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون رفعه بالابتداء والخبر محذوف، دل عليه ما تقدمه من قوله سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أي: وأرجلُكم واجبٌ غسلُها، أو مفروض غسلُها، أو مغسولة كغيرها، ونحو ذلك. وقد تقدم نحو هذا مما حذف خبره لدلالة ما هناك عليه، وكأنه بالرفع أقوى معنى؛ وذلك لأنه يستأنف فيرفعه على الابتداء، فيصير صاحب الجملة، وإذا نصب أو جر عطفه على ما قبله، فصار لَحَقا وتبعًا، فاعرفه.
ومن ذلك قراءة الجحدري: "وَعَزَرْتُمُوهُمْ"6 خفيفة.
قال أبو الفتح: عزَرت الرجل أعزِرُه عَزْرًا: إذا حُطتَه وكنفتَه، وعزَّرْتُه: فخَّمت أمره وعظمته، وكأنه لقربه من الأزر وهو التقوية معناه أو قريبًا منه، ونحوه عَزَر7 اللبنُ وحَزَر: إذا حمَض فاشتد، فانظر إلى تلامح كلام العرب واعْجَبْ.
ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير8 ومجاهد: "قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ"9 بضم الياء.
قال أبو الفتح: يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون من المؤمنين الذين يُرْهَبون ويُتَّقَوْن
__________
1 سورة المائدة: 4.
2 الإسآد: الإغذاذ في السير.
3 عرص البرق: اضطراب.
4 هبص: نشط وعجل.
5 سورة المائدة: 6.
6 سورة المائدة: 12.
7 سقطت "عزر" في ك.
8 هو سعيد بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، التابعي الجليل، عرض على ابن عباس، قتله الحجاج سنة 95، أو سنة 94. طبقات القراء: 1/ 305.
9 سورة المائدة: 23.
(1/208)
________________________________________
لما لهم في نفوس الناس من العفة والورع والستر؛ وذلك أنه مَن كان في النفوس كذلك رُهب واحتُشم وأُطيع وأُعظم؛ لأن من أطاع الله سبحانه أُكرم وأُطيع، ومن عصاه امتُهن وأُضيع.
والآخر: أن يكون معناه من الذين إذا وُعِظُوا رَهِبُوا وخَافُوا، فإذا أتاهم الرسول بالحق أطاعوا وخضعوا؛ أي: ليسوا ممن يركب جهله ولا يُصغي إلى ما يُحد له، فيكون كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} 1، وكقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} 2، ونحو ذلك من الآي الدالة على رهبة المؤمنين وطاعتهم، فهذا إذن من أُخِيفَ والأول من خِيف.
ومن ذلك قراءة الحسن بن عمران وأبي واقد والجراح، ورُويت عن الحسن: "فطَاوَعَتْ له نَفْسُهُ"3.
قال أبو الفتح: ينبغي -والله أعلم- أن يكون هذا على أن قَتْل أخيه جذبه إلى نفسه ودعاه إلى ذلك، فأجابته نفسه وطاوعته.
وقراءة العامة: {فَطَوَّعَتْ لَهُ} أي: حسنته له وسهلته عليه.
ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان: "فَأُوَارِي سَوْءَةَ أَخِي"4 بسكون الياء في "أوارِي".
قال أبو الفتح: قد سبق القول على سكون هذه الياء في موضع النصب في نحو قوله:
كأن أيديهن بالْمَوْماةِ ... أيدي جوارٍ بِتْنَ ناعماتِ5
وقول أبي العباس: إنها من أحسن الضرورات.
ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: "مِنِ اجْلِ ذَلِكَ"6 غير مهموز والنون مكسورة.
قال أبو الفتح: يقال: فعلت ذلك من أَجلك ومن إِجْلِك بالفتح والكسر، ومن إجلاك ومن جلَلِك ومن جلالِك ومن جَرَّاك، فيجب على هذا أن تكون قراءة أبي جعفر: "مِنِ اجْلِ ذَلِكَ"
__________
1 سورة الحجرات: 3.
2 سورة يس: 11.
3 سورة المائدة: 30.
4 سورة المائدة: 30.
5 يصف إبلًا دميت أخفافها، وأراد أيدي جوار مخضبات، فلما كان الخضاب من التنعم قال: ناعمات، وهذا من الإشارة والوحي. سمط اللآلي: 755.
6 سورة المائدة: 32.
(1/209)
________________________________________
على تخفيف همزة "إِجْل" بحذفها وإلقاء حركتها على نون مِن، كقولك في تخفيف: كم إبلُك "49و": كم بِلُك، وفي من إبراهيم: منِ بْراهيم، وهو واضح.
ومن ذلك قراءة الحسن: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ"1 بنصب الفساد.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على فعل محذوف يدل عليه أول الكلام؛ وذلك أن قتل النفس بغير النفس من أعظم الفساد، فكأنه قال: قال أو أتى فسادًا، أو ركب فسادًا، أو أحدث فسادًا. وحذفُ الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه وإبقاء علمه ناطقًا به ودليلًا عليه مع ما يدل من غيره عليه -أكثرُ من أن يؤتى بشيء منه مع وضوح الحال به، إلا أن منه قول القطامي:
فكرت تبتغيه فوافقته ... على دمه ومَصرَعِه السباعا2
فنصب السباع لأنها داخلة في الموافقة، ألا تراها إذا وافقت السباع على دمه فقد دخلت السباع في الموافقة، فيصير كأنه قال: وافقت السباع؟ وهو عندنا بعد على حذف المضاف؛ أي: آثار السباع؛ لأنها لو صادفت السباع هناك لأكلتها أيضًا، وهناك مضاف آخر محذوف؛ أي: صادفت السباع على أشلائه وبقاياه، لأنها إذا وافقت آثار السباع على دمه ومصرعه؛ فإنما وافقت بقاياه لا جميعه.
وسمعت سنة خمس وخمسين غلامًا حدثًا من عُقيل ومعه سيف في يده، فقال له بعض الحاضرين وكنا مُصْحِرين: يا أعرابي، سيفك هذا يقطع البطيخ؟ فقال: إي والله وغواربَ الرجل، فنصب الغوارب على ذلك؛ أي: ويقطع غواربَ الرجال.
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم والسلمي: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"3 بالياء ورفع الميم.
__________
1 من الآية 32 من سورة المائدة.
2 يروى:
فكرت ذات يوم تبتغيه ... فأَلفت فوق مصرعه السباعا
يصف بقرة فقدت ولدها، فجعلت تطلبه فوافقت السباع عليه. وانظر: الكتاب: 1/ 142.
3 سورة المائدة: 50، وقرأ ابن عامر: "تبغون" بالتاء، والباقون بياء الغيبة. تفسير البحر: 3/ 505، وإتحاف فضلاء البشر: 121.
(1/210)
________________________________________
قال ابن مجاهد: وهو خطأ.
قال: وقال الأعرج: لا أعرف في العربية "أفحكمُ"، وقرأ: "أفحكمَ" نصبًا.
وقرأ الأعمش: "أفَحكَمَ الجاهلية"1 بفتح الحاء والكاف والميم.
قال أبو الفتح: قول ابن مجاهد إنه خطأ فيه سرف؛ لكنه وجه غيره أقوى منه، وهو جائز في الشعر، قال أبو النجم:
قد أصبحَتْ أَمُّ الخيار تدَّعي ... عليَّ ذنبًا كلُّه لم أصنع2
أي: لم أصنعه، فحذف الهاء. نعم، ولو نصب فقال: "كلَّه" لم ينكسر الوزن، فهذا يؤنسك بأنه ليس للضرروة مطلقة؛ بل لأن له وجهًا من القياس، وهو تشبيه عائد الخبر بعائد الحال أو الصفة، وهو إلى الحال أقرب؛ لأنها ضرب من الخبر، فالصفة كقولهم: الناس رجلان: رجل أكرمت ورجل أهنت؛ أي: أكرمته وأهنته، والحال كقولهم: مررت بهند يضرب زيد؛ أي: يضربها زيد، فحذف عائد الحال وهو في الصفة أمثل؛ لشبه الصفة بالصلة في نحو قولهم: أكرمت الذي أهنت؛ أي: أهنته، ومررت بالتي لقيتُ؛ أي: لقيتها، فغير بعيد أن يكون قوله: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" يراد به يبغونه، ثم يُحْذَف الضمير، وهذا وإن كانت فيه صنعة فإن ليس بخطأ.
وفيه من بَعْدِ هذا شيئان نذكرهما:
الأول: وهو أن قوله: "كله لم أصنع" وإن كان قد حذف منه الضمير، فإنه قد خلفه وأُعيض منه ما يقوم مقامه في اللفظ؛ لأنه يعاقبه ولا يجتمع معه، وهو حرف الإطلاق؛ أعني: الياء في "أصنعي"، فلما حضر ما يعاقب الهاء فلا يجتمع معها صارت لذلك كأنها حاضرة "49ظ" غير محذوفة، فهذا وجه.
والثاني: أن هناك همزة استفهام، فهو أشد لتسليط الفعل، ألا ترى أنك تقول: زيد ضربته فيختار الرفع، فإذا جاء همزة الاستفهام اخترت النصب ألبتة، فقلت: أزيدًا ضربته، فنصبته بفعل مضمر يكون هذا الظاهر تفسيرًا له.
فإذا قلت: "أفحكمَ الجاهلية تبغون" ولم تُعد ضميرًا ولا عوضت منه ما يعاقبه، وحرف الاستفهام
__________
1 يراد بالحكم الجنس لا الواحد، كأنه قيل: أحكام الجاهلية، وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان، وهي رشا الكهان، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات. البحر 5/ 505.
2 انظر: الكتاب: 1/ 44، 69.
(1/211)
________________________________________
الذي يختار معه النصب والضمير ملفوظ به موجود معك، فتكاد الحال تختلف على فساد الرفع، وبإزاء هذا أنه لو نصب فقال: "كلَّه لم أصنع" لما كَسَر وزنًا، فهذا يؤنسك بالرفع في القراءة.
وإن شئت لم تجعل قوله "يبغون" خبرًا؛ بل تجعله صفة خبر موصوف محذوف، فكأنه قال: أفحكمُ الجاهلية حكمٌ يبغونه، ثم حذف الموصوف الذي هو حكم، وأقام الجملة التي هي صفته مقامه؛ أعني: يبغون، كما قال الله سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 1 أي: قوم يحرفون، فحُذف الموصوف وأُقيمت الصفة مقامه، وعليه قوله:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح2
أي: فمنهما تارة أموت فيها، فحذف تارة وأقام الجملة التي هي صفتها نائبة عنها فصار أموت فيها، ثم حذف حرف الجر فصار التقدير أموتها، ثم حذف الضمير فصار أموت. ومثله في الحذف من هذا الضرب؛ بل هو أطول منه:
تروَّحي يا خيرَةَ الفَسيلِ ... تروَّحي أجدرَ أن تقيلي3
أصله: ائتي مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه، فحذف الفعل الذي هو "ائتي" لدلالة تروحي عليه، فصار مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الموصوف الذي هو مكانًا فصار تقديره أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الباء أيضًا تخفيفًا فصار أجدر أن تقيلي فيه، ثم حذف حرف الجر فصار أجدر أن تقيليه، ثم حذف العائد المنصوب فصار أجدر أن تقيلي. ففيه إذن خمسة أعمال؛ وهي: حذف الفعل الناصب، ثم حذف الموصوف، ثم حذف الباء، ثم حذف "في"، ثم حذف الهاء، فتلك خمسة أعمال.
وهناك وجه سادس؛ وهو أن أصله: ائتي مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه من غيره، كما تقول: مررت برجل أحسن من فلان، وأنت أكرمُ عليَّ من غيرك. فإذا جاز في الكلام توالي هذه الحذوف ولم يكن معيبًا ولا مَشِينًا ولا مُستكرَهًا كان حذف الهاء من قوله تعالى: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"، والمراد به حكمٌ يبغونه، ثم حذف الموصوف وعائده أسوغ وأسهل وأسير. وأما قوله:
__________
1 سورة النساء: 46.
2 لابن مقبل، وانظر: الديوان: 24، والكتاب: 1/ 376، واللسان "كدح".
3 لأُحَيْحَة بن الجلاح، ويجعل بعضهم الخطاب للفسيل؛ وهو صغار النخل، ويقول: إن تروحي من تروح النبت إذا طال، وكنى بالقيلولة عن النمو والزهو، ويجعل كثير الخطاب للناقة، ويقول: إن التروح هو الرواح وقت العشي، وشبه الناقة بالفسيل في العراقة والكرم.
والمعنى: بكري بالرواح وجدي في السير تبلغي مكانًا أجدر أن تقيلي فيه غدًا.
وانظر: شرح شواهد العيني بهامش الخزانة: 4/ 36، والتصريح: 2/ 103، وشرح شواهد الكشاف الملحق به: 98.
(1/212)
________________________________________
"أَفَحَكَمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" فيمن قرأه كذلك، فأمره ظاهر في إعرابه، غير أن "حَكَمًا" هنا ليس مقصودًا به قصد حاكم بعينه؛ وإنما هو بمعنى الشِّياع والجنس؛ أي: أفحكامَ الجاهلية يبغون؟ وجاز للمضاف أن يقع جنسًا كما جاء عنهم في الحديث من قولهم: منعت العراق قَفِيزها1 ودرهمها، ومنعت مصر إردبها، وله نظائر.
ثم يرجع المعنى من بعد إلى أن معناه معنى: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"؛ لأنه ليس المراد والْمَبْغيّ هنا نفس "50و" الحكام، فإنما المبغي نفس الحُكْم، فهو إذن على حذف المضاف؛ أي: أفحُكمَ حَكَمِ الجاهلية يبغون؟ وهذا هو الأول في المعنى، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: "فَيرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ"2 بالياء.
قال أبو الفتح: فاعل يرى مضمر دلت عليه الحال؛ أي: فيرى رائيهم ومتأمِّلُهم، والذين في موضع نصب كقراءة الجماعة، وقد كثر إضمار الفاعل لدلالة الكلام عليه، كقولهم: إذا كان غدًا فائتني؛ أي: إذا كان ما نحن عليه من البلاء في غد فائتني، وهو كثير، ودل عليه أيضًا القراءة العامة؛ أي: فترى أنت يا محمد -أو يا حاضر- الحال الذين في قلوبهم مرض يسارعون في ولاء المشركين ونصرهم.
ومن ذلك قراءة الحسن وابن هُرْمُز وابن عمران ونُبيج وابن بريدة: "مَثْوبة"3 ساكنة الثاء.
قال أبو الفتح: هذا مما خرج على أصله، شاذًّا عن بابه وحال نظائره، ومثله مما يحكى عنهم من قولهم: الفُكاهة مَقْوَدةٌ إلى الأذى، وقياسهما مَثابة ومَقادة، كما جاء عنهم من منامة وهي القطيفة، ومزادة، ومثله مزْيد، وقياسه مزاد، إلا أن مَزْيَدًا عَلَم، والأعلام قد يحتمل فيها ما يكره في الأجناس، نحو: مَحبب ومَكوزة ومريم ومدين ومعد يكرب ورجاء بن حيوة، ومنه: موظب ومورق اسم رجلين، ومَثْوَبة مَفْعَلةٌ ومَثُوبة مَفْعُلة، ونظيرها الْمَبْطَخة والْمَبْطُخة والمشرَفة والمشرُفة، وأصل مَثُوبَة مَثْوُبَة، فنقلت الضمة من الواو إلى الثاء، ومثلها معونة. وأما مئونة
__________
1 القفيز: مكيال.
2 سورة المائدة: 52.
3 سورة المائدة: 60، وانظر في هذا: المنصف: 1/ 275 وما بعدها، و295 وما بعدها.
(1/213)
________________________________________
فمختلف فيها، فمذهب سيبويه أنها فَعُولة من مُنت الرجل أَمونه، وأصلها مَوُونة بلا همز، كما تقول في فَعول من القيام: قَوُوم، ومن النوم: نَوُوم، ثم تُهمز الواو استحسانًا للزوم الضمة لها؛ فتصير مئونة. وقال غيره: هي مَفْعُلة من الأَوْن؛ وهو الثِّقْل من قول رؤبة:
سِرًّا وقد أوَّن تأْوينَ العُقُق1
أي: ثقلت أجوافهن فصار كأن هناك أَونَين؛ أي: عِدْلين، فمئونة على هذا كمعونة، هذا من الأَوْن، وهذا من الْمَوْن، وأجاز الفراء أن تكون من الأَيْن -وهو التعب- من حيث كانت المئونة ثِقْلًا على ملتزها، فسلك الفراء في هذا مذهب أبي الحسن في قوله في مَفْعُلَة من البيع: مَبْوُعَة، وحجته في هذا ما سمع منهم في قول الشاعر:
وكنتُ إذا جارِي دَعَا لمضوفة ... أُشَمِّر حتى يَنْصُفَ الساقَ مئزري2
وهي من الضيف. والكلام هنا يطول، وقد أشبعناه في كتابنا المنصف3.
ومن ذلك ما يُروى في قول الله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 4، وهو عشر قراءات:
{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} على فَعَل ونصب الطاغوت. "وعَبُدَ الطاغوتِ" بفتح العين، وضم الباء، وفتح الدال، وخفض الطاغوت، وهما في السبعة.
ابن عباس، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي، والأعمش، وأبان بن تغلب، وعلي بن صالح، وشيبان: "وعُبُد الطاغوتِ"بضم العين والباء، وفتح الدال، وخفض الطاغوت.
وروى عكرمة عن ابن عباس: "وعُبَّدَ الطاغوتِ" "50ظ" بضم العين، وفتح الباء وتشديدها، وفتح الدال، وخفض الطاغوت.
__________
1 قبله:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الفَلَقْ
ويروى: "أون" على فعلن، يريد: الجماعة من الحمير. ويروى: "أون" على فعل. أون: شربن حتى انتفخت بطونهن، فصار كل حمار منهن كالأتان العقوق؛ وهي التي تكامل حملها وقرب ولادها. الديوان: 108، واللسان "عقق".
2 البيت لأبي جندب الهذلي. المضوفة: الأمر يشفق منه ويخاف. ويروى مكانها: "مضيفة ومضافة". وانظر: المنصف: 1/ 301، وديوان الهذليين: 3/ 92، واللسان "ضيف".
3 المنصف: 1/ 297 وما بعدها.
4 سورة المائدة: 60.
(1/214)
________________________________________
وأبو واقد: "وعُبَّادَ الطاغوتِ"، و"وعِبَادَ الطاغوتِ" قراءة البصريين1.
وقال معاذ: قرأ بعضهم: "وعُبِدُ الطاغوتُ"، كقولك: ضُرب زيد لم يسم فاعله.
وقرأ عون العقيلي2 وابن بُرَيدة: "وعابِدَ الطاغوتِ".
وقرأ أبي بن كعب: "وعَبدُوا الطاغوتَ" بواو.
وقرأ ابن مسعود فيما رواه عبد الغفار عن علقمة3 عنه: "وعُبَدَ الطاغوتِ" كصُرد.
قال أبو الفتح: أما قوله: "وعَبد الطاغوتَ" فماض معطوف على قوله سبحانه: "وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ".
وأما "وعَبُد الطاغوتِ" فاسم على فَعُل. قال أبو الحسن: جاء به نحو حَذُر وفَطُن.
قال: وأما "وعُبُدَ" فجمع عبيد، وأنشد:
انسب العبدَ إلى آبائه ... أسود الجلد ومن قوم عُبُد4
هكذا قال أبو الحسن، وقد يجوز أن يكون عُبُد جمع عَبْد، كرَهْن ورُهُن، وسَقْف وسُقُف، ومن جهة أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد، وهذا صحيح، كبازل وبُزُل، وشارف وشُرُف.
وقال أبو الحسن: والمعنى -فيما يقال- خَدمُ الطاغوت.
وأما "عُبَّد الطاغوت" فجمع عابد، ومثله عُبَّاد، كضارب وضُرَّب وضُرَّاب، وعليه القراءتان: "عُبَّد الطاغوت" و"عُبَّاد الطاغوت"، وعليه قراءة من قرأ: "وعِبَادَ الطاغوت"، عابد وعباد، كقائم وقيام، وصائم وصيام. وقد يجوز أن يكون "عِبَادَ الطاغوت" جمع عَبْد، وقلما يأتي عِباد مضافًا إلى غير الله. وقد أنشد سيبويه:
أتوعدني بقومك يابن حَجْل ... أُشَاباتٍ يُخالون العِبادَا5
__________
1 عبارة البحر 3/ 519: "وقرأ بعض البصريين: "وعباد الطاغوت".
2 عون العقيلي، له اختيار في القراءة، أخذ القراءة عرضًا عن نصر بن عاصم، وروى القراءة عنه المعلى بن عيسى. طبقات القراء: 1/ 606.
3 هو علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك أبو شبل النخعي الفقيه الكبير، عم الأسود بن يزيد وخال إبراهيم النخعي، ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ القرآن عرضًا عن ابن مسعود، وسمع من علي وعمر وأبي الدرداء وعائشة، وعرض عليه القرآن إبراهيم بن يزيد النخعي وغيره، مات سنة 62. طبقات القراء: 1/ 516.
4 روي: "أسود الجلدة من". وانظر: اللسان "عبد"، والبحر: 3/ 519.
5 الأشابات: الأخلاط، ونصب الأشابات على الذم أو البدل. الكتاب: 1/ 153، وفي ك: "العبيدا" مكان "العبادا".
(1/215)
________________________________________
يريد: عبيدًا لبني آدم، ولا يجوز أن يكون في المعنى عباد الله، لأن هذا ما لا يُسب به أحد، والناس كلهم عباد الله تعالى1، وأما قول الآخر:
لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوي إحن
ما سرني أنَّ إبْلي في مبارِكها ... وأن شيئًا قضاه الله لم يكن
فيحتمل أن يكون جمع عبد، إلا أنه أنثه فصار كَذِكارة2 وحجارة وقصارة، جمع قصير.
ويجوز أن تكون العبادة هنا مصدرًا؛ أي: أنا عبد في طاعته.
وأما "عُبِدَ الطاغوتُ" فظاهر، وعليه قراءة أُبي: "وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ" بواو.
وأما "وعابِدَ الطاغوتِ" فهو في الإفراد كعبد الطاغوت، واحد في معنى جماعة على ما مضى. وعليه أيضًا: "وعُبَد الطاغوتِ" لأنه كحُطَم3 ولُبَد4، كما أن عبُدًا كندُسٍ5 وحذُرٍ ووظيف عَجُرٍ6، ومن جهة أحمد بن يحيى "وعَبُدَ الطاغوتُ" أي: صار الطاغوتُ معبودًا؛ كفقُه الرجل وظرف: صار فقيهًا وظريفًا، ومن جهته أيضًا: "وعبدَ الطاغوتِ" وقال: أراد عبَدَة فحذف الهاء، قال: ويقال: عَبَدة الطاغوتِ والأوثان، ويقال للمسلمين: عُبَّاد.
ومن ذلك قراءة الحسن والزهري: "والصَّابِيُون"7 يثبت الياء ولا يهمز.
وقرأ: "الصابُون" بغير همز ولا ياء أبو جعفر وشيبة، و"الخاطون"8 و"مُتَّكُون"9.
قال أبو الفتح "51و": أما "الصابيون" بياء غير مهموزة، فعلى قياس قول أبي الحسن في "يستهزئون": يَستهزيُون بياء غير مهموزة، ويحتمل ذلك فيها لتقدير الهمزة في أصلها؛ فيكون ذلك فرقًا بينها وبين ياء يَسْتَقْضُون، ألا ترى أن أصله يستقضِيوه، كما فرَّق
__________
1 في ك: عباد الله، بدون تعالى.
2 جمع ذكر.
3 الحطم: الراعي الظلوم للماشية، يهشم بعضها ببعض.
4 اللبد: من لا يبرح منزله ولا يطلب معاشًا.
5 الندس: الفَهْم.
6 وظيف عجر: غليظ سمين.
7 سورة المائدة: 69.
8 سورة الحاقة: 37، والخاطون قراءة أبي جعفر وشيبة وطلحة ونافع بخلاف عنه. البحر: 8/ 327.
9 سورة يس: 56.
(1/216)
________________________________________
أبو الحسن بقوله في مثل عنكبوت من قرأت: قرْأَيوُت بضمة الياء بينه وبين مثال عنكبوت من رميت رَمْيَوُوت. وأصلها رَمْيَيُوت، وقد مضى هذا في موضعه.
وأما "الصابُونَ" و"مُتَّكُون" فعلى إبدال الهمزة ألبتة، فصارت كالصابون من صبوت، وكمتَجَنُّون من تَجَنَّيْتُ، والوجه أن يكون الصابيون بلا همز تخفيفًا لا بدلًا، وإن جعلته بدلًا مُراعي به أولية حاله كقرْأَيوت جاز أيضًا.
ومن ذلك قراءة عثمان وأُبي بن كعب وعائشة وسعيد بن جبير والجحدري رضي الله عنهم: "والصابِيين" بياء.
