المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التفسير اللغوي للقرآن الكريم


sawsan
10-16-2019, 05:23 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: التفسير اللغوي للقرآن الكريم
المؤلف: د مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار
الناشر: دار ابن الجوزي
الطبعة: الأولى، 1432هـ
عدد الأجزاء: 1
الكتاب إهداء من مؤلفه - جزاه الله خيرا - للمكتبة الشاملة
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
2 - مسائلُ نافعِ بنِ الأزرقِ (1)، وقدْ جاوزتْ هذه المسائلُ المائتين وخمسين مسألةً (2)، وقدْ وردتْ منْ طرقٍ غيرِ مَرْضِيَّةٍ (3)، فضلاً عما يدورُ حولَ كثرتِها من الشَّكِّ.
_________
(1) نافع بن الأزرق الحَرُورِيُّ، كان من رؤوس الخوارج، وإليه تُنسَب طائفة الأزارقة من الخوارج، خرج في أواخر عهد يزيد بن معاوية، وكان ينتجع إلى ابن عباس فيسأله في القرآن وغيره. ينظر: الكامل للمبرد (3:1102، 1144، 1203، 1205)، ولسان الميزان، لابن حجر (6:144 - 145).
(2) مسائل نافع بن الأزرق، تحقيق: محمد أحمد الدالي (ص:9).
(3) وقفت على أسانيد رواية مسائل نافع، وهي كالآتي:
* مخطوط في الظاهرية: وفيه: أبو طاهر محمد بن علي العلاف، أخبرنا أبو بكر أحمد بن سلم قراءة عليه، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار الثقفي، قال: حدثني أبو الحسن علي بن مسلم: مؤدب أبي العباس الكيِّس بن المتوكل، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل الحراني، قال: حدثني عثمان بن عبد الرحمن الحراني، قال: حدثني عبيد الله بن العباس، عن جويبر، عن الضحاك بن مزاحم الهلالي. ينظر: مسائل نافع بن الأزرق، تحقيق: محمد الدالي (ص:33).
وفي هذه الرواية: عبيد الله بن العباس، وهو مجهول، وجويبر ضعيف جداً، والضحاك لم يَحْكِ عمن روى هذه المسائل فهي منقطعة.
* رواية الطبراني، عن أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن أبي عبد الرحمن عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي الحراني، عن عبيد الله بن عباس وموسى بن يزيد الحرانيين، عن جويبر، عن الضحاك. معجم الطبراني الكبير (10:248).
وهذه الرواية فيها العلل السابقة، يزيد فيها كذلك جهالة موسى بن يزيد الحراني.
* رواية الطستي، عن أبي سهل السري بن سهل الجنديسابوري، عن يحيى بن أبي عبيدة بحر بن فروخ المكي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عيسى بن دأب، عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد، عن أبيه أبي بكر بن محمد. الإتقان (2:55 - 56).
في هذه الرواية عيسى بن دأب، كان يضع الأخبار، وقد سبقت ترجمته.
* رواية ابن الأنباري، قال: حدثنا بشر بن أنس، قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: حدثنا أبو صالح هديَّة بن مجاهد، قال: أخبرنا محمد بن شجاع، قال: أخبرنا محمد بن زياد اليشكري، عن ميمون بن مهران، إيضاح الوقف والابتداء (1:76). =
(1/330)
________________________________________
ولذا فإنَّ هذه المسائلَ، وإنْ استُفِيدَ منها في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، لا يَصِحُّ نسبتُها إلى ابنِ عباسٍ (ت:68)، وفي الصَّحيحِ الواردِ عنه غُنْيَةٌ عنْ هذه الأسئلةِ.
والعجيبُ أنَّ هذه الرِّوايةَ قد احتضنتها بعضُ كتبِ الأدبِ والحديثِ، ولم يكنْ لها ذِكرٌ في كتبِ التَّفسيرِ المتقدِّمَةِ ولا في كتبِ اللُّغةِ، مع أنها ألصقُ بهذين العِلْمَينِ منْ غيرِهما.
ولا يبعدُ أنْ يكونَ لهذه الأسئلةِ أصلٌ، إلاَّ أنها لم تكن بهذه الكثرةِ التي أوردَها الرُّواةُ، وهذه المسائلُ تحتاجُ إلى نقدِ المتونِ بعد نقدِ الأسانيدِ، للنَّظرِ في هذِ الأشعارِ التي زُعِمَ أنَّ حبرَ الأمةِ قد استشهدَ بها، ولا يبعدُ أنْ يكونَ منها ما هو من شعراء كانوا بعده، أو ما هو مختلفٌ في نسبتِه.
3 - رواية عليِّ بن أبي طلحةَ (ت:143)، وقد عَنْوَنَ لها محمودُ السَّيدُ الدُّغَيم بـ (غريب القرآن)، ولم أرَ منْ سمَّى هذه الروايةَ بهذا الاسمِ قبلَهُ، ويظهرُ أنَّ هذا منْ تَصَرُّفِهِ، اعتماداً على ما أوردَهُ عن السيوطي (ت:911) (1) في حديثِهِ عن علم (غريبِ القرآنِ)، حيثُ قال: «أَوْلَى ما يُرجَعُ إليه في ذلك ما ثَبَتَ عن ابنِ عباسٍ وأصحابِه الآخذينَ عنه ... وها أنا أسوقُ ما ورد في ذلكَ عن ابنِ عباسٍ من طريقِ ابنِ أبي طلحةَ خاصةً ...» (2).
_________
=
وفي هذه الرواية محمد بن زياد اليشكري، كان يضع الحديث، قال ابن حجر: «كذَّبوه» تقريب التهذيب (ص:845).
* رواية المبرد، قال: حدَّث أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي النَّسَّابةُ، عن أسامة بن زيد عن عكرمة. الكامل (3:1144 - 1145).
وهذه الرواية فيها انقطاع بين المبرد وأبي عبيدة، وأسامة بن زيد قد يكون العدوي، وهو ضعيف، وقد يكون الليثي، وهو صدوق يَهِمُ، وهما مدنيان في طبقة واحدة، ينظر: تقريب التهذيب (ص:123، 124).
(1) عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، توفي سنة (911)، ينظر: البدر الطالع (1:328 - 335)، والضوء اللامع (4:65 - 70).
(2) ينظر الإتقان، للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (2:5)، ثم ينظر: مقدمة عمدة الحفاظ، تحقيق: محمد السيد الدغيم (ص:21 - 22).
(1/331)
________________________________________
وروايةُ عليِّ بنِ أبي طلحةَ (ت:143) ليستْ خاصَّةً بتفسيرِ الغريبِ، بل هي في التَّفسيرِ عموماً.
كما نقل محمودُ السيِّد الدغيم عن فؤاد سزكين ما قاله في هذه الرِّواية، قال: «والمؤكَّد أنَّ التفسيرَ الذي رواهُ عليُّ بنُ أبي طلحةَ الهاشميُّ (ت:120هـ/737م) (1) منسوباً إلى ابن عباسٍ، هو من تأليفِ ابن عباسٍ نفسِه، وذلك لأنَّ عليَّ بنَ أبي طلحةَ قد جُرِحَ لروايتِه هذا التَّفسيرَ دونَ أنْ يكونَ أخذَهُ سماعاً عن ابن عباس (2) ...» (3).
وهذا الاستدلالُ من فؤاد سزكين غريبٌ جداً، ولا يَعْتَمِدُ على حُجَّة تُسلَّمُ له.
وقد كان ابتداءُ التَّأليفِ في علمِ غريبِ القرآنِ في النِّصفِ الثَّاني من القرن الثَّاني؛ أي: في عهدِ أتباعِ التَّابعينَ.
وممن ذُكِرَ له تدوينٌ فيه: زيد بن علي (ت:120) (4)، وأبان بن تغلب (ت:141)، وفي النَّفسِ شيءٌ من هذين الكتابين (5).
_________
(1) الصواب أنَّ وفاته سنة (143)، كما في تقريب التهذيب (ص:698).
(2) هذه الروايةُ من الطرقِ المشهورةِ عن ابنِ عباسٍ، وقد قَبِلَها علماءُ؛ كالبخاري والطبري والنحاس وغيرهم، ينظر مثلاً: كلامَ الدكتور سليمان اللاحم في تحقيقه للناسخ والمنسوخ، للنحاس (1:412 - 413).
(3) تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين، نقله إلى العربية الدكتور محمود فهمي حجازي (1:66)، وينظر مقدمة عمدة الحفاظ، تحقيق: محمد السيد الدغيم (ص:22)، فقد نقل هذا الكلام عن فؤاد سزكين.
(4) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المصلوب، روى عن أبيه زين العابدين وأخيه جعفر، وعنه: عبد الرحمن بن أبي الزناد والزهري وغيرهما، خرج على هشام بن عبد الملك في الكوفة، فقتل زيد ثم صلب، وكان ذلك سنة (120) وقيل: (122)، وإليه تُنْسَبُ فرقة الزيدية. ينظر: طبقات ابن سعد (5:325 - 326)، تهذيب الكمال (3:83 - 84).
(5) أمَّا كتاب زيد، فيرويه عنه أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، قال عنه الإمام أحمد: =
(1/332)
________________________________________
وقد حرصت على تتبُّعِ أقوالِهما في كتب التَّفسيرِ، فظفرتُ بنقلٍ قليلٍ عنهما، وما وجدته منقولاً عن زيد بن عليٍّ (ت:120) يخالفُ ما وردَ في غريب القرآن المطبوعِ المنسوبِ إليه (1).
_________
= «متروك الحديث، ليس يسوى شيئاً»، وقال يحيى بن معين: «كذاب، غير ثقة، ولا مأمون»، وكذا قال غير واحدٍ. ينظر: الجرح والتعديل (6:230).
وأمَّا كتاب أبان، فلم يُنْقَلْ إلاَّ عن مؤرخ الشيعة الطوسي، وقد سبق ذكر ذلك، والشيعة يتكثَّرون بذكر علمائهم ومؤلفاتهم، حتى إنهم ينسبون بعض علماء السنة إليهم.
(1) وجدت في القرطبيُّ تفسيراتٍ لأبان بن تغلب، ولم ينصَّ فيه على أنه نقل من كتابه غريب القرآن، وهذه التفسيرات في الأجزاء: (1:411)، (7:397)، (8:88)، (10:337)، (13:65).
أما زيد بن علي فوجدت له:
1 - تفسير قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26]، فقد ورد عنه في تفسيرها اختلافٌ، فعند ابن أبي حاتم (5:1458): «الإسلام»، وعند البغوي (2:155): «الآلات التي يتقى بها في الحرب؛ كالدرع والمغفر والساعد والساقين»، وكذا هو عند القرطبي (7:185). وعند ابن كثير (3:401): «الإيمان»، وفي تفسير غريب القرآن المطبوع (ص:139): «الحياء».
2 - في تفسيرِ قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة: 41]، ورد عند القرطبي (8:150): «مشاغيل وغير مشاغيل»، وفي تفسير غريب القرآن (ص:151): «فالخفيف: الشَّابُّ، والثِّقال: الشيوخ».
3 - وفي تفسير المرض، قال: «المرض مرضان: فمرض زنا، ومرض نفاق». الدر المنثور (6:599)، وليس في تفسير آية الأحزاب في المطبوع من تفسير غريب القرآن تفسير لهذا (ص:255).
4 - وفي تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، عند القرطبي (14:353)، عن زيد بن علي قال: «الرسول». وفي تفسير غريب القرآن: «معناه: الشَّيب».
5 - وفي تفسيره لاسم الله المؤمن، قال: «إنما سمَّى نفسه مؤمناً؛ لأنه آمنهم من العذاب». الدر المنثور (8:123)، ولم يرد تفسيره في سورة الحشر من كتاب تفسير غريب القرآن (ص:329).
واعلم أنَّ أغلب ما يُنقلُ عن زيد بن علي القراءةُ، وهي محكيَّةٌ في كتب التفسيرِ كثيراً.
(1/333)
________________________________________
هذا، ويُعَدُّ كتابُ (مجازِ القرآنِ) لأبي عبيدةَ معمرِ بنِ المثنَّى البصريِّ (ت:210) أوَّلَ كتابٍ مطبوعٍ من كتبِ غريبِ القرآنِ؛ بلْ لا يبعدُ أنْ يكونَ أوَّلَ كتابٍ للُّغويِّين يتعلَّقُ بتفسيرِ القرآنِ، نظراً للحملةِ الاستنكاريَّةِ التي قامتْ عليه، مما يدل على أنه بِدْعٌ في التأليفِ في هذا المجال (1). واللهُ أعلمُ.
وسأبسطُ القولَ في ثلاثةٍ من كتبِ غريبِ القرآنِ، وهي مجاز القرآن، لأبي عبيدة (ت:210)، وغريب القرآن، لابن قتيبة (ت:276)، وغريب القرآن، لابن عُزَيزٍ السِّجستانيِّ.
_________
(1) ممن ذُكِر له نقد من معاصريه: أبو عمر الجرمي (ت:225)، قال: «أتيت أبا عبيدة بشيء منه [يعني: مجاز القرآن]، فقلت له: عمَّن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإنَّ هذا خلافُ تفسير الفقهاء.
فقال لي: هذا تفسير الأعراب البوَّالين على أعقابهم، فإن شئت فخذه، وإن شئت فذره». طبقات النحويين واللغويين (ص:176)، وينظر فيه نقد أبي حاتم السجستاني له (ص:176)، وانظر: الأضداد لأبي حاتم، تحقيق: محمد عودة (ص:101، 130)، وقد نقده الفراء كما في نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص:87)، كما نقده الأصمعي والطبري، وغيرهم مما قد يطول ذكره.
هذا، وقد أفاد منه جمعٌ من العلماء، وينظر مثلاً لمن نقل عنه أو اعترض عليه:
* البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، ينظر: فتح الباري (8:69، 364، 423).
* وابن قتيبة في غريب القرآن (ص:110، 150، 236، 350).
* وأبو إسحاق الحربي في غريب الحديث (1:72، 88، 96، 189).
* والطبري في تفسيرِه، تحقيق شاكر (1:119، 132، 274)، وطبعة: الحلبي (22:65، 67، 128، 151).
* وابن دريد في جمهرة اللغة (1:58، 170، 209، 299، 306، 604).
* وابن عُزَيز في غريب القرآن (ص:186، 187، 201، 229، 341، 363)، وغيرهم كثير.
ومجاز القرآن من أكبرِ الكتب المعتمدة في غريب القرآن، والتي لها أثر ظاهر على المفسرين.
(1/334)
________________________________________
أولاً مَجَازُ القُرْآنِ لأبِي عُبَيْدَةَ
ذُكِرَ لأبي عبيدة (ت:210) أسماءُ كتبٍ، وهي: غريبُ القرآنِ، ومعاني القرآنِ، وإعرابُ القرآن، ومجازُ القرآن. ويظهرُ أنَّ هذه العناوينَ اسمٌ لكتابٍ واحدٍ، وعُبِّرَ عنه بما فيه من هذه الموادِّ العلميَّةِ، وأشهرُ هذه التَّسمياتِ: (مجازُ القرآنِ). وليسَ في مقدِّمتِه نَصٌّ من أبي عبيدةَ (ت:210) على تسميتِه، ولكنَّه أشهرُ هذه التَّسمياتِ لكثرة استعماله لفظةَ «مجازٍ» في كتابه.
وإذا تأمَّلتَ كتابَ (مجازِ القرآنِ)، وجدتَه كتاباً في تفسيرِ ألفاظِ القرآنِ؛ أي: غريب القرآن. وقدْ وردَ عن مَرْوَانَ بنِ عبدِ الملكِ (1) تلميذ أبي حاتمٍ السجستاني (ت:255)، قال: «سألتُ أبا حاتمٍ عنْ غريبِ القرآنِ لأبي عبيدةَ، والذي يقالُ له: المجاز ...» (2).
وهذه الأسماءُ يظهرُ أنها منْ غيرِ أبي عبيدةَ (ت:210) فوصفَ كُلُّ واحدٍ منهم الكتابَ بما فيه من المعلوماتِ، إذ فيه غريبٌ كثيرٌ، وشيءٌ منَ علم المعاني وعلم النَّحْوِ.
ومما يُستأنسُ به في هذا: أنَّ النُّقُولَ عنه فيما يتَّصِلُ بغريبِ القرآنِ وشواهدِهِ موجودةٌ في كتابِه (مجازِ القرآنِ)، ويندرُ أنْ يُوجَدَ نقلٌ يتعلَّقُ بغريبِ القرآن دونَ أنْ يكونَ فيه.
_________
(1) لم أعرفه.
(2) طبقات النحويين واللغويين (ص:176).
(1/335)
________________________________________
مفهومُ المجازِ عند أبي عبيدة:
والمجازُ عندَ أبي عبيدةَ (ت:210): ما يجوزُ في لغةِ العربِ من التَّعبيرِ عن الألفاظِ والأساليبِ، وليسَ المجازَ الاصطلاحيَّ عندَ البلاغيِّينَ (1)، وهذا ظاهرٌ منْ كتابِهِ.
مراده من تأليفِ المجازِ:
لقدْ كانتْ وِجْهَةُ أبي عبيدةَ (ت:210) في كتابِهِ (مجازِ القرآنِ) واضحةً، حيثُ أرادَ تفسيرَ القرآنِ تفسيراً عربيًّا، لذا اعتمدَ الشواهدَ الشِّعريةَ في بيانِ معاني القرآنِ في كثيرٍ من المواطنِ. وقدْ يكونُ سببُ هذا الاتجاه عندَهُ ما يُحكَى من وجودِ المُعَرَّبِ (2)، فأراد أن يُبينَ أنَّ القرآنَ عربيٌّ، وليسَ فيه مدخلٌ لِلُغَةٍ غيرِها.
ومما يُستأنسُ به في هذا ما عُرِفَ عنه من تشدُّده في نفيِ وجودِ ألفاظٍ بغيرِ لغةِ العربِ في القرآنِ، حيث قالَ: «أُنْزِلَ القرآنُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، فمنْ زعمَ أنَّ فيه غيرَ العربيةِ فقدْ أعظمَ القولَ، ومن زعمَ أنَّ «طه» بالنبطيةِ، فقدْ أَكْبَرَ، وإنْ لم يعلمْ ما هو، فهو افتتاحُ كلامٍ، وهو اسمٌ للسُّورةِ وشعارٌ لها.
وقدْ يُوَافِقُ اللَّفظُ اللَّفظَ ويقاربُهُ، ومعناهما واحدٌ، وأحدُهما بالعربيَّةِ والآخرُ بالفارسيَّةِ أو غيرِها؛ فمنْ ذلكَ الإستبرقُ بالعربيَّةِ، وهو الغليظُ من الديباجِ، والفِرِنْدُ، وهو بالفارسيَّةِ: إسْتَبْرَهْ، وكَوْز، وهو بالعربيَّةِ: جَوْزٌ، وأشباهُ هذا كثيرٌ.
ومنْ زعمَ أنَّ {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82] بالفارسيَّةِ، فقدْ أعظمَ من قال: إنه «سنك» و «كل»، إنما السِّجِّيلُ: الشديدُ ... ففي القرآنِ ما في الكلامِ
_________
(1) المجاز: اللفظ المستعملُ في غير ما وُضِعَ له حقيقةً، ينظر في تعريفه: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، للدكتور: أحمد مطلوب (3:193 - 220).
(2) المُعَرَّبُ: ما قيل إنه بغير لغة العرب من ألفاظ القرآن.
(1/336)
________________________________________
العربي منَ الغريبِ والمعاني، ومنْ مجازِ ما اختُصِرَ، ومجازِ ما حُذِفَ، ومجازِ ما كُفَّ عنْ خَبَرِهِ، ومجازِ ما جاءَ لفظُهُ لفظ الواحدِ ووقَعَ على الجميعِ ...» (1).
وهناكَ وجهٌ آخرُ يُفْهَمُ من قولِه: «قالوا: إنما أنزلَ القرآنُ بلسانٍ عربيٍ مبينٍ، وتصْدَاقُ ذلكَ في آيةٍ منَ القرآنِ، وفي آيةٍ أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، فلمْ يَحْتَجِ السَّلفُ ولا الذينَ أدركوا وحيَهُ إلى النَّبي صلّى الله عليه وسلّم أنْ يسألوا عنْ معانيه؛ لأنَّهمْ كانوا عَرَبَ الألسنِ، فاستغنوا بعلمِهِم به عن المسألةِ عنْ معانيه، وعمَّا فيه مما في كلامِ العربِ مثلُه منَ الوجوهِ والتَّلخيصِ.
وفي القرآنِ مِثْلُ ما في الكلامِ العربي منْ وجوهِ الإعرابِ، ومن الغريبِ والمعاني، ومنَ المحتملِ: منْ مجازِ ما اخْتُصِرَ وفيه مضمرٌ ...» (2).
وكأنه يريدُ أنْ يقولَ: إنَّ مَنْ في زمانِه بحاجةٍ إلى بيانِ عربيَّتِهِ، بخلافِ منْ سَلَفهم مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ الذينَ كانوا عرباً يعلمونَ معانيه.
وإذا صَحَّ هذانِ الاستنتاجانِ، فإنهما يكونان سبباً واضحاً لتأليفِ أبي عبيدةَ (ت:210) مجازَ القرآنِ (3)، وأنَّه نَحَى بهِ النَّحْوَ العربيَّ.
_________
(1) مجاز القرآن (1:17 - 18). وينظر تفصيل هذه المجازات التي ذكرها في (1:8 - 16)، ويلاحظ أنَّ في المقدمة المطبوعة اضطراباً، والله أعلم.
(2) مجاز القرآن (1:8).
(3) يُذكرُ في كُتبِ التراجمِ قصَّةٌ في سببِ تأليف أبي عبيدة (210) لكتابه هذا، وملخَّصها: أنه قد سألَهُ إبراهيم بن إسماعيل الكاتب في مجلس الفضل بن الربيع، فقال: «قال الله عزّ وجل: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]، وإنما يقعُ الوعدُ والإيعادُ بما عُرِفَ مثله، وهذا لم يُعرفْ، فقلتُ: إنما كلمَ اللهُ تعالى العربَ على قدرِ كلامِهم، أما سمعتَ قول امرئ القيس:
أيَقْتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأنْيَابِ أغْوَالِ
وهم لم يَروا الغولَ قطٌّ، ولكَّنهم لما كانَ أمرُ الغولَ يَهُولُهم به، فاستحسنَ =
(1/337)
________________________________________
أمَّا كَونُه قَصَدَ بيانَ عربيَّةِ القرآنِ، فإنه ظاهرٌ عندَ أدنى تَأَمُّلٍ في كتابِه، وسأذكرُ بعضَ صور التَّفسيرِ اللُّغويِّ الواردةِ في كتابِ مجازِ القرآنِ:
أولاً: بَيَانُ المُفْرَدَاتِ وَشَوَاهِدُهَا:
يظهرُ من موازنة كتاب (مجازِ القرآن) بغيره من كتب المعاني والغريبِ أنه أكثرُها استدلالاً بالشِّعرِ في معاني القرآنِ، وهذا ظاهرٌ لمن ينظرُ إلى ترقيمِ محقِّقِ كتاب المجازِ، حيثُ بلغتْ بتعدادِه اثنين وخمسينَ وتسعِمائةِ شاهدٍ (1).
ومن أمثلةِ تفسيرِه بالشَّاهد الشِّعريِّ:
_________
= الفضلُ ذلك، واستحسنه السائلُ، وعزمتُ من ذلك اليومِ أن أضع كتاباً في القرآن في مثلِ هذا وأشباهه، وما يحتاجُ إليه من علمٍ، فلمَّا رجعتُ إلى البصرةِ عمِلتُ كتابي الذي سَمَّيتُه المجازَ». معجم الأدباء (19:158 - 159).
وهذه القصةُ ـ فيما يبدو ـ غيرُ صحيحةٍ، ويدلُّ على ذلك أمرانِ:
الأول: أنَّ أبا عبيدة لم يذكر هذه القصَّة في مقدمة كتابه، كما هي عادةُ المؤلفينَ في ذكرِ السببِ الداعي إلى تأليف الكتابِ.
الثاني: أنَّ أبا عبيدةَ لم يتعرَّض لتفسيرِ هذه الآيةِ في موضعها ـ ينظر: (2:170) ـ، وكيفَ يغفِلها وهي سبب تأليف هذا الكتاب؟!
وهو لم يتعرض لتفسيرِها في غيرِ هذه المواطن، وقد تتبعت ألفاظَ الآيةِ، فلم أجده فسَّر لفظة «طلع»، ولا «رؤوس»، أما لفظُ «الشياطينُ»، ففسرها بقوله: «كلُّ عات متمرِّدٍ من الجنِّ والإنسِ والدوابِّ، فهو شيطان». مجاز القرآن (2:32). وهذا كلُّه يدلُّ على ضعفِ هذه الروايةِ، واللهُ أعلم.
وبمناسبةِ هذه الروايةِ، فإنَّ الاستفادةَ من كتبِ التراجمِ، فيما تذكره من أخبارٍ يحتاجُ إلى منهجٍ يُبِّصرُ الباحث فيه؛ لأنَّ بعضَ الباحثينَ يأخذُ هذه الرواياتِ مسلَّمةً، وقد يبني عليها أحكاماً، واللهُ المستعانُ.
(1) بلغت شواهد أبي عبيدة (952) شاهداً، تبعاً لترقيم الدكتور فؤاد سزكين، مع ملاحظة أنه أدخل الشواهد التي وجدها في حواشي النسخ التي اعتمدها، خاصة حاشية النسخة (S) التي امتازت بكثرة الشواهد من بين النسخ المعتمدة، وهي إضافات من غير أبي عبيدة.
(1/338)
________________________________________
1 - قال: «{رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]؛ أي: المخلوقين، قال لبيد بن ربيعة (1):
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْـ ... ـتُ بِمِثْلِهِمْ فِي العَالَمِينَ
وواحدهم: عَالَم ...» (2).
2 - وقال: {الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 6]: الطريق، المنهاجُ الواضحُ، قال (3):
........ ... فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ القَاصِدِ
وقال جَرِير (4):
أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إذَا اعْوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ
والمواردُ: الطُرُقُ: ما وردتَ عليه من ماءٍ، وكذلك القرى.
وقال (5):
_________
(1) ديوانه، تحقيق: حنَّا نصر (ص:263).
ولبيد: لبيد بن ربيعة العامري، الشاعر الجاهلي المشهور، صاحب أحد المعلقات، أدرك الإسلامَ، فأسلمَ وحسن إسلامه، فأقلَّ من قولِ الشعرِ، توفي سنة (41). ينظر: معجم الشعراء المخضرمين والأمويين (ص:404)، ومعجم الشعراء (ص:229).
(2) مجاز القرآن (1:22).
(3) لم ينسبه، وهو في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:171)، وعند ابن عطية، ط: قطر (1:118): الواضح، بدل القاصد، ونسبه المحقق إلى تميم بن أبيٍّ بن مقبل، ولم أجده في ديوانه، تحقيق: عزة حسن. وقد نقل القرطبيُ هذا البيت في تفسيره، ط: دار الكتب (1:147) عن ابن عطيةَ.
(4) ديوانه، بشرح ابن حبيب (1:218).
(5) لم ينسبه أبو عبيدة، وقد نسبه الطبري في تفسيره إلى أبي ذُؤيب الهذلي، ونسبه القرطبي في تفسيره إلى عامر بن الطُّفيل، وهو ليس في شعرِ أبي ذؤيب في ديوان الهذليين، ولا في ديوان عامرِ بن الطفيلِ، وكذا قال فؤاد سزكين ومحمود شاكر. ينظر: حاشية مجاز القرآن (1:34)، وحاشية تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:710 - 171). وفي تفسير القرطبي (1:147): «شَحّنَّا»، بدل: «وطئنا».
(1/339)
________________________________________
وَطِئْنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ» (1)
3 - وقال: {الْمُفْلِحُونَ}: كلُّ منْ أصابَ شيئاً فهو مُفلحٌ، ومصدره: الفلاحُ، وهو البقاء، وكلُّ خيرٍ. قال لبيد بن ربيعة (2):
نَحُلُّ بِلاداً كُلُّها حُلَّ قَبْلَنَا ... وَنَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ
الفَلاَحُ؛ أي: البقاء. وقال عَبيدُ بن الأبرص (3):
أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ، فَقَدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ... ـعْفِ، وَقْدْ يُخْدَعُ الأَرِيبُ
والفَلاَحُ في موضعٍ آخرَ: السَّحُورُ أيضاً.
وفي الأذان: حيَّ على الفلاَحِ، وحيَّ على الفَلَحِ جميعاً.
والفلاَّحُ: الأكَّارُ، وإنما اشتُقَّ من: يَفْلَحُ الأرضَ؛ أي: يَشُقُّها ويُثِيرُها.
ومن ذلك قولهم: إنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ (4)؛ أي: يُفلَقُ.
والفلاَّح: هو المُكَاري، في قول ابن أحمر (5) أيضاً (6):
لَهَا رِطْلٌ تَكِيلُ الزَّيتَ فِيهِ ... وَفَلاَّحٌ يَسُوقُ لَهَا حِمَاراً
_________
(1) مجاز القرآن (1:24 - 25).
(2) البيت في ديوان، شرح الطوسي (ص:103).
(3) عَبِيدُ بن الأبرص بن حَنْتَم، من شعراء الجاهلية، والمعمَّرين، كان سيداً وفارساً من فرسان بني أسد. ينظر: الشعر والشعراء (1:267 - 269)، ومعجم الشعراء (155 - 156).
والبيت في ديوانه، ط: دار بيروت (ص:26).
(4) هذا المثل يُضربُ في الشيء الشديد يستعان به على ما يشاكله. ينظر: مجمع الأمثال، للميداني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1:16).
(5) عمرو بن أحمر الباهلي، شاعر مخضرم، أدرك الإسلام وأسلم، وغَزَى الرومَ، فأصيبت إحدى عينيه، توفي زمن عثمان. ينظر: الشعر والشعراء (1:356 - 359)، ومعجم الشعراء (ص:173).
(6) البيت في ديوان ابن الأحمر (ص:75)، ينظر: المعجم المفصَّل (3:82).
(1/340)
________________________________________
فلاَّح: مُكَارٍ. وقال لبيد (1):
اعْقِلي إنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ ذَا عَقَلْ
أي: ظَفِرَ، وأصاب خيراً» (2).
وأمَّا تفسيره للألفاظ بدون ذكر الشَّواهد فهو كثير، وعلى ذلك أغلبُ مادَّةِ الكتاب، ومن ذلك: {يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (3): مجازه: يبنون، ويَعْرِشُ ويَعْرُشُ لغتانِ، وعريشُ مكَّةَ: خيامُها.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}: مجازه: قَطَعْنَا.
{يَعْكُفُونَ}: أي: يقيمونَ، ويَعْكِفُونَ: لغتان» (4).
ثانياً: الأسَالِيبُ العَرَبِيَّةُ في الخِطَابِ:
يلحظ القارئُ لكتابِ المجازِ كثرةَ بيانِ الأساليبِ العربيَّةِ التي نزلَ بها القرآنُ (5)، ويجدُ في هذا كثرةَ قولِه: تقولُ العربُ، والعربُ تفعلُ ذلكَ، والعربُ تجعلُ، والعربُ تصنعُ ... إلخ.
وهذه الأساليبُ منها ما له أثرٌ في تَغَيُّرِ المعنى، ومنها ما أثرُهُ في جمالِ الكلامِ وبلاغتِه ومقتضى حالِه، وسأذكرُ من الأمثلةِ ما لهُ أثرٌ في التفسيرِ:
1 - قال: «{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، فخرجَ هذا مخرجَ
_________
(1) البيت في ديوانه، شرح الطوسي (ص:122).
(2) مجاز القرآن (1:30 - 31).
(3) أولُ الآيةِ: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ} الآية.
(4) مجاز القرآن (1:227).
(5) ذكر في مقدمة كتابه أكثرَ من ثلاثينَ أسلوباً في الخطاب العربي، وذكر لها أمثلة، ينظر: (1:8 - 16).
وقد أحصيت في تطبيقاته في كتابه أكثر من مائة موضع، ينظر مثلاً: (1:70، 100، 267، 272، 273، 274، 279، 282، 331، 362، 364)، (2:8، 36، 38، 44، 47، 58، 70)، وغيرها.
(1/341)
________________________________________
فِعْلِ الآدميين، وفي آيةٍ أخرى: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وفي آيةٍ أخرى {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فخرجَ على تقديرِ فِعْلِ الآدميين، والعرب قدْ تفعلُ ذلك، وقال (1):
شَرِبْتُ إذَا مَا الدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ ... إذَا مَا بَنُو نَعْشٍ دَنَوا فَتَصَوَّبُوا
وزعم يونس (2) عن أبي عمرو (3): أنَّ {خَاضِعِينَ} ليست من صفةِ الأعناقِ، وإنما هي من صفةِ الكنايةِ عن القومِ التي في آخر الأعناقِ، فكأنَّه في التمثيلِ: فظلَّتْ أعناقُ القومِ، في موضع «هم».
والعربُ قدْ تتركُ الخبرَ عن الأولِ، وتجعلُ الخبرَ للآخرِ منهما، وقال (4):
طُولُ اللَّيَالي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَينَ طُولِي وَطَوَينَ عَرْضِي
فتركَ طولَ اللَّيالي، وحَوَّلَ الخبرَ على اللَّيالي، فقال: أسرعتْ، ثُمَّ قال: طوينَ. وقال جرير (5):
_________
(1) البيت للنابغة الجعدي، وهو في ديوانه (ص:4)، وقد استشهد به أبو عبيدة (1:276) وذكر أوله: تمزَّزها والديك، بدل: شربت إذا ما الديك.
وبنات نعشٍ: سبعة كواكب، وذكَّرها في البيت، لأنَّ الكواكب ذكر. ويدعو صباحه: وقت صباحِه. وتصبوا: تدنوا من الأفق للغروبِ. وهذا البيت في وصف خمرةٍ باكرَها بالشراب عند صياح الديك. ينظر: شرح محقق الديوان (ص:4)، بتصرف.
(2) يونس بن حبيب النحوي، وقد سبقت ترجمته.
(3) أبو عمرو بن العلاء.
(4) نسبه بعضهم إلى الأغلب العجلي، وبعضهم إلى العجاج ـ ولم أجده في ديوانه بتحقيق عزة حسن ـ وقال غيرهم: هو من شوارد الرجز، لا يُعرف قائله، ينظر: الكتاب، لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون (1:53)، وتفسير الطبري، تحقيق: شاكر (7:87)، وخزانة الأدب، للبغدادي، تحقيق: عبد السلام هارون (4:226)، والمعجم المفصل في شواهد اللغة العربية (10/ 394 - 395).
(5) البيت في ديوانه، شرح ابن حبيب (2:546).
(1/342)
________________________________________
رَأتْ مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السَّرَارُ مِنَ الهِلاَلِ
رجعَ إلى «السنين» وترك «مرَّ».
وقال الفرزدقُ (1):
تَرَى أَرْبَاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا ... إذَا صَدَئُ الحَدِيد على الكماةِ
فلم يجعل الخبرَ للأرباقِ، ولكن جعله للذين في آخرها من كنايتهم، ولو كان للأرباقِ لقال: متقلدات، ولكن مجازه: تراهم متقلدين أرباقَهم» (2).
ذكرَ أبو عبيدةَ (ت:210) في هذه الآية احتمالين في معنى {خَاضِعِينَ}:
الأول: أن تكونَ من صفةِ الأعناقِ، وهي بذاتها تكونُ خاضعةً، وإنما جاء التَّعبيرُ عنها بالجمعِ الذي يُعبَّرُ به عن الآدميين (3)؛ أي: جمع المذكر السالم؛ لأنه مما يظهر فيهم.
الثاني: أن تكون من صفةِ الضَّميرِ «هم»، في {أَعْنَاقِهِمْ}، العائدِ على النَّاسِ، وعلى هذا القولِ ـ وهو قول أبي عمرو ـ لا يكون في اللفظِ خروجٌ عن أصلِه؛ لأنَّ الآدميين يُخبر عنهم بالواو والنون، أو الياء والنون، بخلافه المواتُ الذي لا يُخبرُ عنه بذلك، وإنْ أُخبرَ عنه به، فهو خروجٌ عن أصل الخطاب لمعنى يريده القائلُ.
_________
(1) الفرزدق، هو همام بن غالب، أبو فراس التميمي، الشاعر المعروف، كان يُهاجي الشعراء، وعلى رأسهم جرير، وهو في الطبقة الأولى من الشعراء الإسلاميين، توفي سنة (110). ينظر: خزانة الأدب (1:217 - 223)، ومعجم الشعراء (ص:208).
ولم أجد البيت في ديوانه الذي شرحه وضبطه علي الفاعور، وقد ذكر فؤاد سزكين أنه في ديوانه (ص:131)، ولم أحصل على هذه الطبعة التي أعاد إليها فؤاد، وقد وجدته ضمن أبيات للفرزدق في كتاب شرح نقائض جرير والفرزدق، لأبي عبيدة، تحقيق: محمد حُوَّرْ ووليد خالص (3:893).
(2) مجاز القرآن (2:83 - 84).
(3) ينظر أمثلةً لذلك في مجاز القرآن (2:38، 40، 42، 93، 153، 162، 196).
(1/343)
________________________________________
2 - وقال: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] مجازُه مجازُ المكفوفِ عن خبرِه، ثُمَّ استُؤنِفَ، فقال: {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، فمجازُه: لو سُيِّرتْ به الجبالُ لسارتْ، أو قُطِّعتْ به الأرضُ لتقطَّعتْ، ولو كُلِّمَ به الموتى لنُشِرتْ.
والعربُ تفعلُ مثلَ هذا، لعلمِ المستمعِ به، استغناءً عنه، واستخفافاً في كلامهم، قال (1):
خَلا أَنَّ حَيّاً مِنْ قُرَيْشٍ تَفَضَّلُوا ... عَلَى النَّاسِ أَوْ أَنَّ الأَكَارِم نَهْشَلا
وهو آخرُ قَصِيدةٍ، ونصبه وكفَّ عن خبره واختصره، وقال (2):
الطَّعْنُ شَغْشَةٌ، والضَّرْبُ هَيْقَعَةٌ ... ضَرْبَ المُعَوِّلِ تَحْتَ الدِّيمَةِ العَضَدا
وَلِلْقِسِيِّ أَزَامِيلٌ وَغَمْغَمَةٌ: ... حِسَّ الجَنُوبِ، تَسُوقُ المَاءَ والبَرَدا
حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّرُدَا
وهو آخر قصيدةٍ، وكُفَّ عن خبره» (3).
_________
(1) هذا البيتُ منسوبٌ للأخطل، كما في خزانة الأدب (10:454)، وهو ليس في ديوانه بتحقيق: مهدي ناصر الدين، وينظر: المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية (6:98).
(2) الأبيات لعبد مناف بن ربع الهذلي، وهو في ديوان الهذليين (2:140 - 42)، وقد جاء في مجاز القرآن بعد هذه الأبيات شرحها، وهو كالآتي: «وقوله: شَغْشَغَة؛ أي: يُدخله ويُخرجه. والهَيقَعَةُ: أن يضرب بالحدِّ من فوق. والمعوِّل: صاحب العالةِ، وهي ظُلَّةٌ يتَّخذها رعاةُ البَهْمِ بالحجاز إذا خافت البردَ على بَهمِها، فيقول: فيعتضدُ العضَدَ من الشجر لبَهْمِه؛ أي: يقطعه. والدِّيمةُ: المطر الضَّعيفُ الدَّائمُ. والأزاميل: الأصوات، واحدها: أزمل، وجمعها: أزامل، زاد الياء اضطراراً، والغماغم: الأصوات التي لا تفهم. حسَّ الجنوب: صوتها. قتائدة: طريق. أسلكوهم وسلوكهم: واحدٌ». مجاز القرآن (1:331 - 332)، وينظر شرحها أيضاً في ديوان الهذليين.
(3) مجاز القرآن (1:331).
(1/344)
________________________________________
وعلى هذا القول يكون جواب «لو» محذوفاً، وهذا أسلوبٌ عربيٌّ شائعٌ، وقد ذكرَ له شواهدَ من الشِّعرِ، وإنما يختلف التَّفسيرُ هنا في أمرين:
الأوَّلُ: في زَعْمِ أنَّ الجوابِ متقدِّمٌ عليها، وهو قولُه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ} [الرعد: 30] (1). وعلى هذا لا يكونُ في الآية حذفٌ.
الثاني: أنَّ الجوابَ محذوفٌ، واختُلِفَ في تقديرِه، ويُبنَى على هذا الاختلافِ اختلافُ التَّفسيرِ، ومن هذه التَّقديراتِ:
* ولو أنَّ قرآناً سُيِّرتْ به الجبالُ، أو قُطِّعَتْ به الأرضُ، أو كُلِّمَ به الموتى = لكانَ هذا القرآنُ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ اللُّغةِ (2).
* ولو أنَّ قرآناً سُيِّرَتْ به الجبالُ، أو قُطِّعَتْ به الأرضُ، أو كُلِّمَ به الموتى = لما آمنوا (3).
* ومنها ما قدَّره أبو عبيدةَ (ت:210). وظاهرٌ اختلافُ المعنى والتَّفسيرِ بسببِ الحذفِ هنا، واللهُ أعلم.
وظاهرةُ أساليبِ الخطابِ العربيِّ التي نزل بها القرآنُ مما يحتاجُ إلى دراسةٍ مستقلَّةٍ، وفيها معلوماتٌ كثيرةٌ، والله الموفِّقُ.
ثالثاً: تَوجِيهُ القِرَاءَاتِ:
وهو أحدُ الميادينِ التي وَلَجَهَا اللُّغويُّونَ لبيانِ ما في القراءاتِ واختلافِها منْ وجوهِ العربيَّةِ، وقد كانَ نصيبُ التَّوجيهِ فيما يخصُّ تَغيُّرَ المعنى في كتابِ المجازِ قليلاً قياساً على كثرتِها في غيره، ومنْ أمثلةِ ذلك:
1 - قال أبو عبيدة (ت:210): «{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] القافُ مكسورةٌ؛ لأنها منْ: وَقَرَتْ تَقِرُ، تقديرُه: وَزَنَتْ تَزِنُ، ومعناه: من الوَقَارِ.
_________
(1) ينظر: معاني القرآن، للفراء (2:63).
(2) معاني القرآن، للنحاس (3:496).
(3) ينظر: معاني القرآن، للنحاس (3:496).
(1/345)
________________________________________
ومَنْ فَتَحَ القافَ (1)، فإنَّ مجازَها من: قَرَّتْ تَقِرُّ، تقديره: قَرَرَتْ تَقِرُّ، فحذف الثانية فَخَفَّفها ...» (2).
2 - وقال: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55] (3)، الفَكِهُ: الذي يتفكَّهُ، تقولُ العربُ للرجلِ إذ كانَ يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراضِ الناسِ: إنَّ فلاناً لفكِهٌ بأعراض (4).
قالت خنساء (5) أو عمرة بنتها (6):
فَكِهٌ عَلِى حِينِ العشَاءِ إِذا ... حَضَرَ الشِّتَاءُ وَعَزَّتِ الجُزُرُ
_________
(1) قرأ بفتح القاف أبو جعفر ونافع وعاصم، وقرأ الباقون بكسرها. ينظر: المبسوط في القراءات العشر، لابن مهران، تحقيق: سبيع حمزة (ص:358)، والإقناع في القراءات السبع، لابن الباذش، تحقيق: عبد المجيد قطامش (2:737).
(2) مجاز القرآن (2:137).
(3) قرأ أبو جعفر وحده بغير ألف، وقرأ الباقون بألف على وزن الفاعل. ينظر: المبسوط في القراءات العشر (ص؛371)، والنشر في القراءات العشر، لابن الجزري (2:354 - 355).
(4) يظهر أنَّ في النَّصِّ سقطاً، ويدلُّ عليه أنَّ الطبري لما نقل عنه هذا الموضع، قال: «... فقال بعض البصريين منهم: الفَكِهُ: الذي يتفكَّهُ. وقال: تقول العرب للرجل الذي يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض الناس: إنَّ فلاناً لَفَكِهٌ بأعراض الناس ...».
تفسير الطبري، ط: الحلبي (23:19).
(5) تُمَاضِرُ بنت عمرو، المشهورة بالخنساء، الشاعرة التي اشتهر شعرها بمراثيها في أخيها صخر، وفدت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأسلمت، واستشهد أولادها الأربعة في القادسية، فلم تبك عليهم كما بكت أخاها صخراً، توفيت سنة (24)، وقيل غيرها. ينظر: الشعر والشعراء (1:343 - 347)، وخزانة الأدب (1:433 - 438).
(6) عمرة بنت مرداس بن عامر السلمي، أخت العباس بن مرداس، شاعرة جاهلية، لها مَرَاثٍ كأُمِّها الخنساء. معجم الشعراء (ص:172).
والبيت لم أجده عند غير أبي عبيدة، ولم أجده في ديوان الخنساء، شرح ثعلب، تحقيق: فايز أحمد.
(1/346)
________________________________________
ومنْ قرأها: {فَاكِهُونَ} جعلَهُ: كثيرَ الفواكِه، صاحبَ فاكهةٍ، قال الحطيئة (1):
وَدَعَوتَنِي وَزعَمْتَ أَنَّـ ... ـكَ لاَبِنٌ بِالصَّيْفِ تَامِرُ
أي: ذا لبن وتمرٍ؛ أي: عنده لبنٌ كثيرٌ وتمرٌ كثيرٌ، وكذلك: عاسِلٌ ولاحمٌ وشاحمٌ» (2).
تعرُّض أبي عبيدة للنَّقد بسبب منهجه اللُّغويِّ:
لقد كان المنهجُ اللُّغويُّ الذي سَلَكَهُ أبو عبيدةَ (ت:210) عُرْضَةً للنَّقدِ، كما أوقعَه في شيءٍ من المخالفاتِ في التَّفسيرِ؛ لأنَّ للتَّفسيرِ مصادرَ غير اللُّغةِ يجب على المفسِّرِ الرُّجوعُ إليها، ولا يعني هذا أنَّ كتابَه يخلو من التَّأثُرِ بالمصادرِ الأخرى (3)، لكنَّ المرادَ أنَّ اعتمادَه على المنقولِ مِنَ التَّفسيرِ؛ كالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ، وآثارِ السَّلفِ، وأسبابِ النُزُولِ، وقصصِ الآيِ = كان قليلاً جِدًّا.
ومن أمثلةِ اعتمادِهِ على السُّنَّةِ النَّبويَّةِ، في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، قال: «مجازُه: إنَّ ملائكَة اللَّيلِ تشهدُه، إذا صُلِّيَتْ الغَدَاةُ أعقبتْهَا ملائكةُ النَّهارِ» (4).
وهذا مأخوذٌ من قولِ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، قال: «.... وتجتمعُ ملائكةُ اللَّيلِ وملائكةُ النَّهارِ في صلاةِ الصُّبحِ.
_________
(1) البيت في ديوانه، تحقيق: نعمان محمد (ص:56).
(2) مجاز القرآن (2:163 - 164).
(3) ينظر في الجزء الأول تفسير الألفاظ الآتية: المنُّ والسَّلوى (ص:41)، الطُّور (ص:43). حنيفاً (ص:58)، شعائر الله (ص:62)، معدودات (ص:71)، اللَّغو (ص:73)، قال لهم الناس (ص:108)، وغيرها.
(4) مجاز القرآن (1:388).
(1/347)
________________________________________
يقولُ أبو هريرةَ: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]» (1).
ويظهرُ في كتابِ مجازِ القرآن أنَّ أبا عبيدة (ت:210) كانَ يعتمِدُ على المخزونِ اللُّغويِّ الذي كانَ يحفظُهُ، سواءً أكانَ تفسيرَ ألفاظٍ، أم كانَ شواهدَ شعريَّةً.
ويبدو أنَّ ثقافتَهُ اللُّغويَّةَ الثَّرِيَّةَ أحدثتْ عنده اعتداداً بعلمِهِ، وجعلتْه يُقِلُّ من النَّقْلِ عن غيرِه، حتى إنَّكَ لا ترى أثراً للنَّقلِ عن المتقدِّمين من علماءِ السَّلفِ واللُّغويِّينَ: أمَّا نقله عن السَّلفِ، فقليلٌ جداً، ولا يكادُ يُذكرُ، وأمَّا اللُّغويُّونَ، فهو يُعَدُّ في الطبقةِ الثَّانيةِ من طبقاتِ القرنِ الثاني، إذ سبقَهُ طبقةُ شيوخِهِ، أمثالُ: أبي عمرو بنِ العلاءِ (ت:154)، والخَليلِ بنِ أحمدَ (ت:175)، ويونسَ النَّحويِّ (ت:182)، ونقله عنهم أكثر من نقله عن السَّلفِ، لكنه قليلٌ أيضاً.
ومما يدلُّ على هذا ما وردَ عن تلميذِه أبي عمر الجَرْمِيِّ (ت:225) (2)، قال: «أتيتُ أبا عبيدةَ بشيءٍ منه [يعني: مجاز القرآن]، فقلت له: عمَّنْ أخذتَ هذا يا أبا عبيدة؟ فإنَّ هذا خلاف تفسيرِ الفقهاءِ (3).
فقال لي: هذا تفسيرُ الأعرابِ البوَّالينَ على أعقابهم، فإنْ شِئتَ فخذْهُ، وإنْ شئتَ فَذَرْهُ» (4).
_________
(1) رواه البخاري، ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8:215).
(2) صالح بن إسحاق البجلي، أبو عمر الجرمي، أخذ عن الأخفش وأبي عبيدة والأصمعي وطبقتهم، كان ذا دين وورع، وله كتبٌ في النحو ككتاب الأبنية، توفي سنة (225).
ينظر: طبقات النحويين واللغويين (ص:74 - 75)، وإنباه الرواة (2:80 - 83).
(3) يقصد بهذا المصطلح المفسرين، وسيأتي هذا المصطلحُ لاحقاً في كلام أبي عبيد القاسم بن سلام.
(4) طبقات النحويين واللغويين (ص:167).
(1/348)
________________________________________
فالجرميُّ (ت:225) ينتقدُ أبا عبيدة (ت:210) بأنَّه قد خالفَ المفسِّرينَ في كتابِه هذا، ويردُّ عليه بهذا الرَّدِّ الذي يدلُّ على الاعتدادِ بالنَّفسِ، وكأنَّه لا يَعني له هذا الانتقادُ شيئاً.
وهذا المنهجُ اللُّغويُّ الذي سلكَه أبو عبيدة (ت:210)، أوقعَهُ في بعضِ التَّفسيراتِ التي لا تَصِحُّ، كما أوقعه في ردِّ بعضِ الواردِ عن السَّلفِ، وكأنه لا يحتجُّ بتفسيرِهم في نقلِ اللُّغةِ (1)، ولقد كانَ بسببِ هذه التَّفسيراتِ عُرْضةً للنَّقدِ.
* ومنَ الأمثلةِ التي انتُقِدَت عليه من جهةِ اللُّغةِ:
1 - قوله: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] بعض يكونُ شيئاً منَ الشيء، ويكونُ كلَّ الشيءِ، قالَ لبيدُ بن ربيعة (2):
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إَذَا لَمْ أَرْضَهَا
أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
فلا يكونُ الحِمامُ ينْزلُ ببعضِ النفوسِ، فيُذهِبُ البعضَ، ولكنه يأتي على الجميعِ» (3).
وهذا الذي قاله في معنى «بعض» قد انتُقِد عليه (4)، قال أبو جعفر النحاس (ت:338): «وهذا القولُ غلطٌ عند أهل النَّظرِ منْ أهلِ اللُّغةِ؛ لأنَّ
_________
(1) وازن هذا بما قد سبقَ نقله عنه، قال: «... فلم يحتجِ السلفُ ولا الذين أدركوا وحيَه إلى النَّبيِّ أن يسألوا عن معانيه؛ لأنهم كانوا عربَ الألسنِ، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه، وعما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص». مجاز القرآن (1:8)، فمن كان هذا حالهم، لِمَ يعترض على بيانهم اللُّغويِّ للقرآنِ؟!
(2) البيت في ديوانه، شرح الطوسي، تحقيق: حنا نصر (ص:227). وفيه: يرتبط، بدلَ يعتلق. ومعنى الحُمَام: الموت.
(3) مجاز القرآن (1:94).
(4) ينظر في نقده: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (1:415)، مفردات ألفاظ القرآن، للراغب (ص:134)، غرائب التفسير، للكرماني (1:257)، المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 134).
(1/349)
________________________________________
البعضَ والجزءَ لا يكونانِ بمعنى الكُلِّ (1).
قال أبو العباس (2): معنى «أو يرتبط بعضَ النفوسِ»: أو يرتبطْ نفسي، كما يقولُ: بعضُنا يعرفه؛ أي: أنا أعرفُهُ، ومعنى الآيةِ على البعضِ؛ لأنَّ عيسى صلّى الله عليه وسلّم إنما أحلَّ لهم أشياء مما حرَّمها عليهم موسى: من أكل الشحومِ وغيرها، ولم يُحِلَّ لهم القتلَ، ولا السَّرقةَ، ولا الفاحشةَ» (3).
وهذا المذهبُ قد حُكِيَ عن غيرِه، وقد أُنْكِرَ أيضاً، كما قال الأزهريُّ (ت:370): «وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: أجمع أهلُ النَّحوِ على أنَّ البعضَ شيءٌ من أشياءَ، أو شيءٌ من شيءٍ إلاَّ هشاماً (4)، فإنه زعمَ أنَّ قول لبيد:
........ ... أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
فادَّعى وأخطأ: أنَّ البعضَ هاهنا جمعٌ (5). ولمْ يكنْ هذا منْ عمله، وإنما أراد لبيد ببعض النفوس: نفسه» (6).
_________
(1) ينظر المذاهب في جواز دخول «أل» على «بعض» و «كل»: لسان العرب، مادة (بعض).
(2) هو المبرد، ولم أجد هذا القول في الكامل في الأدب.
(3) معاني القرآن (1:403 - 404).
(4) يحتمل أن يكون هشام بن معاوية الضرير، النحوي، الكوفي، صاحب الكسائي، توفي سنة (209). ويدلُّ عليه أنه نحوي لا لغوي، كما في ترجمته، ولذا قال: «ولم يكن هذا من عمله».
(5) قد حُكيَ هذا المذهب عن أبي الهيثم أيضاً، ينظر: تاج العروس، مادة (نظر).
(6) تهذيب اللغة (1:490). ومن العجيب أنَّ الذي ورد عنه في كتاب مجالس ثعلب، تحقيق: عبد السلام هارون (1:50) يخالف ما نُقِلَ عنه في تهذيب اللُّغةِ، قال: «{وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي} [الزخرف: 63]، قال: تكونُ بمعنى كل، وبمعنى بعض، وأنشد للبيد:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
مجالس ثعلب، تحقيق: عبد السلام هارون (1:50).
(1/350)
________________________________________
2 - وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة: 34]، معناه: وقلنا للملائكةِ، و «إذ» منْ حروفِ الزوائدِ (1)، وقال الأسودُ بن يَعْفُر (2):
فَإذَا وَذَلِكَ لا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ ... وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحاً بِفَسَادِ
ومعناه: وذلك لا مَهَاهَ لذكرِهِ، ولا طَعْمَ ولا فَضْلَ، وقال عبد مناف بن رِبع الهذلي (3)، وهو آخرُ قصيدة (4):
حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الجَمَّالةُ الشُّرُدَا
معناه: حتى أسلكوهم» (5).
وهذا المذهبُ الذي ذهبَ إليه في الزِّيادةِ في هذا الموضعِ وغيرِه، قد انتقده عليه بعضُ العلماءِ، وخطَّؤه بهذا، ومِمَّن ردَّ عليه هذا الموضعَ الطبريُّ (ت:310)، قال: «زعمَ بعض المنسوبين إلى العلمِ بلغاتِ العربِ منْ أهلِ
_________
(1) ذكر أبو عبيدة في الأساليب التي صدَّر بها كتابه أنَّ الزيادة من مجازات العرب في كلامها، فقال: «ومن مجاز ما يزاد في الكلام من حروف الزوائد، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، وقال: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، وقال: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون: 20]، وقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} [البقرة: 30]، وقال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 17]، مجاز هذا أجمع: إلقاؤهنَّ». مجاز القرآن (1:11). وقد تبعه ابن قتيبة في القول بالزيادة، ينظر مثلاً: تأويل مشكل القرآن (ص:243 - 255)، وينظر: تفسير غريب القرآن (ص:45، 103).
(2) الأسود بن يعفر بن عبد الأسود، أبو الجراح، أعشى بني نهشل، شاعر جاهلي، نادم النعمان بن المنذر، وكان ممن يهجو قومه. ينظر: خزانة الأدب (1:405 - 406)، ومعجم الشعراء (ص:18).
والبيت في ديوانه (ص:31)، ينظر المعجم المفصل (2:331).
(3) عبد مناف بن رِبع، شاعر جاهلي من شعراء هذيل، ليس له أخبار تُذكر. ينظر: خزانة الأدب (7:49)، ومعجم الشعراء (ص:154).
(4) ديوان الهذليين (2:42).
(5) مجاز القرآن (1:37).
(1/351)
________________________________________
البصرةِ أنَّ تأويل قولِه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}: وقال ربُّكَ، وأنَّ «إذ» من أحرفِ الزَّوائدِ، وأنَّ معناها الحذفُ.
واعتلَّ لقولِه الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُرَ:
فَإِذَا وَذَلِكَ لا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ ... وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحاً بِفَسَادِ
ثُمَّ قال: ومعناها: وذلك لا مهاه لذكره، وبيت عبد مناف بن رِبْع الهذلي:
حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّرُدا
وقال: معناه: حتى أسلكوهم.
قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أنَّ «إذ» حرفٌ يأتي بمعنى الجزاءِ، ويدلُّ على مجهولٍ من الوقتِ. وغير جائز إبطالُ حرفٍ كانَ دليلاً على معنى في الكلامِ. إذْ سواءٌ قِيلُ قائلٍ: هو بمعنى التَّطَوُّلِ، وهو في الكلام دليلٌ على معنىً مفهوم، وقِيلُ آخرُ، في جميعِ الكلامِ الذي نطقَ به دليلاً على ما أريدَ به: هو بمعنى التَّطَوُّلِ ...» (1).
* ومما ردَّه من قول السَّلف، تفسير قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]، قال: «أفْعَلَتْ من العتادِ، ومعناه: أعدَّتْ له [كذا] متكأً؛ أي: نُمْرُقاً تَتَّكِئُ عليه.
وزعم قومٌ أنه الأُتْرُجُّ، وهذا من أبطلِ باطلٍ في الأرضِ، ولكنْ عسى أنْ يكونَ مع المتكَإِ أُتْرُجٌ يأكلونه» (2).
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:439 - 440) وفي بقية كلامه ردٌّ مفصَّلٌ لما فهمه أبو عبيدة من معنى إذا في الأبيات. وقد ردَّ عليه في هذا الموضع: الزجاج في معاني القرآن وإعرابه (1:108)، وينظر: الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، لابن السيِّد البطليوسي، تحقيق: مصطفى السقا وحامد عبد العزيز (3:274 - 275)، وخزانة الأدب (7:40 - 42).
(2) مجاز القرآن (1:308 - 309).
(1/352)
________________________________________
وقد ورد تفسير المتكَإِ بالأُتْرُجِّ عن ابن عباس (ت:68) من طريق مجاهد (ت:104) (1) وعطية العوفيِّ (ت:111) (2)، وعن الضَّحَّاك (ت:105) من طريق أبي روق (3)، وعن سلمة بن تمام (4).
وفسَّره بعضُ السَّلفِ بأعمَّ من الأُتْرُجِّ، فقالوا: طعاماً، ورد ذلك عن ابن عبَّاس (ت:68)، وسعيد بن جبير (ت:94)، ومجاهد (ت:104)، وعكرمة (ت:105)، والحسن البصريِّ (ت:110)، وعطية العوفي (ت:111)، وقتادة (ت:117)، وابن إسحاق (ت:150) (5)، وابن زيد (ت:182) (6).
وفسَّره آخرونَ، فقالوا: كلُّ شيءٍ يُقْطَعُ بالسِّكينِ، ورد ذلك عن الضَّحَّاك (ت:105) (7)، وعكرمة (ت:105) (8).
وورد عن مجاهدٍ (ت:104) ما يفيد أنَّ سببَ الاختلاف في التَّفسيرِ
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:71)، وتفسير ابن أبي حاتم (7:2132).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:73).
(3) عطية بن الحارث، أبو روق الهمذاني، الكوفي، روى عن إبراهيم التيمي وأنس بن مالك، وغيرهما، وعنه: إبراهيم بن الزبرقان، وبشر بن خالد وغيرهما، صدوق.
ينظر: تهذيب الكمال (5:183)، وتقريب التهذيب (ص:680).
وروايته في تفسير ابن أبي حاتم (7:2133).
(4) سلمة بن تمام، أبو عبد الله الشَّقَرِي، الكوفي، روى عن إبراهيم النخعي وإسماعيل بن رجاء، وعنه: إسماعيل بن عُليَّة وجرير بن حازم، صدوقٌ، ينظر: تهذيب الكمال (3:244)، وتقريب التهذيب (ص:399)، وروايته في تفسير ابن أبي حاتم (7:2133).
(5) محمد بن إسحاق بن يسار المطَّلبي، المدني، صاحب السيرة، توفي سنة (150)، وقيل غيرها. ينظر: طبقات ابن سعد (7:321 - 322)، والقسم المتمم للطبقات (ص:400 - 402)، وتهذيب الكمال (6:221 - 227).
(6) ينظر أقوالهم في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:72 - 74)، وتفسير ابن أبي حاتم (7:2133).
(7) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:74)، وتفسير ابن أبي حاتم (7:2133).
(8) تفسير ابن أبي حاتم (7:2133).
(1/353)
________________________________________
اختلافُ القراءةِ وتوجيهها في اللُّغةِ، فقال: «من قرأ: {مُتَّكَأً}، فهو الطعام. ومن قرأها: «مُتْكاً»، فخفَّفها (1)، فهو الأتْرُجُّ» (2).
وعلى هذا يمكنُ حملُ تفسيرِ منْ فسَّرَ المُتَّكأَ بالأترجِّ أنه أرادَ تفسيرَ هذه القراءةِ، ومن فسَّرَهُ بالطعامِ، أرادَ القراءةَ المتواترةَ.
ويكون في القراءةِ المتواترةِ وجهانِ من التَّفسيرِ:
الأول: أنَّ المُتَّكَأَ: ما يُتَّكَأُ عليه من الوسائدِ وغيرها. وهذا هو القول الذي نصرَه أبو عبيدة (ت:210)، والطبريُ (ت:310) (3)، وهو قول أهل اللغة (4).
الثاني: أنَّ المُتَّكَأَ: الطعام، وهو قول جمهور السَّلف.
والقول الثاني محكيٌ في اللُّغةِ، قال ابن قتيبة (ت:276): «{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]؛ أي) طعاماً، يقال: اتَّكَانَا عندَ فلانٍ؛ أي: طَعِمْنَا.
وقال جميل (5):
فَظَلِلْنَا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَانَا ... وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قِلَلِهْ
_________
(1) قال ابن جني: «وقرأ: {مُتْكاً} ساكنة التاء غير مهموزة ابن عباس وابن عمر والجحدري وقتادة والضحاك والكلبي وأبان بن تغلب، ورويت عن الأعمش». المحتسب (1:339)، وزاد ابن عطية مجاهداً، المحرر الوجيز، ط: قطر (7:492).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:72، 73)، وتفسير ابن أبي حاتم (7:2133).
(3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:69، 70، 71).
(4) ينظر: معاني القرآن، للنحاس (3:421)، ومادة (وكى، ومتك) في لسان العرب وتاج العروس.
(5) جميل بن عبد الله القضاعي، المعروف بجميل بثينة، نُسِبَ إليها لحبِّه لها، وكثرةِ شعرِه فيها، وتوفي بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان سنة (82)، ينظر: معجم الشعراء المخضرمين والأمويين (ص:85)، ومعجم الشعراء (ص:57).
والبيت في ديوانه، تحقيق: إميل يعقوب (ص:189)، والقلل: جمع قُلَّةٍ، وهي إناء للعرب كالجَرَّةِ، وقيل غير ذلك. ينظر: لسان العرب، مادة (قلل).
(1/354)
________________________________________
والأصل: أنَّ من دَعَوْتَهُ لِيَطْعَمَ، أَعْدَدْتَ له التكأة للمُقَامِ والطُّمأنينة، فيسمَّى الطعامُ متكأً على الاستعارةِ» (1).
وبهذا يَبِينُ تقصيرُ أبي عبيدةَ (ت:210) وتسرُّعه في ردِّ هذا المعنى، وقد أنكر عليه ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام (ت:224)، فيما حكاه عنه الطبري (ت:310)، قال: «وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام قول أبي عبيدة، ثمَّ قال: والفقهاء أعلم بالتَّأويلِ منه. ثمَّ قال: ولعله بعضُ ما ذهبَ من كلامِ العربِ، فإنَّ الكسائيَّ كان يقولُ: قد ذهبَ من كلامِ العربِ شيءٌ كثيرٌ انقرضَ أهلُهُ» (2).
وقد ذكرَ جمعٌ من أهلِ اللُّغةِ أنَّ لفظَ المُتْكِ يعني الأتْرُجَّ، كما ذكرَ بعضُ اللُّغوييِّنَ القراءةَ الشَّاذَّةَ «مُتْكاً» في البيانِ عن ورودِ هذا المعنى في لغةِ العربِ.
قال الزَّبيديُّ (ت:1205): «(و) المُتْكُ بالضَّمِّ ... (الأُتْرُجُّ)، حكاه الأخفشُ (3)، ونقله الجوهريُّ (4)، وقال الفرَّاء (5): الواحدة مُتْكَةٌ مثل: بُسْر
_________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص:180 - 181)، وينظر له كتاب الأشربة، تحقيق: ممدوح حسن محمد (ص:79)، وتفسير غريب القرآن (ص:216).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:71). وقد علَّق الطبريُ على قوله منتصراً لما ذهب إليه أبو عبيدة من المعنى، فقال: «والقول في أنَّ الفقهاءَ أعلمُ بالتأويلِ من أبي عبيدةَ، كما قال أبو عبيدٍ لا شكَّ فيه، غير أنَّ أبا عبيدةَ لم يُبْعِد من الصواب في هذا القولِ، بل القول كما قال: من أنَّ من قال للمتكأ: هو الأترجُّ، إنما بيَّنَ المُعدَّ في المجلسِ الذي فيه المتكأ، والذي من أجله أعطين السكاكين؛ لأنَّ السكاكينَ معلومٌ أنها لا تُعدُّ للمتكأ إلاَّ لتخريقه، ولم يُعْطَينَ السكاكين لذلك». تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:71).
وهذا غريبٌ على منهجِ الطبري الذي كان يعتمدُ ما وردَ عن السلفِ، ويعارضُ ما وردَ عن اللغويين إن عارضه، وقد سبق بيان هذا المنهج عند الحديث عن تفسيره.
(3) لم أجده في موضعه من معانيه (1:397).
(4) ينظر قوله في الصحاح، مادة (متك).
والجوهري: إسماعيل بن حماد الجوهري، من أعاجيب الدنيا، إمام في اللغة، له كتاب الصحاح في اللغة، توفي سنة (398). ينظر: معجم الأدباء (6:151 - 165)، وإنباه الرواة (1:229 - 233).
(5) لم أجده في معاني القرآن (2:42)
(1/355)
________________________________________
وبُسْرَة (ويُكسر) قال الشاعر (1):
نَشْرَبُ الإثْمَ بِالكُؤوسِ جِهَاراً ... وَنَرَى المُتْكَ بَيْننا مُسْتَعَاراً
وقيل: سُمِّيَتْ الأترجَّةُ مُتْكَةً؛ لأنها تُقْطَعُ.
(و) قال الجوهريُّ (2): قال الفرَّاء (3): حدَّثني شيخٌ من ثقات أهل البصرةِ أنه (الزُّمَاوَرْدُ) (4).
وبكلٍّ منهما فُسِّرَ قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31] بضمِّ فسكونٍ، وهي قراءةُ ابنِ عباسٍ ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وابنِ جبيرٍ، ومجاهدٍ، وابنِ يعمرَ (5)، والجحدريِّ (6)، والكلبيِّ (7)، ونصرِ بنِ عاصمٍ، كذا في العباب.
وفي كتابِ الشَّواذِّ لابن جني (8): هي قراءةُ ابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، والجحدريِّ، وقتادةَ، والضَّحَّاكِ، والكلبيِّ، وأبانِ بنِ تغلبَ، ورُويتْ عن الأعمش (9).
_________
(1) ينظر: تهذيب اللغة (15:161)، وقد فسَّر المتك بالأترج، ولسان العرب، مادة (أثم).
(2) ينظر: الصحاح، مادة (متك).
(3) هو في معاني القرآن (2:42).
(4) قال في القاموس المحيط، مادة (ورد): «الزُّمَاوَرْد: طعامٌ من البيض واللحمِ، والعامة يقولون: بَزْمَاوَرْدٌ».
(5) هو يحيى بن يعمر، وقد سبقت ترجمته.
(6) هو عاصم الجحدري، وقد سبقت ترجمته.
(7) هو محمد بن السائب، وقد سبقت ترجمته.
(8) هو كتاب المحتسب.
(9) سليمان بن مهرانٍ، أبو محمد، الأسدي، الكوفي، ثقةٌ حافظٌ، عارفٌ بالقراءةِ، أخذها عن النخعي وزِرِّ بن حبيش وغيرهما، توفي سنة (148). ينظر: تقريب التهذيب (ص:414)، وغاية النهاية (1:315 - 316).
(1/356)
________________________________________
قلتُ: ورواه عنِ الضَّحَّاكِ أبو روقٍ، وفسَّره بزماورد (1)، ورواه الأعمشُ عنْ أبي رجاءَ العطارديِّ (2)، وقال: هو الأترج» (3).
وبهذا يظهرُ أنَّ هذا المعنى الذي فُسِّرَ به صحيحٌ من حيثُ اللُّغةِ، ولا يَصِحُّ ردُّه، ويكفي في ذلكَ حكايةُ السَّلفِ له (4)، والله أعلم.

أثر المعتقد على دلالة الألفاظ عند أبي عبيدة:
لقد كان أبو عبيدة (ت:210) متهماً في معتقده، فنُسِبَ إلى الخوارجِ (5)، ونُسِبَ إلى المعتزلة (6)، فهل ظهر منه في كتابه مجاز القرآن ما يعضد هذا الاتهام؟
أمَّا الخوارجُ، فلمْ يكنْ لهم في عهدِه تراثٌ يمكنُ أنْ تُعرفَ به قضايا العقيدةِ عندهم، وهي لم تظهرْ إلاَّ متأخِّرةً، وقد قرأتُ أخبارَهم في كتابِ الكامِلِ في الأدبِ، للمبرد (ت:285)، وأغلبُ ما فيه أخبارُ قتالِهم للمسلمينَ وشجاعتهمْ في ذلكَ، ومن أكبرِ المسائلِ التي ذكرتها كتبُ الفرقِ عنهم مسألةُ الإيمانِ، وما نشأ عنه من حكمِ مرتكبِ الكبيرةِ، وتكفيرهم له، وأنه مخلَّدٌ في النارِ، وغيرها من الأحكام.
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:70).
(2) عمران بن مِلحان، أبو رجاء العطاردي، مشهور بكنيته، بصريٌّ، ثقةٌ مخضرمٌ، ولد قبل الهجرة، وأسلم ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلّم، أخذ القراءة على أبي موسى، وعرضه على ابن عباس، توفي سنة (105). ينظر: تقريب التهذيب (ص:752)، وغاية النهاية (1:604).
(3) تاج العروس، مادة (متك).
(4) ينظر تفسيره للطلح (2:250)، فقد ردَّ تفسير السلف له. وسيأتي نقاشه لاحقاً، وينظر تفسيره تثبيت الأقدام (1:242)، فقد فسره بخلاف ما ورد عن السلف، لعدم اعتماده على الوارد عنهم من أسباب النُّزول وقصص الآي.
(5) ينظر مثلاً: إنباه الرواة (3:281).
(6) ينظر مثلاً: طبقات النحويين واللغويين (ص:177).
(1/357)
________________________________________
وقد تفحَّصتُ كتاب أبي عبيدةَ (ت:210)، فلمْ أجدْ فيه شيئاً من هذه العقائدِ، فهل كانَ يتَّقي المجاهرةَ بذلكَ، كما وردت الرِّوايةُ عن تلميذه التَّوَّزيِّ (1)، قال: «دخلتُ على أبي عبيدة، وهو جالسٌ في مجلسِ مسجدِهِ وحده، ينكتُ في الأرضِ، فرفع رأسه إليَّ، وقال: من القائلُ (2):
أقُولُ لَهَا ـ وقَدْ جَشَأتْ وَجَشَاتْ ... مِنَ الأطْمَاعِ ـ: وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي
فَإِنَّكِ لَو سَأَلْتِ بَقَاءَ يَوْمٍ، ... عَلَى الأجَلِ الَّذي لَكِ لَنْ تُطَاعِي
فقلتُ: قُطْريُّ بنُ الفُجَاءة الخارجيُّ (3).
قال: فضَّ اللهُ فاكَ، هلاَّ قُلتَ: لأميرِ المؤمنينَ أبي نعامةَ. قال لي: اجلسْ، واكتُمْ عليَّ ما سَمِعتَ مِنِّي.
قال: فما ذكرتُه حتَّى ماتَ» (4). واللهُ أعلمُ.
فإن صحَّتْ هذه الروايةُ، فإنها تدلُّ على إبطانه لمعتقدِ الخوارجِ، ولذا لم يظهرْ في كتابِه ما يدلُّ على اعتقادِه مذهبَهم، واللهُ أعلم.
أمَّا تُهْمةُ الاعتزالِ، فيقول عنها الخُشَنِيُّ (5): «كان أبو عبيدةَ مُسَّ ببعضِ
_________
(1) عبد الله بن محمد بن هارون، أبو محمد التَّوَّزِيُّ، قرأ كتاب سيبويه على الجرميِّ، وأخذ عن أبي عبيدة والأصمعيِّ، له كتاب الأضداد وغيره، توفي سنة (230)، ينظر: أخبار النحويين البصريين (ص:95 - 97)، إنباه الرواة (2:126).
(2) الأبيات من مشهور شعره، وهي في مصادرَ كثيرةٍ، منها: شعراء الخوارج، تحقيق: إحسان عباس (ص:42 - 43)، وأمالي الشريف المرتضى (1:636)، وسمط اللآلي (1:575).
(3) قُطْرِيُّ بنُ الفُجَاءَةِ من بني مازن، أبو نعامة، من قادة الخوارجِ الأزارقة، خرج زمن ولايةِ مصعب بن الزبيرِ للعراقِ، قتل في طبرستان سنة (78)، وقيل غيرها. ينظر: معجم الشعراء المخضرمين والأمويين (ص:374 - 375)، ومعجم الشعراء (ص:215).
(4) مراتبُ النَّحويين (ص:78 - 79). وينظره في أمالي الشريف المرتضى (1:636).
(5) محمد بن عبد السلام الخُشَني، من أهل جيَّان، رحل إلى المشرق، ولقي المازنيَّ =
(1/358)
________________________________________
الاعتزالِ، إلاَّ أنه قد بَرِئَ منْ ذلك بما ظهرَ في روايته وكتبه» (1).
وقال مروانُ بنُ عبدِ الملكِ: «قلت لأبي حاتم: يقال: إنَّ أبا عبيدةَ كانَ يقول بالقدرِ، فقال: لا، وأنكرَ ذلك. قال: كان يثبتُ القَدَرَ» (2).
وهذا المنهج الذي نصَّ عليه الخُشَنِي منهجٌ صحيحٌ قويمٌ، فهل ظهر في كتبه ما يدلُّ على ما نُسِبَ إليه؟
لقد اجتهدتُ في تتبعِ الكتابِ لإظهارِ ما يتعلقُ بهذه المسألةِ فظهر لي من الأمثلة ما يأتي:
1 - في قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، قال: «مجازه: ظَهَرَ على العرشِ، وعلا عليه، ويقالُ: استويتُ على ظَهْرِ الفرسِ، وعلى ظَهْرِ البيتِ» (3).
وهذا القولُ في الآية هو قولُ أهلِ السُّنةِ، أمَّا المعتزلةُ فيرون أنَّ معنى: استوى: استولى، ولهم أقوالٌ أخرى فيها تحريفٌ لمعنى الاستواءِ (4).
2 - في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، قال: «مجازه أنه خلقَهُ ولمْ يكنْ منَ البَدْءِ شيئاً، ثمَّ يُحييه بعدَ موتِه {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، فجازَ مجازُهُ: وذلك هَيِّنٌ عليه؛ لأنَّ «أفْعَل» يوضعُ موضعَ الفاعلِ، قال (5):
_________
= وأبا حاتم وغيرهما، وكتب الحديث، وكان فصيح اللسانِ، بصيراً بكلام العربِ، وكان خيِّراً ديِّناً، توفي سنة (286). ينظر: طبقات النحويين واللغويين (ص: 268)، وجذوة المقتبس (ص:64).
(1) طبقات النحويين واللغويين (ص:177).
(2) طبقات النحويين واللغويين (ص:175).
(3) مجاز القرآن (1:273)، وينظر: (2:15، 57).
(4) سيأتي ذكرُ قولهم في فصل (الانحراف في التفسير اللُّغويِّ).
(5) البيت لمعن بن أوس في ديوانه (ص:36)، ينظر حاشية مجاز القرآن (2:121).
(1/359)
________________________________________
لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي، وَإنِّي لأَوْجِلُ ... عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
أي: إني لواجلٌ؛ أي: لَوَجِلٌ، وقال (1):
........ ... فَتِلْكَ سَبيلٌ لَسْتَ فِيهَا بِأَوْحَدِ
أي: بواحدٍ، وفي الأذانِ: اللهُ أكبرُ؛ أي: كبيرٌ. وقال الشاعرُ (2):
أصْبَحْتُ أَمْنَحُكِ الصُّدُودَ، وَإِنَّنِي ... - قَسَماً - إِلَيْكِ مَعَ الصُّدُودِ لأَمْيَلُ
وقال الفرزدقُ (3):
إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
أي: عزيزة طويلة.
فإن احتجَّ محتجٌّ، فقال: إنَّ الله لا يوصفُ بهذا، وإنما يوصف به الخلقُ، فزعمَ أنه: وهو أهونُ على الخلقِ.
وإنَّ الحجَّة عليه (4): قوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}
_________
(1) استشهد أبو عبيدة بهذا البيت قبل هذا الموضع (2:16)، ونسبه إلى طرفة (2:301)، وقد استشهد به الطبري في مواضع من تفسيره (16:141)، (21:37)، ونسبه إلى طرفة كذلك (30:227)، واستشهد به ابن الجوزي في زاد المسير (6:149)، (8:264)، والقرطبي (20:88).
وقد ذكره أبو علي القالي في ذيل الأمالي (3:218)، وعلَّق عبد العزيز الميمني في سمط اللآلي (2:104) بأنه وجده في كتاب الاختيارين ضمن أبيات منسوب لمالك بن القَينِ الخزرجي، واللهُ أعلم.
(2) البيت للأحوص الأنصاري، وهو في ديوانه، تحقيق: عادل سليمان جمال (ص:209).
(3) البيت في ديوانه (ص:489).
(4) كذا في مجاز القرآن، وقد نقل الطبري في تفسيره، ط: الحلبي (21:38) هذا الموضع من كتاب المجاز، والعبارة عنده أصوب، وهي: «فإنَّ الحجة عليه»؛ لأنها جواب: فإن قال قائلٌ، والجواب تدخله الفاء لا الواو، والله أعلم.
(1/360)
________________________________________
[الأحزاب: 19]، وفي آيةٍ أخرى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]؛ أي: لا يُثقلُهُ» (1).
وهذا المعنى الذي ذكرَه هو أحد قولي السَّلفِ في معنى الآية (2)، والقول الآخر: أنها على بابها، والمعنى: الإعادة بعد البدءِ أهونُ عليه (3)، كما هو في نظرِكم أنَّ الإعادة أهونُ من البدءِ، وهذا من بابِ قياسِ الأَولى.
3 - في قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99]، قال: «واحدتُها صورةٌ، خرجتْ مخرجَ سورةِ المدينةِ، والجميعُ: سورٌ، ومجازُهُ مجازُ المختصرِ المضمرِ فيه؛ أي: نُفِخَ فيها أرواحُها» (4).
خالف أبو عبيدة (ت:210) في هذا التَّفسيرِ الوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في معنى الصُّورِ، ويحتملُ أنه كان يجهلُ هذا المعنى الشرعيَّ؛ لأنَّه لم يورده، فينكره، والله أعلم، وأيّاً ما كان الأمر، فإنَّ هذا التَّفسيرَ غيرُ مقبولٍ البتَّةَ، لكن المرادَ هنا أنه لا يمكنُ الجزمُ بأنَّ أبا عبيدةَ ينكرُ الصُّورَ الواردَ في الحديثِ، كما هو شأنُ بعضِ المعتزلةِ في الغيبيَّاتِ، ولكن الذي وقعَ أنَّهم وغيرهم ممن ينكره قد اعتمد على قول أبي عبيدة، وسيأتي الحديث عن ذلك لاحقاً (5).
_________
(1) مجاز القرآن (2:121 - 122).
(2) ذكره ابن جرير عن ابن عباس من طريق العوفي، وعن الربيع بن خُثَيم. تفسير الطبري، ط: الحلبي (21:35 - 36).
(3) ذكره ابن جرير الطبري عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعن مجاهد وعكرمة وقتادة. تفسير الطبري، ط: الحلبي (21:36). قال الشيخ ابن سعدي موضحاً هذا المعنى: «أي: إعادة الخلقِ بعدَ موتِهم أهون عليه من ابتداء خلقِهم، وهذا بالنسبةِ إلى الأذهانِ والعقولِ. فإذا كانَ قادراً على الابتداءِ الذي تُقرُّونَ به، كانت قدرته على الإعادةِ، التي هي أهون، أولى وأولى». تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق: محمد النجار (6:122).
(4) مجاز القرآن (1:416)، وينظر: (1:196)، (2:162 - 163).
(5) ينظر: (ص:665).
(1/361)
________________________________________
4 - وفي قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]، قال: «يخادعون في معنى يخدعون، ومعناها يُظهِرون غيرَ ما في أنفسهم، ولا يكادُ يجيءُ «يُفَاعِلُ» إلاَّ من اثنينِ، إلاَّ في حروفٍ هذا أحدها. قوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 30]، معناه: قتلهم الله» (1).
يُشعِرُ اختيارُه هنا بعدمِ وقوعِ المخادعةِ من اللهِ تعالى، حيث صرف معنى المفاعلةِ في هذه الآيةِ إلى أنها تقعُ من الواحدِ، وهذه الصِّيغة ـ وإن كانت ترد لهذا المعنى ـ يصحُ حملها في هذه الآية على المفاعلةِ من الاثنين الذي هو أصلُ معنى هذه الصِّيغةِ، بدليلِ وصفِ الله بها في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، لكنَّ مخادعةَ اللهِ لا تكونُ منه ابتداءً، بلْ هو يخادِعُ من يخادِعُهُ، لذا لمْ تردْ هذه الصفةُ مفردةً إثباتاً، بلْ وردتْ مقابلَ مخادعةِ المنافقينَ، والمخادعةُ منه بخلافِ المخادعة من البشرِ، على القاعدةِ المعروفةِ في الأوصافِ المنسوبةِ إلى اللهِ.
وهذه الأمثلة التي وقع فيها خطأٌ من أبي عبيدة (ت:210) لا تكفي في الحكم عليه بانتهاجه مذهبَ المعتزلةِ، خاصةً إذا تأملتَ تفسيره الصريح للاستواءِ بالعلوِ، وهذا يخالفُ مذهبَ المعتزلةِ.
ولذا فإنَّ الحالَ في الحكمِ على مثله لا يصلحُ أنْ يكونَ مطلقاً، بلْ يُنبَّه على الأخطاءِ التي وقعَ فيها، ولستَ مُلزماً بِنَسْبِهِ إلى طائفةٍ منْ طوائفِ البدعِ، بل تبقى في الحكم على الأصلِ، وهو السَّلامة من البدعِ، والله أعلم.
_________
(1) مجاز القرآن (1:31).
(1/362)
________________________________________
ثانياً تَفْسِيرُ غَريبِ القُرآنِ، لابن قُتَيْبَةَ
ألَّفَ ابن قتيبة (ت:276) كتابه (غريب القرآن) مُتَمِّماً به كتابه «تأويل مشكل القرآن) حيث قال في نهايةِ مقدمتِه ـ بعد أنْ ذَكَرَ شُبَهَ الطَّاعنينَ في القرآنِ ـ: «وقدْ ذكرتُ الحُجَّةُ عليهم في جميعِ ما ذكروا، وغيرِه مما تركوا، وهو يُشْبِهُ ما أنكروا، ليكونَ الكتابُ جامعاً لِلفَنِّ الذي قصدتُ له. وأفردتُ للغريبِ كتاباً؛ كي لا يطولَ هذا الكتابُ، وليكونَ مقصوراً على معناه، خفيفاً على من قرأه إن شاء الله» (1).
وقد ذكرَ غرضَه من تأليفِ كتابِ (غريبِ القرآنِ)، فقال: «وغرضُنا الذي امتثلنَاه في كتابنا هذا: أن نختصرَ ونكملَ، وأن نوضِّح ونُجْمِلَ، وأنْ لا نستشهدَ على اللَّفظِ المبتذَلِ، ولا نُكثرَ الدلالةَ على الحرفِ المستعمَلِ، وأنْ لا نحشوَ كتابَنا بالنَّحوِ وبالحديث والأسانيدِ».
ثُمَّ قَالَ: «وكتابُنا هذا مستنبطٌ منْ كتبِ المفسِّرينَ، وكتبِ أصحابِ اللّغةِ العالمينَ، ولم نخرجْ فيه عن مذاهِبهم، لا تكلَّفنا في شيءٍ منه بآرائنا غيرَ معانيهم، بعد اختيارِنا في الحرف أَوْلَى الأقاويلِ في اللُّغةِ، أشبهُها بقصةِ الآيةِ (2) ...» (3).
_________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص:32).
(2) هذا النصُّ يُظهرُ بداياتِ المفسِّر الناقدِ، أو المفسِّر المختارِ من بين الأقوال، غير أنَّه لا يُبيِّن في كلِّ موضع سبب اختياره.
(3) تفسير غريب القرآن (ص:3 - 4).
(1/363)
________________________________________
ويتبيَّنُ منْ هذا ما يأتي:
1 - أنَّ ابنَ قتيبةَ (ت:276) خَصَّ معاني القرآنِ بكتابِه (تأويل مشكلِ القرآنِ)، وخصَّ الغريبَ بكتابِه (تفسيرِ غريبِ القرآنِ)، وإنْ كانَ يُعرِّجُ في كتابِه في الغريبِ على شيءٍ من معاني القرآنِ وإعرابِه، لكنَّه قليلٌ جداً.
2 - أنه اعتمدَ في كتابِه على من سبقَه من مفسِّري السَّلفِ وأهلِ اللُّغةِ، وهو في كثيرٍ من نقلِهِ لا يبينُ عمَّنْ نقلَ، ومما ظهرَ من أسماءِ هؤلاءِ عنده تجدُ أن ابنَ عباسٍ (ت:68) (1)، وقتادةَ (ت:117) (2) أكثرُ المفسِّرينَ وروداً، ثمَّ مجاهداً (ت:104) (3)، ثمَّ الحسنَ البصريَّ (ت:110) (4).
أمَّا أهل اللغة، فقد اعتمدَ على أبي عبيدة (ت:210)، آخذاً من كتابِه (مجازِ القرآن) (5)، وعلى الفراءِ (ت:207)، آخذاً من كتابِه (معاني القرآن) (6). وقد أكثرَ الأخذَ عنهما دونَ أنْ يَنُصَّ على ذكرِهما.
ولم يكنْ في نقلِه مجرداً عن النقدِ، بل أبانَ في مقدمةِ كتابِه رأيَهُ فيما ينقلُ، فقال: «... بعد اختيارِنا في الحرفِ أولى الأقاويلِ في اللغةِ، أشبهها
_________
(1) ينظر مثلاً: (ص: 123، 207، 259. 309، 311، 324، 336د 412، 459)، وغيرها، ويلاحظُ أنَّه يروي من طريق أبي صالحٍ، ولذا يقولُ ـ أحياناً ـ: «وفي تفسير أبي صالح» (ص:332).
(2) ينظر مثلاً: (ص:121، 293د 296، 299، 336، 369، 377، 381، 383)، وغيرها.
(3) ينظر مثلاً: (ص: 47، 70، 221، 296، 336، 390، 427، 448، 503)، وغيرها.
(4) ينظر مثلاً: (ص:192، 259، 336، 495)، وغيرها.
(5) ينظر: نصه على اسمِه في (ص:6، 23، 25، 27، 37، 42، 44، 74، 104، 110، 206، 317، 340)، وغيرها.
(6) ينظر: نصه على اسمِه في (ص:51، 67، 69، 319)، وغيرها، وهو أقلُّ وروداً عنده من أبي عبيدةَ.
(1/364)
________________________________________
بقصةِ الآية» (1). وهذا يَنِمُّ عن رأيٍ في الاختيارِ، وأنَّ ما اختارَه فقد ارتضاه قولاً له.
وإذا كانَ في معنى اللَّفظِ أكثرُ من قولٍ فإنَّ منهجَه:
* أنْ يذكرَ أحدَ الأقوالِ، دونَ ذكرِ غيرِها، وهذا هو الغالبُ على كتابِه.
* أن يذكُر الاحتمالاتِ بلا ترجيحٍ (2)، وهو قليلٌ، ومن ذلكَ:
1 - قال: {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} أي: خرجوا. {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81]؛ أي: قدَّروا ليلاً غيرَ ما أعطوك نهاراً.
قال الشاعرُ (3):
أتَونِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا ... وَكَانُوا أَتَونِي بِشَيْءٍ نُكُرْ
والعربُ تقولُ: هذا أمرٌ قُدِّرَ بليلٍ، وفُرِغَ منه بليلٍ، ومنه قولُ الحارثِ بن حِلِّزَةَ (4):
أجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عِشَاءً، فَلَمَّا ... أَصْبَحُوا، أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوضَاءُ
_________
(1) تفسير غريب القرآن (ص:4).
(2) ينظر ـ على سبيل المثال ـ: (ص:55 - 56. 95، 132 - 133، 239 - 240، 246، 294، 313. 319، 325).
(3) البيت في ديوان الأسود بن يعفر (ص:67)، وقد نُسِب إلى غيره. ينظر: المعجم المفصل (3:44).
(4) الحارث بن حِلِّزة اليشكُري، كان أبرصاً، وكان مناظر قومه وإمامهم، من شعراء الجاهلية، أحد أصحاب المعلقات الشعرية. ينظر: الشعر والشعراء (1:197 - 198)، معجم الشعراء (ص:61).
والبيت في ديوانه، تحقيق: طلال حرب (ص:40)، وهو من معلَّقتِه، وقال الزوزني في شرح المعلقات السبع (ص:189): «الضوضاء: الجلبة والصياح، وإجماع الأمر: عقد القلب، وتوطين النفسِ عليه، يقول: أطبقوا على أمرهم من قتالنا وجدالنا عشاءً، فلما أصبحوا جلبوا وصاحوا».
(1/365)
________________________________________
وقال بعضهم: بيَّتَ طائفةٌ؛ أي: بَدَّلَ، وأنشد (1):
وَبَيَّتَ قَوْلِي عَبْدُ المَلِيـ ... ـكِ، قَاتَلَكَ اللهُ عَبْداً كَفُوراً (2)
* أن يُرجِّح بين المحتملاتِ اللُّغويَّةِ الواردةِ في تفسيرِ النَّصِّ، وهذا قليلٌ كذلك (3)، ومنه ما وردَ في تفسيرِ قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، قال: «{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}: غروبها، ويقالُ: زوالها، والأولُ أحبُّ إليَّ؛ لأنَّ العربَ تقولُ: دَلَكَ النَّجمُ: إذا غابَ. قال ذو الرُّمَّةِ (4):
مَصَابِيحُ، لَيْسَتْ باللَّواتِي تَقُودُهَا ... نُجُومٌ، وَلاَ بِالآفِلاتِ الدَّوَالِكِ
وتقولُ في الشَّمسِ: دَلَكَتْ بَرَاحِ (5)؛ يُريدونَ: غربتْ. والنَّاظِرُ قد وضعَ كفَّه على حاجِبِهِ ينظُرُ إليها، قال الشاعرُ (6):
وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تَكُونَ دَنَفاً
أدْفَعُهَا بالرَّاحِ كيْ تَزَحْلَفَا
_________
(1) البيت ذكره الطبري في تفسيره، تحقيق: شاكر (9:191 - 192)، ونسبه للأسود بن عامر بن جوين الطائي، وذكره القرطبي في تفسيره (5:289).
(2) تفسير غريب القرآن (ص:131 - 132).
(3) ينظر أمثلة لذلك (ص:11، 26، 51، 52، 110، 259، 264. 310، 317 - 318).
(4) البيت في ديوانه، شرح: الباهلي، تحقيق: عبد القدوس أبو صالح (3:1734). وهو يصفُ إبلاً مصابيح؛ أي: تصبح في مباركها من الشِّبع، والآفلات: الغائبات، ينظر: شرح الباهلي.
(5) كذا شكلها المحقق: السيد أحمد صقر، على أنها اسمٌ للشمسِ، وهي كذلكَ، غير أنَّ تفسير ابن قتيبة بعدها يدلُّ على أنها (بِرَاحِ) بكسر الباء؛ أي: دلكتِ الشمسُ تحت راحةِ الناظرِ لها الذي يجعلُ كفه دونَ شعاعِها، واللهُ أعلمُ.
(6) هذه من أراجيز العجاج، وهو في ديوانه، شرح: الأصمعي، تحقيق: عزة حسن (424 - 425).
(1/366)
________________________________________
فشبَّهَها بالمريضِ في الدَّنَفِ؛ لأنها قد همَّتْ بالغروبِ، كما قارب الدَّنِفُ الموتَ، وإنما ينظرُ إليها من تحت الكفِّ؛ ليعلمَ كم بقيَ لها إلى أن تغيبَ، ويتوقَّى الشُعَاعَ بِكفِّهِ» (1).
* وكان في بعضِ الأحيانِ ينصُّ على النَّقدِ؛ كنقدِه التَّفاسيرَ التي ذكرَها في مقدمةِ كتابِه (2)، وقد نصَّ على نقدِهِ الفرَّاءَ (ت:207) وأبا عبيدةَ (ت:210) (3)؛ لأنَّه ينقلُ عنهما، ومما وردَ عنه:
في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]، قال: «{حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}، يذهبُ بعضُ المفسِّرينَ إلى أنها (سَنْكِ وَكِلْ) بالفارسيَّةِ، ويعتبرُه بقوله عزّ وجل: {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33]؛ يعني: الآجُرَّ، كذا قال ابن عباسٍ (4).
وقال أبو عبيدةَ: السِّجيلُ: الشَّديدُ، وأنشدَ لابن مُقبلٍ (5):
....... ... ضَرْباً تَوَاصى به الأبْطَالُ سِجِّيناً
وقال: يريد ضرباً شديداً (6).
ولستُ أدري ما سجِّيل من سجِّين، وذلك باللام، وهذا بالنون، وإنما سجِّينٌ في بيتِ ابن مقبلٍ (فِعِّيلٌ) من سَجَنْتُ؛ أي: حَبَسْتُ؛ كأنَّه قال: ضربٌ يُثَبِّتُ صاحِبه بمكانِه؛ أي: يحبسه مقتولاً، أو مقارباً للقتلِ.
_________
(1) تفسير غريب القرآن (ص:259 - 260).
(2) ذكر ثمانية تفاسير، ولم يرتضِها، ينظر: تفسير غريب القرآن (ص:4 - 5).
(3) ينظر نقده للفراء (ص:439 - 440، 441)، وينظر نقده لأبي عبيدة (ص:230، 236، 245، 328، 330، 350).
(4) تنظر الرواية عنه من طريق السدي في تفسير الطبري، تحقيق شاكر (15:434). ومن طريق عكرمة في تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب (6:2068).
(5) البيت في ديوان ابن مقبلٍ، تحقيق عزة حسن (ص:236). وصدره:
وَرَجْلَةً يَضْرِبُونَ البِيضَ عَنْ عُرْضٍ ... ...........
(6) مجاز القرآن (1:296). وقد سبق تفسيرُه أيضاً في (1:18).
(1/367)
________________________________________
وفِعِّيلٌ، لما دامَ منه العملُ؛ كقولِك: رجلٌ فِسِّيقٌ، وسِكِّيرٌ، وسِكِّيتٌ: إذا دام منه الفسقُ، والسُّكرُ، والسُّكوتُ. وكذلك (سِجِّين)، وهو ضربٌ يدومُ منه الإثباتُ والحَبْسُ.
وبعضُ الرُّواةِ يرويه: (سِخِّين) مِنَ السُّخونَةِ (1)؛ أي؛ ضرباً سُخْناً» (2).
ومع هذا النَّقدِ، فإنَّه قد يقعُ في قولٍ ضعيفٍ لا تحتمِلُه الآيةُ (3)، وممَّا يُنقَدُ عليه في هذا، ما وردَ في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 89، 90]، قال: «{إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ}؛ أي: يتَّصِلُونَ بقومٍ، {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}؛ أي: عهد.
ويتَّصِلونَ: ينتسِبونَ، وقال الأعشى ـ وذكرَ امرأةً سُبِيتْ ـ (4):
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أبَكْرَ بْنَ وَائِلٍ، ... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا، والأُنُوفُ رُوَاغِمُ
أي: انتسبتْ ...» (5).
_________
(1) ذكر المؤلف هذه الرواية في كتابه: المعاني الكبير (2:990)، وهي في مادة (سخن) من لسانِ العربِ.
(2) تفسير غريب القرآن (ص:208).
(3) تنظر أمثلة لما نُقِدَ عليه: تفسير لفظ المِحال (ص:226)، وقد ردَّه الأزهريُّ في تهذيب اللغة (5:95). وتفسير لفظ يعش (ص:398)، وقد ردَّه الأزهري في تهذيب اللغة (3:55 - 56)، ولفظ زيَّلنا (ص:196)، وقد ردَّ عليه الأزهري، كما في لسان العرب، مادة (زيل)، وفي نسخة تهذيب اللغة (13:254) نقصٌ في هذا الموضع الذي نقله ابن منظور في لسان العرب، وفي تهذيب اللغة من هذا النقصِ كثيرٌ، ويلاحظُ تحاملُ الأزهري على ابن قتيبةَ، وقد يكونُ اختلافُ المدارسِ سبباً في ذلك، فابن قتيبة بصريٌّ، والأزهريُّ كوفيٌّ، واللهُ أعلمُ.
(4) البيت في ديوانه، تحقيق: حنا نصر (ص:343).
(5) تفسير غريب القرآن (ص:133)، وهذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن (1:136).
(1/368)
________________________________________
وهذا القولُ فيه نظرٌ، قال النَّحَّاسُ (ت:338): «وهذا غلطٌ عظيمٌ؛ لأنه يذهبُ إلى أنَّ الله تعالى حَظَرَ أنْ يُقَاتِلَ أحدٌ بينه وبينَ المسلمينَ نسبٌ، والمشركونَ قد كان بينهم وبين السابقينَ الأوَّلينَ أنسابٌ ...» (1).
هذا، ولا يخلو كتابُ ابن قتيبةَ مما طرحَه اللُّغويُّونَ في غريب القرآنِ من مباحثِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ، ومن ذلك مبحثُ توجيه القراءاتِ القرآنيَّةِ، ومن الأمثلةِ في ذلكَ:
ما ورد عنه في قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، قال: «يَضِجُّونَ يقالُ: صَدَدْتُ أصُدُّ صَدّاً: إذا ضَجَجْتُ. والتَّصْدِيَةُ منه، وهو: التَّصْفِيقُ، والياء فيه مبدلةٌ من دالٍ؛ كأنَّ الأصلَ فيه: صَدَّدْتُ بثلاثِ دالاتٍ، فقُلِبَتْ الأخرى ياءً، فقالوا: صَدَّيْتُ؛ كما قالوا: قَصَّيْتُ أظافري، والأصلُ: قَصَّصْتُ.
ومن قرأ: {يَصُدُّونَ} أراد: يعدلون ويعرضون» (2).
كما يمكنُ ملاحظةُ تميُّزِه ببعضِ الأمورِ، وهي:
* استفادتُه من تفسيرِ السَّلفِ في بيانِ غريبِ القرآنِ، والإكثارُ منه، ولا أعرفُ أحداً من اللُّغويِّين سبقه إلى فعلِ ذلك، غير أنَّه في كثيرٍ من المواضعِ لا ينصُّ على المنقولِ عنهم، مما يضطرُ من أرادَ معرفةَ ذلك أن يتابعَ ويوازنَ نقولَه بأقوالِ السَّلفِ.
وهذا جعلَ في كتابِه مادَّةً من غيرِ مصدرِ اللُّغةِ؛ كالنُّزولِ، وقصص
_________
(1) الناسخ والمنسوخ، للنحاس، تحقيق: سليمان اللاحم (2:214)، وقد استفاده النحاس ـ كعادته ـ من الطبريِّ، ينظر: تفسير الطبري، تحقيق شاكر (9:20).
(2) تفسير غريب القرآن (ص:400)، وقرأ: يَصُدُّون، بضم الصاد كل من: نافع وابن عامر والكسائي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم. وقرأها: يَصِدُّون، بكسر الصاد الباقون. ينظر: القراءات وعلل النحويين فيها (2:618).
(1/369)
________________________________________
الآي، وغيرِها مما مصدرُه النَّقلُ (1)، ومن ذلك:
تفسيرُه لقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، قال: «كانتْ قريشٌ لا تخرجُ من الحرمِ، وتقولُ: لسنا كسائرِ الناسِ، نحنُ أهلُ اللهِ وقُطَّانُ حَرَمِه، فلا نخرجُ منه. وكان النَّاس يقفونَ خارجَ الحرمِ ويفيضونَ منه، فأمرهم اللهُ أن يقفوا حيثُ يقفُ الناسُ، ويفيضونَ من حيثُ أفاضَ الناسُ» (2).

