المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكتاب: تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء 1


AshganMohamed
10-16-2019, 11:26 AM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء
المؤلف: أبو الحسن الهلال بن المحسن الصابي (المتوفى: 448هـ)
المحقق: عبد الستار أحمد فراج
الناشر: مكتبة الأعيان
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
علي بن محمد بن موسى بن الفرات
أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن الفرات، مولده في يوم الثلاثاء لخمس ليال خلون من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين، والطالع القوس ياو، والزهرة فيه ياو، والقمر في الدلوح بن، وسهم السعادة فيه، كدلب، وزحل راجع في السرطان ب لح، والذنب فيه يزمو، والشمس في العقرب كه لح، والمشتري فيه وكا، وعطارد فيه ح مو، والمريخ فيه يح يه. وبنو الفرات من قرية تدعى بابلي صريفين، من النهروان الأعلى، وكان لهم بها
(1/11)
________________________________________
أقارب يزيدون على ثلاثمائة نفس. وأول من ساد منهم أبو العباس أحمد بن محمد ابن موسى بن الفرات، وكان حسن الكتابة، ظاهر الكفاية خبيراً بالحساب والأعمال، متقدماً على أهل زمانه في هذه الأحوال. فحدث محمد بن أحمد ابن أبي الأصبغ قال: ورد علي من أبي العباس بن بسطام كتاب بالترجمة احتجت إلى عرضه على أبي القاسم عبيد الله بن سليمان، وهو إذ ذاك وزير المعتضد بالله رحمة الله عليه، فحضرت مجلسه، وفيه أبو أحمد بن يزداد وجعفر بن محمد بن حفص، وعرضت عليه ما كان ورد، وأمرني في جوابه بما رسم لي كتبه في مجلسه. فاستدعيت دواتي وجلست وراء مسنده وتشاغل بمسألة أبي أحمد وابن حفص عن أمور الأعمال والأموال، فما فيهما من أجابه بما شفاه، فطلب أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات وهو محبوس يومئذ مع أبي العباس أحمد أخيه، وقد لحقتهما مكاره، وعلق أبو العباس بحبال في يديه بقيت آثارها فيهما مدة حياته، وصودر على مائة وعشرين ألف دينار صح منها ستون، فجيء به من محبسه يرسف في قيوده، وعليه جبة دنسة وشعره طويل، فلما مثل بين يديه قال: الله الله أيها الوزير. وجعل يشكو ما أصابه وأصاب أبا العباس أخاه من المكاره. وفرائصه ترعد، فسكنه عبيد الله بن سليمان وقربه، وأجلسه وخاطبه بما أزال به روعه وخوفه. ثم خاطبه في المسألة عن أمر الأعمال والعمال، فانبسط أبو الحسن انبساط رجل جالس في الصدر، وأخذ يقول: ناحية كذا مبلغ مالها كذا، وقد حمل منه كذا وبقي كذا وعاملها مستقيم الطريقة، وناحية كذا على صورة كذا، وعاملها غير مضطلع بها وينبغي أن يستبدل به فيها. وناحية كذا على حال كذا، وعاملها ضعيف وينبغي أن يشد بمشارك أو مشارف.