قال أبو الفتح: الخطب في هذا أيسر من "الصابيون" بالرفع؛ لأن النصب على ظاهره؛ وإنما الرفع يحتاج إلى أن يقال: إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى على ما يقال في هذا، حتى كأنه قال: لا خوف عليهم ولاهم يحزنون والصابئون كذلك.
ومن ذلك قراءة يحيى والنخعي: "ثُمَّ عُمُوا وَصُمُّوا"1 بضم العين والصاد.
قال أبو الفتح: يجب أن يكون هذا على تقدير فُعِلَ، كقولهم: زُكِمَ وأزكمه الله، وحُمَّ وأَحَمَّه الله، فكذلك هذا أيضًا، جاء على عُمِي وصُمَّ، وأعماه الله وأصمه الله، ولا يقال: عَمَيتُه ولا صَممْته، كما لا يقال: زكَمه الله ولا حَمَّه، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة جعفر بن محمد: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ"2.
قال أبو الفتح: يقال أَهل وأَهْلَة، قال:
وأَهْلةِ وُدٍّ قد تَبَرَّيْتُ ودَّهم ... وأبليتهم في الحمد جهدي ونائلي3
__________
1 سورة المائدة: 71.
2 سورة المائدة: 89.
3 لأبي الطمحان القيني، وهو حنظلة بن الشرقي، شاعر إسلامي. ويروى: "في الجهد بذلي" مكان "في الحمد جهدي". تبريت لمعروفه تبريًّا: تعرضت له، أو تبريت: تكشفت وفتشت، يريد: أنه فتش عن صحة ودهم ليعلمه، فيجيزهم به، أبليتهم: وصلتهم ومنحتهم. والمعنى: رب من هو أهل للود تعرضت له، وبذلك في ذلك طاقتي من نائل. الخزانة: 3/ 424.
(1/217)
________________________________________
فأما أهالٍ فكقولهم: ليالٍ؛ كأن واحدها أهلاة وليلاة، وقد مر بنا تصديقًا لقول سيبويه: فإن واحده في التقدير ليلاة -ما أنشده ابن الأعرابي من قوله:
في كل يوم ما وكل ليلاهْ ... حتى يقول من رآه إذ رآهْ
يا ويحه من جمل ما أَشقاهْ1
ومن ذهب إلى أن "أهالٍ" جمع أهلون فقد أساء المذهب؛ لأن هذا الجمع لم يأتِ فيه تكسير قط، قل الشنفرى:
ولي دونكم أهلون سِيد عملَّسٌ ... وأرقط زهلول وعرفاء جيئل2
ونحو من ذلك أرض وأراضٍ، القول فيهما واحد، ويقال: أرض وأرَضُون وأَرْضون، بفتح الراء وتسكينها أيضًا. قال كعب بن معدان الأشقري:
لقد ضجت الأَرْضون إذ قام من بنى ... هَداد خطيبٌ فوق أعواد منبر3
وحكى أبو زيد فيه: أَرَض، وقيل: آراض. وأسكن الياء من أهاليكم في موضع النصب تشبيهًا لها بالألف، وقد سبق مثل ذلك.
ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير ومحمد بن السميفغ: "أو كإِسْوتِهِم"4 من الإِسْوة.
قال5 أبو الفتح: كأنه -والله أعلم- قال: أو كما يكفي مثلهم، فهو على حذف المضاف، أو ككفاية إسوتهم، وإن شئت جعلت الإسوة هي الكفاية ولم تحتج "51ظ" إلى حذف المضاف.
ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن: "فجزاءٌ"6 رفع منون، "مثلَ" بالنصب.
قال أبو الفتح: "مثلَ" منصوبة بنفس الجزاء؛ أي: فعليه أن يجزِي مِثْلَ ما قَتَلَ، "فمثلَ" إذن
__________
1 روي: "حتى يقول كل راء إذا رآه". الخصائص: 1/ 267، 3/ 151، وشواهد الشافية: 102.
2 الخطاب لقومه، ودون بمعنى غير، السيد: يريد به الذئب، وهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم سيد، العملس: القوي على السير السريع، زهلول: أملس، وقيل: الخفيف، وهو أوصاف النمر، عرفاء: مؤنث الأعرف، يقال للضبع عرفاء لكثرة شعر رقبتها، جيئل: ضبع. ذيل الأمالي: 208، والخزانة: 3/ 410.
3 هداد: حي من اليمن.
4 سورة المائدة: 89، وقراءة الجماعة {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} .
5 سقط في ك من قوله: "قال أبو الفتح"، إلى قوله: "هي الكفاية".
6 سورة المائدة: 95، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف: "فجزاءٌ" بالتنوين والرفع، و"مثلُ" بالرفع صفة لجزاء، ووافقهم الأعمش والحسن، وقرأ الباقون برفع جزاء من غير تنوين وخفض لام مثل. إتحاف فضلاء البشر: 122.
(1/218)
________________________________________
في صلة الجزاء، والجزاء مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف؛ أي: فعليه جزاءٌ مثلَ ما قتل، أو فالواجب عليه جزاءٌ مثل ما قتل، فلما نوَّن المصدر أَعمله كقوله:
بضربٍ بالسيوف رءوسَ قوم ... أزَلْنَا هَامَهُنَّ عن الْمَقيل1
ومن ذلك قراءة محمد بن علي وجعفر بن محمد: "يَحْكُمُ بِهِ ذُو عَدْلٍ مِنْكُمْ"2.
قال أبو الفتح: لم يوحِّد ذو؛ لأن الواحد يكفي في الحكم؛ لكنه أراد معنى مَنْ؛ أي: يحكم به مَنْ يعدل، ومن تكون للاثنين كما تكون للواحد، نحو قوله:
نَكُنْ مثلَ من يا ذئبُ يصطحبانِ3
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "وحَرَّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدَ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حَرَمًا"4.
قال أبو الفتح: معنى "حَرَمًا" راجع إلى معنى قراءة الجماعة "حُرُمًا"؛ وذلك أن الْحُرُم جمع حرام، والْحَرَم المحرَّم، فهو في المعنى مفعول، فجعلهم حَرَمًا؛ أي: هم في امتناعهم مما يمتنع منع الْمُحْرِم، وامتناع ذلك أيضًا منهم كالْحَرَم، فالمعنينان إذن واحد من حيث أَرينا.
ومن ذلك قراءة إبراهيم: "قد سِالَهَا"5 بكسر السين.
قال أبو الفتح: يعني ويريد الإمالة؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها أبدًا إلا مفتوحًا، ووجه الإمالة أنه على لغة من قال: سِلتَ تسال، فهي في هذه اللغة كخفتَ تخاف، فالإمالة إذن إنما
__________
1 المقيل: يريد بها الأعناق؛ لأنها مقيل الرءوس وموضع استقرارها. الكتاب: 1/ 60، 97.
2 سورة المائدة: 95.
3 صدره:
تعشن فإن واثقتني لا تخونني
والبيت للفرزدق. انظر: الديوان: 2/ 870.
4 سورة المائدة: 96.
وقراءة الجماعة: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} .
5 سورة المائدة: 102، وفي الأصل "سألها" بهمز الألف، وهو لا يتفق مع الاحتجاج للقراءة، وقال في البحر 4/ 32: وقرأ الجمهور: {سَأَلَهَا} بفتح السين والهمز، وقرأ النخعي بكسر السين من غير همز؛ يعني: بكسر الإمالة وجعل الفعل من مادة سين واو لام، لا من مادة سين وهمزة ولام، وهما لغتان ذكرهما سيبويه.
(1/219)
________________________________________
جاءت لانكسار ما قبل اللام سِلت، كمجيئها في خاف1 لمجيء الكسرة في خاءِ خِفت، ويدلك على أن هذه اللغة من الواو لا من الهمزة ما حدثنا به أبو علي من قوله: هما يتساولان، وهذه دلالة على ما ذكرنا قاطعة.
ومن ذلك قراءة الحسن: "لا يضُرْكُم"2، وقراءة إبرهيم: "لا يَضِرْكُم".
قال أبو الفتح: فيها أربع لغات: ضاره يَضيره، وضاره يَضُوره، وضرَّه يَضُرَّه، وضَرَّه يَضِرَّه -بكسر الضاد وتشديد الراء- وهي غريبة؛ أعني: يفعِل في المضاعف متعدية، وقد ذكرناها وقراءة من قرأ: "لَنْ يَضِرُّوا اللَّهَ شَيْئًا"3، وجزم يَضُرْكم ويَضِرْكم لأنه جُعل جواب الأمر؛ أعني قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، ويجوز أن تكون "لا" هنا نهيًا كقولك: لا تقم إذا قام غيرك، والأول أجود.
ومن ذلك قراءة الأعرج والشعبي4 والحسن والأشهب: "شهادةٌ بَيْنَكم"5 رفع، وعن الأعرج بخلاف: "شهادةً بينَكم" نصب.
قال أبو الفتح: أما الرفع بالتنوين فعلى سمت قراءة العامة {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} بالإضافة، فحذف التنوين فانجرَّ الاسم.
وأما "شهادةً بينَكم" بالنصب والتنوين، فنصبها على فعل مضمر؛ أي: ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان ذوا عدل منكم، كما أن من رفع فنَوَّن أو لم يُنوِّن فهو على نحو من هذا؛ أي: مقيمُ شهادةِ بينِكم أو شهادةٍ بينَكم اثنان ذوا عدل منكم، ثم حُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه.
وإن شئت كان "25و" المضاف محذوفًا من آخر الكلام؛ أي: شهادةٌ بينَكم شهادةُ اثنين ذوَي عدل منكم؛ أي: ينبغي أن تكون الشهادة المعتمدة هكذا.
__________
1 في البحر 4/ 219: وإمالة النخعي "سال" مثل إمالة حمزة "خاف".
2 سورة المائدة: 105.
3 سورة آل عمران: 176، 177. وفي الأصل: فلن، وهو تحريف.
4 هو عامر بن شراحيل بن عبد أبو عمرو الشعبي الكوفي الإمام الكبير المشهور، عرض على أبي عبد الرحمن السلمي وعلقمة بن قيس، وروى القراءة عنه عرضًا محمد بن أبي ليلى، مات سنة 105 وله سبع وسبعون سنة. طبقات القراء: 1/ 350.
5 سورة المائدة: 106.
(1/220)
________________________________________
ومن ذلك قراءة علي -كرم الله وجهه- والشعبي بخلاف ونعيم بن ميسرة1: "شهادةً آلله"2.
ورُوي عن الشعبي: "شهادةً أًللهِ" مقصور وينون شهادة.
ورُوي عنه أيضًا: "شهادهْ آللهِ" مجزومة الهاء ممدودة الألف.
ورُوي عنه "شهادهْ أللهِ" بجزم شهادة وقصر الله.
فهذه أربعة أوجه رُويت عن الشعبي، وتابعه على "شهادةً أَللهِ" السلمي ويحيى وإبراهيم وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر والحسن والكلبي.
قال أبو الفتح: أما "شهادةً" فهي أعم من قراءة الجماعة: {شَهَادَةَ اللَّهِ} بالإضافة، غير أنها بالإضافة أفخم وأشرف وأحرى بترك كتمانها لإضافتها إلى الله سبحانه، وأما "ألله" مقصورة بالجر فحكاها سيبويه: أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام، فيقول: أللهِ لقد كان كذا، قال: وذلك لكثرة الاستعمال.
وأما "آلله" بالمد، فعلى أن همزة الاستفهام صارت عوضًا من حرف القسم، ألا تراك لا تجمع بينهما فتقول: أولله لأفعلن؟
وأما سكون هاء "شهادة"، فللوقف عليها ثم استؤنف القسم، وهو وجه حسن؛ وذلك ليُستأنف القسم في أول الكلام فيكون أوقر له وأشد هيبة من أن يدرج في عرض القول؛ وذلك أن القسم ضرب من الخبر يُذْكَر ليؤكد به خبر آخر، فلما كان موضع توكيد مُكِّنَ من صدر الكلام، وأُعطي صورة الإعلاء والإعظام.
ويزيد في وضوح هذا المعنى وبيانه أنه لما نون شهادة فأَدرج وقَّر الهمزة عن حذفها كما يجب فيها من حيث كانت همزة وصل، فأقرها مقطوعة كما تُقطع مبتدأة، فقد جمع في هذه القراءة بين حالي الوصل والوقف.
أما الوصل فلتنوين شهادة، وأما الوقف فلإثباته همزة الوصل التي إنما تُقطع إذا وُقف على ما قبلها ثم استؤنفت، والعناية بقطعها واستئنافها ما قدمت ذكره لك من تمكن حال القسم بتوفية
__________
1 هو نعيم بن ميسرة أبو عمرو النحوي، نزل الري وكان ثقة، روى القراءة عرضًا عن عبد الله بن عيسى بن علي، وروى الحروف عن أبي عمرو وعاصم بن أبي النجود، وروى القراءة عنه عرضًا محمد بن أبي ليلى بن السائب، وروى الحروف عنه علي بن حمزة الكسائي، توفي سنة 174. طبقات القراء: 2/ 342، 343.
2 من قوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} . سورة المائدة: 106.
(1/221)
________________________________________
اللفظ جميع وجوهها، وقُطع ليكون في حال إدراجها في لفظ المبدوء بها لا الآتية مأتى النَّيِّف الذي لم يُوَفَّ من صدر الكلام ما يجب لها، فافهمه.
ويؤكد عندك شدة الاهتمام بهذا القسم لما فيه مجيئُه وحرفُ الاستفهام قبله، فكأنه- والله أعلم- قال: أنقسم بالله إنا إذن لمن الظالمين"1، ففي هذا تهيب منهم للموضع، وتكعكع2 عن القسم عليه باستحقاق الظلم عنه؛ كأنه يريد القسم بالله عليه كما أقسم في الأخرى بلا استفهام، ثم إنه هاب ذلك فأخذ يشاور في ذلك كالقائل: أَؤُقدِم على هذه اليمين يا فلان أم أتوقف عنها؛ إعظامها لها ولا أرتكب ما أُقسِم عليه بها؟
__________
1 الظاهر أنه لم يلتزم نص الآية؛ فإن لفظها: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} .
2 تكعكع: ضعف وجبن.
(1/222)
________________________________________
سورة الأنعام:
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن ذلك قراءة الأعرج: "وهُمْ لا يُفْرِطُون"1.
قال أبو الفتح: يقال: أفرط في الأمر إذا زاد فيه، وفرَّط فيه "52ظ": إذا قصَّر، فكما أن قراءة العامة: {لا يُفَرِّطُونَ} : لا يقصرون فيما يؤمرون به من تَوَفِّي من تحضر منيته، فكذلك أيضًا لا يزيدون، ولا يَتَوَفَّوْنَ إلا من أُمروا بتَوَفِّيه. ونظيره قوله جل وعز: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار} 2.
ومن ذلك قراءة أُبي وابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك وابن يزيد المدني ويعقوب، ورُويت عن سليمان التيمي3: "لِأَبِيهِ آزَرُ"4.
وقرأ ابن عباس بخلاف: "أَأَزْرًا نَتَّخِذ" بهمزتين، واستفهام، وينصبهما، وينون.
وقرأ أبو إسماعيل رجل من أهل الشام: "أَئزرًا" مسكورة الألف منونة "تتَّخذ".
قال أبو الفتح: أما "آزَرُ" فنداء، وأما "أَئِزْرًا" فقيل: "إِزْرًا" هو الصنم، و"أَزْرًا" بالفتح أيضًا.
ومن ذلك قراءة الأعرج: "قَنْوَان"5 بالفتح.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون قَنْوَان هذا اسمًا للجمع غير مكسر، بمنزلة رَكْب عند سيبويه والجامل والباقر6؛ وذلك أن فَعْلان ليس من أمثلة الجمع.
__________
1 سورة الأنعام: 61.
2 سورة الرعد: 8.
3 هو سليمان ابن قَتة -بفتح القاف ومثناة من فوق مشددة- وقتة أمه، التيمي مولاهم، البصري، ثقة. عرض على ابن عباس عرضات، وعرض عليه عاصم الجحدري. طبقات القراء: 1/ 314.
4 سورة الأنعام: 74.
5 سورة الأنعام: 99.
6 الجامل: القطيع من الإبل مع رعاته وأربابه، والباقر: جماعة البقر مع رعاتها.
(1/223)
________________________________________
وقرأت على أبي علي في بعض كتب أبي زيد قوله:
خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شَجَرُ العُرا وعُرَاعِرُ الأقوام1
وقال أبو زيد: عُراعِر جمع عُرْعُرة، فقلت لأبي علي: كيف يكون هذا وأوله مضموم؟ فقال -يعني أبو زيد: إنه اسم للجمع يفيد مفاد التكسير.
ومن ذلك قراءة ابن يعمر: "وخَلْقَهم"2 بجزم اللام.
قال أبو الفتح: أي وخَلْق الجن، يعني ما يَخْلُقونه: ما يأفكون فيه ويتكذَّبونه. يقول: جعلوا له الجن شركاء، وأفعالهم شركاء أفعاله أو شركاء له إذا عَني بذلك الأصنام ونحوها.
ومن ذلك قراءة عمر وابن عباس رضي الله عنهما: "وحَرَّفُوا له" بالحاء والفاء.
وقال أبو الفتح: هذا شاهد بكذبهم، ومثله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 3 وأصله من الانحراف؛ أي: الانعدال عن القصد، وكلاهما من حرْفِ الشيء؛ لأنه زائل عن المقابلة والمعادلة، وهو أيضًا معنى قراءة الجماعة: {وَخَرَقُوا} بالخاء والقاف، ومعنى الجميع: كَذبوا.
ومن ذلك قراءة إبراهيم: "وَلَم يَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ"4 بالياء.
قال أبو الفتح: يحتمل التذكير هنا ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون في "يكن" ضمير اسم الله؛ أي: لم يكن الله له صاحبة، وتكون الجملة التي هي "له صاحبة" خبر كان.
والثاني: أن يكون في "يكن" ضمير الشأن والحديث على شريطة التفسير، وتكون الجملة بعده تفسيرًا له وخبرًا، كقولك: كان زيد قائم؛ أي: كان الحديث والشأن زيد قائم.
__________
1 لمهلهل. شجر العرا: الذي يبقى على الجدب، وفي الصحاح: والعروة أيضًا من الشجر: الشيء الذي لا يزال باقيًا في الأرض لا يذهب، وجمعة عرا، والعراعر: الشريف من الرجال، وهو هنا اسم جمع كما روى المؤلف، ويروى: عَراعر بالفتح جمع عُراعر بالضم. اللسان: "عرعر"، والصحاح: "عرو".
2 "وخلقهم وخرقوا" في الآية 100 من سورة الأنعام. وقال في البحر 4/ 194: وقرأ ابن عمر وابن عباس: "وحرفوا" بالحاء المهملة والفاء، وشدد ابن عمر الراء وخففها ابن عباس.
3 سورة النساء: 46.
4 سورة الأنعام: 101.
(1/224)
________________________________________
والثالث: أن تكون "صاحبة" اسم "كان"، وجاز التذكير هنا للفصل بين الفاعل والفعل بالظرف الذي هو الخبر؛ كقولنا: كان في الدار هند.
ومثل ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: حضر القاضيَ اليوم امرأةٌ.
وأنا أرى أن تذكير "كان" مع تأنيث اسمها أسهل من تذكير الأفعال سواها وسوى أخواتها مع فاعليها.
وكان في الدار هند أسوغ من قام في الداره هند؛ وذلك أنه إنما احتيج إلى تأنيث الفعل عند تأنيث فاعله؛ لأن الفعل انطبع "53و" بالفاعل حتى اكتسى لفظه من تأنيثه، فقيل: قامت هند وانطلقت جُمْل، من حيث كان الفعل والفاعل يجريان مجرى الجزء الواحد، وإنما كان ذلك كذلك لأن كل واحد منهما لا يستغني عن صاحبه، فأنث الفعل إيذانًا بأن الفاعل الموقع بعده مؤنث، وليس كذلك حديث كان وأخواتها؛ لأنه ليست "كان" مع اسمها كالجزء الواحد، من قِبَل أنك لو حذفت "كان" لاستقل ما بعدها برأسه، فقلت في قولك: كان أخوك جالسًا: أخوك جالس، فلما أن قام ما بعدها برأسه، ولم يحتج إليها؛ لم يتصل به اتصال الفاعل بفعله، نحو: قام جفعر وجلس بِشر.
ألا تراك لو حذفت الفعل هنا لانفرد الفاعل جزءًا برأسه، فلم يستقل بنفسه استقلال الجملة بعد "كان" بنفسها؟ فلما لم تَقْوَ حاجته إلى "كان" قوة حاجة الفاعل إلى الفعل انحطت رتبته في حاجته إلى "كان"، فامتاز منها امتيازًا قد أحطنا به، فساغ لذلك ألا يلزم تأنيث "كان" لاسمها إذا كان مونثًا تأنيث الفعل لفاعله إذا كان مؤنثًا، ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا، فافهمه؛ فإن هذه حاله.
ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف وقتادة، ورُويت عن الحسن: "دُرِسَتْ"1، ابن مسعود وأُبي: "دَرَسَ". ابن مسعود أيضًا: "دَرسْن".
__________
1 سورة الأنعام: 105. وفي البحر المحيط 4/ 197: وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة: "دُرست" مبنيًّا للمفعول مضمرًا فيه؛ أي: درست الآيات؛ أي: ترددت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم وأمحيت. وقرأ باقي السبعة: "دَرَسْتَ" يا محمد في الكتب القديمة.
(1/225)
________________________________________
قال أبو الفتح: أما "دُرِسَتْ" ففيه ضمير الآيات، معناه: وليقولوا درستَها أنت يا محمد، كالقراءة العامة "دراسْتَ"1.
ويجوز أن يكون "دُرِسَتْ" أي: عفت وتنوسيت؛ لقراءة ابن مسعود: "دَرَسْن" أي: عفون، فيكون كقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 2، ونحو ذلك.
وأما "دَرَس" ففيه ضمير النبي -صلى الله عليه وسلم- وشاهد هذا: دارسْتَ؛ أي: فإذا جئتهم بهذه القصص والأنباء قالوا: شيء قرأه أو قارأه فأَتى به، وليس من عند الله؛ أي: يفعل هذا بهم لتقوى أثرة التكليف عليهم زيادة في الابتلاء لهم؛ كالحج والغزو وتكليف المشاق المستحق عليها الثواب، وإن شئت كان معناه فإذا هم يقولون كذا، كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} 3 أي: فإذا هو عدو لهم.
ومن ذلك قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة وسلام4 يعقوب وعبد الله بن يزيد: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا} 5، ورُوي عنهم أيضًا: "بَغْيًا وعُدُوًّا"6.
قال أبو الفتح: العَدْوُ والعُدُوُّ جميعًا: الظلم والتعدي للحق، ومثلهما العدوان والعداء، قال الراعي:
كتبوا الدُّهَيْمَ على العَداء لمسرِف ... عادٍ يريدُ خيانةً وغُلُولا7
ومثله الاعتداء، قال أبو نُخَيْلَة:
ويعتدى ويعتدى ويعتدى ... وهو بعين الأسد المسوَّد
__________
1 في البحر 4/ 197: وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: "دارسْتَ" أي: دراست يا محمد غيرك في هذه الأشياء.
2 سورة الأنعام: 25.
3 سورة القصص: 8.
4 هو سلام بن سليمان الطويل أبو المنذر المزني مولاهم، البصري ثم الكوفي، ثقة جليل ومقرئ كبير. أخذ القراءة عرضًا عن عاصم بن أبي النجود وأبي عمرو بن العلاء وعاصم الجحدري وغيرهم. وقرأ عليه يعقوب الحضرمي وغيره. ومات سنة 171. طبقات القراء: 1/ 309.
5 سورة الأنعام: 108.
6 سورة يونس: 90.
7 رُوي: "كتب" مكان "كتبوا"، و"من" مكان "على"، و"مخانة" مكان "خيانة"، الدهيم: تضربها العرب مثلًا في الشر والداهية. الجمهرة: 356.
(1/226)
________________________________________
ومثل العُدُوِّ والعَدْوِ من التعدي الرُّكوب والرَّكب، قال:
أو رَكب البراذين
يريد: ركوب.
ومن ذلك قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة وسلام ويعقوب وعبد لله بن يزيد والأعمش والهمذاني: "وَيَذَرْهُم"1 بالياء وجزم الراء.
قال أبو الفتح: قد تقدم ذكر إسكان المرفوع تخفيفًا، وعليه قراءة مَن قرأ أيضًا: "وَمَا يُشْعِرْكُم"2 بإسكان الراء، وكأن "يشعرْكم" أعذر من "يَذَرْهُم"؛ لأن فيه "53ظ" خروجًا من كسر إلى ضم، وهو في "يَذَرْهُم" خروج من فتح إلى ضم.
ومن ذلك قراءة عطية العَوْفِي: "وقدْ فَصَلَ لكم"3 خفيفة.
قال أبو الفتح: هو من قولك: قد فَصَلَ إليكم وخرج نحوكم.