* بيان الأصلِ اللغويِّ للَّفظِ:
يظهرُ في كثيرٍ من الألفاظِ حرصُ ابنِ قتيبةَ (ت:276) على بيانِ أصلِ اللَّفظِ في لغةِ العربِ، ولذا تراه يفسِّرُ معنى اللَّفظِ في سياقِه، ثُمَّ يُبَيِّنُ أصلَه الَّذي اشتُقَّ منه، وقد كانتْ هذه الظاهرةُ اللُّغويَّةُ واضحةً عنده، تراها في كتابِه (تأويلِ مشكلِ القرآنِ) (3)، كما تراها في غريبِ القرآنِ (4)، ومن ذلكَ تفسيرُه لقوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]، وقوله: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19]، قال: «{فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ أي: يُدفعونَ. وأصلُ الوَزْعِ: الكفُّ والمنعُ، يقالُ: وزعتُ الرجلَ إذا كففتُه، ووازعُ الجيشِ: هو الذي يكفُّهم عن التَّفرُّقِ، ويردُّ مَنْ شذَّ منهم.
_________
(1) ينظر مثلاً (ص:79، 109، 116، 115)، وغيرها.
(2) تفسير غريب القرآن (ص:79).
(3) تنظر الألفاظ الآتية في تأويل مشكل القرآنِ: السبت (ص:79)، المثل (ص:83)، التشابه (ص:101)، المسد (ص:161)، الاستدراج (165)، التزكية (ص:344)، الهزم، سلك (ص:432)، قضى (ص:441)، هدى (ص:443)، وغيرها.
(4) تنظر الألفاظ الآتية في تفسير غريب القرآن: تظاهرون (ص:57)، القرء (ص:87)، نحلة (ص:120)، مسافحين (ص:123)، المراغم (ص:134)، الغرم (ص:189)، الإمتاع (ص:201)، تقفو (ص:255)، حصب (ص:288)، الهباء (ص:312)، سبت (ص:313)، زلزلوا (ص:348)، النحب (ص:349)، المعارج (ص:485)، صَعوداً (ص:491)، الرجز (ص:495)، وغيرها كثيرٌ.
(1/370)
________________________________________
وقوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل: 19]؛ أي: ألهمني، وأصلُ الإيزاع: الإغراءُ بالشيء، يقال: أوزعتُه بكذا؛ أي: أغريتُه، وهو موزوعٌ بكذا: مولعٌ بكذا، ومنه قولُ أبي ذُؤيبٍ (1) في الكلاب (2):
...... ... أولَى سَوَابِقَهَا قَرِيباً تُوزَعُ
أي: تُغْرَى بالصَّيدِ» (3).

* كثرةُ الشَّواهدِ الشِّعريَّةِ:
كَثُرَتِ الشَّواهدُ الشِّعريَّةُ لمعاني الألفاظِ القرآنيَّةِ في كتابِ تفسيرِ غريبِ القرآنِ عند ابنِ قتيبة (ت:276)، وقد استفادَ في إيرادِ الشَّواهدِ (4) من مجازِ القرآنِ لأبي عبيدةَ (ت:210) الذي هو من أهمِّ مصادرِه. وقد بلغتْ أكثرَ من مائةِ شاهدٍ (5).
ومن الأمثلة ما يأتي:
1 - قال: «{بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6]؛ أي: قاتلٌ نفسَك ومُهلكٌ نفسكَ، قال ذو الرُّمَّةِ (6):
_________
(1) خويلد بن خالد، أبو ذؤيب الهذلي، شاعر مخضرم، اشترك مع عبد الله بن الزبير في غَزْوِهِ إلى المغربِ، وتوفي بأفريقية سنة (28). ينظر: معجم الشعراء المخضرمين والأمويين (ص:145)، ومعجم الشعراء (ص:92).
(2) البيت في ديوانه، من ديوان الهذليين (1:11)، ومطلعُه:
فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ فَبَدَا ... لَهُ ...........
وقد فسَّر الأصمعي (توزع): تُكفُّ.
(3) تفسير غريب القرآن (ص:323).
(4) ينظر تفسير غريب القرآن (ص:39، 53، 86، 133). وينظر على التوالي: مجاز القرآن (1:30، 44، 74، 136).
(5) ينظر على سبيل المثال: (ص:132، 133، 135، 179، 180، 226، 238، 271، 301، 302، 325، 331، 314، 346، 354، 355، 393، 436، 435، 438، 480، 495، 509، 513، 519، 520، 521، 541).
(6) غيلان بن عقبة، أبو الحارث، المشهور بذي الرُّمَّةِ، شاعر أمويٌّ، توفي سنة (117).
(1/371)
________________________________________
ألا أيُّها البَاخِعُ الوجْدُ نَفْسَهُ ... لِشَيءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقَادِرُ» (1)
2 - وقال: «{الصَمَدُ}: السيدُ الذي انتهى في سُؤدَده؛ لأنَّ الناسَ يَصْمُدُونَه في حوائجهم، قال الشاعر (2):
.......... ... خُذْهَا حُذَيْفُ فَأنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وقال عكرمةُ ومجاهدٌ: هو الذي لا جوفَ له (3).
وهو ـ على هذا التَّفسير ـ كأن الدال فيه مبدلةٌ من تاء. والمصمتُ من هذا» (4).
* كثرةُ الاعتمادِ على الشواهدِ النَّثريةِ عن العربِ (5)، وكثيراً ما تكونُ عبارتُه: تقولُ العربُ (6).
ومن الأمثلة:
قال: «{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} [ص: 12]: ذو البناءِ المُحْكَمِ، والعربُ تقولُ:
_________
= ينظر: معجم الشعراء المخضرمين والأمويين (ص:147)، ومعجم الشعراء (ص:99).
والبيت في ديوانه، بشرح الباهلي، تحقيق: عبد القدوس أبو صالح (2:1037)، وأوَّله: ألا أيُّهَذا.
وقال الباهلي في شرحه: «نَحْتَهُ: حرفتهُ المقادر».
(1) تفسير غريب القرآن (ص:263).
(2) هذا الشطر في كتاب العين (7:104) بلا نسبة.
(3) تنظر الرواية عنهم في تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:344، 345) وقد أورد هذا التفسير ـ كذلك ـ عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك.
(4) غريب تفسير القرآن (ص:542).
(5) ينظر في الفهارس التي صنعها محقق الكتاب: فهرس الأمثال والأقوال المأثورة (ص:559 - 561).
(6) ينظر مثلاً: (ص:131، 172، 209، 266، 308، 317، 329، 348، 356، 370، 377، 391، 398، 427، 446، 533).
(1/372)
________________________________________
همْ في عِزٍّ ثابتِ الأوتادِ، وملكٍ ثابتِ الأوتادِ. يريدونَ أنه دائمٌ شديدٌ ...» (1).

أثر المعتقد على التَّفسير اللُّغويِّ عند ابن قتيبة:
لا يخفى على من يقرأ تراثَ ابنِ قتيبة (ت:276) إتباعُه للسُّنَّةِ، والتزامُه بما ورد عن السَّلفِ في المعتقدِ، فقد كتبَ في ذلك كتابَه (اختلاف اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة)، وكتاب (تأويل مشكل القرآن)، وكتاب (تأويل مشكل الحديث).
ولقد كان يواجه موجةَ التَّأويل الفاسدِ التي كانت تقومُ بها زمرةٌ من المعتزلةِ والملاحدةِ فردَّ عليهم، وبين الصَّواب من المعتقد في ذلك، سواءٌ أكانَ ذلك في الأسماءِ والصِّفاتِ (2)، أم كان في الغيبيَّاتِ؛ كالكرسيِّ والعرشِ، أم كانَ في عصمةِ الأنبياءِ، وغيرها من مسائلِ الاعتقادِ (3).
_________
(1) تفسير غريب القرآن (ص:377).
(2) ينظر شرحه لبعض أسماءِ الله وصفاته في تفسيرِ غريب القرآنِ (ص:6 - 20)، تحت عنوان (اشتقاق أسماء الله وصفاته وإظهار معانيها).
(3) ينظر أمثلة في اعتماده دلالة الألفاظ إثبات العقيدة الصحيحة أو الرد على المخالفين:
1 - رده على تأويل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27]: ينسبهم إلى الضلال. الاختلاف في اللفظ، تحقيق: عمر بن محمود (ص:24).
2 - رده على تأويل: {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]: إلاَّ بعلم الله، الاختلاف في اللفظ (ص:25).
3 - الرد على تأويل: {وَلَقَدْ ذَرَانَا} [الأعراف: 179]: دفعنا وألقينا. الاختلاف في اللفظ (ص:27)، وتأويل مختلف الحديث، تحقيق: عبد القادر عطا (ص:82).
4 - الرد على تأويل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً} [الزخرف: 3]: خلقناه. الاختلاف في اللفظ (ص:38).
5 - الرد على تأويل صفة اليد بالنعمة. الاختلاف في اللفظ (ص:40)، وتأويل مختلف الحديث (ص:83)، وقد جوَّز في قوله تعالى: {خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] بأن تكون اليد القدرة (غريب القرآن، ص:368)، وهو مخالف للتفسير الصحيح، ولكنه لا يخرج بهذا عن مذهب السُّنَة؛ لأنه يثبت صفة اليد، لكنه في هذا =
(1/373)
________________________________________
وسأذكر بعضَ الأمثلة المتعلقة بدلالة الألفاظ.
1 - تفسيرُ الصُّورِ، قال: «{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل: 87]، قال أبو عبيدة (1): هو جمع صورة، يقال: صُورَة وصُوَر وصُوْر. قال: ومثله: سُورَةُ البناءِ وسُورُه. وأنشدَ (2):
....... ... سُرْتُ إلَيهِ في أعَالِي السُّورِ
وقال غيره: الصُّورُ: القرنُ بلغةِ قومٍ من أهل اليمنِ (3)، وأنشدَ (4):
_________
= المثال وقع له الوهم بجواز أن يراد بها القوة على سبيل المجاز.
6 - الرد على تأويل: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] أنه الأمر. الاختلاف في اللفظ (ص:43).
7 - الردُّ على تأويل النظر إلى وجه الله، بأنه الانتظار. الاختلاف في اللفظ (ص:44)، وتأويل مختلف الحديث (ص:185 - 189).
8 - الرد على تأويل: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 119] بأنه: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك. الاختلاف في اللفظ (ص:46).
9 - الرد على تأويل العرش. الاختلاف في اللفظ (ص:47).
10 - الرد على تأويل الكرسي. اختلاف اللفظ (ص:48)، وتأويل مختلف الحديث (ص:81).
11 - الرد على من نفى الاستواء. اختلاف اللفظ (ص:50).
12 - الرد على تأويل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] بأنه فقيراً. الاختلاف في اللفظ (ص:49)، وتأويل مختلف الحديث (ص:83).
13 - مفهوم عصمة الأنبياء، والرد على المخالفين في تأويلاتهم في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] تأويل مشكل القرآن (ص:402 - 404)، تأويل مختلف الحديث (ص:81 - 82)، وفيه غير هذه الأمثلة مما هو في الدفاع عن عقيدة السلف وأهل الحديث.
(1) ينظر تفسيره للصور في مجاز القرآن: (1:196، 416)، (2:162 - 163).
(2) البيت للعجاج في ديوانه، رواية الأصمعي، تحقيق: عزة حسن (ص:230).
(3) نقل ابن دريد هذا القول، ولم ينسبه، ينظر: جمهرة اللغة (2:745).
(4) الرجز بلا نسبة في ديوان الأدب، للفارابي (3:315)، والصحاح، مادة (صور).
(1/374)
________________________________________
نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الجَمْعَينِ
بالضَّابِحَاتِ في غُبارِ النَّقْعَينِ
نَطْحاً شَديداً لاَ كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ
وهذا أعجبُ إليَّ من القولِ الأولِ؛ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله: كيف أنعم؟! وصاحب القرن قد التقمه، وحنى جبهته، ينتظرُ متى يُؤمرُ، فينفُخ» (1).
في هذا المثالِ حملَ معنى الصُّورِ على الواردِ في الأحاديثِ، وترك المعنى اللُّغويَّ الذي رواه عن أبي عبيدة (ت:210).
2 - وقال: «ومن صفاتِه المؤمنُ. وأصلُ الإيمانِ: التصديقُ، قال: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، أي: وما أنت بمصدِّق ولو كنا صادقين. ويقال في الكلام: ما أومِنُ بشيءٍ مما تقولُ؛ أي: ما أصدِّقُ بذلكَ.
فإيمان العبدِ باللهِ: تصديقه قولاً وعملاً وعقداً، وقد سمَّى اللهُ الصلاةَ في كتابهِ إيماناً، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ أي: صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ.
فالعبدُ مؤمنٌ؛ أي: مصدقٌ محقِّقٌ. واللهُ مؤمنٌ؛ أي: مصدِّقٌ ما وعده ومحقِّقُهُ، أو قابلٌ إيمانَه.
وقدْ يكونُ المؤمنُ من الأمانِ؛ أي: لا يأمنُ إلاَّ من أمَّنه اللهُ. وقد
_________
(1) تفسير غريب القرآن (ص:25 - 26)، الحديث أخرجه الترمذي في سننه (5:372)، وسعيد بن منصور في سننه (3:118)، وأحمد في مسنده (1:326)، والحميدي في مسنده (2:332)، والطبري في تفسيره، ط: الحلبي (29:150 - 151)، والطبراني في معجمه الكبير (12:128)، وغيرهم، وقال ابن كثير معلقاً على رواية الإمام أحمد: «وقد رويَ هذا من غير وجهٍ، وهو حديث جيِّدٌ». تفسير ابن كثير، تحقيق: السلامة (2:171).
(1/375)
________________________________________
ذكرتُ الإيمانَ ووجوهه في كتابِ تأويل مشكل القرآن (1).
وهذه الصفةُ من صفاتِ اللهِ جلَّ وعزَّ لا تتصرَّفُ تصرُّفَ غيرها، لا يقال: أمِنَ اللهُ؛ كما يقالُ: تقدَّسَ اللهُ، ولا يقالُ: يؤمنُ الله، كما يقالُ: يتقدَّسُ اللهُ.
وكذلك يقال: تعالى اللهُ، وهو تفاعُلٌ من العلو. وتباركَ اللهُ، هو تفاعلٌ من البركةِ، واللهُ متعالٍ، ولا يقالُ: متباركٌ، لمْ نسمعْهُ.
وإنما ننتهي في صفاتِهِ إلى حيثُ انتهى، فإنْ كانَ قد جاءَ من هذا شيءٌ عن الرسولِ صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ، أو عن الأئمَّةِ (2): جازَ أنْ يُطلقَ كما أُطلِقَ غيره» (3).
في هذا المثالِ بينَ المعنى اللغويَّ للإيمان، وبيَّنَ المعنى الشرعيَ له، وذكر دليلاً على ذلك، ولم يعتمد على المعنى اللغوي فقط في إثبات المرادِ بالإيمانِ، كما هو حال المرجئةِ الذين يجعلونه مجردَ التصديقِ، ولا يدخلون الأعمالَ في مسمى الإيمانِ.
_________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص:481 - 482).
(2) الأصل أنْ نأخذ بما ثبت من صفات الله في القرآن والسنة، وقوله: «أو عن الأئمة» يحمل على أنهم يبينون الصفات الواردة، لا أنهم يطلقون على الله من عند أنفسهم، والله أعلم.
(3) تفسير غريب القرآن (ص:9 - 10).
(1/376)
________________________________________
ثالثاً غريب القرآن، لأبي بكر محمد بن عُزَيز السجستاني
لقي كتابُ ابنِ عُزَيزٍ (على زِنَةِ: زُبَير) (1) شهرةً واسعةً، وحَظِيَ بقبولِه الحسنِ عندَ العلماءِ (2). وكان ابن عُزَيز (ت:330) قد قرأ جزءاً من كتابِه على شيخِه أبي بكرٍ محمدِ بنِ القاسمِ بنِ بشارٍ الأنباري (ت:328) (3).
ولقدْ كانَ من قبلَه ممن كتبَ في (غريبِ القرآنِ) يتَتَبَّعُ ألفاظَ كُلِّ سورةٍ منَ القرآنِ على ترتيبِ المصحفِ. أمَّا ابنُ عُزَيزٍ (ت:330)، فيتمثَّلُ منهجُه فيما يأتي:
1 - أنه رتَبه على حروفِ المعجمِ ألفبائياً، ويعتبرُ أوَّلَ من فعلَ ذلك من كتبِ غريبِ القرآنِ؛ لأنَّ غالبَ من سبقهُ يُرتِّبُه على سورِ القرآنِ، ويذكرُ تحت كلِّ سورةٍ الألفاظَ التي سيفسِّرها حسب ترتيبها في السُّورةِ (4).
2 - أنه جعلَ كُلَّ حرفٍ على ثلاثةِ أقسامٍ، فبدأ بالمفتوحِ، ثُمَّ المضمومِ، ثُمَّ المكسورِ.
_________
(1) ينظر في نسبته هذه: مقدمة محقق كتابه: أحمد عبد القادر صلاحية (ص:19 وما بعدها).
(2) ينظر: مقدمة أحمد صلاحية في تحقيقه لغريب القرآن (ص:73).
(3) ينظر: نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص:232).
(4) على هذا سارتْ الكتب المطبوعة: مجاز القرآن لأبي عبيدة، وغريب القرآن لابن قتيبة، وغريب القرآن المنسوب لزيد بن علي، وغريب القرآن المنسوب لليزيدي.
(1/377)
________________________________________
3 - أنه أدخلَ حروفَ الزوائدِ في موادِ الكلماتِ، دونَ إرجاعِها إلى أصلِ اشتقاقِها، فكلمةُ: «أدبار» تجدها في باب: الهمزةِ المفتوحةِ، ولو كان يسيرُ على الأصلِ الاشتقاقي لكانت تحتَ مادةِ: «دَبَرَ» من حرفِ الدالِ.
كما تجدُ كلمةَ: «يذرؤكم» في باب: الياء المفتوحة، ولو كانتْ على الأصلِ الاشتقاقيِّ، لكانتْ تحتَ مادةِ: «ذَرَأَ» من حرفِ الذَّالِ.
وهذا المنهجُ لم يُسْبَقْ إليه، كما لم يُلْحَقْ به، واللهُ أعلم.
ولمَّا كانَ ابنُ عُزَيْزٍ (ت:330) قدْ سُبِقَ في التَّأليف في (غريب القرآن)، فإنه قد استفادَ من سابقيه، خاصةً أبو عبيدةَ معمر بن المثنى (ت:210) في كتابِه (مجازِ القرآنِ)، حيث كانَ معتمدَه الأولَ في غريبِ القرآنِ، وهذا ظاهرٌ بالموازنةِ بين أقوالِ أبي عبيدةَ (ت:210) وأقوال ابن عُزَيز (ت:330)، وهو لا يصرِّحُ بذكرِه في كُلِّ موضعٍ، ومع ذلك تجد أن أبا عبيدةَ (ت:210) أكثرُ الأعلامِ الذين صرحَ بذكرِهم في كتابِه هذا، حيثُ ذكرَه ثلاثَ عشرةَ مرةً (1). ثمَّ يتلوه الفراءُ (ت:207) وكان اعتمادُه على كتابِه (معاني القرآن)، وقدْ وردَ ذكرُه تسعَ مراتٍ (2)، ثم ابنُ عباسٍ (ت:68) حيثُ وردَ ذكرُه خمسَ مراتٍ (3).

ويلاحظ أنه في نقله أقوالَ هؤلاءِ وغيرِهم لا يعترضُ عليهم ولا يُرجِّحُ بين أقوالِهم عند الاختلافِ، بل يكتفي بحكايةِ الخلافِ عنهم، وليس في كتابِ ابنِ عُزَيزٍ (ت:330) ما يمكنُ إضافتُه إلى الظواهرِ اللغويَّةِ في التَّفسيرِ التي وُجِدَتْ عندَ سابقيه منْ كتبِ (غريب القرآن) سوى اهتمامِه بالوجوه والنَّظائر في بعض الألفاظ القرآنيَّةِ (4)، ومن ذلك:
_________
(1) ينظر: غريب القرآن، لابن عُزَيز، تحقيق: أحمد عبد القادر صلاحية (ص:186، 187، 201، 207، 223، 224، 226، 229، 265، 293، 341، 363).
(2) ينظر: غريب القرآن (ص:111، 119، 151، 152، 165، 217، 288، 370، 377).
(3) ينظر: غريب القرآن (ص:97، 147، 165، 203، 229).
(4) ينظر: المواد التالية في غريب القرآن (أوزارهم: 103، إمام: 127، جبار: 167، =
(1/378)
________________________________________
1 - قال ابن عُزيز (ت:330): أمَّة على ثمانيةِ أوجهٍ: أُمَّة؛ جماعة؛ كقوله جَلَّ ثناؤه: {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23].
وأُمَّة: أتباعُ الأنبياءِ عليهم السلام؛ كما تقولُ: نحنُ منْ أُمَّة محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم.
وأُمَّة: رجلٌ جامعٌ للخيرِ يُقتدَى به؛ كقولِه جل ثناؤه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120].
وأُمَّة: دِينٌ ومِلَّةٌ؛ كقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 43]، أي: على مِلَّةٍ.
وأُمَّة: حينٌ وزمانٌ؛ كقولِه عزّ وجل: {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 11]، وقوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 54]؛ أي: بعدَ حينٍ.
ومن قرأ: «بعد أمْه» (1) و «أمَهٍ» (2)؛ أي: بعد نسيانٍ ....» (3).
2 - وقال: {جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]: أقوياء، عظام الأجسام، والجبَّارُ القهارُ. والجبَّارُ: المتسلطُ. والجبَّارُ: المتكبِّرُ؛ كقوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]. والجبَّارُ: القتَّالُ؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130]؛ أي: قتَّالين» (4).
_________
= جنب: 169، جنة: 173، حجر: 184، خلاف: 190، خلال: 190، دين: 197، الرجز: 209 - 210، الزوج: 213، السلام: 218، الصلاة: 239، العفو: 260 - 261).
(1) قرأ بسكون الميم، بعده هاء (أمْهٍ)، مجاهد وشُبيل بن عَزْرَةَ، ينظر: تفسير ابن عطية، ط: قطر (7:523).
(2) قرأ بفتح الميم، بعدها هاء (أمَهٍ)، ابن عباس وابن عمر بخلاف عنه وعكرمة مجاهد بخلاف عنهما والضحاك وأبو رجاء وقتادة وشُبيل بن عزرة الضبعي وربيعة بن عمرو وزيد بن علي، ينظر: المحتسب (1:344).
(3) غريب القرآن (ص:122 - 123). ويلاحظ أنَّ بعض الوجوه التي ذكرها لم يورد عليها شاهداً قرآنياً، كما يلاحظ أنَّ كلمة أمة، أشهر ألفاظ الوجوه والنظائر، لذا يبين كثير من اللغويين والمفسرين معانيها في القرآن.
(4) غريب القرآن (ص:166).
(1/379)
________________________________________
ومنَ الظَّواهرِ اللُّغويَّةِ الأخرى ما يأتي:
أولاً: توجيهُ القراءاتِ:
كان لتوجيه القراءات التي لها أثر في المعنى، نصيبٌ لا بأس به (1)، ومن ذلك:
* قال في قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260]: «ضُمَّهُنَّ إليك، ويقال: أَمِلْهُنَّ إليك. و «صِرهن» ـ بكسر الصاد ـ (2): قَطِّعهُنَّ، والمعنى: فخذْ أربعةً منَ الطيرِ إليكَ، فَصِرْهُنَّ؛ أي: قَطِّعْهُنَّ» (3).
* وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، قالَ: «غُلْفٌ: جمع أغلفْ، وهو كُلُّ شيءٍ جعلتَه في غلافٍ؛ أي: قلوبُنا محجوبةٌ عمَّا تقولُ: كأنَّها في غُلْفٍ.
ومن قرأ غُلُف بضمِّ اللامِ (4)، أرادَ: جمعَ غلافٍ، وتسكينُ اللامِ فيه جائزٌ أيضاً، مثلَ كُتُبٍ وكُتْبٍ؛ أي: قلوبُنا أوعيةٌ للعلمِ، فكيفَ تجيئنا بما ليس عندنا؟» (5).
* وفي قوله: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] قال: «يسرعونَ، يقال: جاءَ الرَّجلُ يَزِفُّ زَفِيفَ النعامةِ، وهو أوَّلُ عَدْوِهَا وآخرُ مَشْيِهَا.
_________
(1) ينظر: أمثلة لبعض القراءات التي وجَّهها: أزلهما (ص:98)، ثمر (ص:164)، جمالات (ص:172)، حرام (ص:183)، خرقوا (ص:186)، درسوا (ص:193)، دبر (ص:194)، دُرِّي (ص:195)، رئياً (ص:210)، زكيَّة (ص:213)، وغيرها.
(2) قرأ بكسر الصاد حمزة، وقرأ الباقون بضمِّها، ينظر: السبعة في القراءات، لابن مجاهد (ص:189 - 190).
(3) غريب القرآن (ص:245).
(4) القراءةُ المتواترةُ بسكونِ اللام، وروى اللؤلؤيُّ عن أبي عمرو بضمِّ اللام، كما حكاها ابن مجاهد في السبعة (ص:164)، وقد نسبها ابن عطية في تفسيره، ط: قطر (1:388) إلى الأعمش والأعرج وابن محيصن.
(5) غريب القرآن (ص:274).
(1/380)
________________________________________
وتُقرأ: «يُزِفُّونَ»؛ أي: يصيرونَ إلى الزَّفِيفِ ...
ويقرأ أيضاً: «يَزِفُونَ» بالتخفيف (1) من وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى: أسرعَ. ولم يعرفْها الفرَّاءُ ولا الكسائيُّ (2)، قال الزَّجَّاجُ (3): وعرفَها غيرُهما» (4).
ثانياً: الاستشهادُ بالشِّعرِ:
كانَ حظُّ الاستشهاد بالشِّعرِ عند ابنِ عُزَيزٍ (ت:330) في بيانِ الألفاظِ القرآنيَّةِ قليلاً (5)، ولم يكنْ في ذلك مثلُ أبي عبيدةَ (ت:210) الذي تميزَ بكثرةِ شواهدِه الشِّعريَّةِ، مع أنه اعتمدَ على كتابه (مجاز القرآنِ) واستفادَ منه بعضَ الشَّواهدِ، كما لم يبلغْ نصفَ شواهدِ ابنِ قتيبةَ (ت:276).
أمَّا استشهاد ابن عزيز (ت:330) بمنثورِ كلامِ العربِ من جاهليينَ وإسلاميِّينَ، وكذا استشهادُه بأقوالِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم، فكان قليلاً، كما هي العادةُ عند علماءِ اللُّغةِ والنَّحوِ في الاستشهادِ بالمنثورِ من كلامِ العربِ ومن الحديثِ النَّبويِّ.
ومن الأمثلةِ في استخدامِ الشَّواهدِ الشِّعْريَّةِ:
* في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109] قال: «أعلمتكم، فاستوينا في العلمِ، قال الحارث بن حِلِّزَة (6):
_________
(1) قرأ الجمهور بفتح الياء وتشديد الفاء (يَزِفُّون)، وقرأ حمزةُ بضمِّ الياء وتشديد الفاء (يُزِفُّونَ)، ينظر: السبعة في القراءات (ص:548). وقرأ الضحاك ويحيى بن عبد الرحمن المقرئ وابن أبي عبلة بفتح الياء وتخفيف الفاء (يَزِفُونَ). ينظر: مختصر في شواذِّ القرآن (ص:128).
(2) ينظر: معاني القرآن، للفراء (2:389).
(3) ينظر قوله في كتابه: معاني القرآن وإعرابه (4:309).
(4) غريب القرآن (ص:370)، وهذا النص يدل على أن ابن عُزَيز قد اطلع على معاني الزجاج وأفاد منه.
(5) بلغت الشواهد الشعرية في كتابه خمسين بيتاً، وفيها ما هو خارج عن بيان الألفاظ.
(6) هذا البيت الأول من معلقته، ينظر الديوان، تحقيق: طلال حرب (ص:37). =
(1/381)
________________________________________
آذَنَتْنَا بِبَينِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
آذنتنا: أعلمتنا» (1).
* وفي قوله تعالى: {ارْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12]، قال: «... ويقال: نرتعْ (2): نأكلْ، ومنه قولُ الشاعرِ (3):
وَيُحَيِّيني إذَا لاَقَيْتُهُ ... وَإِذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ
أي: أكل ...» (4).
ومن أمثلةِ الاستشهاد بالمنثورِ:
* قال ابن عُزَيزٍ (ت:330): {ثَجَّاجًا} [النبأ: 14]: متدفِّقاً، ويقال: ثجَّاجاً: سَيَّالاً، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: أحب العمل إلى الله تعالى العَجُّ والثَجُّ (5). فالعَجُّ: التلبية، والثَجُّ: إسالة الدماء عند الذبح والنحر» (6).
_________
= والبين: الفراق، والثواء: الإقامة. ينظر شرح المعلقات السبع، للزوزني (ص:185).
(1) غريب القرآن (ص:109).
(2) قوله: «نرتع»، على قراءةِ أبي عمرو وابن عامر، وهي بفتح النون في الفعلين، وسكون آخرِهما، ينظر: السبعة في القراءات (ص:346).
(3) البيت لسويد بن أبي كاهل الذبياني، وهو في المفضليات (ص:198)، وقد ذكر المحققان تخريج القصيدة التي منها هذا البيت في (ص:190)، وكانت هذه القصيدة تسمى في الجاهلية: اليتيمة.
(4) غريب القرآن (ص:339)، وينظر أمثلة أخرى (ص:128، 238، 324، 329، 338، 361، 371، 378).
(5) أخرجه جماعة من أهل العلم، منهم: الترمذي (3:189)، والدارمي (2:49)، وابن ماجه (2:967، 975)، وابن أبي شيبة (3:373، 342)، والحاكم (1:620)، والبيهقي في سننه (4:330)، (5:42، 85)، وغيرهم.
(6) غريب القرآن، لابن عُزيز (ص:162)، وينظر الاستشهاد بأحاديث أخرى (ص:265، 293، 310، 311، 375).
(1/382)
________________________________________
* وقال: «... والأمانيُّ: الأكاذيب، أيضاً، ومنه قول عثمان (1): ما تمنَّيتُ منذ أسلمتُ: أي: ما كذبت. وقولُ بعضِ العربِ لابن دَابِ (2) ـ وهو يُحَدِّث ـ أهذا شيء رويتَهُ، أم شيء تمنَّيتَهُ؛ أي: افتعلته ...» (3).
* وقال في قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] (4): «أي: نَنْعَمُ ونَلْهُو، ومنه: القيدُ والرَّتْعَةُ (5)، تضربُ مثلاً في الخِصْبِ والجَدْبِ» (6).
وبعد هذا الحديث عن هذه الكتبِ الثلاثةِ أذكرُ ملحوظاتٍ تتعلَّقُ بعلمِ غريبِ القرآنِ، وهي:
* أنَّ ترتيبَ هذه الكُتبِ سارَ على أسلوبينِ:
الأولُ: أنْ يسلُكَ المؤلِّفُ ترتيبَ ألفاظِ القرآنِ حسبَ ورودِها في السُّورِ، فيذكرُ ألفاظَ الآياتِ مرتَّبةً، وهذا كما سبقَ في كتابِ مجازِ القرآنِ، وتفسيرِ غريب القرآنِ.
الثاني: أن يرتِّبها على الحروفِ، وعلى هذا سارَ ابن عُزيزٍ (ت:330)، غير أنَّه سلكَ بها طريقاً لم يُتَّبعْ عليه كما سبق بيانُه.
ثمَّ كتبَ من بعدَه مرتِّباً على الحروفِ الألفبائِيَّةِ حسبَ أصلِ الكلمةِ، كما هو معروفٌ في معاجمِ اللُّغةِ، ومن أمثلِ من كتبَ على هذه الطَّريقةِ
_________
(1) هو عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث.
(2) مضت ترجمته.
(3) غريب القرآن (ص:98 - 99). وينظر أمثلة أخرى (ص:107، 133، 168).
(4) مضى ذكر من قرأ بهذه القراءة التي ذكر المؤلف تفسيرها.
(5) قائله عمرو بن الصَّعِقِ بن خويلد بن نفيل، وكان قد أَسَرَتْهُ شاكر من همدان، فأحسنوا إليه وروَّحوا عنه، وكان يوم خرج من قومه نحيفاً، فلما هرب من الأسر وعاد، قال له قومه: يا عمرو، خرجت من عندنا نحيفاً، وأنت اليوم بَادِنٌ، فقال: القيد والرَّتعة، فأرسلها مثلاً. ينظر: مجمع الأمثال، للميداني (2:488 - 489).
(6) غريب القرآن، لابن عُزيز (ص:339)، وينظر الاستشهاد ببعض الأمثال (ص:261، 294، 313).
(1/383)
________________________________________
الراغبُ الأصفهانيُّ (ت: بعد:400)، وكتابُه من أوسعِ كتبِ غريبِ القرآنِ وأحسنِها (1).
وهذه الطَّريقةُ أتاحتْ للرَّاغب (ت: بعد:400) ـ لتوسِعه في عرضِ المفرداتِ ومواطِنها في القرآنِ ـ ذكرَ معاني اللَّفظِ في مواردِه من القرآنِ، مع بيانِ أصلِ معناه في كثيرٍ من الألفاظِ (2).
وهي أنفعُ من حيثُ جمع المتناظرِ من مادَّةِ اللَّفظِ، وهي أقربُ إلى فكرةِ الوجوهِ والنَّظائرِ التي كتبَ فيها مفسِّرُو السَّلفِ، فتجد ـ مثلاً ـ في مادَّةِ صلبَ: تفسيرَ الصُّلبِ والأصلابِ، والصَّلبِ (3)، وموادُّ هذه الألفاظِ في سورٍ شتَّى، فمن يكتبُ على ترتيب الآياتِ في السُّورِ يُفرِّقُ تفسيرَها حسبَ مواضِعها في السُّورِ.
ومن يكتبُ حسب أصل الكلمة وترتيبها على حروف المعجمِ يجعلها تحت مادَّةٍ واحدةٍ، وهذه أكثرُ فائدةً في تقريبِ الألفاظِ إلى بعضِها وجمعِ النَّظيرِ إلى نظيرِه، إذ قد لا يخطرُ ببالكَ أنَّ لفظَ «وسق» و «اتَّسق» من أصل واحدٍ، وهو الجمعُ (4)، أو قد تبحثُ عن مادَّةِ «سطر»، فتجدُ فيها من الألفاظِ: «يسطرون»، و «مسطور»، و «أساطير»، فهلْ تكونُ لفظةُ «المسيطرون»، و «مسيطر» من هذه المادَّةِ، أمْ هي من مادَّةِ «صيطر»، وقُلِبَتْ الصَّادُ فيها إلى السِّينِ، وهل بينهما تقاربٌ في المعنى (5)؟
_________
(1) ألَّف السَّمينُ الحلبيُّ كتاب عمدة الحفاظِ في تفسيرِ أشرفِ الألفاظِ، وقد اعتمد على كتاب الراغب، وهو يزيدُ عليه أحياناً، وينتقده أحياناً أخرى.
(2) ينظر في مفردات ألفاظ القرآن، الألفاظ الآتية: أتى (ص:60)، أزر (ص:74)، أفّ (ص:79)، أفك (ص:79)، أمن (ص:90)، أنف (ص:95)، وغيرها كثيرٌ.
(3) ينظر: مفردات ألفاظ القرآن (ص:489).
(4) ينظر: مفردات ألفاظ القرآنِ (ص:871).
(5) ينظر: المادتين في مفردات ألفاظ القرآن (ص:409 - 410)، (ص:483).
(1/384)
________________________________________
وهكذا غيرها من اللَّطائفِ والفوائدِ التي ستجدُها في هذه الطَّريقةِ، واللهُ المُوفِّقُ.
* يلاحظُ أنَّ بعضَ العلماءِ قصدَ جمعَ غريبِ القرآنِ وغريبِ الحديثِ في تدوينٍ واحدٍ، كأبي عبيد أحمد بن محمد الهرويِّ (ت:401) (1) في كتابه المسمَّى بالغريبين (2)، كما أنَّ من ألَّفَ في غريبِ الحديثِ مفرداً لا يخلو من تفسير ألفاظِ القرآنِ، كما سيأتي التَّمثيلُ لكتبِ غريبِ الحديثِ في المصدر الخامسِ.
* أنَّ من كتبَ بعد استقرارِ تدوينِ اللُّغةِ لم يأتِ بجديدٍ يُذكرُ في المعاني، وإنْ كانَ ثمَّةَ ما يُذكرُ، فإنَّ الراغبَ الأصفهانيَّ (ت: بعد 400) قد أدخلَ في كتابِه شيئاً من أقوالِ الحكماءِ، ويعني بهم الفلاسفةَ (3)، وهذا خارجٌ عن التَّفسيرِ بلغةِ العربِ.
* أنه لم يَسْلَمْ غالبُ المتأخرينَ من تأثيرِ المعتقداتِ المخالفةِ لأهلِ السُّنَّةِ على تفسيراتهم اللُّغويَّةِ، وهذا يتضحُ لمن يقرأُ في كتب (غريبِ القرآنِ)، والله أعلم (4).
_________
(1) أحمد بن محمد بن محمد، أبو عبيد الهروي، تتلمذ على أبي منصور الأزهري، وكان يفتخرُ بها، وكان أوَّل من جمع بين غَرِيْبَيْ القرآن والحديث في مصنَّفٍ واحدٍ. ينظر: معجم الأدباء (4:260 - 261)، وشذرات الذهب (3:161).
(2) كتبه أبو عبيد على حروف المعجم، وممن تبعه في ذلك: الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني (ت:581) في كتابه: المجموع المغيث في غربي القرآن والحديث، محمد طاهر الصديقي (ت:986) في كتابه: مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار.
(3) ينظر: مقدمة صفوان داودي في تحقيقه لمفردات ألفاظ القرآن (ص:31 - 37)، وينظر: المفردات (ص:88، 90، 694)،
(4) ينظر مثلاً: مفردات ألفاظ القرآن، تفسير: الغضب (75، 608)، والروح (ص:88) وبيوت النبي (ص:151)، والمحبة (ص:215، 291)، والخُلَّة (ص:291)، والاستواء (ص:439).
(1/385)
________________________________________
المصدرُ الرابع
كتب معاجم اللغة
وفيه:
أولاً: كتاب العين، للخليل.
ثانياً: جمهرة اللغة، لابن دريد.
ثالثاً: تهذيب اللغة، للأزهري.
(1/387)
________________________________________
المصدرُ الرابع
كتب المعاجم اللغوية
سبقتِ الإشارةُ إلى (المعاجمِ اللغويةِ)، وأنها على قسمين:
الأولُ: كُتُبٌ اعتمدتْ على الموضوعاتِ اللُّغويَّةِ؛ أي: جمع الألفاظِ اللُّغويَّةِ التي تتعلقُ بموضوعٍ واحدٍ من الموضوعاتِ اللُّغويَّةِ؛ ككتابِ (الأضدادِ) لأبي حاتمٍ السِّجستانِيِّ (ت:255)، وكتابِ (الأنواءِ) لابن قتيبةَ (ت:276)، وغيرِها.
وقدِ اجتهدَ بعضُ علماءِ اللُّغةِ في جمعِ عِدَّةِ موضوعاتٍ في كتابٍ واحدٍ؛ كأبي عبيدٍ القاسمِ بنِ سلامٍ (ت:224) في كتابِهِ (الغريب المصنف)، وعلي بنِ إسماعيلَ المعروفِ بابنِ سِيدَه (ت:458) (1) في كتابِهِ (المخصص).
الثاني: كُتُبٌ اعتمدتْ على الحروفِ الهجائيَّةِ في ترتيبِ أبوابِها، وإن اختلفتْ في طريقةِ ترتيبِها؛ ككتاب (العينِ) للخليلِ بن أحمدَ (ت:175)، وكتابِ (الجيمِ) لأبي عمرو الشَّيبانيِّ (ت:220)، وكتابِ (تهذيبِ اللُّغةِ) لأبي منصور الأزهريِّ (ت:370)، وغيرها.
وهذا القسمُ هو الذي ستكونُ الدراسةُ فيه؛ لأنه أكثرُ تعرُّضاً لألفاظِ القرآنِ من سابقِه، فضلاً عنْ أنَّ أغلبَ كتبِ الموضوعاتِ قد احتوتْهُ كتبُ معاجمِ الألفاظِ التي رُتِّبَتْ على الحروفِ.
_________
(1) علي بن إسماعيل، وقيل أحمد، أبو الحسن، المعروف بابن سيده، الضرير الأندلسي اللغوي، له كتاب المحكم والمحيط الأعظم في اللغة. توفي سنة (458)، وقيل غيرها. ينظر: جذوة المقتبس (ص:311)، والصلة، لابن بشكوال (2:417 - 418).
(1/388)
________________________________________
وسأتحدث في هذا الشأنِ عن ثلاثةِ كتبٍ من كتبِ المعاجمِ التي سارتْ في ترتيبِها على الحروفِ، وهي: كتابُ (العينِ)، وكتابُ (جمهرةِ اللغة)، وكتابُ (تهذيبِ اللغةِ).
وقد قرأتها، وقمتُ بإخراجِ كلِّ المواضعِ التي فيها تفسيرٌ لألفاظِ القرآنِ أو آياته، وسأذكرُ في كلِّ كتابٍ صورَ التفسيرِ اللغوي كما وردتْ فيه، والله الموفق.
(1/389)
________________________________________
أولاً
كتاب العين
يُنسَبُ كتابُ (العينِ) لإمامِ اللُّغةِ الخليلِ بنِ أحمدَ (ت:175)، رواهُ عنه تلميذُه اللَّيثُ بنُ المظفرِ بنِ نصرٍ بنُ سيَّارٍ، وقدْ شَكَّكَ بعضُ العلماءِ في صِحَّةِ هذه النِّسبةِ (*)؛ كالنَّضْرِ بنِ شُمَيلٍ (ت:203) (1)، وأبي حاتمٍ السِّجستانيِّ (ت:255) (2)، وأبي عليٍّ القاليِّ (ت:356) (3)، والأزهريِّ (ت:370) (4)، والزُّبيديِّ (ت:379) (5).
وبِتصفُّحِ الكتابِ ظهرَ لي ما يأتي:
1 - أنَّ فيه إبداعاً يُناسبُ عقلَ الخليلِ بنِ أحمدَ (ت:175).
_________
=

(*) اطَّلعت أثناء تصحيح الكتاب على دراسة للدكتور إبراهيم السامرائي بعنوان «حكاية كتاب العين وما قيل في نسبته إلى الخليل أحمد الفراهيدي»، ينظر: مجلة الحكمة (ع22، ص319 - 388).
(1) معجم الأدباء (17:51).
(2) المزهر في علوم اللغة (1:83 - 84).
(3) المزهر في علوم اللغة (1:83 - 84).
وأبو علي القالي: إسماعيل بن القاسم بن هارون، نزل بغداد، وأخذ عن علمائها: ابن دريد وابن الأنباري وغيرهما، ثمَّ خرج إلى الأندلس، وأقام فيها، ومن أشهر كتبه الأمالي والنوادر، والبارع، توفي سنة (356). ينظر: إنباه الرواة (1:239 - 244)، وسير أعلام النبلاء (16:45 - 47).
(4) المزهر في علوم اللغة (1:79 - 80).
والزُّبيديَّ: محمد بن الحسن الأندلسي (ت:379)، صاحب طبقات النحويين واللغويين ومختصر العين. ينظر: مقدمة محقق طبقات النحويين.
(5) تهذيب اللغة (1:28 - 29).
(1/390)
________________________________________
2 - أنَّ اللَّيثَ قد أدخلَ عليه تعليقاتٍ وسماعاتٍ سَمِعَهَا من الأعرابِ، وقد كانَ يَنُصُّ عليها أحياناً؛ كقوله: «قلتُ لأبي الدُّقَيش (1): هلْ لَكَ في زُبْدٍ ورُطَبٍ؟» (2).
3 - أنَّ هناكَ تعليقاتٌ أُدخِلَتْ على نصِّ كتابِ العينِ من غيرِ اللَّيثِ، مثلَ ما وردَ من تعليقٍ على لفظةِ «يد» حيثُ وردَ ما يأتي:
«قال أبو أحمد حمزةُ بنُ زرعةَ (3): قوله: «يد» دخلَها التَّنوينُ، وذكر أنَّ التنوينَ إعرابٌ» (4).
ولهذا تجدُ في كتابِ (العينِ) أسماءَ أشخاصٍ كانوا بعد الخليلِ (ت:175) بزمنٍ (5)، وليس في هذا تضعيفٌ لصحَّةِ نسبةِ الكتابِ؛ لأنَّ بعضَ النُّسَّاخِ كانَ يُدخِلُ تعليقاتِ العلماءِ في نَصِّ الكتابِ؛ لظهور ذلك عنده، ولثقتِه بعدم خفاء ذلك على من يَطَّلِعُ عليه من العلماء (6).
ويبدو ـ واللهُ أعلمُ ـ أنَّ أصلَ الكتابِ للخليلِ بنِ أحمدَ (ت:175)، وأنَّ عليه زياداتٍ زادَهَا تلميذُه اللَّيثُ بنُ المظفَّرِ، ثم زِيدَ على بعضِ نُسَخِهِ أقوالٌ لبعضِ المتأخرين.
وسواءٌ أكانَ كتابُ (العينِ) للخليلِ بنِ أحمدَ (ت:175)، أمْ كانَ لتلميذِهِ اللَّيثِ بنِ المظفَّرِ، فإنه يُعَدُّ أوَّلَ مؤلَّفٍ معجميٍّ رُتِّبَ على الحروفِ الهجائيَّةِ.
_________
(1) ذكره القفطي في الأعراب الذين دخلوا الحاضرة. إنباه الرواة (4:121).
(2) العين (1:50)، وينظر: (1:190، 288).
(3) لم أعرفه.
(4) العين (1:50)، وينظر: (1:53).
(5) من أمثلةِ الأعلامِ الذين ورد ذكرهم: الأصمعي (ت:215)، ورد في (1:89)، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت:224) ورد في (3/ 129).
(6) ينظر ـ على سبيل المثال ـ نصًّا للزجاجِ (ت:311) مقحماً في كتاب تفسير غريب القرآن (ص:396) لابن قتيبة (ت:276)، وغريب القرآن (ص:110)، لابن عزيز السجستانِي (ت:330) حيث ورد اسم أبي عمر الزاهد (ت:345) وابن خالويه (ت:370).
(1/391)
________________________________________
والعجيبُ أنَّ ناقدي كتابِ (العين) من معاصريه ومنْ بعدهم، لم يشيروا إلى إمامةِ كتابِ (العينِ) في التَّصنيفِ على حروفِ المعجمِ، ومحاولتِه جمعَ ما جاء عن العربِ في هذا المؤلَّفِ، وهذا إبداعٌ كانَ يلزمُ له الإذعانُ والقبولُ.
ووقوعُ الخطأ فيه ـ إنْ صحَّ ذلكَ ـ لا يجعلُهُ منبوذاً لا تصحُّ الاستفادةُ منه! إذ كان يكفي في ذلك بيانُ مواطنِ الخطأ فيه من هؤلاءِ العلماءِ؛ لأنَّ ذلك هو دأبُهم مع غيرِه من الكتبِ التي انتقدوها، حيثُ كانَ لهم تعليقاتٌ وردودٌ على كثيرٍ من الكتبِ، ولم يكنْ في ذلكَ غَضٌّ وانتقاصٌ من الكتابِ المردود عليه، ولا من مؤلِّفِهِ.
ولمَّا كانَ كتابُ (العين) معجماً يسيرُ على الحروفِ، فإنَّ منهجَه في التَّفسيرِ له شَبَهٌ بكتبِ (غريب القرآن) التي تذكرُ اللَّفظَ القرآنيَّ ثمَّ تبينُ معناهُ. وكتبُ معاجم الحروف تفعلُ ذلكَ، حيثُ تذكرُ اللَّفظَ القرآنيَّ، ثمَّ تبينُ معناهُ في لغةِ العربِ، وقدْ تستشهدُ على ذلكَ بأشعارِ العربِ.
ومن صور تفسير ألفاظ القرآن في كتاب (العين)، ما يأتي:
أولاً: بيانُ معنى اللفظةِ القرآنيةِ دونَ ذكر شاهدٍ عليها:
وهذا عليه أغلبُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في كتابِ (العين)، ومنْ ذلكَ:
1 - قولُه: «والمُهْطِعُ: المقبلُ ببصرِهِ على الشيءِ لا يرفعُهُ عنه، قال اللهُ عزّ وجل: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43]» (1).
2 - وقال: «الجَنَفُ: الميلُ في الكلامِ وفي الأمورِ كلِّها، تقولُ: جَنَفَ فلانٌ علينا، وأجنفَ في حكمِهِ، وهو شبيهٌ بالحَيفِ، إلاَّ أنَّ الحيفَ من الحاكمِ خاصَّةً، والجَنَفُ عامٌّ، ومنه قولُ الله عزّ وجل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ
_________
(1) كتاب العين (1:101)، وينظر: (1:137، 119، 140، 146، 205، 215، 298، 305)، (2:17، 29، 105)، (3:53، 59)، (7:6، 7، 29، 44، 53)، وغيرها كثيرٌ.
(1/392)
________________________________________
جَنَفًا} [البقرة: 182]، وقوله جلَّ وعزَّ: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3]؛ أي: متمايلٍ متعمِّدٍ» (1).
وقدْ يُتبعُ تفسيرَه اللُّغويَّ للَّفظةِ بذكرِ معناها في الآيةِ على جهةِ تفسيرِ المعنى المرادِ بها في الآيةِ، لكنه قليلٌ جداً، ومنْ ذلكَ قوله: «الدَّعُّ: دفعٌ في جفوةٍ، وفي التَّنْزيلِ العزيزِ: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2]؛ أي: يُعَنِّفُ به عنفاً شديداً ودفعاً وانتهاراً؛ أي: يدفعُه حَقَّهُ وصِلَتَهُ» (2).
ففي هذا المثال تراه بينَ المعنى المرادَ بالآيةِ بعد ذِكْرِه المعنى اللُّغويَّ للَّفظةِ، وكأنه يريدُ أنْ يقولَ: إن الدَّعَّ ـ وإنْ كانَ في اللُّغةِ بمعنى الدفعِ ـ يدخلُ فيه منعُ حقِّ اليتيمِ وصلتِهِ، والله أعلم.
ثانياً: الاستشهاد بالشعر على معنى اللفظة القرآنية:
لقدْ كانَ الاستشهادُ بالشعرِ قليلاً في كتابِ العينِ، إذا ما قِيسَ بالكلماتِ القرآنيَّةِ التي أوردَ بيانَ معناها في لغةِ العربِ، ومن أمثلةِ الاستشهادِ بالشِّعرِ ما يأتي:
1 - قال: «وكُبْرُ كلِّ شيءٍ: عُظْمُه، وقولُه عزّ وجل: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11] يعني عُظْمَ هذا القَذْفِ. ومن قرأ: «كِبْرَهُ» (3) يعني: إثمَه وخِطْأَهُ. قال علقمة (4):
_________
(1) كتاب العين (6:143).
(2) كتاب العين (1:80). وينظر: (1:260)، (7:44، 108، 204).
(3) القراءة المتواترة بكسر الكاف، والأخرى بضم الكاف، قال ابن جني: «ومن ذلك قراءة أبي رجاء وحميد ويعقوب وسفيان الثوري وعمرة بنت عبد الرحمن وابن قطيب: {كِبْرَهُ} بضم الكاف. قال أبو الفتح: من قرى كذلك أراد عُظْمَهُ، ومن كسر فقال: {كِبْرَهُ} أراد: وِزْرَه وإثمه، قال قيس بن الخطيم:
تَنَامُ عَنْ كُبْرِ شَأنِهَا فَإذَا ... قَامَتْ تَكَادُ تَنْغَرِفُ
(4) ديوانه، بشرح الأعلم الشنتمري، تحقيق: حنا نصر (ص:79).
(1/393)
________________________________________
بَدَتْ سَوابِقُ مِنْ أُولاَهُ نَعْرِفُهَا ... وَكُبْرُهُ فِي سَوَادِ اللَّيلِ مَسْتُورُ» (1)
2 - قال: «والرَّجْوُ: المبالاةُ، يقال: ما أرجو؛ أي: ما أُبالي، من قولِ اللهِ عزّ وجل: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]؛ أي: لا تخافون ولا تبالون، وقال أبو ذؤيب (2):
إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيتِ نُوبٍ عَوَاسِلُ
أي: لم يكترث» (3).
ثالثاً: تفسير ألفاظ قرآنية دون ذكر الآية:
يكثرُ في كتبِ المعاجمِ بيان معاني ألفاظٍ قرآنيةٍ دونَ ذكرِ الآيةِ التي ورد فيها هذا اللفظُ، وفي كتابِ العينِ من هذا القبيلِ كثيرٌ (4)، ومنْ أمثلتِهِ:
1 - قال: «وعُقْدَةُ النكاحِ: وجوبه» (5). وفي القرآنِ قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235].
2 - وقال: «وبئرٌ معطلةٌ؛ أي: لا تُورَدُ ولا يُسْقَى منها» (6). وفي القرآنِ قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45].
_________
(1) كتاب العين (4:361)، وينظر: (1:80، 99، 101، 170، 290)، (2:54)، (3:55، 132، 144، 164، 183، 218، 248، 306، 320، 380)، (4:7، 83، 104، 266، 360، 418)، (5:38، 156، 286، 302، 320، 328)، وغيرها.
(2) ديوان الهذليين (1:143).
(3) كتاب العين (6:176 - 177).
(4) ينظر في الجزء الأول ـ مثلاً ـ الألفاظ الآتية: العهن (ص:108)، بخع (ص:123)، صعق (ص129)، القارعة (ص:156)، العلق (ص:161)، نعق (ص:171)، العشار (ص:247)، العرش (ص:249)، العصف (ص:306)، وغيرها.
(5) كتاب العين (1:140).
(6) كتاب العين (2:9).
(1/394)
________________________________________
3 - وقال: «وقَطَعَ اللهُ دَابرهم، أي: آخرُ منْ بقيَ منهم» (1). وفي القرآنِ قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: 45] وغيرها.
رابعاً: توجيه القراءات:
لا يخلو كتابٌ في مفرداتِ اللغةِ العربيَّةِ ـ ككتابِ العينِ وجمهرةِ اللغةِ وغيرِها ـ من توجيه القراءاتِ، وإن كان الاختلاف إنما يكونُ في القلَّةِ والكثرةِ في إيرادِ القراءاتِ المختلفةِ وبيانِ معانيها.
ومما وردَ في كتابِ (العين): «وتقرأ الآية: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56]؛ أي: مستعدُّون، ومنْ قرأ «حذرون» (2)؛ فمعناه: إنا نخافُ شرَّهُم» (3).
هذا، ولا يخلو كتابُ (العين) من تفسيرِ شيءٍ من الأساليبِ العربيَّةِ، أو ذِكْرِ شيءٍ منْ أسبابِ النُّزولِ وقَصَصِ الآي، أو بيانِ معنى الآيةِ، غير أنَّ ذلكَ قليلٌ جداً، إذ أنَّ جُلَّهُ ـ كما سبق ـ في بيانِ معاني المفرداتِ.
ومنْ أمثلةِ ذلكَ ما يأتي:
1 - وقال: «وقولُ اللهِ تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]؛ أي: جماعتُهم، ولو كانتْ للأعناقِ خاصةً، لكانتْ خاضعةً وخاضعاتٍ.
ومنْ قالَ هي الأعناقُ، والمعنى على الرجالِ، رَدَّ نُونَ خاضعين على أسمائِهم المضمرةِ» (4).
_________
(1) كتاب العين (8:32).
(2) قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بإثبات الألف (حاذرون)، وقرأ الباقون بحذفها (حذرون). ينظر: السبعة في القراءات (ص:471).
(3) كتاب العين (3:199)، وينظر: (1:295، 364)، (3:27، 151، 223)، (6:666)، (7:10،295).
(4) كتاب العين (1:168).
(1/395)
________________________________________
2 - وقال: «والله يَكْنِي عن الأفعالِ، قال اللهُ عزّ وجل: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]: كَنَى عنِ النِّكاحِ» (1).
ومما يتعلق بقصص الآية قوله: «ونتقتِ الملائكةُ جبلَ الطورِ؛ أي: اقتلعوه من أصلِه حتى أطلعوه على عسكرِ بني إسرائيلَ، فقال موسى عليه السلام: خذوا التوراةَ بما فيها، وإلاَّ أُلقِيَ عليكمْ هذا الجبلُ، فأخذوها، فقال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} [الأعراف: 171]» (2).
_________
(1) كتاب العين (1: 241)، وينظر: (1: 232)، (6: 31، 81)، (7: 108).
(2) كتاب العين (5: 129 - 130)، وينظر: (2: 119)، (5: 74).
(1/396)
________________________________________
ثانياً كتاب جمهرة اللغة
ألَّفَ أبو بكرٍ محمدُ بنُ الحسنِ بنُ دُرَيدٍ (ت:321) كتابَه (جمهرة اللغة) إملاءً (1)، وكان إملاؤه في مراتٍ ثلاثٍ، في فارسَ، ثُمَّ البصرةَ، ثُمَّ بغدادَ (2).
وهذا الإملاءُ لألفاظِ اللُّغةِ يدلُّ على سَعَةِ حفظِهِ واستيعابِهِ لهذه الألفاظِ اللُّغويَّةِ.
ولقد كان ابنُ دريدٍ (ت:321) بصريًّا، ومع تأخُّرِ زمنِه، فإنك لا تكادُ تجِدُ في كتابِه نقلاً عن عالمِ لغةٍ كوفيٍّ؛ كالكسائيِّ (ت:183)، والفراء (ت:207)، وابن الأعرابيِّ (ت:231)، وأبي العباس ثعلب (ت:291)، وغيرِهم من الكوفيِّينَ المكثرينَ في نقلِ اللُّغةِ، وقد يكونُ إهمالُه النقَّلَ عنهم سبباً من أسبابِ نقدِ معاصِرِه نفطويه الكوفيِّ (ت:323) (3)، وتلميذِه الأزهريِّ (ت:370).
قال الأزهريُّ (ت:370): «وممن ألَّف في عصرنا، ووُسِمَ بافتعال العربيَّة،
_________
(1) قد أشار ابن دريدٍ إلى هذا في مواطن، منها: «وأملينا هذا الكتاب، والنقص في الناس فاشٍ». الجمهرة (1:40)، وقال في موطن آخر: «وإنما أملينا هذا الكتاب ارتجالاً، لا عن نسخةٍ ولا تخليد في كتابٍ قبله، فمن نظر فيه، فليخاصم نفسه بذلك، فيعذر إن كان فيه تقصير أو تكرير». الجمهرة (2:1085).
وقال: «فإن كنا أغفلنا من ذلك شيئاً، لم يُنكرْ علينا إغفالُه؛ لأنَّا أمليناه حفظاً، والشّذوذُ مع الإملاءِ لا يُدفعُ». الجمهرة (3:1339).
(2) ينظر: المزهر، للسيوطي (1:94).
(3) إبراهيم بن محمد بن عرفة، الملقب بنفطويه النحوي، الكوفي، كان صدوقاً، له كتاب في غريب القرآن، وكتاب في الرد على من قال بخلق القرآن، توفي سنة (323). ينظر: تاريخ بغداد (6:159 - 162)، وإنباه الرواة (1:211 - 217).
(1/397)
________________________________________
وتوليد الألفاظ التي ليس لها أصول، وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامهم: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، صاحب كتاب جمهرة اللغة ... فسألت إبراهيم بن محمد الملقب بنفطويه عنه، فاستخفَّ به، ولم يوثِّقه في روايته ... وتصفَّحتُ كتاب الجمهرة له، فلم أره دالاً على معرفةٍ ثاقبةٍ، وعثرتُ منه على حروفٍ كثيرةٍ أزالها عن وجوهها، وأوقع في تضاعيف الكتاب حروفاً كثيرةً أنكرتُها، ولم أعرفْ مخارجها، فأثبتُّها من كتابي في مواقعِها منه؛ لأبحث عنها أنا وغيري ممن ينظرُ فيه، فإن صحَّتْ لبعضِ الأئمَّةِ اعتُمِدت، وإن لم توجد لغيرِه وُقِفَت» (1).
هذا، وكتابُ (جمهرة اللغة) مثلُ أيِّ معجمٍ منْ معاجمِ اللُّغةِ التي سارتْ في ترتيبها على الحروفِ، أيْ أنَّه سيتعرضُ لبيانِ الألفاظِ القرآنيَّةِ؛ لذا فإنَّ ظواهرَ التَّفسيرِ اللُّغويِّ لا تكادُ تختلفُ في هذه المعاجمِ، ومنْ هذه الظواهرِ:
أولاً: أن يستشهد للَّفظ القرآنيِّ بالشِّعر:
كانَ الاستشهادُ بالشِّعرِ في تفسير ألفاظِ القرآنِ قليلاً جداً (2) في كتابِ (جمهرةِ اللغةِ)، ومنْ ذلكَ:
_________
(1) تهذيب باللغة (1:31). وهذا الكلام فيه تحاملٌ على ابن دريد، وقد يكون الأزهري متأثِّراً بنقدِ شيخه نفطويه الكوفي ونفطويه من أقران ابن دريدٍ البصري، وقد يكون اختلاف المدارس سبباً في النقدِ، ومن المعروف عند العلماء أنَّ نقد الأقرانِ لا يُقبلُ إلاَّ بحجَّةٍ صحيحةٍ، واللهُ أعلمُ.
وقد قرأتُ كتاب ابن دريدٍ، فظهر لي فيه بعض المميزاتِ التي تُسجَّلُ له، منها:
* ذكرهُ اشتقاق الأسماء، وله في ذلك كتاب خاصٌّ.
* ذكرهُ للمعرَّبِ، وقد اعتمد عليه أبو منصور الجواليقي كثيراً في كتابه في المعرَّب.
* ذكره لبعض لغات اليمن التي لا توجد عند غيره، وهو أزديُّ يروي لغة قومه.
* كثرةُ قوله: «واللهُ أعلمُ» في كثيرٍ من الموادِّ التي يبيِّن معناها في لغة العربِ، وهي تَنِمُّ عن ورعٍ فيه في نقلِ اللغةِ.
(2) لم يتجاوز الاستشهاد للألفاظ القرآنية أكثر من خمسة عشر موضعاً مع أنَّهُ فسَّرَ قرابةَ ستمائة لفظة من ألفاظِ القرآنِ في الجزء الأول؛ ينظر منها: الأب (ص:52)، أثاثاً =
(1/398)
________________________________________
1 - قال ابن دُريد (ت:321): «والمُقِيتُ على الشيءِ: القادِرُ عليه، هكذا فُسِّرَ في التَّنْزِيلِ في قولِ اللهِ عزّ وجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 58]، والله أعلم.
قالَ الشَّاعرُ (1):
وَذِي ظَغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ، ... وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءتِهِ مُقِيتاً
أي: قادراً» (2).
2 - وقال: «وفلانٌ خَلَفٌ صالحٌ، وخَلْفُ سُوءٍ، هكذا يقولُ بعض أهلِ اللغةِ. وفي التنْزيلِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169]، قال لبيد (3):
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ،
وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ» (4)
ثانياً: أن يفسِّر اللَّفظة القرآنيَّة في الآية دون الاستشهاد بالشِّعر:
وهذا القسمُ كثيرٌ في كتاب (جمهرةِ اللغةِ)، غيرَ أنَّه يُكثرُ فيه النقلَ والاعتمادَ على غيرِه، وقد يُبْهِمُ المنقولَ عنه، فلا يذكر اسمه، وأكثرُ منْ وقعَ التَّصريحُ باسمِه: أبو عبيدة (ت:210) (5).
_________
= (ص:54)، إدًّا (ص:55) تؤزُّهم (ص:56)، ثجاجاً (ص: 81)، صفصفاً (ص:209)، وغيرها. والملاحظُ أنَّ بعض هذه الشواهد منقولة من مجاز القرآن لأبي عبيدة.
(1) البيت في تهذيب اللغة (9:255)، ومقاييس اللغة (5:38)، ولسان العرب وتاج العروس، مادة (قوت)، وقد نسبه في لسان العرب إلى أبي قيس بن رفاعة أبو الزبير بن عبد المطلب. ينظر: جمهرة اللغة (حاشية: 13، ص:407)، والمعجم المفصل في شواهد اللغة العربية (1:509).
(2) جمهرة اللغة (ص:407).
(3) البيت في ديوانه، شرح الطوسي، تحقيق: حنا نصر (ص:57).
(4) جمهرة اللغة (ص:615).
(5) نسب إليه في الجزء الأول من الجمهرة أكثر من سبعين تفسيراً لألفاظ القرآن، ينظر (1:58، 64، 69، 87، 92، 93، 104، 105، 111، 112، 120، 135، =
(1/399)
________________________________________
ومما فَسَّرَ منْ ألفاظِ القرآنِ منْ غيرَ استشهادٍ بالشِّعرِ:
1 - قال: «غَوَى الرجلُ يَغْوَي غَيًّا: منَ الغَيِّ، وهو خلافُ الرُّشْدِ. وفي التَّنْزِيلِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]» (1).
2 - وقال: «صَكَّ الشيءَ، يَصُكُّه صَكًّا: إذا ضربَهُ بيدهِ أو بحجرٍ. وفي التَّنْزيلِ: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات: 29]؛ أي: ضربتْ وجهَها بيدِها» (2).
ومنَ الأمثلةِ التي نقلَها عنْ أبي عبيدةَ (ت:210) قولُه: «والغابرُ: الماضي، والباقي. هكذا يقولُ بعضُ أهلِ اللُّغةِ، وكأنَّه عندَهُم منَ الأضدادِ.
وفَسَّرَ أبو عبيدةَ قولَه: {إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء: 171]: في الباقينَ، والله أعلم» (3).
ومنْ أمثلةِ اعتمادِهِ على غيرِ أبي عبيدةَ (ت:210)، مع إبهامِ المنقولِ عنهم، ما يأتي:
_________
= 150، 151، 159، 161، 170، 193، 198، 205، 209، 236، 252، 253، 256، 271، 277، وغيرها).
(1) جمهرة اللغة (1:244).
(2) جمهرة اللغة (1:143)، وينظر في هذا الجزء: أيد (ص:55)، يؤفك (ص:56)، المبثوث (ص:63)، رُجَّت (ص:88)، الرَّق (ص:125)، أهشُّ (ص:141)، مكنون (ص:166)، يؤوده (ص:233)، الشورى (ص:240)، بهت (257)، انبجست (ص:267)، حدب (ص:273)، الحوب (ص:286)، لِبَداً (ص:301)، بسر (ص:308)، فتربصوا (ص:312)، كبائر (ص:327)، الزبانية (ص:335)، بطش (ص342)، لغوب (370)، كفاتا (ص405)، مدحوراً (ص:501)، كادح (ص:505)، نسلخ (ص:598)، الخنس (ص:599)، وغيرها.
(3) جمهرة اللغة (1:320)، وفي مجاز القرآن (2:89): «والغابر: الباقي، قال العجاج:
فَمَا وَنَى مُحَمَّدُ مُذْ أَنْ غَفَرْ ... لَهُ الإلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ
أي: بَقِيَ ...».
(1/400)
________________________________________
قال: «تلَّهُ يتُلُّه تلًّا: إذا صَرَعَهُ. وكذا فُسِّرَ في التَّنْزيلِ: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]. والله أعلم بكتابه» (1).
ولما كانَ ابنُ دريدٍ (ت:321) قدْ أَمْلَى كتابَه حفظاً، فإنه قدْ وقعَ منه في بعضِ ما نسبهُ إلى أبي عبيدةَ (ت:210) وَهْمٌ، ومن ذلك:
1 - قال: «وذكرَ أبو عبيدةَ في قولِه عزّ وجل: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8]؛ أي: شاخصونَ بعيونِهم رافعو رؤوسِهم. والإبلُ قِمَاحٌ: إذا قَامَحَتْ عنِ الماءِ، قالَ الشاعرُ (2):
وَنَحْنُ عَنْ جَوَانِبِهَا قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالإبِلِ القِمَاحِ
وهذا يخالفُ قولَ أبي عبيدةَ؛ لأنه قالَ: نَغُضُّ الطَّرْفَ، فكأنَّ المُقْمَحَ ـ واللهُ أعلمُ ـ: الرافعُ رأسَه، شاخصاً كان أو مُغْضِياً» (3).
والذي جاءَ في (مجازِ القرآنِ): «المُقْمَحُ والمُقْنَعُ: واحدٌ تفسيرُه؛ أي: يجذبُ الذَّقْنَ حتى يصيرَ في الصدرِ، ثمَّ يرفعُ رأسَه، قالَ بِشْرُ بنُ أبي خَازِمٍ الأسدي (4):
وَنَحْنُ عَنْ جَوَانِبِهَا قُعُودٌ،
نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالإبِلِ القِمَاحِ» (5)
_________
(1) جمهرة اللغة (1:79 - 80). وينظر في الجزء الأول للألفاظ الآتية؛ اجتثت (ص:81)، ثُلَّة (ص:84)، مجذوذ (ص:78)، محرراً (ص:96)، تحسونهم (ص:79)، دكاء (ص:114)، لُدًّا (ص:114) وُدًّا (ص:115)، وغيرها.
(2) البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي، وهو في ديوانه، تحقيق: عِزَّة حسن (ص:91).
(3) جمهرة اللغة (1:560).
(4) بشر بن أبي خازم بن عمرو الأسدي، شاعر جاهلي، شهد حرب طيء وأسد، وكان أشهر شعراء بني أسد، وكان قُتِلَ في أحد غزواتِ قومه. ينظر: الشعر والشعراء (270 - 271)، ومعجم الشعراء (ص:39).
(5) مجاز القرآن (2:157). وقد نقل الطبريُّ النصَّ نفسَه الذي في المجاز، ونسبه إليه بقوله: «والمقمح: المقنع، وهو أن يَحْدُرَ الذَّقْنَ حتى يصيرَ في الصدرِ، ثمَّ يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة». تفسير الطبري =
(1/401)
________________________________________
وقالَ في موضعٍ آخرَ: «... والإحْبَابُ في الإبلِ؛ كالحِرانِ في الخيلِ. قالَ أبو عبيدةَ: ومنه قولُه عزّ وجل: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]؛ أي: لَصِقْتُ بالأرضِ لِحُبِّ الخيرِ حتى فاتتني الصلاة، والله أعلم» (1).
والذي وردَ في (مجازِ القرآنِ): «{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] مجازه: أحببته حباً، ثمَّ أضافَ الحُبَّ إلى الخيرِ» (2).
وهذا يخالفُ ما رواهُ عن أبي عبيدةَ (ت:210)، وهذا الذي قالَه منسوبٌ إلى شيخه أبي حاتم السِّجستانيِّ (ت:255)، وقد يكون اختلطَ عليه، فَوَهِمَ في النَّسْبِ، وقد جاءَ في حاشيةِ نسخةِ (S) من نُسَخِ (مجازِ القرآنِ) التي اعتمدَ عليها المُحَقِّقُ ما نصُّه: «قالَ أبو حاتم: ليسَ الأمرُ كما ظَنَّ أبو عبيدةَ، وإنما معنى «أحببت»: لَزِمْتُ الأرضَ، يقالُ: بعيرٌ مُحِبُّ: إذا لَزِقَ بالأرضِ منْ مرضٍ به، قالَ الهُذليُّ (3):
دَعَتْكَ إلَيهَا مُقْلَتَاهَا وجِيدُهَا، ... فَمِلْتَ، كَمَا مَالَ المُحِبُّ عَلَى عَمْدِ
المُحِبُّ: اللازمُ للأرضِ لا يقومُ، والعَمْدُ: مَرَضٌ به، يقالَ: رجلٌ عميدٌ ومعمودٌ.
أمَّا {حُبَّ الْخَيْرِ} فأرادَ ـ إنْ شاءَ اللهُ ـ حُبَّ الخيلِ؛ لأنه تشاغلَ بها عن الصلاةِ ... والمعنى: إني لَزِمْتُ الأرضَ وتشاغلتُ عنْ ذكرِ اللهِ؛ يعني: الصلاةَ، حُباً للخيلِ» (4).
_________
= ط: الحلبي (22:151)، وهذا مما يستأنس به في الدلالة على خطأ ابن دريد في نقل قول أبي عبيدة، والله أعلم.
(1) جمهرة اللغة (1:64). وورد في (1:287) هذا التفسير دون أن ينسبه إلى معيَّنٍ، واستدل له بالبيت الذي سيرد منسوباً للهذلي.
(2) مجاز القرآن (2:182).
(3) البيت في جمهورة اللغة (1:287)، وسمط اللآلي (2:653). ينظر: المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية (2:439).
(4) مجاز القرآن (2:182، حاشية سطر 6 - 11).
(1/402)
________________________________________
ثالثاً: أن يفسر ألفاظاً قرآنية دون ذكر الآيات:
لقدْ كانَ عددُ الألفاظِ المفسَّرَةِ على هذه الصورةِ كثيراً (1)، حيثُ يذكرُ اللفظَ ومعناهُ في لغةِ العربِ، دونَ الإشارةِ إلى كونِه في التَّنْزيلِ أو ذكرِ آيةٍ وردَ فيها كما هي عادتُه في الأمثلةِ السَّابقةِ.
ومن أمثلة ذلك:
1 - قال: «اللُّجَّةُ: لُجَّةُ البحرِ، وهو مُعظمُ مائِهِ، والجمعُ: لُجٌّ ولُجَجٌ ... والْتَجَّ البحر: إذا اضطربتْ أمواجُه» (2).
وقد ورد في القرآن قوله تعالى: {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44]، وقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40].
2 - وقال: «ويقالُ: في أمرِهِ دَخَلٌ؛ أي: فسادٌ؛ دَخِلَ أمرُهُ يَدْخَلُ دَخَلاً: إذا فسد» (3).
وقد ورد في القرآنِ قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} [النحل: 92]، وقوله: {وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} [النحل: 94].
رابعاً: توجيه القراءات:
كانتِ القراءاتُ التي وجَّهَها ابنُ دريدٍ (ت:321) قليلةً (4)، وكانَ بعضُها لا
_________
(1) بلغت هذه الألفاظ في الجزء الأول قرابة (240) لفظةً؛ منها: أجاج (ص:54)، بكة (ص:75)، الخصاصة (ص:105)، الرميم (ص:126)، هيت لك (ص:215)، ثاقب (ص:260)، حاصب (ص279)، أحقاباً (ص:282)، قربان (ص:325)، عبس (ص:337)، وغيرها.
(2) جمهرة اللغة (1:494).
(3) جمهرة اللغة (1:580).
(4) بلغت الألفاظ التي وجهها في الجزء الأول قرابة (15) لفظاً؛ منها: سدًّا (ص:111)، سَمِّ الخياط (ص:135)، ضنين (ص:184)، إدبار النجوم (ص:296)، لا يكذبونك (ص:305)، كبره (ص:327)، الجمل (ص:491).
(1/403)
________________________________________
أثرَ له في المعنى واختلافِه. ومنْ أمثلةِ القراءاتِ التي وجهَها ما يأتي:
1 - قالَ: «ونَخِرَ العَظْمُ يَنْخَرُ نَخْراً: بَلِيَ، وهو عَظْمٌ نَاخِرٌ ونَخِرٌ، وقد قُرِئَ: {عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات: 11]، و «نَاخِرَةً» (1)، فمن قرأ: {نَخِرَةً} أراد: باليةً، والله أعلم. ومن قرأ: «نَاخِرَةً» أرادَ: أنَّ الريحَ تَنْخِرُ فيها، فيما يقال، لأنه قد بقيَ منها بقيةٌ» (2).
2 - وقال: «والنَّزِيفُ: السكرانُ أيضاً، وهو المُنْزَفُ، وفِي التنزيلِ: {لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19]؛ أي: لا يسكَرُونَ، هكذا يقولُ أبو عبيدةَ (3). وقد قُرِئَ: «يُنْزِفُونَ» (4)؛ أي: يُنفِدُونَها والله أعلم ...» (5).

تَحَرُّزُ ابنِ دريدٍ في التفسير:
لقدْ برزتْ لي أثناءَ قراءةِ كتابِ (جمهرةِ اللغةِ) ظاهرةُ تَحَرُّزِ ابنِ دريدٍ (ت:321) في التَّفسيرِ، بل في نقلِ اللُّغةِ كذلك، ومما يُثبِتُ تَحَرُّزَه ما يأتي:
الأول: أنه قَلَّ أنْ يوردَ تفسيراً مقروناً بآيةٍ دونَ أنْ يَذكرَ عبارةَ: «واللهُ أعلمُ» (6)، أو ما شابهها؛ كقوله: «والله أعلم بكتابه» (7).
_________
(1) قرأ عاصم من رواية أبي بكر، وحمزة، ويعقوب: ناخرة، الباقون: نخرة، ينظر: القراءات وعلل النحويين فيها (2:745).
(2) جمهرة اللغة (1:593).
(3) مجاز القرآن (2:249).
(4) قرأ حمزة والكسائي وعاصم: «يُنْزِفون»، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر: «يُنْزَفون». السبعة (ص:547).
(5) جمهرة اللغة (2:821).
(6) ينظر في الجزء الأول الألفاظ الآتية: أبد (ص:55)، يؤفكون (ص:57)، أحببت (ص:64)، وخطبة (ص:291)، خبالاً (ص:293)، لبداً (ص:301)، الذنوب (ص:306)، خطف (ص:609)، الخمط (ص:610)، وغيرها.
(7) ينظر الألفاظ الآتية، في الجزء الأول: الإدُّ (ص:55)، سبح (ص:277)، خشب (ص:290)، العوج (ص:486)، وحي (ص:576)، وغيرها.
(1/404)
________________________________________
ومن أمثلة ذلك:
* قال: «وقوله عزّ وجل: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]؛ أي: ناقصٍ، واللهُ أعلمُ» (1).
* وقال: «الدَّرْكُ: المنْزلةُ، وكذا جاءَ في التَّنْزيلِ: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، فالنَّارُ دَرَكَاتٌ، والجنةُ درجاتٌ، واللهُ أعلمُ بكتابِه» (2).

الثاني: كثرةُ نَسْبِهِ التَّفسيرَ لغيرِه:
لقدْ كانَ ابنُ دريدٍ (ت:321) ـ على سَعَةِ اطِّلاعِهِ على معاني الألفاظِ في لغةِ العربِ ـ مُكثراً في نسبِ التَّفسيرِ لغيره على سبيل الإبهامِ في المفسِّرِ، مما يُشعِرُ بتهيُّبه من التَّفسيرِ، ولذا يوردُ مثلَ عبارةِ: «وكذا فُسِّرَ في التَّنْزيلِ» (1) وما شابهها، ولا ينسبُ التَّفسيرَ إلى نفسِه.
ومن أمثلةِ ذلكَ:
* قال: «والصُّدْفَانِ: جانبا الشِّعْبِ من الجَبَلِ، وكذا فُسِّرَ في التَّنْزيلِ» (2).
* وقال: «والفرشُ من الإبلِ: صغارُها التي لا يُحْمَلُ عليها، والواحدُ والجمعُ فيه سواءٌ، وكذا فُسِّرَ في التَّنْزيلِ في قوله جلَّ وعزَّ: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142]، والله أعلم» (3).
كما تجده ينسبُ إلى أبي عبيدة (ت:210) كثيراً من تفسيرِ ألفاظِ القرآنِ، إلاَّ أنه يُشعرُك في بعض ما ينقله عنه عدم الرضا بتفسيرِه، ويصرحُ لك حيناً بعدم قبوله، ومن ذلك:
_________
(1) جمهرة اللغة (1:289).
(2) جمهرة اللغة (2:637).
(3) ينظر: (1:79، 81، 84)، (2:628، 654، 655، 782، 784).
(4) جمهرة اللغة (2:655).
(5) جمهرة اللغة (2:729).
(1/405)
________________________________________
قالَ: «وفي التَّنْزيلِ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات: 1]، ولا أُقْدِمُ على تفسيرِه، إلا أنَّ أبا عبيدةَ ذكرَ أنَّها النجومُ تنْزِعُ؛ أي: تطلعُ (1)، والله أعلم» (2).
في هذا المثالِ تراه قد توقَّفَ في معنى «النازعات»، مع أنه ذكرَ تفسيرَ أبي عبيدةَ (ت:210)، وكأنَّ ذلك ـ والله أعلم ـ يَنِمُّ عنْ عدمِ رضاهُ بهذا التفسيرِ.
وله مما يدلُّ على عدمِ تقليدِه أبا عبيدةَ (ت:210) في كُلِّ أقواله، قولُه: «... ويقال: العَنَتُ، أيضاً، من الإثمِ، عَنِتَ يَعْنَتُ عَنَتاً: إذا اكتسب مَأثماً.
ولستُ أذكرُ قولَ أبي عبيدةَ في تفسيرِه في التَّنْزيلِ (3) فأُقَلِّدُهُ إياه» (4).
وقالَ: «والرَّحْقُ: أصلُ بناءِ الرَّحيقِ، قالوا: وهو الصَّافي، والله أعلم. وفي التَّنْزيلِ: {مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25].
وخلَّطَ فيه أبو عبيدةَ، فلا أحبُّ أن أتكلمَ فيه» (5).
وقدْ يكونُ سببُ ذلكَ التَّتَبُّعِ تأثُّرَه بشيخِهِ أبي حاتمٍ (ت:255) الذي كانَ ينتقدُ أبا عبيدةَ (ت:210) ويُشَنِّعُ عليه من أجلِ كتابِهِ مجازِ القرآنِ.
ومنْ أمثلةِ ما نقده شيخُه أبو حاتم السجستاني (ت:255) على مجازِ القرآنِ ما يأتي:
_________
(1) مجاز القرآن (2:284).
(2) جمهرة اللغة (2:818).
(3) فسر أبو عبيدة في مجاز القرآن: أعنتكم: أهلككم (1:73)، وفسر العنت بأنه كل ضرر (1:123).
(4) جمهرة اللغة (1:403).
(5) جمهرة اللغة (1:519). وفي مجاز القرآن (2:289): «الرحيق: الذي ليس فيه غش. رحيق معرق من مسك أو خمر». ولم يتبين لي وجه التخليط الذي ذكره ابن دريد، والله أعلم.
(1/406)
________________________________________
1 - قال أبو حاتم (ت:255): «وقالَ أبو عبيدةَ: أسْرَرْتُ الشَّيءَ: أخْفَيتُهُ وأظْهَرْتُهُ أيضاً. وكانَ يقولُ في هذه الآيةِ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس: 10]: أظهروها (1). ولا أثقُ بقولِه في هذا، والله أعلم» (2).
2 - وقال أبو حاتم (ت:255): «وكانَ أبو عبيدةَ يقولُ: خافَ: منَ الخوفِ ومنَ اليقينِ. وكانَ يقولُ في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا} [النساء: 3]؛ يريد: أيقنتم (3). ولا عِلْمَ لي بهذا؛ لأنَّه قرآنٌ، فإنما تحكيه عنْ ربِّ العالمينَ، ولا تدري لعله ليس كما يظُنُّ» (4).
الثالث: توقُّفُه في بعض التَّفسيرِ:
تجدُ في منهجِ ابن دريدٍ (ت:321) أنه يتوقَّفُ في المعنى المرادِ ببعضِ الألفاظِ في الآياتِ (5)، ولا يُقْدِمُ على تفسيرِها تورُّعاً منه في ذلك، ومنَ الأمثلةِ الواردةِ في ذلك ما يأتي:
* قوله: «وأما قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] أي: خَلَتْ من الماء، وزعموا أنه من الأضدادِ، ولا أحبُّ أن أتكلم فيه» (6).
* وقال: «والحين: حقبة من الدَّهر، وقد جاء في التَّنْزيل، واختلف فيه المفسِّرون، ولا أحب أن أتكلم فيه» (7).
سلسلة التَّورُّع في التَّفسير من ابن دريد إلى الأصمعيِّ:
ولا يخفى على منْ يقرأُ كتبَ ابنِ دريدٍ (ت:321) ما كانَ لأبي حاتمٍ
_________
(1) مجاز القرآن (2:34).
(2) الأضداد، لأبي حاتم، تحقيق: محمد عودة (ص:130).
(3) مجاز القرآن (1:116).
(4) الأضداد، لأبي حاتم، تحقيق محمد عودة (ص:101).
(5) ينظر في هذا: الجزء الأول: حسبان (ص:277)، الرحيق (ص:519)، والجزء الثاني: الأعراف (ص:766)، الأثام (ص:1036).
(6) جمهرة اللغة (1:457).
(7) جمهرة اللغة (1:575).
(1/407)
________________________________________
السِّجستاني (ت:255) من منزلةٍ وأثرٍ عليه، وقد كانَ مكثراً من النقلِ عنه، والاعتمادِ عليه (1)، وجائزٌ أنْ يكونَ تأثَّرَ به في هذا التَّورُّعِ في التَّفسيرِ، والله أعلم، حيث ورد عنه مثل هذا، ومن ذلك:
* قال أبو حاتم (ت:255): «قال: أبو عبيدةَ (2): {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]: أقبلَ، ويقالُ: أدبرَ». ثُمَّ ذكرَ شواهدَ أبي عبيدةَ (ت:210) على ذلك، ثمَّ قالَ: «قدْ تقلَّدَ أبو عبيدةَ أمراً عظيماً، ولا أظنُّ هاهنا معنىً أكثرَ من الاسودادِ.
عَسْعَسَ: أظلمَ واسوَّدَ في جميعِ ما ذكرَ، وكلُّ شيءٍ من هذا البابِ في القرآن يُتَّقَى، وما لم يكنْ في القرآنِ، فهو أيسرُ خطباً» (3).
* وقال أبو حاتم (ت:255): «وقالوا: المسجورُ: المملوءُ ... وقالَ بعضهم: المسجورُ: الفارغُ. بَلَغَني ذاك، ولا أدري ما الصَّوابُ، ولا أقولُ في قولِه تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] شيئاً، ولا أقولُ في قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]؛ لأنه قرآن، فأنا أتقيه» (4).
هذا، ولا يبعدُ أنْ يكونَ أبو حاتم (ت:255) ـ كذلك ـ متأثراً في هذا بمذهبِ شيخِهِ الأصمعيِّ (ت:215) الذي اشتهرَ عنه أنه كان يَتَّقِي تفسيرَ القرآنِ، ولا يُفَسِّرُ لفظةً واردةً في القرآنِ (5). والله أعلم.
_________
(1) ورد ذكر أبي حاتم في كتاب جمهرة اللغة في أكثرَ من ثلاثين ومائتي موضع.
(2) ينظر قول أبي عبيدة في مجاز القرآن (2:287)، وفي الأضداد مخالفة مع زيادة لما في نص المجاز في الأشعار المستدل بها.
(3) الأضداد، لأبي حاتم، تحقيق: محمد عودة (ص:113 - 114).
(4) الأضداد، لأبي حاتم، تحقيق: محمد عودة (ص:144 - 145). وقد سبق قول ابن دريد في آية التكوير، فوازنهما.
(5) ينظر في تورع الأصمعي عن التفسير: الكامل، للمبرد، تحقيق الدالي (2:928)، (4:1435)، وثلاث رسائل في إعجاز القرآن (ص:31)، وتهذيب اللغة (1:14)، ونزهة الألباء (ص:99). ثم ينظر أمثلة لما لم يفسره الأصمعي في جمهرة اللغة =
(1/408)
________________________________________
والمقصودُ أنَّ هذا المذهبَ في التَّورعِ في النَّقلِ والتَّفسيرِ مما يُحسبُ لابن دريدٍ (ت:321)، والله أعلم.
_________
= (1:231، 292، 475)، (2:694، 760، 868، 929، 956، 1206)، (3:1259، 1261، 1273، 1264، 1287).
وقد ورد عنه تفسير بعض الألفاظ القرآنيَّة، وهذا مما يدل على صعوبةِ التَّحرُّزِ التَّام، ومن هذه الألفاظِ التي فسَّرها:
1 - شرحه لديوان العجاج، تحقيق عزة حسن، (ص:66، 70، 140، 262).
2 - في تهذيب اللغة (8:210: البغاء، 347: القضب)، (9:326: القنو)، (10:122: الكنود، 219: الرَّكوبة، 608: الأرض الجرز).
3 - في حاشية مجاز القرآن (2:197: نجس).
4 - في غريب ابن عزيز السجستاني (ص:348: ويل).
5 - في إعجاز القرآن للباقلاني (ص:80: وثيابك فطهر).
(1/409)
________________________________________
ثالثاً كتاب تهذيب اللغة
ألَّفَ أبو منصورٍ محمدُ بنُ أحمدَ الأزهريُّ (ت:370) كتابَه «تهذيبَ اللغةِ» بعدَ بلوغِهِ سبعينَ سنةً؛ كما يُفهمُ منْ قولِهِ: «وكنتُ منذُ تعاطيتُ هذا الفنَّ في حداثتِي إلى أن بلغتُ السَّبعينَ، مولعاً بالبحثِ عن المعاني والاستقصاءِ فيها، وأخذِها من مظانِّهَا، وإحكامِ الكتبِ التي تأتَّى لي سماعُها منْ أهلِ الثَّبْتِ والأمانةِ للأئمةِ المشهَّرين، وأهلِ العربيةِ المعروفين» (1).
ولا شكَّ أنَّ هذا البلوغَ في السِّنِّ يُعطي التأليفَ قوةً ورَويَّةً تخالفُ ما عليه شِرَّةُ الشبابِ منَ العجلةِ وعدمِ الاستيعابِ.
ومِمَّا يتميَّزُ به هذا الكتابُ عنْ كتابِ العينِ وكتابِ جمهرةِ اللُّغةِ، ما يأتي:

1 - كثرةُ موادِّهِ اللُّغويَّةِ وكثرةُ مراجعِهِ.
وقدْ أتاحَ لهُ ذلكَ تأخُّرُ وفاتِهِ، وتَوسُّعُهُ في الروايةِ عن البصريِّينَ والكوفيِّينَ والبغداديِّينَ، وهذا الجمعُ في الرِّوايةِ لا تجدُه في كتابِ العينِ ولا في كتابِ جمهرةِ اللُّغةِ.