ومن ذلك قراءة الحسن وابن شرف: "ولْتَصْغَى، ولَيَرْضَوْه، ولْيَقْتَرِفُوا"4 بجزم اللام في جميع ذلك.
قال أبو الفتح: هذه اللام هي الجارة؛ أعني: لام كي، وهو معطوفة على الغرور من قول الله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} أي: للغرور "وَلِأَنْ تصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ"، إلا أن إسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال على قوته في القياس؛ وذلك لأن هذا الإسكان إنما كثر عنهم في لام الأمر نحو قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} 5، وإنما أُسكنت تخفيفًا لثقل الكسرة فيها، وفرقوا بينها وبين لام كي بأن لم يسكنوها، فكأنهم إنما اختاروا
__________
1 سورة الأنعام: 110.
2 في إتحاف فضلاء البشر 129: وقرأ "يشعرْكم" بإسكان الراء وباختلاس حركتها أبو عمرو من روايتيه.
3 سورة الأنعام: 119.
4 سورة الأنعام: 113.
5 سورة الحج: 29.
(1/227)
________________________________________
السكون للام الأمر، والتحريك للام كي من حيث كانت لام كي نائبة في أكثر الأمر عن أن، وهي أيضًا في جواب كان سيفعل إذا قلت: ما كان ليفعل، محذوفة مع اللام ألبتة، فلما نابت عنها قووها بإقرار حركتها فيها؛ لأن الحرف المتحرك أقوى من الساكن، والأقوى أشبه بأن ينوب عن غيره من الأضعف.
نعم، وقد رأيناهم إذا أسكنوا بعض الحروف أنابوه عن حركته وعاقبوا بينه وبينها، وذلك نحو: الجواري والغواشي، صارت الياء في موضع الرفع والجر معاقِبة لضمتها وكسرتها في قولك: هؤلاء الجواري ومررت بالجواري، فكأن لام كي على هذا إذا أُسكنت معاقبة لأن، وكالمعاقِبة أيضًا لكسرتها؛ فلذلك أقروها على كسرتها، ولم يجمعوا عليها منابها في أكثر الأمر عن أن وقد ابْتُزَّت حركة نفسها أيضًا.
وأيضًا فإن الأمر موضع إيجاز واستغناء، ألا تراهم قالوا: صه ومه، فأنابوهما عن الفعل المتصرف، وكذلك حاءِ وعاءِ وهاءِ.
ومن ذلك قراءة الحسن: "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يُضِلُّ عَنْ سَبِيلِه"1 بضم الياء.
قال أبو الفتح: لا يجوز أن تكون "مَنْ" في موضع جر بإضافة "أعلم" إليها، لا فيمن ضم ياء يُضل، ولا فيمن فتحها؛ من حيث كانت "أعلم" أفعل، وأفعل هذه متى أضيفت إلى شيء فهو بعضه، كقولنا: زيد أفضل عشيرته؛ لأنه واحد منهم، ولا نقول: زيد أفضل إخوته؛ لأنه ليس منهم، لا نقول أيضًا: النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل بني تميم على هذا؛ لأنه ليس منهم؛ لكن تقول: محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل بني هاشم؛ لأنه منهم، والله يتعالى علوًّا عظيمًا أن يكون بعضَ المضلين أو بعض الضالين.
فأما قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} 2 فليس من هذا؛ إنما تأويل ذلك -والله أعلم- وجده ضالًّا، كقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} 3، وذلك مشروح في موضعه، فقوله أيضًا: "أَعْلَمُ مَنْ يُضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ" أي: يُجيرُه عن الحق ويصد عنه.
__________
1 سورة الأنعام: 117.
2 سورة الجاثية: 23.
3 سورة الضحى: 7.
(1/228)
________________________________________
كما أن قراءة مَن قرأ: "أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ": مَنْ يجور عنه، ألا ترى إلى قوله قبل ذلك: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فلا محالة "54و" أنه -سبحانه- أراد بمن يضل عن سبيله، فحذف الباء وأوصل "أعلم" هذه بنفسها، أو أضمر فعلًا واصلًا تدل هذه الظاهرة عليه، حتى كأنه قال: يعلم، أو علم مَن يُضِلُّ عن سبيله. يؤكد ذلك ظهور الباء بعده معه في قوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، وقوله بعده: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} .
وقد يجوز أن تكون "مَنْ" هذه مرفوعة بالابتداء، و"يُضل" بعدها خبر عنها، و"أعلم" هذه معلقة عن الجملة، حتى كأنه قال: إن ربك هو أعلم أيُّهم يُضِلُّ عن سبيله، كقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} 1.
فأما الجر فمدفوع من حيث ذكرنا، وإذا كان ذلك كذلك علمت أن "مَن" في قول الطائي:
غدوتُ بهم أَمَدَّ ذَوِيَّ ظِلًّا ... وأكثَرَ مَنْ ورَائِي ماءَ وادِي2
لا يجوز أن تكون "مَنْ" في موضع جر بإضافة أكثر إليه؛ إذ ليس واحدًا ممن وراءه، فهو إذن منصوب الموضع لا محالة بأكثر أو بما دل عليه أكثر؛ أي كَثَرتُهم: كنتُ أكثرَهم ماء واد.
ولا يجوز فيه الرفع الذي جاز مع العلم؛ لأن كثرت ليس من الأفعال التي يجوز تعليقها؛ إنما تلك ما كان من الأفعال داخلًا على المبتدأ وخبره، وأظنني قد ذكرت نحو هذا في صدر هذا الكتاب.
ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن السلمي: "وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ"3.
قال أبو الفتح: يحتمل رفع شركاء تأويلين:
أحدهما: وهو الوجه؛ أن يكون مرفوعًا بفعل مضمر دل عليه قوله: "زُين"؛ كأنه لما قال: زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادهم، قيل: مَن زينه لهم؟ فقيل: زينه لهم شركاؤهم، فارتفع الشركاء بفعل مضمر دل عليه "زُين"، فهو إذن كقولك: أُكل اللحمُ زيدٌ، ورُكِبَ
__________
1 سورة الكهف: 12.
2 من قصيدة لأبي تمام في مدح أحمد بن أبي داود والاعتذار إليه، وضمير "بهم" لإياد في بيت سابق. انظر: الديوان بشرح التبريزي: 1/ 375.
3 سورة الأنعام: 123، وقرأ الجمهور {زَيَّنَ} مبنيًّا للفاعل، ونصب {قَتْلَ} مضافًا إلى {أَوْلادِهِمْ} ورفع {شُرَكَاؤُهُمْ} فاعلًا بزين. البحر: 4/ 229.
(1/229)
________________________________________
الفرسُ جعفرٌ، وترفع زيدًا وجعفرًا بفعل مضمر دل عليه هذا الظاهر، وإياك وأن تقول: أنه ارتفع بهذا الظاهر؛ لأنه هو الفاعل في المعنى لأمرين:
أحدهما: أن الفعل لا يرفع إلا الواحد فاعلًا أو مفعولًا أقيم مقام الفاعل، وقد رفع هذا الفعل ما أقيم مقام فاعله وهو "قَتْلُ أَوْلادِهِمْ"، فلا سبيل له إلى رفع اسم آخر على أنه هو الفاعل في المعنى؛ لأنك إذ انصرفت بالفعل نحو إسنادك إياه إلى المفعول لم يجز أن تتراجع عنه فتسنده إلى الفاعل؛ إذ كان لكل واحد منهما فعل يخصه دون صاحبه، كقولك: ضَرَب وضُرِب، وقَتَل وقُتِلَ، وهذا واضح.
والآخر: أن الفاعل عندنا ليس المراد به أن يكون فاعلًا في المعنى دون ترتيب اللفظ، وأن يكون اسمًا ذكرته بعد فعل وأسندته ونسبته إلى الفاعل؛ كقام زيد وقعد عمرو. ولو كان الفاعل الصناعي هو الفاعل المعنوي للزمك أن تقول: مررت برجلٌ يقرأ، فترفعه لأنه قد كان يفعل شيئًا وهو القراءة، وأن تقول: رأيت رجلٌ يحدث، فترفعه بحديثه، وأن تقولم في رفع زيد من قولك: زيد قام: إنه مرفوع بفعله؛ لأنه الفاعل في المعنى؛ لكن طريق الرفع في "شركاؤهم" هو ما أَريتك من إضمار الفعل له لترفعه به، ونحوه ما أنشده صاحب الكتاب من قول الشاعر:
لِيُبْك يزيد ضارِعٌ لخصومة ... ومُخْتبِطٌ مما تُطيح الطوائح1
كأنه لما قال: ليبك يزيد، قيل: مَن يبكيه؟ فقال: ليبكه ضارع لخصومة، والحمل على المعنى كثير جدًّا، وقد أفردنا له فصلًا في جملة شجاعة العربية من كتابنا الموسوم بالخصائص2.
فهذا هو الوجه المختار في رفع الشركاء "54ظ" وشاهده في المعنى قراءة الكافة: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، ألا ترى أن الشركاء هم المزيِّنون لا محالة؟
وأما الوجه الآخر: فأجازه قطرب؛ وهو أن يكون الشركاء ارتفعوا في صلة المصدر الذي هو القتل بفعلهم، وكأنه: وكذلك زُين لكثير من المشركين أنْ قَتَلَ شركاؤهم أولادَهم، وشبهه بقوله: حُبِّبَ إليَّ ركوبُ الفرس زيدٌ؛ أي: أن ركب الفرسَ زيدٌ. هذا -لعمري- ونحوه صحيح المعنى، فأما الآية فليست منه، بدلالة القراءة المجتمع عليها، وأن المعنى أن المزيِّن هم الشركاء، وأن القاتل هم المشركون، وهذا واضح.
__________
1 للحارث بن نهيك. المختبط: الطالب المعروف، وأصل الاختباط ضرب الشجر للإبل ليسقط ورقها فتعلفه الإبل، تطيح: تذهب وتهلك. الكتاب: 1/ 145، 183.
2 الخصائص: 2/ 360-441.
(1/230)
________________________________________
ومن ذلك قراءة إبراهيم: "وَلِيَلْبَسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ"1 بفتح الباء.
قال أبو الفتح: المشهور في هذا لَبِست الثوب أَلْبَسه، ولَبَست عليهم الأمر أَلْبِسُه.
فأما أن تكون هذه لغة لم تتأد إلينا: لبِست عليهم الأمر ألبَسه، في معنى لبَسته ألبِسه.
وإما أن تكون غير هذا؛ وهو أن يراد به شدة المخالطة لهم في دينهم، فالاعتراض فيه بينه وبينهم ليشكُّوا فيه ولا يتمكنوا من التفرد به، كما أن لابس الثوب شديد المماسة له والالتباس به، فيقول على هذا: لبِست إليك طاعتَك، واشتملْتُ الثقة بك؛ أي: خالطت هذه الأشياء وماسستها؛ تحققًا بها وملابسة لها، وعليه قول القُلاخ السعدي:
نكسوهُم مخشونَةً لِبَاسًا
يعني: السيوف. وقد مر به لفظًا ألبتة شاعرنا فقال:
وإنا إذا ما الموت صرَّح في الوغى ... لَبِسنا إلى حاجاتنا الضرب والطعنا2
فإما أن يكون هذا الشاعر نظر إلى هذه القراءة، وإما أن يكون أراد المراد بها فسلك سنة قارئها، فاعرف ذلك ولا تقل ما يقوله من ضعفت نحيزته3، ورَكَّت طريقته: هذا شاعر مُحْدث، وبالأمس كان معنا، فكيف يجوز أن يحتج به في كتاب الله جل وعز؟ فإن المعاني لا يرفعها تقدُّم، ولا يُزري بها تأخر. فأما الألفاظ فلعمري إن هذا الموضع معتبرٌ فيها، وأما المعاني ففائتة بأَنفسها إلى مغرسها، وإذا جاز لأبي العباس أن يحتج بأبي تمام في اللغة كان الاحتجاج في المعاني بالمولَّد الآخر أشبه.
ومن ذلك قراءة أُبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وابن الزبير والأعمش وعكرمة وعمرو بن دينار: "حَرْثٌ حِرْج"4، وقراءة الناس: {حِجْرٌ} .
قال أبو الفتح: قد قدمنا في كتابنا الخصائص5 صدرًا صالحًا من تقلب الأصل الواحد والمادة الواحدة إلى صور مختلفة يَخْطِمها6 كلها معنى واحد، ووسمناه بباب الاشتقاق الأكبر،
__________
1 سورة الأنعام: 137.
2 للمتنبي، الديوان: 2/ 388.
3 النحيزة: الطبيعة.
4 سورة الأنعام: 138.
5 انظر: الخصائص: 2/ 133-139.
6 خطم البعير بالخطام: جعله في أنفه، والخطام: كل ما وضع في أنف البعير ليقتاد به، يريد: ينظمها ويقودها.
(1/231)
________________________________________
نحو: ك ل م، ك م ل، م ل ك، م ك ل، ل ك م، ل م ك، وإنها مع التأمل لها ولين مَعطِف الفكر إليها آئلة إلى موضع واحد ومترامية نحو غرض غير مختلف، كذلك أيضًا يقال: ح ج ر، ج ر ح، ح ر ج، ر ج ح، ج ح ر. وأما ر ح ج فمهمل فيما علمنا، فالتقاء معانيها كلها إلى الشدة والضيق والاجتماع، من ذلك الحِجْر وما تصرف منه، نحو: انحجر، واستحجر الطين، والحُجرة وبقيته، وكله إلى التماسك في الضيق. ومنه الحرَج: الضيق، والحِرْج مثله، والْحَرجَةُ: "55و" ما التف من الشجر فلم يكن دخوله، ومنه الْحُجر وبابه لضيقه، ومنه الْجَرْح لمخالطة الحديد للحم وتلاحمه عليه، ومنه رجح الميزان؛ لأنه مال أحد شقيه نحو الأرض؛ فقرب منها، وضاق ما كان واسعًا بينه وبينها.
فإن قلت: فإنه إذا مال أحدهما إلى الأرض فقد بعُد الآخر منها، قيل: كلامنا على الراجح، والراجح هو الداني إلى الإرض. فأما الآخر فلا يقال له: راجح، فليزم ما ألزمته، وإذا ثبت ذلك -وقد ثبت- فكذلك قوله تعالى: "حَرثٌ حِرْج" في معنى "حِجْر"، معناه عندهم: أنها ممنوعة محجورة أن يَطْعَمَها إلا من يشاءون أن يُطعموه إيَّاها بزعمهم.
ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين: "خالِصَةً"1.
وقرأ: "خالصًا" سعيد بن جبير.
وقرأ: "خالِصُه" ابن عباس بخلاف والزهري والأعمش وأبو طالوت.
وقرأ: "خالِصٌ" ابن عباس وابن مسعود والأعمش بخلاف.
قال أبو الفتح: أما قراءة العامة: {خَالِصَةٌ} فتقديره: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لنا؛ أي: خالص لنا، فأنث للمبالغة في الخلوص، كقولك: زيد خالِصَتِي، كقولك: صَفِيِّي وثقتي؛ أي: المبالغ في الصفاء والثقة عندي، ومنه قولهم: فلان خاصَّتي من بين الجماعة؛ أي: خاصِّي الذي يخصني، والتاء فيه للمبالغة وليكون أيضًا بلفظ المصدر، نحو: العاقبة والعافية، والمصدر إلى الجنسية، فهي أعم وأوكد.
ويدلك على إرادة اسم الفاعل هنا -أي: خالص- قراءة سعيد بن جبير "خَالِصًا"، وعليه
__________
1 سورة الأنعام: 139.
(1/232)
________________________________________
القراءة الأخرى: "خَالِصٌ لذكورنا"، والقراءة الأخرى: "خالِصُه لِذكورنا"1، ألا تراه اسم فاعل وإن كان مضافًا؟ لكن الكلام في نصب خَالِصًا وخالِصةً، وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون حالًا من الضمير في الظرف الجاري صلة على "ما"، كقولنا: الذي في الدار قائمًا زيد.
والآخر: أن يكون حالًا من "ما" على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها إذا كان معنى بعد أن يتقدم صاحب الحال عليها، كقولنا: زيد قائمًا في الدار.
واحتج في ذلك بقول الله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2، فيجوز على هذا في العربية لا في القراءة؛ لأنها سنة لا تُخالَف "وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ"3.
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون "خالصًا" "وخالصةً" حالًا من الضمير في لنا؟ 4 قيل: هذا غير جائز؛ وذلك أنه تَقدَّم على العامل فيه وهو معنى وعلى صاحب الحال، وهذا ليس على ما بَيَّنَا.
ولا يجوز أن يكون "خالصةً" حالًا من الأنعام؛ لأن المعنى ليس عليه، ولعزَّة الحال من المضاف إليه.
ومن ذلك قراءة على -عليه السلام- والأعرج وعمرو بن عبيد: "خُطُؤات"5 بالهمز مثقلًا، وقرأ: "خَطَوات" أبو السمال.
قال أبو الفتح: أما "خُطُؤات" بالهمز فواحدها خُطْأَة؛ بمعنى الخَطَأ، أثبت ذلك أحمد بن يحيى.
وأما "خَطَوات" فجمع خَطْوة، وهي الفَعْلَة الواحدة من خَطوت، كغزوت غزوة، ودعوت دعوة. والمعنى: لا تتبعوا خَطوات الشيطان؛ أي: آثاره، لا تقتدوا به، وتقديره على هذا حذف المضاف؛ أي: لا تتبعوا مواضع خَطوات الشيطان.
وإن شئت أجريته على ظاهره من غير تقدير حذف كقولك: لا تتبع أفعال المشركين "55ظ"
__________
1 في الأصل: "خالص لنا" و"خالصة لنا"، والآية: "لذكورنا".
2 سورة الزمر: 67.
3 من الآية السابقة.
4 الآية: "لذكورنا" كما تقدم.
5 سورة الأنعام: 142.
(1/233)
________________________________________
ولا تأْتَم بأديان الكافرين. ومن قرأ: "خُطُوات" بلا همز فأمره واضح، وهو جمع خُطْوة، وهي ذَرْع ما بين القدمين، وهذا واضح.
ومن ذلك قراءة طلحة: "الضَّأَن"1 بفتح الهمزة.
قال أبو الفتح: الضَّأْنُ جمعٌ، واحدته ضائِن وضائنة، وصرَّفوا فعله فقالوا: ضَئِنَت العَنْز ضَأَنًا، إذا أشبهت الضأن. وأما الضَّأَن بفتح الهمزة في هذه القراءة، فمذهب أصحابنا فيه وفي مثله مما جاء في فَعْل وفَعَل وثانيه حرف حلق؛ كالنهْر والنهَر، والصخْر والصخَر، والنعْل والنعَل، وجميع الباب، أنها لغات كغيرها مما ليس الثاني فيه حرفًا حلقيًّا، كالنشْز والنشَز، والقص والقصَص.
ومذهب البغداديين أن التحريك في الثاني من هذا النحو إنما هو لأجل حرف الحلق، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب وغيره، ويؤنسني بصحة ما قالوه أني أسمع ذلك فاشيًا في لغة عُقيل، حتى لسمعت بعضهم يومًا قال: نَحَوَه، يريد: نَحْوه. فلو كانت الفتحة في الحاء هنا أصلًا معتزمة غير إتباع لكونها حرفًا حلقيًّا لوجب إعلال اللام التي هو واو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، كغَضَاة وشَجَاة2، فكان يقال: نحاة، وهذا واضح، غير أن لأصحابنا ألا يقبلوا من اللغة إلا ما رُوي عن فصيح موثوق بعربيته، ولست أُثبت هذه الفصاحة المشروطة لمن سمعت منه هذه اللفظة؛ أعني: نَحَوَه.
ومن ذلك قراءة ابن يعمر: "تَمَامًا عَلَى الَّذي أَحْسَنُ"3.
قال أبو الفتح: هذا مستضعف الإعراب عندنا؛ لحذفك المبتدأ العائد على الذي؛ لأن تقديره: تمامًا على الذي هو أحسن، وحذْف "هو" من هنا ضعيف؛ وذلك أنه إنما يُحذف من صلة الذي الهاء المنصوبة بالفعل الذي هو صلتها، نحو: مررت بالذي ضربتَ؛ أي: ضربتَه، وأكرمتَ الذي أهنتَ؛ أي: أهنتَه، فالهاء ضمير المفعول، ومن المفعول بُدٌّ، وطال الاسم بصلته، فحذفت الهاء لذلك، وليس المبتدأ بنيِّف ولا فضلة فيحذف تحفيفًا، لاسيما وهو عائد الموصول،
__________
1 سورة الأنعام: 143.
2 الغضاة: واحدة الغضا لنوع من الشجر، أما الشجاة فلم نعثر عليها فيما بين أيدينا من معاجم.
3 سورة الأنعام: 154.
(1/234)
________________________________________
وأن هذا قد جاء نحوه عنهم؛ حكى سيبويه عن الخليل: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا سوءًا" أي: بالذي هو قائل، وقال:
لم أرَ مثل الفتيان في غبن الـ ... أيام ينسَون ما عواقبها1
أي: ينسون الذي هو عواقبها.
ويجوز أن يكون "ينسون" معلقة كما علقوا نقيضتها التي هي يعلمون، وتكون "ما" استفهامًا وعواقبها خبر "ما"، كقولك: قد علمت مَن أبوك وعرفت أيُّهم أخوك؟، وعلى الوجه الأول حمله أصحابنا.
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: "مِمَّنْ كَذَبَ بِآياتِ اللهِ"2 خفيفة الذال.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون دخول الباء هنا حملًا على المعنى؛ وذلك لأنه في معنى مَكَرَ بها، وكفر بها، وما أكثر هذا النحو في هذه اللغة، وقد ذكرناه فيما مضى، ومنه قوله:
ألم يأْتيك والأنباءُ تَنمي ... بما لاقت لبون بني زياد3
زاد الباء في بما لاقت لما كان معناه ألم تسمع بما لاقت لبونهم، وفيه ما أنشدَناه أبو علي: "56و"
أم كيف ينفعُ ما تعطى العَلوقُ به ... رئْمانَ أنف إذا ما ضُنَّ باللبِن4
ألحق الباء في به لما كان تعطى في معنى تسمح به، ألا تراه قال في آخر البيت: إذا ما ضُنَّ باللبن؟ فالضن نقيضُ السماحة والبذل.
__________
1 لعدي بن زيد، ويروى: عقب، جمع عقبة بضم فسكون وهي الشدة، وفي الأصل: غبر، وهو تحريف. قال ابن الشجرى: قوله: "في غبن الأيام" يدل على أنهم قد استعملوا الغبن المتحرك الأوسط في البيع، والأشهر غبنته في البيع غبنًا بسكون وسطه، والأغلب على الغبن المفتوح أن يستعمل في الرأي، وفعله غبن يغبن مثل فرح يفرح، يقال: غبن رأيه، والمعنى: في رأيه، ومفعول الغبن في البيت محذوف؛ أي: في غبن الأيام إياهم. وانظر: الأغاني، طبعة دار الكتب: 2/ 147، والخزانة: 2/ 21.
2 سورة الأنعام: 157.
3 انظر الصفحة 67 من هذا الجزء.
4 لأُفنون التغلبي، ويروى: "تأتي" مكان "تعطي"، العلوق: التي عطفت على ولد غيرها فلم تدر، وقال اللحياني: هي التي ترأم بأنفها وتمنع درتها، رئمت الناقة ولدها ترأمه رأمًا ورأمانًا: عطفت عليه ولزمته، وفي التهذيب: رئمانًا: أحبته. اللسان: "رأم، وعلق".
(1/235)
________________________________________
ومن ذلك قراءة زهير الفُرْقُبي1: "يَوْمُ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ"2 بالرفع.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ارتفاع اليوم بالابتداء، والجملة التي هي قوله تعالى: {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} خبر عنه، والعائد من الجملة محذوف لطول الكلام والعلم به، وإذا كانوا قد قالوا: السمن مَنَوان بدرهم، فحذفوا وهم يريدون "منه" مع قصر الكلام؛ كان حذف العائد هنا لطول الكلام أسوغ، وتقديره: لا ينفع فيه نفسًا إيمانها، ومثله قولهم: البُرُّ الكْرُّ3 بستين؛ أي: الكُرُّ منه.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} 4 ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون على حذف العائد؛ أي: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا منهم، وله نظائر كثيرة؛ لكنا نحذف5 الإطالة إذ كان هذا كتابًا مختصرًا ليقرب على القراء ولا يلطُف عنهم، وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب الحجة في قراءة السبعة، فأغمضه وأطاله حتى منع كثيرًا ممن يدَّعي العربية -فضلًا على القَرَأة- منه، وأجفاهم عنه.
ومن ذلك قراءة أبي العالية: "لا تَنْفع نفسًا إيمانُها" بالتاء فيما يروى عنه، قال ابن مجاهد: وهذا غلط.
قال أبو الفتح: ليس ينبغي أن يُطْلَق على شيء له وجه في العربية قائم -وإن كان غيره أقوى منه- أنه غلط، وعلى الجملة فقد كثر عنهم تأنيث فعل المضاف المذكر إذا كانت إضافته
__________
1 هو زهير الفرقبي النحوي، يُعرف بالكسائي، له اختيار في القراءة يروى عنه، وكان في زمن عاصم. روى عنه الحروف نعيم بن ميسرة النحوي. وإنما قيل له: الفرقبي؛ لأنه كان يتجر إلى ناحية فرقب، ومات سنة 155، وقيل: سنة 156. وفي الأصل: العرقبي بالعين، في البحر المحيط 4/ 260: القروى، وكل تحريف. وفي القاموس: زهير بن ميمون الفرقبي الهمداني قارئ نحوي، أو هو بقافين. وفي معجم البلدان: فرقب بضم أوله وسكون ثانيه وقاف وباء موحدة: موضع. قال الفراء: ينسب إليه زهير الفرقبي من أهل القرآن. وانظر: طبقات القراء: 1/ 295، وإنباه الرواة: 2/ 18.
2 سورة الأنعام: 158.
3 الكر بالضم: مكيال للعراق، وستة أوقار حمار، أو هو ستون فقيزًا، أو أربعون إردبًّا.
4 سورة الكهف: 30.
5 كذ بالأصل، ويظهر أنها محرفة عن "نحذر".
(1/236)
________________________________________
إلى مؤنث، وكان المضاف بعض المضاف إليه أو منه أو به. وأنشدنا أبو علي لابن مقبل:
قد صرَّح السيرُ عن كُتْمَان وابتُذِلت ... وقعُ المحاجن بالْمَهرية الذُّقُن1
فأنث "الوقع" وإن كان مذكرًا لَمَّا كان مضافًا إلى "المحاجن"، وهي مؤنثة؛ إذ كان الوقع منها. وكذلك قول ذي الرمة:
مشَيْن كما اهتزَّت رماح تسفهت ... أعاليَهَا مرُّ الرياح النواسِم2
فأنث "الْمَر" لإضافته إلى الرياح وهي مونثة؛ إذ كان "الْمَر" من الرياح، ونظائر ذلك كثيرة جدًّا لا وجه للإطالة بذكرها، فهذا وجه يشهد لتأنيث الإيمان؛ إذ كان من النفس وبها.
وإن شئت حملته على تأنيث المذكر لَمَّا كان يعبر عنه بالمؤنث، ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 3، فتأنيث الْمِثل لأنه في المعنى حَسَنة.
فإن قلت: فهلَّا حملته على حذف الموصوف، فكأنه قال: فله عشر حسنات أمثالها، قيل: حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قبلُ ليس بمستحسن في القياس، وأكثر مأتاه إنما هو في الشعر؛ ولذلك ضعف حمل "دانيةً" من قوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} 4 على أنه وصف جنة؛ أي: وجنةً دانيةً عليهم ظلالها، عطفًا على جنة من قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} وجَنةً دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا؛ لما فيه من حذف الموصوف "56ظ" وإقامة الصفة مقامه حتى عطفوها على قوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} ودانيةً عليهم ظلالها، فكانت حالًا معطوفة على حال قبلها، فلهذا يضعف أن يكون تقدير الآية على: فله عشر حسنات أمثالها؛ بل تكون أمثالها غير صفة لكنه محمول على المعنى؛ إذ كن حسنات كما ترى.
وعليه أيضًا قوله تعالى: "تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ"5؛ لما كان ذلك البعض سيارة في المعنى.
__________
1 صرح السير: كشف، كتمان: اسم موضع، وقيل: اسم جبل، المحاجن: العصي المعوجة، المهرية: يريد بها الإبل المنسوبة إلى مهرة إحدى قبائل اليمن، الذقن: جمع الذقون؛ وهي من الإبل التي تميل ذقنها إلى الأرض تستعين بذلك على السير. يريد: أن السير قد كشف لهم عن هذا الموضع ببلوغهم إياه، وأن إبلهم قد ابتذلت بوقع المحاجن عليها تستحث على السير، ففي الكلام قلب. انظر: اللسان" "كتم"، ومعاني القرآن: 1/ 187، والخصائص: 2/ 418.
2 رُوي: "رويدًا" مكان "مشين"، و"مرضى" مكان "مر". تسفهت الريح الغصون: حركتها واستخفتها. وانظر: ديوان ذي الرمة: 616، واللسان "سفه"، والكتاب: 1/ 25، 33، والديوان: 303.
3 سورة الأنعام: 160.
4 سورة الإنسان: 14.
5 سورة يوسف: 10.
(1/237)
________________________________________
وحكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلًا من اليمن يقول: فلان لَغُوب1، جاءته كتابي فاحتقرها، قال: فقلت له: أتقول جاءته كتابي؟ فقال: نعم، أليس بصحيفة؟ فلا تعجب إلا من هذا الأعرابي الجافي وهو يعلل هذا التعليل في تأنيث المذكر، وليس في شعر منظوم فيُحتمل ذلك له، إنما هو في كلام منثور، فكذلك يكون تأنيث الإيمان، ألا تراه طاعة في المعنى؟ فكأنه قال: لا تنفع نفسًا طاعتها، والشواهد كثيرة؛ لكن الطريق التي نحن عليها مختصرة قليلة قصيرة.
ومن ذلك قراءة النخعي وأبي صالح مولى ابن هانئ، ويُروى أيضًا عن الأعمش ويحيى: "الَّذِينَ فَرَقُوا دِينَهُمْ"2 بالتخفيف.
قال أبو الفتح: أما "فَرَقُوا" بالتخفيف فتأويله أنهم مازُوه عن غيره من سائر الأديان، هذا ظاهر "فرَقوا" بالتخفيف. وقد يحتمل أن يكون معناه معنى القراءة بالتثقيل؛ أي: فرَّقوه، وعضَّوْه أعضاء، فخالفوا بين بعضه وبعض؛ وذلك أن فَعَل بالتخفيف يكون فيها معنى التثقيل، ووجه هذا أن الفعل عندنا موضوع على اغتراق جنسه، ألا ترى أن معنى "قام زيد": كان منه القيام، و"قعد": كان منه القعود؟ والقيام -كما نعلم- والقعود جنسان، فالفعل إذن على اغتراق جنسه، يدل على ذلك عمله في جميع أجزاء ذلك الجنس من مفرده ومثناه ومجموعه، ونكرته ومعرفته، وما كان في معناه، وذلك قوله: قمت قومة وقومتين وألفَ قومة، وقمت قيامًا وقيامًا طويلًا، وجلست جلوسًا وجلوسًا قصيرًا، وقمت القيام الذي تعلم. وقال:
لعمري لقد أحْبَبْتُكَ الحبَّ كُلَّه3
وقالوا: قعد القرفصاء، وعَدَا البَشَكَى4، ووثب الْحَجَزى5، فعمل الفعل في جميع أجزاء
__________
1 اللغوب: الضعيف الأحمق.
2 سورة الأنعام: 159.
3 عجزه:
وزدتك حبًّا فلم يكن قبل يعرف
وانظر: الخصائص: 2/ 448.
4 أي: عدوًا سريعًا خفيفًا.
5 أي: وثبًا سريعًا.
(1/238)
________________________________________
المصادر من لفظه ومن غير لفظه كما كان معناه، يدل على أن وضعه لاغتراق جنسه؛ إذ الفعل لا يعمل من المصادر إلا فيما كان عليه دليل، ألا تراك لا تقول: قمت قعودًا، ولا خرجت دخولًا؛ لأنه لا دليل في الفعل على ذلك؟ وهذا واضح مُتَنَاهٍ في البيان.
وإذا كان كذلك عُلم منه وبه أن جميع الأفعال ماضيها وحاضرها ومتلقاها مجاز لا حقيقة، ألا تراك تقول: قمت قومة، وقمت على ما مضى، دال على الجنس؟ فوضعك القومة الواحدة موضع جنس القيام، وهو فيما مضى وما هو حاضر وفيما هو متلقى مستقبل، من أذهب شيء في كونه مجازًا.
ولذلك ما1 كان شيخنا أبو علي يقول: إن قولنا: قام زيد في كونه مجازًا بمنزلة قول القائل: خرجت فإذا الأسد، يريد بذلك: أن الأسد هنا لاغتراق الجنس؛ وإنما وجد ببابه أسدًا واحدًا، فأطلقه "57و" على جميع جنسه الذي لا يحيط به إلا خالقه جل وعز.
فهذا كقولك: قام زيد في وضعه إياه على البعض وإن كان مفادُ "قام" الاغتراقَ للكل؛ إذ كان قيام زيد جزءًا مما لا يحاط به، ولا يحاط2 الوهم إلا على كلَا ولَا3 على قصوره.
وهذا موضع يسمعه الناس مني ويتناقلونه دائمًا عني، فيُكبرونه ويكثرون العجب به، فإذا أوضحته لم يسأل عنه استحياء، وكان يستغفر الله لاسيحاشه كان منه.
وكشفت هذا الموضع يومًا لبعض من كان له مذهب في المشاغبة -عفا الله عنا وعنه- فتوقف فيه، ثم قال: أوكذلك أفعال القديم عندك؟ فقلت: هذا موضع لا تعلُّق له بذكر القدم والحدوث؛ وإنما هو طريق مسلوكة يتعاقبها القديم والمحدَث تعاقبًا واحدًا، ألا تراك تقول: خلق الله كذا؟ أفتظن أن هذا ينتظم كل خلق في الوهم؟ فإن قلت: نعم، لزمك أن يكون هو الخالق لأفعال العباد، ومذهبك نافٍ لهذا عندك، فلما بلغ الموضعُ بنا إلى هذا أَمسك، ثم مضى فقرأ شيئًا من كلام شيخنا فعاد معترفًا بما قلت له منه، غير أننا أُعلمنا بذلك أن العلل عنده مروية غير مدرية، وليست بحقائق ولا عقلية.
__________
1 ما زائدة.
2 كذا في الأصل، والمعروف أن يستعمل هنا: يحيط.
3 في اللسان "لا": إذا أرادوا تقليل مدة فعل أو ظهور شيء خفي قالوا: كان فعله "كلا"، وربما كرروا فقالوا: كلا ولا؛ كأنه يريد: ولا يحيط الوهم -على قصوره- بما يحيط به من القيام إلا في وقت قليل بالنسبة إلى جملة الزمن الذي يقع القيام فيه.
(1/239)
________________________________________
سورة الأعراف:
بسم الله الرحمن الرحيم
من ذلك قراءة أبي جعفر: "ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"1 بضم الهاء.
قال أبو الفتح: هذا مذهب ضعيف جدًّا؛ وذلك أن الملائكة مجرورة، ولا يجوز أن يكون حذَف همزة "اسجدوا" وألقى حركتها على الهاء من موضعين:
أحدهما: أن هذا التخفيف إنما هو في الوصل، والوصل يحذف هذه الهمزة أصلًا إذ كانت همزة وصل، فيا ليت شعري من أين له همزة أصلًا في الوصل حتي يُلقي حركتها للتخفيف على ما قبلها، وليست كذلك الهمزات التي تُلقى للتخفيف حركاتهن على ما قبلهن؛ لأن لك أن تثبت هذه الهمزة قبل حذفها للتخفيف؟ ألا تراك أنك إذا خففت همزة أنت من قولك: مَن أنت جاز منَ انت؛ لأن لك أن تحققها قبل التخفيف فتقول: من أنت؟ وليس لك أن تثبت همزة "اسجدوا" في الوصل فتقول: للملائكة أُسجدوا، فيجوز تخفيفها فيما بعد.
وهذا واضح، وهو أذهب في الفحش من قول الفراء: مَنْ فتح "ميم" من قوله تعالى: "ألف لام ميم الله"2، إنه حذف همزة "الله" وألقى حركتها على ميمِ "ميمَ"؛ لأن له أن يقول: إن الهجاء عندنا على الوقف، فإذا وصل فإنه مع ذلك ينوِي الوقف، والوقف يجوز معه قطع همزة "الله"، وليس كذلك "ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"؛ لأنه ليس من حروف الهجاء فيُنوَى فيه الوقف عليه ثم تخفيف همزته، وعلى أن مذهب الفراء هناك أيضًا مدفوع عندنا لأنه لا يُخَفَّفُ إلا في الوصل، والوصل يُسقط همزة اسم الله تعالى، فالطريق في الفساد واحدة وإن كان فيه في قول الفراء ذلك القدر من تلك الشبهة الضعيفة.
فإن قال الفراء: قولهم: "نون وَالْقَلَمِ"3 بترك إدغام النون في الواو يدل أن نية الوقف
__________
1 سورة الأعراف: 11.
2 سورة آل عمران: 1، 2.
3 سورة القلم: 1.
(1/240)
________________________________________
في هذه الحروف مع الوصل موجودة؛ إذ لو كانت موصولة ألبتة لوجب الإدغام، وأن يقال: "57ظ" "نووّالقلم"، كما تدغم النون في الواو من قوله عز وجل: {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1.
قيل له: ولو كانت في وصلها على حكم الوقف ألبتة عليها لوجب إظهار النون فقيل: "نونْ والقلم" بإظهار النون؛ لقولك في الوقف: "نون" بإظهار النون، فترْك إظهار النون من قوله تعالى: "نون والقلم" يدل على نية الوصل، وإنما لم يكن هناك إدغام لعمري تعقبًا لما كان عليه من الوقف، وإلا فهو موصول لا محالة، وإذا كان موصولًا وجب حذف الهمزة أصلًا، وإذا حذفت أصلًا لم تجد هناك لفظًا تحقِّقه أو تخففه.
ويؤكد ذلك عندك قراءتهم "كاف ها يا عين صاد" بإخفاء النون من عين عند الصاد، كما تُخفى في الوصل إذا قلت: عجبت من صالح، ونحو ذلك.
فقد ترى إلى جريان هذا مع أنه حرف هجاء كجريانه في حال وصله نون عين وسين قاف من قوله: عين سين قاف، فأُخفيت النون من عين عند السين، والنون من سين عند القاف، كما تُخفيان في: عين سالم، ومن قاسم.
ويؤكد أيضًا عندك إدغام الدال من صاد في الذال من "ذِكْر" في قوله: "عين صاد ذِكْرُ رحمةِ ربِّك"2، كإدغامها فيها في غير الهجاء، كقولك: تعهد ذلك الباب.
وهذا ينبهك على أن ترك إدغام النون من قوله: "نون والقلم" إنما هو لئلا يجتمع هناك ثلاث واوات، فثقل عليهم أن يقولوا: "نووَّالقلم"، ولو كان لنية الوقف ألبتة لظهرت الدال من "صاد ذكر رحمة ربك"، هذا أعلى القراءة وإن كان بعضهم قد أظهرها، إلا أن الإدغام أقوى رواية وقياسًا، فهذا أحد وجهي قبح قراءة أبي جعفر: "ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا لِآدَمَ".
والآخر: أن التخفيف في نحو هذا إنما يكون إذا كان الحرف الأول قبل الهمزة ساكنًا صحيحًا نحو: "قد أفلح"3، فإذا خففت الهمزة ألقيت حركتها على الساكن قبلها فقَبِلَها لسكونه، ثم حذفت الهمزة تخفيفًا، فقلت: "قَدَ فْلَحَ"، وكذلك: مَن أبوك إذا خففته قلت: مَنَ بُوك؟
فأما إذا كان قبل الهمزة حرف متحرك وأردت تخفيفها فإنك لا تلقى حركة الهمزة عليه، ألا تراك لا تقول: فلان يضربَ خَاه، تريد: يضربُ أَخاه؟ لأن باء يضرب متحركة، فما
__________
1 سورة الشورى: 8، وفي الأصل: ما له، وهو تحريف.
2 سورة مريم: 1، 2.
3 سورة المؤمنون: 1.
(1/241)
________________________________________
فيها من حركتها لا يسوِّغُ نقل حركة أخرى إليها عوضًا من حركتها؛ ولذلك ضعفت عندنا قراءة الكسائي: "بما أُنْزِلَّيْك"1؛ لأن اللام من أُنزل مفتوحة، فلا ينقل عليها كسرة همزة إليك ثم يلتقي المثلان متحركين، فيسكن الأول منهما، ويدغم في الثاني كما جُعل ذلك في قوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} 2؛ إذ كانت النون من لكن ساكنة فساغت3 حذف همزة أناء وإلقاء حركتها على النون قبلها، فصارت "لكنَنَا"، فكُره التقاء المثلين متحركين، فأُسكن الأول منهما وأُدغم في الثاني، فصار لكنَّا كما ترى.
وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع من كلامنا مصنفًا وغير مصنَّف.
فإن قلت: فما تصنع بما أخبركم به أبو علي عن أبي عبيدة من قول بعضهم: دعه في حِرُمِّه -بضم الراء- وهو يريد: في حرأُمه؟ ألا ترى كيف أَلقى حركة همزة "أم" على الراء وقد كانت "58و" مكسورة ثم حذف الهمزة، وإلى ما حكاه أحمد بن يحيى من قول أبي السرار في خبر ذكره عند سعيد بن سليم وابنُ الأعرابي حاضرٌ من قول امرأة رأت أبا السرار عند بناتها، فأنكرته: أفي السَّوَتَنْتُنَّه؟ وهي تريد: أفي السَّوْءةِ أَنْتُنَّه؟ فحذفت همزة "أنتنه" وألقت حركتها على تاء "السوءة" وهي مكسورة.
قيل: هذا من الشذوذ؛ بحيث لا يقاس على ضعفه، فضلًا عنه على قلته.
وأيضًا، فإنه حذف همزة ثابتة موجودة في الوصل، وليست كذلك همزة "اسجدوا"؛ لأنها بلا خلاف معدومة في الوصل أصلًا، وما هو معدوم في اللفظ لا يعْرِض فيه تخفيف ولا تحقيق.
فإن توهَّم متوهم أنه يرى قطع همزة "اسجدوا" على ضعف ذلك، ثم فعل من بعد نحوًا من حكاية أبي عبيدة: دعه في حِرُمِّه، فإن هذا أفحش، من حيث كانت همزة "اسجدوا" مما لا يجوز في القرآن قطعه أصلًا؛ لخبث ذلك في الشعر فضلًا عن التنزيل، وما يجب فيه من تخير أفصح اللغات له.
ويزيد في قبح ذلك أنه إن نوى قطع همزة "اسجدوا" فإنما ذلك للوقف قبلها، والوقف هنا قبلها لا يجوز من حيث كان قوله: "اسْجُدُوا لِآدَمَ" معمولَ قوله: "قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ"، ولا يحسن الوقف على الناصب دون منصوبه؛ بل لا يجوز الوقف على العامل دون معموله؛ لاتصاله به، وكونه في بعض الأماكن كالجزء من العامل فيه، نحو: لا رجل في الدار، ومررت بي، والمال لي
__________
1 سورة المائدة: 68.
2 سورة الكهف: 38.
3 انظر الصفحة 237 من هذا الجزء.
(1/242)
________________________________________
فيمن أسكن الياء، فهذا كله وما تركناه من نحوه يشهد بفساد قراءة أبي جعفر: "لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا".
ومن ذلك قراءة الزهري: "مَذُومًا مَدْحُورًا"1.
قال أبو الفتح: هذا على تخفيف الهمزة من "مَذْءومًا"، كقولك في مسئول: مسول.
فإن قلت: أفيكون مِن ذِمتُه أَذيمة؟ قيل: لو كان منه لكان مَذِيمًا كمبيع ومكيل.
فإن قيل: فقد حكى الفراء: هذا بُرّمَكُول، ورجل مسورٌ به، وقد قالوا في مهيب: مَهوب.
قيل: هذا من الشذوذ في منزلة القُصْيا، فلا يحسن الحمل عليه؛ وإنما ذكرناه لئلا يورده من يضعف نظره وهو يظنه طائلًا، فلا تحفل به.
ومن ذلك قراءة الحسن وأبي جعفر وشيبة والزهري: "سَوَّاتِهما"2 بتشديد الواو.
قال أبو الفتح: حكى سيبويه ذلك لغة قليلة، والوجه في تخفيف نحو ذلك أن تحذف الهمزة وتلقى حركتها على الواو قبلها، فتقول في تخفيف نحو السوءة: السَّوَة، وفي تخفيف الجيئة: الجيَة، ومنهم من يقول: السَّوَّة والْجَيَّة، وهو أدون اللغتين وأضعفهما، ومنهم من يقول في المنفصل من أوْ أَنت: أوَّنت، وفي أبو أيوب: أَبوَّيُّوب، وهو في المنفصل أسهل منه في المتصل؛ لما يوهم "سَوَّة" أنه من مضاعف الواو، نحو: القُوَّة والْحُوَّة.
وقرأ: "سوْءَتِهما"3 واحدة مجاهد.
ووجه ذلك أن السوءَة في الأصل فَعْلَة من ساء يسوء، كالضربة والقتلة، فأَتاها التوحيد من قِبَلِ المصدرية التي فيها.
فإن قلت: إن الفَعْلَة واحدة من جنسها، والواحد مُعرَّض للتثنية والجمع.
قيل: قد يوضع الواحد موضع الجماعة، وقد مضى ذلك مشروحًا. "58ظ"
__________
1 سورة الأعراف: 18.
2 سورة الأعراف: 20.
3 قال في البحر 4/ 279: وقرأ مجاهد والحسن: "من سوتهما" بالإفراد وتسهيل الهمزة؛ بإبدالها واوًا وإدغام الواو فيها.
(1/243)
________________________________________
ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "من هذِي الشجرة"1.
قال أبو الفتح: هذا هو الأصل في هذه الكلمة، وإنما الهاء في "ذه" بدل من الياء في "ذي"، يدل على الياء الأصل قولهم في المذكر: "ذا"، فالألف في ذا بدل من الياء في ذي، وأصل ذا عندنا ذَيّ، وهو من مضاعف الياء مثل: حي، فحذفت الياء الثانية التي هي لام تخفيفًا فبقي ذَيْ. قال لي أبو علي: فكرهوا أن يشبه آخره آخر كي وأي، وأبدلوها ألف كما أبدلت في باءَس ويايَس2.
ويدل على أن أصل ذا ذَيّ وأنه ثلاثي جواز تحقيره في قولك: ذَيَّا، ولو كان ثنائيًّا لما جاز تحقيره كما لا تحقر "ما"، "ومَن" لذلك. وقد شرحت هذا الموضع في كتابي الموسوم بالمنصف بما يمنع من الإطالة بذكره هنا.
فأما الياء اللاحقة بعد الهاء في "هذهِي سبيلي"3 ونحوه فزائدة، لحقت بعد الهاء تشبيهًا لها بهاء الإضمار في نحو: مررت بهِي، ووجه الشبه بينهما أن كل واحد من الاسمين معرفة مبهمة لا يجوز تنكيره، وإذا وَقَفْتَ قلت: هذهْ، فأسكنت الهاء، ومنهم من يدعها على سكونها في الوصل كما يسكِّنها عند الوقف عليها، كما أن منهم من يسكن الهاء المضمرة إذا وصلها فيقول: مررت بِهْ أَمس، وذكر أبو الحسن أنها لغة لأزْد السراة، وأنشد هو وغيره:
فظَلْت لدى البيت العتيق أُخليه ... ومِطْواي مشتاقان لهْ أَرِقان4
وروينا عن قطرب قول الآخر:
وأَشربُ الماء ما بي نحوَه عَطَشٌ ... إلا لأَنَّ عيونَهْ سَيْلُ وادِيها5
__________
1 سورة الأعراف: 19.
2 قال في المنصف 3/ 35: يقال: يئس ييئس وييئس وياءس يأسًا فهو يائس وأيس يايس، فهو آيس.
3 سورة يوسف: 108.
4 ليعلى الأحول الأزدي، ورُوي: "الحرام" مكان "العتيق"، و"أشيمه وأريفه" مكان "أخيله". ورُوي الشطر الآخر: "ومطواي من شوق له أرقان". وضمير أخيله وله للبرق في بيت قبله. أخليه: من أخيلت السحابة إذا رأيتها مخيلة للمطر بضم الميم؛ أي: تخيل من رآها أنها ماطرة، مطواي: صاحباي. الخزانة: 2/ 401، والخصائص: 1/ 128 والمنصف: 3/ 84.
5 بهامش الأصل: "في الأصل: ويشرب". وانظر: الخزانة: 2/ 402، والضرائر للألوسي: 83.
(1/244)
________________________________________
ومن ذلك قراءة الزهري: "يُخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا" من أَخْصَفْت، و"يَخِصفان" الحسن بخلاف، وقرأ "يُخَصِّفَان"1 ابن بريدة والحسن والزهري والأعرج، واختلف عنهم كلهم.
قال أبو الفتح: مألوف اللغة ومستعملها خَصَفت الورق ونحوه، وما أخصفت فكأنها منقولة من خصفت؛ كأنه -والله أعلم- يُخْصِفان أنفسهما وأجسامهما من ورق الجنة، ثم حذف المفعول على عادة حذفه في كثير من المواضع، أنشد أبو علي للحطيئة:
منعَّمةٌ تصون إليك منها ... كصونك من رداءٍ شرْعبيِّ2
أي: تصون الحديث ونخزنه.