2 - أنَّه أوسعُ مِمَّنْ تقدمه في عَرْضِ التَّفسيرِ، وقد كانَ التَّفسيرُ أحدَ مقاصدِ الكتابِ، وقدْ قالَ بشأنِ ذلك: «وكتابي هذا، وإنْ لم يكنْ جامعاً لمعاني التَّنْزيلِ وألفاظِ السُّنَنِ كلِّها، فإنَّه يَحُوزُ جُمَلاً منْ فوائدِهَا، ونُكَتاً من
_________
(1) تهذيب اللغة (1:7).
(1/410)
________________________________________
غريبِها ومعانيها، غيرُ خارجٍ فيه عن مذاهبِ المفسِّرينَ، ومسالكِ الأئمَّةِ المأمونينَ من أهلِ العِلْمِ وأعلامِ اللُّغويِّينَ، المعروفينَ بالمعرفةِ الثَّاقبةِ والدِّينِ والاستقامةِ» (1).
وقدْ تَتَبَّعتُ الأقوالَ التَّفسيريَّةَ التي ذكرَها في كتابِه كلِّه، ما نقله من التَّفسيرِ أو قالَ به، فظهر لي ما يأتي:
1 - أنَّ أغلبَ اعتمادِهِ في تفسيرِ الألفاظِ وبيانِ المعاني القرآنيَّةِ كان على الفرَّاءِ (ت:207) من كتابِهِ (معاني القرآن)، والزَّجَّاجِ (ت:311) من كتابِه (معاني القرآن وإعرابه). وقد روى هذينِ الكتابينِ بالسندِ إلى مؤلفَيهما.
أمَّا الفراءُ (ت:207)، فقال عنه: «ومنْ مؤلفاتِهِ: كتابُه معاني القرآنِ وإعرابِه، أخبرنِي به أبو الفضلِ بنُ أبي جعفرَ المنذري، عن أبي طالبٍ بنِ سلمةَ، عن أبيه، عن الفراءِ، لم يَفُتْهُ من الكتاب كله إلا مقدارُ ثلاثةِ أوراقٍ في سورةِ الزُّخرفِ.
فما وقعَ في كتابِي للفراءِ في تفسيرِ القرآنِ وإعرابِه فهو مما صحَّ روايتُهُ منْ هذهِ الجهةِ» (2).
وقد بلغتِ الأقوالُ التَّفسيريَّة التي أحصيتها منقولةً عن الفرَّاءِ (ت:207) من كتابه (معاني القرآن) قرابةَ خمسينَ وستِّمائةِ قولٍ.
وأمَّا الزَّجَّاجِ (ت:311)، فقال عنه: «ويتلو هذه الطبقةَ طبقةٌ أخرى أدركناهم في عصرِنا؛ منهم: أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ النَّحْويُّ صاحبُ كتابِ المعاني في القرآنِ ... وما وقعَ في كتابي له منْ تفسيرٍ فهوَ منْ كتابِهِ ...» (3).
_________
(1) تهذيب اللغة (1:5 - 6).
(2) تهذيب اللغة (1:18). وقد سبق التنبيه إلى فائدة، وهي أن كتاب «معاني القرآن» المطبوع برواية محمد بن الجهم، وما في «تهذيب اللغة» من نقول عن الفراء، فهو برواية سلمة بن عاصم، وهذا يفيد في جانب التحقيق ومعارضة الروايات.
(3) تهذيب اللغة (1:27).
(1/411)
________________________________________
وقد بلغتِ الأقوالُ التَّفسيريَّةُ مما أحصيتُه منقولاً عن الزَّجَّاجِ (ت:311) من كتابه (معاني القرآن وإعرابه) قرابةَ ستينَ وستِّمائةِ قولٍ.
أما النَّقلُ عنْ غيرِهما في التَّفسيرِ فهو أقلُّ بكثيرٍ من النَّقلِ عنهما، وقد نقلَ عن ابن عباسٍ (ت:68) (1)، ومجاهدِ بن جبرٍ (ت:104) (2)، وغيرِهما من المفسِّرين.
ونقلَ تفسيراتٍ لابن الأعرابيِّ (ت:231) (3)، وثعلبَ (ت:291) (4)، وغيرِهما من اللُّغويِّين.
2 - كما ظهرَ لي أنَّ الأقوالَ التي نقلَهَا في التَّفسيرِ أكثرُ من أقوالِهِ التَّفسيرية (5)، وكان له في بعضِ الأحيانِ اجتهادُهُ الخَاصُّ به، يظهرُ ذلك في ترجيحاتِهِ في بعضِ الاختلافاتِ التَّفسيريَّةِ. ومِنْ ذلكَ: قوله: «وقولُ الله جلَّ وعزَّ: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، قالَ الفرَّاءُ: هذا مما أُضيفَ إلى نفسهِ، وهو
_________
(1) ينظر مثلاً: (1:92، 413، 437)، (2:13، 15، 142، 207، 212)، (3:10، 113، 226، 342، 416)، (4:90، 108، 132، 137، 140، 219، 246، 428)، (5:15، 49، 50، 96، 223، 284، 352)، وغيرها.
(2) ينظر مثلاً: (1:78، 273، 290، 321، 364)، (2:5، 207، 212، 231، 245، 270)، (3:105، 123، 134، 141، 188، 234، 293)، (4:90، 427، 447، 481)، (5:43، 122، 399)، وغيرها.
(3) ينظر مثلاً: (1:79، 154، 324، 369، 373)، (2:8، 46، 231، 320)، (5:242، 292)، (6:92، 208، 404، 569)، (7:28، 29، 163، 166، 189، 279، 426، 673)، (8:111، 214، 218، 343، 399، 429)، وغيرها.
(4) ينظر مثلاً: (1:79، 134، 141، 472)، (7:28، 190، 334، 495)، (9:19، 46، 143، 359، 447، 450)، (10:19، 66، 154، 163، 167، 211، 230)، وغيرها.
(5) ينظر مثلاً: (1:78، 82، 134، 141، 153)، (2:4، 7، 13، 15)، (3: 10، 17، 55 - 57)، وغيرها كثير جداً.
(1/412)
________________________________________
مثلُ قولِهِ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]، ومثلُه قولُه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، والحَبْلُ: هو الوريدُ نفسُهُ، فأضيفَ إلى نفسه لاختلافِ لفظِ الاسمينِ (1).
وقالَ الزَّجَّاجُ: نُصِبَ قولُهُ: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}؛ أي: وأنبتنا فيها حَبَّ الحصيدِ، فجمعَ بذلكَ جميعَ ما يُقتاتُ: منْ حَبِّ الحِنطةِ والشَّعيرِ وكلِّ ما حُصِدَ؛ كأنَّه قالَ: وحَبَّ النَّبتِ الحصيدِ (2).
وقالَ اللَّيثُ: أرادَ حَبَّ البُرِّ المحصودِ (3). وقولُ الزَّجَّاجِ أصَحُّ؛ لأنَّه أعَمُّ» (4).
3 - كما ظهرَ اجتهادُه في بيانِ المحتملِ اللُّغويِّ للَّفظِ القرآنيِّ، ومن ذلك قولُه: «قلتُ: وأكثرُ النَّاسِ ذهبوا في تفسيرِ قولِه: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] أنه بمعنى: الرَّهْبَةِ.
ولو وجدتُ إماماً منَ السَّلفِ يجعل الرَّهْبَ كُمًّا، لذهبتُ إليه؛ لأنَّه صحيحٌ في العربيَّةِ، وهو أشبه بسياقِ الكلامِ والتَّفسيرِ، واللهُ أعلمُ بما أرادَ» (5).
_________
(1) ينظر قول الفراء في معاني القرآن (3:76).
(2) ينظر قول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه (5:43).
(3) ينظر كتاب العين (3:112).
(4) تهذيب اللغة (4:228)، وينظر ترجيحاتٍ أخرى في (2:416)، (4:81، 332، 339)، (5:80، 95).
(5) تهذيب اللغة (6:292)، ويلاحظ أنَّ في نسخة (10) من المخطوطات التي اعتمد عليها المحقق (ينظر حاشية تهذيب اللغة) أنه قد ورد التفسير عن مقاتل بذلك، حيث قال: «الرَّهْبُ: كُمَّ مدرعته» ويحتمل أن يكون هذا النص مزيداً على نسخة (10) من التهذيب، أو يكون الأزهري لم يعتدَّ بقول مقاتل، والله أعلم.
ثُمَّ ينظر أمثلة أخرى في اجتهاده في بيان المحتمل اللغوي: (4:32، 204، 333)، (6:132، 172)، (14: 230، 242)، (15:119)، وغيرها.
(1/413)
________________________________________
4 - ومعَ حرصِ الأزهريِّ (ت:370) على إيرادِ الآياتِ وتفسيرِ ألفاظِها، إلاَّ أنه قد فاتَه في بعضِ الموادِّ اللُّغويَّةِ ذكرُ بعضِ الألفاظِ القرآنيَّةِ؛ مثل مادةِ: عبس (1)، ونفع (2)، وحاد (3)، وكهن (4)، وخمد (5)، وفتر (6)، وغيرها (7).
وقدْ ظهَرَ في كتابِهِ، وهو معجمٌ لغويٌّ في مفرداتِ الألفاظِ، ظهرَ اهتمامُهُ بالمعاني، فتراه يشرح معنى الآية متعدياً بذلك دلالةَ اللَّفظ (8)، ويظهرُ أنَّ سببَ ذلكَ أنَّ منْ مصادرِه التي اعتمدَها بعضُ كُتُبِ معاني القرآنِ، فتوسَّعَ في ذلك بسببِ النَّقلِ عنها والإفادةِ من طريقتِها، واللهُ أعلمُ.
ومنْ أمثلةِ ذلك قوله: «قال جلَّ وعزَّ: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: 15]، أجمعَ المفسِّرونَ على أنَّ تأويلَ قوله: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}: ثمَّ ليختنق (9).
وهو محتاجٌ إلى شرحٍ يزيدُ في بيانِه، والمعنى ـ والله أعلم ـ: من كانَ
_________
(1) تهذيب اللغة (2:115).
(2) تهذيب اللغة (3:5).
(3) تهذيب اللغة (5:189 - 190.
(4) تهذيب اللغة (6:14).
(5) تهذيب اللغة (7:14).
(6) تهذيب اللغة (14:272).
(7) ينظر مثلاً: (2:192 - 193، 226 - 228، 354، 357، 367 - 368)، (3:6، 8، 146، 257، 259، 260)، (5:66 - 68، 227، 233)، (6:18، 146، 181 - 183، 534، 535)، (10:78، 79، 472، 517 - 520)، (11:321، 377)، (12: 198)، (13:156 - 158)، (14:10، 272)، (15:73 - 75، 78، 166 - 167، 172 - 176)، وغيرها.
(8) ينظر مثلاً: (1:89 - 90، 100، 153، 177، 257، 275، 370، 390، 474)، (4:112، 339)، (7:90، 115، 137، 583، 584)، (8:109 - 110)، (11:266 - 267)، وغيرها.
(9) كذا وردت الرواية عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة، ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:125 - 128).
(1/414)
________________________________________
يظُنُّ منَ الكفَّارِ أنَّ اللهَ لا ينصرُ محمَّداً حتى يُظهِرَهُ على المِلَلِ كلِّها فَلْيَمُتْ غيظاً، وهو تفسيرُ قولِه: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}.
والسببُ: الحبلُ يَشُدُّه المختنقُ إلى سقفِ بيته.
وسماءُ كلِّ شيءٍ: سقفُهُ.
{ثُمَّ لْيَقْطَعْ}؛ أي: ليَمُدَّ الحبلَ مشدوداً، يوتِّره حتى يقطعَ حياتَهُ ونَفَسَهُ خنقاً.
وقال الفرَّاءُ: أرادَ: ثمَّ ليجعل في سماءِ بيته حبلاً، ثمَّ ليختنق به، فذلك قوله: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} اختناقاً.
قال: وفي قراءةِ عبد اللهِ (1): ثُمَّ لِيَقْطَعْهُ، يعني: السبب، وهو الحبلُ المشدودُ في عنقِهِ (2)، حتى تنقطِعَ نفسُهُ، فيموتَ» (3).
في هذا المثالِ بين الأزهريُّ (ت:370) معاني المفرداتِ، وبيَّنَ معها المعنى المرادَ بالآيةِ.
6 - كما أنه قدْ يتعرَّضُ لبعضِ المشكلاتِ الواردةِ في التَّفسيرِ، ويجتهدُ في بيانِ المعنى المرادِ، وحَلِّ ما أشكلَ من معاني بعضِ الآياتِ، ومنْ ذلكَ قولُهُ: «وقالَ أبو حاتم (4): قالوا: قبلُ وبعدُ منَ الأضدادِ. وقالَ في قولِ اللهِ تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]؛ أي: قبلَ ذلك (5).
قلتُ: والذي حكاه أبو حاتم عمَّنْ قاله خطأٌ. قبلُ وبعدُ كلُّ واحدٍ منهما نقيضُ صاحبِهِ، فلا يكونُ أحدُهُما بمعنى صاحبِهِ، وهو كلامٌ فاسدٌ.
_________
(1) هو عبد الله بن مسعود، معلم الكوفة، ورواية قراءته كثيرة في كتاب الفراء.
(2) ينظر قول الفراء في معاني القرآن (2:218).
(3) تهذيب اللغة (1:188).
(4) هو أبو حاتم السجستاني.
(5) ينظر قول أبي حاتم في كتابه الأضداد، تحقيق: محمد عودة (ص:167).
(1/415)
________________________________________
وأمَّا قولُ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فإن السائلَ يسألُ عنه فيقولُ: كيفَ قالَ: {بَعْدَ ذَلِكَ}، والأرضُ أُنشِئَ خلقُهَا قبلَ السماءِ، والدليلُ على ذلكَ قولُ اللهِ تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]، فلمَّا فرغَ منْ ذِكْرِ الأرضِ وما خلقَ فيها قالَ اللهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11]، و «ثُمَّ» لا يكونُ إلاَّ بعدَ الأولِ الذي ذُكِر قبلَهُ، ولم يختلفِ المفسرونُ أنَّ خلقَ الأرضِ سبقَ خلقَ السماءِ.
والجوابُ فيما سألَ السائلُ: أنَّ الدَّحْوَ غيرُ الخلقِ، وإنما هو البسطُ. والخلقُ هو الإنشاءُ الأولُ. فاللهُ ـ جلَّ وعزَّ ـ خلقَ الأرضَ أولاً غيرَ مَدْحُوَّةٍ، ثمَّ خلقَ السماءَ، ثمَّ دحا الأرضَ؛ أي: بسطها.
والآياتُ فيها مؤتلفةٌ ولا تَنَاقُضَ ـ بحمدِ اللهِ ـ فيها عندَ منْ يفهَمُهَا. وإنَّما أُتِيَ الملحدُ الطَّاعنُ فيما شَاكَلَهَا منَ الآياتِ منْ جِهَةِ غباوتِهِ، وغِلَظِ فَهْمِه، وقِلَّةِ عِلْمِهِ بكلامِ العربِ» (1).
وهذه الأمثلةُ السَّابقةُ منْ أمثلةِ معاني القرآنِ التي ذكرَها في كتابِه تُظهِرُ أنَّها قد أخذتْ حيِّزاً لا بأس به، أمَّا ما يتعلقُ بالجانبِ الأكبرِ منَ التَّفسيرِ اللُّغويِّ، وهو دلالة الألفاظِ، فقد أوردَه على الصُّوَرِ الآتية:
1 - تفسيرُ الألفاظِ مع ذكرِ الشَّاهدِ:
كانَ الاستشهادُ للألفاظِ القرآنيَّةِ عندَ الأزهريِّ (ت:370) قليلاً، وقدْ كانَ أغلبُ تفسيرِهِ للألفاظِ بدونِ ذكرِ الشَّاهدِ.
ومنْ أمثلةِ ما استشهدَ لهُ، قولُهُ: «وأمَّا قولُه جلَّ وعزَّ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
_________
(1) تهذيب اللغة (2:243)، وينظر في هذه المسألة: تأويل مشكل القرآن (ص:67)، وقد نقله عن ابن قتيبة المرزوقيُّ في كتابه: الأزمنه والأمكنه (1:43). ثمَّ ينظر أمثلة أخرى في تهذيب اللغة (5:43، 80)، (6:291)، (9:477 - 449)، (12/ 126)، وغيرها.
(1/416)
________________________________________
الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5]، فالمعنى: أفنُعرضُ عنْ تذكيرِكم إعراضاً منْ أجلِ إسرافِكم على أنفسِكم في كفرِكم، يقالُ: صَفَحَ عنْ فلانٍ؛ أي: أعرضَ عنه مولِّياً، ومنه قولُ كُثَيِّرٍ ـ يصفُ امرأةً أعرضتْ عنه ـ (1):
صَفُوحاً فَمَا تَلْقَاكَ إلاَّ بَخِيلَةً، ... فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ» (2)
2 - تفسيرُ الألفاظِ بدونِ ذكرِ الشَّاهدِ:
وهذا هو الغالبُ على الألفاظِ القرآنيَّةِ المفسَّرَةِ في (تهذيبِ اللُّغةِ)، ومن أمثلةِ ذلكَ:
* قوله: «قالَ اللهُ جلَّ وعزَّ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقالَ في موضعٍ آخرَ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17].
وروى سفيانُ الثَّوريُّ، عن عَمَّارٍ الدُّهْنيِّ (3)، عن مسلمِ بنِ البَطِينِ (4)، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، أنه قال: الكرسيُّ موضعُ القدمينِ، والعرشُ لا يُقدَرُ قَدْرُهُ (5).
_________
(1) البيت في ديوانه، تحقيق: مجيد طراد (ص:55).
(2) تهذيب اللغة (4:257). وينظر: (5:151، 167)، (8:345)، (9:280)، (11:260)، (14:242). وينظر أمثلة لما نقله من استشهادات اللغويين: (4:157، 205، 481)، (5:18، 34، 50)، (6:76، 334)، (8:159، 342)، (15:156، 160، 460، 511، 516)، وغيرها كثير.
(3) عمَّار بن معاوية الدُّهْنِيُّ، أبو معاوية البجلي، الكوفي، روى عن إبراهيم التيمي ومجاهد بن جبر وغيرهما، وروى عنه سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهما، صدوق يتشيَّع، مات سنة (133). ينظر: تهذيب الكمال (5:317 - 318)، وتقريب التهذيب (ص:710).
(4) مسلم بن عمران البطين، أبو عبد الله الكوفي، روى عن سعيد بن جبير وأبي وائل وغيرهما، وعنه: عمار الدهني ومنصور بن المعتمر وغيرهما، ثقة. ينظر: تهذيب الكمال (7:102)، وتقريب التهذيب (ص:940).
(5) أخرج هذه الأثر جماعة من أهل العلم، منهم: الدارمي في رده على بشر المريسي =
(1/417)
________________________________________
وروى أبو العباسِ (1)، عن ابنِ الأعرابيِّ (2) أنه قال: قال ابنُ عباسٍ: العرشُ مجلسُ الرحمنِ (3).
أرسله ابنُ الأعرابيِّ إرسالاً، ولم يُسنده. وحديث الثَّوريِّ متَّصلٌ صحيحٌ.
والعرشُ في كلامِ العربِ: سريرُ الملكِ، يدلُّكَ على ذلك سريرُ مَلِكَةِ سبأ، سمَّاه اللهُ ـ جلَّ وعزَّ ـ عرشاً، فقال: {إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23].
قلتُ: والعرشُ في كلامِ العربِ أيضاً: سقفُ البيتِ، وجمعُه: عروشٌ، ومنه قولُه جلَّ وعزَّ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259].
قال الكسائيُّ في قولِه: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]: على أركانها. وقالَ غيرُه من أهلِ اللُّغةِ: على سُقُوفِها؛ أرادَ: أنَّ حيطانها قائمةٌ، وقدْ تهدَّمتْ سقوفُها، فصارتْ في قرارِها، وانقعرتْ الحيطانُ من قواعدِها، فتساقطت على السُّقوفِ المتهدِّمة قبلها.
ومعنى الخاويةِ والمنقعرةِ واحدٌ، يدلُّكَ على ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ في قصةِ قومِ عادٍ: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وقال في موضعٍ آخرَ يذكرُ هلاكهم أيضاً: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، فمعنى الخاويةِ
_________
= (ص:67، 73 - 74)، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنة (1:301)، والطبري في تفسيره، تحقيق شاكر (5:398)، وابن أبي حاتم في التفسير (2:491)، والدارقطني في كتاب الصفات (ص:49 - 50)، وغيرهم.
(1) هو ثعلب.
(2) هو محمد بن زياد، المعروف بابن الأعرابيِّ.
(3) لم أجد هذا الأثر، وحاله كما قال الأزهري، فهو ضعيفٌ جداً، لانقطاعه، واللهُ أعلمُ.
(1/418)
________________________________________
والمنقعرِ في الآيتينِ واحدٌ، وهي المنقلعةُ من أصولِها، حتى خَوَى منبتُها.
ويقال: انقعرت الشجرةُ: إذا انقلعت. وانقعر البيتُ: إذا انقلعَ من أصلِه فانهدمَ. وهذه الصِّفَةُ في خرابِ المنازلِ من أبلغِ الصِّفاتِ.
وقدْ ذكر اللهُ جَلَّ وعزَّ في موضعٍ آخرَ من كتابِه ما دلَّ على ما ذكرته، وهو قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]؛ أي: قَلَعَ أبنيَتَهم من أساسها، وهي القواعدُ، فتساقطت سقوفها، وعلتها القواعدُ وحيطانها، وهم فيها، وإنما قيلَ للمنقعرِ: خاوٍ؛ لأنَّ الحائط إذا انقلعَ من أُسِّهِ خَوَى مكانُه؛ أي: خَلاَ، ودارٌ خاويةٌ؛ أي: خاليةٌ.
وقال بعضهم في قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42]؛ أي: خاويةٌ عن عروشها لتهدُّمها. جعل على بمعنى عن، كما قالَ اللهُ تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2]؛ أي: اكتالوا عنهم لأنفسهم» (1).
3 - توجيهُ القراءات:
لا يخفى على المطَّلعِ على (تهذيب اللُّغة) اهتمام الأزهريِّ (ت:370) بالقراءاتِ القرآنيَّةِ وتوجيهِهَا، كيف لا؟ وقدْ خصَّها بكتابٍ سمَّاه: (القراءات وعلل النَّحويِّين فيها) (2)، وقدْ أكثرَ الأزهريُّ (ت:370) من توجيهِ القراءاتِ في
_________
(1) تهذيب اللغة (1:413 - 414). وينظر أمثلة أخرى: (1:362، 336، 343، 355، 413، 421، 436)، (2:147، 194، 324، 332)، (4:36، 56، 75، 81، 84، 315، 317)، (6:37، 310)، (7:560، 597، 673)، (8:51، 67، 83، 110،128، 138، 154، 156، 202، 210، 256، 319، 396).
(2) قال الأزهري: «... وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: نزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ. لقد (كذا) أشبعت تفسيره في كتاب: القراءات وعلل النحويين فيها ...». تهذيب اللغة (5:13).
وقد طبع له كتابٌ في توجيه القراءات في تحقيقين، الأول بعنوان: معاني القراءات، حققه: عيد مصطفى درويش وعوض بن حمد القوزي. والثاني بعنوان: القراءات =
(1/419)
________________________________________
كتابِهِ، ومنْ ذلكَ قولُهُ: «وقالَ اللهُ: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، قال الفَرَّاءُ: الْجَمَلُ: هو زوجُ النَّاقةِ، وقدْ ذُكِر عن ابنِ عباسٍ أنه قرأ: «الجُمَّلُ» (1)؛ يعني: الجمال (2) المجموعة (3).
وأخبرني المنذريُّ (4)، عن أبي طالب (5) أنه قال: رواه الفرَّاءُ: «الجُمَّلُ» بتشديدِ الميمِ (6)، ونحنُ نَظُنُّ أنه أرادَ التخفيفَ.
قالَ أبو طالب: وهذا لأنَّ الأسماءَ إنما تأتي على (فُعَل) فَخَفَّفَ، والجماعةُ على (فُعَّل)؛ مثل: صُوَّم ونُوَّم.
وقالَ (7) ـ فيما وجدتُ بِخَطِّ أبي الهيثم (8) ـ: قرأ أبو عمرو والحسن (9)،
_________
= وعلل النحويين فيها، المسمى: علل القراءات، تحقيق: نوال بنت إبراهيم الحلوة.
والملاحظُ أنَّ هذا الكتاب المطبوعَ فيه سقطٌ في المقدمة، فيحتمل أن يكونَ هذا المطبوع هو الكتاب المقصودُ، ويكون شرح حديث الأحرفِ السبعةِ مما فُقِدَ في المقدمةِ، ويحتمل أنه كتابٌ آخر غير هذا المطبوع؛ لأنَّ علم النحو في هذا الكتاب قليلٌ، إلاَّ إن كان يريد بالنحويين عموم أهل العربية من نحو ولغة وغيرها، ويكون هذا على التوسع في المصطلح، والله أعلم.
(1) ينظر: مختصر في شواذ القرآن (ص:43)، وقد نسبها إلى عليٍّ وابنِ عباس.
(2) الصواب «الحبال المجموعة» كما في كتاب المعاني، وهذا التصحيف كثيرٌ في النسخة المطبوعة من تهذيب اللغةِ.
(3) ينظر قول الفراء في معاني القرآن (1:379).
(4) محمد بن أبي جعفر، أبو الفضل المنذري الهروي، نحوي لغوي مصنف فيهما، قرأ على ثعلب والمبرد، توفي سنة (329). معجم الأدباء (18:99).
(5) هو المفضل بن سلمة بن عاصم، وقد سبقت ترجمته.
(6) ينظر: معاني القرآن (1:379).
(7) أي: المنذري.
(8) أبو الهيثم الرازي، اللغوي، اشتهر بكنيته، تصدَّر بالريِّ للإفادة، ومن تلاميذه أبو الفضل المنذري، أخذ عنه وكثَّر، وكان أبو الهيثم صاحب سنة، كثير الصلاة، له كتاب: زيادات معاني القرآن للفراء، توفي سنة (226). نزهة الألباء (ص:118)، وإنباه الرواة (4:188).
(9) هما أبو عمرو بن العلاء البصري، والحسن البصري.
(1/420)
________________________________________
وهي قراءة ابن مسعود: «حَتَّى يَلِجَ الجُمَلُ» (1) مثل: النُّفَر في التقدير.
قلت (2): والصَّحيحُ لأبي عمرو: {الْجَمَلُ} وعليه القُرَّاءُ (3)، وأبو الهيثم ما أراهُ حَفِظَ لأبي عمرو: «الجُمَل»، اتفق قُرَّاءُ الأمصارِ على {الْجَمَلُ}، وهو زوجُ النَّاقةِ.
ورُوي عن ابن عباسٍ: «الجُمَّل» بالتَّثقيلِ والتَّخفيفِ أيضاً (4). فأمَّا التَّخفيفُ، فهو الحبل الغليظ، وكذلك الجُمَّل مشدَّداً. وحُكِيَ عن عبدِ اللهِ وأُبَيٍّ (5): «حَتَّى يَلِجَ الجُمَلُ»» (6).
هذا، ولا يختلفُ المنهجُ في البحثِ اللُّغويِّ في التَّفسيرِ عند الأزهريِّ (ت:370) عن غيرِه من علماءِ اللُّغةِ، واللهُ أعلمُ.
_________
(1) نُسبت هذه القراءة إلى ابن عباس وسعيد ومجاهد وعبد الكريم وحنظلة. المحتسب (1:249).
(2) القائل هو الأزهري.
(3) قال الطبري: «وأما القرأةُ من جميع الأمصارِ فإنها قرأت قولهِ: {فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} بفتح السين، وأجمعت على قراءةً {الْجَمَلُ} بفتح الجيم والميم، وتخفيف ذلك». تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (12:428).
(4) قال الطبري: «وأما ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير فإنه حكي عنهم أنهم كانوا يقرؤون ذلك «الجُمَّلُ» بضمِّ الجيمِ وتشديد الميمِ على اختلافٍ في ذلك عن سعيد وابن عباسٍ». تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (12:428)، وقد ذكر الرواية عنهم بأسانيدها، ينظر (12:431 - 433).
(5) هما عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب الصحابيان.
(6) تهذيب اللغة (11:106 - 107). والقراءة المتواترة «الجَمَل»: زوج الناقة، كما قال الأزهري، وأمَّا القراءات الأخرى التي ذكرها فهي شاذة، وينظر أمثلة أخرى في توجيه القراءات عند الأزهري (1:82، 275، 386، 415)، (2:78، 211، 234، 307)، (11:107، 338، 467 - 468)، (7:90)، (12:13)، (13:169)، وغيرها.
(1/421)
________________________________________
أثرُ المعتقدِ في التَّفسير اللُّغويِّ في كتابِ تهذيبِ اللُّغةِ:
لقدْ رسمَ الأزهريُّ (ت:370) لنفسِه في تدوينِ اللُّغةِ منهجاً يتَّسِمُ بالحيطةِ في النَّقلِ، والاعتمادِ على الموثوقِ بهم من أهلِ اللُّغةِ عنده، ولا غَرْوَ أنْ يكونَ احتياطُه في نقلِ اللُّغةِ التي يكونُ لها أثرٌ في المعتقد محطَّ اهتمامِه، وهو كما يظهرُ من كتابِه يسيرُ على منهجِ السَّلفِ في الاعتقادِ، ومما جاءَ في ذلكَ، قولُه: «قالَ (1): وتقولُ العربُ: سَمِعَتْ أُذُني زيداً يفعلُ كذا؛ أي: أبصرْتُهُ بعيني يفعلُ ذاكَ (2).
قلتُ: لا أدري من أين جاءَ اللَّيثُ بهذا الحرفِ، وليسَ منْ مذاهبِ العربِ أنْ يقولَ الرجلُ: سَمِعَتْ أُذُني، بمعنى: أبصرتْ عيني، وهو عندي كلامٌ فاسدٌ، ولا آمنُ أنْ يكون ممَّا ولَّده أهلُ البدعِ والأهواءِ، وكأنه من كلامِ الجَهْمِيَّةِ» (3).
ولقدْ كانَ أثرُ اعتقادِ الأزهريِّ (ت:370) المتَّبِعِ للسَّلفِ الصَّالحِ ظاهراً في كتابِه، سواءٌ أكانَ ذلكَ في تقريرِه لمعتقدهم في الأسماءِ والصِّفاتِ (4)،
_________
(1) يقصد الليث بن المظفر.
(2) في كتاب العين (1:348) ما نصُّه: «وتقولُ: سَمِعَتْ أُذني زيداً يفعلُ كذا؛ أي: سَمِعْتُهُ، كما تقولُ: أبصرَتْ عيني زيداً يفعلُ كذا وكذا؛ أي: أبصَرْتُ بعيني زيداً». وهذا الكلامُ صحيحٌ، وما في تهذيبِ اللغة كلامٌ محرَّفٌ، ولا يبعد أن تكون النسخة التي اعتمدها الأزهري فيها من هذا التحريفِ الذي جعله لا يعتدُّ بكتاب العين، وجعله ينسبه لليث بدلاً عن الخليل، والأزهري رحمه الله، كان كثير التحامل على الليث، وسبب ذلك عنده: أنَّ الليث لم يكن يتوثَّقُ من روايته، كما ذكره في مقدمته لكتابه تهذيب اللغة (1:28)، وفي هذا بحثٌ ليسَ هذا محلُّه، ينظر في ذلك مقدمة محققي كتاب العين (1:19 - 27).
(3) تهذيب اللغة (2:123). وينظر: (2:243).
(4) ينظر مثلاً: (2:124، 303)، (5:112، 198، 220)، (9:45 - 46)، (11: 185، 458)، (12:150)، (14:371)، وغيرها.
(1/422)
________________________________________
والقرآن (1)، والإيمانِ (2)، والقدرِ (3)، والغيبياتِ؛ كالميزانِ والسِّراطِ وسجودِ المَوَاتِ (4)، وغيرها. أم في ردِّه على مُخالفِهم (5).
وليس يُشكلُ على هذا وقوعُ المخالفةِ منه في مثالٍ أو مثالين؛ لأنَّ النَّظرَ في مثلِ هذا إلى القاعدةِ العامَّةِ التي سارَ عليها في الاعتقادِ، ومن ذلك:
* قولُه: «وخادعتُ الرجلَ، بمعنى: خدعتُه. وعلى هذا يوجَّهُ قولُ الله جَلَّ وعَزَّ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]؛ معناه: أنهم يُقدِّرون في أنفسهم أنهم يخدعونَ اللهَ، واللهُ هو الخادعُ لهم؛ أي: المُجازِي لهم جزاءَ خداعِهم» (6).
إنَّ تفسيرَه صفةَ المخادَعةِ بهذا التَّفسيرِ فيه قصورٌ؛ لأنَّ المجازاةَ إنما هي نتيجةُ المخادعةِ ولازمُها، لا المخادعةَ ذاتها، وهذه الصِّفةُ مما لا تُطلَقُ على اللهِ ابتداءً، بلْ تُطلقُ معَ مقابلها، كما وردتْ في القرآنِ، فلا يصحُّ أن يقالَ: إنَّ اللهَ هو الخادعُ، وإنما يقال: اللهُ يخادعُ من يخادعُه، كما وردَ في النَّصِّ القرآنيِّ، والله أعلم.
* أنَّه نقلَ تفسيرَ صفةِ الاستواءِ عن ثعلبَ (ت:291)، وهو قولُه: «{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قال: الاستواء: الإقبالُ على الشيءِ» (7). ونقل عن الزَّجَّاجِ (ت:311) قولَه: «وقولُ ابن عباسٍ في قولِه
_________
(1) ينظر: تهذيب اللغة (10:265).
(2) ينظر: تهذيب اللغة (12:452).
(3) ينظر: تهذيب اللغة (11:464)، (13: 328 - 330)، (14:11 - 12).
(4) ينظر: تهذيب اللغة (4: 34)، (10: 45، 572)، (12: 228 - 2229)، (13: 257)، وغيرها.
(5) ينظر مثلاً: (5:112)، (12:228، 229)، (14: 371)، وغيرها.
(6) تهذيب اللغة (1:158).
(7) تهذيب اللغة (13:125).
(1/423)
________________________________________
تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]؛ أي: صَعِدَ، معنى قولِ ابن عباسٍ: أي صَعِدَ أمرُه إلى السماء (1)» (2).
ولمْ يَرُدَّ هذه الأقوالَ المخالفةَ لمذهبِ السَّلفِ في الاستواءِ، فلو حُكِمَ عليه من خلال هذين المثالين بأنه يخالفُ مذهب السَّلف في الصِّفاتِ، لكانَ في ذلكَ قصورٌ في البحثِ، وتَجَنٍّ على الأزهريِّ (ت:370)، ولكانَ مفترياً على هذا العالمِ الذي ذَكَرَ قاعدتَهُ في ذلك في مواطنَ من كتابه، مثلَ قولِه: «قال (3): واللهُ هو النَّفَّاحَ المنعم على عباده (4).
قلتُ: لم أسمعِ النَّفَّاحَ في صفاتِ اللهِ التي جاءتْ في القرآنِ، ثُمَّ في سنَّةِ المصطفى عليه السلام، ولا يجوزُ عندَ أهلِ العلمِ أنْ يُوصَفَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ بصفةٍ لمْ يُنزِلْها في كتابِه، ولمْ يُبيِّنْها على لسانِ نبيِّه عليه السلام» (5).
وليست عقيدةُ العالمِ تُؤخذُ من كلامه في الأسماءِ والصفاتِ فقطُ، فيُحكمُ عليه من خلالها، بلِ العقيدةُ أعمُّ من ذلكَ؛ كمسائل القدرِ والإيمانِ
_________
(1) في معاني القرآن وإعرابه (1:107): «وقد قيل: استوى؛ أي: صَعِدَ أمرهُ إلى السماءِ، وهذا قولُ ابن عباسٍ».
(2) تهذيب اللغة (13:125).
(3) القائل الليث بن المظفر، كما هي عادة الأزهري في نسبِ ما في كتاب العين له.
(4) كتاب العين (3:249). وإذا حُمِلَ كلامُ اللَّيث على الإخبار، جازَ؛ لأنَّ باب الإخبارِ أوسعُ من بابِ الصفاتِ، فيجوزُ أن يُخبَرَ عن اللهِ بما لا يتضمَّنُ نقصاً، والله أعلم.
قال ابن القيِّمِ: «إنَّ ما يدخلُ في باب الإخبارِ عنه تعالى أوسعُ مما يدخلُ في بابِ أسمائه وصفاته؛ كالشيء والموجودِ والقائمِ بنفسِه، فإنه يُخْبَرُ عنه، ولا يدخلُ في أسمائه الحسنى وصفاته العليا». بدائعُ الفوائد (1:161). وقالَ: «إنَّ ما يُطلَقُ عليه في بابِ الأسماءِ والصفاتِ توقيفي، وما يطلقُ عليه من الأخبار لا يجبُ أنْ يكونَ توقيفياً؛ كالقديمِ والشيءِ والموجودِ والقائمِ بنفسه، فهذا فصلُ الخطابِ في مسألةِ أسمائه، هل هي توقيفية، أو يجوز أن يُطْلَقَ عليه منها بعضُ ما لم يردْ به السَّمعُ». بدائع الفوائد (1:162).
(5) تهذيب اللغة (5:112)، وينظر: (5:198، 220).
(1/424)
________________________________________
والإمامة والغيبياتِ وغيرها، فمن رامَ الحُكمَ على عالمٍ في مُعْتَقَدِه من خلالِ مثالٍ أو مثالين، وقعَ في الزَّللِ، وهذا بحثٌ يحتاجُ إلى تفصيلٍ ليسَ هذا محلُّه، واللهُ الموفقُ.
أمَّا ما وردَ عنه في إثبات معتقدِ السَّلفِ، فمنه:
1 - قالَ: «والسَّميعُ من صفاتِ اللهِ وأسمائِه. وهو الَّذي وسِعَ سمعُهُ كُلَّ شيءٍ؛ كما قالَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم (1).
قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، وقالَ في موضعٍ آخرَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} [الزخرف: 80].
قلتُ: والعَجَبُ من قومٍ فسَّرُوا السَّميعَ بمعنى المُسمِعِ، فراراً منْ وصفِ اللهِ بأنَّ له سمعاً.
وقدْ ذكرَ اللهُ الفعلَ في غيرِ موضعٍ من كتابِه، فهو سميعٌ: ذو سَمْع، بلا تكييفٍ ولا تشبيهٍ بالسَّميعِ من خلقِهِ، ولا سمعُهُ كسمعِ خلقِهِ. ونحنُ نَصِفُهُ بما وصفَ به نفسَهُ بلا تحديدٍ ولا تكييفٍ.
ولستُ أُنكِرُ في كلامِ العربِ أنْ يكونَ السَّميعُ سامعاً، ويكونَ مُسمِعاً، وقد قالَ عمرو بن مَعْدِي كَرِبَ (2):
أَمِنْ رَيَحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (6:46)، وابن ماجه، المقدمة 13. وقد صحَّ عن عائشة رضي الله عنها قولها: «الحمد الله الذي وَسِعَ سمعه الأصواتَ». أخرجه جماعة، منهم البخاري في باب: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} في كتاب التوحيد من صحيحه، ينظر: فتح الباري، ط: الريان (13:384).
(2) عمرو بن مَعْدِي كَرِبَ، أبو ثور، الزُّبيدي، شاعرٌ، فارسٌ مخضرمٌ، أسلم، ثمَّ ارتدَّ، ثمَّ عاد إلى الإسلامِ، وشهِدَ فتوح فارس، وأبلى فيها بلاءً حسناً، توفي سنة (21). ينظر: معجم الشعراء المخضرمين والأمويين (ص:338 - 339)، ومعجم الشعراء (ص:195 - 196).
والبيت مشهور، وهو في ديوانه، جمع: مطاع الطرابيشي (ص:140).
(1/425)
________________________________________
وهو في البيتِ بمعنى: المُسْمِعِ، وهو شاذٌّ، والظَّاهرُ الأكثرُ منْ كلامِ العربِ أنْ يكونَ السَّميعُ بمعنى السَّامعِ؛ مثلَ: عليمٍ وعالمٍ، وقديرٍ وقادرٍ» (1).
في هذا المثالِ أثبتَ الأزهريُّ (ت:370) اسمَ السَّميعِ والصِّفةَ التي يتضمَّنُها هذا الاسم، وهي السَّمعُ، وهذا هو الحقُّ الموافقُ لما كانَ عليه السَّلفُ، ثمَّ ردَّ على من أنكرَ صفة السَّمعِ.
2 - وقالَ: «وأمَّا قولُ اللهِ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وقالَ (2) أبو إسحاق (3): قيلَ: إنَّ كُلَّ ما خلقَ اللهُ يُسبِّحُ بحمدِه، وإنَّ صريرَ السَّقفِ وصريرَ البابِ منَ التَّسبيحِ، فيكونُ ـ على هذا ـ الخطابُ للمشركينَ وحدهم في {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
وجائزٌ أن يكونَ تسبيحُ هذه الأشياءُ بما اللهُ به أَعْلَمُ لا يُفْقَهُ منه إلاَّ ما عُلِّمنا.
قال: وقال قومٌ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي: ما من شيءٍ إلاَّ وفيه دليلُ أنَّ اللهَ ـ جلَّ وعزَّ ـ خالِقُهُ، وأنَّ خالقَهُ حكيمٌ مُبرَّأٌ منَ الأسْوَاءِ، ولكِنَّكم أيها الكفارُ لا تفقهونَ أثرَ الصَّنعةِ في هذه المخلوقاتِ.
قالَ أبو إسحاق: وليس هذا بشيءٍ؛ لأنَّ الَّذينَ خوطِبوا بهذا كانوا مُقرِّين بأنَّ اللهَ خالِقُهم، وخالقُ السماءِ والأرضِ ومنْ فيهنَّ، فكيفَ يجهلونَ الخِلْقَةَ، وهم عارفونَ بها؟! (4).
_________
(1) تهذيب اللُّغةِ (2:123 - 124).
(2) الصواب «قال» دون الواو؛ لأنه جوابُ «أمَّا»، وكذا هو بدونِ الواو في لسانِ العربِ، مادة (سبح)، وقد نقل هذا الموضع عن تهذيب اللغة.
(3) هو الزجاج.
(4) ينظر قول الزَّجاجِ في معاني القرآن وإعرابه (3:242)
(1/426)
________________________________________
قلتُ (1): ومِمَّا يدلُّكَ على أنَّ تسبيحَ هذه المخلوقاتِ تسبيحٌ تُعُبِّدَتْ به، قولُ اللهِ جلَّ وعزَّ للجبالِ: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، ومعنى: أوِّبي؛ أي: سبِّحي مع داودَ النَّهارَ كُلَّهُ إلى اللَّيلِ. ولا يجوزُ أن يكونَ معنى أمرِ اللهِ جلَّ وعزَّ للجبالِ بالتأويبِ إلاَّ تَعَبُّداً لها.
وكذلك قوله جلَّ وعزَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ} إلى قولِه: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]، فسجودُ المخلوقاتِ عبادةٌ منها لخالقِها لا نَفْقَهُها عنها، كما لا نفقهُ تسبيحَها.
وكذلكَ قولُه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، وقد علم اللهُ هبوطَها منْ خشيتِهِ، ولمْ يُعرِّفنا ذلكَ، فنحنُ نؤمنُ بما أعْلَمَنا، ولا نَدَّعِيَ بما لمْ نُكَلَّفْ بأفْهَامِنَا من عِلْمِ فِعْلِهَا كيفيَّةً نَحُدُّها» (2).
في هذا المثالِ أثبتَ الأزهريُّ (ت:370) عبوديَّةَ هذه المخلوقاتِ، وأنه يقعُ منها فِعْلٌ على الحقيقةِ، وهذا هو الحقُّ الموافقُ لمذهبِ السَّلفِ الصالحِ، وهو ما تَدُلُّ عليه ظاهرُ النُّصوصِ التي لا يجوزُ أن يُتَعَدَّى ظاهرها إلى غيرِه إلاَّ بحُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها، وما سوى الظَّاهرِ من التَّأويلِ باطلٌ، والله أعلم.
3 - وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]، قال: «وقولُ اللهِ جَلَّ وعزَّ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، حدَّثني المنذريُّ (3)، عن أبي بكرٍ الخطَّابيِّ (4)، عن هُدْبَة (5)،
_________
(1) القائل: الأزهري.
(2) تهذيب اللغة (4:339 - 340).
(3) محمد بن أبي جعفر، أبو الفضل المنذري، تقدمت ترجمته.
(4) لم أعرفه.
(5) هُدْبةُ بن خالد بن الأسود، أبو خالد البصري، روى عن أبان العطار وحماد بن سلمة، وعنه: البخاري ومسلم، وغيرهما، ثقة عابد، توفي سنة (237)، وقيل غيرها. ينظر: تهذيب الكمال (7:390 - 391)، تقريب التهذيب (ص:1018).
(1/427)
________________________________________
عن حمَّاد (1)، عن ثابت (2)، عن أنس (3)، قال: قرأ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}، قال: وَضَعَ إبهامه على قريبٍ من طَرَفِ أُنْمُلَةِ خِنْصَرِهِ، فساخَ الجبلُ (4).
قالَ حمَّادُ: قلتُ لثابت: تقولُ هذا؟
فقالَ: يقوله رسولُ اللهِ، ويقولُهُ أنسٌ، وأنا أكْتُمُه!
وقالَ الزَّجَّاجُ في قولِه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}: أي ظهر وبان (5).
وهو قولُ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ» (6).
في هذا المثالِ يظهرُ أخذُ الأزهريِّ (ت:370) بظاهرِ النَّصِّ، وتفسيرُه على المعروفِ والمشهورِ من معانيه في اللُّغةِ، دونَ البعدِ به إلى تأويلاتٍ تعتمدُ على شواذِّ اللُّغةِ وقَلِيلِهَا، بسببِ شُبْهَةٍ تَرِدُ على عقلِ فلانٍ أو عَلاَّنٍ.
_________
(1) حماد بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصري، روى عن: حميد الطويل وثابت البُناني وغيرهما، وعنه: الحجاج بن منهال وأبو داود الطيالسي وغيرهما، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، تغيَّر حفظه بأخرة، توفي سنة (167). ينظر: تهذيب الكمال (2:277 - 281)، تقريب التهذيب (ص:168 - 269).
(2) ثابت بن أسلم البُنَانِيُّ، أبو محمد البصري، روى عن: أنس بن مالك وبكر بن عبد الله المزني، وغيرهما، وعنه: وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهما، ثقة عابد، توفي سنة (127) وقيل غير ذلك. ينظر: تهذيب الكمال (1:402 - 403)، وتقريب التهذيب (ص:185).
(3) هو الصحابي أنس بن مالك.
(4) أخرج هذا الحديث أحمد بن حنبل في مسنده (3/ 123)، الترمذي في سننه (باب 8 من سورة الأعراف، 4:265)، وابن أبي عاصم في كتابه السُّنَّة، تحقيق: الألباني (ص:210)، والطبري في تفسيره، تحقيق: شاكر (13:96)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، تحقيق: عبد العزيز الشهوان (1:258 - 263)، والحاكم في مستدركه (2:320).
(5) ينظر قوله في معاني القرآن وإعرابه (2:373).
(6) تهذيب اللغة (11:185).
(1/428)
________________________________________
4 - وقال: «وقولُه جلَّ وعزَّ: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، قالَ الزَّجَّاجُ: هو كما قالَ جَلَّ وعَزَّ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] (1).
قلت: والإضلالُ في كلامِ العربِ ضدُّ الهدايةِ والإرشادِ، يقالُ: أضْلَلْتُ فلاناً عن الطَّريقِ، وإياه أرادَ لَبِيدُ (2):
مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الخَيرِ اهْتَدى ... نَاعِمَ البَالِ وَمَنْ شَاء أضَلْ
وقالَ لَبِيدُ هذا في جاهليتِه، فوافقَ قولُه التَّنْزيلَ، يُضِلُّ من يشاءُ» (3).
وما ذكر هنا هو الحقُّ، لأنَّ اللهَ سبحانه قد ذكرَ أنه يهدي ويُضِلُّ، ولا يجوزُ أن يُعْتَبَطَ في هذا شذوذٌ من التَّأويلات والتَّحريفاتِ التي أخرجتها عقولٌ مؤوِّلةٌ مأفونةٌ.
وهذه الأمثلة، وغيرها مما لم أنقلْه، تبيِّنُ صِحَّةَ معتقدِ الأزهريِّ (ت:370)، وأنه كان على منهجِ السَّلفِ، لذا لم تظهرْ عنده تلك الانحرافاتُ التي تعتمدُ على سَعَةِ اللُّغةِ لإثباتِ صحَّتها، والله الموفق.
_________
(1) قال الزجاج: «وقرئت: {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}، كما قال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} ...». معاني القرآن وإعرابه (3:198).
(2) البيت في ديوانه بشرح الطوسي (ص:121).
(3) تهذيب اللغة (11:464 - 465).
(1/429)
________________________________________
المصدرُ الخامس
كتب أخرى لها علاقة بالتَّفسيرِ اللُّغويِّ
وفيه:
أولاً: كتب غريب الحديث.
ثانياً: كتب الاحتجاج للقراءات.
ثالثاً: كتب شروح دواوين الشعر.
رابعاً: كتب الأدب.
(1/431)
________________________________________
المصدرُ الخامس
كتب أخرى لها علاقة بالتَّفسيرِ اللُّغويِّ
العلومُ الإسلاميَّةُ علومٌ مترابطةٌ في البحثِ، ولا يمكنُ البحثُ في علمٍ منها دونَ الاستفادةِ منْ غيرِهِ من العلومِ التي تَخدِمُهُ؛ فالفَقِيهُ ـ مثلاً ـ يحتاجُ معَ الإلْمَامِ بالقضايا الفقهيَّةِ إلى علمِ السُّنَّةِ وإلى معرفةِ تفسيرِ القرآنِ، ومعرفةِ اللُّغةِ العربيَّةِ.
وكذا منْ يكتبُ في علمِ الوقفِ والابتداءِ في القرآنِ، يحتاجُ إلى معرفةِ علمِ التَّفسيرِ وعلمِ النَّحْوِ، وهكذا.
ولَمَّا كانَ الأمرُ كذلك، فإنَّك سَتَجِدُ بعضَ الكتبِ، وإنْ كانتْ في الظاهرِ لا تَمُتُّ إلى علمِ اللُّغةِ العربيَّةِ بصلةٍ واضحةٍ، ستجدُها تتعرَّضُ لمسائلَ في علمِ اللُّغةِ.
ولما كانَ البحثُ هنا منصبًّا على البحثِ اللُّغويِّ القرآنيِّ، فإني سأذكرُ مثالاً لهذا الأمرِ، وهو كتابُ «السيرةِ النَّبويَّةِ» لابن هشام (1) (ت:218)، وقد لاحظتُ فيه اهتمامَ مؤلِّفِه بتفسيرِ ألفاظِ الآياتِ التي يُورِدُها، وبذِكْرِ الشواهدِ
_________
(1) هو أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري، نشأ بالبصرة وكان عالماً باللغة، وأخذ عن علمائها في اللغة، أبي عبيدة، أبي زيد الأنصاري، وأبي محرز خلف الأحمر، ويونس، كما يظهر في روايته عنهم في السيرة، وكان نزل بمصر، ولقي فيها الشافعي، له تآليف من أشهرها تهذيب سيرة ابن إسحاق الذي صار يطلق عليه «سيرة ابن هشام» وقد كان للمصريين غرام بها، توفي سنة (213)، وقيل (218). شذرات الذهب (2:45).
(1/432)
________________________________________
الشِّعريَّةِ لها، وقدْ أحصيتُ له أكثرَ منْ مائةِ مفردةٍ قرآنيَّةٍ قامَ ببيانِ معناها واستشهدَ لكثيرٍ منها بأشعارِ العربِ.
وقدِ استفادَ ابنُ هشامٍ (ت:218) من شيوخِه البصريِّين في اللُّغة، وحدث عنهم في كتابه؛ كيونسَ النَّحويِّ (ت:182) (1)، وأبي زيدٍ الأنصاريِّ (ت:215) (2)، وكانَ منْ أكثرِهم وروداً عنده: أبو عبيدةَ مَعْمَرُ بنُ المثنَّى (ت:210) (3)، ويظهرُ أنَّ إفادتَهُ منه فيما يتعلَّقُ بتفسيرِ ألفاظِ القرآنِ كانتْ منْ كتابِ (مجازِ القرآنِ). ومنْ أمثلةِ هذه الاستفادةِ:
قولُه: «العَرِمُ: السَّدُّ، واحدتُه عَرِمَةٌ، فيما حدَّثني أبو عبيدةَ. قال الأعشى (4):
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ ... وَمَارِبُ عَفَى عَلَيهَا العَرِمْ
رُخَامُ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ ... إذا جَاءَ مَوَّارُهُ لَمْ يَرِمْ
فَأَرْوَى الزُّورعَ وَأعْنَابَهَا ... عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُمْ إذْ قُسِمْ
فَصَارُوا أَيَادِيَ مَا يَقْدِرُو ... نَ مِنْهُ على شُرْبِ طِفْلٍ فُطِمْ
وهذه الأبياتُ في قصيدةٍ له.
وقالَ أُمَيَّةُ بنُ أبي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ ... (5):
مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَارِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِهِ سَيْلَهُ العَرِمَا
_________
(1) ينظر: السيرة، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السَّقَّا وآخرين، ط: الحلبي: (1:55، 70، 90، 538)، (2:494).
(2) ينظر: السيرة، لابن هشام (1:56، 286)، (2:18، 210، 213).
(3) ينظر: السيرة، لابن هشام (1:1478، 55، 236، 283، 286، 310، 363، 537، 538، 583)، (2:15، 193).
(4) ديوان الأعشى، تحقيق: حنَّا نصر (ص:319).
(5) البيت في ديوانه، جمع: بشير يموت (ص:59)، وهو بيت فرد لم يذكر جامعه غيره، وفي ديوان النابغة الجعدي، ضمن قصيدة له (ص:134)، وقد ذكر المحقق هذا الاختلاف في النسبة، وزاد أن البكري نسبه إلى الأعشى.
(1/433)
________________________________________
وهذا البيتُ في قصيدةٍ له، وتُروى للنابغةِ الجَعْدِيِّ» (1).
ومنْ أمثلةِ تفسيرِه لمفرداتِ ألفاظِ القرآنِ: «قالَ ابنُ هشام: حَصَبُ جَهَنَّمَ: كُلُّ ما أُوقِدَتْ به. قال أبو ذُؤَيب الْهُذَلِي، واسمه: خُويلِدُ بنُ خالد (2):
فَأَطْفِئْ، وَلاَ تُوقِدْ، وَلاَ تَكُ مِحْضَأً ... لِنَارِ العُدَاةِ أَنْ تَطِيرَ شَكَاتُهَا
وهذا البيتُ في أبياتٍ له ...» (3).
ولا شكَّ أنَّ وجودَ هذه التفسيراتِ اللُّغويةِ كانتَ أثراً من آثارِ دراستِه اللُّغويةِ التي كانتْ بارزةً في كتابِهِ.
وقد ظهرَ لي أنَّ بعضَ الكُتبِ التي كُتبت في علومٍ أخرى لها علاقةٌ بالبحثِ اللُّغويِّ من قريبٍ أو بعيدٍ، ومنْ ثَمَّ فإنها قدْ تتطرَّقُ للتَّفسيرِ اللُّغويِّ، وبعد الاطلاعِ عليها ظهرَ لي أنَّ ما تطرَّقَ للتَّفسيرِ اللُّغويِّ منها هي:
1 - كتب غريب الحديث.
2 - كتب الاحتجاج للقراءات.
3 - كتب شروح دواوين الشعر.
4 - كتب الأدب.
وسأذكر أمثلة من كتبِ هذه العلومِ.
_________
(1) السيرة، لابن هشام (1:14)، وهو منقولٌ من مجاز القرآن (2:146 - 147)، مع اختلاف في ألفاظ شعر الأعشى وزيادةٍ عند ابن هشام.
(2) ديوان الهذليين (1:163). والمِحْضَأ: عودٌ تُحرَّكَ به النارُ لتشتعل.
(3) السيرة النبوية (1:359)، وينظر: (1:36، 55، 56، 89، 206، 212، 242 - 243، 263، 271، 272، 302، 303، 304، 305، 309، 484، 581، 583، 663، 671)، (2:107، 112، 114، 174، 175، 176، 193، 193 - 194، 226، 227، 246، 248 - 249، 249 - 250، 303، 303 - 304)، وغيرها.
(1/434)
________________________________________
أولاً كتب غريب الحديث
كتبَ العلماءُ في غريبِ الحديثِ كما كتبوا في غريبِ القرآنِ، وممن كتب فيه: النَّضرُ بن شُميل (ت:203)، وقُطْرُبُ (ت:206)، والفرَّاءُ (ت:207)، وأبو عبيدةَ (ت:210)، وغيرهم من علماء اللُّغةِ (1).
وقدْ طُبِعَ في هذا العلمِ، كتابُ أبي عبيد القاسم بن سلام (ت:224)، وكتاب ابن قتيبة (ت:276)، وكتاب إبراهيم الحربي (ت:285) (2)، وكتاب الخَطَّابيِّ (ت:388)، وغيرها (3).
وقد كان البحثُ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ فيها، كما هو في معاجمِ كتبِ اللُّغةِ، أي: أنها تبحثُ في دلالةِ الكلمةِ، والاستشهادِ لها بكلامِ العربِ من شعرٍ أو نثرٍ، إنْ وُجِدَ (4).
_________
(1) ينظر ثبتاً بكتب غريب الحديث: معجم المعاجم، لأحمد الشرقاوي إقبال (ص:23 - 41).
(2) إبراهيم بن إسحاق الحربي، المحدث، اللغوي، كان إماماً في العلم والزهد والفقه، روى عن أحمد وأبي عبيد وغيرهما، من أشهر كتبه: غريب الحديث، توفي سنة (285). ينظر: إنباه الرواة: (1:190 - 193)، وسير أعلام النبلاء (13: 356 - 372).
(3) مما طُبِعَ أيضاً: كتاب الغريبين، لأبي عبيد الهروي (ت:401)، والفائق في غريب الحديث، للزمخشري (ت:538)، والمجموع المغيث في غريب القرآن والحديث، لأبي موسى المديني (ت:581)، والنهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (ت:606)، وغيرها.
(4) ينظر مثلاً: غريب الحديث، لأبي عبيد: (2:87 - 88)، (3:235، 395 - 396)، (4:86، 265، 295، 363)، (5:261). وغريب الحديث، للحربي: (1:4، 5، 72، 73، 96، 189، 233، 303)، (2:348، 396، 407، 411، 445، =
(1/435)
________________________________________
كما تُورِدُ هذه الكتبُ القراءاتِ القرآنيةَ: شاذَّها ومتواترَها، وتوجِّه كلَّ قراءةٍ مع نسبها إلى من قرأ بها (1)، ومن ذلك:
في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]، قال الحربي (ت:285): «أخبرني أبو عمر (2)، عن الكسائيِّ: قرأ ابن عباس: حَضَبُ (3)، وقرأ عليُّ: حَطَبُ (4)، والقراءُ حَصَبُ، ويقال: حَصَبُ جهنَّمَ وحَضَبُ.
والحَضَبُ والحَصَبُ: ما حُصِبت به النارُ.
وأخبرنا سلمةُ (5) عن الفراء (6): الحَضَبُ: كلُّ ما هَيَّجْتَ به النَّارَ، وأوقدتَّها به، فهو حَضَبٌ» (7).
وكانَ النَّقلُ عن اللُّغويِّين ظاهراً في هذه الكتبِ، كما نقلُوا عن السَّلفِ تفسيراتهم، وكان أكثرَهم اهتماماً بنقلِ تفسيرِ السَّلفِ وإسنادِها إليهم إبراهيمُ
_________
= 521)، (1075، 1110، 1120)، وغيرها.
(1) ينظر أمثلةً لذلك في: غريب الحديث، لأبي عبيد: (2:218 - 220)، (5:179، 519، 528)، وغريب الحديث للحربي: (1:25، 86 - 88، 232 - 233)، (2:351)، (3:1194)، وغيرهما.
(2) هو حفص بن عمر بن صهيب، أبو عمر الدوري، النحوي، أحد راويَي قراءة الكسائي، إمام الناس في القراءة، ثقة، ثبتٌ، وهو أول من جمع القراءات، توفي سنة (246). ينظر: تهذيب الكمال (2:227 - 228)، وغاية النهاية (1:255 - 257).
(3) ينظر: مختصر في شواذ القرآن (ص:93)، فقد نسبها إلى ابن عباس واليماني، وكذا نسبها ابن عطية في تفسيره، ط: قطر (10:209 - 210) إلى ابن عباس.
(4) ينظر: مختصر في شواذ القرآن (ص:93)، فقد نسبها إلى علي وعائشة وابن الزبير، وزاد ابن عطية في تفسيره، ط: قطر (10:209) أبيَّ بن كعب.
(5) سلمة بن عاصم، الكوفي، روى كتب الفرَّاء، توفي بعد السبعين ومائتين. ينظر: إنباه الرواة (2:56 - 58)، وغاية النهاية (1:311).
(6) ينظر قوله في معاني القرآن (2:212).
(7) غريب الحديث، للحربي (2:467 - 468).
(1/436)
________________________________________
الحربيُّ (ت:285)، بل كانت نقولُه عنهم أكثرَ من نقولِه عن اللُّغويِّين (1)، وهذا مما يتميَّزُ به عن غيره من كتب غريب الحديث (2).
وسأذكرُ أمثلةً للتَّفسيرِ اللُّغويِّ من كتابِ غريبِ الحديثِ، لأبي عبيدٍ القاسمِ بنِ سلامٍ (ت:224)، وكتابِ غريبِ الحديثِ، لأبي إسحاقَ إبراهيمَ بنِ إسحاقَ الحربيِّ (ت:285)
1 - قالَ أبو عُبَيد (ت:224): «... فالقواعدُ: هي أصولُها المعترِضَةُ في آفاقِ السَّماءِ.
وأحسِبُها مُشبَّهةً بقواعدِ البيتِ، وهي حيطَانُهُ، الواحدةُ مِنْهَا: قاعدةٌ. قالَ اللهُ عزّ وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127].
وأما البواسِقُ: ففروعُها المستطيلَةُ إلى وسطِ السَّماءِ، وإلى الأفقِ الآخرِ.
وكذلكَ كُلُّ طويلٍ، فهو باسقٌ، قال اللهُ تباركَ وتعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10]» (3).
_________
(1) كان الفراء من أكثر اللغويين الذي نقل عنهم، وقد بلغ المنقول عنه فوق المائة وعشرين موضعاً، كما كان ابن عباسٍ أكثرَ السلفِ الذي نقل عنهم، وقد فاق النقل عن الفراء، حتى بلغ قرابة المائةِ والسبعين موضعاً، وينظر من المواضعِ التي نقلَ عن المفسرين واللغوين معاً: (3:931 - 939، 569 - 966، 1021 - 1024).
(2) لمَّا قرأتُ كتابَ أبي إسحاق ذكرتُ قولَ الأزهريِّ عن كتابٍ الجيمٍ، لأبي عمرو شَمِرِ بنِ حَمْدُويه الهرويِّ، قال: «ولما ألقى عصاه بهراة، ألَّفَ كتاباً كبيراً في اللُّغات أسَّسه على الحروف المعجمة، وابتدأه بحرفِ الجيمِ، فيما أخبرني أبو بكر الإيادي وغيره ممن لقيه، فأشبعه وجوَّده، إلاَّ أنه طوَّله بالأشعارِ والرواياتِ الجمَّةِ عن أئمة اللغةِ وغيرهم من المحدِّثين، وأودعه من تفسيرِ القرآنِ بالرواياتِ عن المفسرينَ، ومن تفسيرِ غريبِ الحديثِ أشياءُ لم يَسبقه إلى مثله أحد تقدمه، ولا أدرك شأوه فيه من بعده ...». تهذيب اللغة (1:25). ويظهرُ أن أبا عمرو وأبا إسحاق الحربي من أكثرِ اللغويين اعتناءً بأقوالِ المفسرين، ونقلها في دلالة ألفاظ اللغة، والله أعلم.
(3) غريب الحديث، لأبي عبيد، تحقيق: حسين محمد شرف (2:500 - 501). =
(1/437)
________________________________________
2 - وقالَ: «قولُه: ما تجانَفْنا فيه لإثمٍ، يقول: ما مِلْنَا إليه، ولا تَعَمَّدْناه ونحن نعلمُه، وكلَّ مائلٍ فهو مُتَجَانفٌ، وجَنِفٌ. ومنه قولُه عزّ وجل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182].
قالَ: ميلاً.
قالَ أبو عبيدٍ: حدثناه هُشَيمٌ (1)، عن عبدِ المَلِكِ (2)، عن عَطَاء (3).
وقالَ لَبِيدُ (4):
إنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيمِي، وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ» (5)
3 - وقال أبو إسحاق الحربيُّ (ت:285): «قوله: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] هو الموزُ، وهو لا شوكَ له.
والطَّلحُ غيرُ منضودٍ، وإنما ذلكَ الموزُ، نُضِدَ بعضُه على بعضٍ.
حَدَّثَنَا عُبيدُ اللهِ (6)، عنْ يَزِيدَ بنِ زُرَيعٍ، عن التَّيمِيِّ (7)، عنْ أبي سعيدٍ
_________
= والحديث الذي يشرحه هو حين سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سحائب مَرَّتْ، فقال: «كيف ترون قواعدها وبسائقها ...».
(1) هو هُشَيمُ بنُ بَشِيرٍ السُّلَميُّ الواسِطيُّ، وقد تقدمت ترجمته.
(2) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريَج، وقد تقدمت ترجمته.
(3) هو عطاء بن أبي رباح، وقد تقدمت ترجمته. وينظر الرواية عنه في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (3:402).
(4) ديوانه بشرح الطوسي (ص:190).
(5) غريب الحديث، لأبي عبيد (4:211). وينظر فيه: (1:140، 173، 232، 368)، (2:57، 73، 86 - 88، 246 - 247)، (3:47، 237، 241 - 242، 412، 413)، (4:31، 118، 169 - 170، 361 - 363)، (5:13 - 14، 152، 167، 293)، وغيرها.
(6) عبيد اللهِ بن عمر القواريري، أبو سعيدٍ البصريُّ، روى عن: يزيد بن زريع وحماد بن زيد، وعنه: إبراهيم بن إسحاق الحربيُّ والبخاريُّ ومسلمُ وغيرهم، ثقة ثبت، توفي سنة (235). ينظر: تهذيب الكمال (5:65 - 57)، وتقريب التهذيب (ص:643).
(7) سليمان بن طَرْخَان التَّيمي، أبو المعتمر البصري، نزل في التَّيمِ، فنُسبَ إليهم، روى =
(1/438)
________________________________________
الرُّقَاشِيِّ (1)، سألتُ ابن عبَّاسٍ عن الطَّلْحِ، فقالَ: هو الموزُ (2).
وهو قولُ عليٍّ، وأبي سعيدٍ
(3)، وأبي هريرةَ، ومجاهدٍ، وعكرمةَ، والحسنِ، وقسامةَ، وقتادةَ (4).
أخبرنا سلمة عن الفرَّاءِ: {وَطَلْحٍ}، قال: زعم المفسِّرونَ أنه الموزُ (5).
أخبرنا الأثرمُ (6) عن أبي عبيدةَ: زعمَ المفسِّرونَ أنه الموزُ (7).
قال إبراهيم (8): والذينَ قالوا: هو الموزُ، هو غيرُ معنى الحديثِ؛
_________
= عن أنس بن مالك والحسن البصري وغيرهم، وعنه: السفيانان وغيرهما، ثقة عابد، توفي سنة (143). ينظر: تهذيب الكمال (3:285 - 286)، وتقريب التهذيب (ص:409).
(1) قيس، مولى حضين بن المنذر، الرَّقاشي، البصري، يُكنى بأبي سعيد، روى عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة، وعنه: سليمان التَّيميُّ وخالد الحذَّاء. ينظر: الجرح والتعديل (7:106)، الثِّقَات، لابن حبان (5:315). وقد ضبطها المحقق بضم الراء، والذي في الأنساب، للسمعاني، تحقيق: عبد الله البارودي (3:81): «الرَّقاشيُّ: بفتح الراء والقاف المخففة، وفي آخرها شين معجمة، هذه النسبة إلى امرأة اسمها رقاش، كثرت أولادها حتى صاروا قبيلة، وهي من قيس عيلان».
(2) ينظر الرواية في تفسير الطبري، ط: الحلبي (26:181).
(3) هو الخُدريُّ، والرواية عنه عند ابن أبي حاتم، كما في الدُّرِّ المنثورِ (8:13).
(4) وردت الروايةُ عنهم في تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:181 - 182)، وفيه عن عطاء وابن زيد، أما الرواية عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة وعكرمة والحسن، فيظهر أنها عند الثعلبيِّ، وقد ذكرها عنهم الماورديُّ، وهو ينقلُ عنه آثارَ السلفِ، ينظر: النكت والعيون، تحقيق: السيد عبد المقصود (5:454).
(5) في المطبوع من معاني القرآن برواية محمد بن الجهم: «ذكر الكلبي أنه الموز، ويقال: هو الطلح الذي تعرفون». معاني القرآن (3:124).
(6) علي بن المغيرة، أبو الحسن الأثرم، صاحب اللغة والغريب، سمع أبا عبيدة، وروى كتبه، وسمع الأصمعيَّ وغيره، توفي سنة (232)، وقيل غيرها. ينظر: تاريخ بغداد (12:170 - 108)، وإنباه الرواة (2:319 - 321).
(7) مجاز القرآن (2:250).
(8) هو المؤلف: الحربي.
(1/439)
________________________________________
لقولِه: بشوكِ الطَّلْحِ (1)، فلعلَّه اسمٌ لشجرِ شوكٍ، وللموزِ» (2).
_________
(1) هو في الحديث الذي يشرحه، وهو: «الشهداء الأربعة: فرجلٌ لَقِيَ العدوَّ فكأنما يُضْرَبُ جِلدُه بشوكِ الطَّلْحِ من الجُبْنِ، إذا جاءه سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ». غريب الحديث، للحربي (2:630).
(2) غريب الحديث، للحربي، تحقيق الدكتور: سليمان العايد (2:631). وينظر أمثلةً أخرى: (1:3 - 5، 24، 25، 29، 58 - 59، 72 - 73، 232 - 234، 291 - 293)، (2:351 - 352، 407 - 408، 410 - 411، 418 - 421، 456 - 457، 715 - 717، 846 - 848)، (3:931 - 940، 965، 966، 1021، 1024، 1039، 1040، 1108، 1110، 1177 - 1178)، وغيرها.
(1/440)
________________________________________
ثانياً كتب الاحتجاج للقراءات
الاحتجاجُ للقراءةِ (1): تخريجُ ما جاءَ في القرآنِ، وبيانُ وجهِه في كلامِ العربِ، وقدْ يكونُ بيانَ طريقةِ أداءٍ، أو تصريفِ كلمةٍ، أو إعرابٍ، أو بيانَ معنىً.
والذي يخصُّ التَّفسيرَ اللُّغويَّ من علمِ الاحتجاجِ للقراءةِ، ما يتعلَّقُ ببَيان المعنى، ويقعُ ذلكَ ـ في الغالب ـ حينما يَرِدُ في الآيةِ قراءتانِ مختلفتانِ في النُّطقِ، ويكونُ لِكُلِّ واحدةٍ منهما معنىً يخالفُ معنى القراءة الأخرى (2).
ولقد كان الاحتجاجُ للقراءةِ قديماً، وهو منثورٌ في كتبِ التَّفسيرِ ومعاني القرآنِ وغريبِه وغيرِها، ثمَّ ألَّفَ جمعٌ من العلماء فيه استقلالاً؛ منهم: أبو منصور الأزهريُّ (ت:370)، وابن خالويه (ت:370)، وأبو عليٍّ الفارسي (ت:377)، وابن جني (ت:392)، وغيرهم.
وسأذكرُ أمثلةً من اختلافِ القراءاتِ التي يختلفُ بها المعنى، ومنْ ذلكَ:
_________
(1) يدخُلُ الاعتراضُ على القراءةِ في علم الاحتجاجِ للقراءةِ؛ لأنَّ من يعترض قراءة، يحتجُّ لقراءته، والاعتراضُ على القراءةِ قديمٌ، ولذلك أسباب ليس هذا محلُّ بحثِها، والاعتراضُ على القراءةِ موضوعٌ جديرٌ بالبحثِ والتحريرِ، واللهُ الموفقُ.
(2) هذه المخالفة على سبيل التنوع، كما أشار إلى ذلك جمع من العلماء، ومنهم ابن قتيبة في كتابة تأويل مشكل القرآن (ص:40 - 42). وسمَّاه: «اختلاف التغاير».
(1/441)
________________________________________
1 - قولُه تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، حيثُ قرئت بالضَّادِ وبالظَّاءِ، قال ابنُ خَالَوَيه (ت:370): «قرأ ابنُ كَثِيرٍ وأبو عمرو والكسائي: «بِظَنِينٍ» بالظَّاءِ؛ أي: بِمُتَّهَمٍ، يقالُ: بئرٌ ظنينٌ: إذا كانَ لا يوثقُ بها.
وقرأ الباقون: {بِضَنِينٍ} بالضَّادِ؛ أي: ببخيل؛ أي: ليسَ بخيل (1) بالوحي بما أنزلَ اللهُ منَ القرآنِ فلا يكتُمُهُ أحداً، تقولُ العربُ: ضَنَنْتُ بالشيءِ أَضِنُّ به: إذا بَخِلْتُ به، وينشد (2):
مَهْلاً أَعَاذِلُ قَدْ جَرَّبْتَ مِنْ خُلُقِي ... إنِّي أَجُودُ لأَقْوَامٍ وَإنْ ضَنُّوا» (3)
2 - وفي قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة: 259]، قالَ أبو منصورٍ الأزهريُّ (ت:370): «من قرأ: {نُنْشِزُهَا} بالزاي، فالمعنى: نجعلُها بعدَ بِلاَهَا وهُمُودها ناشزةً تَنْشُزُ بعضُها إلى بعضٍ؛ أي: ترتفعُ، مأخوذةٌ منْ نَشَزَ، والنَّشْزُ: وهو ما ارتفعَ من الأرضِ (4).
ومنْ قرأ: «نُنْشِرُهَا» بالراء، فمعناه: نُحْيِيهَا، يقال: أنْشَرَ اللهُ الموتى؛ أي: أحياهم فَنَشَرُوا؛ أي: حَيَوا.
_________
(1) لعله سقط حرف الباء من الطابع، بدلالة تشكيل حرف اللام بكسرتينِ، والصواب: «ببخيلٍ».
(2) أفاد المحقق الدكتور عبد الرحمن العثيمين: أنَّ البيت لقعنب بن أم صاحب، وهو قعنب بن ضمرة الغطفاني، وأنَّه من شواهد الكتاب، لسيبويه (1:11)، (2:161)، وشرحه للسيرافي (1:106)، وشرح أبياته لابن السيرافي (1:318)، وذكر غيره من المراجع.
(3) إعراب القراءات السبع وعللها (2:446)، وينظر: الحجة للقراءات السبع، لأبي علي الفارسي، تحقيق: بدر الدين قهوجي وبشير حويجاتي (6:380 - 381). والقراءات وعلل النحويين فيها، للأزهري (2:750 - 751)، وقد زاد معنى آخر في «بظنين» نقله عن الفراء من معانيه (3:243)، قال: «بضعيف، يقول: هو محتملٌ له ...».
(4) كذا، ولعلها: والنَّشْزُ: هو ما ارتفع من الأرضِ، بدون الواو، والله أعلم.
(1/442)
________________________________________
ومن قرأ: «نَنْشُرُهَا»، فهو مأخوذٌ منَ النَّشْرِ بعد الطَّيِّ ...» (1).
وقد يقعُ في كتب توجيه القراءاتِ تفسيرٌ لبعضِ الألفاظِ القرآنيَّةِ وإن لم يكنْ فيه خلافٌ في القراءةِ، وإنما يكونُ ذلكَ على سبيل الاستطراد، ومثل ذلك ما ورد عند ابن خَالَوَيه (ت:370) من تفسيرِ قولِه تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات: 4]، قال: «أَثَرْنَ بالوادي غباراً» (2).
وليس في هذا الحرفِ خلافٌ بينَ القُرَّاءِ، وإنما ذُكِرَ هذا التَّفسيرُ استطراداً.
والمقصودُ أنَّ كتبَ الاحتجاجِ للقراءاتِ تُدرِجُ شيئاً من التَّفسيراتِ اللُّغويةِ التي تتناسبُ مع طبيعةِ بحثِها، والله أعلم.
_________
(1) القراءات وعلل النحويين فيها (1:92 - 93)، وينظر فيه من قرأ بهذه القراءات، ثم ينظر: إعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه (1:96 - 97)، والحجة للقراءات السبع، لأبي علي الفارسي (2:379 - 382).
(2) إعراب القراءات السبع وعللها (2:552)، وينظر: في الصفحة نفسها «الكنود»، وينظر: (2:522) تفسير المبثوث، (2:529) تفسير الهُمَزَةُ اللُّمَزَةُ، وغيرها.
(1/443)
________________________________________
ثالثاً شروح دواوين الشعر
تعتبرُ شروحُ دواوينِ الشِّعْرِ أحدَ المصادرِ اللُّغويَّةِ في بيانِ معاني الألفاظِ؛ لأنَّ الشَّارحَ يَعْمَدُ إلى ألفاظِ شِعْرِ الشَّاعرِ ويبين معانيها، ولو جُمِعَتْ شروحُ هذه الألفاظِ لكوَّنَتْ معجماً يُرادفُ المعاجمَ الموجودةَ (1).
وقدْ قُمْتُ بقراءةِ عِدَّةِ شروحٍ من شروحِ الأشعارِ (2)، فظهرَ لي منْ خلالِ هذا التتبُّعِ أنَّ طريقتَهم لا تخرجُ ـ في الغالب ـ عنْ طريقةِ أصحابِ المعاجمِ، كما أنَّ الألفاظَ القرآنيَّةَ المشروحةَ قليلةٌ؛ لأنها ليستِ الأصلَ في الشَّرحِ، بل تَرِدُ استطراداً عندَ ذِكْرِ لفظِ الشَّاعرِ المشروحِ، وسأذكر أمثلةً من بعضِها؛ لاتفاقِ منهجِها ـ في الغالب ـ؛ ومنْ أمثلةِ ذلكَ:
1 - في قولِ ذي الرُّمَّةِ (ت:117) (3):
_________
(1) ينظر مثلاً: فهرس الألفاظ المشروحة (ص:2078 - 2184) في ديوان ذي الرمة، شرح أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي، تحقيق: د. عبد القدوس أبو صالح، ط: دار الرسالة.
(2) منها على سبيل المثال: ديوان العجاج، شرح الأصمعي، وشعر عروة بن الورد، شرح ابن السكيت، وديوان الحطيئة، شرح ابن السكيت، وديوان جران العَودِ، شرح السكري، وديوان الخنساء، شرح ثعلب، وديوان حاتم الطائي، شرح يحيى بن مدرك الطائي، وغيرها.
(3) البيت في ديوان ذي الرُّمة، شرح الباهلي، تحقيق: عبد القدوس أبو صالح (ص:357).
(1/444)
________________________________________
هَلْ تَعْرِفُ الْمَنْزِلَ بِالْوَحِيدِ ... ثَغْراً عَفَاهُ أَبِدَ الأَبِيدِ
قال شارحُ الديوانِ: أحمدُ بنُ نصرٍ الباهليُّ (ت:231) (1): «الوحيد: مكانٌ.
والأبد: الدَّهر، قال: دَهْرُ الدُّهورِ.
عَفَاهُ: دَرَسَهُ.
وعَفَا ـ في غيرِ هذا الموضعِ ـ: زَادَ، قَالَ تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]؛ أي: كَثُرُوا» (2).
2 - وقال في قولِ ذي الرُّمَّةِ (ت:117):
وَلَبَّسَ بَينَ أَقْوَامٍ، فَكُلٌ ... أَعَدَّ لَهُ السِّفَارَةَ الْمِحَالاَ
قال: «اللَّبسُ: الاختلاطُ.
والسِّفارة: الصُّلحُ بين القومِ، يقالُ: سَفَرَ يَسْفُرُ سِفَارَةً. ويروى: الشَّغَازِبَ؛ أي: الكيدَ والخصومةَ.
والمِحَالُ: الجدالُ، قالَ اللهُ: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13]، وأصلُهُ: المُكَاظَّةُ والأخذُ بالنَّفْسِ» (3).
3 - وفي بيت الحُطَيئَةِ:
أَبْلِغْ سَرَاةَ بَنِي سَعْدٍ مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ الرِّسَالَةِ لاَ أَلْتاً وَلاَ كَذِباً
_________
(1) أحمد بن حاتم الباهلي، أبو نصر، اللغوي، كان ثقةً مأموناً، أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي، حتى كان يقال له: صاحب الأصمعي، له تآليف، منها: اشتقاق الأسماء، وما تلحن فيه العامة. ينظر: مراتب النحويين (ص:133 - 143)، ومعجم الأدباء (2:283 - 285).
(2) ديوان ذي الرمة، شرح أبي نصر الباهلي، تحقيق: د. عبد القدوس أبو صالح: (ص:357).
(3) ديوان ذي الرمة، شرح أبي نصر الباهلي (ص:1544). وينظر: (ص:32، 1047، 1120، 1546، 1733).
(1/445)
________________________________________
قال ابنُ السِّكِّيتِ (ت:246): «مُغَلْغَلَةً: رسالةً تَتَغَلْغَلُ إليهم حتى تَصِلَ؛ أي: تَخَلَّلُ.
والأَلْتُ: النُّقصانُ، يقالُ: أَلَتَهُ يَالِتُهُ أَلْتاً، وَلاَتَهُ لَيتاً، وأَلاتَهُ، يُلِيتُهُ إِلاَتَةً. قال الله تعالى: {لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} [الحجرات: 14]؛ أي: يَنْقُصُكُم، وقال في موضع آخر: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ} [الطور: 21]» (1).
4 - وقالَ عندَ قولِ الحُطَيئَةِ:
لهم سُورَةٌ في المجدِ لَوْ تُرْتَدَى بها ... بَرَاطِيلُ جَوَّابٍ، نَبَتْ، ومَنَاقِرُه
قال: «وقوله: لو يُرتدَى بها براطيلُ؛ أرادَ: لو يُرتدَى ببراطيل جوَّابٍ نَبَتْ البراطيلُ والمناقرُ.
والبراطيلُ: جمع بِرْطِيل، وهو المِعْولُ، والبِرْطِيلُ أيضاً: حَجَرٌ طويلٌ قَدْرَ الذِّراع.
والمنقار: الذي يُنْقَرُ به الحجرُ.
والجوَّاب: الذي يجوبُ الرَّكَايَا؛ أي: يحفرُها ويخرقُها، قالَ اللهُ تعالَى: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9]؛ أي: خَرَقُوا» (2).
5 - قالت الخنساءُ:
إنَّ أخِي لَيسَ بِتَرْعِيَّةٍ ... نِكْسٍ هَوَاءِ القَلْبِ ذِي مَاشِيهْ
قال ثعلب (ت:291) في شرحه: «وقوله (3): هواء القلب؛ أي لا فؤادَ
_________
(1) ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، تحقيق: د. نعمان محمد أمين طه (ص:16).
(2) ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، تحقيق: د. نعمان محمد أمين طه (ص:30).
وينظر: (ص:22، 32، 42، 71، 178، 196، 216، 237، 245).
(3) كذا وردت في النسخة، والأولى: قولها؛ لأنه يشرح ديوان امرأةٍ، واللهُ أعلمُ.
(1/446)
________________________________________
له، قلبُه خالٍ، قال اللهُ عزّ وجل: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43]؛ أي: خاليةٌ، لا تعي شيئاً» (1).
وعلى هذا الأسلوبِ سارتْ أكثرُ الأمثلةِ التي أوردَها شُرَّاحُ الدواوينِ الشعريَّةِ، وهي أقربُ إلى أسلوب كتبِ معاجمِ اللُّغةِ وكتبِ غريبِ القرآنِ.
_________
(1) شرح ديوان الخنساء، لثعلب، تحقيق: فايز محمد (ص:241). وقال ثعلب في شرح ألفاظ البيت: الترعية: الذي يلزم رِعيةَ الإبل، ويُحسن القيام بها، والنَّكْسُ: الضعيف.
(1/447)
________________________________________
رابعاً كُتُبُ الأدَبِ
تشتملُ كتبُ الأدبِ على عِدَّةِ مصنفاتٍ؛ ككتبِ الأمالي، وكتب مجالسِ العلماءِ، وغيرِها، وقد قمت بقراءةِ بعضٍ منها؛ ككتابِ البيانِ والتبيينِ، لأبي عُثْمَانَ عَمْرِو بنِ بَحْرٍ الجَاحِظِ (ت:255)، والكَامِلِ في الأدبِ، لمحمد بن يزيد المُبَرِّدِ (ت:285)، ومجالسِ ثعلب (ت:291)، والزاهر في معاني كلمات الناس، لابن الأنباري (ت:328)، وأمالي أبي عليٍّ القالِّي (ت:356)، وغيرِها (1). وسأذكرُ أمثلةً للتفسيرِ اللُّغويِّ منْ بعضِ هذه الكتبِ:
1 - قال عمرو بن بحرٍ الجاحظ (ت:255): «وأنشدَ للحارثِ بن حِلِّزَةَ اليَشْكُرِيِّ (2):
لاَ أَعْرِفَنَّكَ إنْ أَرْسَلْتَ قَافِيَةً ... تُلْقِي المَعَاذِيرَ إنْ لَمْ تَنْفَعِ العِذَرُ
إنَّ السَّعِيدَ لَهُ فِي غَيرِهِ عِظَةٌ ... وَفِي التَّجَارُبِ تَحْكِيمٌ وَمُعْتَبَرُ
ومعنى المعاذيرِ هنا غيرُ معنى قول اللهِ تباركَ وتعالى في القرآنِ: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14، 15]، والمعاذيرُ هنا: السُّتورُ» (3).
_________
(1) كأمالي اليزيدي، وأمالي الزَّجَّاجي، والمصون في الأدب وبي أحمد للعسكري.
(2) ينظر ديوان الحارث بن حلزة، جمع: طلال حرب (ص:67)، وقد اعتمد في ذكرهما على هذا الموضع من كتاب البيان والتبيين، وذكر أن ابن الشجري نسبهما في حماسته للحارث بن كلدة.
(3) البيان والتبيين، للجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون (2:106)، وينظر: (1:188). =
(1/448)
________________________________________
2 - وقال المُبَرِّدُ (ت:285): «والودْقُ: المَطَرُ، يقالُ: وَدَقَتِ السماءُ يا فتى وَدْقاً، قالَ عزّ وجل: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43، الروم: 48] ...» (1).
3 - وقال: «... فإذا قلت: اِنْجَابَ، فمعناهُ: اِنْشَقَ، يقال: المِجْوَبُ، للحديدةِ التي يُثْقَبُ بها العسيبُ.
ويقال: جُبْتُ البلادَ؛ أي: دخلتُها وطوفتُها. وفي القرآنِ: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9]؛ أي: شَقُّوهُ» (2).
4 - وقال أبو العباسِ ثعلبُ (ت:291): «وفي قوله تعالى: {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2]، قال: أخلاط» (3).
5 - وقال في قوله تعالى: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23]: «النَّسْيُ: خِرَقُ الحَيضِ التي يُرْمَى بها؛ أي: وكنتُ هذا فيُرمى بِي» (4).
6 - وقال ابن الأنباري (ت:328): «ومن الحسيبِ قول اللهِ عزّ وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]، قال أبو بكر: فيه أربعةُ أقوالٍ، يقال: عالماً، ويقال: مقتدراً، ويقالُ: كافياً، ويقالُ: محاسباً.
قال أبو بكر: سمعتُ أبا العباس أحمد بن يحيى (5) يقولُ في قول الله عزّ وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]:
_________
= وبعد تتبع هذا الكتاب وجدت أن الأمثلة فيه قليلة جداً، وإنما حرصت على إيراد أمثلة منه لأنه من أوائل كتب الأدب.
(1) الكامل، للمبرد، تحقيق: محمد أحمد الدالي (ص:841).
(2) الكامل (ص:1030)، ينظر (ص:370، 721، 722، 790، 851، 986، 993، 1005، 1027، 1036، 1043)، وغيرها.
(3) مجالس ثعلب، تحقيق: عبد السلام هارون (ص:6).
(4) مجالس ثعلب (ص:353)، وينظر: (ص:9، 11، 12، 20، 49، 117، 541)، وغيرهما.
(5) هو ثعلب.
(1/449)
________________________________________
يجوزُ في (مَنْ) الرَّفع والنَّصبُ (1).
فالرَّفعُ على النَّسَقِ على اللهِ (2). والنَّصبُ على معنى: يكفيكَ اللهُ، ويكفي من اتَّبعكَ من المؤمنينَ» (3).
وهذا الأسلوبُ الذي ذكرته في التفسيرِ اللُّغويِّ كثيرٌ في كتبِ الأدبِ، ولكنه على تفاوتٍ بينها في القِلَّةِ والكثرةِ، واللهُ الموفقُ.
_________
(1) ذكر الفراءُ هذين الوجهين، واختارَ وجه الرفع، ينظر معاني القرآنِ (1:417).
(2) اعترضَ ابن القيِّمِ على هذا الوجه، ونقده، فقال: «... وفيها تقدير رابعٌ ـ وهو خطأ من جهةِ المعنى ـ: وهو أن يكون «من» في موضعِ رفعٍ عطفاً على اسم اللَّهِ، ويكون المعنى: حسبك اللهُ وأتباعُكَ.
وهذا ـ وإن قال به بعض الناس ـ فهو خطأ محضٌ، ولا يجوزُ حملُ الآيةِ عليه، فإنَّ الحَسْبَ والكفاية لله وحده؛ كالتوكُّلِ والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، ففرق بين الحسب والتأييد. فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده ...». زاد المعاد (1:35).
(3) الزاهر في معاني كلمات الناس (1:99).
(1/450)
________________________________________
الباب الثالث
آثار التفسير اللغوي وقواعده
وفيه ثلاثة فصولٍ:
الفصل الأول: أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في اختلافِ المفسرينَ.
الفصل الثاني: أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في انحرافِ المفسرينَ.
الفصل الثالث: قواعدُ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ.
(1/451)
________________________________________
الفصل الأول
أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في اختلافِ المفسرينَ
وفيه:
أولاً: الاختلافُ بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في اللَّفظِ.
ثانياً: الاختلافُ بسببِ التَّضادِّ في دلالةِ اللَّفظِ.
ثالثاً: الاختلافُ بسببِ مخالفةِ المعنى الأشهرِ في اللَّفظِ.
رابعاً: الاختلافُ بسببِ أصلِ اللَّفظِ واشتقاقِهِ.
خامساً: الاختلافُ بسببِ النظرِ إلى المعنى القريبِ المتبادرِ للذهنِ والمعنى البعيدِ لِلَّفظِ.
(1/453)
________________________________________
تمهيد
لمَّا كان التَّفسيرُ اللُّغويُّ من أكبر المصادر التفسيريَّة، فإنَّه سيكونُ له أثرٌ كبيرٌ في التَّفسيرِ، ولا شَكَّ.
وقد تأمَّلتُ الألفاظَ القرآنيَّةَ، فوجدتُ أنَّ الألفاظَ على قسمين:
القسمُ الأولُ: اللَّفظُ الذي لا يحتملُ إلاَّ معنًى واحداً، وهو إمَّا ألاَّ يخفى على أحدٍ من العربِ؛ كالأرضِ، والسَّماءِ، والضَّحِكِ، والْحَثِّ، والأساسِ، والنَّبأ، وغيرِها من الألفاظِ العامَّةِ التي لا يجهَلُهَا العربِيُّ.
وإمَّا أنْ يكونَ فيه غرابةٌ على بعضِ النَّاسِ، ولكنَّه ـ كذلك ـ لا يحتملُ إلاَّ معنًى واحداً؛ كالتَّبَابِ، والأحْقَافِ، والشَّانِئ، وغيرِها.
القسمُ الثاني: اللَّفظُ الذي يحتملُ أكثرَ من معنًى في وَضْعِ اللُّغةِ؛ كالقُرْءِ، وعَسْعَسَ، والعَتِيقِ، والحَرْدِ، والمَمْنُونِ، وغيرِها.
وهذا القسمُ هو الذي تَبْرُزُ فيه آثارُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ: لأنَّ اللَّفظَ الذي لا يحتملُ إلاَّ معنًى واحداً لا يمكنُ أنْ يُتَصَوَّرَ فيه وقوعُ الخلافِ.
وقدْ صار هذا الاحتمالُ اللُّغويُّ ذا جانبين في أثرِه في التَّفسيرِ:
أمَّا أوَّلُهما، فيمكنُ أنْ يُوصَفَ بأنَّه سلبيٌّ؛ لأنَّ فيه استعمالاً لهذا الاحتمالِ في الانحرافِ بالتَّفسيرِ إلى غيرِ المعنى المرادِ والصَّحيحِ، وسببُ ذلك ـ في الغالبِ ـ: أنَّ المرءَ يعتقدُ، ثمَّ يبحثُ في الاستدلالِ لهذا المعتقَدِ، فيجدُ في مجازِ اللُّغةِ وقليلِها وشاذِّها ما يكونُ دليلاً له، فيتمسَّكُ به، ويتركُ القولَ الذي هو أقربُ منه ظاهراً وحقيقةً.
(1/455)
________________________________________
وأمَّا الثاني، فيمكنُ أنْ يُوصَفَ بأنَّه الجانبُ الإيجابيُّ، وهو هذه الاحتمالاتُ اللُّغويَّةُ التي أثْرَتْ التَّفسيرَ بسببِ اختلافِ فُهُومِ المفسِّرينَ فيها.
وهذه الاحتمالاتُ قدْ تكونُ الآيةُ قابلةً لها بلا تضادٍّ، وقد لا تكونُ كذلك، ولكُلٍّ حُكْمُهُ من حيثُ القبولُ والرَّدُّ، وسيأتي شيءٌ منْ هذا إنْ شاءَ اللهُ.
وسأجعلُ هذين الجانبينِ في فصلينِ، ثمَّ أُتبِعُهُمَا بفصلٍ فيه شيءٌ من قواعدِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ التي ظهرتْ من خلالِ هذا البحثِ. وسيكونُ تقسيمُ هذه الفصولِ كالآتي:
الفصل الأول: أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في اختلافِ المفسرينَ.
الفصل الثاني: أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في انحرافِ المفسرينَ.
الفصل الثالث: قواعدُ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ.
(1/456)
________________________________________
الفصل الأول
أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في اختلافِ المفسرينَ
نشأ الخلافُ في التَّفسيرِ نتيجةً للاجتهادِ فيه، وقد يكونُ الخلافُ بسببِ الاختلافِ في اعتمادِ المصدرِ، فهذا يفسِّرُ معتمداً على حديثٍ نبويٍّ، وذاك يفسِّر معتمداً على اللُّغةِ. كما قدْ يحدثُ الخلافُ في الاعتمادِ على المصدرِ الواحدِ، وأكثرُ ما يقعُ ذلك في مصدرِ اللُّغةِ، وذلك راجعٌ إلى الاحتمالِ اللُّغويِّ الذي يَرِدُ على النَّصِّ القرآنِيِّ.
وسأبيِّنُ هنا الخلافَ الذي نشأ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ بسببِ اختلافِ دلالةِ اللَّفظِ في اللُّغةِ. وقدْ ظهرَ لي من خلالِ الاستقراءِ ما يأتي:
أولاً: الاختلافُ بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في اللَّفظِ.
ثانياً: الاختلافُ بسببِ التَّضادِّ في دلالةِ اللَّفظِ.
ثالثاً: الاختلافُ بسببِ مخالفةِ المعنى الأشهرِ في اللَّفظِ.
رابعاً: الاختلافُ بسببِ أصلِ اللَّفظِ واشتقاقِهِ.
خامساً: الاختلافُ بسببِ النظرِ إلى المعنى القريبِ المتبادرِ للذهنِ والمعنى البعيدِ لِلَّفظِ.
وهناكَ اختلافٌ بسببِ الاختلافِ في القراءةِ، ولم أَرَهُ يدخلُ في هذا البابِ، وإن كانَ يعتمدُ على الدلالةِ اللُّغويَّةِ؛ لأنَّ هذا الاختلافَ واقعٌ في لفظينِ: لكلِّ لَفْظٍ منهما معنى يغايرُ المعنى الآخرَ، بخلافِ ما أنا بصددِهِ هنا، إذ للَّفْظِ الواحدِ أكثرُ من معنًى.
(1/457)
________________________________________
ومنْ أمثلةِ الاختلافِ بسببِ القراءةِ:
قولُه تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] حيثُ وَرَدَ في لفظِ «تبلوا» قراءتانِ: تتلوا بالتاء، وتبلوا بالباء.
قال الأزهري (ت:370): «فمنْ قرأ: تبلوا، فمعناه: تَخْبُرُ؛ أي: تَعْلَمُ كلُّ نفسٍ ما قدَّمت. ومنْ قرأ: تتلوا بتاءين، فهو منَ التِّلاوةِ؛ أي: تَقْرَأُ كلُّ نفسٍ، ودليل ذلك قولُه: {اقْرَا كِتَابَكَ} [الإسراء: 14].
وقالَ بعضُ المفسرينَ ـ في قوله: تتلوا ـ: تَتْبَعُ كلُّ نفسٍ ما أسلفتْ؛ أي: قدمتْ منْ خَيرٍ أو شَرٍّ» (1).
إنَّ القراءتينِ في هذا المثالِ مختلفتانِ في النُّطْقِ، وتبعَهُ اختلافُ تفسيرِهما، ولذا صارتْ كُلُّ قراءةٍ كأنَّها آية مستقلَّةٌ عن أختها. وهي بهذا خارجةٌ عن المقصودِ في هذا البحثِ (2).
أمَّا ما وردَ من اختلافِهِم في مدلولِ: تَتْلُوا، بأنه: تَتْبَعُ أو تَقْرَأُ، فهو داخلٌ في هذا البحثِ؛ لأنه اختلافٌ في دلالةِ لفظٍ واحدٍ في صورةٍ واحدةٍ.
وسأشرحُ هذه الأسبابَ، وأذكرُ لكلِّ سببٍ ما يوضِّحه منَ الأمثلةِ.
_________
(1) القراءات وعلل النحويين فيها (1:271)، وفيه تخريج هذه القراءات.
(2) ومثل هذا: الاختلاف الوارد في لفظ «تهجرون» من قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]، ولفظ «يصدون» من قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، ولفظ «ضنين» من قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، وغيرها.
(1/458)
________________________________________
أوَّلاً الاختلافُ بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في اللَّفظِ
ألفاظُ العربِ تردُ على ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: اختلافُ اللَّفظينِ لاخْتِلافِ المعنيينِ، وهذا هو الأعمُّ الأغلبُ في ألفاظِ العربِ؛ كقولك: الرَّجُلُ والمَرْأَةُ، واليَومُ واللَّيلَةُ، اختلفَ اللَّفظانِ لاختلافِ المعنيينِ.
الثاني: اختلافُ اللَّفظينِ والمعنى واحدٌ؛ مثلُ: عَيرٍ وحِمَارٍ، وأتَى وجَاءَ، وفي هذا توسُّعٌ في الكلامِ وزيادةٌ في التصرُّفِ بالألفاظِ.
الثالث: أنْ يَتَّفِقَ اللَّفظُ ويختلفَ المعنى، فيكونُ اللَّفظُ الواحدُ على معنيينِ فصاعداً (1).
وهذا القسم أُطلِقَ عليه مصطلح: المشتَرَك اللَّفظي (2).
_________
(1) ينظر هذا التقسيم في كتاب الكتاب، لسيبويه، طبعة بولاق (1:7 - 8)، وكتاب الأضداد، لقطرب، تحقيق: الدكتور حنَّا حدَّاد (ص:69 - 70)، وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه في القرآن المجيد، للمبرد، تحقيق: الدكتور أحمد محمد سليمان أبو رعد (ص:47 - 48)، وكتاب الخصائص، لابن جني (2:95).
(2) ينظر في تعريف المشترك اللّفظي: المزهر، للسيوطي (1:369)، هذا وقد منع قوم وجود المشترك في اللغة، وقد اعتُرِض عليهم، ينظر في ذلك ـ على سبيل المثال ـ: المزهر في علوم اللغة (1:369 - 370)، وكتاب: المشترك اللغوي نظرية وتطبيقاً، للدكتور توفيق محمد شاهين (ص:65 - 71).
(1/459)
________________________________________
وأمثلةُ المشتَرَكِ اللُّغويِّ الذي وقع خلافٌ في تفسيرِه في القرآنِ كثيرةٌ، ومنها ـ على سبيل المثال ـ:
1 - اختلفَ المفسِّرونَ في تفسيرِ لفظِ «النَّجْمِ» من قولِه تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] على قولينِ:
القول الأوَّلُ: النَّجمُ: ما نَبَتَ على وجهِ الأرضِ مما ليسَ له ساقٌ.
وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ (ت:68) (1)، وابن جبيرٍ (ت:94) (2)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (3)، والكَلْبِيِّ (ت:146) (4)، وسُفْيان الثَّورِيُّ (ت:161) (5).
وأمَّا اللُّغويُّونَ، فقد حكى عنهم الأزهريُّ (ت:370) قولَهم، فقال: «وأمَّا قولُه جَلَّ وَعَزَّ: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، فإنَّ أهلَ اللُّغةِ وأكثرَ أهلِ التَّفسيرِ قالوا: النَّجْمُ: كلُّ ما نَبَتَ على وجهِ الأرضِ مما ليسَ له ساقٌ» (6).
ومِمَّنْ نصَّ من اللُّغويِّينَ على تفسيرِ النَّجمِ بأنه ما لا ساق له من النبات: الفَرَّاءُ (ت:207) (7)، وأبو عُبَيدَةَ (ت:210) (8)، وابن قُتَيبَةَ (ت:276) (9)،
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:116)، والدر المنثور، ط: دار الفكر (7:692).
(2) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:116)، والدر المنثور، ط: دار الفكر (7:692).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:117).
(4) ينظر تفسير عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: عبد المعطي قلعجي (2:211).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (26:117).
(6) تهذيب اللغة (11:128).
(7) معاني القرآن (3:112).
(8) مجاز القرآن (2:242).
(9) تفسير غريب القرآن (ص:436).
(1/460)
________________________________________
والمُبَرِّدُ (ت:285) (1)، وكُرَاعُ (ت:310) (2)، والجَوهَرِيُّ (ت:398) (3)، وغيرُهم.
القولُ الثاني: النَّجْمُ: نَجْمُ السَّماءِ.
وبه قال: مُجَاهِدٌ (ت:104) (4)، والحَسَنُ البَصْرِيُّ (ت:110) (5)، وقَتَادَةُ (ت:117) (6).
ولم أجدْ من اللُّغويينَ منْ قالَ به، سوى حكايةِ بعضهم له.
قال الزَّجَّاجُ (ت:311): «وقد قيل: إنَّ النجم ـ أيضاً ـ: يراد به النُّجُومُ. وهذا جائز أن يكون؛ لأن الله عزّ وجل قد أعلمنا أن النَّجْمَ يسجدُ، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج: 18].
ويجوزُ أن يكونَ النَّجْمُ ههنا، يعني به: ما نبتَ على وجهِ الأرضِ، وما طَلَعَ من نجومِ السماءِ، يقالُ لِكُلِّ ما طَلَعَ: قد نَجَمَ» (7).
وهذا المثالُ يوضِّحُ أنَّ الخلافَ الذي وقعَ، إنما كانَ بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في دَلالةِ لفظِ النَّجْمِ، حيثُ يطلقُ النَّجمُ في لغةِ العربِ ويراد به ما نَجَمَ من الأرضِ، ويطلقُ ويرادُ به نَجْم السَّمَاءِ.
_________
(1) الكامل، للمبرد تحقيق: الدكتور محمد الدالي (2: 795 - 796).
(2) كراع: هو علي بن الحسن الهُنائيِّ، وكُرَاعُ النَّمْلِ لقبٌ لُقِّبَ به لدمامة خِلْقَتِه، كان نحوياً لغوياً من علماء مصر، أخذ عن البصريين والكوفيين، وصنَّف في اللغة كتباً، توفي سنة (310). إنباه الرواة (2:240)، ومعجم الأدباء (13:12 - 13). وينظر قوله في كتابه المنجد في اللغة، تحقيق أحمد مختار عمر وضاحي عبد الباقي (ص:103).
(3) الصحاح، مادة (نجم).
(4) تفسير مجاهد، تحقيق: د. محمد عبد السلام أبو النيل (ص:636)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (27:177).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:117).
(6) تفسير عبد الرزاق الصنعاني (2:211)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (27:177).
(7) معاني القرآن وإعرابه (5:96).
(1/461)
________________________________________
وإذا تأمَّلتَ هذين الوجهينِ التَّفسيريَّن، وجدتَ أنَّ لكلِّ وجهٍ منهما حَظًّا من النَّظَرِ: من حيثُ صحةُ الإطلاقِ في اللُّغةِ أوَّلاً، ثمَّ بصحة حملِهما في سياقِ الآيةِ، فالآيةُ تقبلُ هذه وتقبلُ ذاك على جهةِ التَّفسيرينِ، وهما من باب اختلافِ التَّنوُّعِ الذي تحتملُه الآيةُ بلا تضادٍّ.
قالَ الطَّاهِرُ بنُ عَاشُورَ (ت:1393): «وجُعِلَ لَفْظُ النَّجْمِ واسطةَ الانتقالِ لصلاحيتِه؛ لأنَّه يُرادُ منه: نُجُومُ السَّماءِ، وما يسمى نجماً من نباتِ الأرضِ» (1).
ومن ثَمَّ، فتفسيره بأنه ما لا ساق له يناسبُ ما بعده في الآيةِ ـ أي: الشَّجَر ـ لهذا قالَ أصحابُ هذا القولِ: النَّجْمُ: الذي ليسَ له ساقٌ، والشَّجَرُ: الذي له سَاقٌ (2).
وتفسيره بنجمِ السماءِ يناسبُ ما قبله من الآياتِ الكونيَّةِ العلويَّةِ، وهو قولُه تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
2 - اختلفَ المفسِّرونَ في تفسيرِ لفظِ «الرَّيحَانِ» من قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12] على أقوالٍ، منها:
القول الأول: الرَّيحانُ: الرِّزْقُ.
وبه قال من السَّلفِ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (3)، ومُجَاهِدُ (ت:104) (4)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (5).
_________
(1) التحرير والتنوير (27:235).
(2) ينظر المراجع السابقة.
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:122)، من طريق عكرمة.
(4) تفسير مجاهد (ص:636)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (27:122).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:122)، من طريق أبي روق عطية بن الحارث.
(1/462)
________________________________________
وقال به من اللُّغويين: الفَرَّاءُ (ت:207) (1)، وأبو عُبَيدَةَ (ت:210) (2)، وابنُ قُتَيبَةَ (ت:276) (3).
القولُ الثاني: الرَّيحَانُ: نَبْتُ الرَّيحَانِ الَّذي يُشَمُّ.
وقالَ به من السَّلف: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (4)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (5)، والحَسَنُ البَصْرِيُّ (ت:110) (6)، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدٍ (ت:182) (7).
وقد حكاه بعضُ اللُّغويِّينَ (8)، ولم أجد منهم من نصَّ على ذلكَ المعنى، والمقصودُ أنَّ هذا الاختلافَ وَقَعَ بسببِ احتمالِ هذا اللَّفظِ لِلْمَعْنَيَينِ على سبيلِ الاشتراكِ اللُّغويِّ.
3 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «تتلوا» من قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] على قولينِ:
القول الأولُ: تتلوا: تقرأ.
وقال به من السَّلفِ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (9)، ومُجَاهِدٌ (ت:104) (10)،
_________
(1) ينظر: معاني القرآن (3:114). وقد ذكر شاهداً نثرياً، وهو قول العرب: خرجنا نطلب ريحان الله.
(2) مجاز القرآن (2:243). وقد ذكر شاهداً شعرياً، وهو قول النَّمِرِ بنِ تَولَبَ:
سَلاَمُ الإلَهِ وَرَيْحَانُهُ ... وَجَنَّتُهُ وَسَمَاءٌ دُرَرْ
(3) تفسير غريب القرآن (ص:437). وقد ذكر الشاهدين: النثري والشعري، واللذين استشهد بهما الفراء وأبو عبيدة.
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:122). من طريق عطية العوفي.
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:122). من طريق عُبيد المُكْتِب.
(6) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:122).
(7) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:122).
(8) ينظر مثلاً: تهذيب اللغة (5:221)، ولسان العرب وتاج العروس، مادة (ريح).
(9) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:410).
(10) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:409 - 410).
(1/463)
________________________________________
وعَطَاءُ بُنُ أبي رَبَاحٍ (ت:114) (1)، وقَتَادَةُ (ت:117) (2).
ومن اللُّغويين: أبو عبيدة (ت:210) (3)، وابن قتيبة (ت:276) (4).
القول الثاني: تتلوا: تتبع.
وبه قال من السَّلف: ابن عبَّاس (ت:68) (5)، وأبو رَزِين الأسديُّ (ت:85) (6).
وقد بيَّنَ أبو جعفر الطبري (ت:310) هذا الاشتراك في هذا اللفظ، فقال: «ولِقَولِ القائلِ: هو يتلو كذا. في كلامِ العربِ معنيانِ:
أحدُهما: الاتِّبَاعُ؛ كما يقالُ: تَلَوتَ فلاناً؛ إذا مشيتَ خلفَه وتَبِعْتَ أثرَهُ، كما قالَ جَلَّ ثناؤه: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] (7)؛ يعني بذلك: تتبع.
والآخرُ: القراءةُ والدِّراسةُ؛ كما تقولُ: فلانٌ يتلوا القرآنَ؛ بمعنى: أنه يقرؤه ويدرسُه؛ كما قال حَسَّانُ بُنُ ثَابِتٍ:
نَبِيٌ يَرَى ما لا يَرَى النَّاسُ حَولَهُ ... ويَتلُو كتابَ اللهِ في كلِّ مَشهَدِ
ولم يخبرْنا الله جلَّ ثناؤه ـ بأي معنى التِّلاوةِ كانت تلاوةُ الشَّياطينِ الذين تَلَوا ما تَلَوه من السِّحْرِ على عهدِ سُلَيمَانَ ـ بخبرٍ يقطعُ العذرَ.
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:410).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:410).
(3) مجاز القرآن (1:48). ونصُّه هكذا: «أي: تتبع. وتتلوا: تحكي وتكلم به، كما تقول: يتلوا كتاب الله؛ أي: يقرؤه». ويظهر أن قوله: «أي: تتبع»، مقحمٌ؛ لأن من نقل عنه هذا الموضع لم يذكر هذا التفسير، والله أعلم.
(4) تفسير غريب القرآن (ص:59).
(5) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:410).
(6) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:410).
(7) هذه قراءة حمزة والكسائي. ينظر: القراءات وعلل النحويين فيها (1:270).
(1/464)
________________________________________
وقدْ يجوزُ أنْ تكونَ الشياطينُ تَلَتْ ذلك دراسةً وروايةً وعملاً، فتكونَ كانتْ متَّبِعَتَهُ بالعملِ، ودارسَتَهُ بالروايةِ. فاتَّبعَ اليهودُ منهاجَها في ذلك، وعَمِلَتْ به، وروته» (1).
4 - واختلفوا في لفظِ «التَّأوِيلِ» منْ قولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] على قولينِ:
القولُ الأولُ: تَاوِيلُهُ: حَقِيقتُه التي يصيرُ إليها.
ويَدخلُ في ذلك المتشابهُ الذي لا يعلمُهُ إلاَّ اللهُ، وقال بهذا التَّفسيرِ أكثرُ أهلِ العلمِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومن جاء بعدهم من العلماءِ.
والمرادُ بالمتشابهُ هنا: كلَّ ما لم يدركه البشرُ مما ذكرَ في القرآنِ، وهو ما يتعلَّقُ بالغيبيَّاتِ: حقائِقها وكيفيَّاتِها، ووقتَ وقوعِها، دونَ المعنى الذي يمكنُهم علمُه.
ومِمَّنْ قالَ به منَ السَّلفِ: عَائِشَةُ بنت الصِّديقِ (ت:58) (2)، وعُرْوَةُ بُنُ الزُّبَيرِ (ت:94)، وعُمَرُ بُنُ عَبْدِ العَزِيزِ (ت:101)، ومَالِكُ بُنُ أَنَسٍ (ت:179) (3)، وغيرُهم.
وقال به من اللُّغويِّين: عليُّ بن حمزة الكِسَائِيُّ (ت:183) (4)، وأبو زكريَّا الفَرَّاءُ (ت:207) (5)، والأخْفشُ (ت:215) (6)، وأبو عُبَيدٍ القاسم بن سلام
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:411).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6:202)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: حكمت بشير ياسين (ص:76)، والقطع والائتناف، للنحاس، تحقيق: الدكتور أحمد خطاب العمر (ص:212).
(3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6:203).
(4) ينظر: القطع والائتناف (ص:213)، ومعاني القرآن، للنحاس (1:351).
(5) معنى كلامه في معاني القرآن يؤدي إلى هذا القول، ينظر (1:191).
(6) ينظر: القطع والائتناف (ص:213)، ومعاني القرآن، للنحاس (1:351).
(1/465)
________________________________________
(ت:224) (1)، وأبو حَاتِم السجستانيُّ (ت:255) (2)، وأبو إسحاق الزَّجَّاجُ (ت:311) (3)، وأبو بكر بن الأنباريِّ (ت:328) (4)، وغيرُهم (5).
القولُ الثاني: تأويله: تفسيره، ومعرفةُ معناه.
وقال به من السَّلفِ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (6)، ومجاهد (ت:104) (7)، والرَّبيعُ بن أنس البكريُّ (ت:139) (8).
ومن اللُّغويِّين: ابنُ قتيبة (ت:276) (9)، وعليُّ بنُ سليمانَ الأخفشُ (ت:315) (10)، وغيرهم. وقد اختارَ ابن جريرٍ الطبري هذا القولَ (ت:310) (11).
وسببُ الاختلافِ في هذا احتمالُ لفظِ التَّأويلِ في لغةِ العربِ لهذين المعنيينِ، بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ فيه (12)، واللهُ أعلمُ.
_________
(1) ينظر: القطع والائتناف (ص:213)، ومعاني القرآن، للنحاس (1:351).
(2) ينظر: القطع والائتناف (ص:213)، ومعاني القرآن، للنحاس (1:351).
(3) معاني القرآن وإعرابه (1:378).
(4) ينظر: الأضداد، له (ص:427).
(5) ينظر: القطع والائتناف (ص:212، 213)، ومعالم التنزيل، للبغوي (1:280)، وزاد المسير، لابن الجوزي تحقيق: محمد بن عبد الرحمن (1:303).
(6) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6:203).
(7) تفسير مجاهد (ص:249)، وتفسير الطبري، تحقيق، شاكر (6:203)، والأضداد، لابن الأنباري (ص:424)، والقطع والائتناف (ص:215).
(8) تفسير الطبري، تحقيق، شاكر (6:203).
(9) تأويل مشكل القرآن (ص:98 - 102).
(10) علي بن سليمان، أبو الحسن، المعروف بالأخفش الصغير، النحويُّ، سمع ثعلباً والمبرِّد وغيرهما، وأخذ عنه النحاس وغيره، توفي سنة (315). ينظر: إنباه الرواة (2:276 - 278)، وسير أعلام النبلاء (14:480 - 482). وينظر قوله في القطع والائتناف (ص214 - 215).
(11) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق شاكر (6:195 - 196، 200 - 201، 204).
(12) ينظر أمثلة أخرى: نحلة (النساء: 4)، نرتع (يوسف: 12)، مفرطون (النحل: 62)، تمنَّى (الحج: 52)، يأتل (النور: 22)، يطمثهنَّ (الرحمن: 74)، الهيم (الواقعة: 55)، مواقع النجوم (الواقعة: 75)، المساجد (الجن: 18)، معاذيره (القيامة: 15)، سفرة (عبس: 15).
(1/466)
________________________________________
ثانياً الاختلافُ بسببِ التَّضادِّ في دلالةِ اللَّفظِ
الأضدادُ: الألفاظُ التي تأتي للمعنى وضِدِّهِ؛ كلفظِ «جَلَلٍ»: للشَّيءِ العظيمِ والشَّيءِ الحقيرِ (1).
والتَّضَاد نوعٌ من المشتركِ اللَّفظيِّ، قال قُطْرُبُ (ت:206): «الوجهُ الثالثُ: أن يتَّفقَ اللَّفظُ ويختلفَ المعنى، فيكونُ اللَّفظُ الواحدُ على معنيينِ فصاعداً ... ومن هذا: اللَّفظُ الواحدُ الذي يجيءُ على معنيينِ فصاعداً، ما يكون متضادًّا في الشَّيءِ وضِدِّهِ» (2).
وقد اعتنى علماءُ اللَّغةِ بهذه الظَّاهرةِ اللُّغويَّة في كلامِ العربِ، فألَّفوا فيها المؤلفاتِ، منهم: قُطْرُبُ (ت:206)، وأبو عبيدة (ت:210)، والتَّوَّزِيُّ (ت:233)، وابنُ السِّكِّيتِ (ت:244)، وأبو حاتم (ت:255)، وابنُ الأنباريِّ (ت:328)، وغيرُهم.
ولم تَخْلُ هذه المؤلَّفاتُ من الأمثلةِ القرآنيَّةِ التي فُسِّرَت على هذه الظَّاهرةِ اللُّغويَّةِ، ولكنَّ الملاحظَ أنَّ بعضَ الأمثلةِ التي ذكرُوها من الأضدادِ لم يقعْ فيها خلافٌ بين المفسِّرينَ، وإنْ كانَ اللَّفظُ يأتي للمعنى وضِدِّهِ، لكن
_________
(1) ينظر: الأضداد، لابن الأنباري (1 - 6). والأضداد، لأبي حاتم السجستاني، تحقيق: د. محمد عودة أبو جري (ص:79)، والمزهر في علوم اللغة، للسيوطي (1:387).
(2) الأضداد، لقطرب، تحقيق: الدكتور حنّا حداد (ص:70). وينظر: المزهر في علوم اللغة (1:387).
(1/467)
________________________________________
أحد معانيه جاءَ في غيرِ القرآنِ، أو يجيءُ في موضعين من القرآنِ، ولكلِّ موضعٍ معنى يخالفُ الآخرَ ويُضادُّه، ومنْ ذلكَ: لفظُ «الظَّنِّ»، حيثُ يُستعملُ عندَ العربِ للشَّكِّ واليقينِ.
وقدْ وردَ في القرآن بالمعنيين، في موضعينِ مختلفينِ، قال ابنُ الأنباريِّ (ت:328): «فأمَّا معنى الشَّكِّ فأكثرُ من أن تُحصَى شواهدُه. وأمَّا معنى اليقين، فمنه قولُ اللهِ عزّ وجل: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12]، معناه: عَلِمْنَا. وقالَ جَلَّ اسمُهُ: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]، معناه: فَعَلِمُوا بغيرِ شَكٍّ ...» (1).
والمقصودُ أنَّ هذا اللَّفظَ، وإنْ كانَ من الأضدادِ، لم يقعْ بين المفسِّرينَ خلافٌ فيه في موضعٍ واحدٍ.
أمَّا أمثلةُ أحرفِ الأضدادِ التي وقعَ فيها خلافٌ، فمنها:
1 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «القُرْءِ» في قولِه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، على قولينِ:
القولُ الأولُ: الحَيضُ.
وبه قالَ عُمَرُ بن الخَطَّابِ (ت:23)، وعَلِيُّ بن أبي طالبٍ (ت:40)، وعبد اللهِ بنُ مسعود (ت:35)، وأبو مُوسَى الأشعريُّ (ت:44)، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ (ت:32)، وابنُ عباس (ت:68)، وسعيدُ بن جبيرٍ (ت:94)، ومجاهدٌ (ت:104)، والضَّحَّاكُ (ت:105)، وعكرمةُ (ت:105)، وقتادةُ (ت:117)، والسُّدِّيُّ (ت:128)، وغيرهم (2).
_________
(1) الأضداد، لابن الأنباري (ص:14). وينظر: الأضداد، لقطرب (ص:71)، والأضداد للأصمعي (ص:34)، والأضداد، لابن السِّكِّيت (ص:188) [كلاهما ضمن ثلاثة كتب في الأضداد، تحقيق: أوغست هفنر]، والأضداد، لأبي حاتم، تحقيق: الدكتور محمد عودة أبو جري (ص:84).
(2) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (4:500 - 506)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (2:415).
(1/468)
________________________________________
القولُ الثاني: الطهر.
وبه قالَ زيدُ بنُ ثابتٍ (ت:45)، وعائشةُ بنت الصِّدِّيقِ (ت:58)، ومعاويةُ بنُ أبي سفيانَ (ت:60)، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ بن الخطاب (ت:74)، وأبانُ بنُ عثمانَ بنِ عفانَ (ت:105) (1)، وسالمُ بنُ عبدِ اللهِ (ت:106) (2)، والزهريُّ (ت:124)، وغيرُهم (3).
وقدْ حكى اللُّغويُّونُ الذينَ كتبوا في معاني القرآنِ وغريبِهِ القولينِ، وممنْ حكاهُما: أبو عبيدة (ت:210) (4)، وابن قتيبة (ت:276) (5)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (6)، وابنُ عُزَيزٍ (ت:330) (7)، كما حكاهما ـ أيضاً ـ أصحابُ كُتُبِ الأضدادِ (8)، وكتبُ المعاجمِ اللُّغويةِ (9).
وسببُ الاختلافِ ـ كما هو ظاهرٌ هنا ـ التَّضادُّ في كلمةِ القُرءِ، وهي من الألفاظِ اللُّغويَّةِ التي لها أثرٌ في الحُكْمِ الشَّرعيِّ (علم الفقه) (10)؛ لأنَّ
_________
(1) أبانُ بنُ عثمانَ بنِ عفَّانَ، الفقيه، شَهِدَ الجمل مع عائشة، توفي في المدينة سنة (105). الطبقات (5:151 - 153)، وشذرات الذهب (1:131).
(2) سالم بن عبد الله بن عمر، الفقيه الزاهد المدني، روى عن أبيه وغيره، وقيل: أصحُّ الأسانيد: الزهري عن سالم عن أبيه، توفي سنة (106). الطبقات (5:195 - 201)، شذرات الذهب (1:133).
(3) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (4:506 - 511)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (2:414).
(4) مجاز القرآن (1:74).
(5) تفسير غريب القرآن (1:302).
(6) غريب القرآن (ص:293).
(7) معاني القرآن (1:302).
(8) ينظر: الأضداد، لقطرب (ص:108)، الأضداد المنسوب للأصمعي (ص:5)، الأضداد، لابن السِّكِّيت (ص:163)، الأضداد، لأبي حاتم (ص:115)، الأضداد، لابن الأنباري (ص:27).
(9) ينظر على سبيل المثال: تهذيب اللغة (9:272)، ومادة: (قرأ) في لسان العرب وتاج العروس.
(10) ينظر على سبيل المثال: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ط: دار الكتب المصرية (3:113 - 117)، وأضواء البيان، للشنقيطي (1:211 - 219).
(1/469)
________________________________________
المطلوبَ من المرأةِ المطلَّقَةِ أنْ تتربَّصَ ثلاثةَ أطهارٍ، أو ثلاثَ حِيَضٍ.
ولما كانت المسألةُ متعلِّقةً بحُكْمٍ شرعيٍّ كَثُرَ ورودُ أعيانِ العلماءِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ في هذه المسألةِ، وهذا ظاهرٌ في الآياتِ المتعلِّقةِ بالأحكامِ، حيث تجدُ أقوالَ الفقهاء منهم مذكورةً مع أقوالِ المفسِّرينَ، والله أعلم.
2 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «عَسْعَسَ» من قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] على قولينِ:
القولُ الأولُ: أدبرَ.
وممنْ قالَ به منَ السَّلفِ: عليٌّ (ت:40) (1)، وابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (2)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (3)، وقتادةُ (ت:117) (4)، وابنُ زيدٍ (ت:182) (5)، واختاره الطبريُّ (ت:310) (6)، وزعمَ الفَرَّاءُ (ت:207) أنَّ المفسرينَ أجمعُوا على هذا القولِ (7)!، وهو كما ترى.
القول الثاني: أقبلَ.
وممن قال به من السَّلف: مجاهدُ (ت:104) (8)، والحسنُ (ت:110) (9)، وعطيَّةُ العوفيُّ (ت:111) (10).
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:78).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:78).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:78).
(4) تفسير عبد الرزاق (2:285)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (30:78).
(5) تفسير الطبري ط: الحلبي (30:78).
(6) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:79).
(7) معاني القرآن (3:242).
(8) تفسير مجاهد (ص:708)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي، ط: الحلبي (30:78).
(9) تفسير عبد الرزاق (2:285)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (30:78). وعبارته فيهما: «إذا غَشِيَ النَّاس». وفيها معنى الإقبالِ؛ لأنه لا يغشاهم إلاَّ إذا أقبلَ.
(10) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:79).
(1/470)
________________________________________
وقدْ حَكَى هذينِ القولينِ أصحابُ كتبِ معاني القرآنِ وغريبِهِ؛ كأبي عبيدةَ (ت:210) (1)، وابنِ قُتَيبةَ (ت:276) (2)، والزَّجَّاجِ (ت:311) (3)، وابنِ عُزَيزٍ (4). كما حكاهما أصحابُ كتبِ الأضدادِ؛ كابنِ السِّكيتِ (ت:244) (5)، وأبي حاتم (ت:255) (6)، وابنِ الأنباريِّ (ت:328) (7).
وكذا حكاهما بعض أصحابِ معاجمِ اللُّغةِ؛ كابنِ دُرَيدٍ (ت:321) (8)، والأزهريِّ (ت:370) (9)، وابنِ فارسَ (ت:395) (10)، وغيرِهم (11).
3 - اختلفَ المفسرونُ في لفظِ «سُجِّرَتْ» (12) من قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] على أقوالٍ، ومنها قولانِ متضادَّانِ، وهما:
القولُ الأول: مُلِئت (13) وفاضتْ.
وبه قالَ: الرَّبِيعُ بنُ خُثَيم (ت:61) (14)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (15)،
_________
(1) مجاز القرآن (2:278 - 288).
(2) تفسير غريب القرآن (ص:517).
(3) معاني القرآن وإعرابه (5:292).
(4) غريب القرآن (ص:265).
(5) الأضداد (ص:167).
(6) الأضداد (ص:113).
(7) الأضداد (ص:32).
(8) جمهرة اللغة (1:203).
(9) تهذيب اللغة (1:78 - 79).
(10) مجمل اللغة، لابن فارس، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان (3:614).
(11) ينظر: المحيط في اللغة (1:80)، ومادَّة (عسس) في لسان العرب وتاج العروس.
(12) وقع مثل هذا الخلاف أيضاً في قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6].
(13) فسَّر بعض السلف التسجير بأنَّه الإيقاد، ورد ذلك عن: علي بن أبي طالب، ومجاهد، وشمر بن عطية، وابن زيد، وسفيان [ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي 27:19، 30:67 - 68]، ويمكن أن يعود هذا إلى معنى الامتلاء؛ أي: أنَّ البحار ملئت ناراً فتأجَّجت.
(14) ينظر قوله في تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:68).
(15) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:68).
(1/471)
________________________________________
ومحمد بنُ السَّائبِ الكَلْبِيُّ (ت:146) (1).
ومن اللُّغويِّينَ: الفَرَّاءُ (ت:207) (2)، وابنُ قُتَيبَةَ (ت:276) (3)، وثعلب (ت:291) (4).
القولُ الثاني: يبستْ، وذهبَ ماؤهَا.
وبه قالَ: الحسنُ البصري (ت:110) (5)، وقتادةُ (ت:117) (6).
وقدْ حكى بعضُ علماءِ اللُّغةِ الذين كتبوا في الأضدادِ هذين القولينِ (7)، كما حكاهما أصحابُ المعاجمِ اللغوية (8). قال أبو زيدٍ الأنصاريُّ (ت:215): «المسجورُ: يكونُ المملوءَ، ويكون الذي ليس فيه شيءٌ» (9).
وبهذا يظهر أنَّ مادَّة «سجر» ذات دلالتين متضادَّتين في لغةِ العربِ، والآيةُ تحتملُ هاتين الدِّلالتين، فقال مفسِّرٌ بأحدهما، وقال الآخرُ بالدِّلالة الأخرى، اجتهاداً منهما في اختيارِ إحدى الدِّلالتينِ، والله أعلم.
والمقصودُ: أنَّ التَّضادَّ الذي في دلالةِ الكلمةِ الواحدةِ كان سبباً في
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:68).
(2) معاني القرآن (3:239). وينظر (3:91).
(3) تفسير غريب القرآن (ص:516). وقد فسر أبو عبيدة الموضع الذي في سورة الطور بهذا التفسير، ينظر: مجاز القرآن (2:230).
(4) تاج العروس، مادة (سجر).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:68). وعلَّقه البخاري عنه، ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8:562).
(6) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:68).
(7) ينظر: الكتب الآتية من كتب الأضداد: لقطرب (ص102)، والتَّوَّزِيِّ (ص:103)، وابن السِّكِّيت (ص:168)، وأبو حاتم (144)، وابن الأنباري (ص:54).
(8) ينظر ـ مثلاً ـ: تهذيب اللغة (10:575 - 576)، ولسان العرب وتاج العروس، مادة (سجر).
(9) تهذيب اللغة (10:577).
(1/472)
________________________________________
الخلافِ بينَ المفسِّرينَ. ويمكنُ بالرجوعِ إلى كتبِ الأضدادِ لمعرفةُ ما حُكِيَ من أحرفِ الأضدادِ التي وقعَ فيها خلافٌ بينَ المفسرينَ (1).
ومما ينبغي أن يُذكَر: أنَّه ليس كلُّ حرفٍ ادُّعي فيه التَّضادُّ أنَّ هذا يقبلُ على إطلاقِه؛ بلْ لا بُدَّ من تحريرِ هذا التَّضادِّ، فإنْ ثبتَ، قيلَ به، وإلاَّ فَلا، واللهُ أعلمُ.
ومنْ ذلكَ ادَّعاءُ التَّضَادِّ في دلالةِ «بعد» منْ قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].
قال أبو حاتم (ت:255): «وقالوا: قَبْلُ وبَعْدُ منَ الأضدادِ، وقالوا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105]: منْ قَبْلِ الذِّكرِ.
_________
(1) ينظر الألفاظ التالية:
1 - الأنداد، في أضداد ابن الأنباري (ص:23 - 26).
2 - أسروا الندامة، في أضداد قطرب (ص:89)، والأصمعي (ص:21)، والتوَّزي (ص:91)، وابن السِّكِّيت (ص:176)، وابن الأنباري (ص:45 - 46).
3 - القانع، في أضداد ابن الأنباري (ص:66 - 68).
4 - وراء، في أضداد قطرب (ص:105)، والأصمعي (ص:20)، والتَّوَّزي (ص:89)، وأبي حاتم (ص:92 - 94)، وابن الأنباري (ص68 - 71).
5 - مُفْرَطون، في أضداد قطرب (ص:114)، وابن الأنباري (ص:71 - 72).
6 - أكاد أخفيها، في أضداد قطرب (ص:87)، والتَّوَّزي (ص:91)، وابن السِّكِّيت (ص:177)، وأبي حاتم (ص:131)، وابن الأنباري (ص:95).
7 - كلما خبت، أضداد ابن الأنباري (ص:175).
8 - فما فوقها، أضداد قطرب (ص:133)، وأبي حاتم (ص:118).
9 - الصريم، في الأضداد لقطرب (ص:121)، والأصمعي (ص:41)، والتَّوَّزي (ص:99)، وابن السِّكِّيت (ص:195)، وأبي حاتم (ص:121)، وابن الأنباري (ص:84 - 85). وغيرها.
(1/473)
________________________________________
وقالوا في قوله سبحانه وتعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، قالوا: قبل ذلك؛ ألا ترى أنَّه قال: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]، ثمَّ قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] (1)، فخَلْقُ الأرضِ قبلَ السَّماءِ، فلما قال: {بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، كانَ المعنى: قبلَ ذلكَ؛ لأنَّ قبلها: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27، 28]، ثمَّ قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].
قال أبو حاتم: وقدْ قالوا غيرَ هذا التفسيرِ» (2).
وفي تفسيرِ لفظِ قبل بلفظِ بعد = خروجٌ باللَّفظِ عن الأصلِ الذي جُعِلَ له، ولا يصِحُّ هذا إلاَّ إذا لم يُفهَمِ الكلامُ إلاَّ على معنى الضِّدِّ، والآيةُ مفهومةٌ على بقاءِ «بعد» على ظاهرِها، لذا لا حاجةَ لادِّعاءِ التَّضَادِّ في دلالتها.
وسأذكرُ أقوال المفسِّرينَ في آيةِ سورةِ الأنبياءِ (3)؛ ليتبيَّنَ أنَّ الآيةَ لها معنًى على الأصلِ منْ دلالةِ «بعد»، وأنَّه لا حاجَة إلى هذا التَّأويلِ الذي يُخرِجُها عن أصلِها اللُّغويِّ من معنى البعديَّةِ.
أوردَ الإمامُ الطبريُّ (ت:310) ثلاثةَ أقوالٍ للسَّلفِ في معنى هذه الآيةِ، وكُلُّ هذه الأقوالِ تجعلُ لفظةَ «بعد» على دلالتِها اللُّغويَّةِ المعروفةِ في البعديَّةِ.
القول الأولُ: الزَّبُورُ: كتبُ الأنبياءِ، والذِّكْرُ: أُمُّ الكتابِ؛ أي: اللَّوحُ المحفوظُ.
_________
(1) الآيات بتمامها: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
(2) الأضداد، لأبي حاتم السجستاني (ص:167)، وينظر: الأضداد، لقطرب (ص:100)، فقد فسر: بعد؛ بمعنى: مع.
(3) قد سبق الجوابُ عن آيةِ سورة النازعات.
(1/474)
________________________________________
وبه قال: سعيدُ بنُ جبيرٍ (ت:94)، ومجاهدُ (ت:104)، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زيدٍ (ت:182) (1)، واختارَه الطبريُّ (ت:310) (2).
القولُ الثاني: الزَّبُورُ: الكتبُ التي أنزلَها اللهُ على مَنْ بعدَ موسى من الأنبياءِ، والذِّكْرُ: التَّورَاةُ.
وبه قالَ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (3).
القولُ الثالثُ: الزَّبُورُ: زَبُورُ دَاوُدَ عليه السلام، والذِّكْرُ: التَّورَاةُ، وهو قول عامرٍ الشَّعْبِيِّ (ت:103) (4).
وهذه الأقوالُ ـ كما ترى ـ ليسَ فيها إخراجٌ لدلالةِ «بعد» اللُّغويَّةِ عن أصلِها في البَعْدِيَّةِ المضَادَّةِ لمعنى القَبليَّةِ، وبقاءُ اللَّفظِ على معناه المعروف أولى من إخراجِه عنه بلا دلالةٍ سوى الاحتمالِ والتَّوَهُّمِ، واللهُ أعلمُ.
_________
(1) ينظر أقوالهم في تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:103).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:104).
(3) ينظر أقوالهم في تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:103).
(4) ينظر تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:103 - 104).
(1/475)
________________________________________
ثالثاً الاختلافُ بسببِ مخالفةِ المعنى الأشهر في اللَّفظ
يَرِدُ على اللَّفظِ في لغةِ العربِ احتمالُ الاشتراكِ، كما سبقَ، وقدْ تكونُ دلالةُ اللَّفظِ على المعنيينِ في درجةٍ قويَّةٍ من الاحتمالِ، وقبولِ السياقِ لهما، وقدْ تتفاوتُ هذه المعاني في هذا الاحتمالِ، فيكون اللَّفظُ دائراً بين معنيينِ أحدهُما أشهرُ وأظهرُ في معنى اللَّفظِ من الآخرِ. وإذا دارَ الكلامُ بينَ هذينِ، قُدِّمَ الأشهرُ والأظهرُ من معاني اللَّفظِ، ومنْ أمثلةِ ذلك:
ذكرَ الطبريُّ (ت:310) في قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] أقوالاً عنِ السَّلفِ:
القول الأول: وتَرْجَمَهُ بقوله: اجعلوا بيوتَكم مساجدَ تُصَلُّونَ فيها، وذكر ذلك عن ابنِ عباسِ (ت:68)، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ (ت:96) (1)، ومجاهدٍ (ت:104)، والضَّحَّاكِ (ت:105)، وزيدِ بنِ أسلمَ (ت:136)، وأبي مالك غزوانِ الغِفَارِيِّ الكوفيِّ (2)، والربيعِ بن أنس (ت:139) (3).
_________
(1) إبراهيم بن يزيد، النخعي الكوفي، روى عن مسروق وعلقمة وغيرهما، كان هو والشعبي فقيهي الكوفةِ، ينظر: سير أعلام النبلاء (4:520 - 529)، وغاية النهاية (1:29 - 30).
(2) غزوان الغفاري، أبو مالك، الكوفي، صاحب التفسير، ثقةٌ، روى عن ابن عباس، وروى عنه السدي وغيره. ينظر: الطبقات الكبرى (6:295)، والجرح والتعديل (9:435).
(3) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (15:171 - 173).
(1/476)
________________________________________
الثاني: اجعلوا مساجدكم قِبَلَ الكعبة، وذكر ذلك عن ابن عباس (ت:68)، ومجاهد (ت:104)، والضحاك (ت:105)، وقتادة (ت:117) (1).
الثالث: وتَرْجَمَهُ بقوله: اجعلوا بيوتكم يُقَابِلُ بعضُها بعضاً، وذكر ذلك عن سعيد بن جبير (ت:94) (2).
وقد اختار الطبريُّ (ت:310) البيوتَ المسكونةَ، فقالَ: «وأولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ، القولُ الذي قدَّمْنَا بيانه، وذلك أنَّ الأغلبَ منْ معاني البيوتِ ـ وإنْ كانتْ المساجدُ بيوتاً ـ البُيُوتُ المسكونةُ، إذا ذُكِرَتْ باسمِها المطلقِ، دونَ المساجدِ، لأنَّ المساجدَ لها اسمٌ هي به معروفةٌ، خاصٌّ لها، وذلكَ: المساجدُ. فأمَّا البُيُوتُ المطلَقَةُ بغيرِ وصلِها بشيءٍ، ولا إضافتِها إلى شيءٍ، فالبُيُوتُ المسكونةُ. وكذلكَ القبلةُ، الأغلبُ من استعمالِ النَّاسِ إيَّاها في قِبَلِ المساجدِ للصَّلواتِ.
فإذا كانَ ذلكَ كذلكَ، وكانَ غيرَ جائزٍ توجيهُ معاني كلامِ اللهِ إلاَّ إلى الأغلبِ من وجوهِهَا، المستعملِ بين أهلِ اللِّسانِ الذي نزلَ به، دونَ الخفيِّ المجهولِ، ما لم تأتِ دلالةٌ تدلُّ على غيرِ ذلكَ ـ ولم يكنْ على قولِه: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} دلالةٌ تَقْطَعُ العُذْرَ بأنَّ معناه غيرُ الظَّاهرِ المستعملِ في كلامِ العربِ ـ لم يَجُزْ لنا توجيهُهُ إلى غيرِ الظَّاهرِ الذي وصفْنَا، وكذلك القولُ في: قِبْلَةً» (3).
والمقصودُ هاهنا أنَّ ورودَ هذه المعاني المخالفةِ للمعنى الأشهرِ في مدلولِ اللَّفظِ عندَ العربِ كانتْ سبباً في حَمْلِ بعضِ المفسرينَ الآياتِ عليها. وسأذكرُ بعضَ الأمثلةِ على ذلكَ:
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (15:173 - 175).
(2) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (15:175).
(3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (15:175 - 176). وينظر أمثلةً أخرى في الجزء نفسه (321، 333)، وفي طبعة الحلبي (2:36، 468، 616)، (30:6، 13، 67، 177).
(1/477)
________________________________________
1 - اختلف المفسرونَ في لفظِ «ضَحِكَتْ» من قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] على قولين:
القولُ الأولُ: أنَّ معنى ضَحِكَتْ: الضَّحِكُ المعروفُ.
وهو قولُ الجمهورِ.
فمنْ أهلِ التَّفسيرِ من السَّلَفِ: عبد الله بنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (1)، ووَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ الصَّنْعَاني (ت:114) (2)، وقتادةُ بن دعامة السَّدوسيُّ (ت:117) (3)، وإسماعيلُ السُّدِّيُّ (ت:128) (4)، ومحمد بن السائب الكلبيُّ (ت:146) (5).
ومن أهل اللُّغةِ: أبو زكريَّا الفَرَّاءُ (ت:207) (6)، وأبو العباس ثَعْلَبٌ (ت:291) (7)، وأبو إسحاق الزَّجَّاجُ (ت:311) (8)، وأبو جعفر النَّحَّاسُ (ت:338) (9).
القولُ الثاني: ضَحِكَتْ: حَاضَتْ.
وقدْ وردَ عنْ بعضِ السَّلفِ منهم: ابنُ عبَّاسٍ (ت:68) (10)، ومجاهدُ (ت:104) (11)، وعكرمةُ (ت:105) (12).
_________
(1) ينظر: الدر المنثور (4:448).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (12:72).
(3) تفسير عبد الرزاق (1:267)، تفسير الطبري، ط: الحلبي (12:72)، وتفسير ابن أبي حاتم (6:2054).
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (12:72).
(5) تفسير عبد الرزاق (1:267)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (12:72).
(6) معاني القرآن (2:22).
(7) تهذيب اللغة (4:89).
(8) معاني القرآن وإعرابه (3:62).
(9) معاني القرآن (3/ 364).
(10) تفسير ابن أبي حاتم (6:2055).
(11) تفسير الطبري، ط: الحلبي (12:73)، وفي هذه الراوية: علي بن هارون، وهو مجهول، وعمرو بن الأزهر العتكي، وهو كذاب يضع الحديث. ينظر: تعليق محمود شاكر على هذا الأثر في تفسير الطبري (15:392).
(12) تفسير عبد الرزاق (1:267)، والدر المنثور (4:452)، عن أبي الشيخ، وقد ذكر =
(1/478)
________________________________________
ومن اللُّغويِّينَ: صاحبُ كتابِ العينِ (1)، ونقل ابن قتيبة (ت:276) القولينِ ولم يعترضْ على هذا القولِ (2)، ونقل الطبريُّ هذا المعنى عنْ بعضِ البصريِّينَ مع شواهدِهِم عليه (3).
وقال أبو بكر بن دريد (ت:321): «وفي التَّنْزِيلِ: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] ذكرَ المفسِّرونَ أنَّها حَاضَتْ، واللهُ أعلمُ.
قالَ أبو بكرٍ: ليسَ في كلامِهِم: ضَحِكَتْ في معنى حَاضَتْ إلاَّ في هذا» (4).
وقال أبو بكر بن الأنباريِّ (ت:328): «أنكرَ الفَرَّاءُ، وأبو عبيدةَ، وأبو عبيدٍ أنْ يكون «ضحكت» بمعنى حَاضَتْ. وَعَرَفَهُ غيرُهم، قالَ الشَّاعِرُ (5):
تَضْحَكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ ... وَتَرَى الذِّئبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ
قال بعضُ أهلِ اللُّغةِ: معناه: تحيضُ» (6).
وسببُ هذا الخلافِ أنَّ المعنى الأوَّلَ ـ أي: الضحكَ ـ هو المشهورُ في دلالةِ اللَّفظِ، أمَّا الثاني فقليلٌ، ولذا أنكرَهُ بعضُ اللُّغويينَ، ولكَّنه إنكارٌ مردودٌ، إذ المُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النَّافي، ومنْ حفظَ حُجَّةٌ على منْ لم يحفظْ (7).
_________
= عكرمة ـ في رواية أبي الشيخ عنه ـ شاهداً شعرياً:
إني لآتِي العِرْسَ عِنْدَ طُهُورِهَا ... وَأَهْجُرُهَا يَوماً إذا هِيَ تَضْحَكُ
(1) كتاب العين (3:58).
(2) تفسير غريب القرآن (ص:205).
(3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (15:392 - 393).
(4) جمهرة اللغة (1:546).
(5) البيت مُختلفٌ في نسبتِه، فنُسِبَ للشَّنْفَرى، ولتأبَّطَ شَرّاً، ولابن أخته، ولخلف الأحمر، ينظر: المعجم المفصَّل في شواهد اللغة العربية (6؛285).
(6) زاد المسير، تحقيق: محمد عبد الرحمن (4:103)، وينظر: مفاتيح الغيب، للرازي، ط: دار الكتب العلمية (18:22).
(7) ينظر: روح المعاني (12:98).
(1/479)
________________________________________
وهذا القولُ، فضلاً عن ورودِهِ عنِ السَّلفِ، فإنه مُدعَّمٌ بالشَّواهدِ الشِّعريَّةِ التي تُثْبِتُهُ لغةً (1)، وهو مع ثبوتِه لغةً، أضعفُ في التَّفسير منَ القولِ الأوَّلِ (2)؛ لأنَّ المعنى المشهورَ مُقدَّمٌ على المعنى القليلِ.
2 - اختلفَ المفسرونَ في لفظِ «بَرْداً» منْ قولِهِ تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا} [النبأ: 24] على أقوالٍ، منها:
القولُ الأولُ: البَرْدُ: الهواءُ الباردُ الذي يُبَرِّدُ حرارةَ الجسمِ، ونُسِبَ إلى مقاتلِ بنِ سليمانَ (ت:150) (3)، واختارَه الطَّبريُّ (ت:310) (4)، وأبو جعفر النَّحَّاسُ (ت:338) (5).
وقال المَاوَرْدِيُّ (ت:450) (6): «أنه بردُ الماءِ وبردُ الهواءِ، وهو قول كثيرٍ من المفسرين» (7).
القولُ الثاني: البَرْدُ: النَّومُ، وقد نُسِبَ هذا القول إلى بعضِ السَّلفِ،
_________
(1) ينظر الشواهد في: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (15:393)، وروح المعاني (12:98)، ولسان العرب، مادة (ضحك).
(2) ينظر: غرائب التفسير، للكرماني، تحقيق: شمران سركال (1:512)، وقد جعله من العجيب [والعجيب: ما فيه أدنى خلل ونظر (2:1413)]. وينظر: المحرر الوجيز، ط: قطر (7:345)، والتسهيل لعلوم التنْزيل، لابن جُزَي (2:109).
(3) معالم التنْزيل، للبغوي (4:438)، وزاد المسير، لابن الجوزي (8:165).
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:12).
(5) إعراب القرآن، للنحاس، تحقيق: الدكتور زهير غازي زاهد (5:131 - 132)، والقطع والائتناف، للنحاس (ص:758).
(6) علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن المَاوَرْدِيُّ، القاضي الشافعيُّ، أصوليٌّ، فقيهٌ، أديبٌ، مفسِّرٌ، له في التفسير كتابُ النُّكت والعيون، توفي سنة (450). ينظر: طبقات الشَّافعية، لابن السُّبْكي (5:267 - 285)، ومعجم المفسرين (1:375).
(7) النكت والعيون، للماوردي، تحقيق: السيد بن عبد المقصود (6:187)، وينظر: المحرر الوجيز (15:287).
(1/480)
________________________________________
وهم: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (1)، ومجاهدُ بنُ جبر (ت:104) (2)، والسُّدِّيُّ (ت:128) (3).
وهو اختيارُ أبي عبيدةَ (ت:210) (4)، وابنِ قُتَيبَةَ (ت:276) (5)، وثعلب (ت:291) من اللُّغويِّين (6)، وقد نُسِبَ هذا القول إلى غيرهم (7).
وإذا نظرتَ إلى هذين المدلولينِ، فإنَّكَ ستجدُ أنَّ المدلولَ الأولَ الذي فُسِّرَ به لفظِ «البَرْدِ» أشهرُ في إطلاقِ اللُّغةِ من المدلولِ الثاني.
قال النَّحَّاسُ (ت:338)؛ «وأصَحُّ هذه الأقوالِ القولُ الأوَّلُ؛ لأنَّ البَرْدَ ليسَ باسمٍ من أسماءِ النَّومِ، وإنَّما يُحتَالُ فيه، فيقال للنَّومِ بَرْدٌ؛ لأنَّه يُهَدِّي العَطَشَ.
والواجبُ أن يُحْمَلَ كتابُ اللهِ جلَّ وعَزَّ على الظَّاهِرِ والمعروفِ من المعاني، إلاَّ أنْ يَقَعَ دَليلٌ على غيرِ ذلكَ» (8).
_________
(1) معالم التنْزيل، للبغوي (4:438).
(2) النكت والعيون، للماوردي (6:187)، وزاد المسير، لابن الجوزي (8:165).
(3) النكت والعيون، للماوردي (6:187)، وزاد المسير، لابن الجوزي (8:165).
(4) مجاز القرآن، لأبي عبيدة (2:282).
(5) تفسير غريب القرآن (ص:509).
(6) تفسير القرآن، للسمعاني، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، وغنيم عباس (6:139).
(7) نسبه ابن عطية في تفسيره إلى الكسائي، والفضل بن خالد، ومعاذ النحوي. ينظر: المحرر الوجيز (15:287).
(8) إعراب القرآن، للنحاس (5:132)، وينظر له القطع والائتناف (ص:758). وهذا الترجيح مأخوذ من الإمام الطبري، كما هي عادة النحاس في استفادته من ترجيحات الطبري واختياراته، قال الطبريُّ في تفسيره، ط: الحلبي (30:13): «والنوم، وإن كان يُبرِد غليل العطش ـ فقيل له من أجل ذلك: البرد ـ فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره». وينظر: التحرير والتنوير (30:37).
(1/481)
________________________________________
والمقصودُ أنَّ هذا الخلافَ كان بسببِ حَمْلِ اللَّفظِ على المعنيينِ: الأشهرِ المعروفِ، والأقلِ المنكورِ، واللهُ أعلمُ.
3 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «يَنْصُرَهُ» مِنْ قولِه تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] على قولينِ:
القولُ الأوَّلُ: ينصره: يعينُهُ في الغَلَبَةِ على عدوِّهِ.
وقال به من السَّلفِ: قتادةُ (ت:117)، وابنُ زيد (ت:182) (1).
وقال به من اللُّغويينَ: الفَرَّاءُ (ت:207) (2)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (3)، والنَّحَّاسُ (ت:338) (4)، والأزْهَرِيُّ (ت:370) (5).
القول الثاني: ينصره: يرزقه، وفي معنى الآية احتمالان:
الاحتمال الأول: ما قاله ابنُ عبَّاسٍ (ت:68) من أنَّ المعنى: منْ كانَ يَظُنُّ أنَّ اللهَ لَنْ يَرْزُقَ محمداً صلّى الله عليه وسلّم (6).
الاحتمال الثاني: ما قاله مجاهدٌ بن جبر (ت:104) من أنَّ المعنى: منْ كانَ مِنَ النَّاسِ يظنُّ أنَّ الله لنْ يرزقه، فالضَّميرُ يعودُ على «مَنْ» (7).
ومن اللُّغوييِّنَ من فسَّر النَّصرَ بالرِّزقِ؛ كأبي عبيدةَ (ت:210) (8)، وقد رجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ (9).
_________
(1) ينظر قولهما في تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:126).
(2) معاني القرآن (2:218).
(3) معاني القرآن وإعرابه (3:417).
(4) إعراب القرآن (4:90).
(5) تهذيب اللغة (12:160).
(6) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:127).
(7) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:127).
(8) مجاز القرآن (2:46)، واستدلَّ له بنثرٍ من قول العرب وبشعر.
(9) تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:128).
(1/482)
________________________________________
وسببُ هذا الخلافِ أنَّ المعنيينِ واردانِ في هذه اللَّفظةِ، غيرَ أنَّ الأوَّلَ هو المعنى المشهورُ في اللَّفظةِ، لذا لم يردْ هذا الخلافُ في مدلولِ هذه اللَّفظةِ في القرآنِ إلاَّ في هذا الموضعِ؛ أي أنَّ الغالبَ في مدلولِها في القرآن: معنى التأييدِ والإعانةِ، وهو المعروفُ من معنى اللَّفظِ.
قال ابنُ عَطِيَّة (ت:542): «والنَّصْرُ: معروفٌ، إلاَّ أنَّ أبا عُبَيدَةَ ذَهَبَ به إلى معنى الرِّزْقِ» (1).
_________
(1) المحرر الوجيز (10:239)، وقد رجَّح معنى النصر (ص:242)، فقال: «وأبين وجوه هذه الآية: أن تكون مثلاً، ويكون النصر المعروف».
(1/483)
________________________________________
رابعاً الاختلاف بسبب أصل اللَّفظ واشتقاقه
الاشتقاقُ: أَخْذُ صِيغَةٍ مِنْ أخرى مع اتفاقِهما معنًى، ومادةً أصليةً، وهيئةَ تركيب لها؛ ليُدلَّ بالثانيةِ على معنى الأصلِ، بزيادةٍ مفيدةٍ؛ لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئةً؛ كضاربِ من ضَرَبَ، وحَذِرٌ من حَذِرَ، وهذا هو الاشتقاقُ الأصْغَرُ (1)، وهو المقصود هنا.
والاشتقاقُ عَوْدٌ باللَّفظِ إلى أصلِه لِيُنْبِئَ عن معناه. وبما أنه مفيدٌ في معرفةِ أصلِ الكلمةِ، فإنه يفيدُ كذلك في معرفةِ خطأ بعضِ التَّفاسيرِ الشَّاذَّةِ التي خرجَ بها قائلوها عن المعنى المعروفِ بسببِ دعوى باطلةٍ، ومن ذلك:
1 - ما وردَ عن بعضِهم في تفسيرِ قولِ الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] بأنَّ إماماً: جمعُ أُمٍّ.
قالَ الزَمَخْشَرِيُّ (ت:538): «ومِنْ بِدَعِ التَّفاسِيرِ أنَّ الإمامَ جمعُ أُمٍّ، وأنَّ الناسَ يُدعونَ يومَ القيامةِ بأمهاتِهم، وأنَّ الحكمةَ في الدعاءِ بالأمهاتِ دونَ الآباءِ رعايةُ حَقِّ عيسى عليه السلام، وإظهارُ شَرَفِ الحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وأنْ لاَ يَفْتَضِحَ أولادُ الزِّنَى. وليتَ شِعْرِي، أيُّهما أبدعُ: أصِحَّةُ لفظِهِ، أمْ بَهَاءُ حِكْمَتِهِ!» (2).
_________
(1) ينظر: المزهر، للسيوطي (1:346 - 347)، وينظر غيره من التعريفات في: الكليات، للكفوي، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري (ص:117)، والعلم الخفاق في علم الاشتقاق، محمد صديق خان، تحقيق: نذير محمد مكتبي (ص:65 - 76).
(2) الكشاف، للزمخشري، ط: دار المعرفة (2:459). وقد جعله الكرماني في كتابه: =
(1/484)
________________________________________
2 - وفَسَّرَ الزَّجَّاجَ (ت:311) قولَ الله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، فقال: «وهذا موضعٌ لطيفٌ يحتاجُ أنْ يُشْرَحَ، وهو أنَّ الحُسْبَانَ في اللُّغةِ هو الحِسَابُ، قالَ تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]، المعنى: بِحِسَابٍ. فالمعنى في هذه الآيةِ: أنْ يُرسِلَ عليها عذابَ حُسْبَانٍ، وذلك الحُسْبَانُ هو حِسَابُ ما كسبتْ يداكَ» (1).
وقد تعقَّبَ الأزْهَرِيُّ (ت:370) هذا القولَ، فقال: «والذي قاله الزَّجَّاجُ في تفسيرِ هذه الآيةِ بعيدٌ، والقولُ ما قاله الأخْفَشُ وابنُ الأعْرَابِيِّ وابنُ شُمَيْل (2)، والمعنى ـ والله أعلم ـ: أنَّ اللهَ يُرْسِلُ على جَنَّةِ الكافرِ مَرَامِيَ مِنْ عَذابٍ، إما بَرَدٌ، وإمَّا حِجَارَةٌ، أوْ غيرُها مما شاءَ، فَيُهْلِكُهَا ويُبْطِلُ غَلَّتَهَا» (3).
في هذا المثال جعل الزَّجَّاجُ (ت:311) الحُسْبَانَ: جمع الحِسَابِ، والصَّحيحُ أنَّه جمعٌ، واحدتُه: حُسبانة، وهي المرامي.
ويلاحظُ في هذا المثالِ أنَّ لفظَ «حِسَاب» ولفظَ «حُسْبَانَة» مفترقان في الرسمِ، وقد اتفقا في الجمعِ على صيغةٍ واحدةٍ، وهي الحُسْبَانُ، وهذا ما أحدثَ ذلك الخلافَ في تفسيرِ هذه اللَّفظةِ، وهذا يعني أنَّ هذا المبحثَ مرتبطٌ بمبحثِ المشتركِ اللَّفظيِّ من هذه الجِهَةِ، واللهُ أعلمُ.
والأمثلةُ لهذا المبحثِ كثيرةٌ (4)، وسأذكرُ منها ما يلي:
_________
= غرائب التفسير، من قسم العجيب الذي فيه أدنى خَلَلٍ ونَظَرٍ (2:636)، ونسبه البغوي في تفسيره، تحقيق: خالد العك، ومروان سرور (3:126)، إلى محمد بن كعب القرظي.
(1) معاني القرآن وإعرابه (3:290).
(2) الحُسْبَانُ في قولِهم: المَرَامي. ينظر: تهذيب اللغة (4:332).
(3) تهذيب اللغة (4:332). وقد فسر السلف هذه الآية بمثل ما ذكره عن الأخفش وابن الأعرابي وابن شميل، ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (15:248 - 249).
(4) هذا المبحثُ وما سبقه من المباحثِ مما يصلحُ لتوسيع البحثِ فيه لكثرةِ الأمثلةِ التطبيقيَّةِ التي يمكنُ أن يُدرِّسها من أرادَ التفسير، ويجعلها مادَّةً للنقاشِ مع طلاَّبِه.
(1/485)
________________________________________
1 - اختلفَ المفسِّرونَ في تفسيرِ لفظِ «عِضِينَ» من قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] على قولين:
القول الأول: عِضِين: فرَّقُوه فِرَقاً، وجعلوه أعضاءَ كأعضاءِ الجَزُورِ [أي: الجمل]، فهو من العضو.
وقالَ به منَ السَّلفِ:
حبرُ الأمَّةِ ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (1)، وسعيد بنُ جُبَير (ت:94) (2)، ومجاهدٌ بن جبر (ت:104) (3)، والضَّحَّاكُ بنُ مزاحم (ت:105) (4)، وعِكْرِمَةُ (ت:105) (5)، وعطاءُ بنُ أبي رَبَاح (ت:114) (6)، وقَتَادَةُ (ت:117) (7)، وعبد الرحمن بنُ زَيد (ت:182) (8).
وممن قال به منَ اللُّغويينَ:
الخَلِيلُ بنُ أحمدَ (ت:175) (9)، والفَرَّاءُ (ت:207) (10)، وأبو عُبَيدَةَ (ت:210) (11)، والأخفشُ (ت:215) (12)، وابنُ الأعرابيِّ (ت:231) (13)، وابنُ قُتَيبَةَ (ت:276) (14).
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:61، 64).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:62، 64).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:63).
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:64).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:62).
(6) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:64).
(7) تفسير عبد الرزاق (1:303)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (14:64).
(8) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:64).
(9) مقاييس اللغة، لابن فارس (4:347).
(10) معاني القرآن (2:92).
(11) مجاز القرآن (1:355).
(12) معاني القرآن (2:413).
(13) ينظر: لسان العرب، مادة (عضا).
(14) تفسير غريب القرآن (ص:239).
(1/486)
________________________________________
القولُ الثاني: عِضِين: سِحْرٌ.
ووردَ هذا التَّفسيرُ عن مجاهدٍ (ت:104) (1)، وعِكْرِمَةَ (ت:105) (2).
وقد أشارَ إلى هذا القولِ جَمْعٌ منْ أهلِ اللُّغةِ (3).
وسببُ هذا الخلافِ: اختلافُ النَّظرِ إلى أصلِ هذا اللَّفظِ واشتقاقِهِ، قالَ الأزهريُّ (ت:370) مبيناً ذلك: «وأمَّا قولُ اللهِ جلَّ وعزَّ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]، فقدِ اختلفَ أهلُ العربيَّةِ في اشتقاقِ أصلِهِ وتفسيرِه، فمنهم من قالَ: واحدُها عِضَةٌ، وأصلُها عَضْوَةٌ، من عَضَّيْتُ الشَّيءَ: إذا فَرَّقتُهُ، جعلوا النُّقصانَ الواو [كذا]، والمعنى: أنَّهم فرَّقوا ـ يعني: المشركون ـ أقاويلَهم في القرآنِ؛ أي: فجعلوه مَرَّةً كَذِباً، ومَرَّةً سِحْراً، ومَرَّةً شِعْراً، ومَرَّةً كِهَانَةً.
ومنهم منْ قالَ: أصل العِضَةِ عِضِهَةٌ، فاستثقلُوا الجمعَ بينَ هاءينِ، فقالوا: عِضَةٌ، كما قالوا: شفةٌ، والأصلح شَفَهَةٌ، وكذلك سَنَةٌ، وأصلُها: سَنَهَةٌ.
وقالَ الفَرَّاءُ: العِضُونَ في كلامِ العربِ: السِّحْرُ (4)، وذلكَ أنَّه جعلَه من العِضْهِ، وَرُوِيَ عنْ عِكْرِمَةَ أنَّه قالَ: العِضْهُ: السِّحْرُ بلسانِ قُرَيشٍ. وهم يقولون للسَّاحِرِ: عَاضِهٌ (5). والكِسَائِيُّ (6) ذهبَ إلى هذا» (7).
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:66).
(2) تفسير عبد الرزاق (1:303)، وغريب الحديث، للحربي، (3:925)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (14:66).
(3) ينظر: معاني القرآن، للفراء (2:92)، ومعاني القرآن، للنحاس (4:43)، وينظر: الصحاح، مادة (عضه)، ولسان العرب وتاج العروس، مادة (عضا).
(4) ينظر: قوله في معاني القرآن (2:92).
(5) ينظر قوله في تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:66).
(6) ينظر: غريب الحديث، للحربي (3:925).
(7) تهذيب اللغة (1:130 - 131).
(1/487)
________________________________________
2 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «صلصال» منْ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] على قولين:
القولُ الأولُ: الصِّلْصَالُ: الطِّينُ اليابسُ الَّذي إذا نَقَرْتَهُ صَلَّ؛ أي: أصدرَ صوتاً.
وبه قالَ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (1)، وقتادةُ (ت:117) (2).
ومِنَ اللُّغويينَ: أبو عبيدةَ (ت:210) (3)، وابنُ قتيبةَ (ت:276) (4)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (5).
القولُ الثاني: الصَّلْصَالُ: المُنْتِنُ.
وبه قالَ مجاهد (ت:104) (6). ولم أجدْ أحداً مِنَ اللُّغويينَ قالَ به، وإنْ كانَ بعضُهم قدْ ذَكَرَهُ عنْ مجاهد (ت:104) (7).
والقولُ الأوَّلُ جعلَ أصلَ الكلمةِ مِنَ الصَّلْصَلةِ؛ أي: الصَّوتُ، ومنه: صَلْصَلَةُ اللِّجَامِ، والحُلْيِ؛ أي: صوتُهُما، والصَّلْصَلَةُ: صَوتُ الرَّعْدِ إذا كانَ صَافِياً، ويقالُ لِلْفَرَسِ إذا كانَ حَادَّ الصَّوتِ: فَرَسٌ صَلْصَالٌ (8).
وأمَّا القولُ الثاني، فجعلَ أصلَه مِن صَلَّ الشَيءُ، إذا تغيَّرَ وأنْتَنَ.
_________
(1) الدر المنثور (5:76).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:27). وقد ترجم الطبري لهذا القول المذكور، وأورد الرواية عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، وليس فيها تصريح بحدوث الصوت، فتركتها.
(3) مجاز القرآن (1:350).
(4) تفسير غريب القرآن (ص:237 - 238).
(5) معاني القرآن وإعرابه (3:178).
(6) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:28).
(7) ينظر: تهذيب اللغة (12:113)، وتاج العروس، مادة (صلل).
(8) ينظر: لسان العرب، مادة (صلل).
(1/488)
________________________________________
قالَ الطَّبريُّ (ت:310): «وقالَ آخرونُ: الصَّلْصَالُ: المُنْتِنُ، وكأنَّهم وجَّهوا ذلكَ إلى أنَّه مِنْ قولِهم: صَلَّ اللَّحْمُ، وأَصَلَّ: إذا أَنْتَنَ» (1).
3 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «مُسْتَمِرٌّ» من قولِه تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] على أقوالٍ، منها:
القولُ الأوَّلُ: مُسْتَمِرٌّ، ذاهبٌ وزائلٌ.
وقالَ به منَ السَّلفِ: مجاهدُ بن جبرٍ (ت:104) (2)، وقتادةُ بن دعامة السدوسي (ت:117) (3).
ومِنَ اللُّغويِّينَ: الفَرَّاءُ (ت:207) (4)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (5).
القولُ الثاني: مُسْتَمِرٌّ: شَدِيدٌ قَوِيٌّ.
وقدْ نُسِبَ إلى أبي العَالِيَةِ (93)، والضَّحَّاكِ بنِ مُزَاحِمٍ (ت:105) (6).
وممن قال به من أهلِ اللُّغةِ: أبو عبيدةَ (ت:210) (7)، وابنُ قتيبةَ (ت:276) (8)، وابنُ عُزَيزٍ السِّجسْتَانِيُّ (ت:330) (9).
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:28)، وينظر: تهذيب اللغة (12:113).
(2) تفسير مجاهد (ص:633)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (27:88)، وعلَّقه عنه البخاري في صحيحه (فتح الباري: 8:482). وينظر: تغليق التعليق، لابن حجر، تحقيق: سعيد القزقي (4:326 - 327).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27 - 88).
(4) معاني القرآن (3:104).
(5) معاني القرآن وإعرابه (5:85).
(6) ينظر: معالم التنْزيل (4:258)، والمحرر الوجيز (14:141)، وزاد المسير (7:243).
(7) مجاز القرآن (2:240).
(8) تفسير غريب القرآن (ص:431).
(9) غريب القرآن (ص:330).
(1/489)
________________________________________
ومن ثَمَّ، فإنَّ أصلَ اللَّفظِ على التَّفسيرِ الأوَّلِ: مَرَّ يَمُرُّ: إذا ذَهَبَ (1). وأصلُه على التَّفسير الثَّاني: أنَّه مُسْتَفعِلٌ مِنَ الإمْرَارِ، مِنْ قولِهم: قدْ مَرَّ الحَبْلُ: إذا صَلُبَ وَقَوِيَ واشْتَدَّ (2).
وبهذه الأمثلةِ يظهرُ أنَّ التَّفسيرِ يختلفُ باختلافِ النَّظرِ إلى أصلِ اللَّفظةِ، وإنْ كانتْ صُورةُ اللَّفظِ في الأصلينِ تنتهي إلى صيغةٍ واحدةٍ (3).
_________
(1) ينظر: تهذيب اللغة (15:198).
(2) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:88)، وتفسير غريب القرآن (ص:431).
(3) الأمثلة في هذا الباب كثيرة، وينظر الألفاظ التالية في تهذيب اللغة، مع موازنتها بأقوال المفسرين: حصيراً (4:233)، حسوماً (4:344)، حاق (5:126)، المحيض (5:159)، تصدى (12:104)، مسنون (12:301)، مثاني (15:138)، أماني (15:534).
(1/490)
________________________________________
خامساً الاختلاف بسبب المعنى القريب المتبادر للذهن والمعنى البعيد لِلَّفظِ
إذا كان للفظِ مدلولانِ، أحدهما قريبٌ متبادرٌ للذِّهنِ، والآخرُ بعيدٌ، وسمعْتَ متكلِّماً يتكلَّم بهذا اللَّفظِ، فإنَّ الغالبَ أن يتبادرَ إلى ذهنِكَ المعنى الظَّاهِرُ القريبُ، دون المعنى البعيدِ الذي لا يُوصَلُ إليه إلاَّ بتقليبِ النَّظرِ في المعاني المحتملةِ.
فلو قالَ قائلٌ: اهْجُرْ فلاناً، لذهبَ الذِّهنُ إلى معنى التَّرْكِ، أي: اتركُهُ وصحبتَهُ، لأنَّ هذه الدِّلالةَ هي المعنى المتبادرُ القريبُ من الذِّهنِ في مدلولِ هذا اللَّفظِ. وقدْ لا يَخْطُرُ ببالِكَ أنَّ المرادَ هاهنا السَّبُ، وهو معنى آخرُ مُحْتَمَلٌ في دلالةِ هذا اللَّفظِ.
والتَّفريقُ بينَ المعنى القريبِ والمعنى البعيدِ يمكنُ أنْ تكونَ كثرةُ الاستعمالِ هي المرجعَ في معرفتِهِ، فكثرةُ استعمالِ العربِ لهذا اللَّفظِ في هذا المعنى دونَ ذاكَ يجعلُه أقربُ إلى الذِّهْنِ مِنْ غيرِه عندَ وُرُودِ الاحتمالِ عليه في سياقٍ مِنْ سِياقاتِ الكلامِ.
وقدْ وَرَدَتْ ألفاظٌ في القرآنِ حملَها المفسِّرونَ على معانٍ محتملةٍ فيها، غيرَ أنَّ بعضَها يكونُ أقربَ إلى الذِّهنِ مِنْ بعضٍ، لشهرتِه وكثرة استعمالِه في أحدِ معاني اللفظِ.
ومِنْ هذه الأمثلةِ التي وقعَ خلافٌ فيها بينَ المُتَأَوِّلينَ لكتابِ الله، ما يأتي:
(1/491)
________________________________________
1 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ الأعناقِ مِنْ قوله تعالى: {إِنْ نَشَا نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، على أقوالٍ:
القولُ الأول: أعناقهم: الأَعْنَاقُ المعروفَةُ؛ أي: الرِّقَاب.
ومِمنْ قالَ بهِ مِنَ السَّلفِ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (1)، ومجاهدُ بنُ جبرٍ (ت:104) (2)، وقُتادةُ (ت:117) (3).
ومن اللُّغويِّينَ: الفَرَّاءُ (ت:207) (4)، وأبو عبيدةَ (ت:210) (5)، ونَسَبَهُ المُبَرِّدُ (ت:285) إلى عَامَّةِ النَّحويِّينَ (6)، ورجَّحَهُ الطبريُّ (ت:310) (7).
القولُ الثَّاني: أعناقهم: كُبَرَاؤهم وأشرافُهم.
وقدْ نَسَبَهُ الفَرَّاءُ (ت:207) إلى مجاهد (ن:104) (8).
وقالَ به: قُطْرُبُ (ت:206) (9)، وابنُ عُزَيْزَ (ت:330) (10).
القولُ الثَّالثُ: أعناقهم: جَمَاعَتُهُمْ.
وقالَ به بعضُ اللُّغويِّينَ: صاحبُ كتابِ العينِ (11)، وأبو زيدٍ الأنصاريُّ
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (19:59).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (19:59).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (19:59)، وتفسير ابن أبي حاتم (8:2750).
(4) معاني القرآن (2:277).
(5) مجاز القرآن (2:83).
(6) الكامل (2:669).
(7) قال الطبري: «وأولى الأقوالِ في ذلك بالصواب، وأشبهُها بما قال أهل التأويل في ذلك: أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة للآية التي ينْزلها الله عليهم من السماء». تفسير الطبري، ط: الحلبي (19:62).
(8) معاني القرآن: (2:277)، وقد نسبه إليه ـ كذلك ـ النحاسُ في معاني القرآن (5/ 62).
(9) النكت والعيون، للماوردي (4:165).
(10) غريب القرآن (ص:257).
(11) كتاب العين (1:168).
(1/492)
________________________________________
(ت:215) (1)، وابنُ فَارِسَ (ت:395) (2).
وقد نَسَبَهُ النَّحَّاس (ت:338) إلى الأخفشُ (ت:215) (3)، كما نَسَبَهُ الأزهريُّ (ت:370) إلى أكثرِ المفسِّرين (4).
إذا تأملتَ هذه الأقوالَ، وجدتَ أنَّ القولَ الأوَّلَ الذي قال به السَّلفُ وجمعٌ من اللغويِّينَ أقربُ إلى الذِّهنِ مِنَ المعنيينِ الآخَرَيْنِ، وهما ـ مع كونهما محتملينِ ـ مرجوحانِ بسبب أنَّ القولَ الأوَّلَ هو الأقربُ المتبادرُ للذِّهنِ، واللهُ أعلمُ (5).
2 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ الثِّيابِ مِنْ قَوْلِه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] على أقوالٍ، منها:
القولُ الأوَّلُ: ثيابك: الثيابُ الملبوسةُ، ويكونُ ذلك بإبعادِ النجاسةِ عنها.
_________
(1) ينظر: نسبته إليه في: الكامل، للمبرد (2:669)، ومعاني القرآن، للنحاس (5:63)، ومقاييس اللغة، لابن فارس (4:159).
(2) مقاييس اللغة (4:159).
(3) معاني القرآن، للنحاس (5:63). والذي في معاني القرآن للأخفش (2:460): «يزعمون أنها على الجماعات».
(4) تهذيب اللغة (1:252). وهذه النسبة إن كان المراد بها مفسري السلف، ففي ذلك نظر، والله أعلم.
(5) لا يشكل على هذا قوله: {خَاضِعِينَ} حيث جاءت على جمع ما يعقل، والأعناق تجمع على ما لا يعقل، وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة، منها.
1 - أنها لما نُسِب إليها فعل يناسب العقلاء جاء الجمع على جمعهم؛ كقوله تعالى: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
2 - أنَّ خاضعين صفةٌ للكنايةِ عن القوم، التي هي الضمير «هم» في أعناقهم، والتقدير: فظلت أعناق القوم خاضعين. وقد سبق ذكرُ هذا التخريجِ، وينظر: مجاز القرآن (2:83)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (19:59 - 62).
(1/493)
________________________________________
وبه قال: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (1)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (2)، وعِكْرِمَةُ (ت:105) (3)، وطَاوُسُ بنُ كَيسَانَ اليمانيُّ (ت:106) (4)، ومحمدُ بنُ سِيرينَ (ت:110) (5)، وعبدُ الرحمن بن زيد (ت:182) (6)، وسُفْيَانُ بنُ عُيَينَةَ (ت:198) (7)، والشافعيُّ (ت:204) (8).
القولُ الثَّاني: أنَّ الثيابَ: النَّفْسُ، ويكونُ ذلك بتزكيَتِها، وعبَّرَ عنها بعضُهم بقولِه: «عَمَلَكَ فَأَصْلِحْهُ، وكانَ الرَّجُلُ إذا كانَ خبيثَ العمل، قالوا: فلانٌ خبيثُ الثِّيابِ، وإذا كانَ حَسَنَ العملِ، قالوا: فلانٌ طاهرُ الثِّيابِ» (9).
وورد هذا المعنى عن ابنِ عبَّاسٍ (ت:68) (10)، والنَّخَعِيِّ (ت:96) (11)، وعامرٍ الشَّعْبِيِّ (ت:103) (12)، ومجاهدِ بنِ جبرٍ (ت:104) (13)، وعَطَاءِ بنِ أبي رباحٍ (ت:114) (14)، وقتادةَ (ت:117) (15).
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29: 145، 146)، وتفسير ابن أبي حاتم (10:3382).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:146).
(3) نسبه إليه: أبو المظفر السمعاني في تفسيره (6:89)، والبغوي في تفسيره (4:413)، وابن الجوزي في تفسيره (8:121).
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:146).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:146).
(6) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:147).
(7) نسب إليه هذا القولَ ابنُ قتيبة في تفسير غريب القرآن (7:495).
(8) أحكام القرآن، للبيهقي (ص:81).
(9) هذا قول أبي رزين، ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:146).
(10) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:145، 146).
(11) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:146).
(12) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:146).
(13) نسبه إليه البغوي في تفسيره (4:413). كما نسبه إليه الضحاك والزهري.
(14) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:146).
(15) تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:146). وعبارة قتادة: «طهِّرها من المعاصي، =
(1/494)
________________________________________
وقال به منَ اللُّغويِّين: الفَرَّاءُ (ت:207) (1)، وابنُ قُتَيْبَةَ (ت:276) (2)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (3).
وإذا تأملتَ هذه الأقوالَ، وجدتَ أنَّ القولَ الأوَّلَ هو القريبُ المتبادرُ للذِّهنِ، بخلافِه القولُ الثَّاني الذي هو أبعدُ منه، إذ لا يتبادرُ إلى الذهنِ إرادته، وكلا القولينِ محتملٌ في الآيةِ (4)، والله أعلم.
3 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظ «حَمَّالَةَ الحَطَبِ» مِنْ قولِه تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] على قولين:
القولُ الأوَّلُ: حَمَّالَةَ الحَطَبِ: تحملُ الشَّوكَ، وتلقيه في طريقِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا قولُ ابنِ عَبَّاسٍ (ت:68) (5)، ومجاهدَ (ت:104) (6)، والضَّحَّاكِ (ت:105) (7)، والحَسَنِ (ت:110) (8)، وابنِ زيدٍ (ت:182) (9)، وعَطِيَّةَ العَوفِيِّ الجَدَلِيِّ (ت:111) (10)، واختارَه الطَّبَرِيُّ (ت:310) (11).
_________
= فكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يفِ بعهده أنه دَنِسُ الثياب، وإذا وفى وأصلح قالوا: مطهر الثياب».
(1) معاني القرآن (3:200).
(2) تأويل مشكل القرآن (ص:142)، وتفسير غريب القرآن (ص:495).
(3) معاني القرآن وإعرابه (5:245).
(4) ينظر في صحةِ احتمال القولين لمعنى الآية ـ مثلاً ـ: أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (4:1887)، والتحرير والتنوير (29:297).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:338).
(6) الدر المنثور (8:667).
(7) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(8) نسبه إليه هود بن محكم في تفسيره، وهو مختصر لتفسير يحيى بن سلام (4:542).
(9) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(10) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(11) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(1/495)
________________________________________
القولُ الثاني: حَمَّالَةَ الحَطَبِ: تمشي بالنَّميمةِ.
وهو قولُ مجاهد (ت:104) (1)، وعِكْرِمَةَ (ت:105) (2)، والحَسَنِ البصريِّ (ت:110) (3)، وقتادةَ (117) (4)، وسفيان الثوريِّ (ت:164) (5).
وبه قال: الفَرَّاءُ (ت:207) (6)، وابنُ قُتَيبَةَ (ت:276) (7).
والقولُ الأوَّلُ هو القولُ المتبادرُ الأقربُ إلى الذِّهنِ، وهو المعنى الظاهرُ مِنَ اللَّفظِ، قالَ الطَّبَريُّ (ت:310): «وأولى القولينِ عندي، قولُ مَنْ قالَ: كانتْ تَحْمِلُ الشَّوكُ، فتطرحُه في طريقِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنَّ ذلكَ هو أظهرُ معنى ذلكَ» (8).
والمرادُ بالشَّوكِ هنا: الشَّجرُ الذي فيه شوكٌ، قالَ عَطِيَّةُ العَوفِيُّ (ت:111): «كانتْ تَضَعُ العَضَاةَ (9) على طريقِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فكأنما يَطَأُ به كثيباً» (10)، وقالَ ابنُ زَيدٍ (ت:182): «كانتْ تأتي بأغصانِ الشَّوكِ، فتطرحُها باللَّيلِ في طريقِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم» (11)، وعلى هذا فمنْ عَبَّرَ بالشَّوكِ فإنَّه فَسَّرَ بالجزءِ الذي هو المقصودُ في الإيذاءِ، واللهُ أعلمُ.
_________
(1) تفسير مجاهد (ص:759)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(3) الدر المنثور (8:667).
(4) تفسير عبد الرزاق (2:331)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(6) معاني القرآن (3:299).
(7) تأويل مشكل القرآن (ص:160)، وتفسير غريب القرآن (ص:542).
(8) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339)، والعبارة فيها قلق، ولعل صحتها: «لأن ذلك هو أظهر معانيه»؛ لأنه كثيراً ما يعبِّر بهذه العبارة، والله أعلم.
(9) العضاة: كلُّ ذات شوك من الشجر، ينظر: القاموس المحيط، مادة: عضه.
(10) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(11) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:339).
(1/496)
________________________________________
والمعنى الثاني أبعدُ عن الذِّهنِ مِنَ المعنى الأوَّلِ، غيرَ أنَّه معروفٌ في اللُّغةِ، قالَ ابنُ قُتَيْبَةَ (ت:276): «قالَ ابنُ عَبَّاسٍ ـ في رواية أبي صالحٍ عنه ـ: الحَطَبُ: النَّمِيمَةُ، وكانتْ تُوَرِّشُ (1) بين النَّاسِ.
ومنْ هذا قيل: فلانٌ يَحْطِبُ عَلَيَّ: إذا أغرى به، شَبَّهُوا النَّمِيمَةَ بالحَطَبِ، والعَدَاوَةَ والشَّحْنَاءِ بالنَّارِ؛ لأنَّهما يقعانِ بالنَّمِيمَةِ، كما تُلْهِبُ النَّارُ الحَطَبَ، ويقالُ: نارُ الحِقْدِ لا تَخْبُو. فاستعاروا الحَطَبَ في موضعِ النَّمِيمَةِ. وقالَ الشَّاعِر (2) ـ وذَكَرَ امْرَأةً ـ:
مِنَ البِيضِ لَمْ تَصْطَدْ عَلَى حَبْلِ سَوْأَةً ... وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بالحَظْرِ الرَّطْبِ
أي: لم تُوجَدَ على أمرٍ قبيحٍ، ولم تَمْشِ بالنَّمائمِ والكذبِ.
والحَظْرُ: الشَّجَرُ ذو الشَّوكِ.
وقالَ آخرُ (3):
فَلَسْنَا كَمَنْ تُزْجَى المَقَالَةُ شَطْرَهُ بِقَرْفِ العَضَاةِ الرِّطْبِ والعَبَلِ اليَبْسِ» (4).
وبهذا يظهرُ أنَّ المعنيينِ محتملانِ في الآيةِ، غيرَ أنَّ أحدَهما أسبقُ إلى الذِّهنِ منَ الثاني. وهكذا كلُّ ما شاكلَ هذه الأمثلةَ (5).
_________
(1) التوريش: التحريش. ينظر: القاموس المحيط، مادة (ورش).
(2) جاء هذا البيت في تهذيب اللغة، للأزهري (ت:4/ 394): بالحطب الرطب، وكذا في مقاييس اللغة، لابن فارس (2:79)، وقد نقله عن الأزهري صاحبا لسان العرب وتاج العروس في مادة (حطب)، وورد البيت في تفسير القرطبي (20:239)، وصدره:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ........
(3) القِرْفُ: القِشْرُ، والمرادُ به في البيتِ: اللِّحاءُ الذي يكونُ على الساق. والعبل اليبس: الورق الساقطُ من الشجرِ، والله أعلم، ولم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر.
(4) تأويل مشكل القرآن (ص:160).
(5) ينظر مثلاً: تفسير «المساجد» بأنها أعضاء السجود في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وتفسير «الرجم» في مثل قوله: {لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] بأنه السبُّ. وتفسير «النعجة» في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} ...} [ص: 22] بأنه المرأة، وهناك غير هذه الأمثلة.
(1/497)
________________________________________
وقبلَ أنْ أختمَ هذا الفصلَ، أنبِّه على أمورٍ:
الأول: أنه قد تتفقُ الصيغةُ، ويختلفُ الأصلُ اللفظي المأخوذةُ منه، فما كانَ الأصلُ فيه مختلفاً، جعلتُ سببَ الاختلافِ فيه: النظر إلى أصل الاشتقاقِ، وما كان غير ذلك، جعلته من المشتركِ اللغويِّ، مثلُ لفظِ «مستمر»، هل هو من مرَّ يمرُّ، أو أمرَّ الحبلُ: إذا اشتدَّ وقوي.
فهما، وإن كانا اتفقا في صيغةِ المصدرِ إلاَّ أنَّ معناهما مختلفانِ، لذا قد يُحكمُ على التفسيرِ بهما أنهما من المشتركِ اللَّفظيِّ باعتبارِ اشتراكِ هذه الصيغةِ في الدلالةِ على هذا المعنى، ولكن إذا اعتبرتَ أصلِ اللفظِ جعلتَ الاختلافَ بسببِ النظرِ إلى أصلِ اللفظِ، وهو الأصحُّ، واللهُ أعلمُ.
أمَّا إذا اتفقت الصيغة والأصلُ كلفظِ «نجم»، فإنه من المشترك اللَّفظيِّ، ولا يدخلُه احتمالُ الاختلافُ بسبب أصل اللفظِ واشتقاقِه، لأنَّ أصله واحدٌ، والله أعلمُ.
الثاني: الفرقُ بين المعنى المشهورِ وضدِّه، والمعنى القريبِ وضدِّه.
لما جمعت الأمثلةَ من هذا البابِ وقسمتُها، جعلتُ كلَّ ما وقعَ عليه اعتراضٌ من العلماءِ في القسمِ المقابلِ للمشهورِ، أمَّا إذا لم يقعْ منهم اعتراضٌ على المعنى المذكورِ فإني جعلتُه من القسمِ المقابلِ للمعنى القريبِ.
الثالث: أنَّه يدخلُ في هذا البابِ ما كان الخلافُ فيه بسببِ حملِ اللَّفظِ على الحقيقةِ والمجازِ، عند من يقولُ به، لذا حملَ بعضُهم بعضَ هذه الأمثلةِ المذكورةِ على المجازِ، كالخلافِ في قولِه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، قال ابنُ العَرَبِيِّ (ت:543): «ليس يمتنعُ أنْ تُحْمَلَ الآيةُ على عمومِ المرادِ فيها بالحقيقةِ والمجازِ ...» (1).
وعوداً على بدءِ فإنَّ هذا الاختلافَ الكائنَ بسببَ اللُّغةِ كانَ له أثرٌ في تَعَدُّدِ المحتملاتِ التَّفسيريَّةِ، وكانتْ هذه المحتملاتُ متراجحةً بين القبولِ وعدمِه، وليس هاهنا محلُّ بحثِ هذه المسألةِ، وإنما المرادُ إبرازُ الأثرِ الذي أفرزَهُ هذا الاحتمالُ اللُّغويُّ في التَّفسيرِ، واللهُ الموفِّقُ.
_________
(1) أحكام القرآن، لابن العربي (4:1887).
(1/498)
________________________________________
الفصل الثاني
أثر التفسير اللغوي في انحراف المفسرين
(1/499)
________________________________________
تمهيد في تاريخ الانحراف
لا شكَّ أنَّ الانحرافَ يرتبطُ بعضُه ببعضٍ، ولا يأتي دَفْعَةً واحدةً، وقد كانَ للانحرافِ عنِ الإسلامِ أثرٌ واضحٌ في عقائدِ المسلمينَ، وبرصدِ ظاهرةِ الانحرافِ تَجِدُ أنَّ السَّبئِيَّةَ (1) ـ التي أفرزت الرَّفْضَ (2) فيما بعدُ ـ منْ أوائلِ الانحرافاتِ التي كانتْ تَنْخُرُ في جسمِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ.
وكانت مزامنةً لها بدعةُ الخوارجِ (3)، ثمَّ ظَهرتْ بدعةُ القَدَرِيَّةِ (4)، وكانتْ
_________
(1) السَّبَئيَّةُ: نسبةً إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، وكانوا يقولون بأحقيَّة عليِّ بالخلافة، حتى وصلوا إلى القول بألوهيته، والعياذُ بالله. ينظر: المعارف، لابن قتيبة (ص:622)، ومقالات الإسلاميين (1:86)، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، للملطي، تحقيق: يمان بن سعد الدين المياديني (ص:29 - 31).
(2) جعل الملطي السبئية فرقاً، وجعلهم من الروافض، ينظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، للملطي (ص:29)، وينظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص:174)، والبرهان في معرفة عقائد الأديان، للسكسكي (ص:85).
(3) الخوارج فِرَقٌ شتَّى، ومنهم المحكمة الذين كانوا في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وسموا خوارج لخروجهم عليه، ويسمَّون الحرورية، والشراة، ومن أشهر فِرَقِهم: الأزارقة والنجدات والإباضية، ومن أشهر عقائدهم: كفرُ مرتكب الكبيرة، ينظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، للملطي (ص:62 - 69)، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص:17 - 31).
(4) هم الذين ينفون القدر الإلهي السابق، ويقولون: الأمر أُنُفٌ، ويقولون بأنَّ الإنسان يخلق فعله، فلا ينسبونه إلى الله، وقد ظهرت بدعتهم في أواخر عهد الصحابة، وكان من أوائلهم معبد الجهني وغيلان الدمشقي، ثمَّ تلقَّفها المعتزلةُ من بعدهم، وصار هذا اللقب يُطلقُ عليهم. ينظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص:176 - 187)، والبرهان في معرفة عقائد الأديان (ص:49 - 50).
(1/501)
________________________________________
هذه الانحرافاتُ في عهدِ الصَّحابةِ، ثمَّ ظهرتْ في عهدِ التَّابعينَ بدعةُ الجَهْمِيَّةِ (1)، ثمَّ المُعْتَزِلَةِ والمُرْجِئَةِ (2).
وليس المرادُ هاهنا رصدَ هذه الحركاتِ، وإنما المرادُ التَّنبيه على أن هذه الحركاتِ كانَ لها آثارٌ في تفسيرِ القرآنِ، وكانتْ قدْ بَنَتْ تفسيرَه على ما تعتقدُه، فأظهرَ ذلكَ انحرافاً في التَّفسيرِ، وكانَ من جملتِهِ التَّفسيرُ اللُّغويُّ.
ويمكنُ للدَّارسِ لهذه الحركاتِ أنْ يَلْحَظَ بعضَ الأسبابِ في ظهورِها، ومنها:
1 - دخولُ بعضِ الكفَّارِ في الإسلامِ ظاهراً، والكيدُ له في الباطنِ؛ كعبدِ اللهِ بنِ سَبَإٍ اليهوديِّ (3)، الذي كانَ له أثرٌ واضحٌ في الأُمَّةِ، وكانَ منْ آثارِهِ التي بقيتْ: عقيدةُ الرَّفْضِ، التي صارتْ تُلقَّبُ بالشِّيعَةِ.
وقدْ سلكَ هذا السبيلَ الزَّنادقةُ (4) الذين عاشوا في ظِلِّ الإسلامِ وتظاهروا به، وكانوا فريقين:
_________
(1) نسبة إلى الجهم بن صفوان، وقد ظهرت هذه البدعة في آخر عهد بني أمية، ولهم أقوالٌ شنيعة في المعتقد؛ كفناء الجنة والنار، وإنكار صفات اللهِ؛ كعلوه على خلقه، وغير ذلك. ينظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، للملطي (ص:110 - 113)، والملل والنحل، للشهرستاني (ص:86 - 88).
(2) المرجئة: الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، وأنَّ مجرد المعرفة إيمان، ولا يمكن أن يجتمع في القلب معرفة وكفر. ينظر: التنبيه والرد، للملطي (ص:57، 155 - 164)، والملل والنحل، للشهرستاني (ص:139 - 146).
(3) عبد الله بن سبأ، من يهود اليمن، دخل الإسلام للكيدِ لأهلِه، وقد استغلَّ قرابة علي بن أبي طالب، وأوصله إلى درجة الربوبية، فكاد عليٌّ أن يقتله، ولكنه تركه، ينظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص:29)، وكشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، تحقيق: لطفي عبد البديع (3:126).
(4) الزنادقة هذا الاسم مما عُرِّبَ، وقد اختُلفَ في أصل وضعه ومعناه، فقيل: هم الدهرية: الذين يؤمنون بدوام الدهر وفاعليته، وقيل: هم المانوية الذين يبيحون المحارم وغيرها. =
(1/502)
________________________________________
فريقٌ غلبتْ عليه الشَّهواتُ، وإنْ لم يَخْلُ حالُهم من الشُّبَهِ، فهم يريدونَ الانفلاتَ منْ أوامرِ الدِّينِ، وعدمِ التَّقيُّدِ به، ويغلبُ على هؤلاءِ أنهم من الشُّعراءِ؛ كحَمَّاد عَجْرَدَ (161) (1)، وغيرِه ممن اتُّهِمَ منهم بالزَّنْدَقَةِ (2).
وفريقٌ أصحابُ شبهاتٍ ومناقشاتٍ وجدلٍ وإن كانَ لا يَخْلُو منْ شَهْوَةٍ في زَنْدَقَتِهِ، لكنْ غلبَ عليه جانبُ الجدلِ والمناظرةِ، وكانَ هذا الفريقُ أكثرَ أثراً من فريقِ الشَّهَوَاتِ.
وممن ذُكِر له مناظراتٌ من الفريقِ الأوَّلِ: الشاعرُ صالحُ بنُ عبدِ القدوسِ (ت:167) (3)، الذي قتله الخليفةُ العبَّاسيُّ المهديُّ (ت:169) (4) بتهمة الزَّندقة، وقد
_________
=
وقد صار هذا المصطلحُ يُطلقُ على المتحللين من الشرعِ الذين يدَّعونَ بقاءهم عليه، وهم يبطنون الكفر، وقيل غير ذلك. ينظر: رسالة في تحقيق تعريب الكلمة الأعجمية، لابن كمال باشا (ص:68 - 75).
وهذا المصطلحُ من المصطلحات التي تحتاج إلى دراسةٍ وتحريرٍ، إذ فيه غموضٌ في أصله، وعلى من يُطلقُ، وإذا كان بمعنى النفاقِ، فلمَ لا يُقالُ بدلاً عنه المصطلحَ الشرعيَّ؛ أي: المنافق.
(1) حماد بن عمر بن يونس، مولى بني سَوءة بن عامر بن صعصعة المشهور بحماد عجرد، شاعر مخضرم، قيل: كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمادون: حماد عجرد وحماد الرواية وحماد بن الزبرقان، يتنادمون، ويتعاشرون معاشرةٍ جميلة، ويتناشدون الأشعار، وكانوا كأنهم نفسٌ واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة جميعاً، توفي بالبصرة سنة (161).
ينظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8:296)، ومعجم الأدباء (10:249 - 254).
(2) المنتظم (8:297).
(3) صالح بن عبد القدوس، أبو الفضل البصري، كان حكيم الشعراء، زنديقاً متكلماً، يقدمه أصحابه في الجدال عن مذاهبهم، توفي سنة (167). ينظر: تاريخ بغداد (9:303 - 305)، ولسان الميزان (3:173)، وقد ذُكِرَ له مناظرات مع أبي الهذيل العلاّف، ينظر: المنتظم (8:287).
(4) المهدي، أبو عبد الله محمد بن المنصور كان جواداً، مُمَدَّحاً، وَصُولاً لأقاربه، حسن الأخلاق، قصَّاباً في الزنادقة، باحثاً عنهم، توفي سنة (169). ينظر: سير أعلام النبلاء (7:401)، وشذرات الذهب (1:266 - 269).
(1/503)
________________________________________
نُسِبَ له كتابُ الشُّكُوك (1).
وكانَ منَ الزَّنادقةِ الملحدينَ أصحابِ الشَّبَهِ الذينَ فَشَا أمرُهُم وكتبوا الكتبَ في النَّقْضِ على الإسلامِ والمرسلينَ أبو الحسين أحمد بن يحيى، المعروف بابنِ الرَّاونْدِيِّ (ت:298) (2)، وقد حفظتْ بعضُ الكتبِ شيئاً من زندقتِه وضلالته (3)، ككتابِ (الانتصار والرَّدِّ على ابن الرَّاوَنْدي الملحدِ) (4) لشيخِ المعتزلةِ البغداديين عبدِ الرَّحيمِ بنِ محمدٍ الخيَّاطِ (ت:300) (5).
وهذا الرجلُ وإنْ كانَ متأخراً إلاَّ أنه يُوَضِّحُ صورةً منْ صُوَرِ ما كانَ
_________
(1) وَرَدَ ذلك عن النَّظَّام (ت:231)، قال: «مات لصالح بن عبد القدوس ابنٌ، فمضى إليه أبو الهذيل ... فرآه حزيناً، فقال: لا أعرف لجزعك وجهاً، إلاَّ إذا كان الإنسان عندك كالزرع، فقال: إنما أجزع لأنه لم يقرأ كتاب «الشُّكُوك».
قال: وما كتاب «الشُّكُوك»؟
قال: كتاب وضعته، من قرأ فيه شكَّ فيما كان، حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن، حتى يظنُّ أنه قد كان.
قال أبو الهذيل: فشكَّ أنت في موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت، وإن كان قد مات، فشُكَّ أنه قد قرأ لك الكتاب، وإن كان لم يقرأه». المنية والأمل (ص:46).
(2) أحمد بن يحيى، أبو الحسين البغدادي، المعروف بابن الراوندي، كان من المعتزلة، ثمَّ فارقهم، وكان يلزم الرَّافضة، وصار ملحداً، وقد ألَّف كتباً في الحطِّ من شأن الإسلام والقرآن، وردَّ عليه بعض المعتزلة، كالجبائيين، والخياط، وغيرهم. توفي سنة (298) وقيل غيرها. المنتظم (13:108 - 117)، ووفيات الأعيان (1:94 - 95).
(3) مما حُفظَ من كلامه ما جاء في كتاب المنتظم لابن الجوزي (13:110 - 117)، وكتاب (المجالس المؤيدية)، للمؤيد في الدين هبة الله بن أبي عمران الإسماعيلي الفاطمي، وهو ردٌّ على ابن الراوندي، وهو موجود في كتاب من تاريخ الإلحاد، لعبد الرحمن بدوي.
(4) كتب الجاحظ كتاب (فضيلة المعتزلة)، فردَّ عليه ابن الراوندي بكتاب (فضيحة المعتزلة)، ثمَّ ردَّ ابن الخياط على ابن الراوندي بهذا الكتاب.
(5) عبد الرحيم بن محمد بن عثمان، أبو الحسين الخياط، أحد متكلمي المعتزلة البغداديين، كان كثير الردِّ على ابن الراوندي، المنية والأمل (ص:72 - 74)، ومقدمة كتاب الانتصار لمحمد حجازي (ص:26 - 28).
(1/504)
________________________________________
الملاحدةُ عليه في تلكَ الأزمانِ، وما كانتْ مناقشاتُهم تدورُ في فَلَكِهِ.
2 - ترجمةُ آثارِ الأممِ السابقةِ: منَ الفُرْسِ، والْهِنْدِ، واليُونَانِ، وغيرهم، وقدْ كانتْ بداياتُ ترجمتِها في عهد بني أُمَيَّةَ (1)؛ أيْ: في القرنِ الأوَّلِ منَ الهجرةِ النَّبَوِيَّةِ.
وقدْ أفرزَ هذانِ السَّببانِ نَتَاجاً عقلياً ظهرَ في آثارِ الجَهْمِيَّةِ والمعتزلةِ ومنْ جاءَ بعدهم من أهل البدعِ الذين نهلوا من علومِ الأوائِل (2)، وناقشوا الزَّنادِقَةَ الذينَ انتحلوا الإسلامَ، والملاحدةَ ممن لم يدخلْ في الإسلامِ (3).
_________
(1) يقول المسعودي: «... على عهده [أي: هشام بن عبد الملك (ت:125)] ظهرت الفِرَقُ في الإسلام، وانتشرت بعد ترجمة تصانيف ماني وبردستان التي نقلها من الفهلوية أو الفارسية عبد الله بن المقفع وغيره، وفي ذلك الوقت ظهرت كتب ابن الأرجح وحماد عجرد ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس، وظهرت الزندقة وراجت رواجاً كثيراً». نقلاً عن كتاب: الزندقة والزنادقة، لعاطف شكري أبو عوض، نشر دار الفكر (ص:118).
وقد كان خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (ت:90) عالماً بالطبِّ والكيمياء، أخذ ذلك عن مريانيس الراهب الرومي، وهو من أوائل من أخذ هذه العلوم، غير أنه لم يتلبس بعلم الفلسفة والمنطق، بل كان تابعياً فاضلاً، وقيل عنه: قد عَلِمَ عِلْمَ العرب والعجم. ينظر: معجم الأدباء (11:35 - 36).
(2) ينظر مثلاً في المنية والأمل: عن أبي الهذيل (ص:44)، وعن النظام (ص:48). فقد ورد أنهم أخذوا من علم الفلسفة.
(3) مما ذُكِر من كتب المعتزلة التي ردُّوا بها على هؤلاء، ومناظراتهم:
* واصل بن عطاء الغزال، له كتاب الألف مسألة في الرد على المانوية، ينظر: المنية والأمل (ص:37).
* أبو الهذيل العلاف، له مناظرات مع المجوس، ينظر: المنية والأمل (ص:44)، وناظر صالح بن عبد القدوس لما قال في العالم أنه من أصلين: النور والظلمة، ينظر: المنية والأمل (ص:45) وأمالي الشريف المرتضى (1:144). وناظر أبو الهذيل زاذان بخث الثنوي، بحضرة المأمون، ينظر: المنية والأمل (ص:63).
* أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي، له مناظرة مع السوفسطائية، ينظر: المنية والأمل (ص:75). =
(1/505)
________________________________________
اعتماد العقلِ المجرَّدِ في التَّصدِّي للزَّندقةِ:
من الملاحظِ من خلالِ تراجمِ الكتبِ أو المؤلفاتِ أنَّ بعض المعتزلةِ قد تصدّوا لهذا الانحرافِ المتزندقِ، لكنَّهم ناقشوه بعقلٍ مجردٍ غير معتمد على الشَّرعِ، أو بعقلٍ متأثرٍ بآراءٍ فلسفيَّةٍ، فأوقعَهم ذلك في مخالفاتٍ نَتَجَ عنها اعتقاداتٌ باطلةُ، وقد كان ذلك بسببِ بعضِ الإلزاماتِ التي كانتْ نتيجةً لهذه المناقشاتِ التي لا يوجد فيها مرجعٌ يُحتَكم إليه في النِّزاعِ سوى العقلِ المُجَرَّدِ (1).
والعقلُ يختلفُ باختلافِ الثقافاتِ التي كوَّنته، لذا، فليسَ من الغريب أنْ تنشأ انحرافاتٌ عندَ المعتزلةِ بسبب الإلزاماتِ التي كانتْ تصدرُ عن النِّقاشاتِ الجدليَّةِ بين المتزندقةِ والمعتزلةِ، أو بين معتزليٍّ ومعتزليٍّ آخر، فتنشأُ لهم بسببِ تلكَ الإلزاماتِ عقيدةٌ يعتقدونَها ويدافعونَ عنها.
والمعتزلةُ من أوَّلِ الفرقِ التي أعطتِ العقلَ المجرَّدَ حريَّةَ التَّسلُّطِ على النُّصوصِ، فلم يجعلوها من الثَّوابتِ التي يقيسونَ عليها.
لذا لا تجدُ لهم اتفاقاً في المسائلِ، وإن زعموا الاتفاقَ على الأصول الخمسةِ، إذ هم في فروعها ومباحثها فرقٌ شتَّى. وهم وإن كان بينهم ثباتٌ
_________
= * أبو بكر محمد بن إبراهيم الزبيري، ردَّ على ابن الراوندي، ينظر: المنية والأمل (ص:76).
* وممن نقض على ابن الراوندي بعض كتبه: أبو علي الجبائي، وأبو الحسين الخياط، وأبو هاشم الجبائي، وأبو بكر الزبيري، ينظر: المنية والأمل (ص:78).
(1) من أمثلة هذه المجادلات التي أفرزت معتقدات باطلة، مجادلة الجهم بن صفوان للسُّمَّنيَّةِ الذين لا يؤمنون إلاَّ بالمحسوسِ، قال أبو قدامة السرخسي: «سمعت خلف بن سليمان البلخي يقول: كان جهم من أهل الكوفة، وكان فصيحاً، لم يكن عنده علم، فلقيه ناس من السُّمَّنِيَّةِ فكلَّموه، فقالوا: صف لنا من تعبد. قال: فأجِّلوني، فأجَّلوه. فخرج إليهم، قال: هو هذا الهواء مع كلِّ شيءٍ، وفي كلِّ شيءٍ». ينظر: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي (3:380).
(1/506)
________________________________________
في أصولهم الخمسةِ، إلاَّ أنَّه ثباتٌ مستندٌ إلى العقلِ المجرَّدِ أوَّلاً، ثمَّ هم يردُّونَ كلَّ ما خالفَ ما أصَّلوه، ولو كانَ ظاهرَ الكتابِ أو السنَّةِ، أو إجماعَ الصحابةِ.
ومنْ نظرَ في مناقشاتِ المعتزلةِ فيما بينهم، ظهرَ له بُعْدُهُمْ عن الكتابِ والسُّنَّةِ وأقوالِ السَّلفِ الصالِحِ، كما يظهرُ له اعتدادُهم بالعقلِ، وأنَّ هَمَّ الواحدِ منهم أنْ يظفرَ بالمناقشةِ، وأن تكونَ له الصَّولَةُ، ولهم في ذلك عجائبُ (1).
لذا تجد أنه يتردَّدُ عندَهم قولُهم: «فإن قلتَ، قلتُ»، وليس تحت هذه المناقشاتِ طائلٌ ولا نائلٌ، بل إنهم يتجادلون لأجل الجدل، لا للوصول إلى الحقِّ (2).
_________
(1) منها: أنَّ النَّظَّام (ت:231) ناظر أبا الهذيل (ت:235) في «الجزء» فألزمه أبو الهذيل مسألة «الذَّرَّة والنعل»، وهو أول من استنبطه، فتحيَّر النَّظَّامُ، فلما جنَّ عليه الليل، نظر إليه أبو الهذيل، وإذا النَّظَّامَ قائمٌ، ورجله في الماء يتفكر، فقال: يا إبراهيم، هكذا حال من ناطح الكباش، فقال: يا أبا الهذيل، جئتك بالقاطع: أنه يظفر بعضاً يقطع بعضاً. فقال أبو الهذيل: ما يُقطع، كيف يَقطع؟. ينظر: المنية والأمل (ص:48).
(2) ومن ذلك ما ذكره ابن قتيبة (ت:276) من مناقشة دارت بين معتزليين في العلم الإلهي، قال: «وسأل آخرٌ آخرَ عن العلم، فقال: أتقول: إنَّ سميعاً في معنى عليم؟ قال: نعم. قال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]، هل سمعهم حين قالوه؟. قال: نعم.
قال: هل سمعهم قبل أن يقولوا؟. قال: لا.
قال: فهل علمه قبل أن يقولوه؟. قال: نعم.
قال له: فأرى في سميع معنًى غير معنى عليم. فلم يُجِب.
قال أبو محمد: قلت له وللأول [هو رجل معتزلي آخر حكى مناظرته قبل هذه]: قد لزمتكما الحجة، فلم لا تنتقلان عما تعتقدان إلى ما ألزمتكما الحجة؟
فقال أحدهما: لو فعلنا ذلك لانتقلنا في كلِّ يومٍ مرات.
وكفى بذلك حيرة!
قلت: فإذا كان الحق إنما يعرف بالقياس والحجة، وكنت لا تنقاد لها بالاتباع كما تنقاد بالانقطاع، فما تصنع بهما؟ =
(1/507)
________________________________________
وربما أُلزِم المناظِر منهم بأشياء باطلة في ذاتها، جرَّه إليها هذا الجدل العقيم، فالتزمها، وصارت له عقيدة يدافع عنها (1).
ومن الإلزامات الباطلة في هذه المناظرات، ما حُكِيَ عن أبي الهذيل العلاف (ت:235) (2) في انقطاعِ حركةِ أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ، وأنهم يصيرونَ إلى سكونٍ دائمٍ، قال الشَّهْرَسْتَاني (ت:548) (3): «قوله: إنَّ حركاتِ أهلِ الخُلدَينِ تنقطعُ، وأنَّهم يصيرونَ إلى سكونٍ دائمٍ خموداً، وتجتمعُ اللَّذاتُ في ذلك السُّكونِ لأهلِ الجنَّةِ، وتجتمعُ الآلامُ في ذلك السُّكونِ لأهلِ النَّارِ.
وهذا قريبٌ منْ مذهبِ جَهْمٍ (4)، إذ حكمَ بفناءِ الجنَّةِ والنَّارِ. وإنما التزم بذلك المذهبِ لأنَّه لما أُلْزِمَ في مسألةِ حدوثِ العَالَمِ: أنَّ الحوادثَ التي لا أوَّلَ لها كالحوادثِ التي لا آخرَ لها، إذْ كُلُّ واحدةٍ لا تتناهى.
_________
=
التقليد أربح لك، والمقام على أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولى بك». تأويل مختلف الحديث (ص:79).
(1) ومن ذلك ما حكاه ابن قتيبة (ت:276) عن أبي الهذيل (ت:235)، قال: «وحكيَ من خطئه في الاستطاعة أنه كان يقول: إن الفاعل في وقت فعله غير مستطيع لفعل آخر. وذلك أنهم ألزموه الاستطاعة مع الفعل بالإجماع، فقالوا: قد أجمع الناس على أن كل فاعل مستطيع في حال فعله، فالاستطاعة مع الفعل ثابت، واختلفوا في أنها قبله، فنحن على ما أجمعوا عليه، وعلى من ادَّعى أنها قبل الفعل الدليل. فلجأ إلى هذا القول». تأويل مختلف الحديث (ص:65).
(2) محمد بن الهذيل بن عبيد البصري، أبو الهذيل العلاف، شيخ الكلام، ورأس المعتزلة، صاحب التصانيف، كان ذا ذكاء بارع، وكان كثير المناظرةِ، مات سنة (235)، وقيل غيرها. ينظر: تاريخ بغداد (3:366 - 367)، سير أعلام النبلاء (11:173).
(3) محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، أبو الفتح، شيخ أهل الكلام والحكمة، متهم في عقيدته، وقد صنَّف في العلوم، ومن تصانيفه: نهاية الإقدام في علم الكلام، والملل والنحل، توفي سنة (548)، ينظر: التحبير في المعجم الكبير، لأبي سعد السمعاني (2:160 - 162)، وسير أعلام النبلاء (20:286 - 288).
(4) جهم بن صفوان، أبو محرز السمرقندي، الضالُّ المبتدعُ، رأس الجهميَّةِ، قُتِلَ سنة (128)، ينظر: الملل والنحل، للشهرستاني (ص:86)، ولسان الميزان (2:142).
(1/508)
________________________________________
قال: إنِّي لا أقولُ بحركاتٍ لا تتناهى آخِراً، كما لا أقولُ بحركاتٍ لا تتناهى أوَّلاً، بلْ يصيرونَ إلى سكونٍ دائمٍ.
وكأنه ظنَّ أنَّ ما لَزِمَهُ في الحركةِ لا يلزمُه في السُّكونِ» (1).
وقد خالف بقوله هذا ظاهر قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقد كفَّره بعضُ المعتزلةِ بسببِ هذا القولِ وغيره، وكانَ بعضُهم يؤاخذُه بهذا القولِ خاصَّةً، ففي طبقاتِ المعتزلةِ ما نصُّه: «كانَ في قلوبِ معتزلةِ بغدادَ مَوجِدَةٌ عليه [يعني: أبا الهذيل] في قولِه بالحركات، فساءهم عضمداً (2).
فقالَ: كيفَ أقولُ ذلكَ واللهُ يقولُ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}؟.
وقال أبو علي (3): إنما كانَ ذهبَ في ذلكَ إلى أنَّ الحركاتِ لا تنقطعُ، ثمَّ تابَ منْ ذلكَ» (4).
ومن كانت هذه طريقته في الجدل، فأحرى أن لا يناقش الملحدة المتزندقة؛ لأنه قد ينخذل أمامهم، فيلتزم بشيء من باطلهم، فيكون له عقيدة يعتقدها ويدافع عنها، والعياذ بالله.
فانظرْ، كيفَ جَرَّتْ هذه المناقشاتُ العقيمةُ إلى مثلِ هذه الأقوالِ الكُفريةِ التي تخالفُ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ؟!
وقدِ استمرَّ هذا النِّقاشُ العقيمُ بينَ المعتزلةِ وغيرها من الفرق التي اعتمدتِ العقلَ المجرَّدَ في النِّقاشِ؛ كالأشعريةِ التي كانتْ من أكبرِ الفِرَقِ
_________
(1) الملل والنحل، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، ط: دار الفكر (ص:52).
(2) لعلها: فسأله بعضهم.
(3) هو الجبائي.
(4) طبقات المعتزلة، للقاضي عبد الجبار (ص:260)، ضمن كتاب: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة.
(1/509)
________________________________________
الإسلاميَّةِ مجادلةً معَ المعتزلةِ، حتى يكادُ يُخَيَّلُ للقارئ في هذه المناقشاتِ أنَّه لا يوجدُ في الفِرَقَ الإسلاميَّةِ إلاَّ هاتانِ الفِرْقَتَانِ.
وليسَ المرادُ هاهنا الحديثُ عن الفِرَقِ، وإنما ذِكْرُ بعضِ أمثلةٍ لِمَا وَقَعَ منها بسببِ البُعْدِ عن القرآنِ والسنَّةِ وآثارِ السَّلفِ الصَّالحِ، والاتجاهِ إلى العَقْلِ وجعْلِهِ الحُجَّة في الحكمِ على المسائلِ العقديَّةِ والنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ.
وبتتبع بعض أسماء المنحرفين (1) يتبين أنَّ الانحرافَ بدأ قديماً، ثمَّ إنَّه نَمَا شيئاً فشيئاً حتى تكوَّنَتْ منه فِرَقٌ وعقائدٌ.
وقدْ كانَ لنُشُوءِ الفِرَقِ في الإسلامِ أثرٌ كبيرٌ في هذا الانحرافِ، وكانَ اتِّسَاعُ اللُّغةِ أحدَ مُعْتَمدَاتِهم في إثباتِ بعضِ بِدَعِهِمْ في بعضِ الأحيانِ. وقدْ ظَهَرَ لي منْ تَتَبُّعِ هذه الانحرافاتِ أنَّ سببَها ـ في الغالب ـ الاعتمادُ على العقلِ؛ أي أنَّ المفسِّرَ يعتقدُ رأياً بمحضِ عقلِهِ ثُمَّ يتأوَّلُ كلامَ اللهِ عليه، مستعيناً على هذا باتِّسَاعِ اللُّغةِ.
ومنْ نتائجِ ذلك أنَّك لا ترى عندَهم حكايةَ أقوالِ علماءِ التَّفْسِيرِ من السَّلَفِ، بلْ أعرضَ عنها جمهورُ المبتدعةِ، وعارضُوها في بعضِ الأحيانِ، واعتمدوا النَّقلَ عن أكابرِهِم، والاعتدادَ برأيهم دونَ غيرِهم.
وليس هذا محلاً لطرحِ هذه المسائلِ، وإنما جرَّ إليها التَّقْدُمَةُ للانحرافِ الكائنِ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، فاستطردتُ بما أراه ممهِّداً لموضوعي (2).
_________
(1) كعبد اللهِ بن سبأ اليهودي (ت: بعد40)، وسنسويه النصراني القدري، ومعبد الجهني القدري (ت:80)، وغيلان الدمشقي القدري (ت: بعد105)، والجعد بن درهم (ت:124)، والجهم بن صفوان (ت:128)، وواصل بن عطاء المعتزلي (ت:131)، وعمرو بن عبيد المعتزلي (ت:144)، وبشر بن غيَّاث المريسي المعتزلي (ت:219)، والنظَّام (ت:231)، وأبي الهذيل العلاف (ت:235)، وغيرهم.
(2) قرأت كثيراً لكتابةِ هذا التمهيدِ، وتكوَّن لديَّ مبحثٌ كبيرٌ فاختصرته، واقتصرتُ على ما كتبته آنفاً، والموضوعُ يحتاج إلى بسطٍ أوسع، لأهميَّته، مع ملاحظتِه شُحَّ =
(1/510)
________________________________________
قد اجتهدتُ في تتبُّعِ بعضِ التَّفاسيرِ المنحرفةِ التي كانت في القرونِ الأولى، فظهرَ لي بعضُ الأمثلةِ التي سأعرضُ لها في هذا البحثِ.
وقد كادت تخلو تفاسير السَّلفِ من الأخطاءِ التي وُجِدت عند من بعدَهم (1)، إلاَّ أنَّ هناك نزرٌ يسيرٌ منها عند إمامِ التَّابعينَ مجاهدُ (ت:104) لا يمكنُ لباحثٍ في مثلِ هذا الموضوعِ أنْ يغفلَ عن ذكرِها (2).
وهذه الأخطاءُ التي سجَّلَها العلماءُ عليه ليستْ كثيرةً بحيثُ يتكوَّنُ منها منهجٌ يُحسبُ على مجاهدٍ (ت:104). وهي أخطاء فردية، لم تُذكرْ إلاَّ عنه، ولذا لا يمكنُ عَدُّهَا منْ منهجِ السَّلفِ رضي الله عنهم، لأنَّه خالفَ فيها أشياخَه وأقرانَه.
والمسألةُ التي كانتْ تُلِحُّ عليَّ في بحثِ هذه الملاحظاتِ في تفسيراتِ مجاهدٍ (ت:104) هي: هلْ كانتْ هذهِ الأخطاءُ من اجتهادِهِ المباشِرِ، أو أنَّه تأثَّرَ بغيرِه؟. وإنْ كانَ تأثَّرَ بغيرِه، فمنْ يكونُ؟.
_________
= المعلومات عن أوائلِ الأفكارِ المنحرفةِ، إذ لا تجدُ في غالب التَّراجمِ إلاَّ وصفاً للمترجَمِ له بسوءِ المعتَقدِ.
(1) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما النوع الثاني من سَبَبَي الاختلاف، وهو ما يُعلم بالاستدلال لا بالنقلِ، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتينِ حدثتا بعد تفسيرِ الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يُذكَرُ فيها كلام هؤلاء صِرْفاً لا يكادُ يوجدُ فيها شيءٌ من هاتين الجهتين ...». مقدمة في أصول التفسير (ص:79).
(2) من هذه التفاسير:
1 - في قوله تعالى: {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، قال: «لم يُمسخوا، إنما هو مثلٌ ضربه الله لهم، مثلُ ما ضربَ مثل الحمار يحمل أسفاراً». تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:172، 173).
2 - في قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، قال: «تنتظر الثواب من ربها، لا يراه من خلقه شيء»، تفسير الطبري، ط: الحلبي (29:192)، وفيه روايات أخرى بمعناها عنه وعن أبي صالح.
3 - وقال في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 6]، قال: «ليس ميزان، إنما هو مثلٌ ضُرِبَ». تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:282).
(1/511)
________________________________________
ذلك ما لم أجدْ له جواباً حتى الآن!
هذا، وقدْ تبينَ لي بعدَ جمعِ مادَّةِ هذا الموضوعِ: أنَّ الانحرافَ في التَّفسيرِ كانَ له أسبابٌ؛ منها:
1 - اعتمادُ العقلِ في الاعتقادِ والاستدلالِ (1).
2 - اعتمادُ اللُّغةِ مجرَّدَةً عن غيرِها منَ المصادرِ.
3 - البعدُ عنْ تفسيرِ السَّلفِ، وعدمُ الأخذِ به.
وقدْ ساعدَ على هذا اتِّساعُ لغةِ العربِ، ولا خلافَ في أنَّ تفسيرَ القرآنِ بلغةِ العربِ أصلٌ أصيلٌ في التَّفسيرِ، غيرَ أنَّ المرادَ هنا أنْ يكونَ تفسيرُه بمجرَّدِ ما يحتمله اللفظُ المجرَّدُ عن سائرِ ما يبين معناه، منْ نَظَرٍ إلى: المتكلِّمِ به، والمنَزَّلِ عليه، والمخاطَبِ به، وسياقِ الكلام (2).
والسَّالكُ لهذا السَّبيلِ صنفانِ:
الأوَّلُ: بعضُ أهلِ اللُّغةِ الذينَ يفسِّرونَ القرآنَ بحسبِ ما بلغَهم منْ لغةِ العربِ.
الثاني: أهلُ البِدَعِ الذين يريدونَ إثباتَ بِدَعِهم باعتمادِهم على مجازِ اللُّغةِ وسَعَتِها.
_________
(1) يدخل في هذا كلُّ من جعلَ له أصلاً يقيسُ الكتاب والسنة عليه، فما وافق أصله قَبِلَهُ، وما خالفَ أصله لم يقبلْه؛ كمن يجعلُ الذَّوقَ أصلاً، أو يجعلُ أقوال شيخه ومعلمه أصلاً، وهكذا.
ويُشبه هذا بعضُ التفسيراتِ المعتمدة على اللغةِ، حيثُ تُجعلُ اللغةُ التي جمعها اللغويون أصلاً يحكمون به على ما ورد من تفسيرات السلفِ اللغوية، فإن لم يجدوه في كتب اللغة ردُّوه، وهذا غير صحيح، إذ قد تكون لغة لم تبلغ اللغويين، وليس كل العلم يحاطُ به حتى يجوز النفيُ.
(2) ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (15:94)، ومقدمة في أصول التفسير (ص:81).
(1/512)
________________________________________
وسأذكر أمثلةً لما وردَ عند هذين الصِّنفينِ مما فيه مخالفةٌ لتفسير السَّلفِ، واللهُ الموفقُ.
الصِّنفُ الأوَّلُ: اللُّغويُّونَ:
لقد دخلَ بسببِ بعضِ هؤلاءِ اللُّغويينِ نوعانِ منَ الأقوالِ في التفسير:
الأولُ: أقوالٌ فيها خلافٌ لأقوالِ السَّلفِ، وهي أقوالٌ فيها نظرٌ (1)، لا يمكن قبولُها معه.
الثاني: أقوالٌ فيها شذوذٌ في التَّفسيرِ.
وسبب ذلكَ اعتمادُ مجرَّد اللُّغة دونَ غيرها من المصادرِ؛ أي أنَّ هذه الاختياراتِ ليس لها عِمَادٌ سوى أنها حُكِيت على أنها من لغةِ العربِ.
وشأنُ هذه الأقوالِ أنها أقوالٌ مردودةٌ، وإنْ لم يُبْنَ على اختياراتِهم لها قولٌ باطلٌ في المعتقدِ؛ لأنَّه لا يلزمُ من كونِها صحيحةً في اللُّغةِ أن تكونَ صحيحةً في التَّفسيرِ.
ومنْ تلكَ الأقوالِ التَّفسيريَّةِ:
1 - ما حكاه الأزهريُّ (ت:370) عنْ شَمِرِ بنِ حَمْدُويَه (ت:255) (2) أنه قال: «ورُوِيَ لنا عنِ ابنِ المُظَفَّرِ (3) ـ ولم أسمعْهُ لغيرِهِ ـ ذَكَرَ أنَّه يقال: أدركَ الشيءُ: إذا فَنِيَ (4).
_________
(1) ذكرتُ هذا القيدَ لأنه سيأتي بيان ضابطِ قبولِ المحتملات اللغوية الواردة عن غيرِ السلفِ.
(2) شَمِرُ بنُ حَمدويه، أبو عمرو الهرويُّ اللُّغويُّ، لقيَ ابن الأعرابي وغيره، وروى الدواوين، كتب في اللغة كتابه الجيم، وهو كتاب أودعه فوائد جمة، ولكنه ضاع ولم يبق منه إلاَّ اليسير، توفي سنة (255). ينظر: تهذيب اللغة (1:12)، إنباه الرواة (2:77 - 78).
(3) هو الليث.
(4) في كتاب العين (5:328): «الإدراكُ فناءُ الشي، أدركَ هذا الشيءُ: فَنِيَ».
(1/513)
________________________________________
وإن صحَّ، فهو في التَّأويل (1): فَنِيَ عِلمُهم في معرفةِ الآخرةِ» (2).
وليس لشَمِرٍ (ت:255) في صحةِ هذا التَّأويلِ سوى حكايةِ هذا المعنى في اللُّغةِ، وهذا غير كافٍ في إثباته، إذ لا يلزم من صحةِ المعنى لغةً صِحَّتُه في التَّفسير.
2 - وما فسَّرَ به أبو عبيدةَ (ت:210) قولَ الله تعالى: {ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} [يوسف: 49]، قال: «أيْ: به ينجونَ، وهو من العَصَرِ، وهي العُصْرَةُ أيضاً، وهي المنجاةُ، قال (3):
........ ... ولقد كان عُصْرَةَ المنجودِ
أي: المقهورُ والمغلوبُ» (4).
وتفسير السَّلف على خلافه، فقد فسَّروه على معنى العَصْرِ؛ أي: عصر العنب وغيره، ورد ذلك عن ابن عباس (ت:68)، ومجاهد (ت:104)، والضَّحَّاك (ت:105)، وقتادة (ت:117)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (5).
وقولُ السَّلفِ أقربُ إلى سياقِ القصةِ؛ لأن العَصْرَ كانَ منْ شأنهم؛ لذا كانتْ رؤيا السَّاقي أنه يعصرُ خمراً، ثمَّ إنَّ في قوله تعالى: {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} إشارةً إلى هذا المعنى الذي ذكرَه أبو عبيدةَ (ت:210)، ومن ثَمَّ، يكون تفسيره من باب تأكيد المعنى، وقولُ السَّلفِ فيه تأسيسُ معنى آخرَ، وإذا دارَ الكلامُ
_________
(1) يريد تفسير قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل: 66]، وهي في قراءة ابن كثير وأبي عمرو: «أَدْرَكَ». ينظر: إعراب القراءات السبع (2:161).
(2) تهذيب اللغة (10:114).
(3) البيت لأبي زبيد الطائي، في ديوانه (ص:594)، ضمن كتاب: شعراء إسلاميون، وهو في قصيدة له يرثي فيها اللجلاج ابن أخته، وصدر البيت:
صادياً يُستغاث غير مغيثٍ ... ......
(4) مجاز القرآن (1:313 - 314).
(5) ينظر أقوالهم في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:129 - 130).
(1/514)
________________________________________
بين التأسيسِ والتأكيدِ، فالتأسيسُ أولى من التأكيدِ، وهو مقدَّمٌ عليه، والله أعلمُ.
قال الطبريُّ (ت:310): «وكانَ بعضُ منْ لا علمَ له بأقوالِ السَّلفِ منْ أهلِ التَّأويلِ، مِمن يُفسِّرُ القرآنَ برأيه على مذهبِ كلامِ العربِ، يُوَجِّهُ معنى قولِه: {وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} إلى: وفيه ينجونَ منَ الجَدْبِ والقَحْطِ بالغَيْثِ، ويزعمُ أنَّه منَ العَصَرِ والعُصْرَةِ التي بمعنى المنجاةِ ... وذلكَ تأويلٌ يكفي منَ الشَّهادةِ على خطئه، خلافُهُ قولَ أهلِ العلمِ منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ» (1).
3 - وفي قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57]، السَّلْوَى: طير، بإجماعٍ منْ مفسِّري السَّلفِ (2).
وقال مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ (ت:195)، أحدُ علماءِ اللُّغةِ: أنه العسلُ، واستدلَّ له بقول الهذلي:
وَقَاسَمَهَا باللهِ جَهْداً لأنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا
وذكر أنه كذلك بلغة كنانة، وسُمِّيَ العسل به؛ لأنه يُسْلَى به (3).
وكَوْنُ السَّلوى في لغةِ العربِ: العسلَ، لا يلزمُ منه صِحَّةُ حملِه على معنى السَّلوى في الآيةِ؛ لذا قالَ ابنُ الأعرابيِّ (ت:231): «والسَّلوى: طائرٌ، وهو في غيرِ القرآنِ: العسلُ» (4). وهذا هو الحقُّ، والله أعلم.
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:131 - 132).
(2) ينظر: المحرر الوجيز (1:305)، وقد أورد الطبريُّ الرواية عن السلف، ولم يذكر عنهم غير هذا المعنى، وإنما اختلفوا في التعبير عن وصف هذا الطيرِ، والله أعلم. ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:96 - 97).
(3) ذكره الثعلبي في تفسيره عند هذه الآية عن مؤرِّج، ينظر: الكشف والبيان، للثعلبي، مخطوط المكتبة المحمودية في المدينة النبوية (1 لوحة: 69 ب)، وهذا النقل عن كتاب مؤرِّج السدوسي «غريب القرآن»، وهو أحد مصادر الثعلبي، وقد نصَّ عليه في مقدمة تفسيره: الكشف والبيان، كما سبق، وقد نقله القرطبي في تفسيره (1:407).
(4) تهذيب اللغة (13:68).
(1/515)
________________________________________
4 - وفسَّرَ أبو عبيدةَ (ت:210) قولَ اللهِ تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، فقال: «أي اطلبوا البِرَّ منْ أهلِه ووجهِه، ولا تطلبوه عندَ الجهلةِ المشركينَ» (1).
وفسَّرَه بعضهم على «أنَّ البيوتَ كنايةٌ عنِ النِّسَاءِ، ويكونُ المعنى: وأتوا النِّسَاءَ منْ حيثُ أمرَكم اللهُ، والعربُ تُسَمِّي المرأةَ بيتاً، قالَ الشاعرُ (2):
مَا لِي إذَا أنْزِعُهَا صَأيتُ ... أكِبَرٌ غَيَّرَنِي أمْ بَيتُ
أراد بالبيتِ المرأةَ» (3).
وهذانِ التفسيرانِ لا يحملانِ لفظَ البيوتِ على الحقيقةِ، بل يجعلانه من اتساعِ العربية في المجازِ والكنايةِ، وهذا مخالفٌ لما وردَ عن السَّلفِ من حملهم البيوت على الحقيقة اعتماداً على سببِ نزول الآيةِ (4).
وكلا هذينِ القولينِ يَظْهَرُ منهما عدمُ العملِ بسببِ النزولِ الواردِ في الآيةِ الذي يدلُّ على أنَّ المرادَ بالبيوتِ البيوتُ المسكونةُ، ولو لم يكنِ السَّبَبُ وارداً لاحتملَ ما قالوا، وإنما ذهبوا إلى ذلكَ التَّفسيرِ لعدمِ العملِ بما وردَ من التَّفسيرِ عنِ السَّلفِ الذي يجعلُ اللَّفظَ على حقيقتِهِ.
_________
(1) مجاز القرآن (1:68).
(2) الرجز بلا نسبة في عِدَّة مراجع: جمهرة اللغة (241، 257)، وديوان الأدب، للفارابي (3:298)، وغيرها. وهو يصف دلواً إذا نزعها صأى؛ أي: سمع لنفسه صوتاً.
(3) أمالي الشريف المرتضى (1:378) وهو يُكثر من المحتملات الضعيفة، لغوية أو غيرها.
(4) ورد للآية أكثر من سبب، والجمهور على أنه بسبب اعتقاد المشركين في الإحرام، أي أن المحرم لا يدخل بيته من الباب، بل يفتح له باباً من ظهره ويدخل منه، ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (3:555 - 560).
(1/516)
________________________________________
والقول الثاني: وهو أنَّ المرادَ بالبيوتِ المرأةَ، فيه بُعْدٌ في التَّأويلِ، وليس لقائلِ هذا القولِ مُعْتَمَدٌ سوى أنَّ العربَ تُطلقُ لفظ البيتُ، وتريد به المرأةِ، منْ غيرِ أنْ ينظرَ إلى صحةِ هذا الإطلاقِ في هذا السِّياقِ.
وهذه الأقوالُ وأشباهُها في التَّفسيرِ فيها ضعفٌ؛ لأنها تعتمدُ اللُّغةَ فقط، دونَ النَّظرِ في المصادر الأخرى التي هي مقدَّمةٌ على مجرَّدِ اللُّغةِ.
وهذا لا يعني أنَّ الأقوالَ الصَّحيحةَ في فهم الآيةِ ليست من التَّفسيرِ اللُّغويِّ، بل قد تكون منه، لكنها اعتمدت مصدراً آخرَ معه؛ كسبب النُّزولِ، وإجماعِ الحُجَّةِ من أهلِ التَّأويلِ، وسياقِ الآياتِ، وهذه هي التي رجَّحَتِ المعنى اللُّغويَّ المقبولَ دونَ غيرِه، واللهُ أعلمُ.