وأما قراءة الحسن: "يَخِصِّفَان"، فإنه أراد بها يختصفان يفتعلان من خصفت، كقولهم: قرأت الكتاب واقترأته، وسمعت الحديث واسمتعته؛ فآثر إدغام التاء في الصاد فأسكنها، والخاء قبلها ساكنة، فكسرها لالتقاء الساكنين؛ فصارت "يَخِصِّفان".
وأما من قرأها "يَخَصِّفان"3، فإنه أراد أيضًا إدغام التاء في الصاد فأسكنها على العبرة في ذلك، ثم نقل الفتحة إلى الخاء؛ فصار "يَخَصِّفان".
ويجوز "يِخِصِّفَّانِ" بكسر الياء فيمن كسر الخاء إتباعًا، كما قال أبو النجم:
تَدافُعَ الشِّيبِ ولم تِقِتِّل4
أراد: تَقْتَتِل على ما ذكرت لك. ونحو من ذلك القراءة: يَهَدِّي ويَهِدِّي ويِهِدِّي5، وأصله كله يَهتدي "59و" على ما مضى.
وأما من قرأ: "يُخَصِّفَان" وهو ابن بريدة والحسن أيضًا والأعرج، واختلف عنهم كلهم فهو يُفَعِّلان، كيُقَطِّعان ويكسران، وهذا واضح.
__________
1 سورة الأعراف: 22. وقال في البحر 4/ 280: وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب: "يخصفان" بفتح الياء، وكسر الخاء والصاد. وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب كذلك، إلا أنه فتح الخاء، ورُويت عن ابن ريدة وعن يعقوب.
2 تصون إليك: أي عندك، الشرعبي: ضرب من ثياب اليمن. ويُروى: "تصور" مكان "تصون"، "كصورك" مكان "كصونك"؛ أي: تميل إليك منها عند العناق كإمالتك الرداء عند التحامك به. الديوان: 35.
3 لم يسبق لهذه القراءة ذكر هنا.
4 تقدم في ص59 من هذا الجزء.
5 سورة يونس: 35، والأولى قراءة ابن كثير وابن عامر وورش، والثانية قراءة حفص ويعقوب، والثالثة قراءة أبي بكر. وانظر: إتحاف فضلاء البشر: 150.
(1/245)
________________________________________
ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجماعة وعاصم بخلاف: "ورِياشًا"1 بالفتح2.
قال أبو الفتح: يحتمل رِيَاشٌ شيئين:
أحدهما: أن يكون جمع رِيش، فيكون كشِعْب وشِعَاب ولِهْب3 ولِهَاب، ولِصْب4 ولِصَاب، وشِقْب5 وشِقَاب.
والآخر: أن يكونا لغتين: فِعْلٌ وفِعَال. هكذا قال أبو الحسن، قال: وقال الكلابيون: الرياش: ماكان من لباس أو حشو من فراش ألآو دثار، والريش: المتاع والأموال. وقد يكون الريش في الثياب دون المال. ويقال: هو حسن الريش؛ أي الثياب. والرياش: القشر6، وهما كما ترى متداخلان.
ومن ذلك قراءة ابن سيرين: "فَإِذَا جَاءَ آجَالُهُمْ"7.
قال أبو الفتح: هذا هو الظاهر؛ لأن لكل إنسان أجلًا. فأما إفراد الأجل فلأنه جعله جنسًا، أو لأنه مصدر فأتته الجنسية من قِبل المصدرية، وحسن الإفراد لإضافته أيضًا إلى الجماعة، ومعلوم أن لكل إنسان أجلًا، وعليه جاء قوله:
في حَلقِكم عظْم وقد شَجينا8
لأن لكل إنسان حلقًا، وتقول على هذا: رأس القوم صُلْبٌ؛ أي: رءوسهم صِلَاب. ويجوز أن تقول: رأس القوم صِلَاب؛ حملًا على المعنى.
وندع الإطالة بالشواهد إشفاقًا من الإطالة التي سئلنا اجتنابها على ما بينا في صدر الكتاب.
__________
1 سورة الأعراف: 26.
2 أي: فتح الياء، وقراءة الجماعة: {وَرِيشًا} .
3 اللهب: الصدع في الجبل، والشعب الصغير فيه.
4 اللصب: الشعب الصغير في الجبل، أضيق من اللهب، وأوسع من الشعب.
5 الشقب: مهواة ما بين جبلين، أو صدع في كهوف الجبال ولصوب الأودية دوة الكهف يوكر فيها الطير.
6 مما يطلق عليه القشر: كل ملبوس.
7 سورة الاعراف: 34.
8 للمسيب بن زيد مناة، وصدره:
لا تنكروا القتل وقد سبينا
شَجِيَ بالعظم بالكسر يشجى شجًا: اعترض العظم في حلقه. وانظر: اللسان "شجى".
(1/246)
________________________________________
ومن ذلك قراءة أُبي بن كعب والأعرج والحسن: "إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ منكم"1 بالتاء.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة بعض الصنعة؛ وذلك لقوله فيما يليه: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} . فالأشبه بتذكير يقصون التذكير بالياء في قراءة الجماعة: {يَأْتِيَنَّكُمْ} ، فتقول على هذا: قامت الزيود وقام الزيدون، وتذكر لفظ قام لتذكير الزيدون، وتؤنث لفظ قامت لأن الزيود مكسر ولا يختص بالتذكير؛ لقولك: الهنود. وقد يجوز قامت الزيدون، إلا أن قام أحسن.
ومن ذلك ما رُوي عن أبي عمرو: "حَتَّى إِذَا إدَّارَكُوا"2، ورُوي عنه أيضًا: "حتى إذا" يقف ثم يقول: "تَدَارَكُوا"، وظهور التاء في "تداركوا" قراءة ابن مسعود والأعمش.
وقراءة أخرى: "إذآ ادَّاركوا"، قرأ بها مجاهد وحميد ويحيى وإبراهيم.
قال أبو الفتح: قَطْعُ أبي عمرو همزة "ادَّاركوا" في الوصل مشكل؛ وذلك أنه لا مانع من حذف الهمزة؛ إذ ليست مبتدأة كقراءته الأخرى مع الجماعة. وأمثل ما يصرف إليه هذا أن يكون وقف على ألف "إذا" مُمَيِّلًا بين هذه القراءة وقراءته الأخرى التي هي "تداركوا"، فلما اطمأن على الألف لذلك القدر من التمييل بين القراءتين لزمه الابتداء بأول الحرف، فأثبت همزة الوصل مكسورة على ما يجب من ذلك في ابتدائها، فجرى هذا التمييل في التلوم3 عليه وتطاول الصوت به مجرى وِقفة التذكر في نحو قولك: قالوا -وأنت تتذكر- الآن من قول الله سبحانه: "قالُوا الآن"4، فتثبت الواو من قالوا لتلومك عليها "59ظ" للاستذكار، ثم تثبت همزة الآن؛ أعني: همزة لام التعريف.
ومثله "اشْتروُوا" إذا وقفت مستذكرًا "للضلالة"5، فتضم الواو من "اشتروا" على ما كانت عليه من الضم لالتقاء الساكنين، ثم تشبع الضمة لإطالة صوت وِقفة الاستذكار، فتُحدِث هناك واوًا تنشأ عن ضمة واو الضمير، ثم تبتدئ فتقول: "ألضلالة"، فتقطع همزة الوصل لابتدائك بها، فهذا أمثل ما يقال في هذا.
__________
1 سورة الأعراف: 35.
2 سورة الأعراف: 38.
3 التلوم: التمكث والانتظار.
4 سورة البقرة: 71.
5 سورة البقرة: 16.
(1/247)
________________________________________
ولا يحسن أن تقول: إنه قطع همزة الوصل ارتجالًا هكذا؛ لأن هذا إنما يسوغ لضرورة الشعر. فأما في القرآن فمعاذ الله وحاشا أبي عمرو، ولا سيما وهذه الهمزة هنا إنما هي في فعل، وقلما جاء في الشعر قطع همزة الوصل في الفعل؛ وإنما يجيء الشيء النزر من ذلك في الاسم، نحو قول جميل:
ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة ... على حَدَثان الدهر مني ومن جُمْل1
وقول الآخر:
يا نفس صبرًا كل حي لاق ... وكل إثنين إلى افتراق2
أي: لاق منيته، فحذف المفعول، وإنما قل قطع همزة الوصل هذه في الفعل، وجاء ما جاء من ذلك في الاسم؛ حيث كان الفعل مظنة من همزة الوصل، وإنما تدخل من الأسماء ما ضارع الفعل.
وباب همزات الأسماء أن تكون قطعًا، فلما غلب القطع عليها جرت الألسن على العادة في ذلك، واستجازوا قطع همزة الوصل لما ذكرنا.
وليست حال همزة الوصل في الفعل كذلك؛ لأنها معتادة هناك، فازداد قطعها من الفعل ضِيقَ عُذْرٍ لما ذكرنا.
فأما "حتى إذآ ادَّاركوا" بإثبات ألف "إذا" مع سكون الدال من "ادَّاركوا" فإنما ذلك لأنه أجرى المنفصل مجرى المتصل، فشبهه بشابَّة ودابَّة ونحو قولهم: لاهآ الله ذا بإثبات الألف في "ها"، وترك حذفها لالتقاء الساكنين كما حذفت في قول من قال: لاها الله ذا3.
وقال لي أبو علي: فيها أربع لغات: لاهَا لله ذا بحذف الألف، ولاهآ الله ذا بمدها تشبيهًا بالمتصل على ما مضى في دابة. ولاهآ ألله بإثبات ألف ها وهمزة الله بوزن لاها عَلَّاة ذا.
والرابعة: لاهَأللهِ ذا في وزن هَعَلّله ذا، تحرك ألف "ها" لالتقاء الساكنين وتقلبها همزة، كما قرأ أيوب السختياني: "ولا الضَّأَلِّين"، بوزن الضَعَلِّين. وعليه ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأَبَّة ومأَدَّة.
ومثله أيضًا قراءة أبي عمرو، ورويناها عن قطرب عنه: "قالوا اطَّيْرنا"4، وحُكي عن بعضهم: هذان عبدآ اللهِ.
__________
1 انظر: كتاب الضرائر للألوسي: 135.
2 انظر: الخصائص: 2/ 475.
3 كتب في الأصل كلمة "قصر" فوق "ها".
4 سورة النمل: 47.
(1/248)
________________________________________
وحُكي عنهم: له ثلثآ المال وهو أشد؛ لأنه غير مدغم.
وقال بعضهم: يآ الله، وبعضهم: يا ألله، وبعضهم: يألله، وبعضهم: ياْلله، فحذف ألف يا لالتقاء الساكنين.
ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وأبي العلاء بن الشخير ورويت عن أبي رجاء: "حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ"1، وقرأ: "الْجُمَل" -بضم الجيم وفتحة الميم مخففة- ابن عباس وسعيد بن جبير بخلاف وعبد الكريم وحنظلة ومجاهد بخلاف.
وقرأ: "الْجُمْل" -بضم الجيم وسكون الميم- ابن عباس وسعيد بن جبير بخلاف عنهما. "60و"
وقرأ: "الْجُمُل" -بضمتين والميم خفيفة- ابن عباس.
وقرأ أبو السمال: "الْجَمْل" مفتوحة الجيم ساكنة الميم.
قال أبو الفتح: "أما "الْجُمَّل" بالتثقيل و"الْجُمُل" بالتخفيف فكلاهما الحبل الغليظ من القنب، ويقال: حبل السفينة، ويقال: الحبال المجموعة، وكله قريب بعضه من بعض.
وأما "الْجُمْل" فقد يجوز في القياس أن يكون جمع جَمَل كأَسَد وأُسْد ووَثَن ووُثْن، وكذلك المضموم الميم أيضًا كأُسُد.
وأما "الْجَمْل" فبعيد أن يكون مخففًا من المفتوح لخفة الفتحة، وإن كان قد جاء عنهم قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْف صَفْقُهُ ... براجع ما قد فاته بِرِداد2
ومن ذلك قراءة عكرمة: "لا يَنَالُهُم اللَّهُ بِرَحْمَةٍ دَخَلُوا الْجَنَّةَ"3.
وقرأ طلحة بن مُصرِّف4: "بِرَحْمَةٍ أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ" أي: فُعِلَ ذلك بهم.
__________
1 سورة الأعراف: 40.
2 البيت للأخطل، وفي الهامش: وإن سلف. ورُوي: "مغبون" مكان "مبتاع"، و"يراجع" بالياء مكان "براجع" بالباء، و"بوداد" مكان "برداد". المبتاع: المشتري، الصفق: مصدر صفق البائع، إذا ضرب بيده على يد صاحبه عند المبايعة، والمراد إيجاب البيع، وضمير صفقه للمبتاع أو المغبون، الرداد بكسر الراء: مصدر راد البائع صاحبه إذا فاسخه البيع. وانظر: الديوان: 137، وشرح شواهد الشافية: 18-21.
3 سورة الأعراف: 49.
4 هو طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب أبو محمد، ويقال له: أبو عبد الله الهمداني الكوفي، تابعي كبير، له اختيار في القراءة ينسب إليه. قال العجلي: اجتمع قراء الكوفة في منزل الحكم بن عيينة فأجمعوا على أنه أقرأ أهل الكوفة، فبلغه ذلك، فغدا إلى الأعمش فقرأ عليه ليذهب عنه ذلك. أخذ القراءة عرضًا من إبراهيم بن يزيد النخعي والأعمش ويحيى بن وثاب، وروى القراءة عرضًا عنه الكسائي وغيره، ومات سنة 112. طبقات القراء: 1/ 343.
(1/249)
________________________________________
قال أبو الفتح: الذي في هاتين القراءتين خطابهم بقوله سبحانه: "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وطريق ذلك أن قوله: "أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ" الوقف هنا، ثم يُستأنف فيقال: "دَخَلُوا الجنة"، أو "أُدْخِلُوا الجنة" أي: قد دخَلوا أو أُدخلوا، وإضمار قد موجود في الكلام نحو قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} 1 أي: قد حصرت صدورهم؛ أي: فقد دخلوا الجنة، فقال لهم: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ، وقد اتسع عنهم حذف القول كقوله تعالى: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 2 أي: يقولون لهم: سلام عليكم، وقال الشاعر:
رَجْلان من ضبة أخبرانا ... إنا رأينا رجلًا عريانا3
أي قالا: إنا رأينا، ولذلك كَسَر. هكذا مذهب أصحابنا في نحو هذا من إضمار القول.
وقد يجوز أن يكون قوله: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُون} قولًا مرتجلًا لا على تقدير إضمار القول؛ لكن استأنف الله عز وجل خطابهم، فقال: "أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ"، كما استأنفه تعالى على القراءة المشهورة وهي: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} .
ومثله من ترك كلام إلى كلام آخَرَ بيتُ الكتاب، وهو قوله:
ألا يا بيتُ بالعلياء بيتُ4
ألا تراه حمله على أنه نادى البيت، ثم ترك خطابه وأقبل على صاحبه، فقال: بالعلياء بيتُ، ثم رجع إلى خطاب البيت فقال له:
ولولا حب أهلك ما أتيت
وسألني قديمًا بعض مَن كان يأخذ عني، فقال: لِمَ لا يكون "بيت" الثاني تكريرًا على الأول
__________
1 سورة النساء: 90.
2 سور الرعد: 23.
3 الخصائص: 2/ 338.
4 عجزه كما سيذكره بعد:
ولولا حب أهلك ما أتيت
وانظر: الكتاب: 1/ 312.
(1/250)
________________________________________
كقولك: يا زيد زيد، ويكون بالعلياء في موضع الحال من البيت الأول، كما كان قول النابغة:
يا دارَ ميةَ بالعلياء1
قوله: "بالعلياء" في موضع الحال؛ أي: يا دار مية عالية مرتفعة، فيكون كقوله:
يا بؤس للجهل ضَرَّارًا لأقوام2
هذا معنى ما أورده بعد أن سددت السؤال ومكنته، فقلت: لا يجوز ذلك هنا؛ وذلك أنه لو كان البيت الثاني تكريرًا على الأول لقال: لولا حُب أهلك ما أتيت، فيكون كقولك: يا زيد، لولا مكانك ما فعلت كذا، وأنت لا تقول: يا زيد، ولولا مكانك لم أفعل كذا3، فإذا بَطَلَ هذا ثبت ما قاله صاحب الكتاب من كونه كلامًا بعد كلام، وجملة تتلو جملة.
وهذا واضح، فقوله على هذا: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} جملة لا موضع لها من الإعراب من حيث كانت مرتجلة، وهي في القول الأول منصوب الموضع على الحال؛ أي: دخلوا الجنة أو أُدخلوا الجنة، مقولًا لهم هذا الكلام الذي هو: لا خوف عليكم، وحُذِفَ القول وهو منصوب على الحال، وأقيم مقامه قوله: "لا خوف عليكم" فانتصب "60ظ" انتصابه، كما أن قولهم: كلَّمته فاه إلى فِيّ منصوب على الحال؛ لأنه ناب عن: جاعلًا فاه إلى فِيّ، أو لأنه وقع موقع مشافهة التي هي نائبة عن مشافِهًا له.
ومن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق: "أو نُرَدَّ "4 بنصب الدال.
__________
1 البيت بتمامه:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
ورُوي: أعيت جوابًا وما بالربع من أحد. وروي هذا الشطر عجزًا لقوله:
وقفت فيه طويلًا كي أسائلها
وانظر: الكتاب: 1/ 364، وشرح المعلقات السبع للزوزني: 193.
2 صدره:
قالت بنو عامر خالوا بني أسد
والبيت للنابغة؛ يعني: ما كان من عزم بني عامر على قومه في مقاطعة بني أسد والدخول لي حلفهم، فجعلهم في ذلك. خالوا: تاركوا، ويقال للمطلقة: خلية. الكتاب: 1/ 364، والخصائص: 3/ 106.
3 أي: وقد قال الشاعر: ولولا حب.
4 سورة الأعراف: 53.
(1/251)
________________________________________
قال أبو الفتح: الذي قبله مما هو متعلق به قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} ، ثم قال: "أَوْ نُرَدَّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ" فعطف "نرد" على "يشفعوا"، وهو منصوب لأنه جواب الاستفهام وفيه معنى التمني؛ وذلك أنهم قد علموا أنه لا شفيع لهم، وإنما يتمنون أن يكون لهم هناك شفعاء، فيردوا بشفاعتهم، فيعملوا ما كانوا لا يعملونه من الطاعة؛ فيصير به المعنى إلى أنه كأنهم قالوا: إن نُرزق شفعاء يشفعوا لنا أو نُرْدَد، وتقديره مع رفع نرد على قراءة الجماعة: أن نُرزق شفعاء يشفعوا لنا، وإن نردد نعمل غير الذي كنا نعمل. وذلك أنهم مع نصب "نرد" تمنوا الشفعاء وقطعوا بالشفاعة، وتمنوا الرد أيضًا وضَمِنُوا عمل ما لم يكونوا يعملونه؛ أي: إن نُردد نعمل غير الذي كنا نعمل كأنه قال: أو هل نرد فنعمل.
فأما قوله سبحانه: "يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ"1، فقال فيه أبو الحسن: إنهم إنما تمنوا الرد، وضمنوا ألا يُكَذِّبُوا، وهذا يوجب النصب لأنه جواب للتمني، قال: إلا أنه عُطِفَ في اللفظ والمراد به الجواب، وشَبَّهه بقول الله سبحانه: "وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ"2 بالجر، قال: فهي في اللفظ معطوفة على المسح، وفي المعنى معطوفة على الغسل، قال ونحو منه: هذا حجر ضَبٍّ خربٍ. وقرأها الحسن: "أو تُريدُ فَنَعْملُ" فهو على هذه القراءة على أنهم تمنوا إرادته عز وجل إيمانَهم وعملَهم.
فإن قيل: وكيف يصح تمنيهم إرادتَه منهم الإيمانَ، ومعلوم أنه هو المراد منهم لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3 وغيره من الآي؟
قيل: يكون معناه إرادة اقتسار لهم على الإيمان لا رَدٍّ منه تعالى الأمر إليهم فيه، فيكون هذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} 4 أي: لو شاء مشيئة إلجاء أو إكراه لا عَرْض وترغيب.
وساغ في هذه القراءة تمنيهم العمل؛ إذ كان بلطف الله -عز وجل- لهم فيه وإعانته إياهم عليه.
__________
1 سورة الأنعام: 27.
2 سورة المائدة: 6.
3 سورة الذاريات: 56.
4 سورة يونس: 99.
(1/252)
________________________________________
وإن شئت قلت: عطَف "نعمل" بالرفع لفظًا وهو ينوي أنه جواب؛ أي: إن شاء الله ذلك مشيئة إلجاء عملنا لا محالة، فيعطفه لفظًا وهو يريد الجواب على ما مضى.
ومن ذلك قراءة حُميد: "يَغْشَى"1 بفتح الياء والشين، ونصب "الليل" ورفع "النهار"2.
قال أبو الفتح: اتصال قوله تعالى: "يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ" بقوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" اتصال الحال بما قبلها، ويكون هناك عائد منها إلى صاحبها وهو الله تعالى؛ أي: يَغشَى الليلَ النهارُ بأمره أو بإذنه، وحذف العائد كما يحذف من خبر المبتدأ في نحو قولهم: السَّمْنُ مَنَوان بدرهم؛ أي: منوان منه بدرهم.
ودعانا إلى إضمار هذا العائد أن تتفق القراءتان على معنى واحد؛ ألا ترى إلى قراءة الجماعة: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} ، وأن هذه الجملة في موضع الحال؛ أي: استوى على العرش مُغْشِيًا الليل النهار؛ أي: استوى عليه في هذه الحال "61و".
فقوله إذن: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} بدل من قوله: "يغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ" للتوكيد، وهو على قراءة الجماعة: "يُغْشِي" أو "يُغَشِّي" حال من الليل؛ أي: يُغَشِّي الليل النهار طالبًا له حثيثًا، وحثيثًا بدل من طالب أو صفة له؛ لأن طالبًا لو كان منطوقًا به حال هناك، والحال عندنا فوصف3 من حيث كانت في المعنى خبرًا، والأخبار توصف؛ لكن الصفات عندنا لا توصف.
وإن شئت يكون "حثيثًا" حالًا من الضمير في يطلبه، وفيه من بعد هذا ما أذكره؛ وذلك أن الفاعل في المعنى من أحد المفعولين في قراءة الجماعة هو الليل؛ لأنه المفعول الأول، كقولك: أعطيت زيدًا عمرًا، فزيد هو الآخذ وعمرو هو المأخوذ، وأغشيت جعفرًا خالدًا، فالغاشي جعفر والمغشيُّ هو خالد، والفاعل في قراءة حميد هو النهار؛ لأنه مرفوع: "يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ"، فالفاعلان والمفعولان جميعًا مختلفان على ما ترى.
__________
1 سورة الأعراف: 54.
2 قال في البحر المحيط: "وقرأ بالتضعيف الأخوان وأبو بكر، وبإسكان الغين باقي السبعة، وبفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام حميد بن قيس، كذا قال عنه أبو عمرو الداني.... قال ابن عطية: وأبو الفتح أثبت. انتهى، وهذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت كلام لا يصح؛ إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفة رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات ... ". 4/ 309.
3 كذا بالأصل، والأخفش يجيز زيادة الفاء في جميع خبر المبتدأ. شرح الكافية: 1/ 102.
(1/253)
________________________________________
ووجه صحة القراءتين جميعًا والتقاء معنَيَيْهما أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإن صاحبه أيضًا مُزيلٌ له، فكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولًا، ومفعول وإن كان فاعلًا. وعلى أن الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار؛ لأنه بسفوره وشروقه قد أظهر أثرًا في الاستحثاث من الليل. وبعدُ، فليس النهار إلا ضوء الشمس، والشمس كائنة محدثة، ولا ضوء قبل أن يخلقها لله جل وعز، فالضوء إذن هو الهاجم على الظلمة، ويطلبه حثيثًا، على هذا حال من النهار؛ لأنه هو الأحث منهما.
ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون يطلبه حالا من النهار وإن كان مفعولًا، كقولك: ضربتْ هندٌ زيدًا مؤلِمَة له، فقد يكون مؤلمة حالًا لزيد، كما قد يجوز أن يكون حالًا من هند؛ وذلك أن لكل واحد منهما في الحال ضميرًا. ومثله قول الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} 1، قد يجوز أن يكون "تحمله" حالًا منها، ويجوز أن يكون حالًا منه، وقد يجوز أيضًا أن يكون2 منهما جميعًا على قوله:
فلئن لقيتك خاليين لتعلما ... أيي وأيك فارسا الأحزاب؟ 3
ويجوز أيي وأيك فارسُ الأحزاب؛ أي: أينا فارس الأحزاب، فكذلك يكون قوله: يطلبه حثيثًا، حالًا منهما جميعًا على ما مضى؛ لأن لهما جميعًا فيه ضميرًا. ولو كان الآية فأتت به قومها تحمله إليه4 لجاز أن يكون ذلك حالًا منها، ومنه ومنهم جميعًا؛ لحصول ضمير كل واحد منهم في الجملة التي هي حال، فاعرف ذلك.
ولعمري إنك إذا قلت: أغشيتُ زيدًا عمرًا، فإن العرف أن يكون زيد هو الغاشي وعمرو هو المغشيّ، إلا أنه قد يجوز فيه قلب ذلك، لكن مع قيام الدلالة عليه، ألا ترى إلى قوله:
فدع ذا ولكن من ينالُك خيرُه ... ومن كان يعطي حقَّهن القَصائدا؟
أراد: يعطي القصائد حقهن، ثم قدم المفعول الثاني فجعله قبل الأول من حيث كانت القصائد هنا هي الآخذة في المعنى، ونحوه: كسوت ثوبًا زيدًا، ساغ تقديمه لارتفاع الشك فيه، وليس
__________
1 سورة مريم: 27.
2 في ك: أن يكون حالًا.
3 انظر: شرح الشواهد الكبرى للعيني بهامش الخزانة: 3/ 422.
4 الضمير للقوم.
(1/254)
________________________________________
كذلك يُغشي "61ظ" الليل النهار؛ من حيث كانا متساويي الحالين في الغِشْيان، وعلى كل حال فكل واحد منهما غاشٍ لصاحبه.
ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف وقتادة وأبي رجاء والجحدري وسهل بن شعيب1: "نُشْرًا"2 بضم النون وجزم الشين.
وقرأ: "بَشْرًا" -بفتح الباء ساكنة الشين- أبو عبد الرحمن بخلاف.
وقرأ: "بُشُرًا" -بالباء مضمومة منونين- ابن عباس والسلمي بخلاف وعاصم بخلاف.
وقرأ: "بُشْرى" -غير منونة على فُعْلَى- محمد بن السميفع وابن قطيب.
وقرأ: "نَشَرًا" -بفتح النون والشين- مسروق3.
قال أبو الفتح: أما "نُشْرًا" فتخفيف "نُشُرًا"4 في قراءة العامة، والنُّشُر جمع نَشُور؛ لأنها تَنْشُر السحاب وتستدرُّه، والتثقيل أفصح لأنه لغة الحجازيين، والتخفيف في نحو ذلك لتميم.
وأما "بُشُرًا" فجمع بشير؛ لأنه الريح تبشِّر بالسحاب.
وأما "بَشْرًا" فمصدر في موضع الحال، كقول الله تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} 5 أي: ساعيات، فكذلك "بَشْرًا" أي: باشرات في معنى مبشرات، يقال: بَشَرتُ الرجل أبشُرُه بَشْرًا، فأنا باشر وهو مبشور، وأبشرته أُبْشِرُه، فأنا مُبْشِر وهو مُبْشَر. وبشَّرتُه تبشيرًا، فأنا مُبَشِّر وهو مُبَشَّر. وبَشِر بالأمر يَبْشَر به، فهو بَشِرٌ، كفرح به يفرح فرحًا، وهو فَرِح، وأبشر هو أيضًا يُبْشِرُ إبشارًا، ومنه المثل السائر:
أبشر بما سرك عيني تختلج6
__________
1 هو سهيل بن شعيب الكوفي، عرض على عاصم بن أبي النجود وعلي أبي بكر بن عياش، وروى القراءة عنه عبد الله بن حرملة بن عمرو.
2 سورة الأعراف: 57.
3 هو مسروق بن الأجدع بن مالك أبو عائشة، ويقال: أبو هشام الهمداني الكوفي. أخذ القراءة عرضًا عن عبد الله بن مسعود، وروى عن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم. وروى القراءة عنه عرضًا يحيى بن وثاب. توفي سنة 63. طبقات القراء: 2/ 294.
4 هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب، ووافقهم ابن محيصن واليزيدي، كما في الإتحاف: 136.
5 سورة البقرة: 260.
6 انظر: أساس البلاغة "خلج".
(1/255)
________________________________________
والبِشَارَة: حسن البَشَرَة، قال أبو إسحاق: قيل لما يُفْرَح به بِشارة؛ لأن الإنسان إذا فرح حسنت بَشَرته.
فإن قيل: فإن البَشَرة قد يبين عليها الحسن تارة والقبح أخرى، فكيف خُص به هاهنا حسنها دون قبحها؟
قيل: من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يختصونه بالمدح اسم الجنس المطلق على جميع أجزائه المختلفة، ألا تراهم قالوا: لفلان خُلُق فخصوه بالمدح، وإن كان الخلق يكون قبيحًا كما يكون حسنًا؟
وقالوا للكعبة: بيت الله، والبيوت كلها لله، فخصوا باسم الجنس أشرف أنواعه.
وقالوا: فلان متكلم، يعنون به صاحب النظر، والناس كلهم متكلمون.
وأما "بُشْرَى" على فُعْلَى فمنصوبة على الحال أيضًا؛ أي: مُبِشِّرات على ما مضى.
وفي "نَشَرًا" فعلى حذف المضاف؛ أي: ذوات نشر، والنَّشَر أن تنتشر الغنم بالليل فترعى، فهذا على تشيبه السحاب في انتشاره وعمومه من هاهنا ومن هاهنا بالغنم إذا انتشرت للرعي.
ومن ذلك قراءة علي -عليه السلام- وابن عباس وابن مسعود وأنس بن مالك وعلقمة والجحدري والتيمي وأبي طالوت وأبي رجاء: "وَيَذَرَكَ وَإلَاهَتَكَ"1.
وقرأ: "ويَذَرْكَ" -بإسكان الراء- الأشهب.
وقرأ: "ويذرُك"2 نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف.
قال أبو الفتح: أما "إلَاهَتَك" فإنه عبادتك، ومنه الإله؛ أي: مستحق العبادة، وقد سميت الشمس إِلاهَة وأَلاهة3؛ لأنهم كانوا يعبدونها، ويقال: تَأَلَّه تألهًا. قال رؤبة:
سبَّحن واسترجعن من تألهي4
__________
1 سورة الأعرف: 127.
2 قال في البحر المحيط 4/ 367: وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه: "ويذرُك" بالرفع عطفًا على أتذر.
3 في القاموس المحيط أنه مثلت.
4 قبله:
لله در الغانيات المده
المده: من مدهه يمدهه مدهًا، مثل مدحه. وانظر: الديوان: 165، واللسان "مده، وأله".
(1/256)
________________________________________
أي: عبادتي، ويقال: لاهِ أبوك، ولهْ أبوك، ولَهْيَ أبوك ولَهِ أبوك، وفي تصريفها بعض الطول؛ فندعه تخفيفًا.
وأما "ويذَرُك" بالرفع فعلى الاستئناف "62و" أي: فهو يذرك.
وأما "يذَرْك" بالإسكان فيمن "يذَرُك"، كقراءة أبي عمرو: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرْكُمْ"1.
وحكى أبو زيد: "رُسُلْنا" بإسكان اللام استثقالًا للضمة مع توالي الحركات، ولم يسكن أبو عمرو "يَأْمُرُهم" كما أسكن "يأمرُكم"؛ وذلك لخفاء الهاء وخفتها فجاء الرفع على واجبه. وليست الكاف في "يأمركم" بخفِّيه ولا خفيفة خفة الهاء ولا خفاءها، فثقل النطق بها فحذف ضمتَها.
ومن ذلك قراءة الحسن: "إنما طَيْرُكُمْ2 عند الله"3.
قال أبو الفتح: الطير جمع طائر في قول أبي الحسن، وفي قول صاحب الكتاب: اسم للجمع، بمنزلة الجامل والباقر غير مكسَّر.
وروينا عن قطرب في كتابه الكبير أن الطير قد تكون واحدًا، كما أن الطائر الذي يقرأ به الجماعة واحد، وعلى أنه قد يكون الطائر جِمَاعًا بمنزلة الجامل والباقر. وأنشد ابن الأعرابي:
وبالعثانين وبالحناجر ... كأنه تَهتانُ يومٍ ماطرِ
على رءوسٍ كرُءوس الطائر4
ومن ذلك قراءة الحسن: "عَلَيْهِمُ الْقَمْل"5 بفتح القاف، وسكون الميم.
قال أبو الفتح: "القَمْل" هنا: هو هذا المعروف، ولا يجوز أن يكون تحريف القُمَّل، ولا لغة
__________
1 سورة النساء: 58.
2 كذا في الأصل، والكشاف: 1/ 342، وفي البحر المحيط: 4/ 37، وإتخاف فضلاء الشر: 138: "طيرهم".
3 سورة الأعراف: 131.
4 العثانين: جمع عثنون وهو اللحية أو ما فضل منها بعد العارضين أو ما نبت علي الذقن وتحته سفلًا أو هو طولها، وشعيرات طوال تحت حنك البعير. وقد أورد البيت الأخير غير معزو في الخصائص: 2/ 490.
5 سورة الأعراف: 133، وأولها: فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل ...
(1/257)
________________________________________
فيه، كالجمْل والْجُمَّل في قراءة من قرأ: "حَتَّى يَلِجَ الْجَمْلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"؛ لأن لهذا وجهًا قائمًا معروفًا، وهو هذا القَمْل المعروف.
ومن ذلك قراءة الحسن أيضًا: "سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ"1.
قال أبو الفتح: ظاهر هذه القراءة مردود؛ لأنه سأُفْعِلُكم من رأيتُ، وأصله: سَأُرْئِيكُم، ثم خففت الهمزة بحذفها وإلقاء حركتها على الراء، فصارت سأُريكم. قالوا: وإذن لا وجه لها، ونحو من هذا قراءته أيضًا: "ولا أَدْرَأْتُكُم به"، إلا أن له وجهًا ما، هو أن يكون أراد: "سأُرِيكم" ثم أشبع ضمة الهمزة فأنشأ عنها واوًا، فصارت "سَأُورِيكم".
وقد جاء من هذا الإشباع الذي تنشأ عنه الحروف شيء صالح نثرًا ونظمًا، فمن المنثور قولهم: بينا زيد قائم جاء عمرو، إنما يراد بين أوقات زيد قائم جاء فلان، فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفًا. ومثله قول عنترة:
يَنْبَاع من ذِفْرَى غَضوب جسرة2
أراد: ينبع، فأشبع فتحة الباء فنشأت عنها ألف كما ترى، على هذا حمله لنا أبو علي سنة إحدى وأربعين، وقد قال الأصمعي مع ذلك يقال: انباع الشجاع ينباع انبياعًا إذا انخرط ماضيًا من الصف.
وأخبرنا أبو علي عن أحمد بن يحيى أنه قال: يقال: جِيء به من حيثُ ولَيْسا3.
ورَوى الفراءُ عن بعضهم أنه سمعه يقول: أكلت لحما شاة، وهو يريد: لحم شاة، فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفًا، وهو اعتراض بين المضاف والمضاف إليه علي ضيق الوقت وقصره بينهما. ومنه المسموع عنهم في الصياريف والدراهيم4، وأنشدنا أبو علي:
__________
1 سورة الأعراف: 145.
2 عجزه:
زيافة مثل الفنيق المكدم
وانظر الصفحة 164 من هذا الجزء.
3 أشبع فتحة ليس. وانظر: الخصائص: 3/ 123.
4 يشير إلى قول الفرزدق:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقادُ الصياريف
ويُروى: "الدراهم" مكان "الدراهيم"، وانظر: الديوان: 570.
(1/258)
________________________________________
وأنني حيثما يسري الهوى بصري ... من حَوْثُما سلكوا أثنى فأَنظور1
يريد: فأنظره، فأشبع الضمة فأنشأ عنها واوًا، هكذا رواه أبو علي يسري من سريت، ورواه ابن الأعرابي "62 ظ": يشري -بالشين معجمة- أي: يُقلق ويحرك الهوى بصري، وما أحسن هذه الرواية وأطرفها! وأنشد غيرهما:
عَيْطاء جَمَّاء العِظَام عُطْبولْ ... كأَن في أنيابها القَرَنْفولْ2
يريد: القَرَنْفُل، فإذا جاز هذا ونحوه نظمًا ونثرًا ساغ أيضًا أن يُتأول لقراءة الحسن: "سأُورِيكُمْ"، أراد: سأُرِيكم وأشبع ضمة الهمزة فأنشأ عنها واوًا، وهو أبو سعيد، والمأثور من فصاحته ومتعالَم قوة إعرابه وعربيته! فهذا مع ما فيه من نظائره أمثل من أن يُتلقي بالرد صِرفًا غير منظور له ولا مسعيٍّ في إقامته. وزاد في احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ، فمُكن الصوت فيه وزاد إشباعه واعتماده، فأُلحقت الواو فيه لما ذكرنا.
ومن ذلك قراءة مجاهد: "فَلا تَشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ"3، وقرأ أيضًا: "فَلا يَشْمَتْ بِيَ الْأَعْدَاءُ".
قال أبو الفتح: الذي رويناه عن قطرب في هذا أن قراءة مجاهد: "فَلا تَشْمَتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ" رفع -كما ترى- بفعلهم، فالظاهر أن انصرافه إلى الأعداء، ومحصوله: يا رب، با تُشْمِتْ أنت بي الأعداء، كقراءة الجماعة.
فأما مع النصب فإنه كأنه قال: لا تَشْمَتْ بي أنت يا رب، وجاز هذا كما قال سبحانه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 4 ونحوه مما يجري هذا المجرى، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلًا نصب به الأعداء5، فكأنه قال: لا تُشْمِتْ بي الأعداء، كقراءة الجماعة.
__________
1 ينسبه الزوزني في شرح المعلقات السبع "144" إلى إبراهيم بن هرمة.
يُروى: "وأنني حوثما يثني"، ويُروى: "يشري" بالشين مكان "يسري"، ويروى: "حيثما" في الشطرين، وحوث: لغة في حيث، ويشري مضارع اشريته، متعدي شري البرق من باب فرح إذا كثر لمعانه، وشري زمام الناقة إذا كثر اضطرابه، وانظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 3، والخزانة: 1/ 58.
2 رُوي: "ممكورة جم العظام"، العيطاء: الطويلة العنق، والمكمورة: المطوية الخلق من النساء، العطبول: المرأة الفتية الجميلة العنق. وانظر: الخصائص: 3/ 124، واللسان "قرنفل".
3 سورة الأعراف: 150، وقراءة مجاهد هذه برفع "الأعداء " ونصبها.
4 سورة البقرة: 15.
5 قال في البحر المحيط 4/ 396: وهذ خروج عن الظاهر، وتكلف في الإعراب. وقد روي: تعدى يشمت لغة، فلا يتكلف أنها لازمة مع نصب الأعداء، وأيضًا قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم} إنما ذلك على سبيل المقابلة لقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون} فقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم} ، وكقوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} ، ولا يجوز ذلك ابتداء من غير مقابلة.
(1/259)
________________________________________
ومن ذلك قراءة أبي وَجْزَة السعدي: "هِدْنا إليك"1.
قال أبو الفتح: أما "هُدْنا" بضم الهاء مع الجماعة فتُبْنَا، والْهُود: جمع هائد؛ أي: تائب.
وأما "هِدْنا" بكسر الهاء في هذه القراءة فمعناه انجذبنا وتحركنا، يقال: هادَني يهيدُني هيْدًا؛ أي: جذبني وحركني، فكأنه قال: إنا هِدْنا أنفسنا إليك2، وحركناها نحو طاعتك.
قال:
أَلِمَّا عليها فانعَيانِيَ وانظرا ... أينصتها أم لا يُهيِّدُها ذِكْري
أي: أم لا يهيجها ويهزها ذكري، ومنه قولهم في زجر الإبل: هِيد؛ أي: أسرعي. قال ذو الرمة:
إذا حداهن بهيدٍ هِيدِ ... صفحْن للأزرار بالخدود3
ومن ذلك قال ابن رومي4: حدثني أحمد بن موسى، وحدثني الثقة عنه أنه قرأ: "النَّبِيَّ الْأَمِّيَّ"5 بفتح الهمزة، يقول: يأْتم به مَنْ قبله.
قال أبو الفتح: هذا منسوب إلى مصدر أَمَمت الشيء أَمًّا، كقولك: قصدته قصدًا، ثم أضيف إليه عليه السلام، هذا على هذا التفسير الذي سبق ذكره.
وقد يجوز مع هذا أن يكون أراد الأُمي بضم الهمزة كقراءة الجماعة، ثم لحقه تغيير النسب، كقولهم في الإضافة إلى أُميَّة: أَموى، بفتح الهمزة، وكقولهم في الدهر: دُهْرِي، وفي الأمس: إِمْسِي، وفي الأفق: أَفَقِي بفتح الهمزة، وهو باب كبير واسع عنهم.
__________
1 سورة الأعراف: 156.
2 في ك: إليك أنفسنا.
3 هيد وهيد "بفتح الهاء وكسرها": من زجر الإبل واستحثاثها. صفحن: نظرن بصفاح خدودهن, الأزرار: الحلق التي تجعل في أنوف النوق، وتعقد فيها الأزمة. وانظر: الديوان: 161، وأراجيز العرب للبكري: 69.
4 هو محمد بن عمر بن عبد الله بن رومي، ويقال: فيروز، أبو عبد الله البصري، مقرئ جليل. أخذ القراءة عرضًا عن العباس بن الفضل وأبي محمد اليزيدي، وهو من أجل أصحابهما، وروى عن أحمد بن موسى اللؤلئي وعن الكسائي حروفهما. وروى الحروف عنه محمد بن عبيد بن عقيل وعلي بن الحسن. طبقات القراءة: 2/ 218.
5 سورة الأعراف: 157.
(1/260)
________________________________________
ومن ذلك قراءة الحسن وعمرو1 الأسواري: "أُصيبُ به مَن أَسَاءَ"2.
قال أبو الفتح: هذه القراءة أشد إفصاحًا بالعدل من القراءة الفاشية التي هي: "مَن أشاء"؛ لأن العذاب "63و" في القراءة الشاذة مذكور علة الاستحقاق له، وهو الإساءة، والقراءة الفاشية لا يُتناول من ظاهرها علة أصابة العذاب له، وأن ذلك لشيء يرجع إلى الإنسان، وإن كنا قد أحطنا علمًا بأن الله تعالى لا يظلم عباده، وأنه لا يعذب أحدًا منهم إلا بما جناه واجترمه على نفسه، إلا أنا لم نعلم ذلك من هذه الآية؛ بل من أماكن غيرها. وظاهر قوله تعالى: {مَنْ أَشَاء} بالشين معجمة ربما أوهم من يضعف نظره من المخالفين أنه يعذب من يشاء من عباده، أساء أو لم يسئ، نعوذ بالله من اعتقاد ما هذه سبيله، وهو حسبنا وولينا.
ومن ذلك قراءة الجحدري وسليمان التيمي وقتادة: "وعَزَرُوه"3 خفيفة الزاي.
قال أبو الفتح: مشهور اللغة في ذلك: عزَّرت الرجل: أي عظمته، وهو مشدد، وقد قالوا: عَزَرتُ الرجل عن الشيء بتخفيف الزاي إذا منعته عن الشيء، ومنه سمي الرجل: عَزْرة؛ فقد يجوز أن يكون "وعزَرُوه" على هذه القراءة؛ أي: منعوه وحجزوا ذكره عن السوء، كقوله: سبحان الله، ألا ترى أن أبا الخطاب فسره فقال: براءة الله من السوء؟ فبرَّأْته من الشيء وحجزته عنه بمعنى واحد.
ومن ذلك قراءة يحيى والأعمش وطلحة بن سليمان: "عَشِرة"4، وقرأ "عشَرة" بفتح الشين بخلاف.
قال أبو الفتح: أما "عشِرة" بكسر الشين فتميمية، وأما إسكانها فحجازية.
واعلم أن هذا موضع طريف؛ وذلك أن المشهور عن الحجازيين تحريك الثاني من الثلاثي إذا كان مضمومًا أو مكسورًا، نحو: الرسُل والطنُب والكبِد والفخِذ، ونحو: ظرُف وشرُف وعلِم وقدِم. وأما بنو تميم فيسكنون الثاني من هذا ونحوه، فيقولون: رُسْل وكُتْب وكَبْد وفَخْذ، وقد ظَرْف وقد عَلْم، لكن القبيلتين جميعًا فارقتا في هذا الموضع من العدد معتاد لغتهما، وأخذت كل
__________
1 هو عمرو بن فايد أبو علي الأسواري البصري، وردت عنه الرواية في حروف القرآن. روى عنه الحروف حسان بن محمد الضرير وبكر بن نصار العطار. مما روى عنه: "إياك نعبد وإياك" بتخفيف الياء. طبقات القراء: 1/ 602.
2 سورة الأعراف: 156، 157.
3 سورة الأعراف: 157.
4 سورة الأعراف: 160.
(1/261)
________________________________________
واحدة منهما لغة صاحبتها وتركت مألوف اللغة السائرة عنها، فقال أهل الحجاز: اثنتا عشْرة بالإسكان، والتميميون عشِرة بالكسرة.
وسبب ذلك ما أذكره؛ وذلك أن العدد موضع يَحْدث معه ترك الأصول، وتُضم فيه الكلم بعضه إلى بعض، وذلك من أحد عشر إلى تسعة عشرة، فلما فارقوا أصول الكلام من الإفراد وصاروا إلى الضم فارقوا أيضًا أصول أوضاعهم ومألوف لغاتهم، فأسكن من كان يحرك، وحرك من كان يسكن، كما أنهم لما حذفوا هاء حنيفة للإضافة حذفوا معها الياء، فقالوا: حنفي، ولما لم يكن في حنيف هاء تحذف فتحذف لها الياء قالوا فيه: حنيفي، كقولهم: الجاه، وأصله عندنا الوجه، فقلبوه فقدموا العين على الفاء، وكان قياسه أن يقولوا: جَوْه، إلا أنهم لما قلبوا شجُعوا عليه فغيروا بناءه. فأصاروه من جَوْه إلى جَوَه، فانقلبت الواو التي هي فاء في موضع العين ألفًا لانفتاح ما قبلها وحركتها، فصارت جاه كما ترى.
وحسَّن ذلك لهم أيضًا ما أذكره؛ وهو أنهم قد علموا أنهم إذا حركوا الواو وقبلها فتحة انقلبت ألفًا وهي "63ظ" ساكنة كما تعلم أبدًا، فصار عودهم إلى سكون الحرف مسوغًا لهم تحريكه المؤدي إلى سكونه، حتى كأنهم لم يحدثوا في الحروف حدثًا.
فإن قيل: فهلا أقروا الواو على سكونها، واستغنوا بذلك عن تحريكها المؤدي إلى سكون الحرف المنقلب عنها وهو الألف.
قيل: الذي فعلوه أصنع؛ وذلك أنهم إذا قلبوه ألفًا صار بمنزلة وجود الحركة فيه؛ لأن الألف في نحو هذا لا تنقلب إلا عن حركة وهي مع هذا ساكنة، فاجتمع لهم في الألف أمران:
أحدهما: تحريك الساكن لما عَرَض لهم هناك في القلب على عادتهم في إلحاق التحريف1 بعضه ببعض.
والآخر: سكون الألف لفظًا مع ما قدمناه من اعتقاد تحريكها معنى.
وإذا أدى الحرف الساكن مع خفته تأدية المحرَّك على ثقله، فتلك صنعة مأْنوس بها مُعْتَمَدٌ مثلها، وما لحقه تغيير ما فدعا ذاك إلى إلحاقه تغييرًا ثانيًا كثير في اللغة جدًّا، ألا ترى إلى أحد قولي سيبويه في أَينُق: إن الياء فيها بدل من الواو التي هي عين في أصل الكلمة؛ وذلك أن أصلها أَنْوُق، وقد حكاها الفراء فيما رويناه عنه، فقدمت العين على الفاء فصار تقديرها أونق، فلما تقدمت العين على الفاء فتوهنت بذلك قلبوها ياء فقالها: أينق، وكذلك لما أَعلُّوا
__________
1 المراد: التغيير والميل عن المعتاد في الاستعمال.
(1/262)
________________________________________
فاء الفعل من اتقى بأن أبدلوها تاء وأدغموها في تاء افتعل أعلُّوها أيضًا بالحذف، فقالوا: تَقَى يَتْقِي. ومثله ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر1:
قَصَرْتُ له القبيلة إذا تَجهْنا ... وما ضافت بشدته ذراعي
فيمن رواه بفتح الجيم2، ألا ترى أن وزنه افتعلنا من الوجه اوتَجَهْنا، فلما أُبدلت الواو تاء وأدغمت في تاء افتعل فصارت اتجه، شجُعوا على أن حذفوها أيضًا فقالوا: تَجَه؟ فوزن تَجَه الآن على لفظه تَعَل، ومضارعه يتَجِه، ومثاله يتَعِل، وكذلك تَقَى فَعَل، والجاه وزنه على اللفظ بسكون الألف عَفْل، وهو قبل القلب عَفَل؛ لأنه صار من جَوْه إلى جَوَه، وأصله الأول فعْل لأنه وَجْه، ولولا إشفاقي من الإطالة لبسطت هذا ونحوه بسطًا يونِقُ عارفيه وأهله، وفيما ذكرنا دليل على ما أُغفل.