الصنف الثاني: أهل البدع:
لقدْ كانَ نظرُ أهلِ البدَعِ إلى اللُّغةِ تابعاً للمُعْتَقَدِ الذي يعتقدونَه. والأصلُ عندَهم بدعتُهم، ثمَّ يبحثونَ في سَعَةِ لغةِ العربِ عمَّا يدعمُها، وإنْ كانوا يحرصونَ على إبرازِ أنَّ تأويلاتِهم لا تخرجُ عن اللُّغةِ، كما قالَ الخَيَّاطُ المعتزليُّ (ت: بعد300) في ردِّه على ابنِ الرَّاونْدِيِّ الملحدِ (ت:298): «فهذه تأويلاتُ المعتزلةِ لِمَا تَلا منَ الآياتِ (1)، وكلُّها واضحٌ قريبٌ غيرُ خارجٍ منَ اللُّغةِ ولا مُسْتَكْرَهُ المعنى» (2).
وقال القاضي عبدُ الجَبَّارِ (ت:415) (3): «وهكذا طريقتُنا في سائرِ
_________
(1) يقصد الآيات التي استشهد بها ابن الراوندي.
(2) الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد (ص:183).
(3) عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، المعتزلي، الشافعي، القاضي، صاحب التصانيف، منها: متشابه القرآن، وتنْزيه القرآن عن المطاعن، والمغني في أبواب العدل والتوحيد، توفي سنة (415)، ينظر: تاريخ بغداد (11:113 - 115)، وسير أعلام النبلاء (17:244 - 245).
(1/517)
________________________________________
المتشابهِ: أنه لا بُدَّ منْ أنْ يكونَ لهُ تأويلٌ صحيحٌ يخرجُ على مذهبِ العربِ، منْ غيرِ تكلُّفٍ وتعسُّفٍ» (1).
وهذا يدلُّ على حرصِهم على إظهارِ مساعدةِ اللُّغةِ لمذاهبِهِم، بل جعلَ ابنُ جِنِّي (ت:392) في كتابه (الخصائص) باباً يخدمُ هذهِ المذاهبَ الباطلةَ، وسمَّاه: (باب ما يُؤْمِنُهُ علمُ العربيَّةِ منَ الاعتقاداتِ الدينيَّةِ) (2)، وأدخلَ فيه نفيَ الظاهرِ والحقيقةِ مما أثبتَه اللهُ لنفسِه من الصِّفاتِ، وعَمَدَ فيها إلى المجازِ، وجعلَ هذه التأويلاتِ من سَعَةِ العربيَّةِ، فقالَ: «ولو كانَ لهمْ أُنْسٌ بهذه اللُّغةِ الشَّريفةِ، أو تَصرُّفٌ فيها، أو مُزَاوَلَةٌ لها، لَحَمَتْهُمْ السعادةُ بها، وما أصارتْهُم الشِّقْوَةُ إليه بالبُعْدِ عنها (3)، وسنقولُ في هذا ونحوه ما يجب مثلُه ... وطريقُ ذلكَ أنَّ هذه اللُّغة أكثرُها جارٍ على المجازِ، وقلَّما يخرجُ الشَّيءُ منها على الحقيقةِ، وقدْ قدَّمنَا ذِكْرَ ذلكَ في كتابِنا هذا (4) وفي غيرِه.
فلمَّا كانتْ كذلكَ، وكانَ القومُ الذينَ خوطبوا بها أعرفَ النَّاسِ بِسَعَةِ مذاهبِها، وانتشارِ أنحائها، جرى خطابُهم بها مجرى ما يألفونَهُ، ويعتادونَهُ منها، وفَهِمُوا أغراضَ المخاطِبِ لهم بها على حَسْبِ عُرْفِهم وعادتِهم في استعمالِها ...» (5).
_________
(1) إعجاز القرآن، للقاضي عبد الجبار، من كتابه: المغني (16:380).
(2) ينظر: الخصائص (3:248 - 258).
(3) يقصد مثبتي الصفات، وإن كان ذكر ألفاظاً من ألفاظ أهل التجسيم التي لا يوافق عليها أهل السنة الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم دون تمثيل، كما يفعله أهل التجسيم، ولا تعطيل، كما يفعله أهل التأويل الذين هم باسم التحريف أولى، وهذا إمَّا لأنه لا يفهم مذهب السلف، وإمَّا أنَّه أراد أن يشنِّع هذا المذهب بذكر هذه الألفاظ التي لا يرضاها الناس إذا سمعوا بها، لينفروا عن أصحاب هذا المذهب.
(4) ينظر: الخصائص (2:449 - 459).
(5) الخصائص (3:249 - 250).
(1/518)
________________________________________
ومن الأمثلةِ التَّطبيقيَّةِ التي ذكرَها لهذه المسألةِ التي نظَّرَ لها، قولُه: «وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، إنْ شئتَ جعلتَ اليَمِينَ هنا الجارحةَ، فيكونُ على ما ذهبنَا إليه منَ المجازِ والتَّشبيهِ؛ أي: حصلتِ السَّمَاواتُ تحتَ قَدرتِهِ حصولَ ما تُحيطُ اليدُ به في يمينِ القابضِ عليه، وذُكِرتِ اليمينُ هنا دونَ الشِّمَالِ؛ لأنها أقوى اليدينِ، وهو منْ مواضِعِ ذِكْرِ الاشتمالِ والقُوَّةِ.
وإن شئتَ جعلتَ اليمينَ هنا القُوَّةُ؛ كقولِهِ (1):
إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أي: بِقُوَّتِهِ وقُدْرتِهِ.
ويجوزُ أنْ يكونَ أرادَ بيدِ عَرَابَةَ (2): اليُمْنَى. على ما مَضَى» (3).
والمقصودُ أنَّ الأصلَ عندهم بدعتُهم، فإنْ وجدوا ما يدعمُهم منْ لغةِ العرب قالوا به، وإلاَّ استنكرُوه، ومنْ ذلكَ ما رُويَ في سؤالِ عمرِو بنِ عُبيدٍ المعتزليِّ (ت:144) أبا عمرِو بنِ العلاءِ (ت:145) في الوعدِ والوعيدِ (4).
_________
(1) البيت للشماخ، وهو في ديوانه (ص:336).
(2) هو عرابة بن أوس القَيظي، صحابي، شَهِدَ يومَ أُحُد، فاستُصغِر ورُدَّ، وأُجيزَ يوم غزوةِ الخندق، المعارف (ص:330)، والطبقات (4:369 - 370).
(3) الخصائص (3:252).
(4) قال ابن درستويه في كتابه: تصحيح الفصيح (ص:313 - 315): «وأما قوله: وعدت الرجل خيراً وشراً، فإذا لم تذكر الشر قلت: أوعدته، ووعدته بكذا وكذا؛ يعني: الوعيد. فهو ليس يحتاج ـ إذا قيل: وعدت الرجل ـ إلى ذكر خير أو شرِّ، وإن كان يحتمل معناه كل واحد منهما، إلاَّ أن يخاف اللبس فيذكر الذي يعني ... فأما أوعدته بالألف، فلا يكون إلاَّ للشرِّ خاصَّة وللتهديد، فلذلك استغنى معه عن ذكر الشرِّ، إلاَّ أن تذكر الوعيد الذي تهددته به فتقول: أوعدته بالقتل، أو بالصلب، أو بالقيد، أو بالحبس، أو بكذا وكذا، مفسِّراً للشر الذي لا يُعلَم بقول: أوعدته، وقال الشاعر في الوعد والإيعاد:
إذا وعدوا أنجزوا وعدهم ... وإن أوعدوا خاب من أوعدوا =
(1/519)
________________________________________
قال الأصمعيُّ (ت:215): «جاءَ عمرُو بنُ عُبَيدٍ إلى أبي عمرِو بنِ العلاءِ، فقالَ: يا أبا عمرو، يُخلِفُ اللهُ وَعْدَهُ؟
قالَ: لا!
قال: أفرأيتَ إنْ وَعَدَهُ على عملٍ عقاباً، يُخلِفُ وَعْدَهُ؟
فقال أبو عمرٍو: منَ العُجمةِ أُتِيتَ يا أبا عثمانَ. إنَّ الوعدَ غيرُ الوعيدِ، إنَّ العربَ لا تَعُدُّ خُلفاً ولا عاراً أن تَعِدَ شراً ثمَّ لا تفعلُه، ترى ذلكَ كرماً وفضلاً، وإنما الخُلْفُ أنْ تَعِدَ خيراً ثُمَّ لا تفعَلُهُ.
قالَ: فأوجدني هذا في كلامِ العربِ.
قالَ: أما سمعتَ إلى قولِ الأوَّلِ:
لا يَرْهَبُ ابنُ العَمِّ ما عِشْتُ صَولَتِي ... وَلاَ أخْتَشِي مِنْ خِشْيَةِ المُتَهَدِّدِ
وإنِّي إذَا أَوْعَدْتُهُ وَوَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي» (1)
ووردتْ هذه الحادثةُ في (طبقاتِ المعتزلةِ) وجاء فيها بعد ذلك: «قال
_________
= يمدهم بذلك؛ لأن من الكرم والفضل تناسي الوعيد، وأنشدنا أبو العباس وغيره من البصريين عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء: أنه احتج على عمرو بن عبيد في الوعد والوعيد من الله عزّ وجل بقول الشاعر:
وإني إذا وعدته أو أوعدته ... لأخلف إيعادي وأنجز موعدي»
(1) تاريخ بغداد (12:175 - 176). وقد وردت هذه الحكاية في كثير من كتب التراجم والأدب على هذا النحو، ووجدت في كتاب طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار (ص:293 - 294)، زيادة في صحتها شكٌّ، وقد جاءت بصيغة التمريض: «يقال إنَّ عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو: شغلك الإعراب عن معرفة الصواب. إن الله يتعالى عن الخُلْفِ، والشاعر يقول الشيء وخلافه، فهلاَّ قلت في إنجاز الوعيد ما قال الشاعر:
إنَّ أبا ثابت لمجتمع ... الرأي شريف الإباء والبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا ... يبيت من ثاره على فوت
فسكت أبو عمرو». وقد بحثت عن هذين البيتين، فلم أجدهما، والشَّكُّ قائم في توليدهما لأجل نُصرة مذهبهم في الوعد والوعيد.
(1/520)
________________________________________
أبو علي (1) لأبي خليفة (2): أجابه بالمسكت، قال له: إنَّ الشَّاعر قد يكذب ويصدق» (3).
فهذا عمرُو بنُ عبيدٍ (ت:144) لم يجدْ بعدَ الاستدلالِ عليه بلغةِ العربِ إلاَّ هذه الحجَّةَ التي ذكرَها أبو عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303)، وليستْ هذه غريبةً على منهجه، إنْ صحَّ النقلُ عنه، إذ رُوِيَ عنه ما هو أشنعُ منْ ذلكَ (4).
والعقلُ هو الأصلُ المقدَّمُ عند أهلِ البدعِ من المتكلِّمينَ، فما رأوه بعقولِهم ذهبوا إلى لغةِ العربِ واستنطقوها لإثباتِ بدعتِهم، واستخدموا في ذلكَ مجازاتِ اللُّغةِ.
قال ابن تيميةَ (ت:728): «... ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات ...» (5).
وقال: «... والذي اقتضى شهرةَ القولِ عنْ أهلِ السُّنَّةِ بأنَّ المتشابهَ: لا يعلمُ تأويلَه إلاَّ اللهُ، ظهورُ التَّأويلاتِ الباطلةِ منْ أهلِ البدعِ؛ كالجهميَّةِ، والقدريَّةِ من المعتزلةِ وغيرِهم، فصارَ أولئكَ يتكلمونَ في تأويلِ القرآنِ برأيهم
_________
(1) هو الجُبَّائي.
(2) ورد اسمه في كتاب المنية والأمل (ص:70)، وهو نفس المصدر: أبو حنيفة، وفي بداية الرواية: «رويَ أن أبا علي ناظر بعضهم في الإرجاء، وأبو خليفة الزبير حاضران، فقال أبو خليفة: إن أبا عمرو بن العلاء لقي عمرو بن عبيد ...» القصة.
(3) طبقات المعتزلة، للقاضي عبد الجبار (ص:293 - 294). من كتاب: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، إخراج: فؤاد السيد.
(4) قال في حديث الصادق المصدوق: «إنَّ أحدكم ليُجمع خلقُه في بطن أمِّه أربعين يوماً ...» الحديث: «لو سمعت الأعمش يقول هذا، لكذَّبته، ولو سمعته من زيد بن وهب، لما صدَّقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله، ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا، لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا» لسان الميزان (3:278). وله شنائع غير ذلك، أسأل الله السلامة.
(5) درء تعارض العقل والنقل (1:12).
(1/521)
________________________________________
الفاسدِ، وهذا أصلٌ معروفٌ لأهل البدعِ: أنهم يفسرونَ القرآنَ برأيهم العقليِّ، وتأويلِهم اللُّغويِّ ...» (1).
وقال الدَّارميُّ (ت:280) في ردِّه على بِشرٍ المِرِّيسيِّ (ت:219): «ونحنُ قد عرفنا ـ بحمد اللهِ ـ منْ لُغَاتِ العربِ هذه المجازاتِ التي اتخذتُمُوها دُلْسَةً وأغلوطةً على الجُهَّالِ، تنفونَ بها عن اللهِ تعالى حقائقَ الصِّفاتِ بِعِلَلِ المجازاتِ، غيرَ أنَّا نقولُ: لا يُحكَمُ للأغربِ منْ كلامِ العربِ على الأغلبِ، ولكنْ نصرفُ معانيها إلى الأغلبِ، حتى يأتوا ببرهانٍ أنه عَنَى بها الأغرب، وهذا هو المذهبُ الذي إلى الإنصافِ والعدلِ أقربُ، لا أنْ نعترضَ صفات اللهِ المعروفةَ المقبولةَ عندَ أهلِ البَصَرِ فنصرفَ معانيَهَا بِعِلَّةِ المجازاتِ إلى ما هو أنكرُ، وتُرَدُّ على الله بداحضِ الحججِ وبالتي هي أعوجِ» (2).
ومنِ اطَّلعَ ـ على سبيلِ المثالِ ـ على كتابِ (تلخيص البيانِ في مجازاتِ القرآنِ) للشَّريف الرَّضِيِّ (ت:406) (3)، وكتابِ (متشابهِ القرآنِ) للقاضي عبدِ الجبارِ الهمذانيِّ المعتزليِّ (ت:415) وكتاب (غرر الفوائدِ ودرر القلائد) المسمى: أمالي الشَّريفِ المُرْتَضَى (ت:436)، وغيرِها منْ تفاسيرِ المعتزلةِ = ظهرَ له أنَّ الأصلَ عند هؤلاءِ ما تقرَّرَ لهم في عقولِهم، وأنَّ النصوصَ تؤوَّلُ إذا خالفت أصلهُم العقليَّ.
ومن ذلكَ:
1 - قولُ القاضي عبدِ الجبارِ (ت:415) ـ في التعليقِ على من أثبتَ الاستواءَ بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
_________
(1) تفسير سورة الإخلاص (ص:201).
(2) الرد على بشر المريسي (ص:197).
(3) محمد بن الحسين العلوي الرافضي، نقيب الطالبيين في بغداد، كان شاعراً، عالماً بالأدب والنَّحو، وكان ذكيًّا سريع الخاطر، له كتاب مجازات القرآن، ومعاني القرآن توفي سنة (406)، ينظر: تاريخ بغداد (2:246 - 247)، وإنباه الرواة (3:114 - 115).
(1/522)
________________________________________
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]ـ: «قد بينا أنَّ المرادَ بالاستواء: هو الاستيلاءُ والاقتدارُ، وبيَّنَا شواهدَ ذلك في اللُّغةِ والشِّعْرِ، وبيَّنا أنَّ القولَ إذا احتملَ هذا والاستواءَ الذي هو بمعنى الانتصاب، وجبَ حملُه عليه؛ لأنَّ العقلَ قد اقتضاه، منْ حيثُ دَلَّ على أنَّه تعالى قديمٌ ...» (1).
2 - وتجدُه في قولِه تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101، 102] يذكرُ قولَ المخالفينَ له في أنَّ هذه الآيةِ تدلُّ على خَلْقِ أفعالِ العبادِ، ثُمَّ يجيبُ بقولِه: «والجوابُ عن ذلك: أنَّ ظاهرَ {وَخَلَقَ} يقتضي أنَّه قدَّر ودبَّر، ولا يُوجِب في اللغةِ أنَّه فعلَ ذلكَ وأحدثَهُ، ولذلك قالَ الشاعرُ (2):
ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ـضُ القَومِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
فأثبته خالقاً من حيثُ قدَّر ودبَّر، وإن لم يَفْرِ الأديمَ، ومتى حُمِلَ الكلامُ على هذا الوجهِ كانَ حقيقتُهُ: أنَّه تعالى، وإن لم يُحْدِثْ أفعالَ العبادِ فقدْ قدَّرها ودبَّرها، وبين أحوالها ...» (3).
ثُمَّ ذكرَ أجوبةً أخرى غيرَه، ثمَّ عقَّبَ بقوله: «وبعد، فلو كانَ ظاهرُه يقتضي ما قالوه، لوجبَ بدلالةِ العقلِ صرفُه إلى ما ذكرناه؛ لأنه يختص بالحُسْنِ، ولأنه تعالى لا يجوزُ أنْ يكونَ خالقاً لِسَبِّ نفسِه وسوءِ الثَّناء عليه ...» (4).
فتراه في هذا نفى دلالةَ لفظِ الخَلْقِ على الإبداعِ والتقديرِ والإحداثِ، الذي هو المعنى المرادُ هنا، وحملَ الآيةَ على المعنى الآخر من معانيه في
_________
(1) متشابه القرآن (1:315)، وينظر: (1:72 - 75).
(2) البيت لزهير، وهو في شرح ديوانه لثعلب، تحقيق: حنا نصر (ص:96).
(3) متشابه القرآن (1:251 - 252).
(4) متشابه القرآن (1:254).
(1/523)
________________________________________
اللُّغةِ؛ لأنه يوافقُ مذهبَه في أنَّ أفعالَ العبادِ غيرُ مخلوقةٍ للهِ. ثمَّ إنَّ هذا الظاهرَ من دلالةِ اللَّفظِ، لو صحَّ عنده، فإنه سيصرفُه عنْ ظاهرِهِ لأجل دلالةِ عقلِهِ.
3 - وفي تفسيرِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، قالَ الشَّريفُ المُرْتَضَى الرَّافِضِيُّ المعتزليُّ (ت:436) ـ بعدَ أن نفى دلالةَ ظاهرِ الآيةِ على خَلْقِ اللهِ لأفعالِ العبادِ ـ: «ولو لم يكنْ في الآيةِ شيءٌ مما ذكرناه مما يوجبُ العدولَ عنْ حَمْلِ قولِه: {وَمَا تَعْمَلُونَ} على خَلْقِ نفسِ الأعمالِ لوجبَ أن نَعْدِلَ بها عن ذلك، ونحملَها على ما ذكرناه بالأدلةِ العقليَّةِ الدَّالَّةِ على أنه تعالى لا يجوزُ أنْ يكونَ خالقاً لأعمالِنا، وإن تصرُّفَنا مُحْدَثٌ بنا، ولا فاعلَ له سِوَانا» (1).
4 - وقالَ في موضعٍ آخرَ: «مسألةٌ: ما وردَ في القرآنِ منْ معاتباتِ الرسولِ عليه السلام مع عصمتِه وطهارتِه، وكونه الحجةُ على الخلقِ أجمعينَ.
الجوابُ: أنه إذا ثبتَ بالدليلِ عصمةُ الأنبياءِ عليهم السلام (2) فكلُّ ما وردَ في القرآنِ مما له ظاهرٌ ينافي العِصْمَةَ، ويقتضي وقوعَ الخطأ منهم، فلا بدَّ من صرفِ الكلامِ عن ظاهرِه، وحملِه على ما يليقُ بأدلةِ العقولِ؛ لأنَّ الكلامَ يدخلُه الحقيقةُ والمجاز، ويعدِلُ المتكلمُ به عن ظاهرِه، وأدلةُ العقولِ لا يصحُّ فيها ذلك، ألا ترى أنَّ القرآنَ قد ورد بما لا يجوزُ على الله تعالى من الحركةِ والانتقالِ؛ كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقولِه
_________
(1) غرر الفوائد ودرر القلائد، المعروف بأمالي الشريف المرتضى (2:240).
(2) الدليل عنده هو العقل، فقد قال في موضع آخر (1:477): «إذا ثبت بأدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات: أنَّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام، صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك في كتاب وسنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها، كما نفعل مثل ذلك فيما يَرِدُ ظاهره مخالفاً لما تدلُّ عليه العقول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه، أو لا يجوز».
(1/524)
________________________________________
تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ} [البقرة: 210]. ولا بدَّ ـ مع وضوحِ الأدلةِ على أنَّ الله تعالى ليس بجسمٍ، واستحالةِ الانتقالِ عليه، الذي لا يجوزُ إلاَّ على الأجسامِ ـ من تأوُّلِ هذه الظواهرِ والعدولِ عما يقتضيه صريحُ ألفاظِها؛ قَرُبَ التأويلُ أو بَعُدَ» (1).
إذاً، فالمسألةُ عندَ هؤلاءِ مبنيةٌ على دلالةِ العقلِ، ولا حُجَّةَ في اللُّغةِ إذا دلَّت على ما يخالفُ مذهبَهم.
وقد ظَهَرَ انحرافُ المبتدعةِ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ في ثلاثةِ أمورٍ، هي:
1 - ما يتعلقُ باللهِ تعالى وصفاتِه.
2 - ما يتعلقُ ببعضِ المغيباتِ؛ كبعضِ أمورِ الآخرةِ، وما نُسِبَ للمخلوقاتِ الغيبيةِ والجماداتِ منْ إحساسٍ أو غيرِه من الأمورِ التي وُصِفَ بها العقلاءُ.
3 - ما يتعلقُ بعصمةِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ.
وقدْ كانتْ آلَتُهُمُ اللُّغويةُ في إثباتِ بدعتِهم دلالةَ الألفاظِ، وأساليبَ الخطابِ، ودلالةَ الصيغِ، وقد طوَّعُوا اللُّغةَ لهم، حتى كأنَّها لا تخدمُ إلاَّ مذهبَهم، وإنْ لم يجدوا في قريبِ اللُّغةِ ومُتبَادرها ما يسعفُهم، عَمَدُوا إلى غريبها وشاذِّها لإثباتِ بدعتِهم، والتَّدليلِ بها على صِحَّةِ ما ذهبوا إليه.
أمَّا ما يتعلق بالألفاظ، فإن كان للَّفظِ أكثرُ من مدلولٍ أخذوا بما يوافقُ مذهبَهم، وإنْ لم يسعفْهم في ذلك السِّياق والمعنى.
فإن لم يجدوا في اللَّفظِ دلالات متعددةً، حَرَفُوه إلى مدلولِ ما يشابهه في الرَّسم، وإن خالفه في المعنى، فإن لم يجدوا ذلك، أحدثوا له دلالة غيرَ معروفةٍ في لغةِ العربِ.
_________
(1) أمالي الشريف المرتضى (2:399)، وفي كلامه مخالفات ظاهرة لا تخفى على ذي علم بمذهب السلف الصالح من أهل السنة والجماعة.
(1/525)
________________________________________
وأمَّا ما يتعلق بالأساليب، فإنها كثيرة، ومنها: المجاز، والحذف والإضمار، والكناية، وغيرها.
وأمَّا ما يتعلقُ بدلالةِ الصيغِ، فمنها دلالةُ صيغةِ (أَفْعَل).
وقد يدَّعون في المثالِ الواحدِ: تَعَدُّدَ الدلالةِ، والمجازِ، وغيرِها؛ أي: أنهم يستدلونَ لمذهبِهم بأكثرَ من دليلٍ لغويٍّ، بزعمِهِمْ، وسأذكرُ أمثلةً لهذه الأمورِ التي أوردتها:
الأول: دلالةُ الألفاظِ:
لهم في دلالةِ الألفاظِ ثلاثةُ تدرجاتٍ، وهي:
أولاً: أنْ يكونَ للَّفظِ في لغةِ العربِ أكثرُ من استعمالٍ؛ كاليدِ، تطلقُ على: اليدِ الجارحةِ، والنعمةِ، والقدرةِ، والنُّصرَةِ، فيختارونَ منها ما يوافقُ مذهبَهم المقرَّرَ عندَهم، ولا ينظرونَ إلى صحةِ إطلاقِه في هذا السِّياقِ من عدمِه، بل يتمحَّلونَ له أيَّما تمحُّل، مكتفين في ذلك التَّفسيرِ بهذا الورودِ عن العربِ.
ومن أمثلتِه ما يأتي:
1 - ذَكَرَ ابنُ قتيبةَ (ت:276) عنْ بعضِ المؤولة الذين فسَّروا القرآن بأعجبِ تفسيرٍ، يريدون رَدَّهُ إلى مذاهبِهم، وحَمْلَ التأويلِ على نِحَلِهم = بعضَ الأمثلةِ، ومنها: «وقالوا في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]؛ أي: فقيراً (1)، وجعلوه من الخَلَّةِ ـ بفتحِ الخاءِ ـ استيحاشاً منْ أن يكونَ اللهُ تعالى خليلاً لأحدٍ منْ خلقِهِ، واحتجوا بقولِ زُهَيرٍ (2):
وإِنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَومَ مَسْأَلَةٍ، ... يَقُولُ: لا غَائبٌ مَالِي ولا حَرِمُ
_________
(1) جوَّز الزجاج هذا التفسير في معانيه (2:112 - 113)، وذكره المرتضى في أماليه (2:185).
(2) البيت في ديوانه، تحقيق: حنا نصر (ص:192).
(1/526)
________________________________________
أي: إن أتاه فقيرٌ» (1).
والخُلَّةُ: كمالُ المحبةِ التي لا خللَ فيها، وهي المرادةُ هنا، أمَّا الخَلَّةُ بمعنى: الفقرِ، فلا محلَّ لها في هذا الآية.
وإنما ذهبوا لذلك؛ لأنه تقرَّرَ عندهم في عقولِهم التي هي الحَكَمُ على ألفاظِ الشَّرْعِ، أنَّ الباريَ سبحانَهُ منزَّهٌ عن هذه الصفاتِ التي تدلُّ على الحدوثِ، بزعمهم، فلما كان هذا ثابتاً عندهم، تأوَّلوا هذا اللفظَ على ذلك المعنى فِرَاراً من إثباتِ ما أثبتَهُ اللهُ لنفسِه، وأكرمَ به نبيَّهُ إبراهيمَ عليه السلام.
2 - وفي قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، فسَّروا اليدين بأنهما: نِعْمَتَاهُ، قال القاضي عبدُ الجبَّارِ (ت:415): «والمرادُ بذلك: أنَّ نعمتيه مبسوطتانِ على العبادِ، وأراد به نعمةَ الدينِ والدنيا، والنَّعمةَ الظاهرةَ والنَّعمةَ الباطنةَ، وقد يُعبَّرُ باليَدِ عن النِّعمةِ، فيقالُ: لفلانٍ عندي يدٌ وأيادٍ ويدٌ جسيمةٌ» (2).
وإنَّما دعاهُ إلى ذلك تنْزيهُ اللهِ عنِ الجِسْمِيَّةِ (3)، بزعمِهِ، وساعدَه في ذلك سَعَةُ إطلاق اليدِ في العربيَّةِ على معانٍ، منها ما ذَكَرَهُ.
وقدْ رَدَّ هذا التأويلَ الذي يذهبُ باللَّفظِ إلى غيرِ حقيقتِهِ أعلامُ السُّنَّةِ؛
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (ص:83)، وقد قال معقِّباً: «فأية فضيلة في هذا لإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم؟ أما تعلمون أن الناس جميعاً فقراء إلى الله تعالى، وهل إبراهيم في «خليل الله» إلاَّ كما قيل: موسى كليم الله، وعيسى روح الله». وينظر: الاختلاف في اللفظ (ص:36).
(2) متشابه القرآن (1:231)، وينظر تأويل بشر المريسي في الرد عليه للدارمي (ص:38، 39). وعلى هذا سار جمهور المؤوِّلة من معتزلة وأشاعرة وغيرهم. وقد نقد الزمخشري ـ وهو معتزلي ـ هذا التأويل، فقال: «والتفسير بالنعمة، والتمحُّلُ للتثنية من ضيق العطن، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام». الكشاف (2:530)، واللفظة لم تسلم عنده، بل جعلها من المجاز، ولا ثَمَّ حقيقة، وينظر: (1:628).
(3) هذا اللفظ من ألفاظ المبتدعة لتشنيع القول بالصفات الإلهية، وإلاَّ فأهل الحقِّ لا يجيزون مثل هذا الوصف ولا يقولون إلاَّ بالوارد عن الشارع.
(1/527)
________________________________________
كالدَّارمِيِّ (ت:280) الذي قالَ: «قد عَلِمتَ أيها المريسي أنَّ هذه تفاسيرُ مقلوبةٌ، خارجةٌ عن كُلِّ معقولٍ، لا يعقِلُهُ إلاَّ كلُّ جهولٍ. فإذا ادَّعَيتَ: أن اليَدَ قد عُرِفتْ في كلامِ العربِ أنها نعمةٌ وقُوَّةٌ. قلنا لكَ: أجلْ، ولسنا بتفسيرِها منك أجهلَ، غيرَ أنَّ تفسيرَ ذلك يستبينُ في سياقِ كلامِ المتكلمِ حتى لا يحتاجُ له من مثلِكِ إلى تفسيرٍ.
إذا قالَ الرَّجُلُ: لفلانٍ عندي يَدٌ أكافئه عليها. عَلِمَ كُلُّ عالمٍ بالكلامِ أنَّ يَدَ فلانٍ ليستْ ببائنةٍ منه موضوعةً عند المتكلمِ، وإنما يرادُ بها النِّعْمَةُ التي يشكرُ عليها.
وكذلكَ إذا قالَ: فلان له يدٌ أو عَضُدٌ أو ناصرٌ، عَلِمْنَا أنَّ فلاناً لا يمكنُه أنْ يكونَ نفسَ يَدِهِ عُضْوُهُ أو عَضُدُهُ، فإنما عَنَى به النُّصْرَةَ والمعونة والتَّقويةَ.
فإذا قالَ: ضربني فلانٌ بيدِهِ، وأعطاني الشَّيءَ بيدِه، وكتبَ لي بيدِهِ، استحالَ أنْ يقالَ: ضربني بنعمتِهِ. وعَلِمَ كُلُّ عالمٍ بالكلامِ أنها اليَدُ التي بها يضربُ، وبها يكتبُ، وبها يُعْطِي، لا النِّعمةُ ... ولا يجوزُ لك أيها المريسي أن تَنْفِيَ اليَدَ التي هي اليَدُ، لما أنَّه وُجِدَ في كلامِ العربِ أنَّ اليَدَ قدْ تكونُ نعمةً وقوَّةً» (1).
3 - وفي قولِه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، حُكِيَ عن بعضِ المعتزلةِ أنَّه منَ الكلْمِ، ويكون المعنى: «وجَرَّح اللهُ موسى بأظافرِ المِحَنِ ومخالبِ الفتنِ» (2).
وإنما جَعَلَ هذا المحرِّفُ اللَّفظ من مادة الكَلْمِ لا الكلامِ، هروباً من
_________
(1) الرد على بشر المريسي (ص:39).
(2) ينظر: الكشاف، وحاشية ابن المنير (1:582)، والتفسير الكبير، للرازي (11:87)، ونسبه ابن القيم إلى الجهمية، ينظر: الصواعق المرسلة (1:217).
(1/528)
________________________________________
إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ سبحانَهُ، وقدْ قالَ عنه الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزليُّ (ت:538): «ومنْ بِدَعِ التفاسيرِ: أنه من الكَلْمِ، وأن معناه: وجَرَّحَ اللهُ موسى بأظفارِ المِحَنِ ومخالبِ الفِتَنِ» (1).
4 - وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، أخرجَ قومٌ هَمَّ يوسف عليه السلام إلى غرائب لا يَقْبَلُهَا سياقُ الآية، وما حَمَلَهُمْ على ذلكَ إلاَّ دعوى العِصْمَةِ التي أثبتوا أمورَها بعقولِهم، فأوَّلوا كلَّ ما يخالفُ ما قرَّروه مما أثبته الله عليهم، فقال بعضُهم: هَمَّ بالفرارِ منها، وقال بعضُهم: همَّ بضربها، وَحَمَلَهُ آخرونَ على التَّقديمِ والتَّأخيرِ، وقالوا: لم يَهِمَّ أصلاً؛ لأنَّ المعنى: لولا أنْ رأى برهانَ ربه لهمَّ بها.
وقدْ أشارَ ابنُ قتيبةَ (ت:276) إلى أصحابِ هذه التَّأويلاتِ الغريبةِ، فقال: «يستوحشُ كثيرٌ من النَّاسِ منْ أنْ يُلحِقُوا بالأنبياءِ ذُنُوباً، ويحمِلُهُم التَّنْزِيهُ لهم صلواتُ اللهِ عليهم على مخالفةِ كتاب اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، واستكرَاهِ التَّأويلِ، وعلى أن يَلْتَمِسُوا لألفاظِهِ المخارجَ البعيدةَ بالحِيَلِ الضعيفةِ التي لا تُخِيلُ عليهم أو على من عَلِمَ منهم أنها ليستْ لتلك الألفاظِ بشَكْلٍ، ولا لتلكَ المعانِي بِلفْقٍ» (2).
وقدْ نصَّ على قاعدةِ المبتدعةِ في التَّأوِيلِ في مسألةِ العصمةِ الشَّريفُ المُرْتَضَى (ت:436)، فقالَ: «إذا ثبتَ بأدلَّةِ العقولِ التي لا يدخلُها الاحتمالُ والمجازُ ووجوهُ التَّأويلاتِ: أنَّ المعاصي لا تجوزُ على الأنبياءِ عليهم السلام، صَرَفْنَا كُلَّ ما وردَ ظاهرُهُ بخلافِ ذلك منْ كتابٍ أو سُنَّةٍ إلى ما يطابقُ الأدلَّةَ ويوافقُها ...» (3).
_________
(1) الكشاف (1:582). ونقده هذا لا يعني أنه يُثبتُ صفة الكلامِ، بل ينفيها، لكنه لم يرتضِ هذا التأويل الاعتزاليَّ.
(2) تأويل مشكل القرآن (ص:402)، اللِّفق: الملاءمة.
(3) أمالي المرتضى (1:477).
(1/529)
________________________________________
وهذا الذي ذهبَ إليه غيرُ سديدٍ، بلِ القاعدةُ في ذلك أنْ يُثْبَتَ ما أثبتَهُ اللهُ، فلا يُخَالَفُ ذلكَ بسببِ أدلَّةِ العقولِ التي يزعمها المبتدعةُ، وهي أدلة لا ثباتَ فيها، ولا اتفاق، والله أعلم.
وليسَ في وقوعِ الهَمِّ منه عليه السلام ما يوجبُ التَّشْنِيعَ عليه في نُبُوَّتِهِ ولا أنَّ في ذلك خَلَلاً منه، بلْ كانَ ذلكَ منه حَسْبَ الطبيعةِ البشريَّةِ التي هي جُزْءٌ منَ النَّبيِ صلّى الله عليه وسلّم لا تنفكُّ عنه، ولكنَّ الله عَصَمَهُ منَ الوقوعِ في المعصيةِ، لا مِنَ الهَمِّ بها (1).
والحديثُ في هذه الآيةِ يَطُولُ، ويكفي ذِكْرُ بعضِ أقوالِ أهلِ العلمِ في ردِّ مثلِ هذه التأويلاتِ، فمنْ ذلكَ قولُ أبي عبيدِ (ت:224): «وقدْ زَعَمَ منْ يَتَكَلَّمُ في القرآن برأيه أنَّ يوسفَ صلّى الله عليه وسلّم لم يَهِمَّ بِها، يذهبُ إلى أنَّ الكلامَ انقطعَ عند قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، قال: ثمَّ استأنفَ فقال: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، بمعنى: لولا أنْ رَأَى برهانَ ربِّهِ لَهَمَّ بها، واحتجَّ بقوله: {ذَلِكَ
_________
(1) مفهوم العصمةِ من الأمورِ الشَّائكةِ التي خاضت فيها عقولُ المتكلِّمينَ، ولما لم يكن من قواعدهم الأخذُ بالنصوصِ، فأنَّهم قرَّروا مفهوماً للعِصمةِ، ثمَّ حكَّموه في النصوصِ، فما خالفَ مفهومها عندهم ردُّوه أو تأوَّلوه، وقد سبق نقل قول الشريف المرتضى، وفيه ما يدلُّ على ما ذكرتُ.
والصوابُ في هذا الموضوع وغيره مما يتعلَّقُ بأخبار الأنبياءِ وأحوالِهم أن تُستنطقَ النُّصوصُ الشرعيَّةُ، فيُثبتُ ما أثبتته فلا يُرَدَّ، ويُنفى ما نفتْهُ فلا يُثبتُ.
وإذا تأمَّلتَ حالَ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم، ظهرَ لك أنَّه معصومٌ في التَّبليغِ، إذ لم يردْ البتَّة أنَّ الله أمرَه بأمرٍ، فقال لأمتِه خلاف ما أمره الله، كما يظهرُ لك أنَّ اللهَ لا يُقرُّه على ما يقع منه من الخطأ، وهذا ظاهرٌ في معاتبات الله له.
كما أنَّك تجدُ الله يقولُ: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ *الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2، 3]، ويقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً} {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1، 2]. فلا يصحُّ بحالٍ أنْ تنفيَ ما أثبتَه اللهُ، وإنْ ذهبتَ تتمحَّلُ في التأويلِ، فلا فرقَ بينكَ وبينَ من يعتقدُ الرأي، ثم يستدلُّ له، ويحكِّمُه على ظاهر النصوص. وهذا الموضوع يحتاجُ بسطاً أكثرَ من هذا، وليس هذا محلُّه، والله الموفِّقُ، والهادي إلى سواءِ السبيلِ.
(1/530)
________________________________________
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52]، وبقوله: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25]. وابنُ عباسٍ ومنْ دونَهُ لا يختلفونَ في أنَّه هَمَّ بها، وهُم أعلمُ باللهَ، وبتأويلِ كتابِهِ، وأشدُّ تعظيماً للأنبياءِ، منْ أنْ يتكلَّمُوا فيهم بغيرِ علمٍ» (1).
وقالَ أبو جعفرَ النَّحَّاسُ (ت:338): «وكلامُ أبي عبيدٍ هذا كلامٌ حَسَنٌ بيِّنٌ لمنْ لَمْ يَمِلْ إلى الهَوَى ...» (2).
وقال أبو بكرٍ بنِ الأنباريِّ (ت:328): «والذي نذهبُ إليه ما أجمعَ عليه أصحابُ الحديثِ وأهلِ العلمِ، وَصَحَّتْ به الروايةُ عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضوانُ اللهِ عليه، وابنِ عباس رحمه الله، وسعيدِ بنِ جبيرٍ، وعكرمةَ، والحسنِ، وأبي صالحٍ، ومحمدِ بنِ كعبٍ القُرَظَيِّ، وقتادةَ، وغيرِهم، منْ أنَّ يوسفَ عليه السلام هَمَّ هَمًّا صحيحاً على ما نَصَّ اللهُ عليه في كتابِهِ، فيكونُ الهَمُّ خطيئةً من الخطايا وقعت من يوسف عليه السلام كما وقعتِ الخطايا من غيرِه منَ الأنبياءِ.
ولا وَجْهَ لأنْ نُؤَخِّرَ ما قَدَّمَ اللهُ، ونُقَدِّمَ ما أخَّرَ الله، فيقالُ: معنى: وَهَمَّ بها: التأخيرُ مَعَهُ (3) قولُ اللهِ عزّ وجل: {لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، إذ كانَ الواجبُ علينا واللازمُ لنا أنْ نَحْمِلَ القرآنَ على لفظِهِ، وألاَّ نُزِيلَهُ عنْ نَظْمِهِ، إذا لم تَدْعُنَا إلى ذلكَ ضَرُورَةٌ، وما دَعَتْنَا إليه في هذه الآيةِ ضَرُورَةٌ.
فإذا حَمَلْنَا الآيةَ على ظاهرِها ونَظْمِهَا كانَ {وَهَمَّ بِهَا} معطوفاً على {هَمَّتْ بِهِ} و {لَوْلاَ} حرفٌ مبتدأٌ، جوابُهُ محذوفٌ بعدَهُ، يُرادُ به: لولا أنْ رأى برهانَ ربِّه لَزَنَا بها بعد الهَمِّ، فلمَّا رأى البرهانَ زَالَ الهَمُّ وَوَقَعَ الانصرافُ عنِ العَزْمِ.
_________
(1) معاني القرآن، للنحاس (3:413).
(2) معاني القرآن، للنحاس (3:413)، ولكلامه تتمة.
(3) قال محقق الكتاب محمد أبو الفضل إبراهيم: «كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: عن».
ينظر: الأضداد، لابن الأنباري (ص:413).
(1/531)
________________________________________
وقدْ خبَّرَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ عنْ أنبيائِهِ بالمعاصي التي غفرَهَا وتجاوزَ عنهم فيها، فقالَ تباركَ وتعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وقال لِنَبِيِّه محمدٍ عليه السلام: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ *الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 1 - 3]، وخبَّر بمثلِ هذا عنْ يُونُسَ وَدَاوُدَ عليهما السلام، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما من نبي إلاَّ قد عصى الله، إلاَّ يحيى بن زكريا (1).
وقال أبو عبيدٍ: قال الحسنُ: إنَّ الله جلَّ وعزَّ لم يقصصْ عليكم ذنوبَ الأنبياء تعييراً منه لهم، ولكنه قصَّها عليكم لئلا تقنطوا من رحمتِه.
قال أبو عبيدٍ: يذهبُ الحسنُ إلى أنَّ الحُجَجَ من اللهِ جلَّ وعزَّ على أنبيائه أوكدُ، ولهم ألزمُ، فإذا قَبِلَ التوبةَ منهم، كان إلى قبولِها منكم أسرعُ.
وإلى مذهبِنا هذا كان يذهبُ علماءِ اللُّغةِ: الفرَّاءُ، وأبو عبيدٍ، وغيرُهما» (2).
ثانياً: إنْ لم يُسْعِفْهُمْ في اللَّفظِ تعدُّدُ استعمالِه، عَمَدُوا إلى تفسيرِه
_________
(1) أخرج هذا الأثر جماعة من أهل العلم، منهم: الطبري في تفسيره، تحقيق: شاكر (6:377، 378)، وابن أبي حاتم في تفسيره، تحقيق: أسعد الطيب (2:643)، وقال ابن كثير ـ بعد ذكر الأثر عن عبد الله بن عمرو ـ: «فهذا موقوف، وهو أقوى إسناداً من المرفوع، بل وفي صحة المرفوع نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم». تفسير القرآن العظيم، تحقيق: السلامة (2:38).
(2) الأضداد، لابن الأنباري (ص:412 - 414).
وينظر: الوسيط، للواحدي (2:608)، فقد نقل كلام ابن الأنباري، وفيه عبارات أخرى، ولعل الواحديَّ نقل عنه من غير كتاب الأضداد؛ ككتابه في مشكل القرآن الذي ردَّ به على كتاب ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، والله أعلم.
والعجيب أنَّ محققي تفسير الواحدي ردُّوا الوارد عن السلف وجعلوه من الباطل الذي يجب تنْزيه الكتب منه، وأنه من الرفث، ولم يقدموا برهاناً علمياً على قولهم سوى أنه منافٍ للعصمة الثابتة بالدلائل القطعية، ولم يبينوا هذه الدلائل القطعية، وردُّهم هذا عاطفيُّ خطابيُّ، والحقائق والمناقشات العلمية لا تردُّ بهذا الأسلوب، والله المستعان.
(1/532)
________________________________________
بمدلولِ لفظٍ يشابهه في الرَّسمِ، وإنْ اختلفَ عنه في الحركاتِ، التي ينتجُ عنها اختلافُ المدلولِ، وهذه الطَّريقةُ قليلةٌ، ولكَّنها واردةٌ في بعضِ الأمثلةِ، ومنها:
1 - في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] قالوا: «أي: بَشِمَ منْ أَكْلِ الشَّجرةِ، وذهبوا إلى قَولِ العربِ: غَوِيَ الفَصِيلُ: إذا أكثرَ منَ اللَّبَنِ حتى يَبْشَمَ» (1).
فانظرْ، كيفَ حرَّفوا اللفظَ، وجعلوه من غَوِيَ، ونَصُّ القرآنِ «غَوَى»؟!
وإنما دعاهم إلى هذا التَّحريفِ مفهومُ العِصْمَةِ عندهم، وأنَّ النَّبِيَّ لا يجوزُ عليه الخطأُ، وقد يكونُ هذا القولُ بالعصمةِ مبنيًّا على مسألةِ أصحابِ الكبائرِ والقولِ بتخليدِهم في النَّارِ عندَ المعتزلةِ، فيحرِّفون أيَّ نصٍّ وردَ فيه خطأٌ من نبيٍّ؛ لئلاَّ يَخْرِمُوا ما قرَّرُوهُ في هذا المبدأ، فَيُخَرِّجُونَ أخطاءَ الأنبياءِ بأسمجِ التَّخْرِيجَاتِ؛ كهذا التخريجِ.
ولو وجدوا أيضاً في «عَصَى» مثلَ هذا السَّنَنِ لَرَكِبُوه، وليسَ في «غَوَى» شيءٌ إلاَّ ما في «عَصَى» منْ معنى الذَّنْبِ؛ لأنَّ العاصي للهِ التَّاركِ لأمرِهِ غاوٍ في حالِهِ تلكَ، والغاوي: عاصٍ. والغَيُّ ضِدُّ الرَّشَدِ، كما المعصيةُ ضِدُّ الطاعةِ (2).
قالَ ابنُ قتيبةَ (ت:276): «وقدْ أكلَ آدمُ صلّى الله عليه وسلّم منَ الشَّجرةِ التي نُهِيَ عنها، باستزلالِ إبليسَ وخدائعِهِ إياه باللهِ، والقَسَمِ به إنه لمنَ النَّاصحينَ، حتى دَلاَّه بغرورٍ. ولم يكنْ ذنبُهُ عن إرصادٍ وعداوةٍ وإرهاصٍ كذنوبِ أعداءِ اللهِ.
_________
(1) ينظر: تأويل مشكل القرآن (ص:402)، والاختلاف في اللفظ (ص:36). وقد جعله الكرماني في كتابه «غرائب التفسير» من العجيب الذي فيه أدنى خلل ونظر (1:731).
(2) ينظر: تأويل مشكل القرآن (ص:403).
(1/533)
________________________________________
فنحن نقولُ: عصى وغَوَى، كما قالَ اللهُ تعالى، ولا نقولُ: آدمُ عاصٍ وغاوٍ؛ لأن ذلك لم يكنْ عن اعتقادٍ مُقَدَّمٍ ولا نيَّةٍ صحيحةٍ.
كما تقولُ لرجلٍ قَطَعَ ثَوباً وخَاطَهُ: قدْ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ، ولا تقلْ: خائطٌ ولا خَيَّاطٌ، حتى يكونَ مُعَاوِداً لذلكَ الفعلِ، معروفاً به» (1).
2 - وفي تفسيرِ لفظِ الصُّورِ في مثلِ قولِه تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99].
قالوا: الصُّورُ: جمعُ صُورَةٍ (2).
وهذا فيه إنكارٌ لتفسيرِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم الذي فَسَّرَ الصُّورَ بأنه: البوقُ الذي يَنْفُخُ فيه إسرافيل عليه السلام، كما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم في عدَّةِ أحاديثَ رواها عنه أهل الحديث (3).
وإذا عورضَ حديثُ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم، ودلالاتُ الشَّرعِ التي جاء بها، رُدَّ هذا الاعتراضُ ولمْ يُقبلْ، كائناً من كانَ قائلُه.
_________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص:403).
(2) قال بهذا التفسير أبو عبيدة في مجاز القرآن (1:416)، قال: «واحدتها: صورة، خرجت مخرج سورة المدينة، والجميع: سور المدينة». وقد ردَّ عليه أبو الهيثم اللغوي هذا التأويل، فقال: «وكأن أبا عبيدة أراد أن يؤيد قوله في الصور: أنه جمع صورة، فأخطأ في الصُّور والسُّور، وحرَّف كلام العرب عن صيغته، وأدخل فيه ما ليس منه؛ خذلاناً من الله لتكذيبه بأن الصور: قرن خلقه الله للنفخ فيه حتى يُمِيتَ الخلق بالنفخة الأولى، ثَمَّ يحييهم بالنفخة الثانية، والله حسيبه» تهذيب اللغة (13:50). وله بقية في الردِّ فيها طول، وهي تتعلق بتصريف اللفظتين وبيان عدم اتفاقهما، وهي قبل هذا النقل.
(3) ينظر: مسند الإمام أحمد (2:192، 326)، وسنن أبي داود (4:326)، وسنن الترمذي (برقم: 2431)، ومستدرك الحاكم (4:560)، وقد قال ابن كثير عن روايةٍ عند الإمام أحمد في المسند (1:326): «وقد روي هذا من غير وجه، وهو حديث جيدٌ». تفسير القرآن العظيم، تحقيق: السلامة (2:171).
(1/534)
________________________________________
والأصلُ في ذلك: أنه إذا ثبتَ النَّصُّ، طاحَ ما دونَه، فلا يُحكمُ باللغةِ على اصطلاحِ الشَّريعةِ.
قال أبو الهيثم (1): «اعترضَ قومٌ فأنكروا أنْ يكونَ الصُّورُ قَرْناً، كما أنكروا العَرْشَ والميزانَ والصِّراط (2): وادَّعوا أنَّ الصُّورَ: جمعُ الصُّورَةِ (3)، كما أن الصُّوفَ جمعُ الصُّوفَةِ، والثُّومَ جمعُ الثُّومَةِ، ورَوَوا ذلكَ عنْ أبي عُبَيدَةَ.
قالَ أبو الهيثمِ: وهذا خَطأٌ وتحريفٌ لكَلِمِ الله عن مواضِعِها؛ لأنَّ الله جلَّ وعزَّ قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] بفتْح الواوِ، ولا نعلمُ أحداً من القُرَّاءِ قرأها: فأحسنَ صُورَكم. وكذلك قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99، وغيرها] فمنْ قَرَأها: ونُفِخَ فِي الصُّوَرِ، أو قرأ: فأحسن صُوْرَكم، فقدِ افترى الكذبَ وبَدَّلَ كتابَ اللهِ، وكانَ أبو عبيدةَ صاحبَ أخبارٍ وغريبٍ، ولم يكنْ له معرفةٌ بالنَّحْوِ» (4).
_________
(1) اشتهر أبو الهيثم بكنيته، وكان عالماً بالعربية، دقيق النظر، وكان ورعاً، صاحب سنة، لازمه المنذري، وقرأ عليه الكتبَ، وله مؤلفات منها: زيادات معاني القرآن للفراء، توفي سنة (226). ينظر: نزهة الألباء (ص:118)، وإنباه الرواة (4:188).
(2) قال الإمام أبو علي الحسن بن أحمد البنَّا الحنبلي: «وأما القدرية والمعتزلة وأنواعهم، فينكرون الصراط والميزان والكرسي ..». ينظر كتابه: المختار في أصول السنة، تحقيق: عبد الرزاق البدر (ص:87).
(3) ممن قال بذلك: أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي المعتزلي (319)، كما ذكر عنه ابن الوزير المغربي في كتابه «المصابيح في تفسير القرآن» عند قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73]، وقد ردَّ عليه، فقال: «وأخطأ إنما جمع صورة صورة [كذا] والصور: القرن الذي ينفخ فيه المَلَكُ، فيكون فيه الصوت الذي يصعق أهل السموات والأرض». مخطوط المصابيح في تفسير القرآن (آية: 73 من سورة الأنعام/ورقة 104أ).
(4) تهذيب اللغة (12/ 228). وقد عقَّب الأزهري، فقال: «قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه، وهو قول أهل السنة والجماعة، والدليل على صحة ما قالوا: أنَّ الله ـ جلَّ وعزَّ ـ ذكر تصوير الخلق في الأرحام قبل =
(1/535)
________________________________________
في هذا المثالِ تراهم جعلوا الصُّورَ جمعاً مُفْرَدُهُ الصُّورَةُ، والصحيحُ أنه اسمٌ مفردٌ للقَرْنِ الذي يُنْفَخُ فيه، لا جمعاً للصُّورةِ التي يأتي جمعُها متحرِّكَ الواوِ، فيقالُ: الصُّوَر.
ثُمَّ لو صَحَّ أنَّ الصُّوْرَ جمعُ صُورَةٍ، وأنَّ فتحَ الواوِ فيه سُهِّل إلى السُّكُونِ، فإنَّ ذلك مخالفٌ لمعناهُ المرادِ في النُّصُوصِ، ولذا لا يصحُّ حَمْلُ هذا المعنى على هذه الآياتِ الواردةِ في الصُّورِ، والله أعلم.
3 - في قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] ذُكِرَ تفسيرٌ عجيبٌ فيه تحريفٌ للفظِ {نَاظِرَةٌ}، قالَ الشَّرِيفُ المُرْتَضَى (ت:436): «وهاهنا وجهٌ غريبٌ في الآيةِ ـ حُكِيَ عنْ بعضِ المتأخرينَ (1) ـ لا يفتقرُ مُعْتَمِدُهُ عنِ العدولِ عنِ الظاهرِ، أو إلى تقديرِ محذوف، ولا يحتاجُ إلى منازعتِهم في أنَّ النَّظَرَ يحتملُ الرؤيةَ أو لا يحتملُها، بلْ يَصِحُّ الاعتمادُ عليه، سواءٌ كانَ النَّظَرُ المذكورُ في الآيةِ هو الانتظارُ بالقلبِ، أو الرؤيةُ بالعينِ، وهو أنْ يُحْمَلَ قولُه تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على أنَّه أرادَ به: نِعْمَةَ رَبِّهَا؛ لأنَّ الآلاءَ النِّعَمُ، وفي واحدِها أربعُ لغاتٍ: ألاَ، مثلُ: قَفَا، وأَلْيٌ، مثلُ: رَمْيٌ، وإلَىً، مثلُ: مِعَىً، وإِلْيٌ، مثلُ: حِسْيٌ، قال أعشى بكرِ بنِ وائلٍ (2):
_________
= نفخ الروح، وكانوا ـ قبل أن صوَّركم ـ نُطَفاً، ثمَّ علقاً، ثم مُضَغاً، ثمَّ صوَّرهم تصويراً.
فأما البعث، فإنَّ الله ـ جلَّ وعزَّ ـ ينشئهم كيف يشاء، ومن ادَّعى أنه يصوِّرهم، ثمَّ ينفخ فيهم، فعليه البيان، ونعوذ بالله من الخذلان» تهذيب اللغة (12:229).
(1) ورد في حاشيةَ نسختين من مخطوط الأمالي أن القائل: الصاحب بن عباد، ينظر (1:36 - 37، حاشية6)، وقد راجعت كتاب المحيط في اللغة، للصاحب في مادة (نظر)، ولم يذكر هذا التأويلَ، وإنما ذكر تأويل قوله تعالى: {وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]، قال: «أي: لا يرحمهم». وفي مادة (إلى) أورد أنْ معنى الإلى: النعمة، وجمعه الإلاء والآلاء، ولم أجد هذا التأويل، والله أعلم بصحةِ نسبته إليه.
(2) البيت في ديوانه، تحقيق حنا نصر (ص:267).
(1/536)
________________________________________
أبْيَضٌ، لا يَرْهَبُ الهُزَالَ، وَلا ... يَقْطَعُ رَحِماً، ولا يَخُونُ إلَى
أرادَ أنه لا يخونُ نعمةً، فأراد بـ {إِلَى رَبِّهَا}: نعمةَ رَبِّهَا، وأسقطَ التنوينَ للإضافةِ ...» (1).
فانظرْ إلى هذا التَّحريفِ العجيبِ الذي يسلكُهُ هؤلاءِ لإثباتِ مذهبِهم الذي ذهبوا إليه في أنَّ الله لا يُرَى، فذهبوا إلى كُلِّ عجيبٍ منَ القَولِ لِنَفْيِ ما ثبتَ من ظاهرِ النُّصوصِ الشَّرعيةِ، فجعلوا حرف الجرِّ في الآية اسماً، وفسَّروه على الاسمية بما رأيت، وقد عزَّز الشَّريفُ المرتضى (ت:436) تفسيرَه بموافقته الظاهرَ، مما يدلك على أنَّ التفسيرات الأخرى فيها خروج عن هذا الظاهر (2)، وإنما كان ذلك هروباً من أنَّ اللهَ سبحانَه يُرَى يوم القيامةِ بالأبصارِ.
ثالثاً: فإنْ لم يجدوا إلى ذلكَ سبيلاً، أحدثوا للَّفظِ مدلولاً جديداً (3)، وقد يستحدثون له شاهداً ينسبونَه للغةِ العربِ (4).
ومن الأمثلة التي ذُكِرَتْ في هذا الباب: تفسيرُ الاستواءِ في مثلِ قولِه تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بأنَّ معناه: استولى (5)،
_________
(1) أمالي الشريف المرتضى (1:36 - 37)، وقد ذكر المحقق اعتراضاً على هذا التفسير، وهو موجود في حاشية نسختين من الكتاب (1:37، حاشية4).
(2) ينظر في هذه التفسيرات أمالي المرتضى (1:36).
(3) يدخلُ في ذلكَ كثير من تفاسيرِ الرافضة والصوفية والباطنية والفلاسفة وغيرهم ممن يورد مصطلحاتٍ يفسِّرُ بها القرآن وهي ليست من لغة العربِ، وستأتي الإشارةُ إلى ذلك.
(4) ذكر الرافعي في كتابه: تاريخ آداب العرب (1:373): أن من أسباب وضع الشعر: توليدها من قِبَلِ بعض المتكلمين للاستشهاد بها على مذاهبهم، وقد نقله عنه ناصر الدين الأسد في كتابه: مصادر الشعر الجاهلي (ص:378).
(5) فسَّره بعض الأشاعرة بالغلبة والقهر، واستدلَّ لذلك بالبيت الذي استشهد به المعتزلة، وجعل دلالة الاستواء في البيت بمعنى القهر والغلبة. ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي: (ص:519). وجعله الزمخشري: كناية عن المُلْكِ، ينظر: الكشاف (2:530). =
(1/537)
________________________________________
ويستشهدون لصحَّةِ ما ذهبوا إليه ببيتٍ من الشعر، وهو:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ
وقالوا: استوى في هذا البيتِ: استولى.
وقد قال بهذا التفسير الجهمية (1)، والحرورية (2)، والمعتزلة (3)، وتبعهم عليه جملة من المتكلمين من متأخري الأشاعرة (4)، والرافضة، والزيدية، وغيرهم ممن تأثر بهم في هذا التفسير (5).
وقدْ سأل ابن أبي دؤاد المعتزليِّ (ت:240) (6) ابنَ الأعرابيِّ اللغويِّ (ت:231)، فقالَ: «أتعرفُ في اللُّغةِ استوى بمعنى: استولى؟
فقالَ: لا أعرفُ» (7).
كما وقعَ لابنِ الأعرابيِّ (ت:231) مناظرةٌ معَ رجلٍ سألَه: «ما معنى قولِ الله عزّ وجل: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؟
فقالَ: هو على عرشِهِ كما أخبرَ.
فقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ، ليسَ هذا معناه، إنما معناه: استولى.
_________
= وقد ردَّ ابن القيم على هذه الانحرافات وغيرها في تأويل الاستواء، ينظر: مختصر الصواعق المرسلة (ص:320 - 326).
(1) بيان تلبيس الجهمية (2:342)، نقلاً عن صاحب الحيدة.
(2) ينظر: الإبانة عن أصول الديانة (ص:120).
(3) ينظر مثلاً: قول البلخي من المعتزلة في بيان تلبيس الجهمية (2:335).
(4) ينظر مثلاً: تفسير الرازي (22:7)، وغرائب القرآن (8:135).
(5) ينظر مثلاً: تفسير الماتريدي (1:85)، وتفسير النسفي (2:114)، (3:185).
(6) أحمد بن أبي دؤاد القاضي المعتزلي، رأس في فتنة خلق القرآن، كان فصيحاً مفوَّهاً، جواداً مُمَدَّحاً، أصيب في آخر عمره بالفالج، وغضب عليه المتوكل وصادر أمواله، توفي سنة (240)، شذرات الذهب (2:93).
(7) أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي (1:399).
(1/538)
________________________________________
قال: أُسْكُتْ. ما أنت وهذا؟ لا يقالُ: استولى على الشَّيءِ إلاَّ أنْ يكونَ له مُضَادٌّ، فإذا غَلَبَ أحدُهما، قيل: استولى، أما سمعتَ النَّابغةَ (1):
ألا لِمِثْلِكَ أوْ مَنْ أنْتَ سَابِقُهُ
سَبْقَ الجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأمَدِ» (2)
وهذا احتجاجٌ عقليٌّ يَرُدُّ به ابنُ الأعرابيِّ (ت:231) على هذا الذي زعمَ أنَّ معنى استوى: استولى.
والمقصودُ أنَّ هذا المعنى الذي اخترعَه مخترعٌ ليسَ من لغةِ العربِ، ولا يجوزُ أنْ يُفَسَّرَ به القرآنُ.
ولذا أنكرَ العلماءُ العارفونَ هذا المعنى، ونَصَّ بَعضُهم على أنَّ البيتَ مما لا يصحُّ الاحتجاجُ به؛ كالخطابي (ت:388) الذي قالَ: «وزعم بعضُهم: أنَّ استوى هاهنا بمعنى: الاستيلاءِ، ونَزَعَ إلى بيتٍ مجهولٍ لم يقلْه شاعرٌ معروفٌ يصحُّ الاحتجاجُ بقولِه. ولو كانَ الاستواءُ هاهنا بمعنى: الاستيلاءِ، لكانَ الكلامُ عديمَ الفائدةِ؛ لأنَّ الله تعالى قد أحاطَ علمُه وقدرتُه بكلِّ شيءٍ وكلِّ قُطْرٍ وبقعةٍ من السَّموات والأرضينَ وتحتَ العرشِ، فما معنى تخصيصُه العرشَ بالذِّكرِ. ثمَّ إنَّ الاستيلاء إنما يتحقَّقُ معناه عندَ المنعِ منَ الشَّيءِ، فإذا وقعَ الظَّفَرُ به قيل: استولى عليه، فأيُّ منعٍ كانَ هناكَ حتى يُوصَفَ الاستيلاءُ بعدَه؟» (3).
_________
(1) زياد بن معاوية، المعروف بالنابغة الذبياني، شاعر جاهلي، صاحب أحد المعلقات، وكان شاعراً في بلاط الغساسنة والمناذرة، واختص بأبي قابوس النعمان بن المنذر، توفي (نحو 18 ق هـ). ينظر: معجم الشعراء الجاهليين (ص:356 - 359)، ومعجم الشعراء (ص:266 - 267).
والبيت في ديوانه، تحقيق: محمد الطاهر بن عاشور (ص:82)، والأمد: نهايةُ السِّباق.
(2) أصول اعتقاد أهل السنة (1:399)، وقد رواه علي بن مهدي الطبري صاحب الأشعري، عن نفطويه، عن أبي سعيد، عن ابن الأعرابي، ينظر في بيان تلبيس الجهمية (2:336).
(3) مختصر الصواعق المرسلة (ص:321).
(1/539)
________________________________________
وقالَ ابنُ تيميَّةَ (ت:728): «لم يثبتْ أنَّ لفظَ استوى في اللُّغةِ بمعنى: استولى، إذِ الذينَ قالوا ذلكَ عمدتُهم البيتُ المشهورُ:
ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَلاَ دَمٍ مِهْرَاقِ
ولم يثبتْ نقلٌ صحيحٌ أنَّه شعرٌ عربيٌّ، وكانَ غيرُ واحدٍ من أئمةِ اللُّغةِ أنكروه، وقالوا: إنَّه بيتٌ مصنوعٌ، لا يُعْرَفُ في اللُّغةِ، وقدْ عُلِمَ أنَّه لو احتجَّ بحديثِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لاحتاجَ إلى صِحَّتِهِ، فكيفَ ببيتٍ منَ الشِّعرِ لا يُعْرَفُ إسنادُهُ؟! وقدْ طعنَ فيه أئمةُ اللُّغةِ، وذُكِرَ عنِ الخَلِيلِ (1)، كما ذكرَهُ أبو المظَفَّرِ (2) في كتابِه: الإفصاحِ، قالَ: سُئِلَ الخليلُ: هلْ وجدتَ في اللُّغةِ استوى بمعنى: استولى؟ فقالَ: هذا ما لا تعرفُهُ العربُ، ولا هو جائزٌ في لغتِها. وهو إمامٌ في اللُّغةِ على ما عُرِفَ من حالِه، فحينئذٍ: حملُه على ما لا يُعْرَفُ حَمْلٌ باطلٌ» (3).
وقالَ ابنُ القَيِّمِ (ت:751): «هذا البيتُ مُحَرَّفٌ، وإنما هو هكذا:
بِشْرٌ قَدِ اسْتَوَلى عَلَى العِرَاقِ ... ........
هكذا لو كانَ البيت معروفاً منْ قائلٍ معروفٍ، فكيفَ وهو غيرُ معروفٍ في شيءٍ منْ دواوينِ العربِ وأشعارِها التي يُرجَع إليها» (4).
2 - وفي قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] = ذُكِرَ
_________
(1) هو الخليلُ بن أحمد.
(2) يحيى بن هبيرة، أبو المظفر، الوزير، الحنبلي، كان زاهداً ورعاً متمسكاً بالسنة، شرح صحيح البخاري ومسلم، وسمى كتابه: الإفصاح عن معاني الصحاح، توفي سنة (560)، شذرات الذهب (4:191 - 197)، آثار الحنابلة في القرآن (ص:86).
(3) فتاوى شيخ الإسلام (5:146).
(4) مختصر الصواعق المرسلة (ص:326).
(1/540)
________________________________________
عن أبي عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303) أنَّه فسَّرَ الحجارةَ بالبردِ الذي يهبطُ من السحابِ تخويفاً من الله تعالى لعباده، ليزجُرَهم به (1).
قال الإمامُ ابن كثيرٍ (ت:774): «قال القاضي الباقلاَّنيُّ (2): وهذا تأويلٌ بعيدٌ (3)، وتبعه في استبعاده فخر الدِّين الرَّازي (4)، وهو كما قالا، فإنَّ هذا خروج عن ظاهر اللَّفظِ بلا دليلٍ، والله أعلم» (5).
ولستَ تجدُ في لغةِ العربِ أنَّه يطلقُ على الحجارة البَرَدُ أو العكس (6)، ولمَّا كانَ أبو عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303) لا يرى وجودَ الإحساسِ في الجماداتِ،
_________
(1) ينظر: مفاتيح الغيب (3:121)، وتفسير ابن كثير (1:204 - 205)، وقال عنه الماوردي: «وهذا قول تفرَّد به بعض المتكلمين». النكت والعيون (1:146)، وكذا حكاه الوزير المغربي عند الآية نفسها في كتابه المصابيح في تفسير القرآن، ورقة: 19، وجعله الكرماني من العجيب. غرائب التفسير (1:151).
(2) محمد بن الطيب بن محمد، أبو بكر الباقلاني، القاضي الأشعري المتكلم، وكان سريع البديهة، له قصص في ذلك مشهورة، منها ما كان من إرساله إلى ملك الروم، وقد صنَّف في الردِّ على الرافضة والمعتزلة والخوارج وغيرهم، ومن كتبه: إعجاز القرآن، توفي سنة (403)، ينظر: تاريخ بغداد (5:379 - 383)، شذرات الذهب (3:168 - 170).
(3) نقله عن الرازي في تفسير مفاتيح الغيب (3:121).
(4) لم ينصَّ الرازي على استبعاده، إلاَّ أن قلتَ: إنَّ نقله قولَ القاضي وعدم الاعتراضِ عليه دليلُ على اتباعه له، والله أعلم.
والرَّازي: محمد بن عمر بن الحسين، المعروف بالفخر الرازي، الأصولي، كان أشعريًّا فيلسوفاً، ثمَّ ترك هذه العقائد آخر عمره، وله وصية مشهورة في ذلك، وقد كان كثير التصنيف، ومن تصانيفه كتاب التفسير الكبير، المسمى: مفاتيح الغيب. توفي سنة (606)، ينظر: سير أعلام النبلاء (21:500 - 501)، والوافي بالوفيات (4:248 - 259).
(5) تفسير القرآن العظيم، تحقيق: السلامة (1:305).
(6) ينظر مثلاً: الروايات الواردة عن السلف في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:239 - 241)، وينظر: مادة (حجر) ومادة (برد) في لسان العرب وتاج العرس، فإنه لم يرد فيها هذا المعنى الذي ذكره الجبَّائي.
(1/541)
________________________________________
ذهبَ إلى هذا التأويلِ الغريبِ الذي لم يُذكرْ عن أحدٍ قبلَهُ. وجعلَ معنى خشيةِ اللهِ؛ أي: من إخشاءِ اللهِ الناسَ بذلك؛ كقوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12]؛ أي: للإخافة والإطماع (1).
الثاني: أساليبُ الخطابِ العربيةِ:
ومنْ أمثلةِ انحرافهم بسببِ الأساليبِ العربيَّةِ في الخطابِ:
قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وهذه الآيةُ منْ أشهرِ الآياتِ التي سَلَّطَ عليها المبتدعةُ أسلوبَ الحذفِ، والقاعدةُ المقرَّرَةُ في هذا الأسلوبِ: أنه لا يُحْذَفُ إلاَّ ما دَلَّ المقامُ عليه، وأنَّ حذفَهُ لطلبِ الاختصارِ والبلاغةِ في الكلامِ.
وقدْ جعلوا قولَه تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] منْ حذفِ المضافِ، وقدَّرُوهُ عِدَّةَ تقديراتٍ لا يَدُلُّ عليها السِّياقُ، بلْ هي هروبٌ منْ إثباتِ ظاهرِ النَّصِّ إلى التَّنْزِيهِ المزعومِ عندَهم، وهو تعطيلُ صفات اللهِ، ومنْ أشهرِ هذه التَّقديراتِ: جاءَ أمرُ ربكَ بالمحاسبةِ والجزاءِ (2).
وليسَ هناكَ سببٌ لهذا الحذفِ عندَهم سوى الدلائلِ العقليَّةِ المزعومةِ التي رتَّبوها، قال الرَّازيُّ (ت:606): «واعلمْ أنَّه ثبتَ بالدليلِ العقليِّ أنَّ الحركةَ على الله تعالى محالٌ؛ لأنَّ كُلَّ ما كان كذلك، كانَ جِسْماً (3)، والجسمُ
_________
(1) ينظر: غرائب التفسير، للكرماني (1:151).
(2) ينظر على سبيل المثال: متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار (2:689)، وأمالي الشريف المرتضى (2:311)، وتفسير الرازي (31:158)، وذكر الرازي تقديرات أخرى، ومن أعجب ما ذكره في الآية الوجه السادس، قال: «وسادسها: أن الربَّ هو المربي، ولعل ملَكاً هو أعظم الملائكة هو مُرَبٍّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم جاء، فكان هو المراد من قوله: {جَاءَ رَبَّهُ}».
ولست أدري ما الفرق بين هذا التأويل وتأويلات غلاة الرافضة والباطنية؟!
(3) لفظ الحركة والجسم من الألفاظ التي يهوِّش بها المبتدعة لنفي صفات الباري سبحانه، وهذه من الألفاظ البدعية التي ليس فيها من تنزيه الله شيء، بل الصواب =
(1/542)
________________________________________
يستحيلُ أنْ يكونَ أزلياً، فلا بدَّ فيه منَ التَّأويلِ، وهو منْ بابِ حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَهُ ...» (1).
وقد جرى هؤلاءِ على هذا المبدأ في الآياتِ التي تثبتُ لغيرِ العقلاءِ تمييزاً؛ كالسُّجودِ والتَّسبيح والقَولِ وغيرِها، فحملوها على الحذفِ أو المجازِ، ولم تسلمْ آيةٌ في هذا الموضوعِ من تسليطِ أسلوبِ الحذفِ أو المجازِ عليها، ومنَ أمثلةِ الآياتِ التي أثبتَ اللهُ فيها للجماداتِ شيئاً من الإحساسِ:
1 - أولُ آيةٍ وردَ فيها إثباتُ التَّمييزِ للجماداتِ، قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74]، وقدْ ذهبَ المعتزلةُ بهذه الآيةِ إلى المجازِ، ونَفَوا أنْ يكونَ من الحجارةِ خشيةٌ للهِ تعالى، قالَ الشَّريفُ الرَّضيُّ (ت:406): «هذه استعارةٌ، والمرادُ: ظهور الخضوعِ فيها لتدبيرِ الله تعالى بآثارِ الصَّنعةِ وإعلامِ الصِّبغةِ» (2).
وقالَ الزَّمخشريُّ (ت:538): «والخشيةُ: مجازٌ عن انقيادِها لأمرِ اللهِ وأنها لا تمتنعُ على ما يُرادُ فيها، وقلوبُ هؤلاءِ لا تنقادُ ولا تفعلُ ما أُمِرَتْ به» (3).
وهذا الذي قالوه خلافٌ لظاهرِ الآيةِ، وأقوالُ المفسِّرينَ من السَّلفِ تدلُّ
_________
= إثبات ما أثبته الله العليم بنفسه لنفسه، دون الدخول في كيفيات صفاته بدلائل العقول المخذولة.
(1) مفاتيح الغيب، للرازي (31:158).
(2) تلخيص البيان في مجازات القرآن (ص:16).
(3) الكشاف (1:291).
وقد حكى السَّمرقندي تأويلاً آخر نسبهُ إلى المعتزلة، فقال: «وقال بعضهم: هو على وجه المثال؛ يعني: لو كان له عقل لهبط من خشية الله تعالى، وهو قول المعتزلة، وهو خلاف أقاويل أهل التفسير». بحر العلوم (1:130).
(1/543)
________________________________________
على حصولِ التَّمييزِ للحَجَرِ، ووقوعِ الهبوطِ من خشيةِ الله حقيقةً لا مجازاً (1)، وما ذهبَتْ إليه المعتزلةُ ليسَ بشيءٍ؛ لأنه ليسَ شيءٌ إلاَّ أثرُ الصَّنْعَةِ فيه، وإنما هبطَ الحجرُ لوجودِ التَّمييزِ فيه؛ كما قالَ تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وكما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] ولو كان يراد بذلك أثرُ الصَّنعةِ لم يقلْ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}؛ لأنَّ أثرَ الصَّنعةِ شاملٌ للمؤمنِ وغيرِه (2).
قالَ البَغَوِيُّ (ت:516) (3): «فإنْ قيلَ: الحجرُ جمادٌ لا يفهمُ، فكيفَ يَخشى؟
قيلَ: الله يُفْهِمُه ويُلهِمُهُ فيخشى بإلهامِهِ، ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ لله تعالى عِلْماً في الجماداتِ وسائرِ الحيواناتِ، سوى العقلاء، لا يقفُ عليه غيرُ اللهِ، فلها صلاةٌ وتسبيحٌ وخشيةٌ (4)؛ كما قالَ جلَّ ذِكْرُهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وقال: {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ
_________
(1) تنظر أقوالهم في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:240 - 241).
(2) ينظر: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (1:157 - 158)، ورسالة في قنوت الأشياء كله لله، لابن تيمية، ضمن جامع الرسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم (1:43 - 45).
(3) الحسين بن مسعود بن محمد الفراء، المعروف بالبغوي، شافعي مفسر، كان صاحب سنة، له مصنفات، منها: معالم التنزيل، توفي سنة (516)، ينظر: التحبير في المعجم الكبير، للسمعاني (1:213 - 214)، وسير أعلام النبلاء (19:439 - 443).
(4) قال الرازي ـ مبيناً سبب إنكار المعتزلة لهذا المعنى الحقيقي في هذه الجمادات ـ: «وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل، ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلاَّ مجرد الاستبعاد، فوجب ألاَّ يلتفت إليهم». مفاتيح الغيب (3:120).
وإن صحَّ هذا الإخبار عنهم، فإنه يدلُّ على أن هؤلاء يعتقدون، ثم يحرفون الكتاب إلى ما يوافق مقرراتهم السابقة، ولا شكَّ أن هذا المنهج يقود إلى التحريف دائماً.
(1/544)
________________________________________
وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحج: 18] الآية، فيجبُ على المرءِ الإيمانُ به، ويَكِلُ عِلْمَهُ إلى اللهِ سبحانه وتعالى ...» (1).
2 - قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وقد قالوا فيها بالمجازِ، وأنَّ هذه المخلوقاتِ لا يَقَعُ منها تسبيحٌ قوليٌّ، بل إنَّ معنى تسبيحها: ما فيها منْ أثرِ الصَّنْعَةِ الدَّالِّ على الخالقِ سبحانه؛ أيْ أنَّ تسبيحَهَا حاليٌّ، وليسَ مقاليًّا، قال الزَّمَخْشَرِيُّ (ت:538): «والمرادُ أنها تسبِّحُ له بلسانِ الحَالِ، حيثُ تَدُلُّ على الصَّانعِ وعلى قدرتِه وحكمتِه، فكأنها تَنْطِقُ بذلك، وكأنها تُنَزِّهُ اللهَ عزّ وجل مما لا يجوزُ عليه منَ الشُّرَكَاءِ وغيرها.
فإن قلتُ: فما تصنعُ بقوله: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، وهذا التسبيحُ مَفْقُوهٌ معلومٌ؟
قلتُ: الخطابُ للمشركينَ، وهمْ وإنْ كانوا إذا سُئلوا عن خالقِ السَّمواتِ والأرضِ، قالوا: اللهُ، إلاَّ أنهم لما جعلوا معه آلهةً مع إقرارِهم، فكأنهم لم ينظروا ولم يُقِرُّوا؛ لأنَّ نتيجةَ النَّظرِ الصَّحِيحِ والإقرارِ الثَّابتِ خلافُ ما كانوا عليه، فإذاً لم يفقهوا التَّسبيحَ، ولم يستوضحوا الدلالةَ على الخالقِ.
فإنْ قلتَ: منْ فيهنَّ يُسَبِّحُونَ على الحقيقةِ، وهم الملائكةُ والثَّقلانِ، وقد عُطِفُوا على السَّمواتِ والأرضِ، فما وَجْهُهُ؟
قلتُ: التَّسبيحُ المجازيُّ حاصلٌ في الجميعِ، فوجبَ الحملُ عليه، وإلاَّ كانتِ الكلمةُ الواحدةُ في حالةٍ واحدةٍ محمولةً على الحقيقةِ والمجازِ» (2).
_________
(1) معالم التنْزيل (1:85 - 86)، وقد ذكر بعد هذا عِدَّة أحاديث فيها ذكرٌ لتمييز بعض الجمادات؛ كحديث: «هذا جبل يحبنا ونحبه»، وحديث تسبيح الحصى بيد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحنين الجذع، وغيرها. وينظر: تفسير السمعاني (1:96).
(2) الكشاف (2:451).
(1/545)
________________________________________
وقدْ حَمَلَ الرَّازيُّ (ت:604) التَّسبيحَ على أنه حاليٌّ مجازيٌّ، وزعمَ أنَّ التَّسبيحَ المقاليَّ لا يحصلُ إلاَّ مع الفَهْمِ والعلمِ والإدراكِ والنُّطْقِ، وكلُّ ذلك في الجمادِ مُحَالٌ، فلم يَبْقَ حصولُ التَّسبيحِ بِحَقِّهِ إلاَّ بطريقِ الحالِ، ثمَّ قالَ: «واعلمْ أنَّا لو جوَّزْنَا في الجمادِ أنْ يكونَ عالماً متكلماً، لَعَجَزْنَا عن الاستدلالِ بكونِه عالماً قادراً على كونِه حَيًّا، وحينئذٍ يفسدُ علينا بابُ العِلمِ بكونِه حَيّاً، وذلكَ كُفْرٌ. فإنَّه يقالُ: إذا جازَ في الجماداتِ أنْ تكونَ عالمةً بذاتِ اللهِ وصفاتِه وتسبيحِه، مع أنها ليستْ بأحياءَ، فحينئذٍ لا يلزمُ منْ كَونْ الشَّيءِ عالماً قادراً متكلماً، كونُه حيّاً، فلم يلزمْ منْ كونِه تعالى عالماً قادراً كونُه حيّاً، وذلكَ جَهلٌ وكفرٌ؛ لأنَّ من المعلومِ بالضرورةِ: أنَّ منْ ليسَ بِحَيٍّ، لم يكنْ عالماً قادراً متكلماً، وهذا القولُ الذي أطبقَ العلماءُ المُحَقِّقُونَ عليه» (1).
وإنما جَسَّرَ الرَّازيَّ (ت:604) على حملِ اللَّفظِ على مجازِه هذه الشُّبهةُ التي أوردَها، وهي إشكالٌ يَرِدُ على من ليسَ عندَه إلاَّ هذا الدليلُ لإثباتِ حياةِ اللهِ سبحانه، وليسَ هناكَ ما يضطرُّ إلى هذا المجازِ، بل التَّسبيحُ حقيقيٌّ، وهو كما قال الله سبحانه: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فنثبتُ ما أثبته الله لهذه المخلوقات حقيقة، ونؤمن بظاهر اللفظ، هذا مع وُرُودِ عِدَّةِ آياتٍ وأحاديثَ تدلُّ على حصولِ السجود والتسبيح وغيرها من الإحساسات للجماد، مما يجعل تكاثر هذه النصوص مبعداً لها عن المجاز إلى الحقيقة. وإذا أضفت ما ورد في السُّنَّة من حنين الجذع، وشكوى البعير، وتكلم الكتف المسموم، وغيرها، أيقنتَ أن هذه التصرفات لها على الحقيقة لا المجاز، والله أعلم.
وهذا القول خلاف ما ورد عن السلف الذين جعلوا التسبيح حقيقياً (2)،
_________
(1) تفسير الفخر الرازي (20:175).
(2) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (15:92 - 93)، وبحر العلوم، للسمرقندي (2:270)، ومعالم التنْزيل، للبغوي (3:116 - 117)، وتفسير القرآن، للسمعاني (3:244 - 245)، وغيرها.
(1/546)
________________________________________
هذا مع أن ما ذهبوا إليه من أن الخطاب في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} للكفار، وما بنوا على ذلك من نتيجة، مخالفٌ للواقع؛ لأن الذين خوطبوا بهذا مقرُّون بأن الله خالقُهم وخالقُ السموات والأرض ومن فيهن، فكيف يجهلون الخِلْقَةَ، وهم عارفون بها (1).
3 - وفي قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72] تقديراتٌ تُخْرِجُ اللفظَ عن ظاهرِه، وكلُّ ذلك بسببِ مقدماتٍ عقليةٍ بحتةٍ في إحساسِ الجمادِ وعَقْلِهِ، وأنه مما لا يَقَعُ عليه التَّكليفُ، ولا يَصْدُرُ منه ما يختصُّ بالمخيَّرِ المُكَلَّفِ؛ كالتسبيحِ، والسجودِ، والقولِ، وغيرِها.
ومن التأويلاتِ التي ذَكَرَوها في هذه الآية:
* أنَّ في الآيةِ حذفاً، وتقديرُه: إنَّا عرضنا الأمانةَ على أهلِ السمواتِ والأرضِ والجبالِ (2).
* قال ابنُ الأنباريِّ (ت:328): «قال بعضُ الناسِ: لو كانتِ الأمانةُ يجوزُ أنْ تُعْرَضَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ، لكانتْ تَابَى تَحَمُّلَها، ولكنَّها مَوَاتٌ لا تعقلُ، والأمانةُ لا تُعْرَضُ على ما لا يعقلُ.
وقال: هذا من بابِ المجازِ؛ كقولِ العربِ: شكا إليَّ بعيري طولَ
_________
(1) ينظر: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (3:242).
وقد أبعد قوم في التَّأويل، فقالوا: تسبيحه: حَمْلُه غيرَه على التَّسبيح إذا تأمَّل فيه وتدبَّر. غرائب التفسير، للكرماني (1:628)، وينظر: النكت والعيون للماوردي (3:245).
وهذا فيه بُعدٌ ظاهرٌ، وغرابةٌ لا تخفى على من اطَّلع على تفسير القرآن الميسَّر للفهم.
(2) ينظر: الأضداد، لابن الأنباري (ص:391)، وتلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي (ص:221)، ومتشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار، فقد ذكره عن الجبائي (2:567)، وأمالي الشريف المرتضى (2:309).
(1/547)
________________________________________
السَّيرِ؛ معناه: لو كانَ يعقلِ لَشَكَا، ولكنَّه لا يعقلُ ولا يَشْكُو» (1).
فانظرْ إلى هذه التأويلاتِ العجيبةِ التي تُخرجُ النَّصَّ عن ظاهرِه! اللهُ سبحانه يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} وهؤلاء يقولون: عَرَضَهَا على أهلِهَا، والآخرونَ يقولونَ: لم يَعْرِضْهَا، وقدْ صَرَّحَ بعضُهم بهذا، فقالَ: «ما عرضَ اللهُ ـ جلَّ ذِكْرُهُ ـ الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ قَطُّ، وإنما هو من المجازِ على قولِ العربِ: عَرَضْتُ الحِمْلَ على البعيرِ، فَأَبَى أنْ يَحْمِلَهُ؛ أيْ: وجدتُ البعيرَ لا يصلحُ للحَمْلِ وللعَرْضِ، فكذلك السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ لا تصلحُ للأمانةِ ولا لِعَرْضِهَا عليها» (2).
وَتَجِدُهم في هذا المثالِ استخدموا أساليبَ العربِ وتوسُّعَها في الكلامِ لإخراجِ الكلامِ عن حقيقتِهِ إلى هذهِ التأويلاتِ المنكرةِ، لعدم استيعاب عقولهم الضيقة لهذا، ولو كان ما قالوه صحيحاً، فما فائدةُ هذا الخطابِ إذاً؟!.
أمَّا السَّلفُ فقد حملوا الكلامَ على حقيقتِه (3)، وجعلوا الأمانةَ معروضةً على السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ حقيقةً، وهو الصَّوابُ، إذ هذا الكلامُ لو كان يحتملُ المجازَ والحقيقةَ، لقُدِّمتِ الحقيقةُ على المجازِ؛ لأنها الأصلُ، كيف وهو لا يحتمل المجازَ في هذا الموضعِ، بدلالةِ تفسيرِ السَّلفِ له على الحقيقةِ، والله أعلم.
4 - في قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] تأويلاتٌ للمبتدعةِ، منها.
* أنَّ في الآيةِ حَذْفَ مضافٍ، والمعنى: يومَ نقولُ لِخَزَنَة جهنَّمَ ... ويقولُ خَزَنَةُ جهنَّمُ، فحذفَ الخَزَنَةَ وأقامَ جهنَّمَ مقامَهُم، كما تقولُ العربُ:
_________
(1) الأضداد، لابن الأنباري (ص:388)، واختار هذا التأويل الشريف المرتضى في أماليه (2:309).
(2) الأضداد لابن الأنباري (ص:392).
(3) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (22:53 - 56).
(1/548)
________________________________________
اسْتَتَبَّ المجلسُ، وهم يريدون أهلَ المجلسِ (1).
* أنَّ هذا من الاستعارةِ؛ لأنَّ الخطابَ للنَّارِ والجوابَ منها في الحقيقةِ لا يَصِحَّانِ، وإنما المرادُ: أنها فيما ظَهَرَ مِنِ امتلائها، وبَانَ مِنِ اغْتِصَاصِهَا بأهلِها بمنْزلةِ النَّاطقةِ بأنَّه لا مزيدَ فيها ولا سَعَةَ عندَها، وذلكَ كقولِ الشَّاعِرِ (2):
امْتَلأ الحَوْضُ وَقَالَ قِطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتُ بَطْنِي
ولم يكنْ هناكَ قولٌ مِنَ الحوضِ على الحقيقةِ، ولكنَّ المعنى أنَّ ما ظهرَ من امتلائِه في تلك الحال جارٍ مجرى القولِ منه، فأقامَ الأمرَ المُدْرَكَ بالعينِ مقامَ القولِ المسموعِ بالأُذُنِ (3).
وهذانِ القولانِ أخرجا الخطابَ عن الحقيقةِ، والصوابُ أنَّ الله الذي أنطقَ كُلَّ شَيءٍ يقولُ لجهنَّم قولاً، وجهنَّمُ ترد عليه قولاً، ولا مجالَ لإخراج الكلامِ عن حقيقتِهِ إلاَّ عندَ أصحابِ العقولِ الضَّيِّقَةِ التي لا تَقْدُرُ الله حَقَّ قدرِهِ، وتستبعدُ أنْ يجعلَ الجماداتِ منْ أهلِ المقالِ والإحساسِ، وقدْ حملَ العلماءُ هذا الخطابَ وأمثالَه على الحقيقةِ، قالَ الكرمانيُّ (ت: بعد500) (4): «وجُلُّ المفسرينَ على أنَّ القولَ في الآيةِ حقيقةٌ» (5)، وهذا هو الصواب الذي
_________
(1) ينظر: الأضداد، لابن الأنباري (ص:194)، وتلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي (ص:265)، وغرائب التفسير، للكرماني (2:1133).
(2) الرجز من الشواهد المشهورة في كتب اللغة، وهو بلا نسبة، ينظر مثلاً: لسان العرب وتاج العروس، مادة (قطط).
(3) تلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي (ص:265). وينظر: متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار (1:108)، وغرائب التفسير، للكرماني (2:1133)، والكشاف، للزمخشري (4:9)، ومجمع البيان للطبرسي (26:112).
(4) محمود بن حمزة الكرماني، تاج القراء، كان عجباً في الفهم وحسن الاستنباط، له تصانيف كثيرة؛ منها: لباب التفسير، والبرهان في متشابه القرآن، توفي بعد (500). ينظر: معجم الأدباء (19:125)، وغاية النهاية (2:291).
(5) غرائب التفسير (2:1133)، وينظر: الأضداد، لابن الأنباري (ص:195)، =
(1/549)
________________________________________
عليه السلفُ (1)، واللهُ أعلمُ.
الثالث: دلالةُ الصِّيَغِ:
المرادُ بها البناءُ الذي تقومُ عليه الكلماتُ العربيَّةُ، فتجتمعُ فيه جملةٌ من الألفاظِ، يكونُ فيها معنى مشتركٌ يدلُّ دلالةً غيرَ دلالةِ اللفظِ المفردِ المعجميَّةِ، فمن الألفاظِ ما يجيء على صيغةِ «تفاعل»، وهي تدلُّ على حدوث الأمر من اثنينِ متقابلين؛ كتصافح، وتحارب، وتمازح، وغيرِها، فدلالة هذه الألفاظِ متباينةٌ، وإن كانت اشتركتْ في مدلولِ هذه الصِّيغةِ (2).
وقد يكونُ أصلُ اللفظِ واحداً، ولكن تختلفُ صيغته، فيختلفُ معناه، فمعنى: قَبَرَ فلانٌ فلاناً: أي: باشرَ دفنَه بنفسِه، كما قال الأعشى (3):
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيتاً إلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَى قَابِر
ومعنى: أقبرَ فلانٌ فلاناً: أمرَ له بالقبرِ، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]. فاختلفت دلالة الفعل المشتقِّ من مادة قَبَرَ التي تدلُّ على سترٍ في الشَّيء وغموضِه، وذلك بسبب اختلافِ صيغَتِه في النُّطقِ.
وقد استخدمَ أهلُ البدعِ دلالةَ الصِّيَغِ كاستخدامهم دلالة الألفاظِ، ومنْ أمثلةِ ذلك:
1 - تحريفُ بعضِ المعتزلةِ لصيغةِ «أفْعَل» حيثُ أحدثوا لها دلالةً،
_________
= الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، لابن المنيِّر، بحاشية الكشاف (4:10)، وغيرها.
(1) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (26:169 - 171).
(2) ممن كتبَ في دلالة الصيغ وأبنية الألفاظِ العربية: سيبويه في الكتاب، وابن قتيبة في أدب الكاتب، والفارابي في ديوان الأدب، ونشوان الحميري في شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، وغيرها كثيرٌ.
(3) ديوان، تحقيق: حنا نصر (ص:179).
(1/550)
________________________________________
وجعلُوها تدلُّ على معنى: سَمَّاه، وإنما ذلك في صيغة «فَعَّل» (1)، وقدْ جاءَ ذلكَ عنهم في الإضْلالِ الذي نَسَبَهُ اللهُ سبحانه وتعالى إلى نَفسِهِ في مثلِ قولِه تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88] (2)، وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، حيث قالَ بعضُ المعتزلةِ في تفسيرِ هذا النَّظمِ وأشباهِه: «سَمَّاهم ضُلاَّلاً» (3).
_________
(1) قال سيبويه: «فأمَّا خطَّاتُه، فإنَّما أردت: سمَّيته مخطئاً، كما أنك حيث قلت: فسَّقته وزنَّيته؛ أي: سمَّيته بالزنا والفسق» الكتاب، ط: بولاق (2:235). ولم يذكر في معاني أبنية أفعل: سميته كذا.
وأقرب معاني هذه الصيغة لما قالوه: الوجدان، تقول: أحمدته، وجدته مستحقاً للحمد.
ينظر: الكتاب، ط: بولاق (2:236)، وأدب الكاتب (ص:447)، وديوان الأدب (2:337).
وقد حمل ابن جني المعتزلي قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] على معنى هذه الصيغة، فقال: «ولن يخلو «أغفلنا» من أن يكون من باب أفعلتُ الشيء؛ أي: صادفته ووافقته كذلك؛ كقوله:
....... ... وأهْيَجَ الخَلْصَاءَ من ذَاتِ البُرَق
أي: صادفها هائجة النبات ... حكى الكسائي: دخلت بلدة فأعمرتها؛ أي: وجدتها عامرة، ودخلت بلدة فأخربتها؛ أي: وجدتها خراباً، ونحو ذلك.
أو يكون ما قاله الخصم: أنَّ معنى: أغفلنا قلبه: منعناه وصددناه ... وإذا لم يكن عليه، كان معنى: أغفلنا قلبه عن ذكرنا؛ أي: صادفناه غافلاً، على ما مضى، وإذا صودف غافلاً، فقد غفل لا محالة، فكأنه ـ والله أعلم ـ ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً؛ أي: لا تطع من فعل كذا وفعل كذا ...». الخصائص (3:256 - 258).
(2) ويلحقُ بها ما كان في حُكْمِها من الأفعالِ التي نسبها اللهُ إلى نفسه، في مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وغيرها.
(3) نسبه الرازي في التفسير الكبير (2:130) إلى قطرب وكثير من المعتزلة، وينظر: رسائل العدل والتوحيد (2:84)، فقد جعله يحيى بن الحسين الزيدي المعتزلي بمعنى يوقع عليهم اسم الضلال. =
(1/551)
________________________________________
وإنما كانَ سببَ هذا التَّأويلِ زعمُهم الفاسدُ في العَدْلِ، وأنَّ الله لا يظلمُ أحداً، فلا يُتصوَّرُ أن يُضِلَّه، وإلاَّ كانَ ذلكَ قبيحاً منه، واللهُ مُنَزَّهٌ عن فِعْلِ القبيحِ، وهذا الكلام صحيح، ولكن المرادَ بالقبيحِ وتحديدُه هو الذي يخالَفُ فيه هؤلاء.
وقد ردَّ عليهم هذا التَّأويلَ جماعةٌ من العلماءِ؛ كابنِ قتيبة (ت:276) (1)، والأشعريِّ (ت:324) (2)، وابنِ حَزْمٍ (ت:458) (3)، وابنِ القيِّمِ (ت:751) (4)، وغيرهم.
ومن الرُّدُودِ عليهم في قولهم في دلالة صيغة «أفعل» ما يأتي:
* قال ابن قتيبة (ت:276)، فقال: «وذهبَ أهلُ القَدَرِ في قولِ الله عزّ وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93، فاطر: 8] إلى أنه على جهةِ التَّسميةِ والحكمِ عليهم بالضلالةِ، ولهم بالهدايةِ.
وقالَ فريقٌ منهم: يُضِلُّهُم: ينسبُهم إلى الضلالةِ، ويهديهم: يبينُ لهم ويرشدُهم.
فخالفُوا بينَ الحُكْمَينِ، ونحن لا نعرفُ في اللُّغةِ أفْعَلْتُ الرَّجلَ: نَسَبْتُهُ.
_________
= وقد ذكر المرتضى أحد وجوه تفسير قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...} [الأعراف: 146]، فقال: «وسادسها: أن يكون الصرف هاهنا الحكم والتسمية والشهادة، ومعلوم أن من شهد على غيره بالانصراف عن شيء جائز أن يقال: صرفه عنه، كما يقال: أكفره وكذَّبه وفسَّقه ...». أمالي الشريف المرتضى (1:312).
وفي نسخة مذكورة في الحاشية: «كفّره وكذّبه وفسَّقه». والصيغة مخالفة لصيغة اللفظ «أصرف» الذي يُفسِّرُه.
(1) الاختلاف في اللفظ (ص:14 - 15).
(2) الإبانة، تحقيق: حماد الأنصاري (ص:192 - 194).
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل (3:49 - 50).
(4) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:144 - 148).
(1/552)
________________________________________
وإنما يقالُ إذا أردتَ هذا المعنى: فَعَّلْتُ، تقول: شَجَّعْتُ الرجلَ، وجَبَّنْتُهُ، وسَرَّقْتُهُ، وخَطَّاتُهُ، وكَفَّرْتُهُ، وضَلَّلْتُهُ، وَفَسَّقْتُهُ، وفَجَّرْتُهُ، ولَحَّنْتُه ...» (1).
* وقالَ أبو الحسنِ الأشعريُّ (ت:324): «ويقالَ لهم: ما معنى قولِ اللهِ عزّ وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]؟
فإنْ قالوا: معنى ذلك: أنه يُسَمِّيهم ضَالِّينَ، ويَحْكُمُ عليهم بالضَّلالِ.
قيل لهم: أليسَ خاطب الله العربَ بلغتِها، فقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]؟ فلا بُدَّ مِنْ نَعَم.
فيقالُ لهم: فإذا كانَ أنزلَ اللهُ القرآنَ بلسانِ العربِ، فمِن أينَ وجدْتم في لغةِ العربِ أنْ يقالَ: أَضَلَّ فلانٌ فلاناً؛ أي: سَمَّاهُ ضَالًّا؟.
فإنْ قالوا: وجدْنا القائلَ يقولُ إذا قالَ رَجُلٌ لرجلٍ ضَالٍّ: قدْ ضَلَّلْتُهُ.
قيل لهم: قد وجدنا العربَ يقولون: ضَلَّلَ فلانٌ فلاناً: إذا سَمَّاه ضالًّا، ولم نجدْهُم يقولون: أضَلَّ فلانٌ فلاناً بهذا المعنى.
فلمَّا قالَ اللهُ عزّ وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] لم يَجُزْ أنْ يكونَ ذلكَ معنى ذلكَ الاسمِ.
والحُكمُ، إذا لم يَجُزْ في لغةِ العربِ أنْ يقالَ: أَضَلَّ فلانٌ فلاناً: إذا سَمَّاه ضالًّا، بَطَلَ تأويلكُم إذا كانَ خلافَ لسانِ العربِ» (2).
2 - في قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] قال الأخفش (ت:215): «وأما قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فيقول:
_________
(1) تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة (ص:123 - 124).
(2) الإبانة عن أصول الديانة (192 - 193).
(1/553)
________________________________________
يَحْكُمُ بأنهم كذلك، كما تقولُ: قد أخرجكم الله من ذا الأمر. ولم تكنْ فيه قَطُّ، وتقولُ: أخرجني فلانٌ من الكتبةِ، ولم تكنْ فيها قَطُّ؛ أي: لم يجعلْني من أهلِها ولا فيها» (1).
وفي هذا هروبٌ منْ أنَّ اللهَ سبحانه خَلَقَ الإيمانَ في قَلْبِ العَبْدِ؛ لأنَّ المعتزلَة لا يرون ذلك (2). وعلى هذا التَّأوُّلِ لا يكونَ ثَمَّ خَلْقٌ للإيمانِ، وفيه خروجٌ بدلالةِ أَفْعل إلى معنى الوجودِ، وهذه الدِّلالةُ، وإنْ كانتْ مِنْ دَلاَلاَتِ أفْعَل، إلاَّ أنَّ هذا الموضعَ لا يحتمِلُها، بلِ الصَّوابُ جعلُها على ظاهِرها.
قال الزَّجاج (ت:311): «أي: يُخرجُهم مِنْ ظلماتِ الجَهَالَةِ إلى نُورِ الهُدى؛ لأنَّ أمرَ الضَّلالةِ غيرُ بَيِّنٍ، وأمرَ الهدى واضحٌ كبيانِ النُّورِ.
وقدْ قالَ قومٌ: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}: يحكمُ لهم بأنهم خارجونَ من الظلماتِ إلى النُّورِ، وهذا ليسَ قولٌ أهلِ التَّفسيرِ، ولا قولُ أكثرِ أهلِ اللُّغةِ، إنما قالَه الأخفشُ وَحْدَهُ» (3).
3 - ومن التحريفِ في الصِّيغِ، ما نُقِلَ عن أبي مسلمٍ محمدِ بنِ بَحْرٍ الأصفهانيِّ المعتزليِّ (ت:322) (4) في تفسير قولِه تعالى: {زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، حيثُ جعل «زُيِّنَ» في مثل هذا لا يحتاجُ إلى فاعلٍ؛ كالأفعالِ المذكورةِ في باب فُعِلَ مما لا يحتاجُ إلى فاعلٍ؛ كأُعجِبَ وجُنَّ وزُهِيَ وعُنِيَ، وغيرها مما في هذا البابِ (5).
_________
(1) معاني القرآن، للأخفش (1:196).
(2) ينظر: متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار (1:133)، وأمالي الشريف المرتضى (2:14)، ولهم في الآية توجيهات أخرى.
(3) معاني القرآن وإعرابه (1:339).
(4) محمد بن بحر، أبو مسلم الأصفهاني، الكاتب المعتزلي، عالم بالتفسير وغيره من صنوف العلم، وله في التفسير: جامع التأويل لمحكم التنْزيل، توفي سنة (322)، ينظر: معجم الأدباء (18:35 - 38)، ومعجم المفسرين (2:498).
(5) غرائب التفسير، للكرماني (1:383).
(1/554)
________________________________________
وحَمْلُهُ لفظ «زُيِّنَ» على هذا البابِ ادِّعاءٌ على العربية، إذْ لم يذكرِ العلماءُ هذا الفعلِ منَ الأفعالِ التي تلازمُ البناءَ للمفعولِ، وهذه الأفعالُ لا يكونُ منها مَبْنِيًّا للمعلومِ، وهي أفعالُ معروفةٌ محصورةٌ عند أهل العربيَّةِ (1)، أمَّا هذا الفعلُ فقد وردَ مَبْنَيًّا للمعلومِ مما يدلُّ على أنه ليسَ منْ بابِ ما لا يَحْتَاجُ إلى فاعلِ، ومما وَرَدَ فيه، قولُ اللهِ تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4]. وغيرُها من الآياتِ.
وإنما دعاه لذلكَ مذهبُ العدلِ المعتزليِّ، لكي لا يُقدَّرَ فاعل «زُيِّنَ» بأنه الله سبحانه. وذلك التقديرُ خلافُ العدلِ عندَه؛ لأنه لا يرى أنه يقعُ منَ اللهَ سبحانَه تَزْيينُ الشَّهواتِ للعبدِ، فَحَرَّفَ دلالةَ هذا الفعلِ الذي جاءَ على صيغةِ الْمَبْنِيِّ للمفعولِ إلى ما جاءَ على هذه الصِّيغَةِ منَ الأفعالِ التي لا تحتاجُ إلى تقديرِ فاعلٍ.
_________
(1) هذا الباب الذي جعل لفظ «زُيِّنَ» منه، قال فيه سيبويه: «هذا باب ما جاء فُعِلَ منه على غير فَعَلْتُهُ، وذلك نحو: جُنَّ وسُلَّ وزُكِمَ ووُرِدَ، وعلى ذلك قالوا: مجنون ومسلول ومزكوم ومحموم ومورود، وإنما جاءت هذه الحروف على جَنَنْتُهُ وسَلَلْتُه، وإن لم يستعمل في الكلام، كما أن يدع على ودعت ويذر على وذرت، وإن لم يستعملا، استغني عنهما بتركت، واستغني عن قَطِعَ بِقُطِعَ، وكذلك استغني عن جَنَنْتُ ونحوها بأفعلتُ، فإذا قالوا: جُنَّ وسُلَّ، فإنما يقولون: جُعِلَ فيه الجنون والسلُّ، كما قالوا: حُزِنَ وفُسِلَ ورُذِلَ، وإذا قالوا: جُنِنْتَ، فكأنهم جعلوا فيك جنون، كما أنه إذا قال: أقبرته، فإنما يقول: وهبتُ له قبراً، وجعلتُ له قبراً، وكذلك أحزنته وأحببته، فإذا قلتَ: محزون محبوب، جاء على غير أحببتُ. وقد قال بعضهم: حَبَبْتُ فجاء به على القياس» الكتاب، ط: بولاق (2:238).
(1/555)
________________________________________
الفصل الثالث
قواعد في التفسير اللغوي
وفيه:
أولاً: كل تفسير لغوي وارد عن السلف يحكم بعربيته، وهو مقدم على قول اللغويين.
ثانياً: إذا ورد أكثر من معنى لغويٍّ صحيح تحتمله الآية، جاز تفسير الآية بها.
ثالثاً: لا يصح اعتماد اللغة وحدها دون غيرها من المصادر التفسيرية.
رابعاً: لا تعارض بين التفسير اللغوي والتفسير على المعنى.
(1/557)
________________________________________
بعدَ هذا السَّير الحثيثِ في قضايا هذا البحثِ، سأذكرُ هاهنا بعضَ القواعدِ المتعلِّقةِ بالتفسير اللُّغويِّ، وهذه القواعدُ فرضيَّاتٌ كانتْ في بدايةِ إعدادِ البحثِ، ولذا فلا يلزمُ أن تكونَ قواعدَ مقرَّرةً عندَ العلماءِ بهذه الصياغةِ، وإنْ كانَ لهم في ذلك إشاراتٌ، وما جمعتهُ فيها يعتبرُ من نتائج البحث، واللهُ الموفِّقُ.
وهذه القواعد كالآتي:
أولاً: كل تفسير لغوي وارد عن السلف يحكم بعربيته، وهو مقدم على قول اللغويين.
ثانياً: إذا ورد أكثر من معنى لغويٍّ صحيحٍ تحتملُه الآيةُ، جازَ تفسير الآية بها.
ثالثاً: لا يصح اعتماد اللغة وحدها دون غيرها من المصادر التفسيرية.
رابعاً: لا تعارض بين التفسير اللغوي والتفسير على المعنى.
وليس هذه هي القواعدُ فقط، بل هناك ما هو أكثرُ منها (1)، والَّذي ذكرتُه رأيتُ أنَّه ألصقُ بخطَّةِ البحثِ وموضوعاتِه، واللهُ الموفِّقُ.
_________
(1) ينظر على سبيل المثال: كتاب قواعد الترجيح عند المفسرين، للأخ حسين الحربي (ص:345 - 652).
(1/559)
________________________________________
أولاً كلُّ تفسيرٍ لغويٍّ واردٍ عن السَّلفِ يُحكمُ بعربيَّته وهو مقدَّمٌ على قولِ اللُّغويين (1)
ترتبطُ هذه المسألةُ بزمن الاحتجاجِ اللُّغويِّ، ولم أجدْ من أشارَ إلى
_________
(1) كان مجلس الكليَّةِ قد زاد قيداً على هذه القاعدة، وهو: كل تفسيرٍ لغويٍّ ثابت ... ، وبعد البحثِ وجدت أنَّه لا حاجة لهذا القيدِ؛ لأنَّه لم يقع الاحتجاج بما لم يصحَّ عنهم، أمَّا الآثارُ الضَّعيفةُ فأمرُها محتملٌ مقبولٌ في بيانِ اللغةِ، وقد أشارَ إلى ذلك أحدُ أعمدةِ المحقِّقينَ المعاصرين، وهو الأستاذُ محمود شاكر في تعليقه على تفسير الطبري (1: حاشية ص:453 - 454)، قال: «تبيَّنَ لي مما راجعته من كلامِ الطبري، أنَّ استدلالَ الطبريِّ بهذه الآثارِ التي يرويها بأسانيدها، لا يُراد بها إلاَّ تحقيق معنى لفظٍ، أو بيان سياق عبارة، فهو قد ساق الآثارَ التي رواها بإسنادها ليدلَّ على معنى «خليفة»، و «الخلافة»، وكيف اختلفَ المفسرونَ من الأولين في معنى خليفة، وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدلِّ بالشعر على معنى لفظٍ في كتابِ اللهِ.
وهذا بيِّنٌ في الفقرة التالية للأثر رقم (605)، إذ ذكر ما رويَ عن ابن مسعود وابن عباس، وما رويَ عن الحسن في بيان معنى «خليفة»، واستظهر ما يدل عليه كلام كلِّ منهم. ومن أجل هذا الاستدلال لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه. ودليل ذلك: أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر رقم (465) عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى (ص:353): «فإن كان الإسناد صحيحاً، ولست أعلمه صحيحاً، إذ كنت في إسناده مرتاباً ...»، فهو مع ارتيابه في هذا الإسنادِ، قد ساق الأثرَ للدلالة على معنى اللفظِ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس ـ إن صحَّ عنهما ـ أو فيما فهمه الرواة الأقدمون في معناه. وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضاً ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم، بل يسوق =
(1/560)
________________________________________
تفصيلِ منْزلة تفسيراتِ طبقاتِ السلفِ في الاحتجاج اللُّغويِّ، سوى الإشارةِ إلى قبولِ تفسيرِ الصَّحابيِّ والاحتجاجِ به، كما سيأتي.
ومفسِّرو السَّلفِ على قسمينِ:
قسمٌ عاصر زمن الاحتجاجِ اللُّغويِّ، كالصحابةِ والتَّابعينَ؛ كزِرِّ بنِ حُبيشٍ (ت:83)، والشَّعبيِّ (ت:103)، والحسنِ (ت:110)، وغيرِهم. وهؤلاءِ كغيرِهم من العربِ الذينِ نُقلتْ أقوالُهم واحتُجَّ بها.
وقسمٌ عاصرَ اللُّغويِّينَ الأوائل الذينَ دوَّنوا اللُّغةَ، كالكلبيِّ (ت:146)، ومقاتلِ بن سليمانَ (ت:150)، وسفيانَ الثَّوريِّ (ت:161)، ومالك بن أنس (179)، وابن زيد (ت:182)، وأقلُّ أحوالِ هؤلاءِ أن يكونوا نَقَلَةً لمعاني الألفاظِ العربيَّةِ التي في القرآنِ، فحالُهم في مثلِ هذا كحالِ من عاصرَهم من اللُّغويِّينَ الذين يحكونَ لغةَ العربِ، وينسبونَ إليها دلالاتِ الألفاظ.
ومع أنَّ بعضَهم كانَ غيرَ عربيِّ الأصلِ، فإنكَ لا تجدُ أحداً من العلماء أنكرَ عليهم تفسيرَ القرآن العربيِّ على عربيَّتِه، ومنْ أمثلةِ هؤلاء المفسِّرينَ:
_________
= الطويل الطويل، لبيان معنى لفظٍ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به حجة في الدين، ولا في التفسير التامِّ لآي كتاب الله.
فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلاَّ استظهاراً للمعاني التي تدلُّ عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يُستظهرُ بالشعر على معانيها، فهو إذاً استدلالٌ يكاد يكون لغويّاً، ولما لم يكن مستنكراً أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله، ما صحت لغته، فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث، والتي لا تقوم بها الحجة في الدين، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل، سواءً كانوا من الصحابة أو من دونهم.
وأرجوا أن تكون هذه تذكرة تنفع قارئ كتاب الطبري، إذا ما انتهى إلى شيء مما يعده أهل علم الحديث من الغريب المنكر، ولم يقصر أخي السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال، وفي هذا مقنع لمن أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه، والحمد لله أولاً وآخراً». وينظر: (1: حاشية ص:462).
(1/561)
________________________________________
مولى ابن عباس: عِكْرِمَةُ (ت:105)، وأصلُه بربريٌّ (1)، وكانَ يفسِّرُ القرآنَ بلغة العربِ ويحتجُّ بأشعارِها (2)، ولا تجدُ أحداً عابَ عليه بَرْبَرِيَّتَهُ، ولم يحتجَّ بتفسيرِه لأجلِ هذا الأصلِ البربريِّ، بل كان مُقدماً في علمِ التَّفسيرِ.
ثمَّ إنهم يفسرون القرآن العربيَّ بالعربيَّةِ، ولم يُؤثَرْ عنهم أنهم فسروه بغيرها، فأقلُّ ما يقالُ فيهم أنهم ناقلونَ لِلُغَةِ العربِ، وهم ثِقَةٌ في ذلكَ، فقبولُ ما فسَّروا به على أنه لغةٌ يمكنُ أنْ يدخلَ من هذا البابِ.
وإنَّ ممَّا يُسْتَانسُ به في هذه المسألةِ أنَّ أهلَ اللُّغةِ ينقلونَ بعضَ أقوالِهم ويشرحونَ غريبَها (3).
_________
(1) جاء في تهذيب الكمال (5:209): «عكرمة القرشي الهاشمي، أبو عبد الله المدني، مولى عبد الله بن عباس، أصله من البربر من أهل المغرب، كان لحصين بن أبي الحر العنبري، فوهبه لعبد الله بن عباس حين جاء والياً على البصرةِ لعلي بن أبي طالب».
(2) من استشهاده بالشعر، تفسيره لقول الله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48]، قال: «ذواتا ظِلٍّ وأغصان، ألم تسمع إلى قول الشاعر:
ما هاجَ شَوقَك من هَدِيلِ حَمَامَةٍ ... تَدْعُو عَلَى فَنَنِ الغُصُونِ حَمَاماً
تَدْعُو أبا فَرْخَينِ صَادَفَ طَائِراً ... ذا مخلبينِ من الصُّقُورِ قطاما»
ينظر: إيضاح الوقف والابتداء (1:65).
(3) إنَّ شرحَ اللغويين لأقوالِ السلفِ ظاهرٌ في كتب اللغة، ولعله يكفي التمثيلُ ببعض ذلك؛ لأنَّه ليس هذا محلُّ جَرْدِ ذلك، ومن ذلك ما ورد في لسان العربِ: في مادة (مزر، مزز) شرح قولٍ لأبي العالية، في مادة (شوى) شرحُ قولٍ لمجاهد، في مادة (كرع) شرح قول لعكرمة، في مادة (زلحف) شرح قولٍ لسعيد بن جبير، وفي مادة (صعفق) شرح قولٍ للشعبي.
ولو تُتَبِّعت كتبُ غريب الحديث التي دوَّنها اللغويون، فسيظهر شرحهم لأقوالِ السلفِ، ومن ذلك آخر الجزء الخامس من غريب الحديث لأبي عبيد، وآخر الجزء الثاني من غريب الحديث لابن قتيبة، وقد قمت بالاطلاع على مخطوطٍ نفيسٍ في الخزانة العامة في الرباط، برقم (197)، وهو الدلائل في غريب الحديث، للسَّرقسطي، فإذا فيه جزءٌ كبيرٌ في شرحِ أقوال التابعين وأتباعهم، وإليك بعض من ذكرهم مع ذكر ترقيم مُرقِّمِ المخطوط: طاووس بن كيسان (142 - 143)، الحسن =
(1/562)
________________________________________
ويبنى على ذلك:
أنَّ ما ورد عن هؤلاء السلف الكرام من تفسير ألفاظِ القرآن، أو فهمِهم له، فإنه جارٍ على لغة العرب، وهو حجة يجب الاحتكام إليه، ولا يصحُّ ردُّه ولا الاعتراضُ عليه (1).
_________
= البصري (171 - 188)، الشعبي (199 - 229)، مجاهد (299 - 232)، عكرمة (233 - 235)، قتادة (235 - 238)، سعيد بن أبي عروبة (270)، محمد بن مسلم الزهري (274 - 279)، مالك بن أنس (283 - 287)، سفيان الثوري (288 - 292).
وهنا ملاحظتان:
الأولى: أنَّ الحسن البصريَّ من أكثرِ التابعين وأتباعهم من حيث نقل أقواله وشرحها في كتب غريب الحديث.
الثانية: أنَّ الشَّرحَ في بعضِ الآثارِ الواردة عنهم لا يكونُ من كلامِهم هم، بل قد يكونون سئلوا عن مسألةٍ، فأجابوا عنها، ويكونُ في السؤال الذي وُجِّه إليهم لفظة غريبة تحتاجُ إلى بيانٍ، فيبيِّنُها اللغوي.
(1) من العجيبِ أنَّ أبا حيان الأندلسي في تفسير قَوْلِهِ تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} قال: «والذي رُوِيَ عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب؛ لأنهم قدروا جواب «لولا» محذوفاً، ولا يدل عليه دليل؛ لأنهم لم يقدروا: لهمَّ بها، ولا يدل كلام العرب إلاَّ على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط؛ لأن ما قبل الشرط دليل عليه.
وقد طهرنا كتابنا هذا من نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دلَّ عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في السورة مما يدل على العصمة وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين ...». البحر المحيط (6:258).
والسلف الذين لا يساعد كلام العرب على قولهم هم: عبد الله بن عباس، وابن أبي مُلَيكَةَ، ومجاهد، والقاسم بن أبي بزة، وسعيد بن جبير، وعكرمة. ينظر أقوالهم في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:35 - 37).
فهل هؤلاء يفسرون بغير لغة العرب، ثم أليس فيهم ابن عباس، وهو ممن يحتج بعربيته بلا خلافٍ، مع ما آتاه الله من فهم القرآن؟
ولن يكون أبو حيان ـ أو من جاء بعد هؤلاء السلف ـ أشدَّ تعظيماً للأنبياء منهم، لذا فالصواب أن يجعل ما ورد عن هؤلاء من لغة العرب، وأن يحمل نحو القرآن وإعرابه على ما فسروه، لا أنْ يُرَدَّ ويُزعم أن تفسيرهم لا يساعد عليه كلام العرب، والله أعلم.
(1/563)
________________________________________
وقد نبَّه إلى هذا أبو النَّصْرِ السَّمَرْقَنْدِي (1) في كتابِه «المدخل لعلم تفسيرِ كتاب الله تعالى»، فجعلَ فيه باباً بعنوانِ: «ما جاءَ عنْ أهلِ التَّفسيرِ ولا يوجدُ له أصلٌ عندَ النَّحويين ولا في اللغةِ» (2).
وقد ذكرَ أمثلةً لهذه المسألةِ، ومنها: «... كما جاءَ عن الأئمَّةِ في تفسيرِ بعضِ الآياتِ مما يشكلُ على أهلِ اللُّغة أصلُها وبناؤها؛ كقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71]، قالَ بعضُ المفسِّرينَ: معناه: حَاضَتْ.
فأينَ مَحَلُّ حاضتْ منْ ضَحِكَتْ في اللُّغةِ؟! إلاَّ ما حُكِيَ منْ بعضِ أهلِ اللُّغةِ أنه قالَ: ضَحِكَتِ الأرنبُ: إذا خرجَ مِنْ قُبُلِهَا دَمٌ، كان (3) هذا استعارةً من ذلك، والله أعلم» (4).
وفي تفسيرِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] ذَكَرَ الأزهريُّ (ت:370) قولاً عن ابنِ عباسٍ (ت:68)، وهو: «أكبرنه: حِضْنَ» (5). ثمَّ قال: «فإنْ صَحَّتِ الرِّوايةُ عنِ ابنِ عباسٍ سَلَّمْنَا له، وجعلْنَا الهاءَ في قولِه: {أَكْبَرْنَهُ} هاءَ وَقْفَةٍ، لا هاءَ كنايةٍ، واللهُ أعلمُ بما أراد» (6).
ولهذا فإنَّكَ تَجِدُ بعضَ اللُّغويينَ يذكرُ أنَّ بعضَ الألفاظِ لم تُعرفْ دلالتُها
_________
(1) أحمد بن محمد بن أحمد، أبو النصر السمرقندي، المعروف بالحدادي، قرأ على أبي سعيد السيرافي وابن مهران، له باع في علم القرآن والتفسير والعربية، ومن كتبه: الموضح لعلم القرآن، والمدخل لعلم تفسير كتاب الله، توفي (بعد:400)، ينظر: غاية النهاية (1:105).
(2) المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى (ص:98).
(3) لعلها: كأنَّ.
(4) المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى (ص:105 - 106). وينظر فيه أمثلة أخرى (ص:98 - 112).
(5) ينظر الرواية عنه في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:76)، وهي روايةٌ ضعيفةٌ عنه، ينظر تعليق محمود شاكر رحمه الله.
(6) تهذيب اللغة (10:212). وينظر: المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى (ص:106).
(1/564)
________________________________________
إلاَّ عنِ المفسِّرينَ (1)، ومنْ أمثلةِ ذلكَ:
1 - التَّفَثُ في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، فقدْ ذكرَ أبو جعفر النَّحاسُ (ت:338) قولَ ابنِ عباسٍ (ت:68): «التَّفَثُ: الحَلْقُ والتَّقصيرُ، والرَّمْيُ، والذَّبحُ، والأخذُ منَ الشارِبِ واللِّحْيَةِ، ونتفُ الإبطِ، وقَصُّ الأظافرِ».
ثمَّ قالَ أبو جعفر النَّحاسُ (ت:338): «وكذلكَ هو عندَ جميعِ أهلِ التَّفسيرِ؛ أي: الخروجُ منَ الإحرامِ إلى الحِلِّ. لا يعرفُه أهلُ اللُّغةِ إلاَّ منَ التَّفسيرِ» (2).
2 - الرَّبَّانِيُّونَ في مثل قولِه تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79]. قالَ أبو عبيدةَ (ت:210): «لَمْ يَعرفوا الرَّبَّانِيِّينَ» (3).
يقصدُ أبو عبيدةَ (ت:210) بقوله: «لم يعرفوا»: أهلَ اللغةِ، قالَ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ (ت:224): «وأحسبُ الكلمةَ ليستْ بعربيةٍ، إنما هي عَبْرَانِيَّةٌ (4)
_________
(1) ينظر مثلاً ما ذكره ابن دريد في جمهرة اللغة من تفسير السَّكَرِ بالخلِّ، في قول الله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَناً} [النحل: 67].
(2) معاني القرآن، للنحاس (4:402)، وينظر: تهذيب اللغة (14:266).
(3) مجاز القرآن (1:97).
(4) العبرانيَّةُ لسانُ بني إسرائيل، وهي من مادة «عبر» ويظهرُ أنَّها مرادفَةٌ لمعنى البَدْوِ، ومما يدلُّ على ذلك قول الله تعالى: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100]، فهم كانوا في باديةِ أهل الشامِ، ومعنى العبراني: العابر؛ كعابر السبيل، فهم يعبرون الصحراء، وليسوا من أهل القرى المقيمين فيها، وتأمَّل تقارب هذا المعنى في العبراني، مع معنى الأعراب؛ أي: سكَّان الصحراء.
وفي قاموس الكتاب المقدس إشارة إلى ذلك، فقد جاء فيه (ص:596): «عبرانيون: هم أحد فروع الدوحة السامية، ويُنسب اسمهم إلى عابر، أحد أجداد إبراهيم الذي أتى بهم إلى فلسطين، وقد منحهم اللقب الكنعانيون، إذ سمَّوا إبراهيم: إبرام العبراني، بعد أن عبر نهر الفرات إلى فلسطين».
وهم يزعمونَ في معنى هذا الاسم أنَّه نسبة إلى عابر جدِّ إبراهيم (ينظر مثلاً: قاموس =
(1/565)
________________________________________
أو سُرْيَانِيَّةٌ (1)، وذلكَ أنَّ أبا عبيدةَ زَعَمَ أنَّ العربَ (2) لا تعرفُ الرَّبَّانِيِّينَ.
قالَ أبو عبيدٍ: وإنَّمَا عَرَفَها الفقهاءُ وأهلُ العِلْمِ» (3).
يقصدُ أبو عبيدٍ (ت:224) بالفقهاءِ وأهلِ العلمِ: أهلَ التفسيرِ مِنَ السَّلفِ، وقدْ وردَ عنهم تفسيرُ الرَّبَّانِيِّينَ بأنهم الحكماءُ العلماءُ، أو الفقهاءُ العلماءُ، أو الحكماءُ الفقهاءُ (4). وتفسيرِ هؤلاءِ السَّلفِ يدلُّ على أنهم يعرفونَ هذه اللَّفظةَ، وأنهم فسَّروها بلغةِ العربِ، إذ لو كانتْ مِنَ المُعَرَّبِ لنَصَّ عليه أحدُهم، وهذا ما لم يردْ عنهم.
وليسَ لأبي عبيدٍ (ت:224) في هذا التفسيرِ سوى الظَّنِّ اعتماداً على قولِ أبي عبيدةَ (ت:210) وليسَ هذا بكافٍ في إخراجِ لفظٍ منَ القرآنِ العربيِّ إلى لغةٍ غيرِها، ولو جعلَ أبو عبيدٍ (ت:224) قولَ هؤلاء السَّلفِ حُجَّةً في العربيَّةِ، لما احتاجَ إلى هذا التَّخريجِ، ولقالَ: ما لم يَعرِفْهُ أبو عبيدةَ (ت:210) عَرَفَهُ غيرُه من السَّلفِ الذين لم يُشِيروا إلى أنَّ هذا اللفظَ أو تفسيرَه غيرُ عربيٍّ.
ثمَّ إنَّ اللَّفظَ جَارٍ في بنائه على لغةِ العرب، فقدْ جاءَ في تهذيبِ اللُّغةِ:
_________
= الكتاب المقدس: ص:588، 596)، وذلك غير صحيحٍ؛ لأنَّه لو كان كذلك، لكان إسماعيل وبنوه عبرانيين، وتحقيق هذا المعنى لا يحتمله هذا الموضع، والله الموفق.
(1) السريانيَّةُ أحد اللغاتِ القديمة، وهي تنحدر من اللغة الآرامية، وقد تُرجِمَ بها كتابُ العهد القديم المعروف بالبشيطا (أي: البسيطة)، واعتمدها المسيحيون المجاورون للرَّهَا لغةً دينيةً.
ينظر: معجم الحضارات السامية (ص:477).
(2) إن كان أبو عبيدٍ يقصدُ بهم أهل اللغة، فصحيحٌ، وإن كان يقصدُ أهلَ اللسان ممن نزلَ عليهم القرآن من مسلمين وكفار، فقد ورد عنهم تفسير الربانييِّن، كما أنَّ هذا يخالف مذهب أبي عبيدة في عدم وجود المعرَّبِ في القرآنِ، ومن ثَمَّ لا يكون تفسير أبي عبيد لكلام أبي عبيدة صحيحاً، والله أعلم.
(3) ينظر: المعرب، للجواليقي، تحقيق: أحمد شاكر (ص:161)، وتهذيب اللغة (15:179).
(4) ينظر تفسيراتهم في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6:540 - 543).
(1/566)
________________________________________
«وقال سيبويه: زادوا ألفاً ونوناً في الرَّبَّاني إذ أرادوا تخصيصاً بِعِلْمِ الرَّبِّ دونَ غيرِهِ؛ كأنَّ معناه: صاحبُ العِلْمِ بالرَّبِّ دونَ غيرِه منَ العلومِ.
وقال: وهذا كما قالوا: رجلٌ شَعْرَانِيٌّ، ولِحْيَانِيٌّ، ورَقَبَانِيٌّ، إذا خُصَّ بكثرةِ الشَّعَرِ، وطولِ اللِّحيةِ، وغِلَظَ الرَّقبةِ ... والرَّبِّيٌّ: منسوبٌ إلى الرَّبِّ، والرَّبَّانِيُّ: الموصوفُ بِعِلْمِ الرَّبِّ» (1).
وقدْ يكونُ الرَّبَّانِيُّ ـ أيضاً ـ منسوباً إلى الرَّبَّانِ، قالَ الطَّبَرِيُّ (ت:310): «وأولى الأقوالِ عندي بالصوابِ في الرَّبَّانِيِّينَ: أنهم جَمْعُ رَبَّانِيِّ، وأنَّ الرَّبَّانِيَّ المنسوبُ إلى الرَّبَّانِ الذي يَرُبُّ النَّاسَ، وهو الذي يُصْلِح أمورَهم ويَرُبُّهَا ويقومُ بها، ومنه قولُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ (2):
وَكُنْتُ امْرُأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رَبَابَتِي ... وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي، فَضعْتُ، ربُوبُ
يعني بقوله: رَبَّتْنِي: وَلِيَ أمري والقيامَ به قبلك من يَرُبُّهُ ويُصْلِحُهُ، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني، فضعتُ.
يقالُ منه: رَبَّ أمري فلانٌ، فهو يَرُبُّه ربًّا، وهو رابُّه. فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل: هو ربَّان، كما يقال هو نعسان، من قولهم: نَعَسَ يَنعُس. وأكثر ما يجيء من الأسماءِ على فَعْلانِ ما كانَ منَ الأفعالِ ماضيهِ على فَعِلَ؛ مِثْلَ قولِهم: هو سكرانٌ، وعطشانٌ، وريَّانٌ، من سَكِرَ يَسْكَرُ، وعَطِشَ يَعْطَشُ، ورَوِي يُرْوَى. وقد يجيء مما ماضيه على فَعَل يَفْعُلُ، نحو ما قلنا من نَعَسَ يَنْعُسُ ورَبَّ يَرُبُّ.
فإذا كانَ الأمرُ في ذلكَ على ما وصفْنَا، وكان الرَّبَّانُ ما ذكرنا، والرَّبَّانِيُّ هو المنسوبُ إلى منْ كانَ بالصِّفةِ التي وصفتُ، وكانَ العالِمُ بالفقهِ
_________
(1) تهذيب اللغة (15:178).
(2) البيت في ديوانه بشرح الأعلم الشَّنْتَمَرِّي، تحقيق: حنا نصر (ص:28). وهو فيه:
وأَنْتَ امْرُؤٌ أفْضَتْ إِلَيْكَ أَمَانَتِي ... وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي، فَضَعْتُ رُبُوبُ
(1/567)
________________________________________
والحكمةِ منَ المصلحين يَرُبُّ أمورَ المسلمينَ، بتعليمِه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكانَ كذلكَ الحكيمُ التَّقِيُّ للهِ، والوليُّ الذي يَلِي أمورَ النَّاسِ على المنهاجِ الذي وَلِيَهُ المقسطونَ منَ المصلحينَ أمورَ الخلقِ، بالقيامِ فيهم بما فيه صلاحُ عاجلِهم وآجلِهم، وعائدةُ النَّفعِ عليهم في دينهم ودنياهم، كانوا جميعاً يستحقُّونَ أنْ يكونوا ممنْ دخلَ في قولِه عزّ وجل: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ}.
فالرَّبَّانيُّونَ إذاً: هم عِمَادُ النَّاسِ في الفقهِ والعلمِ وأمورِ الدِّينِ والدنيا. ولذلكَ قالَ مجاهدُ: هم فوقَ الأحبارِ؛ لأنَّ الأحبارَ: هم العلماءُ، والرَّبَّانيُّ: الجامعُ إلى العلمِ والفقهِ، البصرَ بالسِّياسةِ والتَّدبيرِ، والقيامَ بأمورِ الرَّعيَّةِ، وما يصلحُهم في دنياهم ودينهم» (1).
وبهذا يُعلم أنَّ لفظَ الرَّبَّانِيِّينَ عربيٌّ، وأنَّ السَّلفَ عرفوه وبيَّنوا معناه، وأنَّ جَهْلَ أهلِ اللُّغةِ به لا يُخرجُه إلى كونه مُعَرَّباً، وأنهم لو اعتمدوا تفسيرَ السَّلفِ في ثبوتِ اللُّغةِ لحكموا بعربيَّتِه، والله أعلم.
وبعد فإنَّ المقصود أنَّ السَّلفَ بطبقاتِهم الثلاث أَقْدَرُ على تحديدِ المعنى العربيِّ للقرآنِ ممنْ جاءَ بعدهم، ولذا فإنَّ الرُّجوعَ إلى تفسيرهم، واعتبارَه في نقلِ اللُّغةِ مما لا بدَّ منه؛ لأنهم: إمَّا عَرَبٌ تُنْقَلُ عنْ مثلِهم اللُّغةُ؛ كالصَّحابةِ وكبارِ التَّابعينَ، وإمَّا أنْ يكونوا في عَصْرِ الاحتجاجِ؛ كصغارِ التَّابعينَ، وكبارِ أتباعِ التَّابعينَ، الذين عاصرَهم اللُّغويُّونَ الذينَ نقلوا اللُّغةَ ودوَّنوها، وأقلُّ حالِ مفسِّري أتباعِ التَّابعينَ أنْ يكونوا بمنزلة هؤلاءِ اللُّغويِّينَ في نقلِ اللُّغةِ، والله أعلم.
ومما ينبغي التنبُّه له: أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ ـ خصوصاً ـ مقدَّمٌ على تفسيرِ اللُّغويِّ، كائناً من كانَ هذا اللُّغويُّ، وبهذا قالَ جمعٌ من العلماءِ أو أشارَ، ومن ذلكَ:
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6:543 - 544).
(1/568)
________________________________________
* أشارَ الطبريُّ (ت:310) إلى الاحتجاجِ بتفسيرِ الصَّحابيِّ في اللُّغةِ عند قولِه تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] لما ذَكَرَ تفسيرَ ابن مسعود، أنَّه قالَ حينَ غربتِ الشَّمسُ: دَلَكتْ بَرَاحِ (1).
قال الطبريُّ (ت:310): «وقد ذكرتُ في الخبرِ الذي رويتُ عن عبد الله بنِ مسعودٍ أنه قال حين غربتِ الشَّمسُ: دلكتْ بَرَاحِ؛ يعني: بَرَاحِ، مكاناً.
ولستُ أدري هذا التَّفسيرَ؛ أعني قوله: بَرَاحِ مكاناً، مِنْ كلامِ مَنْ هو ممنْ في الإسنادِ، أو مِنْ كلامِ عبدِ الله، فإنْ يكنْ منْ كلامِ عبدِ اللهِ، فلا شكَّ أنَّه كانَ أعلمَ منْ أهلِ الغريبِ الذينَ ذكرتُ قولَهم (2). وأنَّ الصَّوابَ في ذلكَ قولُه دونَ قولِهم، وإنْ لم يكنْ منْ كلامِ عبدِ اللهِ، فإنَّ أهلَ العربيَّةِ كانوا أعلمَ بذلكَ منه (3) ...» (4).
فابنُ مسعودٍ (ت:35) جعلَ تفسيرَ الشَّمسِ: بَرَاحِ، على أنَّه منْ أسمائها، وهذا التفسيرُ يلزمُ قَبُولُهُ منْ حيثُ اللُّغة؛ أيْ أنَّ منْ أسماءِ الشَّمسِ: بَرَاحِ، على وَزْنِ قَطَامِ، لورودِهِ عنِ ابنِ مسعودٍ (ت:35).
* وقال ابن العربيِّ (ت:543): «قال الفراءُ: معنى قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (15:134)، وقد ورد روايةٌ قبلها عن ابن عباس، قال: دلوك الشمس: غروبها، يقول: دلكت براح، وكذا ورد عن أبي وائل شفيق بن سلمة، كما في غريب الحديث، لأبي عبيد، تحقيق: حسين محمد شرف (5:412).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (15:136)، وقد ذكر عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي عمرو الشيباني أنها: بِرَاحِ، واستدلوا بقول الشاعر:
هذا مَقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحِ
غُدْوَةً، حَتَى دَلَكَتْ بِرَاحَ
وقرؤوها بكسر الباء؛ يعني: أن الناظر يضع كفه؛ أي: راحته، على حاجبه من شعاع الشمس.
(3) يظهر أيضاً أنه لو كان من كلام الأسود الذي روى الخبر عن ابن مسعود، لكان حجة كذلك؛ لأنَّ الأسود بن يزيد النخعي، عربي، وتوفي سنة (75)، فهو متقدِّم في الوفاة، وهو في عصر من يُحْتَجُّ بكلامهم، والله أعلم.
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (15:137).
(1/569)
________________________________________
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] (1)؛ معناه: أنَّ يطوفَ، وحرف (لا) زائدٌ (2).
وهذا ضعيفٌ من وجهين:
أحدُهما: أنَّا قد بيَّنا في مواضع أنَّه يبعدُ أن تكون (لا) زائدةٌ.
الثاني: أنَّ لا لغويٌّ ولا فقيهٌ يعادِلُ عائشةَ رضي الله عنها، وقد قرَّرتها غيرَ زائدةٍ، وقد بيَّنت معناها (3)، فلا رأيَ للفراءِ ولا لغيره» (4).
* ومما يستأنسُ به في هذا المقامِ ما وردَ منْ تفسيرِ ابنِ مسعودٍ لقولِه تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، قال: «كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجِنِّ ...» (5).
قال ابنُ حَجَر العسقلانيُّ (ت:852): «واستشكلَ ابنُ التِّينِ (6) قولَه: (ناساً من الجِنِّ)، حيثُ إنَّ النَّاسَ ضِدُّ الجِنِّ ... ويا ليتَ شعري، على من يعترضُ!» (7).
وهذا المنهجُ الذي سَلَكَهُ هؤلاء هو المنهجُ الصَّحيحُ؛ أي أنَّ كلامَ
_________
(1) هذه قراءة ابن عباس وأنس بن مالك وشهر بن حوشب وغيرهم، ينظر: تفسير ابن عطية، ط: قطر (2:38).
(2) هذا أحد الأوجه التي ذكرها الفراء في تفسيرِ الآية، ينظر: معاني القرآن (1:95).
(3) ذكر ابن العربي قولها قبل هذا التنبيه، وهو أنَّ بعض الصحابة كان يتحرَّج من الطواف بالصفا والمروة، فنَزلت الآية بشأنهم. ينظر: أحكام القرآن (1:46 - 47).
(4) أحكام القرآن، لابن العربي (1:47 - 48). وينظر إشارته إلى عربيَّة الصحابةِ والتابعينَ، وتقديم قولهم في التفسيرِ اللُّغويِّ (1:180، 377).
(5) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8:249).
(6) عبد الواحد بن التين، أبو محمد الصفاقسي، له شرح مشهور لصحيح البخاري، سماه: «المخبر الصحيح في شرح البخاري الصحيح»، وقد نقل منه ابن حجر في الفتح، وابن رُشيد، توفي سنة (611)، ينظر: نيل الابتهاج بتطريز الديباج (على حاشية الديباج المُذهب (ص:188)، وشجرة النور الزكية، لمخلوف (1:168).
(7) فتح الباري، ط: الريان (8:249).
(1/570)
________________________________________
هؤلاءِ الصَّحابةِ وتفسيرَهم حجةٌ في اللُّغةِ يلزمُ قبولُها، وهو مقدَّمٌ على قولِ اللُّغويِّينَ، خلافاً لما قالَهُ الشَّوكَانِيُّ (ت:1250) (1) في هذا المقام: «وأمَّا ما كانَ منها ثابتاً عنِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، فإنْ كانَ من الألفاظِ التي نقلَها الشَّرعُ إلى معنى مغايرٍ للمعنى اللُّغويِّ بوجهٍ من الوجوهِ، فهو مقدَّمٌ على غيرِه. وإنْ كانَ منَ الألفاظِ التي لم ينقلْها الشَّرعُ، فهو كواحدٍ منْ أهلِ اللُّغةِ الموثوقِ بعربيَّتِهم، فإذا خالفَ المشهورَ المستفيضَ لم تقمْ الحجَّةُ علينا بتفسيرِه الذي قاله على مقتضى لغةِ العربِ، فبالأولى تفاسيرُ من بعدَهم من التَّابعينَ وتابعيهم وسائِرِ الأئمةِ» (2).
وهذا المنهجُ الذي ذكره الشَّوكَانِيُّ (ت:1250) غيرُ سديدٍ، وقولُه: «فإذا خالفَ المشهورَ المستفيضَ» افتراضٌ لم يُمثِّلْ له بمثالٍ يدلُّ على وجودِه عنده، وهو مع ذلكَ يرى في التَّفسيرِ أنَّ بعضَ المعاني يُستشهَد لها بالبيتِ المجهولِ القائلِ، ومع ذلك يقبلُه ولا يقول فيه مثلَ هذه القاعدةِ، فكيف يتركُ ما وردَ عن السَّلفِ في هذا المقامِ، وهم ـ أخصُّ الصَّحابة ـ عربٌ تُحكى عنهم اللُّغةُ؟!.
ومن هنا يمكنُ أنْ يقالَ: إنَّ ما وقعَ من بعضِ اللُّغويِّينَ من إنكارٍ لبعضِ تفسيراتِ السَّلفِ أوْ رَدِّهَا، بزعمهم أنها ليستْ من لغةِ العربِ = عملٌ غيرُ صحيحٍ، ولا يُعتمدُ عليه. ومن الأمثلةِ التي وقَعَ فيها اعتراضٌ من بعضِ اللُّغوييِّنَ، ما يأتي:
_________
(1) محمد بن علي بن محمد، أبو عبد الله الشوكاني، نِسْبَةً إلى هجرة شوكان من بلاد اليمن، له مشاركة في عدة علوم: الفقه، والأصول، والحديث، والتفسير، وله فيه كتابه: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، توفي سنة (1250)، وقد ترجم حياته في كتابه: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (2:214 - 225)، وينظر: معجم المفسرين (2:593).
(2) فتح القدير، للشوكاني (1:12).
(1/571)
________________________________________
1 - في قولِه تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29]، قالَ أبو عبيدةَ (ت:210): «زعمَ المفسِّرونَ أنَّه الموزُ (1)، أمَّا العربُ، فالطَّلْحُ عندهم: شَجَرٌ كثيرُ الشَّوكِ» (2).
وعبارتُه هذه فيها تضعيفٌ لما وردَ عن المفسِّرينَ من السلف، كما أنَّ فيها إشارة إلى أنَّ ما وردَ عنهم ليسَ من قَولِ العربِ! وقدْ وردَ تفسيرُه بالموزِ عن صحابيين، هما: عليٌّ (ت:40)، وابنُ عباسٍ (ت:68)، وورد عن جمعٍ من التابعينَ، وهم: قسامةُ بنُ زهيرٍ (ت: بعد80) (3)، ومجاهدُ (ت:104)، وعطاءُ (ت:114)، وقتادةُ (ت:117) (4).
أليسَ عليٌّ (ت:40)، وابنُ عباسٍ (ت:68) مِمَّنْ تُؤخذُ منهم اللُّغةُ؟! إنَّهم منَ العربِ، فكيفَ يقولُ أبو عبيدةَ (ت:210): «أما العربُ، فالطَّلحُ عندهم: شجرٌ كثيرُ الشَّوكِ»؟
لو كانَ أبو عبيدةَ (ت:210) يعتمدُ تفسيراتِ السَّلفِ في إثباتِ اللُّغةِ، لقالَ بأنَّ هذا اللفظَ له معنيان عند العربِ، كما هو الحالُ في غيرِه من الألفاظِ التي تعدَّدتْ دلالاتُها عندَ العربِ.
قالَ إبراهيمُ الحَرْبِيُّ (ت:285): «والذينَ قالوا: هو المَوزُ، هو غيرُ معنى
_________
(1) قال الحربي في غريب الحديث (2:631): «أخبرنا سلمة، عن الفراء: {وَطَلْحٍ} قال: زعم المفسرون أنه الموز». والذي في معاني القرآن (3:124) من رواية محمد بن الجهم: «ذكر الكلبي أنه الموز. ويقال: هو الطلح الذي تعرفون».
(2) مجاز القرآن (2:250)، قد اعترض على هذا التفسير أبو إسحاق النظام، ينظر: الحيوان، للجاحظ (1:343).
(3) قسامة بن زهير المازني البصري، ثقة، روى عن أبي موسى الأشعري وأبي هريرة، وروى عنه قتادة وغيره، توفي (بعد 80). ينظر: تهذيب الكمال (6:122 - 123)، وتقريب التهذيب (ص:801).
(4) ينظر آثارهم في: تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:181 - 182)، وغريب الحديث، للحربي (2:631)، وقد زاد نسبته إلى عكرمة والحسن.
(1/572)
________________________________________
الحديثِ (1)، لقوله: بشوكِ الطَّلحِ. فلعله اسمٌ لِشَجَرِ شوكٍ وللموزِ» (2).
وقال: «قوله: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29]: هو الموزُ، وهو لا شوكَ له. والطَّلحُ غيرُ منضودٍ، وإنما ذلكَ الموزُ، نُضِدَ على بعضٍ» (3).
وكَونُ أبي عبيدةَ (ت:210) لم يعلمْ أنَّ العربَ تطلقُ على الموزِ مسمَّى الطَّلْحِ، فإنَّ هذا لا يعني عدمَ وجودِ هذه الدلالةِ عندَهم، إذْ عَدَمُ العلمِ بالشَّيءِ، لا يعني العِلْمَ بالعَدَمِ.
وقد ذَكَرَ عبدُ الرَّحمنِ بْنُ زَيْدٍ بن أسلمَ (ت:182)، أنَّ أهلَ اليَمَنِ يُسَمُّونَ الموزَ: الطَّلحَ (4). فإنْ كانَ أبو عبيدةَ (ت:210) قد جَهِلَ ذلكَ، فإنَّ غيرَه قدْ عَرَفَ هذا المعنى لذلك اللَّفظِ، واللهُ أعلمُ.
2 - في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، قال الأزهريُّ (ت:370): «روى أبو الجَوزَاءِ (5) عنِ ابنِ عباسٍ في قولِه: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]، يقولُ: بِحَيَاتِكَ. قال: وما أقسمَ اللهُ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياةِ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم (6).
وأخبرني المنذريُّ، عن أبي الهيثمِ أنه قالَ: النَّحويونَ ينكرونَ هذا، ويقولونَ: معنى «لعمرك»: لَدِينُكَ الَّذي تَعْمُرُ، وأنشد (7):
_________
(1) الحديث الذي يشرح غريبه هو: «الشهداء أربعة: فرجل لقي العدو، فكأنما يُضرَب جِلده بشوك الطلح ...». غريب الحديث (2:630).
(2) غريب الحديث، للحربي، تحقيق: د. سليمان العايد (2:631).
(3) غريب الحديث، للحربي، تحقيق: د. سليمان العايد (2:631).
(4) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:182).
(5) أوس بن عبد الله الرَّبَعِي، أبو الجوزاء، البصري، روى عن ابن عباس وغيره، كان ثقةً، مع إرسالٍ كثيرٍ، قُتِلَ في الجماجم سنة (83). ينظر: تهذيب الكمال (1:298)، وتقريب التهذيب (ص:155).
(6) ينظر تفسير ابن عباس في تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:44).
(7) البيت لعمر بن أبي ربيعة، ينظر ديوانه، ط: دار صادر (ص:438). وفي الديوان: يلتقيان، بدل يجتمعان.
(1/573)
________________________________________
أيُّها المُنْكِحُ الثّرَيا سُهَيلاً ... عَمْرَكَ اللهَ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ
قال: عَمْرَكَ اللهَ؛ أيْ: عِبَادَتَكَ الله ...» (1).
وهذا الإنكارُ الذي نسبهُ أبو الهيثمِ إلى النَّحويينَ غيرُ مقبول، فإنْ كانَ ما قالُوه في معنى «عَمْرَكَ اللهَ» صحيحاً، فإنَّه لا يلزم منه خطأُ غيرِه، خاصَّةً أنَّ المفسَّرَ به ممنْ تؤخذُ منه اللُّغةُ، وهو أدرى بمعنى اللَّفظِ في لغتِه ممنْ جاءَ بعده من اللُّغويينَ. ولا شَكَّ أنَّ قولَه مقدَّمٌ على قَولِهم، ومن ثَمَّ، فإنَّ تفسيرَهُ يُقْبَلُ لغةً وتفسيراً، ولا يَصِحُّ عليه مثلُ هذا الاعتراض.
3 - في قولِ تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، أوردَ الإمامُ البُخَارِيُّ (ت:256) عن ابن عباس (ت:68) أنَّه قالَ: «هي رؤيا عينٍ، أُريَهَا الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم ليلةَ أُسْرِيَ به» (2).
وقال ابنُ حجر العَسْقَلاَنِيُّ (ت:852): «واستُدلَّ به على إطلاقِ لفظِ الرُّؤيا على ما يُرَى بالعينِ في اليَقَظَةِ. وقدْ أنكرَهُ الحَرِيرِيُّ (3) تبعاً لغيرِه، وقالوا: إنَّما يُقالُ رُؤْيَا في المَنَامِ، وأمَّا في اليَقَظَةِ فيُقالَ: رُؤْيَةٌ (4).
_________
(1) تهذيب اللغة (2:381).
(2) صحيح البخاري، مع فتح الباري، ط: الريان (8:250). وينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (15:110 - 112) فقد أورد هذه الرواية عن ابن عباس، وأورد قول غيره من المفسرين الذين جعلوا الرؤيا متعلقةً بما رآه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليلةَ أُسرِيَ به.
(3) القاسم بن علي بن محمد، أبو محمد الحريري، من أهل البصرة، صاحب المقامات، أحد أئمة الأدب واللغة، وله من التصانيف درة الغوَّاص في أوهام الخواصِّ، وغيرها، توفي سنة (516). إنباه الرواة (3:23 - 27)، ومعجم الأدباء (16:261 - 293).
(4) قال الحريري: «ويقولون: سُرِرْتُ برؤيا فلانٍ، إشارةً إلى مرآه، فيوهمون فيه؛ كما وهم أبو الطيب في قوله لبدر بن عمار ـ وقد سامره ذات ليلة إلى قِطع من الليل ـ:
مَضَى اللَّيلُ والفَضْلُ الَّذِي لَكَ لاَ يَمْضِي ... وَرُؤْيَاكَ أَحْلَى في العيونِ مِنَ الغَمْضِ
والصحيح أن يقال: سُرِرْتُ برؤيتك؛ لأنَّ العرب تجعل الرؤية لما يُرى في اليقظة، والرؤيا لما يُرَى في المنام؛ كما قال ـ سبحانه ـ إخباراً عن يوسف عليه السلام: =
(1/574)
________________________________________
ومِمَّنِ استعملَ الرُّؤيا في اليَقَظَةِ المتنبي في قولِه (1):
....... ... وَرُؤْيَاكَ أَحَلَى فِي الْعُيُونِ مِنَ الغَمْضِ
وهذا التَّفسيرُ يَرُدُّ على مَنْ خَطَّأَهُ» (2).
إنَّ هذا الصنيعَ من ابنِ حَجَرٍ (ت:852) هو الصَّوابُ بعينِهِ، ولا عِبْرَةَ بمنْ أنكرَ هذا المدلولَ اللُّغويَّ الواردَ عن ابنِ عباسٍ (ت:68)، ولو تفرَّدَ به لقُبِلَ منه، كيف وقد وردَ لهذا المدلولِ شاهدٌ آخرُ؟!
قالَ ابنُ بَرِّي (ت:582): «اعلمْ أنَّ الرُّؤيا تكونُ في المنامِ كما ذكرَ، إلاَّ أنَّ العربَ قد استعملتها في اليقظةِ، وذلك في نحوِ قولِ الرَّاعِي (3) يصفُ ضيفاً طرقه ليلاً (4):
رَفَعَتْ لَهُ مَشْبُوبَةً عَصَفَتْ لَهَا ... صَباً، تَزْدَهِيهَا مَرَّةً وَتُقِيمُهَا
فَكَبَّرَ للرُّؤْيَا، وَهَشَّ فُؤَادُهُ ... وَبَشَّرَ نَفْساً كَانَ قبل يَلُومُهَا
وعلى هذا فُسِّرَ في التنْزيلِ ـ وعليه جلة المفسرين ـ قولُه تعالى: {وَمَا
_________
= {هَذَا تَاوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]». درة الغوَّاص في أوهام الخواص، تحقيق: د. عبد الله بن علي الحسيني (ص:137 - 138).
وممن تبِع مذهب الحريري هذا صلاحُ الدين خليل بن أيبك الصفدي، ينظر: الغيث المسجم في شرح لامية العجم (2:121 - 122).
(1) ديوانه، ط: دار صادر (ص:157)، وأوله:
مَضَى اللَّيلُ والفَضْلُ الَّذِي لَكَ لاَ يَمْضِي ... .......
(2) فتح الباري، ط: الريان (8:250).
(3) عُبيد بن حُصين بن معاوية، أبو جندل، المشهور بالراعي النميري، كان شاعراً، وكان يميل إلى الفرزدق، فهجاه جرير هجاءً مقذعاً، وكان يمدح يزيد بن معاوية وأمراء بني أمية، توفي سنة (90). ينظر: معجم الشعراء (ص:94)، معجم الشعراء المخضرمين والأمويين (ص:153).
(4) ينظر: ملحقات الديوان من ديوان الراعي، تحقيق: هلال ناجي ونوري حمودي (ص:243)، والاقتضاب في شرح أدب الكتاب، للبطليوسي (ص:180)، والفائق، للزمخشري (4:104)، وغيرها.
(1/575)
________________________________________
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]» (1).
لقدْ كانَ في غيابِ قضيةِ الاحتجاجِ بتفسيرِ الصَّحابةِ وغيرِهم منَ السَّلفِ عندَ اللغويين ما يظهر مثل هذه الاعتراضات على بعض تفسيراتهم، ولو استفاد اللُّغويُّونَ من تفسيراتِهم في ثبوتِ دلالة بعض الألفاظِ في اللُّغةِ لوجدوا في ذلكَ علماً كثيراً وشواهدَ لغويَّةً كافيةً.
ولقدْ كانَ اللُّغويُّونَ ـ فيما يبدو ـ يجعلونَ مفسِّري السَّلفِ قَسِيماً لهم في علمِ التَّفسيرِ، مما يدلُّ على ذلك أنهم في نقلِ الأقوالِ في تفسيرِ الآيةِ يجعلونَ أهلَ التَّفسيرِ صنفاً مقابلاً لأهل اللُّغةِ، فيقولون: قالَ أهلُ التَّفسيرِ .. ، وقالَ أهلُ اللُّغةِ (2) ... ، أو ينصونَ على أقوالِ بعضِ اللُّغويِّين.
ولقد أشارَ بعضهم على أنَّ أهلِ التَّفسِير لا يؤخذُ بتفسيراتهم اللُّغويِّةِ في ثبوتِ معنى اللفظِ في اللُّغةِ، بلْ يقْبَلُونَه منهم على أنَّه تفسيرٌ، وليسَ على أنَّه من اللُّغةِ.
ومنْ ذلكَ ما وَرَدَ عن ثعلب (ت:291): «قال أبو عَمْرٍو (3): سمعتُ أبا موسى الحَامِضَ (4) يسألُ أبا العباسِ عن قولِه: {فَضَحِكَتْ} [هود: 71]؛ أي: حاضت، وقالَ: إنه قدْ جاءَ في التَّفسيرِ.
_________
(1) حواشي ابن بري وابن ظفر على درة الغواص في أوهام الخواص، تحقيق: د. أحمد طه حسانين سلطان (ص:126 - 127). وقد نُقِلَ قوله باختصارٍ في لسان العرب، مادة (رأى)، وقد ذهب البطليوسي إلى ما ذكره ابن بري. ينظر له: الاقتضاب شرح أدب الكتاب (2:149)، وينظر شرح درة الغواص، للشهاب الخفاجي (ص:142).
(2) ينظر ـ على سبيل المثال ـ: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (3:404، 423)، (4:52، 62، 67، 103)، (5:320، 330، 333)، وتهذيب اللغة (8:432)، (14:243، 256).
(3) كذا ورد في تهذيب اللغةِ وفي لسان العربِ، مادة (ضحك). ولم أعرف من هو، ويحتمل أنه تصحَّف عن «أبي عمر»، وهو أبو عمر الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، وقد أخذ عنهما كما في ترجمة ثعلب في إنباه الرواة (1:174)، وفي ترجمة أبي موسى الحامض في إنباه (2:21). ثم طبع كتاب ياقوتة الصراظ لأبي عمر الزاهد (ص:266 - 269)، وفيه هذا النقل، وبه ظهر لي أنه أبو عمر، وأن ما في تهذيب اللغة المطبوع تصحيف، وتحقيق تهذيب اللغة فيه تصحيف كثير.
(4) سليمان بن محمد بن أحمد، أبو موسى النحوي، المعروف بالحامض، أخذ عن
(1/576)
________________________________________
فقالَ: ليس في كلامِ العربِ، والتَّفسيرُ مُسَلَّمٌ لأهلِ التَّفسيرِ.
فقالَ لهُ: فأنتَ أنشدْتَنَا (1):
تَضْحَكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ ... وتَرَى الذِّئْبَ بِهَا يَسْتَهِلّ
فقالَ أبو العباسِ: تَضْحَكُ هاهنا: تَكْشِرُ، وذلك أنَّ الذِّئبَ يُنَازِعُهَا على القَتِيلِ، فتَكْشِرُ في وَجْهِهِ وَعِيداً، فيتركُها مع لَحْمِ القَتِيلِ وَيَمُرُّ» (2).
وقد ورد تفسيرُ لفظِ: «ضحكت» بمعنى: حَاضَتْ عن ثلاثةٍ من مفسري السَّلفِ، وهم: عبد الله بن عباس (ت:68) (3)، ومجاهد بنُ جبرٍ (ت:104) (4)، وعكرمة (ت:105) (5).
_________
= ثعلب وغيره، وكان ديِّناً صالحاً، خلط النَّحوَين، وكان يتعصَّبُ على البصريين، له كتاب في النحو، توفي سنة (305). ينظر: طبقات النحويين واللغويين (ص:152 - 153)، وإنباه الرواة (2:21 - 22).
(1) سبق تخريجه.
(2) تهذيب اللغة (4:89 - 90).
(3) تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (6:2055).
(4) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (15:392). والرواية عنه فيها عمرو بن الأزهر العتكي، وهو كذاب يضع الحديث، ينظر حاشية شاكر لهذا الأثر.
(5) تفسير عبد الرزاق (1:267)، والدر المنثور (4:452) عن أبي الشيخ، وذكر فيه عكرمة شاهداً، وهو قول الشاعر:
إنِّي لآتِي العُرْسَ عِنْدَ طُهُورِها ... وَأهْجُرُها يَوماً إذَا هِيَ تَضْحَكُ
وقد ورد عن بعض البصريين أنَّ بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم: أنَّ العرب تقول: ضحكت المرأة: حاضت، ذكره الطبري. ينظر: تحقيق: شاكر (15:392 - 393)، وذكر له شواهد شعرية.
وفي العين (3:58)، فقال: «وقوله: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا} [هود: 71]، يعني: طمثت».
وذكره ابن قتيبة في غريب القرآن (ص:205)، ولم يعترض عليه.
وقال ابن دريد في جمهرة اللغة (1:546): «ذكر المفسرون أنها حاضت، والله أعلم.
قال أبو بكر: ليس في كلامهم ضحكت بمعنى: حاضت إلاَّ في هذا».
(1/577)
________________________________________
فهؤلاء هم الذين وردَ عنهم التَّفسيرُ، وهم صحابيٌّ وتابعيان، ومعَ ذلكَ لم يقبلْ ثَعْلَبٌ (ت:291) قولَهم في اللُّغةِ، وقال: «ليس في كلامِ العربِ، والتَّفسيرُ مُسَلَّمٌ لأهلِ التَّفسيرِ».
فإن لم يكن هذا التفسيرُ من لغةِ العربِ، فمن أين جاء به هؤلاءِ المفسِّرون.
إنَّ عبارةَ ثعلبٍ (ت:291) هذه = تُشْعِرُ بأنَّ قولَ أهلِ التَّفسيرِ حجةٌ على أهلِ التَّفسيرِ لا غيرَ، أمَّا اللُّغويونَ فلا، وهذا فيه نَظَرٌ، وإنَّما صدرَ منه مثل هذا لِعَدَمِ اعتبارِه بما جاءَ عنِ السَّلفِ في نَقْلِ اللُّغةِ.
وأصرحُ منه في ردَّ ما جاء عن السلفِ، ابنُ دَرَسْتَوَيه (ت:347) (1)، حيث قال: «وأما قولُه (2): أَخْنَسْتُ عنِ الرَّجُلِ حَقَّهُ، فإنما جاء على أَفْعَل، بألف، لِنَقلكَ الفِعْلَ إليك من الحق وتصييرك الحق مفعولاً، وكان في الأصل فاعلاً، ألا ترى أنكَ تقولُ: خَنَسَ عنه حَقُّهُ: إذا تأخَّر. ثم تقول: أَخْنَسْتُ أنا الحَقَّ عنه؛ أي: جعلتُه متأخراً، وهذا مُطَّرِدٌّ في بابه.
ولا معنى لقولِه: سَتَرْتُهُ عنه، ولو كانَ فيه معنى سَتَرْتُهُ، لقيلَ في كلِّ مستورٍ: أَخْنَسْتُهُ (3). وإنما هذا تفسيرٌ أُخِذَ عن رواةِ تفسيرِ القرآنِ في قولِ اللهِ عزّ وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15، 16]: أنها الكواكبُ المُسْتَتِرَةُ التي لا تظهرُ. وإنما قيلَ لها: الخُنَّسُ؛ لقصورِها في السَّيرِ
_________
(1) عبد الله بن جعفر بن درستويه، أبو محمد النحوي، أخذ عن المبرد وابن قتيبة وغيرهما، وكان شديد الانتصار للبصريين، له كتاب التوسط بين الأخفش وثعلب في تفسير القرآن، وغيره من التصانيف الجياد، توفي سنة (347). ينظر: طبقات النحويين واللغويين (ص:116)، وإنباه الرواة (2:113 - 114).
(2) يعني صاحب الفصيح.
(3) هذا الردُّ غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ بعضَ الدلالات يكونُ خاصًّا بلفظٍ دون غيرِه، وهو ما يُعرفُ بالفروقِ اللغويةِ، فمثلاً: ليس كل جلوسٍ قعوداً، بل هذا يخصُّ حالةً، وذاك يخصُّ أخرى.
(1/578)
________________________________________
عن المنازلِ، لا لانْسِتَارِهَا، وإنْ كانتْ مُنْسَتِرَةً» (1).
وهذا المعنى الذي ذَكَرَ أنَّهُ أخذَهُ عن أهلِ التَّفسيرِ، كانَ من الواجبِ أنْ يقبلَه، ولكنَّهُ اعترضَ عليه، وجعلَه تفسيراً، وكأنَّه يشيرُ إلى أنَّه لا يؤخذُ منه لغةٌ، وهذا غير صحيحٍ، بلْ إنْ كانَ وارداً عن السَّلفِ، فالأصلُ قبولُه.
وقد جرَّ هذا التَّعاملُ إلى أن يطلقُوا على ما وردَ عن السَّلفِ مصطلحَ التَّفسيرِ؛ كأهلِ التَّفسيرِ، وجاء في التَّفسيرِ، وقال المفسرونُ، وكلُّ هذا يُشعرُ بتميُّزِهم عنهم، وأنَّهم ليسوا ممن يؤخذُ عنهم اللُّغةُ.
وقدْ تتبَّعتُ مصطلحَي «التفسير والمفسرين» ـ عدا من ينصُّون عليه منْ المفسِّرينَ ـ في معانِي القرآنِ، للفرَّاءِ (ت:207) (2)، وغريبِ القرآن، لابن قتيبةَ (ت:276) (3)، ومعاني القرآنِ وإعرابِه، للزجَّاجِ (ت:311) (4)، وغريبِ القرآنِ، لابن عُزَيز (ت:330) (5)، وتهذيبِ اللُّغةِ، للأزهري (ت:370) (6)، فوجدتُ أنَّهم
_________
(1) تصحيح الفصيح، لابن درستويه، تحقيق: عبد الله الجبوري (1:270).
(2) على سبيل المثال: بلغت في المجلد الأول أكثر من خمسين موضعاً، منها: (36، 37، 40، 75، 77، 89، 92، 94، 118، 122، 172، 205، 218، 224، 224، 390، 393، 476) وغيرها.
(3) بلغت عنده قرابة ثلاثين موضعاً، منها: (ص:43، 61، 104، 166، 207، 266، 310، 332، 360، 409، 431، 498)، وغيرها.
(4) بلغت ـ مثلاً ـ في الجزء الرابع مائة وستين موضعاً، منها: (14، 19، 29، 39، 45، 66، 74، 76، 77، 83، 90، 91، 153، 209، 320، 335، 384، 418، 427، 433، 439، 440، 447)، وغيرها.
(5) بلغت المواضع عنده أكثر من عشرين موضعاً، منها: (ص:97، 106، 110، 120، 151، 175، 219، 145، 207، 260)، وغيرها.
(6) بلغت ـ مثلاً ـ من الجزء (4 - 7) أكثر من أربعين موضعاً، منها: (4:3، 81، 112، 118)، (5:16، 22، 47)، (6:26، 75، 92)، (7:28، 247، 341، 541)، وغيرها.
ويلاحظ أن الأزهري قد ينقل عن غيره هذه العبارة، ولذا يكثر عنه نقلها عن الفراء والزجاج؛ لإكثاره النقل عنهما، ومن نقوله لهذه العبارة عن غيرهما. =
(1/579)
________________________________________
يطلقونَها ـ في الغالب ـ على ما لا يؤخذُ من طريقِ اللُّغةِ في علمِ التَّفسيرِ؛ كسببِ نُزُولٍ، أو قِصَّةِ آيةٍ، أو تفسيرٍ نَبَويٍّ، أو تعيينِ منْ نزلَ بشأنِهِ الخطابُ، أو غيرِ ذلكَ مما ليسَتِ اللُّغةُ طريقَهُ.
وربَّما قابلوا أهلَ التَّفسيرِ بأهلِ اللُّغةِ؛ كقولهم: وهذا قولُ أهلِ التَّفسيرِ وأهلِ اللُّغةِ، أو غيرها من العباراتِ (1). وهذا يُشعِرُ بتميُّزِ أصحابِ كلِّ علمِ بعلمِهِم، وأنَّ أهلَ التَّفسيرِ لا علاقَةَ لهم بعلمِ اللُّغةِ.
ومنَ الأمثلةِ التي تدلُّ على أنَّ غالبَ ما ينقلونَه عنِ المفسِّرينَ مما لا يؤخذُ عنِ طريقِ اللُّغةِ:
1 - في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، قال الفرَّاءُ (ت:207): «يقولُ: إلاَّ ما دمتَ له متقاضياً، والتَّفسيرُ في ذلكَ: أنَّ أهلَ الكتابِ كانوا إذا بايعهم أهلُ الإسلامِ أدَّى بعضُهم الأمانةَ، وقالَ بعضُهم: ليسَ للأُمِّيِّينَ ـ وهمُ العربُ ـ حُرمةٌ كحرمةِ أهلِ ديننا، فأخبرَ اللهُ ـ تباركَ وتعالى ـ أنَّ فيهم أمانةً وخيانةً، فقال تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [آل عمران: 75] في استحلالِهم الذَّهابَ بحقوقِ المسلمينَ» (2).
ذكرَ الفراء (ت:207) في هذا الموضع معنى الجملةِ من حيثُ اللغة، ثمَّ ذكر قصةَ الآيةِ، وجعلَها من التَّفسيرِ؛ لأنَّه لا يتأتَّى أخذُها إلاَّ منْ طريقِ الرِّوايةِ.
_________
= ينظر: عن الليث (7:388)، (9:228)، (10:655).
وعن أبي حاتم (9:20).
وعن أبي بكر ابن الأنباري (10:364)، (13:69).
وعن اللحياني (15:146).
(1) ينظر مثلاً: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (5:52، 62، 67، 102، 201). وتهذيب اللغة (1:92، 99)، (2:145، 291)، (14:227، 143، 256).
(2) معاني القرآن، للفراء (1:224).
(1/580)
________________________________________
2 - في قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، قال ابنُ قتيبة (ت:276): «والحجارةُ، قالَ المفسِّرونَ: حجارةُ الكبريتِ» (1).
وتخصيصُ الحجارةِ بحجارةِ الكبريتِ، لا يمكنُ أخذه من طريقِ اللُّغةِ، ولكن يؤخذُ منْ طريقِ الرِّوايةِ عنِ المفسرينَ.
3 - في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، قالَ الزَّجَّاجُ (ت:311): «المعنى: الذين يأكلونَ الرِّبَا لا يقومونَ في الآخرةِ إلا كما يقومُ المجنونُ منْ حالِ جنونِه. زعمَ أهلُ التَّفسيرِ أنَّ ذلكَ عَلَمٌ لهم في الموقفِ، يعرفُهم به أهلُ الموقفِ، يُعْلَمُ به أنهم أكَلَةُ الرِّبا في الدنيا» (2).
فذكر المعنى الذي يتأتى من طريقِ اللغةِ، ثمَّ نسبَ إلى أهلِ التَّفسيرِ ما لا يتأتَّى منْ طريقِ الرِّوايةِ، لا منْ طريقِها، مع أنَّه وردَ عنهم تفسيرُ المَسَّ بالجنونِ (3).
4 - في قوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24]، قال ابنُ عُزَيْزٍ السجستاني (ت:330): «مِنَ القائلةِ، وهي الاستكنانُ في وقتِ نصفِ النَّهارِ.
وجاءَ في التَّفسيرِ أنَّه لا ينتصفُ النَّهارُ يومَ القيامةِ حتى يستقرَّ أهلُ الجنَّةِ في الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ (4)، فَتَحِينُ القائلةُ وقدْ فُرِغَ مِنَ الأمرِ، فيقيلُ أهلُ الجنَّةِ في الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ» (5).
وما ذكرَه ابنُ عُزَيزٍ السجستاني (ت:330) هنا لا يمكنُ أنْ يُدركْ منْ طريقِ اللُّغةِ، بلْ طريقُهُ الروايةُ، وهي التي فسَّرَ بها أهلُ التَّفسيرِ.
_________
(1) غريب القرآن (ص:43).
(2) معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (1:358).
(3) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6:8 - 10).
(4) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (19:5)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (8:2680 - 2681).
(5) غريب القرآن (ص:110).
(1/581)
________________________________________
وإذا تأمَّلتَ هذه المسألةَ، فإنَّه سَيَبِينُ لك ـ إن شاء اللهُ ـ ما يأتي:
1 - أنَّ بحث المفسِّرينَ في التَّفسيرِ كانَ أوسعَ من بحثِ اللُّغويينَ، فالمفسِّرونَ كانوا يفسِّرونَ بما لديهم من لغةِ العربِ، والحديثِ النَّبويِّ، وأسبابِ النزُّولِ، وقصصِ وأحوالِ من نزلَ فيهم الخطابُ منَ العربِ المشركينَ واليهودِ والنَّصارى، وغيرِها مما لا يُدركُ باللُّغة.
أمَّا اللُّغويُّونَ فكانَ جانبُ البحثِ النَّحويِّ واللُّغويِّ يَطغَى على كتبِهم الّتي أَلَّفُوهَا في غريبِ القرآنِ ومعانيه، ولذا ساروا بها على المنهجِ اللُّغويِّ في البحثِ، وصاروا يستدلونَ بقولِ شاعرٍ أو غيرِه ممن سبقَ عَصْرَ السَّلفِ أو أدركَهم، ولا ينظرونَ إلى تفسيراتِ هؤلاءِ السَّلفِ ـ الذين هم في عصرِ من يحتجونَ بشعرِه وقولِه ـ على أنها مرجعٌ من مراجعِ اللُّغويِّينَ، لذا قلَّ أن تجدَ تفسيراتِهم في كُتُبِ اللُّغويِّينَ في البحثِ القرآنيِّ أو اللُّغويِّ.
ولقدَ عَمَدْتُ إلى كتابِ لسانِ العربِ (1) لأستجليَ صِحَّةَ هذه المسألةِ، وجردتُ ما فيه من رواياتٍ تفسيريَّةٍ لمفسِّرينَ ولُغويِّينَ لهم أقوالٌ كثيرةٌ في التفسيرِ، وهم: ابن عباسٍ (ت: 68)، ومجاهدُ بن جبرٍ (ت:104)، والفراء (ت:207)، والزَّجاجُ (ت:311).
وبعدَ جردِ تفسيراتِهم ظهر لي جليًّا قلَّةُ اعتمادِ اللغويينَ على تفسيرِ السلفِ في كتبهم اللغويةِ، وكانتِ النَّتيجةُ كالآتي:
* لم يتجاوزِ التَّفسيرُ المنقولُ عن ابنِ عباسٍ (ت:68) أكثرَ من مائةٍ وأربعينَ موضعاً (2).
_________
(1) اخترتُ هذا الكتابَ اللغويَّ لأنَّه من أكبرِ كتبِ اللغةِ التي حوت مفرداتٍ كثيرةً، وقد اعتمد ابن منظور في كتابه هذا على خمسةِ كتبٍ، نقل ما فيها، وهي: تهذيبُ اللغةِ للأزهري، والمحكم والمحيطُ الأعظم لابن سيده الأندلسي، والصحاح للجوهري، وحواشي الصحاح، لابن برِّي، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري، وهو بهذا يُعدُّ موسوعةً ضخمةً في مفرداتِ هذه اللغةِ الشريفةِ.
(2) ينظر ـ على سبيل المثالِ ـ الموادَّ الآتيةَ: (رفث، روح، سكر، صهر، طهر، عصر، =
(1/582)
________________________________________
* لم يتجاوز التفسيرُ المنقولُ عن مجاهدٍ (ت:104) السبعينَ نقلاً (1).
* أمَّا الفرَّاءُ (ت:207)، والزَّجَّاج (ت:311)، فقد تجاوزَ النَّقلُ عن كلِّ واحدٍ منهما السِّتمائة موضعٍ، وقد كان النَّقل عنهما من كتابيهما في معاني القرآن، وكان بواسطةِ كتابِ تهذيبِ اللغةِ، وقد سبقَ بيانُ نسبةِ تفسيرَيهما في كتاب تهذيبِ اللغةِ.
2 - أنَّ قَصْرَ الاستفادةِ مِنْ تفسيرِ السَّلفِ على ما لا يُدْرَكُ باللُّغةِ فيه قُصُورٌ في البَحثِ، وكأنه يُوحِي باقتدارِ اللُّغويِّ على معرفةِ عربيَّةِ القرآنِ دونَ الرُّجوعِ إلى تفسيراتِهم. ولقدْ كانَ هذا من أسبابِ وجودِ بعضِ الأقوالِ الشَّاذَّةِ في تفسيرِ اللُّغويِّين؛ لأنها تعتني بمصدرٍ واحدٍ دونَ غيرِه مِن مصادرِ التَّفسيرِ.
3 - لقدْ أفرزَ عدمُ وضوحِ هذه القضيَّةِ عندَ اللُّغويِّينَ ردَّهم بعضَ أقوالِ السلفِ، وكأنَّهم غفلوا عن أنَّ هؤلاءِ مِمَّنْ تُؤْخَذُ منهم اللُّغةُ، وبالأخصِّ مفسروا الصَّحابةِ، كابنِ مسعودٍ (ت:35) وابنِ عباسٍ (ت:68)، وكبارِ مفسري التَّابعينَ.
ويلحقُ هذا الاعتراضُ على هؤلاء اللغويينَ كلَّ من فسَّرَ القرآنَ بعدهم ممن يعترضُ على أقوالِ السَّلفِ، ولا يجعلُها حجَّةً في اللُّغةِ، ومن أمثلة ذلك ما وقعت فيه بنتُ الشاطئ (د. عائشةُ بنتُ عبد الرحمن) من ردِّ تفسيرهم في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2]، قالت: «... كما نستبعدُ أن يكون حلٌّ بمعنى إحلالِ اللهِ لرسوله هذا البلدَ، يفعلُ به بعد الفتحِ ما شاء؛ لظهورِ تكلُّفِه، فضلاً عن كونِ الصِّيغةِ لا تقبلُ لغويًّا أن يكونَ الإحلالُ من حلَّ، وليسَ الاشتقاق.
_________
= نشط، شرع، شغف، رتق، غسق، حبك، جمل، رتل، ظلم، هيم، حصن، قطن، لعن)، وغيرها.
(1) ينظر ـ على سبيل المثال ـ الموادَّ الآتيةَ: (أب، ودَّ، ضغثَ، طلح، حفد، ثبر، ثمر، دسر، كور، أزَّ، سجن)، وغيرها.
(1/583)
________________________________________
وتفسيرُ الحلِّ بالإقامة هو المعنى المتبادر ...» (1).
وهذا المعنى الذي استبعَدَتْه، لم يذكرِ الطبريُّ (ت:310) غيرَه عن السلفِ، مع اختلافِ عباراتِهم عنه، وقد ورد هذا التفسيرُ عن ابن عباس (ت:68)، ومجاهد (ت:104)، والضحاك (ت:105)، وعطاء (ت:114)، وقتادة (ت:117)، وابن زيد (ت:182) (2).
وزاد ابن كثيرٍ (ت:774) ذِكرَ الروايةِ عن سعيد بن جبيرٍ (ت:95)، وعكرمة (ت:105)، والحسن البصري (ت:110)، وعطية (ت:111)، والسُّدِّيِّ (ت:128)، وأبي صالح (3).
وتفسيرُهم بهذا المعنى يجعلُ من معاني العبارةِ ما ذكرُوه، وكونها تحتملُ معنًى آخرَ، لا يعني ضعفَ الواردِ عنهم، ولا الاعتراض عليه، وسيأتي ضوابطُ بيانِ قبولِ المحتملاتِ الواردةَ عن غيرِ السَّلفِ، والله الموفِّقُ.