وأما "اثنتا عشَرة" بفتح الشين فعلى وجه طريف؛ وذلك أن قوله: "اثنتي" يختص بالتأنيث، و"عشَرة" بفتح الشين تختص بالتذكير، وكل واحد من هذين يدفع صاحبه. وأقرب ما تُصرف هذه القراءة إليه أن يكون شبَّه اثنتي عَشَرة بالعقود ما بين العشرة إلى المائة، ألا تراك تقول: عشرون وثلاثون، فتجد فيه لفظ التذكير ولفظ التأنيث؟ أما التذكير فالواو والنون، وأما التأنيث فقولك: ثلاث من ثلاثون؛ ولذلك صلحت ثلاثون إلى التسعين للمذكر والمونث فقلت: ثلاثون رجلًا وثلاثون امرأة، وتسعون غلامًا وتسعون جارية، فكذلك أيضًا هذا الموضع.
ألا تراه قال تعالى: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} ؟ 3 فـ"أَسْبَاطًا" يؤذن بالتذكير، و"أمم" يؤذن بالتأنيث، وهذا واضح.
وحَسُن تشبيه اثنتي عشرة "64و" برءوس العقود دون المائة من حيث كان إعراب كل واحد منهما بالحرف لا بالحركة، وذلك اثنتا عشْرة واثنتي عشْرة، فهذا نحو من قولهم: عشرون وعشرين، وخمسون وخمسين، وتسعون وتسعين، فافهمه.
ومما يدلك على أن ضم أسماء العدد بعضها إلى بعض يدعو إلى تحريفها عن عادة استعمالها قولهم: أحد عشر رجلًا وإحدى عشرة امرأة، وكان قياس أربع وأربعة وخمس وخمسة أن يكون
__________
1 لمرداس بن حصين من بني عبيد اله بن كلاب، شاعر جاهلي. قصرت: حبست، القبيلة: اسم فرسه.
2 هو الأصمعي، ورواية أبي زيد "تجهنا" بكسر الجيم. وانظر: النوادر: 6، 7، والخصائص: 2/ 286، واللسان "وجه".
3 سورة الأعراف: 160.
(1/263)
________________________________________
هذا أَحد وأَحَدة، أفلا ترى إلى إحدى -وهي فِعْلَى وأصلها وِحْدى- كيف عاقبت في المذكر فعلًا، وهو أحد وأصله وَحَد؟
فأما إحدى وعشرون إلى التسعين فإنه لما سبق التحريف إليها في إحدى عشرة ثبت فيها فيما بعد.
ومن ذلك ما رواه قتادة عن الحسن: "وقولوا حِطَّةً"1 بالنصب.
قال أبو الفتح: هذا منصوب عندنا على المصدر بفعل مقدر؛ أي: احْطُطْ عنا ذنوبنا حِطَّةً.
قال:
واحطُط إلهي بفضلٍ منك أوزاري
ولا يكون "حطة" منصوبًا بنفس قولوا؛ لأن قلت وبابها لا ينصب المفرد إلا أن يكون ترجمة الجملة، وذلك كأن يقول إنسان:" لا إله إلا الله، فتقول أنت قلت: حقًّا؛ لأن قوله: لا إله إلا الله حق، ولا تقول: قلت زيدًا ولا عمرًا، ولا قلت قيامًا ولا قعودًا، على أن تنصب هذين المصدرين بنفس قلت لما ذكرته.
ومن ذلك قراءة شهر بن حوشب2 وأبي نهيك3: "يَعَدُّونَ فِي السَّبْت"4.
قال أبو الفتح: أراد يعتدون، فأسكن التاء ليدغمها في الدال، ونقل فتحتها إلى العين، فصار يعَدُّون، وقد مضى مثله في يَخَصِّف5.
ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة وأبي عبد الرحمن والحسن واختلف عن نافع: "بعَذابٍ بِيسٍ"6 فعل بلا همز، و"بِئْسٍ" وهي قراء السلمي بخلاف، ويحيى وعاصم بخلاف،
__________
1 سورة الأعراف: 161.
2 هو شهر بن حوشب أبو سعيد الأشعري الشامي ثم البصري، تابعي مشهور. عرض عليه أبو نهيك علباء بن أحمر، ومات سنة 100، وقيل غير ذلك. طبقات القراء: 1/ 329.
3 هو علباء بن أحمر أبو نهيك اليشكري الخراساني، له حروف من الشواذ تنسب إليه، وقد وثقوه، عرض على شهر بن حوشب وعكرمة مولى ابن عباس. وروى عنه داود بن أبي الفرات وغيره، وروى عنه حروفه أبو المهلب العتكي، وقد خرج مسلم حديثه. طبقات القراء: 1/ 515.
4 سورة الأعراف: 163، وقراءة الجماعة: {يَعْدُونَ} بفتح الياء وسكون العين.
5 انظر الصفحة: 245، والآية "يَخْصِفَانِ"، وهذه قراءة الحسن فيما روى عنه محبوب، ورُويت عن ابن أبي بردة ويعقوب. البحر المحيط: 4/ 280.
6 سورة الأعراف: 165.
(1/264)
________________________________________
والأعمش بخلاف، وعيسى الهمداني.
"بَيْئِسٍ" مثل فَيْعِل ابن عباس وعاصم بخلاف.
"بَيْئَس" طلحة بن مصرف.
وقرأ أبو رجاء: "بائس "، و"بَيَسٍّ" وزن فَعَلٍّ.
وقراءة نصر بن عاصم وجُؤيَّة1 بن عائذ: و"بَأْس"2 ورُوي عن مالك بن دينار أيضًا.
و"بَيِّسٍ" وزن فَعِّلٍ، يروى عن نصر بن عاصم أيضًا.
و"بئِس " وزن فعِل قراءة زيد بن ثابت و"بِئْس".
ومما رويت عن الحسن و"بَيْس "، ورويت عن نافع أيضًا.
قال أبو الفتح: أما "بِيس" بغير همز على وزن فِعْل فيحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون أراد مثال فِعْل، فيكون كما جاء من الأوصاف على فِعْل، نحو: نِضْو3 ونِقْض4 وحِلْف، وأصله الهمز كقراءة مَن قرأ "بِئْسٍ" بالهمز، إلا أنه خفف فأبدل ياء فصارت "بيس" كبِير وذيبٍ، فيمن خفف.
والآخر: أن يكون أراد فَعِلًا، فأصله بَئِس كمَطِر وحَذِر، ثم أسكن ونقل الحركة من العين إلى الفاء كالعبرة فيما كان على فَعِل وثانيه حرف الحلق كفخِذ ونغِر5 وجئِز6، فصار إلى بِئس، ثم خفف فقال: بِيس، على ما مضى.
وأما "بَئِس" على فَعِل فجاء على قولهم: قد بَئِس الرجل بآسةً: إذا شَجُعَ، فكأنه عذاب مُقدِم عليهم وغير متأخر عنهم.
وقد يجوز أيضًا أن يكون "بَئِس" مقصورًا من بئيس كالقراءة "64ظ" الفاشية، كما قالوا في لبيق: لَبق، وفي سيمج سَمج.
وأما "بَيْئِس" على فَيْعِل ففيه النظر؛ وذلك أن هذا البناء مما يختص به ما كان معتل العين كسيِّد وهين ودين ولين، ولم يجئ في الصحيح، وكأنه إنما جاء في الهمزة لمشابهتها حرفي العلة، والشبه بينها وبينهما من وجوه كثيرة.
__________
1 هو جؤية بن عاتك، ويقال: ابن عائذ، أبو أناس -بضم الهمزة ونون بعدها- الأسدي الكوفي. روى القراءة عن عاصم، وذكر الداني أن له اختيارًا في القراءة. طبقات القراء: 1/ 199.
2 الواو هنا لا محل لها، فالآية {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} .
3 النضو: المهزول.
4 النقض: المنقوض.
5 النغر: الذي غلا جوفه وغضب، والفعل كفرح.
6 الجئز: الغصان.
(1/265)
________________________________________
وأما "بَيْسٍ" في وزن جَيْشٍ فطريق صنعته أنه أراد بَئِس، فخفف الهمزة فصارت بين بين؛ أي: بين الهمزة والياء، فلما قاربت الياء ثقلت فيها الكسرة فأسكنها طلبًا للاستخفاف، فصارت في اللفظ ياء، كما خففوا نحو صَيِدَ البعير، فقالوا: صيْدَ وإن كنت العين في صيِد ياء محضة وكانت في بَئِس همزة مخففة، إلا أنه شبهها بياء صَيِد لما ذكرنا من مقاربتها في اللفظ الياء، ونحو من ذلك قول ابن ميادة:
فكان يوْميْذٍ لها حكمُها
أراد: يومئذ، فخفف فصارت الهمزة بين بين وأشبهت الياء فأسكنها، فقال: "يَوْمَيْذٍ"، فهذا كبَيْسٍ على ما ترى.
وقد يجوز أن يكون أراد تخفيف بَيْئِس، فصارت بَيِس ثم أسكن تخفيفًا، كقولهم في عَلِمَ: عَلْم، وفي كلمة: كَلْمة، وفي فَخِذ: فَخْذ، ومثال بيْس على هذا فَيْل.
فأما "بائس" فاسم الفاعل من بئِس على ما قدمنا ذكره.
وأما "بَيَس"1 فطريف، وظاهر أمره أن يكون جاء على ماضٍ مثالُه فَيْعَل كهَيْنَم2، ثم خففت الهمزة فيه وأُلقيت حركتها على الياء فصار بَيَس، وجاز اعتقاد هذا الفعل وإن لم يظهر كأشياء تثبت تقديرًا ولا تبرز استعمالًا.
وأما "بَيِّس" بتشديد الياء وكسرها، فليس على فَعِّل كما ظن ابن مجاهد؛ بل هو على فَيْعِل تخفيف بيئِس على قول من قال من تخفيف سوءَة: سَوَّة، وفي تخفيف شيء: شيّ، فأبدل الهمزة على لفظ ما قبلها، وعليه قول الشاعر:
يعجل ذا القباضة الوحِيَّا ... أن يرفع المئزر عنه شَيَّا3
فصار بَيِّس كما ترى.
وأما "بأْسٍ" فتخفيف بَئِس، كقولك في سَئِم: سأْم، وفي علِم عَلْم.
وأما "بَيْس" فالعمل فيه من تخفيف الهمزة ثم إسكانها فيما بعد كالعمل في "بَيْسٍ" وهو يريد الاسم، وقد مضى ذلك.
__________
1 لم يذكر هذا الوجه فيما سبق.
2 الهينمة: الصوت الخفي.
3 القباضة: الانكماش والسرعة، الوحي: السريع، وورد الشاهد غير معزوٍّ في كل من اللسان والصحاح "قبض".
(1/266)
________________________________________
وأما "بِئِس" فعلى الإتباع مثل: فِخِذ وشِهِد. قال أبو حاتم في قراءة بعضهم: "بِئيَس"، فهذا في الصفة بمنزلة حِذْيم1 فِعْيَل، وكذا مثَّله أبو حاتم أيضًا.
وحكى أبو حاتم أيضًا "بِئِيس" كشِعِير وبِعِير، فكسر أوله لكسر الهمزة بعده.
وحكى أيضًا فيها "بَئِّس" فَعِّل، وأنكرها فردها ألبتة، وأنكر قراءة الحسن: "بِئْس" وقال: لو كان كذا لما كان بُدٌّ معها من "ما" بئِسما كنعم ما.
ومن ذلك قراءة زهير عن خُصَيف: "مِنْ ظُهورهم ذُرِّيئَتَهم"2 واحدة مهموزة.
قال أبو الفتح: هذا يمنع مِن تَأَوُّل الذرية فيمن لم يهمز أنها من الذر أو من ذَرَوت أو من ذَرَيْت، ويقطع بأنها من ذَرَأْتُ؛ أي: خلقتُ.
فإن قلت: فهلا أجزْتَ أن تكون من الذَّر وجعلتها فُعْلِيَّة غير أنها همزت كما وجد بخط الأصمعي: قَطًا جؤني3.
قيل: هذا من الشذوذ؛ بحيث لا يُسمع أصلًا، فضلًا عن "65و" أن يتخذ قياسًا.
ومن ذلك قراءة السلمي: "وادَّارسُوا ما فيه"4، وعباس عن الضبي عن الأعمش: "وادَّكَروا ما فيه".
قال أبو الفتح: "ادَّارسُوا" تدارسوا، كقوله: "ادَّاركوا"5، والعمل فيهما واحد، وقد تقدم.
__________
1 الحذيم: القاطع.
2 سورة الأعراف: 172.
3 القطا الجوني: ضرب من القطا سود بطون الأجنحة والقوادم، قصار الأذناب، وأرجلها أطول من أرجل الكدري، وأجسامها أضخم، تعدل جونية بكدريتين، وفي الأصل: جونيء، وهو تحريف؛ ففي المخصص 8/ 157 قال -يعني: أبا حاتم: ووجد في بعض رقاع الأصمعي بعد موته: بعض العرب يهمز الجوني، ولم يقله غيره. الفارسي: هو على توهم الضمة التي في الجيم واقعة على الواو. ومثله قراءة مَن قرأ: "فاستوى على سؤقه". وحُكي عن أبي العباس أنه قال: كان أبو حية النميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة ...
وفي اللسان مثله نقلًا عنه بتصرف، وانظر الخصائص: 3/ 146، وكأن وجه المشابهة التي عقدها ابن جني بين ذريئتهم وجؤني هو مطلق الهمز القليل في كلتا الكلمتين، دون تقيد بنوع الحرف المهموز ولا بمكانه من الكلمة التي جاء فيها.
4 سورة الأعراف: 169.
5 سورة الأعراف: 38، وانظر الصفحة 247 من هذا الجزء.
(1/267)
________________________________________
وأما "وادَّكرُوا" فأراد تذكروا، وهذا كقوله تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} 1.
ومن ذلك قراءة السُّلمي: "إيَّان مرساها"2 بكسر الهمزة.
قال أبو الفتح: أما "أَيَّان" بفتح الهمزة فَفَعْلان، وبكسرها فِعْلان، والنون فيهما زائدة حملًا على الأكثر في زيادة النون في نحو ذلك.
فإن قيل: فهلا جعلتها فَِعَّالا من لفظ أين، قيل: يمنع من ذلك أن أيان ظرفُ زمان وأين ظرف مكان؛ لكنها ينبغي أن تكون من لفظ "أي"؛ لما ذكرناه من اعتبار زيادة النون في نحو هذا.
ولأن "أيًّا" استفهام كما أن "أَيان" استفهام، وأن "أَيّ" أين كانت فهي بعض من كل، والبعض لا يخص زمانًا من مكان ولا جوهرًا من حدث، فحملها على "أي" أولى من حملها على أين.
وقد كنا قلنا في أي هذه: إنها من لفظ أَوَيْتُ ومعناه.
أما اللفظ فلأن باب طويت وشويت أضعاف باب حَيِيت وعَيِيت.
وأما المعنى فلأن البعض آوٍ إلى الكل ومتساند إليه، فهي إذن من قوله:
يأْوي إلى مُلْطٍ له وكَلْكَلِ3
يصف البعير يقول: إنه يتساندُ بعضُه إلى بعض، فهو أقوى له، فأصلها على هذا أَوْيٌ، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصارت أَيّ، كقولك: طويت الكتاب طيًّا، وشويت اللحم شَيًّا.
ولو سمت رجلًا بأَيّان، فتحت الهمزة أو كسرتها، لم تصرفه معرفة؛ لأنها كحَمْدان وعِمْران، وإن كسَّرت ذلك الاسم على سِرْحان وسَراحين وحَوْمانة4 وحوامِين قلت: أوايين، فظهرت الواو التي هي عين أَوَيْتُ، كقولك في تكسير ريَّان أو جمعه على مثال مفاعيل: روايِين، تظهر الواو التي هي عينه لزوال علة القلب عنها.
__________
1 سورة النمل: 47.
2 سورة الأعراف: 187، وفي الأصل: "أيان يبعثون"، وهذه في النحل: 21، وفي النمل: 65، وكسر همزة أيان لغة سليم، ومنهم السلمي. البحر المحيط: 4/ 419، 434.
3 الملط: جمع ملاط ككتاب؛ وهو المرفق، الكلكل: الصدر.
4 الحومانة: المكان الغليظ المنقاد.
(1/268)
________________________________________
ومن ذلك قراءة ابن عباس: "كأنَّك حفيٌّ بِها"1.
قال أبو الفتح: ذهب أبو الحسن في قوله: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} إلى أن تقديره: يسألونك عنها كأنك حفي بها، فأخر "عن" وحذف الجار والمجرور للدلالة عليهما، فهذا الذي قدره أبو الحسن قد أظهره ابن عباس، وحذف "عنها" لدلالة الحال عليها، ألا ترى أنه إذا كان حفيًّا بها فمن العرف وجاري عادة الاستعمال أن يُسْأَل عنها، كما أنه إذا سئل عنها فليس ذلك إلا لحفاوته بها؟ وإذا لم يكن بها حفيًّا لم يكن عنها مسئولًا، وكل واحد من حرفي الجر دل عليه ما صحبه فساغ حذفه، وهذا واضح.
ومن ذلك قراءة ابن يعمر: "فَمَرَت بِه"2 خفيفة.
قال أبو الفتح: أصله "فمرَّت به" مثقلة، كقراءة الجماعة، غير أنهم قد حذفوا نحو هذا تخفيفًا لثقل التضعيف. وحكى ابن الأعرابي فيما رويناه عنه فيما أحسب: ظنْتُ زيدًا يفعل كذا، ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 3 فيمن أخذه من القرار لا من الوقار، وهذا الحذف في المكسور أسوغ؛ لأنه اجتمع فيه مع "65ظ" التضغيف الكسرة، وكلاهما مكروه، وهو قوله تعالى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} 4 أي: ظَلِلْتَ، وقالوا: مَسْتُ يده: أي مَسِسْتُها. وقال أبو زبيد:
خلا أن العتاق من المطايا ... أَحسن به فهُن إليه شُوسُ5
أراد: أحسسن، وهذا وإن كان مفتوحًا فإنه قد حُمل الهمزة والزائدة، فازداد ثقلًا.
__________
1 سورة الأعراف: 187، والقراءة الفاشية: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} .
2 سورة الأعراف: 189.
3 سورة الأحزاب: 33.
4 سورة طه: 97.
5 من قصيدة في وصف الأسد، ويروى: "سوى" مكان "خلا". وقبله:
فباتوا يدلجون وبات يسري ... بصير بالدجى هاد عموس
إلى أن عرسوا وأنخت منهم ... قريبًا ما يحس له مسيس
عموس: قوي شديد، الشوس: جمع أشوس وشوساء، من الشوس؛ وهو النظر بمؤخَّر العين تكبرًا أو تغيظًا. وانظر: الخصائص: 2/ 438، وشواهد الكشاف: 69.
(1/269)
________________________________________
وقرأ: "فَمَارتْ به" بألف عبد الله بن عمرو، وهذا من مار يمور: إذا ذهب وجاء، والمعنى واحد، ومنه سُمي الطريق مَوْرا للذَّهاب والمجيء عليه، ومنه الْمُورُ: التراب لذلك.
وقرأ ابن عباس: "فاستَمرَّت به "1، ومعناه: مرَّت مكلِّفَة نفسَها ذلك؛ لأن استفعل إنما يأتي في أكثر الأمر لمعنى الطلب؛ كقولك: استطعم أي: طلب الطُّعْم، واستوهب: طلب الْهِبَة، والباب على ذلك.
ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير: "إِنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادًا"2 نَصْبٌ، "أمثالَكم " نصب.
قال أبو الفتح: ينبغي -والله أعلم- أن تكون إن هذه بمنزلة ما، فكأنه قال: ما الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم، فأعمل إن إعمال "ما"، وفيه ضعف؛ لأن إن هذه لم تختص بنفي الحاضر اختصاص "ما" به، فتجري مجرى ليس في العمل، ويكون المعنى: إنْ هؤلاء الذين تدعون من دون الله إنما هي حجارة أو خشب، فهم أقل منكم لأنكم أنت عقلاء ومخاطبون، فكيف تعبدون ما هو دونكم؟
فإن قلت: ما تصنع بقراءة الجماعة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} ؟ فكيف يُثبت في هذه ما نفاه في هذه؟
قيل: يكون تقديره أنهم مخلوقون كما أنتم أيها العباد مخلوقون، فسماهم عبادًا على تشبيههم في خلقهم بالناس3، كما قال: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان} 4، وكما قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} 5 أي: تقوم الصنعة فيه مقام تسبيحه.
__________
1 سورة الأعراف: 189، وهذه إحدى الروايتين عند ابن عباس والأخرى: "فاستمرت بحملها"، وانظر: البحر المحيط: 4/ 439.
2 سورة الأعراف: 194.
3 وخرجها أبو حيان بما يجعل الآيتين متطابقتين في المعنى دون تأويل، وهو أن إنْ هي المخففة من الثقيلة، وأعملها عمل المشددة، ونصب خبرها على لغة مَن ينصب من ينصب أخبار إن أخواتها، أو على إضمار فعل تقديره: إن الذين تدعون من دون الله تدعون عبادًا أمثالكم. البحر المحيط: 4/ 444.
4 سورة الرحمن: 6.
5 سورة الإسراء: 44.
(1/270)
________________________________________
ومن ذلك قراءة الجحدري: "يُمَادُّونَهم"1.
قال أبو الفتح: هو يُفَاعِلونهم من أَمددته بكذا، فكأنه قال: يعاونونهم.
ومن ذلك قراءة أبي مِجْلَز2: "بالغُدُوِّ والإِيصال"3 بكسر الألف.
قال أبو الفتح: هو مصدر آصلنا فنحن مؤصلون؛ أي: دخلنا في وقت الأصيل. قال أبو النجم:
فَصَدرت بعد أَصِيل المؤصِل
__________
1 سورة الأعراف: 202، وقرأ نافع: "يمدونهم" مضارع أمد، وباقي السبعة: "يمدونهم" من مد. البحر المحيط: 4/ 451.
2 هو لاحق بن حميد السدوسي البصري، تابعي. البحر المحيط: 4/ 453.
3 سورة الأعراف: 205.
(1/271)
________________________________________
سورة الأنفال:
بسم الله الرحمن الرحيم
من ذلك قرأ ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة1 بن مصرف: "يَسأَلونك الأَنْفَالَ"2.
قال أبو الفتح: هذه القراءة بالنصب مؤدية عن السبب للقراءة الأخرى التي هي: {عَنِ الْأَنْفَالِ} ، وذلك أنهم إنما سألوه عنها تعرضًا لطلبها، واستعلامًا لحالها: هل يسوغ طلبها؟
وهذه القراءة بالنصب إصراح بالتماس الأنفال، وبيانٌ عن الغرض في السؤال عنها، فإن قلت: فهل يحسن أن تحملها على حذف حرف الجر حتي كأنه قال3: يسألونك عن الأنفال، فلما حذف عن نصب المفعول، كقوله:
أَمرتُك الخيرَ فافعل ما أُمرت به4
قيل: هذا شاذ، إنما يحمله الشعر، فأما "66و" القرآن فيُختار له أفصح اللغات، وإن كان قد جاء: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 5 و {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 6 فإن الأظهر ما قدمناه.
ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ احْدَى الطَّائِفَتَيْنِ"7 يصل ضمة الهاء بالحاء ويسقط الهمزة.
__________
1 هو طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الكوفي، تابعي كبير. أخذ القراءة عرضًا عن إبراهيم بن يزيد النخعي والأعمش ويحيى بن وثاب. روى القراءة عرضًا عنه محمود بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيسى بن عمر الهمداني، وعلي بن حمزة الكسائي وغيرهم، توفي سنة 112هـ. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 343.
2 سورة الأنفال: 1.
3 في ك: كأنه يسألونك.
4 لعمرو بن معديكرب، وعجزه:
فقد تركتك ذا مال وذا نَشب
النشب: المال الثابت كالضِّياع ونحوها، وكأنه أراد بالمال هاهنا الإبل خاصة. الكتاب: 1/ 17.
5 سورة الأعراف: 155.
6 سورة التوبة: 5.
7 سورة الأنفال: 7.
(1/272)
________________________________________
قال أبو الفتح: هذا حذف على غير قياس، ومثله قراءة ابن كثير: "إنها لَحْدَى الكُبَر"1، وقد ذكرنا نحوه، وهو ضعيف القياس، والشعر أَوْلَى به من القرآن.
ومن ذلك قراءة مسلمة2 بن محارب: "وإذ يعِدْكُمُ الله"3 بإسكان الدال.
قال أبو الفتح: أسكن ذلك لتوالي الحركات وثقل الضمة، وقد ذكرنا قبله مثله.
ومن ذلك قراءة رجل من أهل مكة، زعم الخليل أنه سمعه يقرأ: "مُرَدِّفين"4، واختلفت الرواية عن الخليل في هذا الحرف، فقال بعضهم: "مُرُدِّفين"، وقال آخر: "مُرِدِّفين".
قال أبو الفتح: أصله "مُرْتَدِفين" مفتعلين من الرَّدْف5، فآثر إدغام التاء في الدال، فأسكنها وأدغمها في الدال، فلما التقى ساكنان -وهما الراء والدال- حرك الراء لالتقاء الساكنين، فتارة ضمها إتباعًا لضمة الميم، وأخرى كسرها إتباعًا لكسرة الدال.
ومثله {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} 6، ومن كسر الراء فلالتقاء الساكنين، وعليه جاء: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} ، ويجوز فيهما أن تُنقل حركة الحرف الساكن على الساكن قبله فيقول: "مُرَدِّفِين"، "وَجَاءَ الْمُعَذِّرُون" مُفَعِّلين من الاعتذار، على قولهم: عذَّر في الحاجة: أي قصَّر، وأعذر: تقدم.
ومن ذلك قراءة ابن محيصن: "أَمْنَةً نُعَاسًا"7 بسكون الميم.
__________
1 سورة المدثر: 35.
2 هو مسلمة بن عبد الله بن محارب، أبو عبد الله الفهري البصري النحوي، له اختيار في القراءة. قال ابن الجزري: لا أعلم على مَن قرأ، وقرأ عليه شهاب بن شرنفة. وكان مع ابن أبي إسحاق، وأبي عمرو بن العلاء. وكان من العلماء بالعربية. طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 298.
3 سورة الأنفال: 7، 9، 11.
4 سورة الأنفال: 9.
5 مصدر ردفة كسمع ونصر؛ أي تبعه، والرِّدف بالكسر: الراكب خلف الراكب كالمرتدف.
6 سورة التوبة: 90.
7 الآية: 154 في سورة آل عمران، وأما آية الأنفال: 11 فهي: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} ، وابن محيصن يقرأ بسكون الميم في الآيتين. البحر: 3/ 85، 4/ 468.
(1/273)
________________________________________
قال أبو الفتح: لا يجوز أن يكون "أمْنة" مخففًا من "أمَنة" كقراءة الجماعة، من قِبَلِ أن المفتوح في نحو هذا لا يُسكن كما يُسكن المضموم في المكسور لخفة الفتحة. وأما قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْف صَفقُه
بِرَاجعِ ما قد فاته بِرِداد1
قال أبو الفتح: فشاذ على أننا قد ذكرنا وجه الصنعة في كتابنا الموسوم بالمنصف2.
ومن ذلك قراءة الناس: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} 3، وقرأ الشعبي4: "مَا لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" على معنى: الذي به.
قال أبو الفتح: "ما" هاهنا موصولة، وصلتها حرف الجر بما جره، وكأنه قال: ما لِلطَّهور، كقولك: كسوته الثوب الذي لدفع البرد، ودفعت إليه المال الذي للجهاد، واشتريت الغلام الذي للقتال.
ألا ترى أن تقديره: ويُنَزِّل عليكم من السماء الماء الذي لأن يطهركم به؛ أي: الماء الذي لطهارتكم أو لتطهيركم به. وهذه اللام في قراءة الجماعة: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} هي لام المفعول له، كقوله: زرتك لتكرمني، وهي متعلقة بزرتك، ولا ضمير فيها لتعلقها بالظاهر.
فهي كقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} 5، فهي كما ترى متعلقة بنفس "فتحنا" تعلقَ حرف الجر بالفعل قبله.
وأما اللام في قراءة من قرأ: "ما لِيُطَهِّرَكم به" أي: الذي للطهارة به، فمتعلقة بمحذوف، كقولك: دفعت إليه المال الذي له؛ أي: استقر أو ثبت6 له، وفيها ضمير لتعلقها بالمحذوف.
وأما لام المفعول له فلا تكون إلا متعلقة بالظاهر نحو: زرته ليكرمني وأعطيته ليشكرني، أو بظاهر يقوم مقام الفعل كقولك: المال لزيد لينتفع به، فاللام في لزيد متعلقة بمحذوف على ما مضى، والتي في قولك: لينتفع به هي لام المفعول له "66ظ"، وهي متعلقة بنفس قولك:
__________
1 انظر الصفحة 249 من هذا الجزء.
2 المنصف: 1/ 21.
3 سورة الأنفال: 11.
4 هو عامر بن شراحيل بن عبد، أبو عمرو الشعبي، الإمام الكبير المشهور، عرض على أبي عبد الرحمن السلمي وعلقمة بن قيس، وروى القراءة عنه عرضًا محمد بن أبي ليلى. ومناقبه وعلمه وحفظه أشهر من أن تُذكر. مات سنة 105، وله سبع وسبعون سنة. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 350.
5 سورة الفتح: 1، 2.
6 ك: وثبت.
(1/274)
________________________________________
لزيد، تعلقها بالظرف النائب عن المحذوف في نحو قولك: أزيد عندك لتنتفع بحضوره؟ وزيد بين يديك ليُؤْنِسك.
فاللام هنا متعلقة بنفس الظرفين اللذين هما عندك وبين يديك.
وعلى كل حال، فمعنى القراءة بقوله: {مَاءً لِيُطَهِّرَكم بِهِ} ، والقراءة بقوله: "مَا لِيطَهَّركم به" يرجعان إلى شيء واحد، إلا أن أشدهما إفصاحًا بأن الماء أُنزل للتطهر به هي قراءة مَن قرأ: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ؛ لأن فيه تصريحًا بأن الماء أنزل للطهارة، وتلك القراءة الشاذة إنما يُعْلَم أنه أُنزل للطهارة به، فالقراءة الأخرى وبغيرها مما فيه إصراح بذلك.
وعلى كل حال، فلام المفعول له لا تتعلق بمحذوف أبدًا، إنما تعلقها بالظاهر، فعلًا كان أو غيره مما يُقام مقامه.
ومن ذلك قراءة أبي العالية1: "رِجْسَ الشيطان"2 بالسين.
قال أبو الفتح: كل شيء يُستقذَر عندهم فهو رجس، كالخنزير ونحوه.
وفيما قرئ على أبي العباس أحمد بن يحيى3 قال: الرجس في القرآن: العذاب كالرجز، ورجس الشيطان: وسوستُه وهمزُه ونحو ذلك من أمره، والرجز: عبادة الأوثان، ويقال: هو إثم الشرك كله.
وقرئ: "وَالرِّجْزَ وَالرُّجْزَ"4 جميعًا "فَاهْجُرْ"، قال: وقال بعضهم: أراد به الصنم. قال: وكل عذاب أُنزل على قوم فهو رجز، ووسواس الشيطان رجز، وقد ترى إلى تزاحم السين والزاي في هذا الموضع، فقراءة الجماعة: {رِجْزَ الشَّيْطَانِ} معناه كمعنى رجس الشيطان.
__________
1 هو رفيع بن مهران، أبو العالية الرياحي، من كبار التابعين. أسلم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين، وأخذ القرآن عرضًا عن أبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس. وصح أنه عرض على عمر. وقرأ عليه شعيب بن الحبحاب والحسن بن الربيع بن أنس والأعمش وأبو عمرو على الصحيح. مات سنة 90، وقيل: سنة 96. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 284.
2 سورة الأنفال: 11.
3 هو أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني، الإمام اللغوي أبو العباس ثعلب، النحوي البغدادي، ثقة كبير. له كتاب في القراءات وكتاب الفصيح، روى القراءة عن سلمة بن عاصم ويحيى بن زياد الفراء. وروى القراءة عنه أحمد بن موسى بن مجاهد ومحمد بن القاسم الأنباري ومحمد بن فرج الغساني. ولد سنة 200، وتوفي يوم السبت عاشر جُمادى الأولى سنة 291. طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 148.
4 الضم في آية الأنفال قراءة ابن محصين. البحر المحيط: 4/ 469.
(1/275)
________________________________________
وقد نبهنا في كتابنا المعروف بالخصائص1 من هذه الطريق في تزاحم الحروف المتقاربة ما في بعضه كل مَقْنَع بمشيئة الله.
ومن ذلك قراءة الحسن والزهري: "بين الْمَرِّ وقلبِه"2.
قال أبو الفتح: وجه الصنعة في هذا أنه خفف الهمزة في "المرء" وألقى حركتها على الراء قبلها، فصارت "بين المرِّ وقبله"، ثم نوى الوقف فأسكن وثقَّل الراء على لغة من قال في الوقف: هذا خالدّ وهو يجعلّ، ثم أطلق ووصل على نية الوقف، فأقر التثقيل بحاله على إرادة الوقف، وعليه قوله، أنشدَناه أبو علي:
بِبَازلٍ وَجناءَ أو عَيْهَلِّ3
يريد: العيهل، فنوى الوقف فثقل، ثم أطلق وهو يريد الوقف، ومثله ما قرأنا على أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى:
ومُقلتان جَوْنتا المكْحَلِّ4
يريد: الْمَكْحَل. وأول هذه القصيدة:
ليث شبابي عاد للأولِّ ... وغضَّ عيش قد خلا أَرْغَلِّ5
وفيها أشياء من هذا الطراز كثيرة، فكذلك "الْمَرِّ" على هذا.
وقراءة الجماعة من بعدُ أقوى وأحسن؛ لأن هذا من أغراض الشعر لا القرآن.
__________
1 الخصائص: 2/ 82-88.
2 سورة الأنفال: 24، 25.
3 لمنظور ابن حبة، وحبة أمه، وأبوه مرثد، ومن ثم ينسب إلى منظور بن مرثد.
وقبله:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلِّي ... أو تصبحي في الظاعن المولِّي
نسلّ وجد الهائم المغتلِّ
المغتل: من الغلة؛ وهي حرارة العطش، والمراد هنا: حرارة الشوق، والبازل من الإبل: الداخل في السنة التاسعة للذكر والأنثى، والوجناء: الناقة الشديدة، والعيهل: الناقة الطويلة. انظر: الكتاب: 2/ 282، والخصائص: 2/ 359، وشرح شواهد الشافية: 246.
4 الجون: الأسود.
5 عيش أرغل: واسع.
(1/276)
________________________________________
ومن ذلك قراءة العامة: {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 1، وقراءة علي وزيد بن ثابت وأبي جعفر محمد بن علي2 والربيع بن أنس وأبي العالية وابن جماز3: "لَتُصِيبَنَّ".
قال أبو الفتح: معنيا هاتين القراءتين ضدان كما ترى؛ لأن إحداهما: {لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} ، والأخرى: "لَتُصِيبَنَّ" هؤلاء بأعيانهم خاصة. وإذا تباعد معنيا قراءتين هذا التباعد وأمكن أن يُجمع بينهما كان ذلك جميلًا وحسنًا، ولا يجوز أن يراد زيادة "لا" من قِبَل أنه كان "67و" يصير معناه: واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، فليس هذا عندنا من مواضع دخول النون، ألا تراك لا تقول: ضربت رجلًا يدخلَنَّ المسجد؟ هذا خطأ لا يقال؛ ولكن أقرب ما يصرف إليه الأمر في تلافي معنى القراءتين أن يكون يراد: لا تصيبن، ثم يحذف الألف من "لا" تخفيفًا واكتفاء بالفتحة منها، فقد فَعَلَت العرب هذا في أخت "لا" وهي أَمَا.
من ذلك ما حكاه محمد بن الحسن من قول بعضهم: أَمَ والله ليكونن كذا، فحذف ألف أَمَا تخفيفًا، وأنشد أبو الحسن وابن الأعرابي وغيرهما:
فلستُ بمدرك ما فات مني ... بلَهْف ولا بِلَيت ولا لو اني4
يريد: بلهفا، فحذف الألف، وذهب أبو عثمان في قوله الله سبحانه: {يَا أَبَتَ} 5 -فيمن فتح التاء- أنه أراد: يا أبتا، فحذف الألف تخفيفًا، وأنشدوا:
قد وردت من أَمكنه ... من هاهنا ومن هُنَهْ
إن لم أُروّها فَمَهْ6
يريد: إن لم أروها فما أصنع؟ أو فما مغناي؟ أو فما مقداري؟ فحذف الألف، وألحق الهاء لبيان الحركة، وروينا عن قطرب7.
__________
1 سورة الأنفال: 25.
2 هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر الباقر. عرض على أبيه زين العابدين، وورى عنه وعن جابر وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وروي عنه ابنه جعفر الصادق والزهري وعمرو بن دينار وجماعة، ولد سنة 56، مات سنة 118، وقيل غير ذلك. طبقات ابن الجزري: 2/ 202.
3 هو سليمان بن مسلم بن جماز، وقيل: سليمان بن سالم بن جماز، أبو الربيع الزهري مولاهم المدني، مقرئ جليل ضابط، عرض على أبي جعفر وشيبة ثم على نافع، وأقرأ بحرف أبي جعفر ونافع, عرض عليه إسماعيل بن جعفر وقتيبة بن مهران. قال ابن الجزري: مات بعد السبعين ومائة فيما أحسب. طبقات ابن الجزري: 1/ 315.
4 الخصائص: 3/ 135، والخزانة: 1/ 36.
5 سورة يوسف: 4.
6 ضمير وردت للإبل، ويروى: "إن لم تروها" بتاء الخطاب. وانظر: سر الصناعة: 1/ 182، والمنصف: 2/ 156، وشرح شواهد الشافية: 479.
7 معطوف على: وأنشد أبو الحسن.
(1/277)
________________________________________
فعلى هذا يجوز أن يكون أراد بقوله: "لَتُصِيبَنَّ": لا تُصِيبَنَّ، فحذف ألف "لا" تخفيفًا من حيث ذكرنا.
فإن قلت: فهل يجوز أن يحمله على أنه أراد: لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، ثم أشبع الفتحة، فأنشأ عنها ألفًا كالأبيات التي أنشدتها قبل هذا الموضع، نحو قوله:
ينباع من ذِفْرَى غَضوب جَسْرة1
وهو يريد: ينبع.
قيل: يمنع من هذا المعنى، وهو قوله تعالى يليه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . فهذا الإغلاظ والإرهاب أشبه بقراءة مَن قرأ: {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} من أن يكون معناه: إنما تصيب الذين ظلموا خاصة.
فتأمل ذلك؛ فإنه يضح لك بمشيئة الله.
ومن ذلك ما رُوي عن عاصم أنه قرأ: "وَمَا كَانَ صَلاتَهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ" نصبًا "إِلَّا مُكَاءٌ وَتَصْدِيَةٌ"2 رفعًا، رواه عبيد الله3 عن سفيان4 عن الأعمش5 أن عاصمًا قرأ كذلك.
__________
1 لعنترة من معلقته، وعجزه:
زيافة مثل الفنيق المكدم
الذفرى: ما خلف الأذن، والجسرة: الناقة الموثقة الخلق، وزيافة: متبخترة، والفثيق: الفحل من الإبل، مكدم: تكدمه الفحول، ورُوي "المقرم"، وضمير ينباع للعرق. المعلقات السبع: 114، والخصائص: 3/ 121.
2 سورة الأنفال: 35.
3 هو عبيد الله بن موسى بن باذام أبو محمد بن أبي المختار العبسي مولاهم الكوفي، حافظ ثقة. وُلد بعد العشرين ومائة. أخذ القراءة عرضًا عن عيسى بن عمر وشيبان بن عبد الرحمن الهمذاني وعلي بن صالح بن حسن. وروى القراءة عنه عرضًا إبراهيم بن سليمان وأيوب بن علي ومحمد بن عبد الرحمن وغيرهم. وتُوفي سنة 213. طبقات ابن الجزري: 1/ 493.
4 هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي أحد الأعلام. ولد سنة 97، وروى القراءة عرضًا عن حمزة، وروى عن عاصم والأعمش حروفًا، وروى الحروف عنه عبيد الله بن موسى. توفي بالبصرة سنة 161. طبقات ابن الجزري: 1/ 308.
5 هو سليمان بن مهران الأعمش أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي الإمام الجليل. ولد سنة 60 أخذ القراءة عرضًا عن إبراهيم النخعي وزر بن حبيش وعاصم وغيرهم، وروى عنه عرضًا وسماعًا حمزة الزيات وابن أبي ليلى وجرير بن عبد الحميد وغيرهم. تُوفي سنة 148. طبقات ابن الجزري: 1/ 316.
(1/278)
________________________________________
قال الأعمش: وإن لحن عاصم تلحن أنت؟! وقد رُوي هذا الحرف أيضًا عن أبان1 بن تغلب أنه قرأ كذلك.
قال أبو الفتح: لسنا ندفع أنَّ جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح، فإنما جاءت منه أبيات شاذة، وهو في ضرورة الشعر أعذر، والوجه اختيار الأفصح الأَعرب، ولكن من وراء ذلك ما أذكره.
اعلم أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه معنى قولك: خرجت فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما؟ وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدًا واحدًا معينًا، وإنما تريد: خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في {مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} جوازًا قريبًا، حتى كأنه قال: وما كان صلاتَهم عند البيت إلا المكاءُ والتصديةُ؛ أي: إلا هذا الجنس من الفعل، وإذا كان كذلك لم يجرِ هذا مجرى قولك: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك؛ لأنه ليس في جالس وقائم من معنى الجنسية التي تلاقى معنيا "67ظ" نكرتها ومعرفتها على ما ذكرنا وقدمنا.
وأيضًا فإنه يجوز مع النفي من جعل اسم كان وأخواتها نكرة ما لا يجوز مع الإيجاب، ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيرًا منك، ولا تجيز: كان إنسان خيرًا منك؟ فكذلك هذه القراءة أيضًا، لَمَّا دخلها النفي قَوِي وحسن جعل اسم كان نكرة، هذا إلى ما ذكرناه من متشابهة نكرة اسم الجنس لمعرفته؛ ولهذا ذهب بعضهم في قول حسان:
كأَنَّ سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجَها عسل وماءُ2
إنه إنما جاز ذلك من حيث كان عسل وماء هما جنسين، فكأنه قال: يكون مزاجَها العسل والماء، فبهذا تسهل هذه القراءة، ولا يكون من القبح واللحن الذي ذهب إليه الأعمش على ما ظن.
__________
1 هو أبان بن تغلب الربعي، أبو سعيد، ويقال: أبو أميمة الكوفي النحوي. قرأ على عاصم وأبي عمرو الشيباني وطلحة بن مصرف والأعمش. أخذ القراءة عنه عرضًا محمد بن صالح بن زيد الكوفي. توفي سنة 141، وقيل: سنة 153. طبقات ابن الجزري: 1/ 4.
2 السبيئة: الخمر، ويروى مكانها "سلافة" وهي الخمر أيضًا، ويقال: هو اسم لما سال منها قبل أن تعصر، وذلك أخلصها، وبيت رأس: اسم موضع، وقيل رأس: رئيس الخمارين، وقيل رأس: اسم خمار معروف. الكتاب: 1/ 23.
(1/279)
________________________________________
ومن ذلك قراءة الناس {بِالْعُدْوَةِ} 1 و"العِدْوَةِ" بالضم والكسر. وقرأ: "بالعَدْوَةِ" قتادة2 والحسن3 وعمرو، واختلف عنهم.
قال أبو الفتح: الذي في هذا أنها لغة ثالثة، كقولهم: في اللبن رِغوة ورَغوة ورُغوة. ولها نظائر مما جاءت فيها فُعْلة وفِعْلة وفَعْلة، منه قولهم: له صِفوة مالي وصَفوته وصُفوته، روى ذلك أبو عبيدة. ومثله أَوطأته عَشوة4 وعُشوة وعِشوة، روى ذلك أبو عبيدة وابن الأعرابي.
وروى الكسائي: كلمته بِحَضْرة فلان وحِضْرته، وحكى ابن الأعرابي: غَشوة وغُشوة وغِشوة، وغِلظة وغُلظة وغَلظة. وقالوا: شاة لَجْبة5 ولُجْبة ولِجْبة، ورِبْوة6 ورُبْوة ورَبْوة، فكذلك تكون أيضًا العِدْوة والعَدْوة والعُدْوة. وروى ابن الأعرابي أيضًَا: الْمُدية والْمِدية والْمَدية، بالفتح.
ومن ذلك ما يروى عن الأعمش أنه قرأ: "فَشَرِّذ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ "7 بالذال معجمة.
قال أبو الفتح: لم يمرر بنا في اللغة تركيب ش ر ذ، وأوجه ما يُصْرَف إليه ذلك أن تكون الذال بدلًا من الدال، كما قالوا: لحم خَرادل وخَراذل8، والمعنى الجامع لهما أنهما مجهوران ومتقاربان.
ومن ذلك قراءة الأشهب العقيلي: "فاجْنُحْ لها"9 بضم النون.
__________
1 سورة الأنفال: 42، وكسر العين قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وضمها قراءة باقي السبعة. البحر المحيط: 4/ 499.
2 هو قتادة بن دعامة، أبو الخطاب السدوسي البصري المفسر، أحد الأئمة في حروف القرآن. روى القراءة عن أبي العالية وأنس بن مالك، وسمع من أنس بن مالك وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وغيرهم. وروى عنه الحروف أبان بن يزيد العطار، وروى عنه أبو أيوب وشعبة وأبو عوانة وغيرهم. وكان يضرب بحفظة المثل. توفي سنة 117. طبقات ابن الجزري: 2/ 25.
3 هو الحسن بن أبي الحسن يسار السيد الإمام أبو سعيد البصري، إمام زمانه علمًا وعملًا. قرأ على حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى الأشعري، وعلى أبي العالية عن أبي وزيد وعمر. وروى عنه أبو عمرو بن العلاء وسلام بن سليمان الطويل، ويونس بن عبيد وعاصم الجحدري. ولد سنة 21، وتوفي سنة 110. طبقات ابن الجزري: 1/ 235.
4 العشوة مثلثة: ركوب الأمر على غير بيان، وأوطأه عشوة: حمله على أمر غير رشيد.
5 اللجبة مثلثة الأول: الشاة قل لبنها، والغزيرة ضد.
6 الربوة مثلثة: ما ارتفع من الأرض.
7 سورة الأنفال: 57.
8 مقطع مفرق.
9 سورة الأنفال: 61.
(1/280)
________________________________________
قال أبو الفتح: حكى سيبويه جنَح يجنُح، وهي في طريق ركَد يركُد، وقعَد يقعُد، وسفَل يسفُل في قربها ومعناها. ويؤكد ذلك أيضًا ضَرْبٌ من القياس؛ وهو أن جنح غير متعد، وغير المتعدي الضم أقيس فيه من الكسر، فقعد يقعد أقيس من جلس يجلس؛ وذلك أن يفعُل بابه لِمَا ماضيه فَعُل نحو: شرُف يشرُف، ثم أُلحق به قعد. وباب يفعِل بابه لِمَا يتعدى نحو: ضرب يضرب، فضرب يضرب إذن أقيس من قتل يقتل، كما أن قعد يقعد أقيس من جلس يجلس. وقد تقصيت هذه الطريق في كتابي المنصف1.
ومن ذلك قراءة ابن جماز: "واللهُ يُريد الآخرةِ"2 يحملها على عَرَضَ الآخرة.
قال أبو الفتح: وجه جواز ذلك على عزته وقلة نظيره أنه لما قال: "تريدون عَرَض الدنيا"، فجرى ذكر العَرَض فصار كأنه أعاده ثانيًا فقال: عَرَض الآخرة "68و" ولا يُنْكَرُ نحو ذلك.
ألا ترى إلى بيت الكتاب:
أكُلَّ امرئ تحسبين امرأً ... ونارٍ تَوَقَّد بالليل نارا3
وأن تقديره: وكل نار؟ فناب ذكره "كُلَّا" في أول الكلام عن إعادتها في الآخر، حتى كأنه قال: وكُلَّ نار؛ هربًا من العطف على عاملين، وهما: كل وتحسبين. وعليه بيته أيضًا:
إنَّ الكريم وأبيك يَعتمِلْ ... إن لم يجد يومًا على من يتكلْ4
أراد: من يتكل عليه، فحذف "عليه" من آخر الكلام استغناء عنها بزيادتها في قوله: على من يتكل، وإنما يريد: إن لم يجد من يكتل عليه.
وعليه أيضًا قول الآخر:
أتدْفع عن نفس أتاه حِمامُها ... فهلا التي عن بين جنبيك تَدفع5
__________
1 المنصف: 1/ 185 وما بعدها.
2 سورة الأنفال: 68.
3 البيت لأبي داود. الكتاب: 1/ 33.
4 لبعض الأعراب. ويعتمل: يحترف لإقامة العيش. الكتاب: 1/ 443، والخصائص: 2/ 305.
5 في ذيل الأمالي 106، 107: أنه لرجل من محارب يعزي ابن عم له على ولده، وفي سمط اللآلي 49، وشواهد المغني 149: أنه لزيد بن رزين بن الملوح المحاربي أخي بني بكر، وهو شاعر فارس. ويروى: "أتجزع" مكان "أتدفع"، ويروى الشطر الثاني:
فهل أنت عما بين جنبيك تدفع؟
(1/281)
________________________________________