تطبيقُ طريقةِ التَّعاملِ مع أقوالِ السَّلف التَّفسيريَّة:
حينما يناقشُ أحَدٌ أقوالَ المفسِّرينَ في آيةٍ ما، فعليه ألاَّ يتعجَّلَ في رَدِّ ما يَرِدُ عنِ السَّلفِ في معنى لفظٍ من الألفاظِ بسببِ اعتراضِ لغويٍّ عليه، بلْ لاَ بُدَّ مِنَ التَّثَبُّتِ، ومن معرفةِ وِجْهَةِ قولِ السَّلفِ قبلَ الحكمِ عليه، ومما يُعلمُ أنَّ المثبتَ مُقَدَّمٌ على النَّافِي، وسأطرحُ هاهنا مثالاً لهذه المسألةِ في قولِه تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]، وأسألُ اللهَ التوفيقَ.
وردَ في معنى الحَفَدَةِ أقوالٌ، وهي:
_________
(1) التفسير البياني للقرآن الكريم (1:173).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:194 - 195).
(3) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: السلامة (8:402)، وينظر: الدر المنثور (8:516 - 519).
(1/584)
________________________________________
1 - الحَفَدَةُ: أعوانُ الرَّجلِ وخَدَمُهُ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ (ت:68) (1)، ومجاهدٍ (ت:104) (2)، وعكرمةَ (ت:105) (3)، وطاووس (ت:106) (4)، والحسنِ (ت:110) (5)، وقتادةَ (ت:117)، وأبي مالكٍ غزوانَ الغفاريِّ (6)، ومالكِ بنِ أنسٍ (ت:179) (7).
وقال النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ (ت:204): «مَنْ قَالَ: الحَفَدَةُ: الأعوانُ، فهو أتبعُ لكلامِ العربِ مِمَّنْ قالَ: الأصهارُ» (8).
وقالَ ابنُ فارسٍ (ت:395): «ويقال في قولِه تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]: إنهم الأعوانُ، وهو الصَّحِيحٌ» (9).
2 - الأختانُ، وهو قولُ ابنِ مسعود (ت:35) منْ طريقِ زِرٍّ بنِ حُبَيشٍ (ت:83) (10)،
_________
(1) رواه الطبري من طريق أبي حمزة (عمران بن أبي عطاء المعروف بالقصاب)، ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:145)، ومعاني القرآن، للنحاس (4:89).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:145)، ومعاني القرآن، للنحاس (4:89).
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144 - 145).
(5) تفسير عبد الرزاق، تحقيق: قلعجي (1:310)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (14:145، 146)، ومعاني القرآن، للنحاس (4:89).
(6) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:145).
(7) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لابن العربي، تحقيق: محمد عبد الله ولد كريم (3:1072)، والبيان والتحصيل، لابن رشد (17:344).
(8) تهذيب اللغة (4:427).
(9) مقاييس اللغة (2:84).
(10) وتفسير الطبري، ط: الحلبي (14:143 - 144)، وفي (ص:144) وردت رواية عن عاصم عن ورقاء، وفي هذه الرواية إشكالٌ؛ لأن عاصماً توفي سنة (127)، وورقاء بن عمر اليشكري الكوفي توفي سنة نيف وستين ومائة، وهو يروي عن ابن أبي نجيح وأبي إسحاق السبيعي والأعمش وطبقتهم، فلا يمكن أن يكون عاصم يروي عنه، ولا أن يكون أيضاً ممن لقي ابن مسعود المتوفى سنة خمس وثلاثين، ولعل الرواية عن زرٍّ، لا عن ورقاء كما في جميع الروايات المذكورة عنه عن ابن =
(1/585)
________________________________________
وقولُ ابنِ عباسٍ (ت:68) منْ طريقِ عكرمةَ (ت:105) (1)، وسعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:95) (2)، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ (ت:96) (3)، وأبي الضُّحَى (ت:100) (4)، والفَرَّاءِ (ت:207) (5).
وفي روايةٍ عنِ ابنِ مسعودٍ (ت:35) أنه قالَ: همُ الأصهارُ، فعنِ زِرِّ بنِ حُبَيشٍ (ت:83) (6)، قالَ: «قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: أتدري ما الحفدة يا زِرُّ؟
قالَ: قلتُ: نعم، هم حُفَّادُ الرَّجلِ منْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.
قالَ: لا، هم أصْهَارُ الرَّجُلِ» (7).
وكذا في روايةِ علي بن أبي طلحةَ (ت:143) عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68)، قال: «الأصهار» (8).
_________
= مسعود، إذ الراوي عنه وعن ورقاء في هذه الأسانيد عاصم بن بهدلة، والله أعلم. ينظر في ترجمة ورقاء: تهذيب الكمال (7:454 - 455)، وتقريب التهذيب (ص:1036).
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144).
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144).
وأبو الضحى: مسلم بن صُبيح الهمداني، الكوفي، ثقة فاضلٌ، روى عن ابن عباس وابن عمر، وعنه: عطاء بن السائب ومنصور بن المعتمر وغيرهما، توفي سنة (100). ينظر: تهذيب الكمال (7:100 - 101)، وتقريب التهذيب (ص:939).
(5) معاني القرآن (2:110).
(6) زِرُّ بنُ حُبيش الكوفي، ثقة جليل مخضرم، روى عن عمر وعثمان وعليٍّ وابن مسعود وغيرهم، وعنه: النخعي وعاصم بن بهدلة، وغيرهما، كان من أعرب الناس، وكان ابن مسعود يسأله عن العربية، توفي سنة (83)، وقيل غيرها. ينظر: تهذيب الكمال (3:20 - 21)، وغاية النهاية (1:294).
(7) تفسير عبد الرزاق (1:310)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144).
(8) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144).
(1/586)
________________________________________
والصِّهْرُ: الخَتَنُ (1). وقيلَ: أقاربُ الزَّوجِ أحْمَاءٌ، وأَقَارِبُ الزَّوجَةِ أَخْتَانٌ، والصِّهْرُ يجمعُهما، وهو قولُ الأصْمَعِيِّ (ت:215) (2)، وقيلَ غيرَ ذلكَ. وكلُّها لا تُخْرِجُ الخَتَنَ عنْ معنى الصِّهْرِ، فإمَّا أنْ يكونا بمعنى واحدٍ، وإما أنْ يكونَ الخَتَنُ جزءً منْ معنى الصِّهْرِ (3).
والمقصودُ: أنَّ التعبيرَ عنِ الحفَدَةِ بأنَّهم الأصهارُ أوِ الأختانُ ليسَ فيه خلافٌ، بلْ هو راجعٌ إلى معنًى واحدٍ (4)، واللهُ أعلمُ.
3 - الحَفَدَةُ: ولدُ الرجلِ وولدُ ولدِهِ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ (ت:68) منْ طريقِ سعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:95) ومجاهدٍ (ت:104) وعكرمةَ (ت:105) (5)، وزِرِّ بنُ حُبَيشٍ (ت: 83) (6)، والضَّحَّاكِ بنِ مزاحم (ت:105) (7)، وعكرمةَ (ت:105) (8)، والكلبيِّ (ت:146) (9)، وابنِ زيدٍ (ت:182) (10).
4 - الحَفَدَةُ: بنو امرأة الرَّجُلِ منْ زَوْجِهَا الأوَّلِ، وهو مَرْوِيٌّ عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68) منْ طريقِ عَطِيَّةِ العَوْفِيِّ (ت:111) (11).
تحليلُ هذه الأقوالِ:
1 - إنَّ أصلَ الحَفْدِ في اللُّغةِ يرجعُ إلى معنى السُّرْعَةِ والخِفَّةِ في
_________
(1) مقاييس اللغة (3:315)، ومفردات ألفاظ القرآن، للراغب (ص:494)، وتاج العروس، مادة (صهر).
(2) تاج العروس، مادة (صهر).
(3) تاج العروس، مادة (صهر).
(4) ينظر: معاني القرآن، للنحاس (4:89).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:146).
(6) تفسير عبد الرزاق (1:310)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (14:144).
(7) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:146).
(8) معاني القرآن، للنحاس (4:89).
(9) تهذيب اللغة (4:427).
(10) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:146).
(11) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:146).
(1/587)
________________________________________
الخدمةِ والعملِ (1)، وإذا نظرتَ إلى هذه الأقوالِ المذكورةِ، وجدتَ أنَّ هذا المعنى يتحقَّقُ فيها، ومنْ ثَمَّ، فإنَّ من فَسَّرَ اللَّفظَ بأنَّهم الأعوانُ، فإنه فَسَّر على الأصلِ اللُّغويِّ لهذه اللَّفظةِ.
2 - أنَّ منْ قالَ: هم الأصهارُ أو الأختانُ، فإنَّ قولَهُم منْ حيثُ اللُّغة صحيحٌ، ولا يَصِحُّ الاعتراضُ عليه؛ لأنه:
أولاً: لَمْ يُخْرِجِ اللَّفظةَ عن مدلولِها الأصليِّ، وهو الخدمةُ.
ثانياً: أنَّه واردٌ عن من قولُه حُجَّةٌ في اللُّغةِ، وأَخَصُّهُمْ في ذلكَ الصَّحابيَّانِ: ابنُ مسعودٍ: (ت:35)، وابنُ عباسٍ (ت:68).
ولذا فإنَّ الأقوالَ التي تعتمدُ في تفسيرِها على أنَّ اللُّغةَ تدلُّ على معنى الخدمِ والأعوانِ دون غيرهما فيها قصورٌ في النَّظرِ اللُّغويِّ بسببِ إهمالِها تفسيرَ العربِ الذينَ نزلَ القرآن بلغتهم، ومن أولئك الذين اعتمدوا معنى الخدم والأعوان:
النَّضْرُ بنِ شُمَيْلٍ (ت:204)، حيثُ قالَ: «منْ قالَ: الحَفَدَةُ: الأعوانُ، فهو أتبعُ لكلامِ العربِ ممنْ قال: الأصهارُ» (2).
وأبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ (ت:224) الذي قال: «وعن عبدِ اللهِ: أنهم الأصهارُ، وأما المعروفُ من كلامِهم، فإنَّ الحَفْدَ هو الخدمةُ» (3).
وابنُ العربيِّ المالكيِّ (ت:543)، حيث قالَ ـ محتجًّاً لقولِ مالكِ بن أنس (ت:179) ـ: «... وقالَ الخليلُ بنُ أحمدَ: إنَّ الحَفَدَةَ عندَ العربِ الخدمُ (4). وكفى
_________
(1) ينظر: العين (3:185)، وتهذيب اللغة (4:427)، ومقاييس اللغة (2:84)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (14:147).
(2) تهذيب اللغة (4:427).
(3) غريب الحديث، تحقيق: حسين محمد شرف (4:266).
(4) في كتاب العين (3:185): «وقول الله عزّ وجل: بنين وحفدة، يعني: البنات، وهنَّ خدم =
(1/588)
________________________________________
بمالكٍ فَصَاحَةً ـ وهو محضُ العرب ـ في قولِه، وبقولِ الخليلِ، وهو ثقةٌ في نقلِه عن العربِ، فخرجتْ خدمةُ الولدِ والزوجةِ من القرآن بأبدعِ بيانٍ» (1).
والقصورُ في هذا واضحٌ من جهتين:
الأولى: أنَّ الذي وردَ عنه غيرُ معنى الخدمِ والأعوانِ من العربِ، وهو أعرقُ عربيةً من مالك (ت:179) الذي احتجَّ ابنُ العربيِّ (ت:543)، بعربيَّتِهِ.
الثانية: أنَّ ما قاله من فسَّر بغيرِ معنى الخدمِ والأعوانِ لا يَخْرُجُ عن معنى الخدمةِ، وما وردَ عن الصَّحابي ابن مسعود (ت:35) يتَّضحُ فيه أنَّه خَصَّ المعنى بأحدِ مَنْ تَتَحقَّقُ فيه الخدمةُ، وهم الأصهار، كما في رواية زِرِّ بن حُبيشٍ (ت:83) عنه.
وقولُه بأنَّ الحَفَدَةَ: الأصهارُ = حُجَّةٌ، غيرَ أنَّ تخصيصَه لهذا اللَّفظِ بهذا المعنى غيرُ ذلك؛ لأنه قد وردَ عنْ غيرِه ممنْ يُحْتَجُّ به في اللُّغةِ والتَّفسير عدمَ تخصِيصِهِ بهذا المعنى، ولا يكونُ تخصيصُه في هذا الحالِ حُجَّةً.
ولو كانتْ عبارةُ هؤلاء العلماءِ أنَّ منْ قالَ: الأعوان، فإنَّ قولَه أشهرُ في لغةِ العربِ، لكانَ، ولكنْ يُلْمَحُ في عبارتِهم إنكار المعنى الذي وردَ عن عبد الله بنِ مسعودٍ (ت:35) وغيرِه، وهذا غيرُ سديدٍ، واللهُ أعلم.
3 - أنَّ اللهَ سبحانَه جعلَ مِنَ الزَّوجَاتِ صِنْفَينِ: البنينَ والحَفَدَةَ. ولفظ البنينِ يشملُ الذُّكورَ والإناثَ، ويكونُ وُرُودُ الآية بلفظِ البنينِ على سبيلِ التَّغليبِ للذُّكورِ، واللهُ أعلمُ.
وعلى هذا، فالحَفَدَةُ منَ الزَّوجةِ، والذي يكونُ منْ طريقِ الزَّوجةِ: أولادُ الأولادِ، والأصهارُ أو الأختانُ، وأولادُ المرأةِ منْ زوجِهَا الأوَّلِ.
_________
= الأبوين في البيت، ويقال: الحفدة: ولد الولد، وعند العرب، الحفدة: الخدم».
وفي أول هذه المادة قال: «الحَفْدُ: الخِفَّةُ في العملِ والخِدمة».
(1) أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق: البجاوي (3:1163)، وقال في القبس شرح موطأ مالك، تحقيق: محمد بن عبد الله ولد كريم (3:1072): «... وقال آخرون: هم بنو البنين، وقالت طائفة أخرى: هم البنات، والذي قاله مالك أَصحُّ؛ لأنَّ حفد في لغة العربِ موضوعة للخدمة والتحفي بالأمور».
(1/589)
________________________________________
قال ابنُ كثيرٍ (ت:774): «فمنْ جعلَ {وَحَفَدَةً} متعلقاً بـ {أَزْوَاجُكُمْ}، فلا بدَّ أنْ يكونَ المرادُ الأولادَ، وأولادَ الأولادِ، والأصهارَ؛ لأنَّهم أزواجُ البناتِ، وأولادَ الزَّوجةَ؛ كما قال الشَّعْبِيُّ والضَّحَّاكُ، فإنهم غالباً يكونونُ تحتَ كَنَفِ الرَّجلِ وفي حِجْرِهِ وفي خِدْمَتِهِ» (1).
ومن ثَمَّ، فإنَّ من فسَّر الحَفَدَةَ: بالخَدَمَ أو غيرِهم منَ الأعوانِ الذينَ لا يكونونَ منْ طريقِ الزَّوجةِ، فإنَّ قولَهم فيه ضَعْفٌ بهذا السَّبَبِ، وقد بيَّن ذلك ابنُ زيدٍ (ت:182) بقوله: «ليسَ تكونُ العَبِيدُ مِنَ الأزواجِ، كيفَ يكونُ مِنْ زوجي عَبْدٌ؟!» (2).
وعلى احتمال دخول الخَدَمِ والأعوانِ في مرادِ الآيةِ، تخريجان:
الأول: أنْ يحتاجَ إلى تقديرِ فِعْلٍ لقولِه: {وَحَفَدَةً}، ويكونُ المعنى: جَعَلَ لكم مِنْ أزواجِكم بنينَ، وجَعَلَ لكم حَفَدَةً، وتكونُ هذه الجملةُ منقطعةً عمَّا قبلها، لكي لا يُعْطَفَ على قولِه: {بَنِينَ}، إذْ إنَّ عَطْفَ المفردِ على المفردِ يجعلُهما يشتركانِ في كونِهما منَ الزَّوجةِ، وهذا لا يحتملُه النَّصُّ.
الثاني: أنْ يُعادَ قولُه تعالى: {بَنِينَ} على {أَزْوَاجِكُمْ}، وقوله: {وَحَفَدَةً} على {أَنْفُسَكُمْ}، وهذا فيه تكلُّفٌ ظاهرٌ.
وإذا خرج الخدم والأعوان من معنى اللَّفظِ في الآيةِ، فإنَّ مَنْ كانَ مِنْ طريقِ الزَّوجةِ، فهو داخلٌ في المعنى بنصِّ الآية، وبتَحقُّقِ معنى الخدمة فيه.
ولما لم يقمْ دليلٌ على تخصيصِ أحدِ هؤلاءِ دونَ غيرِه، فإنَّ النَّصَّ يشملُ من كان من طريقِ الزَّوجةِ على العموم، لأنهم ممن يشملُهم مَعَنى الحَفَدَةِ، وحمل الآيةِ عليهم لا يخالفُ نظمَ الآيةِ ولا سياقَها، واللهُ أعلمُ.
4 - لا يعني هذا التَّرجيحُ في التَّفسيرِ ألاَّ يكونَ من معنى الحَفَدَةِ في اللُّغةِ: الأعوانُ والخدمُ، غيرَ أنَّ نَصَّ الآيةِ لا يَحْتَمِلُ دخولَهم فيها، أمَّا ثبوتُ هذا المعنى لغةً، فلا إشكالَ فيه، واللهُ أعلمُ.
_________
(1) ينظر: تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (4:587).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (14:146).
(1/590)
________________________________________
ثانياً إذا ورد أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضادٍ، جاز تفسير الآية بها
استطرادٌ في تأصيلِ القاعدةِ:
ترجعُ هذه القاعدةُ إلى احتمالِ النَّصِّ القرآنيِّ لأكثرَ من معنى، وهذه المسألةُ ترتبطُ بأصلينِ مهمَّينِ منْ أصولُ التَّفسيرِ، وهما: أسبابُ اختلافِ المفسِّرينَ، وأنواعُ هذا الاختلافِ.
أمَّا أسبابُ الاختلافِ، فظاهرٌ أنَّ الذي يتعلقُ بهذه الدراسةِ منها ما كانَ بسببِ اللُّغةِ، وما فيها منْ تَعَدُّدِ مَعَانٍ قدْ يحتملُها النَّصُّ.

وأمَّا أنواع الاختلافِ، فيحسنُ بسطُها لتتَّضح علاقةُ الموضوعِ بها، فأقولُ، وبالله التوفيق:
التَّفسير: إمَّا أنْ يكونَ مجمعاً عليه، وإمَّا أنْ يكونَ فيه اختلاف.
والمجمعُ عليه لا يَرِدُ عليه الاحتمالُ، وإنما يردُ الاحتمالُ في ما يقعُ فيه الاختلافُ.
والاختلافُ قسمانِ:
الأوَّلُ: أنْ ترجعَ الأقوالُ فيه إلى معنًى واحدٍ.
والثاني: أنْ ترجعَ الأقوالُ فيه إلى أكثرَ من معنًى.
وإليكَ تفصيلُ ذلكَ بالأمثلةِ.
(1/591)
________________________________________
القسم الأول: أن ترجع الأقوال فيه إلى معنًى واحدٍ:
وهذا القسمُ يندرجُ تحته نوعان من الاختلافِ، هي:
الأوَّل: أنْ يكونَ في اللَّفظِ المُفَسَّرِ عمومٌ، فَيَذْكُرُ مُفَسِّرٌ فَرْداً منْ أفرادِ العُمُومِ، ويَذْكُرُ غيرُه فرداً آخرَ.
ومثالُ ذلكَ تفسيرُ لفظِ: النَّعيمِ من قولِه تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، فقدْ وردَ فيه أقوالٌ، منها:
1 - الأَمْنُ والصِّحَّةُ، عنِ ابنِ مسعودٍ (ت:35)، والشَّعبيِّ (ت:103)، ومجاهدٍ (ت:104)، وسفيانَ الثوريِّ (ت:161).
2 - صِحَّةُ الأبدانِ والأسماعِ والأبصارِ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ (ت:68)، والحسنِ البصريِّ (ت:110) (1).
وإذا تأملتَ هذه التَّفسيراتِ، وجدتَها ذَكَرَتْ فرداً من أفرادِ النَّعيم، لا على سبيلِ قَصْرِ المعنى العامِّ عليه، بلْ للإشارةِ إلى فردٍ منْ أفرادِه فيه، وللدلالةِ به على باقيها.
ومنْ ثَمَّ، فالنَّعيمُ يشملُ كلَّ ما يتنعَّمُ به الإنسانُ من نعمِ الدنيا، قال الطبريُّ (ت:310): «والصَّوابُ منَ القولِ في ذلكَ أنْ يقالَ: إنَّ اللهَ أخبرَ أنَّه سائلٌ هؤلاءِ القومَ عن النَّعِيمِ، ولم يُخَصِّصْ في خبرِهِ أنَّه سائلُهم عنْ نوعٍ منَ النَّعيمِ دونَ نوعٍ، بلْ عمَّ بالخبرِ في ذلكَ عنِ الجميعِ، فهو سائلُهم ـ كما قال ـ عنْ جميعِ النَّعيمِ، لا عنْ بعضٍ دونَ بعضٍ» (2).
ويلاحظُ في هذا المقامِ أنَّ ما يُعَبِّر به أهلُ التَّفسيرِ منْ عباراتٍ في أسبابِ النُّزولِ، فإنَّها تدخلُ في هذا القِسْمِ؛ أيْ أنَّ ما يحكونَهُ منْ أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ في كذا، فإنها أمثلةٌ لمن يشملُهم حُكْمُ الآيةِ، وإنْ تَعَدَّدَتِ الأقوالُ في النُّزولِ، والله أعلم.
الثاني: أنْ يعبِّرَ المفسِّرونَ عنْ اللَّفظِ المفسَّرِ بألفاظٍ متقاربةٍ، ومثالُ ذلكَ
_________
(1) ينظر هذه الأقوال وغيرها في تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:285 - 289).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:289).
(1/592)
________________________________________
تفسيرُهم لفظَ «لغوب» منْ قولِهِ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، فقدْ وردَ عنهم:
1 - لغوب: إِزْحافٌ؛ أي: إعياءٌ، عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68) من طريق علي بن أبي طلحة (ت:143).
2 - لغوب: نَصَبٌ، عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68) من طريقِ عطيةَ العوفيِّ (ت:111)، وعنْ مجاهدٍ (ت:104).
3 - لغوب: عناءٌ، عنِ ابنِ زيدٍ (ت:182) (1).
وهذه التَّفسيراتُ ـ مع اختلافِها في العبارةِ ـ متقاربةُ المعنى، وهي ترجعُ إلى معنًى واحدٍ، وهو التَّعبُ.
وفي هذا القسمِ ـ وهو أن ترجع الأقوال فيه إلى معنى واحدٍ ـ يجوزُ حملُ الآيةِ على ما وردَ فيها منَ التعبيراتِ المفسِّرَةِ لها؛ لأنَّه في النهاية لا اختلافَ في المرادِ، وإن اختَلفَ التَّعبيرُ عنِ اللَّفظِ المفسَّرِ.
وفي تفسيرِ الطبريِّ (ت:310) لقولِه تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ما يدلُّ على هذا المقالِ، قال: «اختلفَ أهلُ التَّاويلِ في معنى «البِرِّ» الذي كانَ المخاطَبونَ بهذه الآيةِ يأمرونَ النَّاسَ به وينسونَ أنفسهم، بعدَ إجماعِهم على أنَّ كلَّ طاعةٍ للهِ فهي تُسَمَّى برًّا» (2).
ثمَّ ذَكَرَ الرِّوايةَ عنِ السَّلفِ، فعنِ ابنِ عباسٍ (ت:68): «أتأمرونَ النَّاسَ بالدُّخولِ في دينِ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وغيرِ ذلك مما أُمِرْتُم به من إقامِ الصَّلاةِ، وتنسونَ أنفسَكم».
وعن قتادةَ (ت:117): «كان بنو إسرائيلَ يأمرونَ النَّاسَ بطاعةِ اللهِ وبتقواه وبِالبِرِّ، ويخالفونَه، فعيَّرَهم اللهُ».
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (26:179).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:7).
(1/593)
________________________________________
وعنِ السُّدِّيِّ (ت:128): «كانوا يأمرونَ النَّاسَ بطاعةِ اللهِ وتقواه، وهم يعصونَه».
وعنِ ابنِ جُرَيجٍ (ت:150): «أهلُ الكتابِ والمنافقونَ، كانوا يأمرونَ النَّاسَ بالصَّومِ والصَّلاةِ، ويَدَعُونَ العملِ بما يأمرونَ به النَّاس، فعيَّرَهم اللهُ بذلكَ ...».
وعنِ ابنِ زيدٍ (ت:182): «هؤلاءِ يهودُ، كانَ إذا جاءَ الرَّجلُ يسألُهم ما ليسَ فيه حَقٌّ ولا رِشْوَةٌ ولا شَيءٌ، أَمَرُوهُ بالحَقِّ» (1).
ثمَّ قالَ الطبريُّ (ت:310): «وجميعُ الذي قالَ ـ في تأويل الآية ـ مَنْ ذَكَرْنا قولَه، مقاربُ المعنى؛ لأنهم وإن اختلفوا في صِفَةِ البِرِّ الذي كانَ القومُ يأمرونَ به غيرَهم، الَّذينَ وَصَفَهُمُ اللهُ بما وصَفَهُمْ به، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ في أنهم كانوا يأمرونَ النَّاسَ بما للهِ فيه رِضاً منَ القولِ أو العملِ، ويخالفونَ ما أمروهم به من ذلك إلى غيرِه بأفعالِهم ...» (2).
القسم الثاني: أن ترجع الأقوال إلى أكثر من معنى:
إذا رجعتِ الأقوالُ إلى أكثرَ من معنًى، فإنَّه يِرِدُ عليها احتمالانِ، وهما:
* أنْ يكونَ بين هذه المعاني تَضَادٌّ، فلا يمكنُ حَمْلُ الآية على المَعْنَيَيْنِ المتضَّادينِ، بلْ لا بدَّ منَ القولِ بأحدِهما.
* أن لا يكونُ بينها تَضَادٌّ، والآيةُ تحتملُها جميعاً، فيجوزُ حملُها عليها، إذا لم يمنع مانعٌ.
وإليكَ الأمثلةُ:
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:7 - 8).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:9).
(1/594)
________________________________________
أولاً: أنْ ترجعَ الأقوالُ إلى أكثرَ من معنًى بينها تَضَادٌّ:
ومنْ ذلكَ اختلافُهم في المَعْنِي بقولِه تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]، قالَ ابنُ عباسٍ (ت:68) وابنُ إسحاقَ (ت:150): هم المؤمنونَ، وقالَ ابنُ زيدٍ (ت:182): هم المشركونَ (1).
وهذا فيه تَضَادٌّ؛ لأنَّ المُجَادلَ إحدى الطائفتينَ لا كلاهما، ولا يمكنُ في هذا أنْ يُحمَلَ على القولينِ معاً.
ومنَ الأمثلةِ: تفسيرُ لفظِ القُرْءِ، والمَسْجورِ، وسُجِّرَتْ، وَعَسْعَسَ، والصَّرِيمِ، وَوَرَاءَ، وغيرِها من الألفاظِ القرآنِيَّة التي تذكرُها كتبُ الأضدادِ (2).
ويلاحظُ أنَّه قدْ يجوزُ في بعضِ أمثلةِ التَّضَادِّ أنْ تُحملَ الآيةُ عليهما، لسببٍ يحيطُ بالمثالِ ذاتِه، ولا يصلحُ هذا السببُ لغيرِه، وذلكَ مثلُ قولِه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17].
قيل: إنَّه قَسَمٌ بإقبالِ اللَّيلِ.
وقيل: إنَّهُ قَسَمٌ بإدبارِهِ (3).
وهذا فيه تضادٌّ، غيرَ أنه يجوزُ أنْ تحتملَ الآيةُ هذين المعنيين لاختلافِ محلِّ كلِّ واحدٍ منهما، فالأوَّلُ في أوَّلِ الليلِ، والثاني في آخرِه؛ أي أنَّ زمانَ القَسَمِ في كلِّ قولٍ مختلفٌ عن الآخرِ.
ومن أمثلةِ المتضادِّ الذي لا يمكنُ أنْ تحتملَهما الآيةُ معاً: لفظُ القُرْءِ.
قيل: هو الطُّهْرُ.
وقيل: هو الحَيضُ (4).
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، ط (9:183).
(2) سبق ذكر بعضِ الأمثلةِ في الفصل الأول من هذا الباب.
(3) سبق ذكر هذا المثال، وذكر من قاله به من العلماء.
(4) سبق ذكر هذا المثالِ، وذكرُ من قالَ به من علماء السلفِ.
(1/595)
________________________________________
ولا يمكنُ أنْ يكونَ إلاَّ أحدَهما؛ لأنَّه لا يمكنُ أنْ يجتمعَ في المرأةِ في آنٍ واحدٍ أنْ تكونَ طاهراً حائضاً. واللهُ أعلمُ.
ثانياً: أنْ ترجعَ الأقوالُ إلى أكثرَ من معنًى ليسَ بينها تضادٌّ:
ومنْ أمثلتِه تفسيرُ لفظِ العتيقِ في قولِه تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، فقدْ وَرَدَ في تفسيرِه:
1 - أنَّه المعتقُ منَ الجبابرةِ، عنِ ابنِ الزُّبَيرِ (ت:73) (1)، ومجاهدٍ (ت:104)، وقتادَة (ت:117).
2 - أنَّه القديمُ، عنِ ابنِ زيدٍ (ت:182) (2).
وحملُ الآيةِ على المعنيينِ معاً لا إشكالَ فيه، وإنْ تغايرا، لأنه لا تَضَادَّ بينهما.
ومنَ الأمثلةِ: تفسيرُ قولِه تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5]، قالَ الشِّنْقِيطيُّ (ت:1393): «واعلمْ أنَّ سببَ مقاربةِ السماواتِ للتفطُّرِ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ، فيه للعلماءِ وجهانِ، كلاهما يدلُّ عليه قرآنٌ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المعنى: تكادُ السماواتُ يَتَفَطَّرْنَ خوفاً منَ اللهِ، وهيبةً وإجلالاً، ويَدُلُّ لهذا الوجهِ قولُه تعالى قَبْلَهُ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4]؛ لأنَّ عُلُوَّهُ وعَظَمَتَهُ سَبَّبَ للسماواتِ ذلكَ الخوفَ والهيبةَ والإجلالَ، حتى كادتْ تَتَفَطَّرُ ...
الوجهُ الثاني: أنَّ المعنى: تكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ منْ شِدَّةِ عِظَمِ الفِريةِ التي افتراها الكفَّارُ على خالقِ السَّماوات والأرضِ ـ جلَّ وعلا ـ: منْ كونِه اتَّخَذَ ولداً، سبحانه وتعالى عنْ ذلك عُلُواً كبيراً.
_________
(1) يظهرُ في هذا التفسير أثرُ الحربِ التي نشبت بين ابن الزبير والحجاج، الذي دخل مكة، وقتل ابن الزبيرِ، واللهُ أعلمُ.
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:151).
(1/596)
________________________________________
وهذا الوجهُ جاءَ موضَّحاً في سورة مريمَ في قولِه تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا *وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا *إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93] .... وكلا الوجهينِ حقٌّ» (1).
لقدْ حَكَمَ هذا الإمامُ على المعنيينِ بالصَّوابِ مع اختلافِهما البَيِّنِ؛ لأنَّه لا تعارضَ بينهما عندَ حَمْلِ الآيةِ عليهما، واللهُ أعلم.
ولقدْ كانتْ مسألةُ احتمالِ النَّصِّ ظاهرةً للسَّلفِ، حتى قالَ عليُّ بن أبي طالب (ت:40) لابن عباس (ت:68) لما أرسلَه إلى الخوارجِ لمجادلتِهم: «اذهب إليهم، ولا تخاصمْهم بالقرآنِ، فإنَّه ذو وجوهٍ» (2).
وقالَ أبو الدرداءِ (ت:32): «إنَّكَ لا تفقَهُ كُلَّ الفِقْهِ حتى تَرَى للقرآنِ وجوهاً» (3).
كما كانتْ هذه الأوجهُ التَّفسيريَّةُ التي يَحْتَمِلُهَا النَّصُّ بلا تضادٍّ مقبولةً عندَ السَّلفِ، ومنَ الأمثلةِ التي تَدُلُّ على ذلكَ:
1 - روى البخاريُّ (ت:256) والطبريُّ (ت:310)، وغيرهما، عن ابن عباس (ت:68)، من طريق سعيد بن جبير (ت:94): أنَّه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه.
_________
(1) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7:152 - 153).
(2) عزاه السيوطي إلى ابن سعد في الطبقات، ولم أجده فيه، ينظر: مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة، تحقيق: بدر البدر (ص:128).
(3) أخرجه معمر في جامعه، ينظر: مصنف عبد الرزاق، تحقيق: الأعظمي (11:255)، وابن أبي شيبة في الكتاب المصنف، تحقيق: كمال الحوت (6:142)، (7:110)، وأحمد في الزهد، ط: دار الكتاب العربي (ص:196)، وحلية الأولياء (1:211).
(1/597)
________________________________________
قالَ أبو بِشْرٍ (1): فقلتُ لسعيدِ بن جبيرٍ: فإنَّ ناساً يزعمونَ أنَّه نهرٌ في الجنَّةِ.
قالَ: فقال سعيد: النَّهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إيَّاه» (2).
في هذا النَّصِّ يظهرُ أنَّ سعيداً (ت:94) يُصحِّحُ قولَ منْ قالَ: الكوثرُ: نهرٌ في الجنَّةِ (3)؛ لأنَّه مما تحتملُه الآيةُ، ولا يُضَادُّ ما قال ابنُ عباسٍ (ت:68)؛ لأنَّ قولَه أعمُّ الأقوالِ، ويدخلُ فيه النَّهرُ وغيرُه من الخيرِ الذي أعطاهُ اللهُ لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم.
2 - قال محمد بن نصر المروزيُّ (ت:294) (4): «وسمعتُ إسحاقَ (5) يقولُ
_________
(1) أبو بشر: جعفر بن إياس، ابن أبي وحشية، ثقة، من أثبت الناس في سعيد بن جبير، توفي سنة (126) وقيل غيرها. ينظر: تهذيب الكمال (1:454 - 455).
(2) ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8:603)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (30:321).
وفي رواية عنه: «قال هلال: سألت سعيد بن جبير: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، قال أكثر الله له من الخير. قلت: نهر في الجنة. قال: نهر وغيره». (30:322).
(3) ثبت هذا التفسير عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، كما رواه الإمام مسلم من حديث أنس، قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا في المسجد، إذ أغفى إغفاءة، ثمَّ رفع رأسه مبتسماً، قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال أنزلت عليَّ آنفاً سورة، فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}. ثمَّ قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عزّ وجل عليه خير كثير».
صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (1:300، رقم الحديث: 400)، وقد رواه غيره.
(4) محمد بن نصر، أبو عبد الله المروزي، الإمام الفقيه، رحل في طلب العلم، واستوطن سمرقند، أخذ عن إسحاق بن راهويه وغيره، وأخذ عنه ابنه إسماعيل وغيره، توفي سنة (294). تاريخ بغداد (3:315 - 318)، سير أعلام النبلاء (14:33 - 40).
(5) هو إسحاق بن راهويه المروزي، الحافظ المحدث، له كتاب التفسير، توفي سنة (238). تاريخ بغداد (6:345 - 355)، معجم المفسرين (1:85 - 86).
(1/598)
________________________________________
في قولِهِ: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]: قدْ يمكنُ أنْ يكونَ تفسيرُ الآيةِ على أولي العِلْمِ (1)، وعلى أمراءِ السَّرَايَا (2)؛ لأنَّ الآيةَ الواحدةَ يفسِّرُها العلماءُ على أوجهٍ، وليس ذلك باختلافٍ.
وقد قالَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَة: ليسَ في تفسيرِ القرآنِ اختلافٌ إذا صَحَّ القولُ في ذلكَ (3). وقالَ: أيكونُ شَيءٌ أظهَر خِلافاً في الظَّاهرِ منَ الخُنَّسِ؟
قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: هي بقرُ الوحشِ (4).
وقالَ عليٌ: هي النُّجومُ (5).
قال سفيانُ: وكلاهما واحدٌ؛ لأنَّ النُّجومَ تَخْنُسُ بالنَّهارِ وتظهرُ باللَّيلِ والوَحْشِيَّةُ إذا رأتْ إنسيّاً خَنَسَتْ في الغيطانِ (6) وغيرِها، وإذا لم ترَ إنسيّاً ظهرتْ.
قالَ سفيانُ: فَكُلٌّ خُنَّسٌ.
قالَ إسحاقُ: وتصديقُ ذلك ما جاءَ عنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم في
_________
(1) قال به: ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وأبو العالية، ومجاهد، وبكر بن عبد الله المزني، والحسن، عطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن أبي نجيح، وعطاء بن السائب، والحسن بن محمد بن علي.
ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (8:499 - 501)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب (3:989).
(2) قال به: أبو هريرة، وابن عباس، وميمون بن مهران، والسدي، وابن زيد.
ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (8:497 - 499).
(3) أخرجه كذلك سعيد بن منصور عن سفيان، ينظر قسم التفسير من كتابه السنن، تحقيق: سعد الحميِّد (5:312).
(4) ينظر قوله في تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:75)، ورواه كذلك عن: أبي ميسرة، وجابر بن زيد، ومجاهد، وعبد الله بن وهب، وإبراهيم النخعي.
(5) ينظر قوله في تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:74)، ورواه كذلك عن: بكر بن عبد الله، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.
(6) الغيطان: المطمئن من الأرض. ينظر: القاموس المحيط، مادة (غوط).
(1/599)
________________________________________
الماعونِ (1)، يعني أنَّ بعضَهم قالَ: الزَّكاةُ، وقال بعضُهم: عاريةُ المتاعِ.
قالَ: وقالَ عكرمةُ: الماعونُ: أعلاهُ الزَّكاةُ، وعاريةُ المتاعِ منه (2).
قالَ إسحاقُ: وجَهِلَ قومٌ هذه المعاني، فإذا لم توافقِ الكلمةُ الكلمةَ قالوا: هذا اختلافٌ. وقدْ قالَ الحسنُ ـ وذُكِرَ عنده الاختلافُ في نحوِ ما وصفْنا، فقالَ ـ: إنما أُتِيَ القومُ من قِبَلِ العُجْمَةِ (3)» (4).
ولعلَّ في هذا المثالِ العزيزِ ما يدلُّ على ظهورِ هذه المسألةِ عندَ علماءِ السَّلَفِ، وأنهم كانوا يَعُونَهَا جيداً، حيثُ جعلوا هذه المحتملاتِ الواردةِ على النَّصِّ مقبولةً، ولم يَرُدُّوها. وقد تتابعَ على ذلكَ منْ جاءَ بعدَهم، وسأذكرُ أمثلةً منْ تطبيقاتِهم، تدلُّ على إعمالِهم لهذِه القاعدةِ:
1 - أوردَ يحيى بنُ سلام (ت:200) في تفسيرِ لفظِ «ناكبون» من قولِه تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 74] تفسيرَ قتادةَ (ت:117)، قال: «لجائرون».
وتفسيرَ الحسنِ (ت:110)، قال: «تاركون له».
وتفسير الكلبي (ت:146)، قال: «معرضون عنه».
ثمَّ قال يحيى (ت:200) وهو واحدٌ (5).
_________
(1) في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7].
(2) ينظر أقوال السلف في ذلك في تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:314 - 319).
(3) أخرج البخاري هذا القول عن الحسن البصري بأخصر من ذلك، قال: «أهلكتهم العجمة» ينظر: التاريخ الكبير (5:93).
(4) السنة، لمحمد بن نصر المروزي (ص:7 - 8).
(5) نقلاً عن كتاب: التفسير واتجاهاته بأفريقية من النشأة إلى القرن الثامن، للدكتورة وسيلة بلعيد بن حمده (ص:115).
وقد ذكر هذه الأقوال الماورديُّ في تفسيره، فقال: «... فيه أربعة تأويلاتٍ:
أحدها: لعادلون، قاله ابن عباس. والثاني: لحائدون، قاله قتادة. والثالث: لتاركون، قاله الحسن. والرابع: لمعرضون، قاله الكلبي. ومعانيها متقاربةٌ». النّكَتُ والعيون (4:63).
(1/600)
________________________________________
لقد حَكَمَ يحيى بن سلامٍ (ت:200) على هذه التَّفاسيرِ بأنها واحدٌ، وإنْ اختلفتْ عبارتُها، لأنَّ معناها الذي تؤدِّيه واحدٌ، وهو أنهم عادلونَ عنِ الصِّراطِ منحرفونَ عنه.
2 - قالَ الطبريُّ (ت:310): «وقولُه: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، يقولُ: ولكمُ الويلُ منْ وَصْفِكُمْ ربَّكُم بغيرِ صِفَتِهِ، وَقِيلِكُمْ: إنَّه اتَّخَذَ زَوجةً وولداً، وَفِرْيَتِكُمْ عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلكَ، قالَ أهلُ التَّأوِيلِ، إلاَّ أنَّ بعضهَم قالَ: معنى تَصِفُونَ: تَكْذِبُونَ. وقال آخرونَ: معنى ذلكَ: تُشركونَ، وذلكَ وإنْ اختلفتْ به الألفاظُ، فمتفقةٌ معانيه؛ لأنَّ منْ وصفَ الله بأنَّ له صاحبةً، فقدْ كذبَ في وَصْفِهِ إياه بذلكَ، وأشركَ به، وَوَصَفَهُ بغيرِ صفته، غيرَ أنَّ أولى العبارات أنْ يُعبَّر بها عنِ القرآنِ أقربُها إلى فَهْمِ سامعيها» (1).
3 - قال أبو عليٍّ القاليِّ (ت:356): «قرأتُ على أبي بكرٍ بنِ الأنباريِّ: في قولِ اللهِ عزّ وجل: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] أقوالٌ (2).
قال قومٌ: يُمَحِّصُهُمْ: يُجَرِّدُهُمْ منْ ذنوبِهم ...
وقالَ الخليلُ: معنى قولِ اللهَ جلَّ وعَزَّ: {وَلِيُمَحِّصَ}: ولِيُخَلِّصَ (3).
وقالَ أبو عَمْرٍو إسحاقُ بنُ مِرَارٍ الشيبانيُّ: وليمحص: وليكشفَ ... قال: ومعنى قولِهم: اللَّهُمَّ مَحِّصْ عنَّا ذنوبَنَا؛ أي: اكشفْهَا.
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (17:11).
(2) ينظر هذا النقل عن أبي بكر بن الأنباري، وهو في كتابه: الزاهر في معاني كلمات الناس (1:107 - 108).
(3) ليس في مادة (محص) من كتاب العين (3:127). وفيه: «المَحْصُ: خلوص الشيء، محصته محصاً: خلَّصتُه من كل عيبٍ ... والتمحيص: التطهر من الذنوبِ».
(1/601)
________________________________________
وقال آخرونَ: اطرحْهَا عنَّا.
قال أبو عليٍّ: هذه الأقوالُ كلُّها في المعنى واحدٌ، ألا تَرَى أنَّ التَّخْلِيصَ تَجْرِيدٌ، والتَّجْرِيدَ كَشْفٌ، والكَشْفَ طَرْحٌ لما عليه» (1).
ومن أقوالِ العلماءِ المتأخرينَ الصَّريحَةِ في هذه القاعدةِ:
1 - ما قاله الطُّوفِيُّ (ت:716) (2): «وأما ما ورد فيه التَّأويلِ المُخْتَلِفِ عنِ العلماءِ، فذلكَ الاختلافُ:
إمَّا أنْ يشتملَ على التَّناقضِ والتَّضادِّ، أو لا. فإن اشتملَ عليه ـ كالقُرْءِ التي صِيرَ في تأويلِها إلى الحيضِ مرةً، وإلى الإطهارِ أخرى ـ كان أحدُ النَّقِيضينِ أو الضّدينِ مُتَعَيِّناً للإرادةِ؛ لاستحالةِ الامتثالِ بالجمعِ بينهما، وحينئذٍ يجبُ التَّوصلُ إلى المرادِ المتعيِّنِ بطريقٍ قويٍّ راجحٍ من الطرقِ المتقدمِ ذِكْرُها، أو غيرِها إنْ أَمْكَنَ.
وإنْ لم يشتملْ على التَّناقضِ، بلْ كانَ مجرَّدَ اختلافٍ وتعدُّدَ أقوالٍ، فإنْ احتملَ اللَّفظُ جميعَها وأمكنَ أنْ تكونَ مُرادةً منه، وَجَبَ حملُه عليها جميعاً ما أمكنَ، سواءً كانَ احتمالُها متساوياً، أو كانَ بعضُها أرجحَ منْ بعضٍ، وإلاَّ فحملُه على بعضِها دونَ بعضٍ إلغاءٌ للَّفظِ بالنسبةِ إلى بعضِ محتملاتِه منْ غيرِ مُوجبٍ، وهو غيرُ جائزٍ، ولأنه لو جازَ أنْ يكونَ مُراداً، فإعمالُ اللَّفظِ بالنِّسبةِ إليه أَولَى منْ إهمالِهِ. نعمْ إنْ كانَ احتمالُه لها متفاوتاً في الرُّجحانِ، جازَ في مقامِ التَّرجيح تقديمُ الأرجحِ فالأرجحِ، بحسبِ دلالةِ اللَّفظِ عليه، أو جلالةِ قائِله، أو عَاضِدِه الخارجيِّ، وغيرِ ذلكَ منْ وجوهِ التَّرجِيحاتِ.
_________
(1) أمالي أبي علي القالي (2:274 - 275).
(2) سليمان بن عبد القوي الصرصري البغدادي الحنبلي، قرأ النحو واللغة والأدب والأصول والتفسير وغيرها، وألَّفَ فيها، ومن مؤلفاته: جدل القرآن، وتفسير سورة النبأ، وغيرها. توفي سنة (716). ينظر: الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب (2:367 - 369)، وشذرات الذهب (6:39 - 40).
(1/602)
________________________________________
ومثالُ ذلكَ؛ أعني: احتمالَ اللَّفظِ للوجوهِ المتعدِّدَةِ، قولُه تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، قيل: مساقطُ النُّجومِ في المغرب. وقيلَ: إنَّ منه نزولَ القرآنِ؛ لأنه نزلَ في ثلاث وعشرين سنةً، فاللَّفظُ يحتملُ القولينِ، فيجوزُ أنْ يكونَ القَسَمُ بهما مراداً للهِ عزّ وجل؛ لأنهما عَظِيمانِ، لا سيَّمَا على قولِ منْ يقولُ: يجوزُ إرادةُ حقيقةِ اللَّفظ ومجازِهِ جميعاً معاً ...» (1).
2 - وقالَ ابنُ تَيمِيَّةَ (ت:728): «ومنَ التَّنازُعِ الموجودِ عنهم (2): ما يكونُ اللَّفظُ فيه محتملاً للأمرينِ:
إمَّا لكونِهِ مُشْتَركاً في اللُّغةِ (3)؛ كلفظِ {قَسْوَرَةٍ} الذي يرادُ به الرامي، ويُرادُ به الأسدَ. ولفظِ {عَسْعَسَ} الذي يرادُ به إقبالُ اللَّيلِ وإدبارهُ.
وإمَّا لكونِه مُتَواطِئاً (4) في الأصلِ، لكنَّ المرادَ به أحدُ النَّوعينِ، أو أحدُ الشَّخْصينِ؛ كالضَّمائرِ في قولِه تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8، 9]، وكلفظِ {الْفَجْرِ}، {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}، و {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، وما أشبَهَ ذلكَ.
_________
(1) الإكسير في قواعد التفسير، للطوفي، تحقيق: د. عبد القادر حسين (ص:12 - 13).
ملاحظةٌ: قد تصرَّفَ محققُ هذا الكتابِ بعنوانه، فجعله: الإكسير في علم التفسير، وقد قال مؤلِّف الكتابِ (ص:1): «وسمَّيتُه: الإكسير في قواعد علم التفسير».
(2) يعني مفسري السلف.
(3) المشترك: ما وُضِعَ لمعنيين، أو أكثر؛ كالعين، للعين الباصرة، ولعين الماء، وللجاسوس، وغيرها. ينظر: التعريفات، للجرجاني (ص:229)، كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، تحقيق: لطفي بديع (4:155).
(4) أن يكون اللفظ موضوعاً لأمر عاماً بين الأفراد على السواء؛ كالإنسان يصدقُ على زيدٍ وعمرو بالتساوي، ولا فرق بينهما في هذه النسبة. ينظر: التعريفات، للجرجاني (ص:210)، وكشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، تحقيق: لطفي بديع (4:159).
(1/603)
________________________________________
فمثلُ هذا قد يجوزُ أنْ يرادَ به كلُّ المعاني التي قالها السَّلفُ، وقدْ لا يجوزُ ذلكَ.
فالأوَّلُ: إمَّا لكونِ الآيةِ نزلتْ مرتينِ، فأريدَ بها هذا تارةً، وهذا تارةً.
وإمَّا لكونِ اللَّفظِ المشتركِ يجوزُ أنْ يُرادَ به معنياه، إذْ قدْ جَوَّزَ ذلكَ أكثرُ فقهاءِ المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنبليَّةِ، وكثيرُ منْ أهلِ الكلامِ.
وإمَّا لكونِ اللَّفظِ متواطئاً، فيكونُ عَامّاً إذا لمْ يكنْ لتخصيصِهِ مُوجِبٌ. فهذا النَّوعُ إذا صَحَّ فيه القولانِ كانَ مِنَ الصِّنفِ الثاني (1)» (2).
3 - عندَ تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] قالَ الشَّنْقيطيُّ (ت:1393): «... فقوله رضي الله عنه إلاَّ فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابِ اللهِ، يدلُّ على أنَّ فَهْمَ كتابِ اللهِ تتجدَّدُ به العلومُ والمعارفُ التي لم تكنْ عند عامَّةِ الناسِ، ولا مانعَ من حمل الآيةِ على ما حملها المفسِّرونَ، وما ذكرْناه أيضاً أنَّه يُفْهَمُ منها، لِمَا تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ مِنْ أنْ الآيةَ إنْ كانتْ تحتملُ معانيَ كلُّها صحيحٌ، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا على الجميعِ، كما حَقَّقَه بأدلتِهِ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ أبو العباسِ بنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله في رسالتِهِ في علومِ القرآنِ (3)» (4).
4 - جعلَ الطَّاهِرُ بنُ عاشورَ (ت:1393) مقدمةً منْ مقدماتِ تفسيرِهِ خاصَّةً بهذه القاعدة، وعَنْوَنَ لها بقولِه: «المقدِّمَةُ التَّاسِعَةُ: في أنَّ المعاني التي تَتَحَمَّلُها جُمَلُ القرآنِ، تُعْتَبَرُ مُرَادَةً بها» (5)، وتحدث في هذه المقدمةِ بما يقربُ منْ عَشْرِ صفحاتٍ.
_________
(1) الصنف الثاني: أن يذكر من الاسم العامِّ بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحدِّ المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. ينظر: مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور (ص:43).
(2) مقدمة في أصول التفسير (ص:49 - 51).
(3) لعلَّه يريد الموضع الذي نقلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية، والله أعلم.
(4) أضواء البيان (3:124).
(5) التحرير والتنوير (1:93)، وقد تحدث عنها حتى (ص:100).
(1/604)
________________________________________
عودٌ إلى قاعدةِ: إذا ورد أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضادٍ، جاز تفسير الآية بها.
سأجعل الحديث في هذه القاعدةِ على قسمين:
الأول: المحتملاتِ اللُّغويَّةِ الواردة عن السَّلفِ.
الثَّاني: المحتملاتِ اللُّغويَّةِ الواردةِ عنِ غير السَّلفِ.

القسمُ الأول: المحتملات اللغوية الواردة عن السلف:
الحديثُ عنِ المحتملاتِ اللُّغويَّةِ الواردةِ عنِ السَّلفِ تابعٌ للقاعدةِ السَّابقةِ قبلَها، وذلكَ أنَّه إذا وردَ عنهم أكثرُ منْ مُحْتَمَلٍ لُغويٍّ في تفسيرِ آيةٍ، فإنَّ الأصلَ قبولُها لغةً، وكذا تفسيراً إنْ لَمْ يمنعْ مانعٌ من قبولِها كلِّها في التَّفسيرِ، كأنْ تكونَ مُتضادَّةً، أو لغيرِ ذلكَ منَ الأسبابِ التي ليسَ هذا مَحَلُّها.
ومنَ الأمثلةِ الواردةِ عنِ السَّلفِ: تفسيرُ قولِه تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 8]، فقدْ ورد عنهم في معنى «الإلِّ» ثلاثةُ أقوالٍ:
الأوَّلُ: اللهُ، وهو قولُ: سعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:94) (1)، ومجاهدٍ (ت:104) (2)، وأبي مِجْلَز (ت:106) (3)، وعكرمة (ت:105) (4).
الثَّاني: القَرَابَةُ، وهو قولُ: ابنِ عباسٍ (ت:68) منْ طُرُقٍ عنه (5)،
_________
(1) بحر العلوم، للسمرقندي (2:35). وفي تفسير ابن أبي حاتم (6:1758): «وروي عن سعيد بن جبير، قال: إلهاً».
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:146).
(3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:146)، ومعاني القرآن، للنحاس (3:187)، ومعالم التنْزيل، للبغوي (2:271).
(4) الدر المنثور (4:134). عن أبي الشيخ وابن المنذر.
(5) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:146، 147).
(1/605)
________________________________________
والضَّحَّاكِ (ت:105) (1)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (2).
الثَّالثُ: العَهْدُ، وهو قولُ مجاهدٍ (ت:104) (3)، وعبد الرحمن بنُ زيدٍ (ت:182) (4). وعنْ قتادةَ (ت:117): الحِلْفُ (5)، وهو بمعنى العَهْدِ والعَقْدِ.
وإنَّمَا كَرَّرَ لَمَّا اختلفَ اللَّفظانِ، قالَ ابنُ زيدٍ (ت:182): «لا يرقبونَ فيكم عهداً ولا ذِمَّةً. قال: إحداهما من صاحبتِها كهيئةِ غفورٍ رحيمٍ، قالَ: فالكلمةُ واحدةٌ، وهي تَفْتَرِقُ. قالَ: والعَهْدُ هو الذِّمَّةُ (6)» (7).
إنَّ هذه المحتملاتِ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا من جهةِ اللُّغةِ، لورودها عن السَّلفِ، كما سبق بيانُ ذلك، ومنْ ثَمَّ تكونُ هذه التفسيراتُ مِن مدلولاتِ لفظِ «الإلِّ» اللُّغويَّةِ.
وإذا نظرتَ إلى هذه المعاني المختلفةِ، لم تجدْ بينها تَضَادّاً، كما لا يوجدُ مانعٌ آخرُ يمنعُ مِن الحَمْلِ على هذه المعاني جميعاً، ومنْ ثَمَّ، فإنَّه يجوزُ حَمْلُ هذه المعاني جميعِها على الآيةِ.
وإن اعْتَرَضَ معترضٌ على المعنى الأوَّلِ بما قالَه الزَّجَّاجُ (ت:311): «وقيلَ الإلُّ: اسمٌ من أسماءِ اللَّهِ. وهذا عندنا ليسَ بالوجهِ؛ لأنَّ أسماءَ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ معروفةٌ معلومةٌ، كما سُمِعتْ في القرآنِ، وتُلِيتْ في الأخبارِ، قالَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، فالدَّاعي يقولُ:
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:147).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:147).
(3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:148).
(4) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:148).
(5) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:147).
(6) ينظر: تفسير ابن أبي حاتم (6:1758)، فقد أورد تفسير الذمة بالعهد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك، وينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:146 - 148).
(7) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:148).
(1/606)
________________________________________
يا اللهُ، يا رحمنُ، يا ربُّ، يا مؤمنُ، يا مهيمنُ، ولم يُسْمَعْ يا إِلُّ في الدعاءِ» (1).
فالجوابُ: إنَّ هذا الاعتراضَ ليسَ بصحيحٍ، لورودِ هذا المعنى عن السَّلفِ العالمينِ بتفسيرِ كتابِ اللهِ، وجَهْلُ الزَّجَّاجِ (ت:311) وغيرِهِ من اللُّغويِّينَ لهذا المعنى لا يعني صِحَّةَ إنكارِهم، ولا يمتنعُ أنْ يكونَ هذا اللَّفظُ بهذا المعنى مِمَّا اشتركتْ فيه اللُّغاتُ فكادَ أنْ يَنْدَرِسَ منْ لغةِ العربِ وبقيَ في اللُّغاتِ التي لها صِلَّةٌ بالعربيَّةِ؛ كالعبريَّةِ التي بقِيَ فيها هذا المدلولُ، وهو يطلقُ على اللهِ سبحانَه، فَحَفِظَ هؤلاء السَّلفُ هذا المعنى وعَلِمُوه، ومنْ حفِظَ حُجَّةٌ على مَنْ لمْ يَحْفَظْ.
ومِمَّا يُستأنسُ به في هذا أنَّ بعضَ الأسماءِ العربيَّةِ كانتْ تنتهي بإلٍّ أو إيلٍ، قالَ ابنُ دُرَيدٍ (ت:321): «قال ابنُ الكَلْبِيِّ (2): كُلُّ اسمٍ في العربِ آخرُهُ إلٌّ أو إيلٌ، فهو مضافٌ إلى اللهِ عزّ وجل؛ نَحْوُ: شُرَحْبيلَ، وعبدِ يَالِيلَ، وشَرَاحِيلَ، وشِهْمِيلَ، وما أشبَهَ هذا ... وقدْ كانتِ العربُ ربَّما تجيءُ بالإلِّ في معنى اسمِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ، قالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه ـ لما تُلِيَ عليه سَجْعُ مُسَيلِمَةَ ـ: إنَّ هذا شيءٌ ما جاءَ مِنْ إلٍّ ولا بِرٍّ، فأينَ ذهبَ بكم؟!» (3).
_________
(1) معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (2:433 - 434). وأنكره النحاس لِلْعِلَّةِ نفسِها، ينظر: معاني القرآن (3:187).
وقال الراغب الأصفهاني: «وإلٌّ، وإيل: اسم الله تعالى، وليس ذلك بصحيح».
مفردات ألفاظ القرآن (ص:81).
وقال السهيلي في الروض الأُنف: «وأمَّا الإلُّ في قوله تعالى: {إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} فحذارِ أن تقولَ اسمُ اللهِ تعالى، فتُسَمِّيَ اللهَ باسمٍ لم يُسَمِّ به نفسَهُ، ألا ترى أنَّ أسماءَ اللهِ معرفةً، وإلٌّ نكرةٌ، وإنما الإلُّ: كلُّ ما له حرمة وحقٌّ؛ كالقرابة والرَّحِمِ والجِوارِ والعَهْدِ». الروض الأنف، تحقيق: الوكيل (2:402).
(2) هو هشام ابن المفسر محمد بن السائب الكلبي، وستأتي ترجمته.
(3) جمهرة اللغة (1:59).
(1/607)
________________________________________
ولهذا جعلَ بعضُ العلماءِ الإِلَّ نظيرَ ما وردَ في بعضِ الأسماءِ الأعجميَّةِ؛ كجبريلَ، وميكائيلَ، قال أبو مِجْلَزٍ (ت:106) في تفسيرِه لمعنى الإلِّ: «مثل قولِه: جبرائيلَ، ميكائيلَ، إسرافيلَ ـ كأنه يقولُ: يضيفُ جَبْرَ، ومِيكَا، وإسْرَافَ، إلى إيل ـ يقول: عبد الله، {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ} [التوبة: 10]؛ كأنه يقول: لا يرقبونَ اللهَ» (1).
وفيما وردَ عنْ أبي بكرٍ في خبرِ مُسَيلمَةَ الكذَّابِ، قولُه: «ما خرجَ هذا منْ إلٍّ» (2)، قال أبو عُبَيدٍ (ت:224): «قوله: من إلٍّ؛ يعني: من ربٍّ. ويُروى عن الشَّعْبِيِّ أنَّه قالَ في قولِه تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10]، قالَ: اللهُ، أو قالَ رَبّاً. ومِمَّا يُبَيِّنُ هذا، قولُه: جَبْرَئلَّ، ومِيكَائلَّ، إنَّمَا أُضِيفَ جَبْرَ ومِيكَا إلى إلَّ» (3).
وأقلُّ ما يقالَ إنَّ هذا الاسمَ؛ أعني: الإلَّ، مِمَّا عُرِّبَ، فصارَ كغيرِه مِنَ الأعلامِ المعرَّبَةِ، قالَ الأزهريُّ (ت:370): «وقالَ (4): وإيلُ: اسمٌ مِنْ أسماءِ اللهِ بالعِبْرَانِيَّةِ (5).
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:146).
(2) ذكر هذا الأثر: أبو عبيد في غريب الحديث (4:127)، وعنه أبو عبيد الهروي في الغريبين (1:72)، كما ذكره ابن دريد في الجمهرة (1:59)، وأبو علي القالي في أماليه (1:41)، وأسنده الطبري في تاريخه إلى ابن إسحاق (2:150).
(3) غريب الحديث (4:218)، وينظر مثله قول أبي علي القالي في أماليه (1:41).
(4) يظهرُ أنَّ النقلَ هنا عن أبي عبيد؛ لأنه نقل عنه قبل هذا الموضع كثيراً من الفقرات، وكان يعطفها على قوله: «قال أبو عبيد». ينظر: السطر (6) من (ص:435).
(5) هاهنا موضوع طويل يتعلق بأصل اللغات، وسأذكره مجتزءاً، فأقول: إنَّ العبرانيين لم يكن لهم لغة مميزة، بل كانت لغة خليطةً من عدَّة لغات، كما يظهر من تاريخهم، فهم أبناء إبراهيم الذي خرج من أرض العراق إلى بادية الشام، وفيها عاش أبناؤه وأحفاده إلى وقت خروجهم إلى مصر في عهد يوسف كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100]. وكانت فلسطين وبادية الشام وجنوبها من الصحراء للعربِ، كما كانت مصر كذلك لهم في هذا الوقت، ولا شكَّ أنهم سيتأثرون بلغة جدهم الأصلية، وباللغات المجاورة لهم وهي العربية الشامية، ثم العربية المصرية، فتكونت لهم لغة خاصةٌ، إن قيل بعزلتهم عن غيرهم. =
(1/608)
________________________________________
قلتُ: وجائزٌ أنْ يكونَ أُعْرِبَ فقيلَ: إسرائيلُ، وإسماعيلُ؛ كقولِك: عبدُ اللهِ، وعُبَيدُ اللهِ» (1).
والمقصودُ أنَّ ما ذكرَهُ السَّلفُ منْ تفسيرِ الإلِّ بهذه المعاني، فإنَّه يقبلُ عنهم ولا يُردُّ، وكان هذا مِمَّا يتميَّزُ به الطَّبريُّ (ت:310)، حيث قال: «وأولى الأقوالِ في ذلكَ بالصَّوابِ أنْ يقالَ: إنَّ اللهَ ـ تعالى ذِكْرُه ـ أخبرَ عنْ هؤلاءِ المشركينَ الَّذينَ أمرَ نبيَّه والمؤمنينَ بقتلِهم بعدَ انسلاخِ الأشهرِ الحُرُمِ، وحَصْرِهم، والقعودِ لهم على كلِّ مرصدٍ: أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم إلًّا.
والإلُّ: اسم يشتملُ على معانٍ ثلاثةٍ، وهي: العَهْدُ والعَقْدُ والحِلْفُ، والقَرَابَةُ، وهو أيضاً بمعنى: الله. فإذا كانتِ الكلمةُ تشملُ هذه المعاني الثلاثةَ، ولم يكنِ اللهُ خَصَّ من ذلك معنًى دونَ معنًى، فالصَّوابُ أنْ يُعَمَّ ذلكَ كما عَمَّ بها ـ جلَّ ثناؤه ـ معانيَها الثلاثَة، فيقالُ: لا يرقبونَ في مؤمنٍ اللهَ ولا قرابةً ولا عهداً ولا ميثاقاً ...» (2).
وهذا الذي عَمِلَ به الطَّبريُّ (ت:310) هو الأصلُ في التَّعامُلِ مع ما يَرِدُ عنِ السَّلفِ من التفسيراتِ اللُّغويَّةِ المحتملةِ في الآيةِ، واللهُ أعلمُ.
هذا، ويجوزُ في مثلِ هذه المحتملاتِ في بعضِ الأمثلةِ تقديمُ بعضِها على بعضٍ لأسبابٍ تدعو إلى ذلك؛ كأنْ يكونَ السِّياقُ أليقَ بأحدِ هذه
_________
=
والمقصود أنَّ اللغات كانت تتقارضُ من بعضها، ولا يبعد أن يكون الإلُّ مما كان في لغات العرب القديمة التي اندثرت، فلم يبق منها إلاَّ بعض الألفاظِ التي كثرت في العبرية، وقلَّت في العربية التي تطورت حتى اكتملت في عصر التنْزيل، وصارت محفوظةً بقوانينها وأحكامها الخاصَّةِ بها، والظَّنُّ أنه لو لم ينْزل القرآن لبقيت في التطوُّر والزيادة والنقص، كما هو الحالُ في اللغات، إذ تسمية الأشياء المحدثة، والتعبير عنها يكون وليدَ حدوثها، واللهُ أعلمُ.
(1) تهذيب اللغة (15:436).
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (14:148).
(1/609)
________________________________________
المحتملاتِ، أو أنْ يكونَ بعضُها أغلبَ وأشهرَ في مدلولِ اللَّفظِ، أو غيرُ ذلك.
وليسَ في هذا خروجٌ عنِ الأصلِ؛ لأنَّ العملَ هنا على تقديمِ الأولى في معنى الآيةِ، وليسَ على إبطالِ غيرِه، ولو أعْمَلَ أحدٌ جميعَ هذه المعاني المحتملةِ، لكانَ مذهباً معروفاً ولا مَلاَمَةَ في ذلك. والله أعلم.
مثالُ ذلك، ما ورد في قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا} [النبأ: 24]، أي: لا يذوقونَ في النَّارِ ـ والعياذُ باللهِ منها ـ ما يُبَرِّدُ عليهم حرارتَها (1)، سواءً أكانَ ذلك التَّبريدُ بسببِ الماءِ أو الهواءِ الباردِ، وهذا هو المعنى المشهورُ في اللُّغةِ للبردِ.
وقد وردَ قولٌ آخرُ في معنى البردِ، وهو النَّومُ، رواه ابن أبي حاتم (ت:327) عن مُرَّةَ الطَّيِّبِ (ت:76) (2)، ونقلَهُ عنْ مجاهدٍ (ت:104) أيضاً (3)، وهو قولُ أبي عبيدة (ت:210) (4)، وتبعَهُ ابن قتيبة (ت:276) (5)، وقالَ به غيرُهم (6).
وإذا تأمَّلتَ هذين المعنيينِ وجدتَهما متناسبينِ مع السياقِ:
_________
(1) قال الماورديُّ في تفسيره (6:187): «أنه برد الماء وبرد الهواء، وهو قول كثير من المفسرين».
(2) مُرَّةُ بنُ شَرَاحِيلَ الهمْدانيُّ، أبو إسماعيل الكوفي، روى عن: أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وغيرهم، وعنه: السُّدِّيُّ والشَّعبيُّ وغيرهما، ثقةٌ عابدٌ، لُقِّبَ بالطَّيِّبِ لكثرةِ عبادته، توفِي سنة (76). ينظر: تهذيب الكمال (7:69 - 70)، وتقريب التهذيب (ص:930).
(3) ينظر: تفسير ابن كثير، تحقيق: السلامة (8:307).
(4) مجاز القرآن (2:282).
(5) تفسير غريب القرآن (509).
(6) نسبَه الماورديُّ في تفسيره (6:187) إلى السُّدِّيِّ، ونسبه ابن كثير في تفسيره (8:307) إلى الكسائيِّ، ونسبه أبو المظفر السَّمعاني في تفسيره (6:139) إلى ثعلب.
(1/610)
________________________________________
فعلى المعنى الأولِ: لا يذوقون في النَّارِ بردَ الهواءِ أو الماء الذي يُخفِّفُ حرَّ النَّارِ عنهم، ولا شراباً.
وعلى المعنى الثاني: لا يذوقون في النَّارِ نوماً ولا شراباً.
وكلا المعنيينِ صحيحٌ محتملٌ، غيرَ أنَّ المعنى الأولَ هو الأشهرُ الأظهرُ منْ معاني اللَّفظِ في لغةِ العربِ، قالَ الطَّبريُّ (ت:310): «وزعمَ بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ أنَّ البردَ في هذا الموضعِ النومُ (1) .... والنومُ وإنْ كانَ يُبَرِّدُ غليلَ العطشِ، فقيلَ له منْ أجلِ ذلكَ البردُ، فليسَ هو باسمِهِ المعروفِ، وتأويلُ كتابِ اللهِ على الأغلبِ من معروفِ كلامِ العربِ، دونَ غيرِه» (2).
وترجيحُ هذا المعنى لا يعني إبطالَ المعنى الآخرِ من جهة اللُّغةِ، كما أنَّه لو حملَها غيرُهُ على المعنيينِ، وجعلَ الآيةَ تدلُّ عليهما؛ على عادة بعضِ الألفاظِ القرآنيَّةِ في احتمالِه تعدُّدَ المعاني = لجازَ، واللهُ أعلمُ.

القسم الثاني: المحتملات اللغوية الواردة عن غير السلف:
لقدْ تشكَّلَ تفسيرُ السَّلفِ للقرآنِ، وصارَ أحدَ مصادرِ التَّفسيرِ لمنْ جاءَ بعدَهم، ولذا كانَ لزاماً لمنْ أرادَ التَّفسيرَ أنْ يرجعَ إلى أقوالِهم ويعتمدَها في فَهْمِ الآيةِ، وإلاَّ وقعَ في الخطأِ في التَّفسيرِ بسببِ عدمِ معرفةِ أقوالِهم، أو عدمِ الاعتمادِ عليها.
ولقدْ كانَ عدمُ معرفةِ أقوالِ السَّلفِ، أو عدمُ الاعتمادِ عليها منْ منهجِ أهلِ البدعِ الذي يتميَّزُونَ به؛ لذا يَنْدُرُ أنْ تجدَ لهؤلاءِ اعتماداً على تفسيرِ السَّلفِ، كما لم يسلمْ منه طائفةٌ منَ اللُّغويِّينَ في بعضِ المواطنِ التَّفسيريَّةِ.
_________
(1) يقصد أبا عبيدة، وقد سبق بيان موضعه من مجاز القرآن.
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:12 - 13). وقد تبِعه النَّحاسُ على ذلك الترجيحِ، على عادتِه في اتباعِ الطبري في اختياراته وترجيحاتِه، ينظر: إعراب القرآن (5:132)، والقطع والائتناف (ص:758)، وينظر: التحرير والتنوير، للطاهر (30:37)، فقد رجَّحَ للعلةِ نفسها التي رجَّحَ الطَّبريُّ بها، واللهُ أعلمُ.
(1/611)
________________________________________
وقد كان من نتائجِ هذا المنهجِ أن وُجِدَتْ عندهم أقوالٌ شَاذَّةٌ في التَّفسيرِ، أو اعتراضاتٌ على تفسيرِ السَّلفِ، اعتماداً على تَوَسُّعِ لغةِ العربِ.
وإذا نظرتَ إلى هذه القاعدةِ، فإنَّكَ سَتَجِدُ أنَّ قبولَ هذه المحتملاتِ عن غيرِ السَّلفِ ممكنٌ؛ لأنَّ فهمَ القرآنِ لا يقتصرُ على جيلٍ دونَ آخرٍ، لذا لم يقتصرِ التَّابعونَ على ما بلغَهم فيه عن الصَّحابةِ، ولا اقتصرَ تابعو التَّابعينَ على ما وَرَدَهُمْ عنِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ (1).
غيرَ أنَّ الأمرَ هاهنا يحتاجُ إلى ضوابطَ لقبولِ هذه المحتملاتِ، وقدْ اجتهدتُ في استنباطِها، فظهرَ لي منها (2):
1 - أنْ لا تُناقضَ [أي: تبطل] ما جاءَ عنِ السَّلفِ.
2 - أنْ يكونَ المعنى المُفَسَّرُ به صَحِيحاً.
_________
(1) ينظر في هذا المعنى: أضواء البيان (3:124).
(2) استفدت هذه الضوابط مما ذكره ابن القيم (ت:751)، والشاطبي (ت:790) في الضوابط التي يُقبلُ بها التفسير الإشاري:
قال ابن القيم: «... وتفسير على الإشارة والقياس، وهذا الذي ينحو إليه كثير من الصوفية، وهذا لا بأس به بأربعة شرائط: ألاَّ يناقض معنى الآيةِ، وأن يكون معنى صحيحاً في نفسه، وأن يكون في اللفظ إشعارٌ به، وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطاً حسناً». التبيان في أقسام القرآن، تحقيق: طه شاهين (ص:51).
وقال الشاطبي: «وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضاً مما تقدَّم في المسألة قبلها، ولكن يُشترط فيه شرطان: أحدهما: أن يصحَّ على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، ويجري على المقاصد العربية. والثاني: أن يكون له شاهدٌ نصًّا أو ظاهراً في محلٍّ آخر يشهد لصحَّتِه من غير معارضٍ». الموافقات، تحقيق: محيي الدين (3:264).
وقد ذكر في كلامٍ لاحقٍ ما يصلح أن يُضافَ إلى ضوابطِ قبول التفسير الإشاري، وهو قوله: «... ولكن له وجه جارٍ على الصِّحَّةِ، وذلك أنَّه لم يقل إنَّ هذا هو تفسير الآيةِ ...». الموافقات (2:268).
(1/612)
________________________________________
3 - أنْ تحتملَ الآيةُ المعنى في السياقِ.
4 - أنْ لا يُقصَرَ معنى الآيةِ على هذا المحتملِ دون غيره.
فإذا انتقضَ شيءٌ من هذه الضوابطِ حُكِمَ على التَّفسيرِ بالرَّدِّ وعدمِ القبولُ، وسأذكرُ في كُلِّ ضابطٍ مثالاً يوضِّح انتقاضَه، وبالله التوفيق.
الضابط الأول: أن لا تناقض [أي: تبطل] ما جاء عن السلف:
إذا وردَ قولٌ عنِ السَّلفِ في معنى آيةٍ، فإنه لا يجوزُ القولُ بضدِّه، ولا الاعتراضُ على ما جاءَ عنهم، بلْ يكونُ القولُ المناقضُ لقولِهم قولاً مُطَّرَحاً لا عبرةَ به.
وقدْ يقعُ ذلكَ بسببِ الجهلِ بقولِهم، أو بسببِ عدمِ الاعتدادِ بهم وبما وردَ عنهم منْ تفسيرٍ، وهذا شأنُ أهلِ البدعِ.
ومنَ الأمثلةِ في ذلكَ، قولُه تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]، فقدْ وردَ عنِ السَّلفِ أنَّ البكاءَ منَ الأرضِ والسَّماءِ بكاءٌ حَقِيقِيٌّ، ومنْ ذلكَ ما رواهُ سعيدُ بنُ جبيرٍ (ت:94)، قالَ: «أتى ابنَ عباسٍ رجلٌ، فقال: يا أبا عباسٍ، أرأيتَ قولَ اللهِ تباركَ وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]، فهل تبكي السَّماءُ والأرضُ على أحدٍ؟.
قالَ: نعم. إنَّه ليسَ أحدٌ منَ الخلائقِ إلاَّ له بابٌ في السماءِ منه ينْزلُ رزقُهُ، وفيه يصعدُ عملُهُ، فإذا ماتَ المؤمنُ، فأغلِقَ بابُه منَ السَّماءِ الذي كان يصعدُ فيه عملُه، وينْزلُ منه رزقُهُ، بكى عليه.
وإذا فَقَدَهُ مُصَلاَّهُ من الأرضِ التي كانَ يُصلِّي فيها، ويذكرُ اللهَ فيها، بَكَتْ عليه. وإنَّ قومَ فرعونَ لم يكنْ لهم في الأرضِ آثارٌ صالحةٌ، ولم يكنْ يصعدُ إلى السَّماءِ منهم خيرٌ، قالَ: فلم تَبْكِ عليهم السَّماءُ والأرضُ» (1).
_________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (25:124 - 125). وفيه عن ابن عباس من رواية عطية =
(1/613)
________________________________________
وقدْ وردَ هذا التَّفسيرُ عنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (ت:40) (1)، وسعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:94) (2)، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ (ت:96) (3)، ومجاهدَ (ت:104) (4)، والضَّحَّاكِ بن مزاحم (ت:105) (5)، وقتادةَ (ت:117) (6)، وعطاءَ الخُرَسَانِيِّ (ت:135) (7).
ورُوِيَ في ذلكَ حديثٌ ضعيفٌ عنْ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «ما منْ مؤمنٍ إلاَّ وله بابانِ: بابٌ يصعدُ منه عملُه، وبابٌ ينْزلُ منه رزقُهُ، فإذا ماتَ بَكَيَا عليه، فذلك قولُه عزّ وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]» (8).
ومن ثَمَّ، فالبكاءُ منَ السماءِ والأرضِ حقيقةٌ، وإنْ لم يَعْلَمِ البشرُ كيفيَّةَ
_________
= العوفي ومجاهد. وينظر في تفسير ابن كثير (7:254)، وفي معاني القرآن، للفراء، عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح (3:41)، وحالُ هذه الروايةِ معلومٌ.
(1) معاني القرآن للنحاس (6:404)، وتفسير ابن كثير (7:254).
(2) معاني القرآن، للفراء (2:41)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (25:125).
(3) تفسير ابن كثير (7:254).
(4) تفسير ابن كثير (7:254)، والذي ورد في الطبري عنه أنه حكى التفسير، ومنها قوله: «كان يقال: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً». تفسير الطبري، ط: الحلبي (25:125).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (25:126).
(6) تفسير عبد الرزاق (2:170)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (25:126).
(7) حلية الأولياء (5:197).
وعطاء الخرساني: عطاء بن أبي مسلم، المحدث، الواعظ، المفسّر، مزيل دمش، روى عن عروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح وغيرهما، وعنه: ابن جريج ومعمر بن راشد وغيرهما، صدوق يهم كثيراً ويرسل ويدلس، توفي سنة (135). ينظر: تهذيب الكمال (5:175 - 178)، وتقريب التهذيب (ص:679).
(8) رواه الترمذي في سننه برقم (3255)، وقال: «هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلاَّ من هذا الوجه، وموسى بن عبيدة، ويزيد بن أبان الرُّقاشي يضعَّفان في الحديث».
وقد رواه أبو يعلى، وابن أبي حاتم، ينظر: تفسير ابن كثير (7:253).
كما رواه مرسلاً شريح الحضرمي، ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (25:125).
(1/614)
________________________________________
ذلك (1)، ولا يَصِحُّ إنكارُهُ لعدمِ رؤيةِ ذلكَ منهما؛ لأنَّ عَدَمَ المعرفةِ بِكُنْهِ ذلك لا يلزمُ منه عَدَمُ الوقوعِ، وهو من غيبِ اللهِ المستورِ، واللهُ أعلمُ.
وقد وردتْ أقوالٌ فيها مُنَاقَضَةٌ لما وردَ عنِ السَّلفِ؛ لأنَّ فيها صَرْفاً للَّفظِ عن ظاهرِهِ، ومنها:
1 - ذهبَ به قومٌ مذاهبَ العربِ في قولِهم: بَكَتْهُ الرِّيحُ والبَرْقُ؛ كأنَّه يريدُ أنَّ اللهَ عزّ وجل حينَ أهلكَ فرعونَ وقومَهُ وغرَّقَهم وأورثَ منازلَهم وجنَّاتِهم غيرَهم، لم يَبْكِ عليهم بَاكٍ، ولم يجزعْ جازعٌ، ولم يُوجَدْ لهم فَقَدٌ (2).
2 - وقالَ آخرونَ: أرادَ: فما بكى عليهم أهلُ السَّماءِ ولا أهلُ الأرضِ، فأقامَ السَّماءَ والأرضَ مقامَ أهلِها (3).
وهناكَ تأويلاتٌ أخرى تَخْرُجُ باللَّفظِ عن حقيقِته (4)، اكتفيت بما ذَكَرْتُهُ هنا.
هذا ما قالوه في تفسيرِ الآيةِ، فسلَّطوا عليها تأويلاتِهم المنحرفة، كما سلَّطوه على مذهب السَّلفِ فلم يسلمْ من تحريفاتهم، فقد جعلوا تفسيرَهم ليسَ منْ بابِ الحقيقةِ.
_________
(1) ذكر بعض السلف صورة بكاء السماء، وأنه بحمرتها التي تصير بها، ينظر مثلاً: تفسير ابن كثير (7:254 - 255)، والله أعلم هل هو ذاك البكاء المراد أم لا؟.
(2) ينظر: تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة (ص:169 - 170)، ومعاني القرآن، للنحاس (6:405)، وبحر العلوم، للسمرقندي (3:218)، وأمالي الشريف المرتضى (1:50 - 53)، والكشاف (3:504)، والمحرر الوجيز (13:277 - 279).
(3) ينظر: تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة (ص:170)، ومعاني القرآن، للنحاس (6:405)، وبحر العلوم، للسمرقندي (3:218)، وتلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي (ص:255)، وأمالي الشريف المرتضى (1:50 - 53)، والكشاف (3:504).
(4) ينظر: تلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي (ص: 355)، وأمالي الشريف المرتضى (1: 53 - 55)، ومجمع البيان، للطبرسي (25: 112)، ويظهر أنه نقله عن الشريف المرتضى.
(1/615)
________________________________________
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزليُّ (ت:538): «وكذلكَ ما يُرْوَى عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما ـ منْ بكاءِ مُصَلَّى المؤمنِ وآثارِهِ في الأرضِ، ومصاعدِ عملِه ومهابطِ رزقِهِ في السَّمَاءِ ـ تمثيلٌ» (1).
وإذا كانَ هؤلاءِ لم يَحْتَشِمُوا في ظواهرِ القرآنِ، فَسَلَّطوا عليها التَّأويلَ المزعومَ فيه الرجوعُ إلى الحُجَجِ العقليَّةِ التي هي الدَّليلُ عندَهُم، وعليها تُعْرَضُ ظَوَاهِرُ القرآنِ (2)، وهذا المذهبُ بمسمَّى التَّحريفِ أَوْلَى، فإذا كانَ هذا مذهبُهم في ظواهرِ القرآنِ = فمنْ بابٍ أَوْلَى أنْ لا يَحْتَشِمُوا في ألفاظِ منْ سواهُ.
والمقصودُ أنَّ هذه التَّفاسيرَ المبتدَعَةَ تُنَاقضُ ما جاءَ عنِ السَّلفِ؛ لأنَّ قولَ السَّلفِ يجعلُ البكاءَ منَ السَّماءِ والأرضِ حقيقةً، كما هو ظاهرُ التَّنْزيل. وهذه الأقوالُ بأجمعِها لا تجعلُ لهما بُكَاءً.
ومنْ ثَمَّ، فإنَّ ما ذهبوا إليه ـ من إنكارِ كَونِ السَّماءِ والأرضِ تبكيانِ ـ قولٌ مردودٌ، ولا يؤخذُ به؛ لعدمِ إمكانيَّةِ اجتماعه مع ما قالَه السَّلفُ في معنى الآيةِ، إذ هو مناقضٌ لقولِهم، واللهُ أعلمُ.
_________
(1) الكشاف (3: 504). وينظر تخريج الشريف المرتضى لقول ابن عباس، في أماليه (1:53)، فقد حمله على المجازِ.
(2) يقول الشريف المرتضى في أماليه (2:350): «اعلمْ أنَّ المُعَوَّلَ فيما يُعتَقَدُ على ما تدلُّ الأدلةُ عليه منْ نَفْيٍ أو إثباتٍ.
فإذا دَلَّتِ الأدلةُ على أمرٍ منَ الأمورِ، وجبَ أنْ نَبْنِيَ كَلَّ واردٍ منَ الأخبارِ ـ إذا كانَ ظاهرُه بخلافِه ـ عليه، ونسوقُه إليه، ونطابقُ بَينَهُ وبَينَهُ، ونُجَلِّي ظاهراً إن كانَ له، ونَشْرِطَ إنْ كانَ مطلقاً، ونخُصَّه إنْ كانَ عامًّا، ونفصِّلَه إنْ كانَ مجملاً، ونوفِّقَ بينه وبينَ الأدلةِ منْ كلِّ طريقٍ اقتضى الموافقةَ وآلَ إلى المطابقةِ.
وإذا كنَّا نفعلُ ذلك ولا نَحْتَشِمُهُ في ظواهرِ القرآنِ المقطوعِ على صحتِه، المعلومِ ورودُه، فكيفَ نتوقَّفُ عن ذلكَ في أخبارِ آحادٍ لا توجبُ عِلْماً، ولا تُثْمِرُ يقيناً؟! فمتى وردتْ عليك أخبارٌ فاعرضْها على هذه الجملةِ وابْنِهَا عليها، وافعلْ فيما حَكَمَتْ به الأدلةُ، وأوجبْتُه الحججُ العقليَّةُ، وإن تعذَّرَ فيها بناءٌ وتأويلٌ وتخريجٌ وتنْزيلٌ، فليسَ غيرُ الاطِّراحِ لها، وترك التعريجِ عليها».
(1/616)
________________________________________
الضابط الثاني: أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحاً:
المرادُ بذلك أن يكونَ اللَّفظُ المفسِّرُ لألفاظِ القرآنِ وارداً عن العربِ، وهذا الضَّابطُ يفيدُ في رَدِّ التَّفاسيرِ التي يظهرُ عليها الصِّبغةُ اللُّغويَّةُ، وعندَ التَّحقيقِ يظهرُ أنَها لا تَمُتُّ للُغةِ العربِ بِصِلَةٍ، وغالباً ما تظهرُ هذه المعاني عندَ المبتدعةِ، وهي قسمانِ:
القسمُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ المعنى اللُّغويُّ مُسْتَحْدَثاً، وقدْ مَرَّ في الفصلِ السَّابقِ ذكرُ مثالٍ له، وهو تفسيرُ الاستواءِ عندَ جمهورِ المبتدعةِ من أهلِ التَّأويلِ (1)، وسأكتفي بما قد سبقَ ذِكْرهُ مما يتعلَّقُ بهذا القسمِ.
القسمُ الثاني: أنْ يكونَ المعنى المُفَسَّرُ به مُصْطَلَحاً حَادِثاً، ومنْ ثَمَّ، فإنه لا يَمُتُّ لِلُغَةِ العربِ بِصِلةٍ، وتفسيرُ النُّصوصِ بالاصطلاحِ الحادثِ منْ أخطرِ التَّأويلِ وأشنعِهِ؛ لأنه يُبعدُ القرآنَ عنْ مدلولِه العربيِّ إلى مدلولاتٍ ما أَنزَلَ اللَّهُ بها منْ سلطانٍ، يقول ابنُ القيِّمِ (ت:751) ـ في معرضِ ذِكْرِهِ لأنواعِ التَّأويلِ الباطلِ ـ: «الرابع: ما لم يُؤلَفِ استعمالُهُ في ذلك المعنى في لغةِ المُخَاطَبِ، وإنْ أُلِفَ في الاصطلاحِ الحادثِ، وهذا موضعٌ زَلَّتْ فيه أقدامُ كثيرٍ منَ النَّاسِ، وضَلَّتْ فيه أفهامُهم، حيثُ تأوَّلوا كثيراً منْ ألفاظِ النُّصوصِ بما لم يُؤْلَف استعمالُ اللَّفظِ له في لغةِ العربِ البَتَّة، وإنْ كانَ معهوداً في اصطلاحِ المتأخرينَ، وهذا مما ينبغي التَّنَبُهُ له، فإنه حصلَ بسببِهِ منَ الكذبِ على اللهِ ورسولِهِ ما حصلَ؛ كما تَأَوَّلَتْ طائفةٌ قولَه تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] بالحركةِ، وقالوا: استَدلَّ بحركتِه على بطلانِ ربوبيَّتِهِ. ولا يُعْرَفُ في اللُّغةِ التي نزلَ بها القرآنُ أنَّ الأفولَ هو الحركةُ البَتَّةَ في موضعٍ واحدٍ.
وكذلكَ تأويلُ «الأحد» بأنَّه الذي لا يتميَّزُ منه شيءٌ عنْ شيءٍ البَتَّةَ. ثمَّ قالوا: لو كانَ فوقَ العرشِ لم يكنْ أَحَداً. فإنَّ تأويلَ الأحدِ بهذا المعنى لا
_________
(1) ينظر (ص:537 - 540) من هذا البحث.
(1/617)
________________________________________
يعرفُهُ أحدٌ منَ العربِ ولا أهلِ اللُّغةِ، ولا يُعرفُ استعمالُه في لغةِ القومِ في هذا المعنى في موضعٍ واحدٍ أصلاً، وإنَّما هو اصطلاحُ الجَهْمِيَّةِ، والفَلاَسِفَةِ، والمُعْتَزِلَةِ، ومن وافقَهم ...» (1).
ومنْ ثَمَّ، فكلُّ تفسيرٍ ليسَ له أصلٌ في لغةِ العربِ فهو مردودٌ، وهذا الضابطُ يَرُدُّ كثيراً من التفاسيرِ المبنيَّةِ على المصطلحاتِ الحادثةِ، أيًّا كانتْ، وممنْ كانتْ؛ كتفاسيرِ الرافضةِ، وتفاسيرِ الصوفيَّةِ، وتفاسيرِ الباطِنَّيةِ (2)، وتفاسيرِ الفلاسفةِ، والتفاسيرِ المبنيَّة على العلمِ التجريبيِّ العصريِّ، أو ما يُسمَّى ـ مغالطةً ـ بالتَّفسيرِ العصريِّ، وغيرها.
وقدْ يكونُ شيءٌ من هذه المصطلحاتِ منْ مصطلحاتِ الأممِ غيرِ الإسلاميَّةِ، فيجتهِدُ الَّذي يتناولُ تفسيرَ الآياتِ في التوفيقِ بينَ ما جاءَ في القرآن، وما جاءَ عند هؤلاءِ الأقوامِ، وكثيراً ما يقعُ هذا عند الفلاسفةِ الَّذين عاشوا في ظلِّ الإسلامِ (3).
_________
(1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، تحقيق: د. علي الدخيل الله (1:189 - 191). وينظر: تفسير المنار (1:19 - 20)، ففيه كلام عن هذا الموضوع.
(2) مضى ذكرُ مثالٍ في المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول.
(3) من الفلاسفة الَّذين كتبوا في التوفيق بين الشريعة والفلسفة: ابن سينا والفارابي وإخوان الصَّفا، وابن رشد، في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال).
كما وقع للغزالي مثل ذلك في بعض كتبه؛ ككتاب جواهر القرآن، ومشكاة الأنوار.
وقد كان لهؤلاء محاولات في التوفيق بين الشريعة والفلسفة، فحملوا ألفاظها على ما جاء في فلسفاتِ اليونانِ، فحرَّفوا بذلك الدينَ، وجعلوا ما يصدرُ من أولئك من الكفرِ البواحِ موافقاً لما جاءَ في الشريعة الإسلامية، وقد ناقشهم بعضُ الأعلامِ؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، في مواطن كثيرة من كتبه؛ ككتاب: درء تعارض العقلِ والنقل، وكتاب بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد، وغيرها. واللهُ المستعانُ.
(1/618)
________________________________________
وعمومُ هؤلاءِ الذينَ يفسرونَ بالمصطلحاتِ الحادثةِ:
إمَّا أن يكون قولُهم عنْ جهلٍ.
وإمَّا أنْ يكونَ عن هَوًى، فهم يعلمونَ الحقَّ ويخالفونَه.
وإمَّا أنْ يجتمعَ فيهم هذان السَّببانِ اللَّذانِ هما سببُ الأقوالِ المنحرفةِ التي يظهر فيها الجرأة على تأويل كتاب الله بلا علم.
وسأسوقُ لكلِّ قومٍ من هؤلاءِ مثالاً من تفاسيرهمِ، واللهُ المستعانُ.
* من أمثلةِ تفاسيرِ الرَّافضةِ، تفسيرُ قوله تعالى: و {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، قالوا: أُولي الأمر: الأئمةُ من أهلِ البيتِ (1).
وتخصيصُ أولي الأمرِ بأهلِ البيتِ، تحكُّمٌ لا دليلَ عليه، وهو مخالفٌ لتفسيرِ السَّلفِ، وهم فيه على وجهين:
_________
(1) ينظر على سبيل المثال: مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي (5:138 - 139)، وقد ذكر القولين المشهورين، ثم قال: «وأما أصحابنا، فإنهم رووا عن الباقر والصادق عليهما السلام أنَّ أولي الأمر: هم الأئمة من آل محمد، أوجب الله طاعتهم بالإطلاق، كما أوجب الله طاعته وطاعة رسوله، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلاَّ إذا ثبتت عصمته، وعلِمَ أنَّ باطنه كظاهره، وأمِنَ منه الغلط والأمر القبيح، وليس ذلك بحاصلٍ في الأمراء ولا العلماء سواهم، جلَّ اللهُ أن يأمر بطاعة من يعصيه أو الانقياد للمختلفين في القول والفعل؛ لأنه محال أن يطاع المختلفون، كما أنه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن الله تعالى لم يقرن طاعة أولي الأمر بطاعة رسوله، كما قرن طاعة رسوله بطاعته إلاَّ وأولو الأمر فوق الخلق جميعاً، كما أن الرسول فوق أولي الأمر وفوق سائر الخلق.
وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين ثبتت إمامتهم وعصمتهم، واتفقت الأمة على علوِّ مرتبتهم وعدالتهم».
وقد ذكر الراغب في مفردات ألفاظ القرآن تفسير أولي الأمر بأئمة أهل البيت، ولم يعلِّق عليه بشيء. ينظر (ص:90).
(1/619)
________________________________________
الأول: هم الأمراء (1).
الثاني: العلماء (2).
أمَّا مصطلحُ أهلِ البيتِ، وما لَحِقَه من أحكامٍ تخصُّهم عندهم ـ كالعصمةِ وغيرِها ـ فإنَّه جاءَ متأخِّراً، وحملوا عليه الآيةَ، وبنوا عليه وجوبَ طاعتهم دونَ غيرِهم، وغير ذلك من الأحكامِ التي تخصُّ أهلَ البيتِ عندهم.
* ومن تفاسيرِ الفلاسفةِ (3): تفسيرُ الأفولِ في قولِه تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، حيثُ فَسَّرَهُ بعضُ المعتزلةِ وغيرُهم منَ المبتدعةِ بأنَّه الحَرَكَةُ (4)، وقصدوا بذلكَ أنَّ إبراهيمَ نَفَى ألوهيَّةَ هذه الكواكبِ بوجودِ الحَرَكَةِ فيها، والحَرَكَةُ دليلٌ على الحدوثِ، ومنْ ثَمَّ، فإنَّ هذه الكواكبَ مُحْدَثَةٌ مخلوقةٌ، والرَّبُّ لا تجوزُ عليه الحَرَكَةُ، فما جاءَ منَ النُّصوصِ التي فيها من صفاتِ اللهِ الاختياريَّةِ؛ كالنُّزولِ، والمجيءِ، وغيرِها، جعلوها تدلُّ على الحركةِ والانتقالِ، ثُمَّ أَوَّلُوهَا بسببِ هذه الدَّعْوَى.
_________
(1) ورد القول بهذا عن أبي هريرة، وابن عباس، وميمون بن مهران، وابن زيد، والسدي، وغيرهم. ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (8:497 - 499)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب (3:987 - 988).
(2) ورد القول بهذا عن ابن عباس، ومجاهد، وابن أبي نجيح، وعطاء بن السائب، والحسن، وأبي العالية. ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (8:449 - 501)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب (3:989).
وقد ورد غير هذين القولين، وهما داخلان في أحدهما، كمن قال: أولي الأمر: أبو بكر وعمر، فإنَّ هذا يدخل في القولين معاً، فهم من الأمراء ومن العلماء.
(3) تجدُ في كتاب روح المعاني، للآلوسي أمثلةً كثيرةً من التفاسيرِ التي نقلها عن ابن سينا، وينظر منه على سبيل المثال، تفسير سورة الفلق (30:284 - 285).
(4) ينظر: الرد على بشر المريسي (ص:55)، وتفسير الرازي (13:43)، ودرء تعارض العقل والنقل (1:310 - 315)، والصواعق المرسلة (1:190).
(1/620)
________________________________________
وقد ردَّ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ (ت:728)، على تفسيرِهم للأفولِ، فقالَ: «... الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ الأُفُولَ هو المَغِيبُ والاحْتِجابُ، ليسَ هو مجرَّدَ الحركةِ والانتقالِ، ولا يقولُ أَحَدٌ ـ لا من أهلِ اللُّغةِ ولا من أهلِ التَّفسيرِ ـ: إنَّ الشمسَ والقمرَ في حَالِ مسيرِهما في السَّماءِ، إنهما آفلانِ، ولا يقولُ للكواكب المرئيَّةِ في السَّماءِ في حالِ ظهورِها وجريانِها: إنها آفلةٌ، ولا يقولُ عاقلٌ لكلِّ مَنْ مَشَى وسَافَرَ وطَارَ: إنه آفِلٌ.
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّ هذا القولَ الذي قَالُوه لمْ يَقُلْهُ أحدٌ من علماءِ السَّلفِ أهلِ التَّفسيرِ، ولا من أهلِ اللُّغةِ، بل هو منَ التَّفسيراتِ المُبْتَدَعَةِ في الإسلامِ، كما ذَكَرَ ذلكَ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ (1) وغيرُه من علماءِ السُّنَّةِ، وبَيَّنُوا أنَّ هذا منَ التَّفسيرِ المُبْتَدَعِ.
وبِسَبَبِ هذا الابتداعِ أخذَ ابنُ سِينَا (2) وأمثالُه لفظَ الأفولِ بمعنى الإمكانِ كما قال في إشاراتِه: قال قومٌ: إنَّ هذا الشَّيءَ المحسوسَ موجودٌ لذاتِه واجبٌ لنفسه، لكنْ إذا تذكرتَ ما قيلَ في شرطِ واجبِ الوجودِ لم تجدْ هذا المحسوسَ واجباً، وتَلَوتَ قوله تعالى: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، فإنَّ الهُوِيَّ في حَظِيرَةِ الإمكانِ أُفُولٌ (3). فهذا قولُه.
ومنَ المعلومِ بالضَّرورِة من لغةِ العربِ أنهم لا يُسَمُّونَ كلَّ مخلوقٍ موجودٍ آفِلاً، ولا كُلَّ موجودٍ بغيرِهِ آفِلاً، ولا كُلَّ موجودٍ يَجِبُ وجودُهُ بغيرِهِ لا بنفسِهِ آفِلاً، ولا ما كانَ من هذه المعاني التي يَعْنِيهَا هؤلاءِ بلفظِ الإمكانِ،
_________
(1) ينظر رده على بشر المريسي (ص:55).
(2) الحسين بن عبد الله بن الحسن، أبو علي، المعروف بالشيخ الرئيس، فيلسوف، طبيب، كان أهل بيته من الإسماعيلية، له آثارٌ كثيرةٌ في الطبِّ والفلسفة والمنطق؛ ككتاب القانون، وكتاب الشفاء، وغيرها. توفي سنة (428). ينظر: عيون الإنباء في طبقات الأطباء (ص:437 - 459)، سير أعلام النبلاء (17:531 - 536).
(3) الإشارات والتنبيهات، لابن سينا (3:531 - 532).
(1/621)
________________________________________
بل هذا أعظمُ افتراء على القرآنِ واللُّغةِ منْ تسميةِ كلِّ متحركٍ آفِلاً. ولو كانَ الخليلُ أرادَ بقولِه: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] هذا المعنى، لم ينتظرْ مغيبَ الكوكبِ والشَّمسِ والقَمَرِ، فَفَسَادُ قولِ هؤلاءِ المتفلسفةِ في الاستدلالِ بالآيةِ أظهرُ منْ فسادِ قولِ أولئكَ.
وأعجبُ من هذا قولُ مَنْ قالَ في تفسيرِهِ: إن هذا قولُ المحققينَ (1).
واستعارتُهُ لفظَ «الهُوِيِّ، والحَظِيرَةِ» لا يوجبُ تبديلَ اللُّغةِ المعروفةِ في معنى الأفولِ، فإنْ وَضَعَ هو لنفسِهِ وَضْعاً آخرَ، فليسَ له أنْ يتلوَ عليه كتابَ اللهِ تعالى فيبدِّله ويحرِّفهُ» (2).
* ومن أمثلةِ تفسيرِ القرآن بمصطلحاتِ العلمِ التَّجريبيِّ، الذي فُتِنَ به كثيرونَ، فصاروا يُجهِدونَ أنفسَهم في التوفيقِ بين ما في هذه العلوم التَّجريبيَّةِ الحديثةِ وبين نصوصِ القرآن، وقد أتوا في كثيرٍ من الأحيانِ بالطَّوامِّ، ولَيِّ أعناقِ النصوصِ إلى هذه العلومِ؛ كأنها هي الأصلُ، والقرآن تبعٌ لها، ومن أمثلةِ ذلك:
يقول الشَّيخ أحمد محيي الدِّين العجوز ـ في كتابه (معالم القرآن في عوالم الأكوان) تحت عنوانِ: «حقيقة الذَّرَّةِ وطاقتها» ـ:
«وقال العلماءُ قديماً: أنَّ الجوهرَ الفردَ (الذَّرَّةَ) لا يتجزَّأ (3)، ولا يمكنُ له ذلكَ. بيدَ أنَّ علماء الذَّرَّةِ في عصرنا الحديثِ توصَّلوا إلى تجزئةِ الذَّرَّةِ،
_________
(1) هو الرازي، وقد قال في تفسيره (13:43): «وأيضاً قال بعضُ المحقِّقينَ: الْهُوِيُّ في خطرة (كذا) الإمكانِ أفولٌ».
(2) درء تعارض العقل والنقل (1:313 - 315). وقد نقل بعد هذا تفسير القرامطة والباطنية للكوكب والشمس والقمر، وهو من جنس هذا الذي ذكرته في تفسير الأفول عند المبتدعة.
(3) الجوهر الفرد: هو الجزء الذي لا يتجزَّأ، وهو لا شكل له، ولا يشبهه شيء من الأشكالِ.
ينظر: كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، تحقيق: لطيف بديع (1:290 - 291).
(1/622)
________________________________________
وإلى معرفةِ وزنها. واعتبروا أنَّ وزنها (1.66) جزءً من مليونِ مليارِ مليارِ جزءٍ من الغْرَامِ، فسبحان اللهِ الَّذِي خلقَ الذَّرَّةَ ونواتها وما فيها من طاقةٍ وكتلةٍ وقوَّةٍ.
وإذ توصَّلَ رجالُ العلمِ الحديثِ إلى تجزئتها، فإنَّ القرآن الكريمَ أعلنَ ذلكَ صراحةً مشيراً لذلكَ بلفظِ (أصغر)؛ أي: أصغر من الذَّرَّةِ، فقال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].
فذكر اللهُ: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، وهو وزنُها، {وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ}، وهو جُزْؤها، فيكونُ القرآنُ قدْ سبقَ علماءَ الذَّرَّةِ بذكر ثقلها ووزنها وانقسامها، فكانَ ذلك معجزةً واضحةً» (1).
وهذا المتعرِّضُ لتفسيرِ هذه الآية ـ كما ترى ـ لم يُجهِدْ نفسَه في البحثِ عن معنى الذَّرَّةِ في لغةِ العربِ ولا في قولِ المفسِّرينَ، إذ لا تجدُ لهم ذِكْراً عنده، بل حملها على مصطلحاتٍ حادثةٍ، فجعلها بمعنى الجوهرِ الفردِ عند المتكلِّمينَ، ثمَّ جعلها الذَّرَّة المعروفةَ في هذا العصرِ في اصطلاحِ الفيزيائيين والكيميائيين (2)، وهلْ أُنزلَ القرآن على مصطلحاتِ المتكلمينَ أو منْ جاءَ بعدَهم؟!.
_________
(1) معالم القرآن في عوالم الأكوان، للشيخ أحمد محيي الدين العجوز (ص:298 - 299).
(2) الذَّرَّة في الفيزياء والكيمياء أصغر جزءٍ من المادة، وكان يُعتقَدُ أنها لا تنقسمُ، ثُمَّ ثبتَ بعدَ ذلكَ وقوعُ الانقسامِ فيها، وأنها تتكون من نيوترونات وبروتونات. ينظر: الموسوعة العربية الميسرة، ط: دار الشعب (ص:844).
(1/623)
________________________________________
أينَ لغةُ من نزلَ القرآن بلسانهم؟!.
إنَّ الذَّرَّةَ بلسانِ العربِ: النَّملةُ الصَّغيرةُ، وهذا هو المعنى المعروفُ من هذا اللَّفظِ، ولذا تجدُ في بعضِ المعاجمِ: «والذَّرُّ: جمع ذرَّة، معروفٌ»؛ أي أنَّ هذا المعنى لا يخفى على أحدٍ يتكلَّمُ هذه اللُّغةَ.
وهذا المعنى هو المرادُ هنا، وَرَدَ ذلكَ عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68) (1). وقالَ الطَّبَرِيُّ (ت:310): «وقوله: {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61]: يعني: من زِنَةِ نملةٍ صغيرةٍ، يُحكَى عن العربِ: خُذْ هَذَا، فَإِنَّهُ أَخَفُّ مِثْقَالاً مِنْ ذَاكَ؛ أي: أخفُّ وزناً (2).
والذرة: واحدة الذر، والذر: صغار النمل» (3).
* ومن أمثلةِ التَّفسيراتِ العصريَّةِ الحديثة:
1 - ما ورد في كتابِ (الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة) في تفسير المراد بالجيوب في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]: «والجيبُ ـ كما نعلم ـ: هو فتحةٌ لها طبقتانِ، لا طبقةٌ واحدةٌ؛ لأنَّ الأساسَ في (جيبِ) هو فعلُ (جوب) في اللسانِ العربيِّ، له أصلٌ واحدٌ، وهو الخرقُ في الشَّيء، ومراجعةُ الكلامِ: السؤال والجواب.
فالجيوبُ في المرأةِ لها طبقتانِ، أو طبقتانِ مع خرقٍ، وهي: ما بين الثَّديينِ، وتحت الثَّديينِ، وتحت الإبطينِ، والفرج، والأليتينِ (4)، هذه كلها جيوبٌ، فهذه الجيوبُ يجبُ على المرأةِ المؤمنةِ أن تغطيها، لذا قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}» (5).
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:270 - 271)، والدر المنثور (2:539).
(2) ورد هذا عند أبي عبيدة، قال: «أي: زنَةَ نملةٍ صغيرةٍ، ويقال: خذ هذا فإنه أخفُ مثقالاً؛ أي: وزناً» مجاز القرآن (1:278).
(3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (15:116 - 117).
(4) الصَّوابُ: الأليتانِ.
(5) الكتاب والقرآن/ قراءة معاصرة، للدكتور: محمد شحرور (ص:607)، والكتاب مليءٌ بالمغالطاتِ والأخطاءِ العجيبة، وقد كثرت عليه الردود العلمية القيمة.
(1/624)
________________________________________
وهذا الكلامُ فيه اعتداءٌ على العربيَّةِ، وإدِّعاءٌ عليها في معنى الجيوبِ؛ لأنَّ المعنى الذي ذكره للجيب: «فتحة لها طبقتانِ»، معنًى مُحدَثٌ، وكأنَّه أخذه من المعنى الدارجِ بين العامَّةِ، وهو تسمية المخبأةِ جيباً، وهذا اصطلاحٌ حادثٌ، لم يُعهدْ في لسانِ العربِ، ولا من نزلَ فيهم الخطاب، ومن ثَمَّ لا يصحُّ استنباطٌ معنى لغوي منه، ولا حملُ القرآنِ عليه.
والجيبُ في اللُّغةِ مأخوذٌ من مادة (جوب)، أو تكون الياء فيه أصليةً (1)، وتكونُ مادة مستقلَّةً، وكلاهما في جميع الأحوالِ يرجعانِ إلى أصلٍ واحدٍ يدلُّ على خرقِ الشَّيء أو قطعه (2)، والمرادُ به في الآيةِ طوق الرأس مما يلي الرَّقبةَ، وهو ما يدخلُ فيه الرأسُ، والمعنى في ذلك أنْ تُغطِّيَ المرأةُ رأسها حتى يصلَ خمارُها إلى صدرِها فيتغطَّى منها الجيبُ.
وهذا القائلُ، جعلَ معنى الجيبِ: الفتحةَ التي لها طبقتانِ، ثُمَّ حملَ الجيوبَ المذكورةَ على هذا المعنى الذي اختاره، تاركاً بذلكَ المعهودَ من لغةِ العرب، والمعروفَ من معنى الجيوبِ على من نزل القرآنُ بلغتِهم، وفسَّرُوه بفعلِهم، فأسدلوا الخمارَ حتى الصَّدرِ (3).
2 - وما ورد في كتاب (مفهوم النَّصِّ/ دراسة في علوم القرآنِ)، حيث ذكرَ المؤلِّفُ في تفسيرِ قوله تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، قال: «المسألةُ الأولى: أنَّ الأمر بالقراءةِ هنا أمرٌ بالتَّرديدِ، و «اقرأ»؛ معناها: «ردِّدْ»، وذلك على خلاف الفهمِ الشَّائعِ حتى الآنَ، والمستقر نتيجةَ تطوّرِ الشَّفاهيةِ إلى التدوينِ ...» (4).
_________
(1) ينظر مثلاً: لسان العرب وتاج العروس، مادة (جيب).
(2) ينظر: مقاييس اللغة (1:490 - 491)، (1:497 - 498)، والقاموس المحيط وشرحه تاج العروس، ولسان العرب، مادة (جوب)، ومادة (جيب).
(3) ينظر في الردِّ على هذا التحريف في هذه الآية وما يتعلق بها من حكم، كتاب: بيضة الديك ـ نقد لغوي لكتاب الكتاب والقرآن، ليوسف الصيداوي (ص:75 - 97).
(4) مفهومُ النص/ دراسة في علوم القرآن، للدكتور: نصر حامد أبو زيد (ص:75).
(1/625)
________________________________________
إنَّ هذا القائلَ يُثبتُ بنفسهِ أنَّ هذا المعنى خلافَ الفهمِ الشَّائعِ، فمن أيِّ لغةِ العربِ أخذَ هذا المعنى الجديد الذي جعله تفسيراً لكلامِ اللهِ سبحانَه، وعلى أي أصلٍ بنى تفسيره هذا (1).
ولو سار قومٌ على مذهبه هذا لخرجَ لكتابِ اللهِ تفسيراتٌ كتفسيراتِ الباطنيَّةِ لا مرجع لها إلاَّ فهمُ القارئ للنَّصِّ، وهو حرٌّ في فهمه، وهذا خطرٌ عظيمٌ، وداءٌ جسيمٌ.
إنَّ أي تفسيرٍ للفظٍ من ألفاظ القرآنِ لا يُؤخذ من لغةِ العربِ، فالتفسيرُ به غيرُ صحيحٍ البتَّةَ، وإلاَّ لقالَ كلُّ من هبَّ ودبَّ في القرآنِ، ولا ضابطَ لذلكَ ولا مرجعَ سوى قولِ القائلِ ورأيه واجتهادِه، وهذا يخالفُ الأصولَ العلميَّةَ الثَّابتةَ التي قعَّدَها العلماءُ في دراسةِ كتابِ اللهِ سبحانه.

الضابط الثالث: أن تحتمل الآية المعاني في السياق:
يظهرُ عند التأمُّلِ أنَّ هذا الضابطَ إنَّما هو نتيجةٌ لصحة سَيرِ الضَّابطَينِ السَّابقَينِ؛ أي: إذا كان التَّفسيرُ لا يناقضُ المنقولَ عنِ السَّلفِ، وهو معنًى صحيحٌ، فإنَّ حكمه في الغالبِ أنَّ تحتملَه الآيةُ.

الضابط الرابع: أن لا يُقصَرَ معنى الآية عليها:
إذا تَعدَّدتِ المعاني المحتملة للآيةِ، وكانَ هناكَ ما يدعو إلى تقديم قولٍ
_________
(1) في هذا الكتاب (مفهوم النص) طوامٌّ غير هذا، وليس هذا مجالُ نقدِها، ولكن أشيرُ هنا إلى اعتدادِ المؤلِّفِ بمعلوماتِه الذاتيةِ الانتقائيَّةِ، فما وافقه أخذ به، وما خالَفه أعرضَ عنه، حتى لو كان إجماعاً قائماً، ومن ذلكَ قوله: «... ومن هنا يصعبُ أن نتقبَّلَ إجماع المفسرين على أن المقصودَ بتطهير الثياب: تطهيرِ النفس مما يُستقذرُ من الأفعال ويُستهجن من العادات». (ص:83)، وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}، قال: «وقد أخطأ المفسِّرونَ أيضاً حين فهموا المنَّ بمعنى العطاءِ ...». (ص:83)، وغيرها كثيرٌ.
فمن كان أسلوبه العلميُّ، ومنهجُه البحثيُّ إجازةَ مخالفةِ الإجماعِ، فماذا بقيَ بعدَ ذلكَ؟!
(1/626)
________________________________________
على غيرِه من بابِ تقديمِ الأَوْلَى، فلا إشكالَ في ذلكَ، لأنَّ ذلكَ التَّقديم ليسَ فيه إلغاءٌ للأقوالِ الأخرى المحتملَةِ.
والمقصودُ هنا أنْ يَقْتَصِرَ على معنًى ويُلْغِيَ غيرَهُ منَ الأقوالِ المحتملةِ إلغاءً تامّاً، وهذا المنهجُ مِمَّا يتميَّزُ به أهلُ البِدعِ، بلْ إنَّهم ـ أحياناً ـ لا يذكرونَ قولَ السَّلفِ، وإنْ ذكروه لم يُحْسنِوا عَرْضَهُ؛ لجهلِهِم بأقوالِ السَّلفِ ومعرفةِ معانيها.
ومنَ الأمثلةِ التي وقعَ فيها قَصْرُ اللَّفظِ على أحد محتملاتِه، وإبطالُ غيرِهِ، ما وقعَ في تفسيرِ العِلْمِ في قولِه تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، فقولُه: {مِنْ عِلْمِهِ} يحتملُ معنيينِ:
الأوَّلُ: لا يحيطونَ بشيءٍ من معلوماتِهِ.
الثاني: لا يحيطونَ بشيءٍ من عِلْمِ ذاتِهِ وصفاتِهِ (1).
وقد قَصَرَ المبتدعةُ معنى هذا اللَّفظِ على الأَوَّلِ دونَ الثَّاني، إمَّا إنكاراً لِصفَةِ العلمِ الإلهيِّ، وإمَّا إنكاراً لتَبَعُض عِلْمِ اللهِ تعالى.
قالَ القاضي عبدُ الجبارِ (ت:415): «فإنْ سألَ المُخالِفُ، فقالَ: إنَّ هذه الآية تدلُ على أنَّه تعالى عَلِمَ بِعِلْمٍ؛ لأنَّه قال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ}.
فجوابُه: أنَّ ظاهرَهُ يدلُّ على أنَّ عِلْمَهُ يَتَبَعَّضُ؛ لدخولِ لفظِ التَّبْعِيضِ فيه، فإنْ تَمَسَّكتم بالظَّاهرِ، فقولوا بذلكَ، وإنْ عدلتُم إلى أنَّ المرادَ بذلكَ المعلوماتِ لِيَصِحَّ التبعُّضُ فيها بذلكَ، سَقَطَ التَّعلقُ بالظَّاهِرِ.
_________
(1) ينظر: الصواعق المرسلة (4:1372)، وتفسير ابن كثير (1:679 - 680)، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي (1:315)، وتفسير آية الكرسي، لمحمد ابن عثيمين (ص:17).
(1/627)
________________________________________
والمرادُ بذلكَ: أنهم لا يحيطونَ بشيءٍ منْ معلوماتِه إلاَّ بما شاءَ أنْ يُعْلِمَهُمْ أو يدلَّهم عليه» (1).
وقال ابنُ عَطِيَّةَ (ت:542): «قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ}، معناه: معلوماته. وهذا كقولِ الخَضِرِ لموسى عليهما السلام ـ حينَ نَقَرَ العصفورُ منْ حرفِ السَّفينةِ ـ: ما نقصَ علمي وعلمُك منْ عِلْمِ اللهِ، إلاَّ كما نقص هذا العصفورُ منْ هذا البحرِ (2)، فهذا وما شاكَلَهُ راجعٌ إلى المعلوماتِ؛ لأنَّ عِلْمَ اللهِ تعالى الذي هو صِفَةُ ذاتِهِ لا تَتَبَعَّضُ، ومعنى الآيةِ: لا معلومَ لأحدٍ، إلاَّ ما شاءَ اللهُ أنْ يُعْلِمَهُ» (3).
وليسَ قَصْرُ معنى «بعلمه» على معنىً واحدٍ بصوابٍ، بلِ الآيةُ تحتملُ الأمرينِ معاً، ولا تعارضَ بينهما، والأولُ يستلزمُ الثاني. قالَ الشيخُ ابنُ عُثيمِينَ (ت:1421): «وعِلْمُ في قولِه: {عِلْمِهِ} مصدرٌ يحتملُ أنَّه على بابهِ، ويحتملُ أنَّه بمعنى: معلومٍ؛ أي: لا يحيطونَ بشيءٍ مما يعلمُهُ اللهُ، إلاَّ بما شاءَ أنْ يُعْلِمَهُمْ إيَّاهُ، هذا احتمال.
واحتمالٌ ثانٍ: ولا يحيطونَ بشيءٍ منْ عِلْمِهِ؛ أي: من علمِهِم نفسَهُ وصفاتهِ؛ يعني أنهم لا يحيطونَ بشيءٍ يعلمونَه في نَفْسِ اللهِ، أو في صفاتِه إلاَّ بما شاءَ؛ كما قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255]، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، فالآيةُ محتملةٌ للمعنيينِ جميعاً، وكلاهما صحيحٌ باعتبارِ الآيةِ، فنحنُ لا نعلمُ شيئاً منْ ذاتِ اللهِ أو صفاتِهِ إلا بما شاءَ عِلْمَنَا بهِ، فهو الَّذي أعْلَمَنَا أنَّه استوى على العرشِ، وهو الذي أَعْلَمَنَا على لسانِ رسولِه أنَّه ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، وهكذا بقيةُ صفاتِهِ لا نعلمُها إلاَّ بما شاءَ.
وكذلكَ معلوماتُهُ التي يعلمُها في السَّماواتِ وفي الأرضِ، لا نعلمُها إلاَّ بما شاءَ، فهو الذي أَعْلَمَنَا أنَّ هناكَ ملائكةٌ، وهو الذي أَعْلَمَنَا أنَّ هناكَ سبعُ
_________
(1) متشابه القرآن (1:131 - 132).
(2) رواه الإمام البخاري وغيره، ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8:264).
(3) المحرر الوجيز (2:384).
(1/628)
________________________________________
سماواتٍ، وهكذا بقيَّةُ المعلوماتِ لا نحيطُ بها عِلْماً إلاَّ بما شاءَ اللهُ، حتى المعلوماتِ التي بينَ أيدينا يجهلُها كثيرٌ منَّا، إلاَّ إذا شاءَ أنْ نَصِلَ إلى عِلْمِها، ففي الإنسانِ أشياءٌ لم يصلوا إليها حتى الآنَ، وكانوا يَصِلُونَ إليها شيئاً فشيئاً.
فصارتِ الآيةُ شاملةً للمعنيينِ جميعاً، فنحنُ لا نعلمُ شيئاً مما يَعْلَمُهُ اللهُ، حتى فيما يتعلقُ بنا أنفسنا، إلاَّ ما شاءَ اللهُ. كما أنَّنَا لا نحيطُ بشيءٍ يتعلَّقُ بذاتِه وصفاتِه إلاَّ بما شاءَ» (1).
وهذا هو الحقُّ والصَّوابُ، لا أنْ تُقْصَرَ الآيةَ على معنى ويُنْكَرَ ما تحتملُهُ بسببِ معتقدٍ فاسدٍ، ورأيٍ مناقضٍ لما كانَ عليه سلفُ الأمةِ.
ويقربُ منْ هذا أنْ يكونَ للَّفظِ في مدلولِه أكثرَ من أصلٍ في إطلاقِ اللُّغةِ؛ مثلَ لفظِ الحكيمِ، يشملُ لفظَ العلمِ، فكلُّ حكيمٍ عليمٌ، وليسَ كلُّ عليمٍ حكيماً، وكذا لفظُ الخبيرِ يشملُ العليمَ، غيرَ أنَّ في معنى الخبيرِ زيادةٌ في الدلالةِ، وهي العلم ببواطنِ الأمورِ، وهكذا.
ومنَ الأمثلةِ التي وقعَ فيها الاقتصارُ على أحد الأصلينِ في معنى اللَّفظِ دونَ غيرهِ، ما وقع من المعتزلةِ في تفسيرِ لفطِ الإذنِ في بعضِ مواطِنه منَ القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]، قال الرُّمَّانِيُّ (ت: 384): «ويقالُ ما معنى الإذنِ هنا؟
الجوابُ فيه قولانِ، الأول: ... الثاني: بإذن اللهِ: بعلمِ اللهِ، منه قوله تعالى: {فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 279]، و {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]، و {آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيْدٍ} [فصلت: 37]» (2).
_________
(1) تفسير آية الكرسي، لمحمد بن صالح بن عثيمين (ص:17 - 18).
(2) مخطوط تفسير الجامع لعلم القرآن آية (166) من سورة آل عمران. وينظر: متشابه =
(1/629)
________________________________________
وتفسيرُ الإذنِ في هذا الموضعِ بالعلمِ تفسيرٌ للَّفظِ بجزءٍ منْ معناهُ؛ لأنَّ الإذنَ في هذا السياقِ يجمعُ بين معنيي الإباحة والعلمِ، وهو الإذنُ الكوني، أي: ما أصابكم يوم التقى الجمعانِ فبمشيئةِ اللهِ وقدرتِهِ (1).
كما أنَّ تنظيرَه بهذه الآياتِ فيه خطأٌ؛ لأنها من آذنَه بالشَّيء يُؤذِنُه: إذا أعلمه. أمَّا التي في الآية الَّتي يُفسِّرُها، فهي من أَذِنَ بالشَّيء: إذا أباحَهُ له، ومثلُه: أَذِنَ له بالشيء (2).
والمعنى في ما يَرِدُ به الإذْنُ الكَونِيُّ أنَّه إباحةُ اللهِ للشَّيءِ بالوقوعِ؛ يعني مشيئتَهُ له، وعدمَ ردِّه له، ولا تعني هذه المشيئةُ محبَّةَ اللهِ لما يشاءُ منْ هذه المقاديرِ.
أمَّا إذا كانَ الإذنُ شرعياً، فإنَّه من محبوباتِ اللهِ؛ مثل قولهِ تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وقولهِ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]، وغيرِها، فهذا الإذنُ في هذه الآياتِ إذْنٌ شرعيٌّ محبوبٌ للهِ سبحانَه، واللهُ أعلمُ.
مثالٌ لما انطبقت عليه الضوابط:
وبعدُ، فإذا اجتمعتْ هذه الضوابطُ في مثالٍ تفسيريٍّ، فإنَّ المعنى اللُّغويَّ المحتملَ يقبلُ بِنَاءً على هذه القاعدةِ (إذا ورد أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضاد جاز تفسير الآية بها)، وسأذكرُ مثالاً للمحتملِ اللُّغويِّ الذي يمكنُ قَبُولُهُ.
* في قولِه تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6]، وَرَدَ في تفسيرُ لفطِ «عَرَّفَها» معنيانِ:
_________
= القرآن، لعبد الجبار الهمذاني (1:172)، وأمالي الشريف المرتضى (1:38 - 39)، ومجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي (4:257).
(1) فسَّر سفيان الثوري قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فقال: «بقضاءِ اللهِ». تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:102).
(2) هذا المثالُ من تفسير القرآن بالقرآن وما شابهه، يفيد في التَّنبيه إلى أنَّه ليس كلُّ من حملَ معنى آيةٍ على آيةٍ صحَّ حملُه، كما أنَّ هذا الحملَ من اجتهادِ المفسِّرِ ورأيِهِ، ومن ثَمَّ يُناقشُ قولُه ويحاكمُ كما يُحاكمُ أيَّ تفسيرٍ بالرأيِ، واللهُ أعلمُ.
(1/630)
________________________________________
الأول: وردَ عنِ السَّلفِ، وبعضِ اللُّغويينَ، والمعنى: أنَّ المسلمَ أعرفُ بدارِه في الجنَّةِ من دارِهِ الَّتِي في الدنيا، ويكون أصل معنى عرَّفها لهم من المعرفةِ والعلمِ بالشَّيء.
وقد وردَ هذا التَّفسيرُ بهذا المعنى عنْ: مجاهد (ت:104) (1)، وقتادةَ (ت:117) (2)، وسلمةَ بن كُهَيلٍ (ت:121) (3)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (4)، والكَلْبِيِّ (ت:146) (5)، وابنِ زيدٍ (ت:182) (6). وقالَ به من اللغويين: الفراء (ت:207) (7) وأبو عبيدةَ (ت:210) (8)، والنَّحَّاسُ (ت:338) (9).
ويشهدُ لهذا التفسيرِ ما رواهُ الإمامُ البخاريُّ (ت:256) في صحيحِه عن الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إذا خَلُصَ المؤمنونَ منَ النَّارِ، حُبِسُوا بقنطرة بينَ الجنَّةِ والنَّارِ، يَتَقَاصُّونَ مظالِمَ كانتْ بينهم في الدُّنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُفُّوا، أُذِنَ لهم في دخولِ الجنَّةِ، والَّذي نفسي بيده إنَّ أحدَهم بِمَنْزلِهِ في الجنَّةِ، أهدى منه بمنْزلِهِ الَّذي كانَ في الدُّنيا» (10).
_________
(1) تفسير مجاهد (ص:604 - 605)، وغريب الحديث، للحربي (1:189)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (26:44).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (26:44).
(3) غريب الحديث، للحربي (1:189).
وسلمة بن كهيل، الحضرمي، أبو يحيى الكوفي، روى عن سعيد بن جبير، وأبي مالك، وعنه: سفيان الثوري ومنصور بن المعتمر وغيرهما، ثقة يتشيَّع، توفي سنة (121)، وقيل غير ذلك. تهذيب الكمال (3:254 - 255)، وتقريب التهذيب (ص:402).
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (24:36).
(5) تفسير عبد الرزاق (ص:180).
(6) تفسير الطبري، ط: الحلبي (26:44 - 45).
(7) معاني القرآن، للفراء (3:58).
(8) مجاز القرآن (2:214).
(9) معاني القرآن، للنحاس (6:466).
(10) ينظر فتح الباري، ط: الريان (11:430).
(1/631)
________________________________________
الثاني: حكاه ابن قتيبة (ت:276) عن أهل اللغة، والمعنى: طيَّبَها لهم، من قولِهم: طعامٌ مُعَرَّفٌ؛ أي: مُطَيَّبٌ (1).
وهذا المعنى لا يناقِضُ الواردَ عنِ السَّلفِ، وهو معنًى صحيحٌ منْ جهةِ اللُّغةِ، والآيةُ تحتملُه من غيرِ أنْ يُقْصَرَ عليها هذا المعنى، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ، فإنَّه يَصِحُّ التَّفسيرُ به، ويكونَ الاختلاف في هذا المثالِ من اختلافِ التَّنوُّعِ الذي يرجعُ إلى أكثرَ منْ معنًى، وسببُ الاختلافِ: الاشتراكُ اللُّغويُّ في لفظِ «عرَّفَهَا».
ومنْ ثَمَّ، فالتَّفسيرُ على هذين المعنيين: ويدخل اللهُ المؤمنينَ الجنَّةَ الَّتِي أعلمهم منازلَهَم فيها، فعرفوها كما يعرفونَ بيوتهَم الَّتِي في الدُّنيا، وطيَّبَها لهم، فجعلها ذاتَ ريحٍ طيَّبةٍ. والله أعلم.
_________
(1) غريب القرآن، لابن قتيبة (ص:410)، وقد نسبه الحربي في غريب الحديث (1:189) للخليل، وينظر: معاني القرآن، للنحاس (6:466)، وجمهرة اللغة (2:766)، وديوان الأدب (2:366)، وتهذيب اللغة (2:345)، ومقاييس اللغة (4:281)، والعباب الزاخر واللباب الفاخر، حرف الفاء (ص:429).
(1/632)
________________________________________
ثالثاً لا يصحُّ اعتمادُ اللغةِ دونَ غيرهَا من المصادرِ التفسيريَةِ
لا إشكالَ في كونِ اللُّغةِ العربيَّةِ منْ أهمِّ مصادرِ التَّفسيرِ، وأنَّه لا يصِحُّ لمُفَسِّرٍ أنْ يفسِّرَ القرآنَ وهو جاهلٌ بلغةِ العربِ، وقد سبق بيان شيءٍ من هذا.
وسيكونُ الحديثُ هنا عن أنَّ اللُّغةَ لا تَسْتَقِلُّ بِفَهْمِ القرآنِ، وأنَّ الاعتماد عليها دونَ المصادرِ الأخرى يُوقِعُ في الغلطِ؛ لأنَّ التفسيرَ الصحيحَ قد يكونُ من جهةِ هذه المصادرِ، أو تكونُ هذه المصادرُ محدِّدةً للمعنى اللُّغويِّ المحتملِ عند تعدُّدِ وجوهِ التَّفسير، ومن أهمِّ هذه المصادرِ:
1 - القرآنُ نفسُه؛ لأنَّه قدْ يفسِّرُ بعضُه بعضاً.
2 - ومعرفةُ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ والتَّفسيرِ النَّبويِّ.
3 - ومعرفةُ المصطلحاتِ الشَّرعيَّةِ.
4 - وأقوالُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم.
5 - وأسبابُ النُّزولِ، وقَصَصُ الآيِ، وغيرُها مَمَّا قد يحُفُّ بآيةٍ دونَ غيرِها. فإذا استوعبَ المفسِّرُ هذه المعلوماتِ، وغيرَها من العلومِ التي يحتاجُها، أمكنَه أنْ يجتهدَ في التَّفسيرِ، ويرجِّحَ فيه بينَ الأقاويلِ.
وسأذكرُ منَ الأمثلةِ ما يبيِّنُ أنَّ اعتمادها وحدها أوقعَ في مخالفةِ الصَّحيحِ من التَّفسيرِ المعتمدِ على المصادرِ الأخرى، ومنها:
(1/633)
________________________________________
1 - مخالفة المصطلحات الشرعيَّة:
جاءَ الشَّرْعُ بمصطلحاتٍ جديدةٍ على العربِ، وإنْ كانَ أصلُ اللَّفظِ لا يزالُ باقياً في المصطلحِ، وإنَّما زادَ الشَّرعُ عليه بعضَ الضَّوابطِ، فخرجَ بذلكَ عنْ كونِه حقيقةً لغويةً، إلى كونِهِ مصطلحاً شرعيّاً.
وقد كتبَ في هذا الموضوعِ بعضُ علماءِ اللُّغةِ؛ كابنِ قتيبةَ (ت:276) في أوَّلِ كتابِه: غريبِ القرآنِ، وأبي حاتم الرازي (ت:322) (1) في كتابهِ: الزِّينةِ في الكلماتِ الإسلاميَّةِ، وابنِ فارسٍ (ت:395) في كتابهِ: الصَّاحبي في فقهِ اللُّغةِ (2).
كما كتبَ فيه علماءُ أصولِ الفقهِ (3) والعقائدِ (4) تحت مسمَّى (الحقيقةِ الشرعيةِ)، ونشأ عنْ ذلك قاعدةٌ في ما لو تجاذبَ اللفظَ الحقيقةُ اللُّغويَّةُ والحقيقةُ الشَّرعيَّةُ، أيُّهما يقدَّمُ؟
وكانتِ القاعدةُ: أنَّ الحقيقةَ الشَّرعيَّةَ مقدَّمةٌ على الحقيقةِ اللُّغويَّةِ، لأنَّ الشَّارع مَعْنِيٌّ ببيانِها لا ببيان اللُّغاتِ.
والمقصودُ أنَّ الأصلَ في ما جاءَ منَ الأسماءِ الشَّرعيَّةِ في القرآنِ: أنْ يفسَّرَ على مصطلحِ الشَّرعِ، وإن فُسِّرَ على اللُّغةِ فقطْ، كانَ ذلكَ قصوراً وإخراجاً للَّفظِ عن مفهومِهِ الشَّرعيِّ.
_________
(1) أحمد بن حمدان، أبو حاتم الرَّازي، الإسماعيلي، قال ابن حجر: «كان من أهلِ الفضل والأدبِ والمعرفةِ باللغةِ، وسمع الحديث كثيراً، وله تصانيف، ثمَّ أظهر القول بالإلحادِ، وصار من دعاة الإسماعيليةِ، وأضلَّ جماعة من الأكابر، ومات سنة (322)». لسان الميزان (1:164).
(2) ينظر: الصاحبي في فقه اللغة، تحقيق: السيد أحمد صقر (ص:78 - 86).
(3) ينظر على سبيل المثال: البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين الزركشي، تحقيق: عبد القادر العاني (2:154 - 170).
(4) ينظر على سبيل المثال: كتاب مسائل الإيمان، للقاضي أبي يعلى الحنبلي، تحقيق: سعود الخلف (ص:152)، وما بعدها.
(1/634)
________________________________________
وسأذكرُ لذلكَ مثالاً مشهوراً وقعَ في تفسيرِهِ اختلافٌ بينَ طوائفِ الأمَّةِ، وهو تفسيرُ الإيمانِ، والإيمانُ في المصطلحِ الشرعيِّ يشملُ: اعتقادَ القلبِ، وقولَ اللِّسانِ وعملَ الجوارحِ، وهو يزيدُ بالطَّاعةِ وينقصُ بالمعصيةِ.
وقالَ قومٌ: هو التَّصديقُ، واستدلوا لذلكَ بأنَّه في أصلِ اللُّغةِ كذلكَ؛ كقولِ الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، قالوا: ما أنتَ بِمُصَدِّقٍ. وقد بَنَوا على ذلك: أنَّ ما في القلبِ منَ الإيمانِ ليسَ إلاَّ التَّصديقُ فقط، دونَ أعمالِ القلوبِ، وأنَّ الإيمانَ الذي في القلبِ يكونُ تامّاً بدونِ شيءٍ من الأعمالِ، التي يجعلونَها من ثمرةِ الإيمانِ.
ولما جاءوا إلى تأويلِ الآياتِ التي ذُكِرَ فيها زيادةُ الإيمانِ؛ كقولِه تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وأنكروا أنْ يكونَ في الإيمانِ ذاتِه زيادةٌ؛ لأنه عندَهم هو التَّصديقُ، وهو شيءٌ واحدٌ، لا يُتَصوَّرُ فيه الزيادةُ، وجعلوها زيادةً في متعلَّقاتِه، وليس في ذاتِه (1).
وجَعْلُ الإيمانِ في اللُّغةِ مجرَّدَ التَّصديقِ فقط فيه قصورٌ في تحصيلِ معناه اللُّغويُّ، وهو تفسيرٌ للشيءِ بِجُزْءٍ من معناهُ؛ لأنَّ أصلَه الثلاثيَّ مِنْ مَادَّةِ أمِنَ، وهي تدلُّ على التَّصديقِ المقرونِ بالثَّقَةِ والسُّكونِ إلى المصدَّقِ به، لا مجرَّد التَّصديقِ.
قالَ النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ (ت:204): «قالوا للخليلِ: ما الإيمانُ؟ فقالَ: الطُّمَانِينَةُ» (2).
وقالَ الزَّجَّاجُ (ت:311): «وَحَكَى أبو زيدٍ الأنصاريُّ: ما آمنتُ أنْ أَجِدَ صَحَابةً، أُومِنُ إيماناً؛ أي: ما وَثِقْتُ، فمعنى المؤمنِ ـ إذا وصفنا به
_________
(1) ينظر مثلاً: المحرر الوجيز، لابن عطية، ط: قطر (3:424).
(2) تهذيب اللغة (15:515).
(1/635)
________________________________________
المخلوقين ـ: هو الواثقُ بما يعتقدُهُ، المُسْتَحْكِمُ الثِّقةِ» (1).
وقال الراغبُ الأصفهانيُّ: «قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، قيل: معناه: بمصدِّقٍ لنا، إلاَّ أنَّ الإيمانَ: هو التَّصديقُ الذي معه أمنٌ» (2).
والمقصودُ أنَّ تفسيرَ الإيمانِ في اللُّغةِ بأنَّه التَّصديقُ فقط، غيرُ دقيقٍ، بلْ فيه معنًى زائدٌ عنِ التَّصديقِ، كما هو ظاهرٌ من هذه النُّقُولِ، واللهُ أعلمُ.
ومن ثَمَّ، فالإيمانُ الشَّرعيُّ يشملُ التَّصديقَ اللُّغويَّ، ويزيدُ عليه تحقيقَ هذا التَّصديقِ بالإتيانِ بالطَّاعاتِ، والبعدِ عنِ المعاصي، فيشملُ عملَ القلبِ واللِّسانِ والجوارحِ بمجموعِها.
وهذا المصطلحُ يشبهُ غيرَه منَ المصطلحاتِ الشَّرعيَّةِ الواردةِ في الشَّرعِ؛ كالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والجهادِ، والصَّومِ، والتَّيمُّمِ، والاعتكافِ، وسبيلِ اللهِ، وغيرِها من المصطلحاتِ التي جاءتْ في الشَّرعِ.
فالصَّلاةُ ـ مثلاً ـ في اللُّغةِ: الدُّعاءُ، وهي في الشَّرعِ تُطلقُ على أعمالٍ مخصوصةٍ بصفةٍ مخصوصةٍ؛ كصلاةِ الفرضِ، وصلاةِ الكسوفِ والخسوفِ، وصلاةِ العيدينِ، والصلاةِ على الميِّتِ.
فالأصلُ اللُّغويُّ باقٍ في هذه الأعمالِ، ولكنَّها غيرُ محدودةٍ فيه، بلْ فيها زيادةُ أقوالٍ وأعمالٍ، فمن الأقوالِ: التَّكبيرُ، والتَّسبيحُ للهِ، والتَّشهدُ، والصَّلاةُ على النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن الأعمالِ القيامُ، والرُّكوعُ والسُّجودُ، والجلوسُ بينَ السَّجدتينِ، والتَّسليمُ، وهذه بمجموعِها هي الصَّلاةُ الشَّرعيَّةُ.
وحَمْلُ الإيمانِ على التَّصديقِ فقط، فيه تحكُّمٌ ظاهرٌ على الشَّريعةِ، وإنَّما كانَ هذا القصورُ بسببِ شُبهةٍ عارضةٍ أدَّتْ إلى هذا القولِ الذي عَمَّ
_________
(1) تفسير أسماء الله الحسنى، للزجاج، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق (ص:31 - 32).
(2) مفردات ألفاظ القرآن (ص:91).
(1/636)
________________________________________
كثيراً منْ كُتُبُ التَّفسيرِ وغيرِها، وليس هذا مكانَ عرضِها؛ لطولِها، وخروجِها عن مقصودِ البحثِ، واللهُ الموفِّقُ.
ومِمَّا يدلُّ على أنَّ الإيمانَ ليسَ التَّصديقَ فقط، إطلاقُه على بعضِ الأعمالِ الشَّرعيَّةِ؛ كالصَّلاةِ في قولِه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] فقدْ أجمعَ السَّلفُ على أنَّ الإيمانَ في هذه الآيةِ الصَّلاةُ، وأنَّ المقصودَ بها صلاتُهم إلى بيتِ المقدسِ، حيث سألوا عنها بعدَ تحويلِ القبلةِ هل تَقَبَّلَ اللهُ منهم ومن إخوانِهم الذين ماتوا قبلَ أنْ يُصَلُّوا إلى الكعبةِ (1)؟.
فسمَّى اللهُ الصَّلاةَ إيماناً؛ لأنَّها منَ الإيمانِ، من بابِ إطلاقِ الكُلِّ على الجزءِ.
أمَّا المخالفونَ لمفهوم المصطلحِ الشَّرعيِّ للإيمانِ، فمن أقوالهم، ما قاله الواحديُّ (ت:468): «والمفسرون يجعلون الإيمانَ ههنا بمعنى: الصَّلاةِ، ويمكنُ أنْ يُحملَ الإيمانُ ههنا على ما هو عليه من معنى التَّصديقِ، فيكونُ معنى الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ يعني: تصديقَكم بأمرِ القبلةِ» (2).
وقال الفخرُ الرَّازيُّ (ت:604): «لا نُسَلِّمُ أنَّ المراد منَ الإيمانِ ههنا الصَّلاةُ (3)، بلِ المرادُ منه التَّصديقُ والإقرارُ؛ فكأنَّه تعالى قال: إنَّه لا يُضيعُ تصديقَكم بوجوبِ تلكَ الصَّلاةِ.
_________
(1) ينظر روايات السلف في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (3:167 - 169)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي (4:816 - 818).
(2) الوسيط في تفسير القرآن المجيد، للواحدي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وآخرون (1:227).
(3) يلاحظ أنَّ الرازي يرد هنا على المعتزلة، وهم وإن جعلوا الطاعات إيماناً، إلاَّ أن بين قولهم وقول السلف في الإيمان فرقاً يُعرف في كتب العقائد، واللهُ الموفِّقُ.
(1/637)
________________________________________
سَلَّمْنَا أنَّ المرادَ منَ الإيمانِ ههنا الصَّلاةُ، ولكنَّ الصَّلاةَ أعظمُ الإيمانِ وأشرفُ نتائجهِ وفوائدِهِ، فجازَ إطلاقُ اسمِ الإيمانِ على الصَّلاةِ على سبيلِ الاستعارةِ منْ هذه الجهةِ» (1).
وهذا مخالفٌ لمرادِ الآيةِ؛ لأنَّ المرادَ ما كانَ اللهُ ليضيعَ عملَكم، وهو الصَّلاةُ، لا تصديقَكم فقط.
قال أبو المُظفَّرِ السَّمْعَانِيُّ (ت:489) (2): «... {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم، فجعل الصَّلاةَ إيماناً، وهذا دليلٌ على المرجئةِ، حيثُ لمْ يجعلوا الصَّلاةَ منَ الإيمانِ» (3).
والتصديقُ عندَهم شيءٌ واحدٌ، وهذا القولُ جعلَ التَّصديقَ يتجزَّأُ، فهذا في التصديق بأمرِ الصلاةِ، وهناك غيرُهُ من التصديقِ، ومن ثَمَّ، فقولُهم مخالفٌ لأصلِ مذهبِهم في أنَّ التَّصديقَ شيءٌ واحدٌ. والله أعلم.

2 - مخالفة أسباب النُّزول:
العلمُ بسببِ النُّزولِ وقصَّةِ الآيةِ منْ أهمِّ العلومِ للمفسِّرِ، لأنَّه يعينُ على فَهْمِ الآيةِ (4). والمرادُ به ما كانَ صريحاً في السَّببيَّةِ، وهو ما وَقَعَ إثْرَ حادثةٍ أو سؤالٍ، أو كان في عبارة المفسِّرِ من الصَّحابةِ ما يدلُّ على صراحةِ السَّببيَّةِ (5).
_________
(1) تفسير الرازي (4:98).
(2) منصور بن محمد بن عبد الجبار، أبو المظفر السَّمعاني، الإمام العلامة، مفتي خرسان، وشيخ الشافعية، كان من أكابر أهل السنة، وله في التفسير كتاب، وقد طُبِعَ، توفي سنة (489). ينظر: سير أعلام النبلاء (114 - 119)، وطبقات الشافعية، للسبكي (5:335 - 336).
(3) تفسير القرآن، للسمعاني، تحقيق: ياسر إبراهيم وغنيم عباس (1:150).
(4) ينظر: مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور (ص:47).
(5) أمَّا إذا كانت عبارة المفسِّرِ لا تدلُّ على صراحة السببيةِ، وكانت عبارتُه مما يدلُّ على أنَّه أرادَ التمثيلَ لمن يشملهم الخطاب، فإنَّ التفسير بغيرِه لا يُعدُّ مخالفةً ما دامت تحتملُه الآيةُ.
(1/638)
________________________________________
والمقصودُ أنَّ المفسِّرَ إذا جَهِلَ سَبَبَ النُّزولِ، فإنَّه قدْ يَحْمِلُ الآيةَ على مُحْتَمَلٍ لُغَويِّ، ويكونُ المعنى اللُّغويُّ الذي فسَّرَ به غيرَ مقصودٍ، ودليلُ عَدَمِ قَصْدِهِ سببُ النُّزولِ، أو قصَّةُ الآيةِ (1). ومنْ أمثلةِ ذلكَ:
ما وردَ في تفسيرِ تثبيتِ الأقدامِ من قولِ اللهِ تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، قالَ أبو عبيدةَ (ت:210): «مجازه: يُفرِغ عليهم الصبر، ويُنْزِلُه عليهم، فيثبتون لعدوِّهم» (2).
وقِصَّةُ نزولِ الآيةِ تدلُّ على أنَّ المعنى اللُّغويَّ الَّذي ذَكَرَه غيرُ مرادٍ، وأنَّ المُرادَ: يُثَبِّتُ أقدامَهم التي يمشونَ بها على الرَّمْلِ كي لا تَسوخَ فيه، كما وردتْ بذلكَ الرِّوايةُ عنِ السَّلَفِ، منها ما قالَ ابنُ عباسٍ (ت:68): «وذلك أنَّ المشركينَ من قريشٍ لما خرجوا لينصروا العيرَ ويقاتلوا عنها، نزلوا على الماءِ يومَ بدرٍ، فغلبوا المؤمنينَ عليه فأصابَ المؤمنينَ الظَّمأُ، فجعلوا يُصَلُّونَ مُجنِبين مُحدثينَ، حتى تعاظَم ذلك في صدورِ أصحابِ رسول صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل اللهُ من السَّماءِ ماءً حتى سالَ الوادي، فشرِبَ المسلمونَ، وملأوا الأسقيةَ، وسَقَوا الرِّكابَ، واغتسلوا من الجنابةِ، فجعلَ اللهُ في ذلكَ طهوراً، وثبَّتَ الأقدامَ وذلكَ أنه كانت بينهم وبين القومِ رَمْلَةٌ، فبعث اللهُ عليها مطراً، فضربها حتَّى اشْتدَّتْ، وثبتتْ عليها الأقدامُ» (3).
قالَ الطَّبريُّ (ت:310): «وقد زعمَ بعضُ أهلِ العِلْمِ بالغريبِ من أهلِ
_________
(1) سبق ذكر مثال في الفصل الأول من هذا الباب، وهو تفسير قوله تعالى: ... {وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.
(2) مجاز القرآن (1:242).
(3) ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (13:424).
ثمَّ ينظر الرواية عن: عروة بن الزبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن إسحاق، وابن زيد في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (13:424 - 427)، وتفسير ابن أبي حاتم (5:1665 - 1667).
(1/639)
________________________________________
البصرةِ، أنَّ مجازَ قوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}: ويُفْرِغ عليهم الصَّبَر، ويُنْزِلُه عليهم، فيثبتونَ لعدوِّهم. وذلكَ قَولٌ خِلاَفٌ لِقَولِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وحَسْبُ قولٍ خطأً أنْ يكونَ خلافاً لقولِ منْ ذَكَرْنَا. وقدْ بيَّنَّا أقوالَهم فيه، وأنَّ معناه: ويُثَبِتَ أقدامَ المؤمنينَ بتلبيدِ المطرِ الرَّمْلَ حتَّى لا تَسُوخَ فيه أقدامُهم وحوافرُ دوابِّهم» (1).
3 - مخالفة تفسير السَّلف:

لقدْ كانَ الاعتمادُ على اللُّغةِ، وإهمالُ الواردِ عن السَّلفِ من التَّفسيرِ اللُّغويِّ أحدَ أسبابِ مخالفةِ تفسيرِ السَّلفِ، وقدْ يكونُ القولُ مما لا تحتملُه الآيةُ مع قولِ السَّلفِ (2)، ومن ذلك:
ما وردَ في تفسيرِ السَّلوى من قولِهِ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، فالسَّلوى: طَيرٌ، بإجماعٍ منْ مفسري السَّلفِ، وإن اختلفوا في صفته (3).
_________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (13:427 - 428).
(2) من الأمثلة في هذا: تفسير أبي عبيدة لقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]، مجاز القرآن (1:308 - 309)، وقد ردَّ عليه أبو عبيد القاسم بن سلام، ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:71).
وتفسيره لقوله تعالى: {وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} [يوسف: 49]، مجاز القرآن (1:313 - 314)، وينظر تفسير الطبري، ط: الحلبي (16:131 - 132)، فقد ردَّ عليه.
وتفسيره لقوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]، مجاز القرآن (1:381 - 382)، وقد ردَّ ابن قتيبة عليه في كتابه غريب القرآن (ص:255 - 257).
وتفسير قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] على ما حكاه قطرب في الأضداد (ص:177)، وينظر الردَّ على هذا المعنى المحكي في أضداد ابن الأنباري (ص:323)، وقد سبق نقاش بعض هذه الأمثلة في هذا البحث.
(3) ينظر: المحرر الوجيز (1:305). وقد وردت الرواية عن: ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة، من رواية السدي، وعن الشعبي، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، ووهب، والسدي، وابن زيد. تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:96 - 97)، =
(1/640)
________________________________________
ونُقِلَ عنْ مُؤَرِّجٍ (ت:195)، أحدِ علماءِ اللُّغةِ: أنَّه العَسَلُ، واستدلَّ له بقولِ الهُذَلِيِّ (1):
وَقَاسَمَهَا بِاللهِ جَهْداً لأنْتُمُ ... ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذا مَا نَشُورُهَا
وذكرَ أنَّه كذلكَ بِلُغَةِ كِنَانَةَ (2)، وسُمِّيَ العسلُ بالسَّلوى؛ لأنه يُسْلَى به (3).
وكَونُ السلوى في لغةِ العربِ: العَسَلُ، لا يلزمُ منه صحَّةُ حملِه على معنى السَّلْوَى في الآية، قالَ ابنُ الأعرابيِّ (ت:231): «والسَّلوى: طائرٌ، وهو ـ في غيرِ القرآنِ ـ العَسَلُ» (4).
وهذا هو الحقُّ. ولو أردتَ أن تحملَ الآيةَ على المعنيينِ، فإنَّ الآيةَ لا تحتملُهما معاً، ولذا يتعيَّنُ حملُها على أحدِهما، ولا شكَّ أنَّ الأولى حملُها على الواردِ عنِ السَّلفِ.
ومنْ هذا المثالِ يتَّضِحُ أنَّ بعضَ المحتملاتِ اللُّغويَّةِ لا يمكنُ أنْ يحتملَها المعنى في الآيةِ، كما سبقَ بيانُه في القاعدةِ السابقةِ، واللهُ أعلمُ.
وبعدَ هذه الأمثلةِ أرجعُ إلى مناقشةِ بعضِ من زعم الاكتفاءَ بلغةِ العربِ في فهم التَّفسيرِ، فأقول: قال أبو حيَّان (ت:745): «ومن أحاط بمعرفةِ مدلول الكلمةِ وأحكامِها قبلَ التَّركيبِ، وعَلِمَ كيفيَّةَ تركيبِها في تلكَ اللُّغةِ، وارتقى إلى تمييزِ حُسنِ تركيبها وقُبحِه، فلن يحتاجَ في فَهمِ ما تركَّبَ من تلكَ الألفاظِ
_________
= وزاد ابن أبي حاتم ذِكْرَ الروايةِ عن الضحاك، والحسن، وعكرمة. ينظر تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أحمد الزهراني (ص:178 - 179).
(1) البيتُ لخالد بن زهير الهُذلي في قصيدة له في ديوان الهذليين (1:158).
(2) ذكره الثعلبي بسنده في تفسيرِه الكشف والبيان، مخطوط، نسخة المكتبة المحمودية، بمكتبة المدينة المنورة العامة (لوحة:69).
(3) ينظر: تفسير القرطبي (1:407).
(4) تهذيب اللغة (13:68).
(1/641)
________________________________________
إلى مُفهِّمٍ ولا معلِّمٍ، وإنَّما تفاوتَ النَّاسُ في إدراكِ هذا الذي ذكرناه، فلذلكَ اختلفتْ أفهامُهم، وتباينتْ أقوالُهم.
وقد جرينَا الكلامَ يوماً مع بعضِ من عاصَرَنا، فكانَ يزعمُ أنَّ علمَ التَّفسيرِ مضطرٌّ إلى النَّقلِ في فهم معاني تراكيبِه بالإسناد إلى مجاهد وطاووس وعكرمة وأضرابِهم، وأنَّ فَهْمَ الآياتِ متوقِّفٌ على ذلكَ.
والعجبُ له أنَّه يرى أقوالَ هؤلاءِ كثيرةُ الاختلافِ، متباينةُ الأوصافِ، متعارضةٌ، ينقضُ بعضُها بعضاً ... وكان هذا المعاصرُ يزعمُ أن كل آيةٍ نقل فيها التَّفسير خلف عن سلف بالسند إلى أن وصل إلى الصحابة، ومن كلامه أنَّ الصحابةَ سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسيرها هذا (1) ...» (2).
_________
(1) هذا المذهبُ الذي يحكيه قريبٌ من رأي معاصره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد طرحه في المقدمة المسماة مقدمة في أصول التفسير، وبغية المرتاد (ص:330 - 332)، وغيرها.
(2) البحر المحيط، بعناية الشيخ عرفات العشا حسونة (1:13).
أمَّا اضطرارُ فهم القرآنِ بالرجوعِ إلى تفسيرِ هؤلاء السلفِ، وجعله حجة يُحتكمُ إليه، فهذا هو الصحيحُ، وإلاَّ لأطلقَ كل عالمٍ باللغةِ، أو متعالمٍ عنانه في تأويل القرآنِ دونَ قيدٍ أو ضابطٍ، سوى فهم العربيَّةِ، وهذا غيرُ صحيحٍ البتَّةَ.
أمَّا قولُه بأنَّ أقوالَهم متعارضةُ، فلو كان غيرُ أبي حيَّانَ قالها!
إنَّه بعلمِه بالعربيَّة يُمكنُ أنْ يؤلِّف بين أقوالِهم ويجمع بينها، ويظهر له اتِّفاقها، لا تباينها وافتراقَها، ومن عِلم أسباب الاختلافِ وتنوُّعه، وتمرَّسَ فيهما، هان عليه ما يرى من اختلافِ السلف، وسَهُلَ عليه معرفةُ التَّفسيرِ.
ثُمَّ يُقالُ له: هل هؤلاءِ المختلفونَ يعلمونَ العربيَّةَ ويفسِّرونَ بها؟
فإن كانوا لا يعلمونها ـ وهذا غير صحيحٍ ـ فقد فسَّروا القرآنَ بآرائهم من دونِ علمٍ.
وإن كانوا يعلمونها، وهذا هو الحقُّ، فإنَّ المفسِّرَ محتاجٌ إلى معرفة أقوالهم، وقد أشار إلى معرفتهم باللسانِ (1:25 - 26) بقوله: «ومن المتكلمين في التفسير من التابعين: الحسن بن أبي الحسن، ومجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وعلقمة، والضحاك بن مزاحم، والسُّدِّيُّ، وأبو صالح ... وكانت تآليفُ المتقدمين أكثرها، إنما هو شرح لغة، ونقل سبب، ونسخ، وقصص؛ لأنهم كانوا قريبي عهد بالعرب وبلسان العرب. فلما فسد اللسان، وكثرت العجم، ودخل في دين الإسلام أنواع =
(1/642)
________________________________________
ويظهر أنَّ تخصُّصَ أبي حيَّانَ (ت:745) العلميَّ قد أثَّرَ عليه في هذه النَّظريَّةِ التي تبنَّاها، وهي، وإن كانَ فيها جانبٌ من الصِّحَّةِ (1)، أنَّها ليستْ على هذا الإطلاقِ الَّذي ذكرَه، بل الصوابُ أنَّ اللُّغةَ مصدرٌ من مصادرِ التَّفسيرِ، وهي وإن كانت من أكبرِ مصادرِه إلاَّ أنَّها لا يُمكن أن تستقِلَّ بفَهمِ القرآنِ، قال القرطبيٌّ (ت:671) (2) مشيراً إلى ذلك: «... فمن لم يُحكِمْ ظاهرَ التَّفسيرِ، وبادرَ إلى استنباط المعاني بمجردِ فهمِ العربيَّةِ، كَثُرَ غلطُه، ودخلَ في زمرة من فسَّرَ القرآنَ بالرَّأي.
والنَّقلُ والسَّماعُ لا بدَّ له منه في ظاهرِ التَّفسيرِ أوَّلاً؛ لِيَتَّقِيَ به مواضعَ الغلطِ، ثُمَّ بعدَ ذلك يتسعُ الفهمُ والاستنباطُ.
والغرائبُ التي لا تفهمُ إلا بالسَّماعِ كثيرةٌ، ولا مطمعَ في الوصولِ إلى الباطنِ قبلَ إحكامِ الظَّاهرِ؛ ألاَ تَرَى أنَّ قولَه تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 50] معناه: آيةً مبصرةً، فظلموا أنفسَهم بقتلِها؛ فالنَّاظرُ إلى ظاهرِ
_________
= الأمم المختلفو الألسنة، والناقصو الإدراك، احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى، من غرائب التركيب، وانتزاع المعاني، وإبراز النكات البيانية، حتى يُدركَ ذلك من لم تكن في طبعه، ويكتسبها من لم تكن نشأته عليها، ولا عنصره يحرِّكه إليها، بخلاف الصحابة والتابعين من العرب، فإنَّ ذلك كان مركوزاً في طباعهم، يدركون تلك المعاني كلَّها، من غير موقِّفٍ ولا معلِّمٍ؛ لأنَّ ذلك هو لسانهم وخطتهم وبيانهم ...».
فَمن كان هذا وَصْفَهُم عنده، ألا يحتاجُ إلى أقوالِهم من أرادَ معرفةَ التَّفسيرِ؟!
بلى، هو محتاجٌ إليهم أشدَّ الاحتياجِ، وإن كان مُتقِناً علمَ العربيَّةِ كأبي حيان.
(1) إن مناقشة ما ذكره أبو حيان عن معاصره وما نقده فيه يحتاج إلى مكان أوسع من هذا، وإنما ذكرتُ ما يتعلق بالبحثِ، والله الموفقُ.
(2) محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري، أبو عبد الله القرطبي، الفقيه المفسر، الزاهد، له في التفسير: الجامع لأحكام القرآن، وهو من أجلِّ كتب التفسير، توفي القرطبي سنة (671) بمصر. ينظر: الديباج المذهب (ص:317 - 318)، ومعجم المفسرين (2:479).
(1/643)
________________________________________
العربيَّةِ يظنُّ أنَّ المرادَ به: أنَّ النَّاقَةَ كانت مبصرةً، ولا يدري بماذا ظلموا، وأنَّهم ظلموا غيرَهم وأنفسِهم، فهذا من الحذفِ والإضمارِ» (1).
ولهذا عدَّ شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة (ت:728) الاعتمادَ على اللُّغةِ وحدها أحد أسباب الخطأ (2)، وهذه ظاهرٌ في الأمثلةِ السَّابقةِ، واللهُ أعلمُ.
دعوةٌ معاصرة:
يقربُ من الزَّعمِ باكتفاءِ علمِ العربيَّةِ عن غيرِه في فهمِ القرآنِ، وما نادى به أمين الخولي فيما سمَّاه: التَّفسيرَ الأدبيَّ للقرآنِ، الذي أهملَ فيه مصادرَ التَّفسيرِ، ورأى دراسةَ القرآنِ على أنَّه نصٌّ عربيٌ، يحقُّ لأيِّ عربيٍّ كائناً من كانَ في معتقدِه، يحقُّ له أنْ يدرسَه درساً أدبيًّا، ومما قالَه بهذا الصَّدَدِ تحت عنوانِ (القرآنُ كتابُ العربيَّةِ الأكبرُ) ما يأتي:
قال: «... فالعربيُّ القُحُّ، أو من ربطته بالعربيَّةِ تلك الروابطُ، يقرأ هذا الكتابَ الجليلَ، ويدرسُه أدبياً، كما تدرسُ الأممُ المختلفةُ عيونَ آدابِ اللُّغاتِ المختلفةِ، وتلكَ الدِّراساتُ الأدبيَّةُ لأثرٍ عظيمٍ كهذا القرآنِ هي ما يجبُ أن يقومَ به الدارسونَ أوَّلاً وفاءً بحقِّ هذا الكتابِ، ولو لم يقصدوا الاهتداءَ به، أو الانتفاعَ بما حوى وشمل، بل هي ما يجبُ أن يقومَ به الدارسونَ أوَّلاً، ولو لم تنطو صدورهم على عقيدةِ ما فيه، أو انطوتْ على نقيضِ ما يردِّدُه المسلمونَ الذين يعدُّونَه كتابَهم المقدَّسَ، فالقرآنُ كتابُ الفنِّ العربيِّ الأقدسِ، سواءٌ أنظرَ إليه الناظِرُ على أنَّه كذلك في الدِّينِ أم لا.
وهذا الدرسُ الأدبيُّ للقرآنِ في ذلك المستوى الفنِّي، دون النظر إلى أيِّ اعتبارٍ دينيٍّ، هو ما نعتدُّه وتعتدُّه معنا الأممُ العربيَّةُ أصلاً، العربيَّةُ اختلاطاً؛ مقصداً أوَّلَ، وغرضاً أبعد، يجبُ أن يسبقِ كلَّ غرضٍ، ويتقدَّمُ كلَّ مقصدٍ.
_________
(1) تفسير القرطبي، ط: دار الكتب المصرية (1:34).
(2) ينظر: مقدمة في أصول التَّفسير، تحقيق: عدنان زرزور (ص:79 - 81).
(1/644)
________________________________________
ثمَّ لكلِّ ذي غرضٍ أو صاحبِ مقصدٍ ـ بعد الوفاء بهذا الدرسِ الأدبيِّ ـ أن يعمدَ إلى ذلكَ الكتابِ، فيأخذَ منه ما يشاءُ، ويقتبسَ منه ما يريدُ، ويرجع إليه فيما أحبَّ من تشريعٍ، أو اعتقادٍ أو أخلاقٍ، أو إصلاحٍ اجتماعيٍّ، أو غير ذلك.
وليسَ شيءٌ من هذه الأغراضِ يتحقَّقُ على وجهه إلا حينَ يعتمدُ على تلك الدراسةِ الأدبيَّةِ لكتابِ العربيَّةِ الأوحدِ، دراسةً صحيحةً مفهمةً له (1)، وهذه الدراسةُ هي ما نُسمِّيه اليوم تفسيراً؛ لأنَّه لا يمكنُ بيانُ غرضِ القرآنِ ولا فهم معناه إلاَّ بها ...» (2).
وقد طرح نظريَّتَه في التَّطبيقِ لهذا المنهجِ، وتتلخَّصُ فيما يأتي:
1 - دراسة المفردات دراسةً لغويَّةً.
2 - دراسة استعمال القرآن للمفردة، بتتبع مواردها فيه، واستنباطِ معناها منه.
3 - دراسة المركَّبات ـ أي: الجمل ـ ويستعينُ في ذلك بالعلوم الأدبيَّةِ من نحو وبلاغة ...
4 - مراعاة التفسير النفسي؛ لأنَّ الفنونَ ـ ومن بينها الأدبُ ـ ليست إلاَّ ترجمة لما تجده النفس (3).
وإذا ما تأمَّلتَ في هذه النَّظريَّةِ الجديدةِ التي يظهرُ على مُحيَّاها صعوبةُ التَّطبيقِ، وجدتَها تخلو من الاعتمادِ على مصادرِ التَّفسيرِ الأصيلةِ، سوى اللُّغةِ التي لم تسلمْ كُتُبها من نقدِه أيضاً (4).
_________
(1) هل يعني هذا أنَّ ما استفاده المسلمونَ منه منذ فجر النبوةِ إلى عصره من أخلاق وعقائد وغيرها، غير كاملٍ، فهم لم يدرسوه على هذه النظرية الخولية!
(2) التفسير: نشأته ـ تدرجه ـ تطوره، لأمين الخولي (ص:77 - 79).
(3) ينظر: التفسير: نشأته ـ تدرجه ـ تطوره، لأمين الخولي (ص:84 - 100).
(4) ينظر: التفسير: نشأته ـ تدرجه ـ تطوره، لأمين الخولي (ص:93 - 94).
(1/645)
________________________________________
ولقد حاولتْ تلميذتُه في هذا المنهجِ الدكتورة عائشة عبد الرحمن، المعروفة ببنت الشاطئ، حاولت أن تُطبِّقَ هذا المنهج، فظهرَ جليًّا ازدراءُ هذا المنهجِ للمصادرِ الأخرى في التَّفسيرِ، وإليكَ هذا المثالُ الذي يوضِّحُ ذلك:
وفي تفسير سورة الضُّحى، تقول بنتُ الشَّاطئ ـ بعد أن ساقت الرِّواياتِ في سبب النُّزولِ ـ «ولا نقفُ عند ما اختلفوا فيه، فأسبابُ النُّزولِ لا تعدو أن تكونَ قرائنُ مما حولَ النَّصِّ، وهي باعترافِ الأقدَمينَ أنفسهم لا تخلو من وهمٍ، والاختلافُ فيها قديمٌ، وخلاصةُ ما انتهى إليه قولهم في أسباب النُّزولِ: أنها ما نزلت إلاَّ أيَّامَ وقوعهِ، وليسَ السَّببُ فيها بمعنى السببيَّةِ الحُكميَّةِ العلِّيَّةِ» (1).
فانظرْ عدمَ اعتدادِها بما يحفُّ النَّصَّ من ملابساتٍ، وعدمَ تحريرها في أسبابِ النُّزولِ، وعدمَ فهمِها لها، ويظهر ذلك بهذه النتيجةِ التي وصلتْ إليها في الحكم على ما توصَّل إليه الأقدمونَ بزعمِها.
وإذا قرأتَ في ما كتبته في التَّفسيرِ الأدبيِّ، ظهرَ لك جليًّاً أنَّ هذه الدِّراسةَ لا تعتدُّ إلاَّ بما تتوصَّلُ إليه هي، معتمدةً على اللُّغةِ في تحليلِ ألفاظِ الآيِ، غير آبِهةٍ بمصادر التَّفسيرِ الأخرى، فلا تجد عندها إلاَّ الإزراء بتفاسيرِ السَّلفِ ونقدها، ومن ذلك أنها ذكرت ما ورد في تفسيرِ قوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 2]، ثُمَّ قالتْ: «واستعمالُ الزِّيارةِ بهذا المعنى صريح الإيحاءِ بأنَّ الإقامةَ في القبر ليست دائمةً، وإنما نحن فيها زائرون، والزائرُ غيرُ مقيمٍ، وسوف تنتهي الزِّيارةُ حتماً إلى بعثٍ وحسابٍ وجزاءٍ، وهذا الإيحاءُ ينفردُ به لفظُ «زرتُم» دونَ غيرِه، فلا يُمكنُ أن يؤدِّيه لفظٌ آخرُ؛ كأن يقال: صرتم، أو رجعتم، أو انتهيتم، أو أُبتم، أو أُلتم.
وليس القبرُ المصيرَ والمرجعَ والمآبَ والمآل، كما لا يقال: سكنتم
_________
(1) التفسير البياني للقرآن الكريم (1:23).
(1/646)
________________________________________
المقابر، أو أقمتم بها إلى غير ذلك من ألفاظ تشتركُ كلُّها في الدلالةِ على ضجعةِ القبرِ، ولكن يعوزها سرُّ التَّعبيرِ الدَّالِّ على أنها زيارةٌ؛ أي: إقامةٌ عابرةٌ مؤقَّتةٌ، يعقبها بعث ونشورٌ.
وليسَ بعجيبٍ أن يفوتَ هذا السِّرُ البيانيُّ مفسِّرينَ كان جهدُهم أن يجمعوا كل ما يُمكنُ أن تحتملَه الدلالاتُ المعجميَّةُ لزيارةِ المقابرِ، وشتَّى المرويَّاتِ في تأويلها.
حتَّى الذين فسَّروا الزيارة بالموت هنا، لم يلتفتوا إلى سرِّه البيانيِّ، وهو ما لم يَفُتْ أعرابياً سمع الآيةَ، فقال: بُعِثَ القومُ للقيامةِ وربِّ الكعبةِ، فإنَّ الزائرَ منصرفٌ لا مقيمٌ، ورُوِيَ كذلك عن عمر بن عبد العزيز نحوٌ من قول الأعرابيِّ ...» (1).
إنَّ المطالبةَ بدراسةِ القرآنِ على أنَّه نصٌّ عربيٌّ، وتفريغَه من المحتوى الشرعيِّ الذي يُحيطُ به = دعوةٌ باطلةٌ زائفةٌ مغرضةٌ، ليس قصدُ أصحابِها إلاَّ الهدمَ والنَّخرَ في جسمِ هذه الأمَّةِ، ومحاولةَ النيلِ من تراثِها الفكريِّ الذي يُمثِّلُ لها ثباتاً في القيمِ والأخلاقِ والعقائدِ (2)، وهذه الدَّعوى تحتاجُ إلى بسطٍ أكبرَ من هذا المبحثِ، وإنما ذكرتُها للتَّنبيهِ عليها.
قاعدةُ ناشئةٌ على القاعدةِ السابقةِ:
وينشأ عن هذه القاعدة قاعدةٌ أخرى، وهي: ليس كلُّ ما وردَ في اللُّغةِ يلزمُ أن يكونَ وارداً في القرآنِ.
ويمكن القول: كلُّ ما في القرآنِ، فهو عربيٌّ، وليسَ كلُّ استعمالٍ عربيٍّ
_________
(1) التفسير البياني للقرآن الكريم (1:200).
(2) ينظر ـ مثلاً لذلك ـ ما كتبه الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، ط: الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد ذكر نظريَّة أمين الخولي وأشاد بها واعتمدها، ينظر (ص:22).
(1/647)
________________________________________
في القرآنِ، وأغلبُ ما يقعُ ذلك في الأساليبِ الكلاميَّةِ العربيَّةِ، ومن أمثلةِ ما نصَّ عليه علماءُ العربيَّةِ في ذلك:
* قال ابن قتيبةَ (ت:286): «ومن المقلوبِ ما قُلبَ على الغلطِ؛ كقولِ خِداش بن زُهيرٍ (1):
وتُرْكَبُ خَيلٌ لا هَوَادَةَ بَينَهَا
وَتَعصِي الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الحُمْرِ
أي: تعصي الضيَّاطِرةُ بالرِّماحِ، وهذا ما لا يقعُ فيه التَّأويلُ؛ لأنَّ الرِّماحَ لا تعصي الضَّياطرةَ، وإنما يعصي الرِّجالُ بها؛ أي: يطعنون ...
وكانَ بعضُ أصحابِ اللُّغةِ يذهبُ في قولِ اللهِ تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] إلى مثلِ هذا في القلبِ، ويقولُ: وقعَ التَّشبيهُ بالرَّاعي في ظاهرِ الكلامِ، والمعنى للمنعوقِ به، وهو الغنم.
وكذلكَ قولِ اللهِ تباركَ وتعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]؛ أي تنهضُ بها وهي مُثقَلةٌ.
وقالَ آخرُ في قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]؛ أي: وإنَّ حبَّه للخيرِ لشديدٌ.
وفي قوله سبحانه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]؛ أي: اجعل المتَّقينَ إماماً لنا في الخيرِ.
_________
(1) خداش بن زهير بن ربيعة، من هوازن، شاعر مشهور من شعراء قيس المجيدين، شَهِدَ حرب الفجارِ، وسجَّل كثيراً من أحداثها في شعره، ينظر: معجم الشعراء الجاهليين (ص:121)، ومعجم الشعراء (ص:81 - 82).
والبيت في مجاز القرآن (2:110)، والكامل في الأدب، تحقيق: الدالي (2:580)، وجمهرة أشعار العرب (2:519)، وغيرها من المصادر.
والهوادة: الموادعة. والضياطرة: جمع ضيطر، وهو الضخم اللَّئيم.
(1/648)
________________________________________
وهذا ما لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَحكُمَ به على كتابِ اللهِ عزّ وجل لو لم يجد له مذهباً؛ لأنَّ الشَّعراءَ تقلبُ اللَّفظَ، وتُزيلُ الكلامَ على الغلطِ، أو على طريقِ الضَّرورةِ للقافيةِ، أو لاستقامةِ وزنِ البيتِ، فمن ذلك قولُ لبيد (1):
نَحْنُ بَنُو أُمِّ البَنِينَ الأرْبَعة ... ......
قال ابن الكلبي (2): هم خمسة، فجعلهم للقافية أربعة ...» (3).
* وفي قوله تعالى: {إِنْ نَشَا نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] قال الزَّجَّاج (ت:311): «وذكر بعضهم وجهاً آخرَ، قالوا: فظلَّتْ أعناقُهم لها خاضعينَ هم، وأضمر «هم»، وأنشدَ (4):
تَرَى أرْبَاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا ... إذَا صَدِئَ الحَدِيدُ عَلَى الحُمَاةِ
وهذا لا يجوزُ في القرآنِ، وهو على بدلِ الغلطِ يجوزُ في الشِّعرِ؛ كأنَّه قالَ: يرى أرباقَهم يرى متقلديها؛ كأنَّه قال: يرى قوماً متقلِّدينَ أرباقَهم، فلو كان على حذفِ «هم»، لكانَ مما يجوزُ في الشِّعرِ أيضاً» (5).
والواجبُ في حملِ القرآنِ على أساليب العرب = أخذُ الحيطةِ، وعدمُ العجلةِ في ذلكَ؛ لأنَّه قد يَحْمِلُ البلاغيُّ ما جاءَ في القرآنِ على الأساليبِ
_________
(1) البيت في ديوانه بشرح الطوسي، تحقيق: حنا نصر (ص:109). وقد سبق ذكر هذا البيت عند الحديث عن معاني القرآن للفراء في مصادر التفسير اللغوي.
(2) هشام بن محمد بن السائب، أبو المنذر الكلبي، النَّسَّابة، أخذ عن أبيه المفسِّرِ، وعن غيرِه، وحدَّث عنه محمد بن سعد صاحب الطبقات وغيره، كان صاحب نسبٍ وسَمَرٍ، ليس بثقةٍ في الحديثِ، له كتابُ في أنساب العربِ، مات سنة (204). ينظر: تاريخ بغداد (14:45 - 46)، ولسان الميزان (4:304 - 305).
(3) تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، تحقيق: السيد أحمد صقر (ص:198 - 205) بتصرف، وقد أجاب عن كلِّ آيةٍ ذكرها، بما لا يصلح معه ادعاءُ القلبِ.
(4) البيت للفرزدق، وقد مضى تخريجه، ينظر (ص:343)، وفيه «الكماة» بدل «الحماة».
(5) معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (4:83).
(1/649)
________________________________________
العربيَّةِ في الخطابِ، والأمرُ ليسَ كما ذهبَ إليه (1)، بل قد يتعدَّى الأمرُ إلى الاستشهادِ به في المحسِّناتِ اللَّفظيَّةِ المذكورةِ في علمِ البديعِ، وهذا فيه مزلَّةٌ وقولٌ بالرَّأي على كتابِ اللهِ.
وقد انتقدَ الشَّاطبيُّ (ت:790) هذا المسلكَ، فقال: «... وإنما المنكرُ الخروجُ في ذلك إلى حدِّ الإفراطِ الذي يُشكُّ في كونِه مرادَ المتكلِّمِ، أو يُظَنُّ أنَّه غيرُ مرادٍ، أو يُقطعُ به فيه؛ لأنَّ العربَ لم يُفهمْ منها قصدُ مثلِه في كلامِها، ولم يشتغل بالتَّفقُّه فيها سلفُ هذه الأمَّةِ، فما يُؤمننا من سؤالِ اللهِ تعالى لنا يومَ القيامةِ: من أينَ فهمتمْ عنِّي أنِّي قصدتُ التَّجنيسَ الفلانيَّ بما أنزلتُ من قولي: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، أو قولي: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]، فإنَّ في دعوى مثل هذا على القرآنِ، وأنَّه مقصودٌ للمتكلِّمِ به خطراً، بل هو راجعٌ إلى معنى قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وإلى أنَّه قولٌ في كتابِ اللهِ بالرَّأي.
وذلكَ بخلافِ الكنايةِ في قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43، المائدة: 6]، وقوله: {كَانَا يَاكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، وما أشبَه ذلك، فإنَّه شائعٌ في كلامِ العربِ، مفهومٌ في مساقِ الكلامِ، معلومٌ اعتبارُه عندَ أهلِ اللَّسانِ ضرورةً. والتَّجنيسُ ونحوهُ ليسَ كذلكَ، وفرقُ ما بينهما خدمةُ المعنى المرادِ وعدَمُه، إذ ليسَ في التَّجنيسِ ذلك.
والشَّاهدُ على ذلكَ ندورهُ عن العربِ الأجلاف البوَّالينَ على أعقابِهم ـ كما يقولُ أبو عبيدةَ ـ (2)، ومن كان نحوَهم، وشهرةُ الكنايةِ وغيرِها، ولا تكادُ
_________
(1) ينظر مثالاً تطبيقيًّا في ردِّ وجود التوريةِ في القرآنِ في كتاب «التورية وخلو القرآن الكريم منها»، للدكتور: محمد جابر فياض.
(2) يقصد عبارة: «الأعراب البوَّالين على أعقابهم»، فقد قالها أبو عبيدة للجرمي، ينظر: طبقات النحويين واللغويين (ص:176).
(1/650)
________________________________________
تجدُ ما هو نحو التَّجنيسِ إلاَّ في كلامِ المولَّدينَ ومن لا يُحتجُّ به» (1).
والمقصود من ذلك أنَّه لا يلزمُ من كونِ هذا الأسلوب وارداً عند العربِ في مخاطباتِها وكلامِها، أنْ يُحملَ عليه شيءٌ من آيات القرآنِ، بل لو صحَّ حملُ آيةٍ على أسلوبٍ، فإنَّه لا يلزمُ منه صحَّةُ حملِ هذا الأسلوبِ في آيةٍ قرآنيَّةٍ أخرى، كأسلوبِ المشاكلةِ (2) في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، فسمَّى الثَّانية سيئةً لأجل مشاكلةِ الأولى باللَّفظِ لا المعنى.
وصِحَّةُ هذا الأسلوبِ هنا، لا تكونُ دليلاً على صحَّتِه في مثلِ قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] أو غيرِها من صفاتِ الله التي لم ترد ابتداءً، بل هي مقابل عملٍ من أعمال الكفار، كالمكر والخداعِ، فإنها تُحملُ على الحقيقةِ، ولا يصحُّ تأويلُها، والله أعلمُ.
_________
(1) الموافقات، تحقيق محيي الدين عبد الحميد (3:277 - 278).
(2) ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير. ينظر: التبيان في علم المعاني والبديع والبيان، للطيبي (ص:347)، ومعجم البلاغة العربية، لبدوي طبانة (ص:312).
(1/651)
________________________________________
رابعاً لا تعارض بين التفسير اللَّفظي والتفسير على المعنى
تَادِيَةُ المعاني تكونُ بألفاظٍ مقاربةٍ للَّفظِ المفسَّرِ، لكي يبينَ المرادُ منه، هذا هو الأصلُ، وهو التَّفسيرُ اللَّفظيُّ الذي تسيرُ عليه معاجمُ اللُّغةِ، ولكن المفسِّرَ قد يتركُ هذا الأسلوبَ لحاجةٍ تدعوه لذلك، فيسلكُ التَّفسيرَ على المعنى، أو يسلكُ التَّفسيرَ على القياسِ، ولا بُدَّ أن يكونَ في هذين القسمينِ ارتباطٌ بالأصلِ اللُّغويِّ؛ أي: لا يكونُ بين تفسيرِه بهما وبينَ التَّفسيرِ اللَّفظيِّ تناشُزٌ، بل لا بُدَّ من وجودِ أصلِ التفسيرِ اللَّفظيِّ فيهما، وهذه الأقسامُ الثلاثةُ هي التي يدور عليها تفسيرُ الناس.
قالَ ابن القيِّم (ت:751): «وتفسيرُ النَّاسِ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ: تفسيرٌ على اللَّفظِ، وهو الَّذي ينحو إليه المتأخِّرونَ.
وتفسيرٌ على المعنى، وهو الَّذي يذكرُهُ السَّلفُ.
وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياسِ، وهو الَّذي ينحو إليه كثيرٌ من الصُّوفيَّةِ وغيرِهم» (1).
وإليكَ بيان هذه المصطلحات:

* التفسيرُ على القياسِ والإشَارةِ:
التَّفسيرُ على القياسِ: إلحاقُ معنًى باطنٍ في الآيةِ بظاهرِها الَّذي يدلُّ عليه اللَّفظُ.
_________
(1) التبيان في أقسام القرآن، تحقيق: طه شاهين (ص:51).
(1/652)
________________________________________
والتَّفسيرُ على الإشارةِ يدخلُ في التفسيرِ على القياسِ، كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلامِ ابن تيمية (ت:728)، فقال: «تلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاقِ ما ليس بمنصوصٍ بالمنصوصِ، مثل الاعتبارِ والقياسِ الذي يستعمله الفقهاءُ في الأحكامِ» (1).
وقال أيضاً: «وأمَّا أربابُ الإشاراتِ الذين يُثبتونَ ما دلَّ عليه اللَّفظُ، ويجعلونَ المعنى المُشَارَ إليه مفهوماً من جهةِ القياسِ والاعتبارِ، فحالهم كحالِ الفقهاءِ والعالمينَ بالقياسِ، وهذ حقٌّ إذا كانَ صحيحاً لا فاسداً، واعتباراً مستقيماً لا منحرفاً» (2).
وهذا القسمُ قليلٌ في تفسيرِ السَّلفِ، وإنما كَثُرَ عندَ الصُّوفيَّةِ، كما ذكر ابن القيِّم (ت:751).
وسأذكر لهذا القسم مثالاً لتمامِ الفائدةِ.
من أشهرِ أمثلةِ التَّفسيرِ على الإشارِة، تفسيرُ ابن عباسٍ (ت:68) لسورة النَّصرِ بأنها قربُ أجلِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس (ت:68): «كان عمرُ يدخلني مع أشياخ بدرٍ، فكأنَّ بعضهم وَجَدَ في نفسهِ، فقالَ: لِمَ تُدخِلُ هذا معنا، ولنا أبناءٌ مثلُهُ؟!
فقالَ عمرُ: إنَّه من حيثُ علمتُم.
فدعا ذاتَ يومٍ، فأدخلَه معهم، فما رُئيتُ أنَّه دعاني يومئذٍ إلاَّ ليُريَهم.
فقالَ: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]؟
فقالَ بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفرَه إذا نصرنا وفتحَ علينا. وسكتَ بعضهم، فلم يقل شيئاً.
_________
(1) الفتاوى (6:377).
(2) الفتاوى (2:28)، وينظر: (13:241).
(1/653)
________________________________________
فقال لي: أكذلك تقولُ يا ابن عباس؟
فقلتُ: لا.
قالَ: فما تقولُ.
قلتُ: هو أجلُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه الله له، قال: إذا جاء نصرُ الله والفتحُ، وذلك علامةُ أجلكَ، فسبِّح بحمدِ ربك واستغفره إنه كان توَّاباً.
فقال عمرُ: ما أعلمُ منها إلاَّ ما تقولُ» (1).
ومن أمثلةِ التفسيرِ على القياسِ ما ورد في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمُ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] إنها نزلتْ في الخوارجِ (2).
وإذا نظرتَ إلى سياقِ الآيةِ، وجدتَ أنه في الحديثِ عن بني إسرائيل، كما أنَّ الخوارجَ لم يكونوا عند نزول هذه الآياتِ، وإنما أرادَ المفسِّرُ أنْ يُنِّبه إلى دخولِ الخوارجِ في حكمِ هذه الآيةِ، وأنهم مثالٌ لقومٍ مالوا عن الحقِّ، فأمالَ اللهُ قلوبهم جزاءً وفاقاً لميلِهم، على سبيلِ القياسِ بأمرِ بني إسرائيلَ.
وعلى هذا يُقاسُ ما وردَ عن السلفِ في حكايةِ نزولِ بعض الآياتِ في أهلِ البدعِ، أنهم أرادوا التنبيه على دخولهم في حكم الآيةِ، واللهُ أعلمُ.
_________
(1) أخرجه عنه جماعة من العلماء، منهم البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، ينظر: فتح الباري (8:606 - 607).
وقال ابن حجر في شرحه لهذا الأثر: «وفيه جوازُ تأويلِ القرآنِ بما يُفهمُ من الإشاراتِ، وإنما يتمكَّنُ من ذلك من رَسخت قدمُه في العلمِ، ولهذا قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: أو فهَماً يؤتيه اللهُ رجلاً في القرآنِ». فتح الباري (8:608 - 609).
(2) ورد ذلك عن أبي أمامة، ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (28:86 - 87).
(1/654)
________________________________________
* التَّفسيرُ على اللَّفظِ:
التَّفسيرُ على اللَّفظِ: بيانُ معنى اللَّفظةِ في كلامِ العربِ والاستدلالُ على ذلك بالشواهد إن وُجِدَتْ.
وهذا هو الأسلوبُ الَّذي تسلُكُه معاجمُ اللُّغةِ؛ ككتابِ العينِ، وكتابِ جمهرةِ اللُّغةِ.
وقد سبق الحديث عن التفسيرِ باللَّفظِ (1)، ولا حاجةَ لإعادتِه.

* التَّفسيرُ على المعنى:
التَّفسيرُ على المعنى: بيانُ المرادِ بالآيةِ دونَ النظرِ إلى تحريرِ الألفاظِ في اللغةِ؛ أيْ أنَّ المفسِّرَ لا يلتزِمُ بيانَ المفرداتِ اللغويةِ، بل يذهبُ إلى المعنى المرادِ، ولو بألفاظٍ غيرِ مطابقةٍ لألفاظِ الآية.
وبما أنَّ التفسيرَ اللَّفظيَّ هو تفسيرُ اللَّفظِ بمطابقِه من لغةِ العربِ، فإنَّ ما عداه إنْ لم يكنْ قياساً، فهو التَّفسيرُ على المعنى، وهو أنواعٌ كثيرةٌ، منها:
1 - التَّفسيرُ باللاَّزمِ.
2 - التَّفسيرُ بالمثالِ.
3 - ذكرُ النُّزولِ.
4 - بيان المعنى الإجمالي، دون التَّقيُّد ببيان ألفاظِ الآيةِ.
5 - دلالة اللَّفظِ في سياقها، وهو علم الوجوه والنظائر الذي سبق الحديثُ عنه (2).
وإذا تأمَّلتَ الأمثلةَ الَّتي سأذكرُها، سيتبيَّنُ لك ـ إنْ شاءَ اللهُ ـ أنَّ المفسِّرَ في هذه الأنواعِ يحرصُ على بيانِ المعنى، وإن لم يهتمَّ بتحريرِ مدلولِ اللَّفظِ في لغةِ العربِ.
_________
(1) ينظر مثلاً: (ص:68) من هذا البحث.
(2) ينظر مثلاً: (ص:89) من هذا البحث.
(1/655)
________________________________________
ومن الأمورِ المشكلةِ في هذا المبحث أمرانِ:

الأول: هل يمكنُ معرفةُ التفسيرِ اللَّفظيِّ بواسطةِ التَّفسيرِ على المعنى؟
الثاني: كيف نُفرِّقُ بين التَّفسيرِ على اللَّفظِ والتَّفسيرِ على المعنى في بعضِ أنواعه؟
وقدْ تأمَّلتُ الأمثلةَ التي استخرجتها كثيراً، ونظرتُ فيها، فظهرَ لي صعوبةُ معرفةِ الدلالةِ اللُّغويَّةِ الخاصَّةِ للَّفظِ في كثيرٍ منَ الأمثلةِ، كما ظهرَ لي أنَّ الأمرَ يحتاجُ إلماماً بأصلِ المفردةِ ومعانيها في لغة العرب إذا كانتْ متعدِّدةَ الدلالةِ، وهذا يتحصَّلُ بجهدٍ.
وسأذكرُ مثالينِ في بيانِ هاتينِ المسألتينِ، الأول مشكلٌ والآخرُ متيسِّرٌ.
* المثالُ الأول:
في قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وردَ عن السَّلفِ ثلاثةُ أقوالٍ في معنى هذا الحشرِ:
القولُ الأولُ: جُمِعَتْ، وهو قول قتادةَ (ت:117) (1)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (2).
القولُ الثاني: موتها، قال ابن عباس: (ت:68): «حَشْرُ البهائمِ: موتُها، وحَشْرُ كلِّ شيءٍ: الموتُ، غير الجنِّ والإنسِ، فإنهما يوقفانِ يوم القيامةِ» (3).
وقريبٌ منه قولُ الربيع بن خثيم، قال: «أتى عليها أمرُ الله» (4).
القولُ الثالثُ: اختلطتْ، قاله أُبَيُّ بن كعبٍ الأنصاريُّ (ت: 30) (5).
_________
(1) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:67)، وتفسير ابن كثير (8:331).
(2) ينظر: تفسير ابن كثير (8:331)، وقد نسبه ابن كثير إلى الربيع بن خثيم، وعبارة الربيع كما في الطبري تناسب قول ابن عباسٍ كما سيأتي في القول الذي بعد هذا.
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:67).
(4) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:67).
(5) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:67).
(1/656)
________________________________________
وإذا نظرتَ في هذه الأقوالَ، وجدتَ أنَّ القولَ الأولَ هو المعنى المشهورُ منْ هذه اللَّفظةِ، قالَ ابنُ فارسٍ (ت:395): «وأهل اللغةِ يقولون: الحشرُ: الجمعُ مع سوقٍ، وكلُّ جمعٍ حشرٌ» (1).
أمَّا المعنى الثاني، وهو موتها، فقد حُكِيَ في بعضِ كتبِ اللُّغةِ (2).
وأمَّا المعنى الثالثُ الذي رُوِيَ عن أُبَيِّ بن كعبٍ فلم أجده في كتبِ اللُّغةِ التي بين يديَّ. وهذا التَّفسيرُ هو موطنُ الدراسةِ.
ولكَ في هذا التفسير احتمالان:
الاحتمالُ الأولُ: أنْ تعتمدَ هذا التفسيرَ لغةً، فتجعلَ من معاني الحَشْرِ الاختلاطَ، لورودِ ذلكَ عن عربيِّ صريحٍ، وهو الصَّحابيُّ أُبيُّ بن كعبٍ الأنصاريُّ.
الاحتمالُ الثاني: أنْ تجعلَ هذا التَّفسيرَ من قبيلِ التَّفسيرِ على المعنى، وهو من التَّفسيرِ باللازمِ؛ أي: من لوازمِ الحَشْرِ ـ الذي هو الجمعُ ـ اختلاطُ المحشورينَ بعضِهم ببعضٍ، وبهذا التوجيهِ لا يكونُ معنى الاختلاطِ دلالةً مستقلَّةً، بل هو من لوازم الحَشْرِ، والله أعلمُ.
فأيُّ الاحتمالينِ أَوْلَى؟
_________
(1) مقاييس اللغةِ (2:66)، وينظر: غريب الحديث، للحربي (1:283)، وتفسير الطبري، ط: الحلبي (30:67)، وجمهرة اللغة (1:512)، وشمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، لنشوان الحميري (1:431)، والمجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث، لأبي موسى الأصفهاني (1:452).
(2) لم أجد من اللغويين من اعتمد هذا المعنى في دلالة اللفظِ، وإنما يحكونه بصيغة التمريض (وقيل)، ومن ذلك: كتاب العين (3:92)، وديوان الأدب (2:1545)، وتهذيب اللغة (4:178)، وشمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم (1:431)، وتاج العروس، مادة (حشر).
وقد رواه الفراءُ في معاني القرآن (3:239) بسنده عن عكرمة، وينظره في الصحاح، مادة (حشر).
(1/657)
________________________________________
في مثل هذا المثالِ وأشباهه تظهرُ صعوبةُ معرفةِ دلالةِ اللَّفظِ من خلالِ التَّفسيرِ على المعنى، كما تظهرُ صعوبةِ تحديدِ التَّفسيرِ على اللَّفظِ والتَّفسيرِ على المعنى، والله الموفِّقُ.
*المثال الثاني:
من الأمثلةِ التي يسهل استنباطُ المدلولِ اللُّغويِّ فيه:
ما رُوِيَ عنْ قتادةَ (ت:117) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، قال: «ألم ترَ إلى صاحب البنيان كيف لا يحبُّ أنْ يختلفَ بنيانُه، كذلك تباركَ وتعالى لا يختلفُ أمرُه (1)، وإنَّ الله وصفَ المؤمنينَ في قتالِهِم وصَفِّهِم في صلاتِهم، فعليكم بأمرِ الله، فإنه عصمةٌ لمنْ أخَذ به» (2).
وإذا تأملتَ هذا النَّصَّ التفسيريَّ، فإنه يَدُلُّكَ على أن قتادةَ (ت:117) يرى أنَّ لفظَ: «مرصوص» مأخوذٌ من التَّرَاصِّ؛ أي: الالتزاقِ، لا من الرَّصَاصِ الذي هو الوجهُ الآخرُ في تفسيرِ هذه اللفظةِ (3).
ويحسنُ التنبُّه هنا إلى أمورٍ:
الأولُ: أنه يمكنُ أنْ يقالَ: إنَّ اتِجَاهَ السَّلفِ إلى التَّفسيرِ على المعنى؛ إنَّمَا كانَ؛ لأنَّ بيانَ المرادِ بالقرآنِ كانَ عندَهُم أهَمَّ مِنْ بيانِ لغتِه التي لم تكنْ خافيةً عليهم، ولم يقعْ عندهم اختلافٌ في عربيتِهِ وعربيةِ ما يفسرونَ به.
_________
(1) جاءت هذه الجملة في الدر المنثور (8:147): «فكذلك الله لا يحب أن يختلف أمره».
رواه عبد بن حميد وابن المنذر. وهي أوضح من العبارة التي نقلتُها من تفسير الطبري.
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (28:86).
(3) كذا فسر الفراء ومنذر بن سعيد البلوطي وغيرهما، ينظر: معاني القرآن (3:153)، والمحرر الوجيز، ط: قطر (14:427).
(1/658)
________________________________________
الثاني: أنَّه لا بدَّ من وجودِ ارتباط بين التَّفسيرِ على المعنى والتَّفسيرِ اللَّفظي، كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك في الحديث عن علمِ الوجوهِ والنَّظائرِ عند السَّلفِ.
الثالثُ: أنه لا يلزمُ منَ التَّفسيرِ على المعنى أن يكون خارجاً عن البيانِ اللُّغويِّ؛ لأنَّه يمكنُ أن يُستنبطَ منه كما مضى، وقد نبَّه على ذلك الزَّجَّاجُ (ت:311)، فقال في تفسيرِ الجبِتِ والطاغوتِ: «قال أهلُ اللغةِ: كلُّ معبودٍ من دونِ الله فهو جِبتٌ أو طاغوتٌ.
وقيل: الجِبتُ والطاغوتُ: الكهنةُ والشياطينُ.
وقيل في بعض التفسيرِ: الجِبتُ والطاغوتُ هاهنا: حُييُ بنُ أخطبٍ وكعبُ بنُ الأشرفِ: اليهوديان (1).
وهذا غُير خارجٍ عما قال أهلُ اللغةِ: لأنهم إذا اتبعوا أمرَهما فقد أطاعوهما من دونِ الله عزّ وجل» (2).
وهذا القولُ من الزجاجِ (ت:311) يعني أنه ليس كلُّ قولٍ لا يكون مطابقاً للمعنى اللغوي أنه خارجٌ عن اللغةِ، لكنَّ الوصولَ إلى هذا الارتباط بينهما يحتاجُ إلى معرفةٍ وإلمامٍ بمدلولِ المادةِ، كما هو ظاهرٌ من هذا المثالِ.
وقدْ أشارَ الطبريُّ (ت: 310) في تفسيرِ قولِه تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف: 15] إلى قريبٍ مما أشارَ إليه الزَّجَّاجُ (ت:311)، فقال: «يقولُ أغْرِنِي بشكرِ نعمتِك التي أنعمتَ عَلَيَّ ... وألهمنِي ذلكَ. وأصْلُهُ مِنْ وَزَعْتُ الرَّجُلَ على كذا: إذا دفَعتُه عليه.
_________
(1) ينظر أقوال السلف في تفسير الطبري، ط: الحلبي (5:131 - 133).
(2) معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، تحقيق: عبد الجليل شلبي (2:61)، وينظر له مثالاً آخر (2:168).
(1/659)
________________________________________
وكان ابنُ زيدٍ يقول في ذلك ما حدثني يونس (1)، قال: أخبرنا ابن وهب (2)، قال: قال ابن زيد في قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}، قال: اجعلني أشكرْ نعمتَك. وهذا الذي قالَه ابنُ زيدٍ في قولِه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} وإنْ كانَ يَؤُولُ إليه معنى الكلمةِ، فليسَ بمعنى الإيزَاعِ على الصِّحَّةِ» (3).
ولذا يحسنُ ذِكرُ المعنى اللغويِّ معَ تفسيرِ السَّلفِ ليزدادَ الوضوحُ في التفسيرِ، ولتُعْرَفَ العلاقةُ بين التَّفسيرِ على المعنى والتَّفسيرِ اللغويِّ.
وقدْ أشارَ الواحديُّ: (ت:468) إلى ذلكَ فقالَ: «... وكذلك آياتُ القرآن التي فسَّرها الصحابةُ والتابعونَ، إنما فسَّروها بذكرِ المعنى المقصودِ؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة: 506]، قال قتادة: إذا قيل له: مهلاً مهلاً، ازدادَ إقداماً على المعصيةِ (4).
فمنْ أينَ لكَ أنْ تعرفَ هذا المعنى منْ لفظِ الآيةِ؟ إلاَّ بعد الجهدِ، وطولِ التفكُّرِ.
وكذلك قولُه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]، قال السُّدِّيُّ: يُعظِّمُ أولياءه في صدوركم (5).
_________
(1) يونس بن عبد الأعلى، أبو موسى المصري، ثقة، روى عن سعيد بن منصور وسفيان بن عيينة وغيرهما، وعنه: مسلم والنسائي وغيرهما، توفي سنة (264). يُنظر: تهذيب الكمال (8:211 - 212)، وتقريب التهذيب (ص:1098).
(2) عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي، مولاهم، أبو محمد المصري، الفقيه، ثقة حافظ عابد، روى عن أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن زيد وغيرهما، وروى عنه: أحمد بن صالح وأصبغ بن الفرج وغيرهما، توفي سنة (197). يُنظر: تهذيب الكمال (4:317 - 320)، وتقريب التهذيب (ص:556).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (26:17).
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (1:311)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (3:19).
(5) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (7:417).
(1/660)
________________________________________