(1/12)
________________________________________
حتى أتى على أمور الدنيا. قال ابن أبي الأصبغ: فاطلعت فرأيت وجه عبيد الله يتهلل، ثم قال له: اعتزل واعمل لنا عملاً يشتمل على جميع ما ذكرته لي مخاطبةً. واعتزل معه أبو عيسى محمد بن سعيد الديناري وأملى عليه ذلك وأحضره الثبت به. ثم سأله في أمره وأمر أبي العباس أخيه، وذكر له عظيم ما حل بهما ونيل منهما، فتقدم بفك قيودهما والتوسعة عليهما، ووعده بمسألة المعتضد بالله في بابهما والتلطف في استخلاصهما، وصرفه إلى موضعه. وقال لأبي أحمد بن يزداد وجعفر ابن محمد ابن حفص: قوما إلى دواوينكما. والتفت إلى من كان بين يديه وقال: أرأيتم مثل ابن الفرات ومثل كتابي الذين صرفوه؟! والله لأخاطبن الخليفة في العفو عن أبي الحسن وأبي العباس وأستعينن بهما، فإنه لا عوض للسلطان عنهما. ومضت أيام وخاطب في معناها واستوهبهما واستعملهما. وحدث أبو الفضل بن عبد الحميد الكاتب قال: لما تولى أبو القاسم عبيد الله ابن سليمان وزارة المعتضد بالله رحمة الله عليه والدنيا منغلقة بالخوارج، والأطماع مستحكمة من جميع الجوانب، والمواد قاصرة، والأموال معدومة، وقد استخرج إسماعيل بن بلبل خراج السواد لسنتين في سنة، وليس في الخزائن موجود من مال ولا صياغة أحتاج في كل يوم إلى ما لا بد منه من النفقات إلى سبعة آلاف دينار، وتعذر عليه قيام وجهها، وقال لي يوماً وهو في مجلسه من دار المعتضد بالله: يا أبا الفضل قد وردنا على دنيا خراب مستغلقة، وبيوت مال فارغة، وابتداء عقد لخليفة جديد الأمر، وبيننا وبين الافتتاح مدة، ولا بد لي في كل يوم من سبعة آلاف دينار لنفقات الحضرة على غاية الاقتصار والتجزئة،
(1/13)
________________________________________
فإن كنت تعرف وجهاً تعينني به فأحب أن ترشدني إليه وكنت أعرف منها وجوهاً بالنصف فقلت وأنا أحب تخليص بني الفرات: إن أردت أن أُحصل لك ذلك وزيادة فأطلق ابني الفرات واستعملهما. قال: فنهض ودخل على المعتضد بالله وعرفه الصورة وقال: أنا بعيد العهد بالعمل، وابنا الفرات قد خبرا الأعمال ووجوه الأموال، وعندهما من علم ذاك ما يحتاج إليهما فيه. فقال له المعتضد: وكيف تصلح لنا نياتهما وقد استفسدناهما وأسأنا
إليهما وصادرناهما؟ فقال له: إذا أردت أن تصطنعهما وتستصلحهما صلحا ونصحا. فقال له المعتضد: ربما اجتمعا عليك وأفسدا بيني وبينك، والأمر في حبسهما وإطلاقهما إليك. فخرج وعرفني ما جرى، وأحضر أبا العباس وأدناه وقال له: قد استوهبتك وعملت على اصطناعك والاستعانة بك، فكيف تكون؟ قال: أبذل وسعي في كل ما قضى حقك وخفف عنك. وخرج إليه عبيد الله بما هو فيه، وقص عليه أمره فيما يعانيه، فقال له: يتقدم الوزير بإحضار أحمد بن محمد الطائي وعلي بن محمد أخي يعني أبا الحسن وتفردني وإياهما. ففعل عبيد الله ذلك، واعتزل أبو العباس وأبو الحسن وخاطبا الطائي على أن يضمناه أعمال الكوفة والقصر وباروسما الأعلى والأسفل وما يجري مع ذلك، وقررا معه الضمان على أن يحمل من ماله في كل يوم سبعة آلاف دينار، وفي كل شهر ستة آلاف دينار، وأخذا خطة بالتزام الضمان وتصحيح المال على ما تقرر من أوقاته، واستقبلا به في المياومة يومهما، وفي المشاهرة غدهما، وجاءا إلى عبيد الله فسلما إليه الخط. فلما وقف عليه استطير سروراً، ودخل إلى المعتضد وعرفه ما جرى، فقال له: قد كنت يا عبيد الله أعلم مني بهما، وما يجب إضاعة مثلهما. وصادرناهما؟ فقال له: إذا أردت أن تصطنعهما وتستصلحهما صلحا ونصحا. فقال له المعتضد: ربما اجتمعا عليك وأفسدا بيني وبينك، والأمر في حبسهما وإطلاقهما إليك. فخرج وعرفني ما جرى، وأحضر أبا العباس وأدناه وقال له: قد استوهبتك وعملت على اصطناعك والاستعانة بك، فكيف تكون؟ قال: أبذل وسعي في كل ما قضى حقك وخفف عنك. وخرج إليه عبيد الله بما هو فيه، وقص عليه أمره فيما يعانيه، فقال له: يتقدم الوزير بإحضار أحمد بن محمد الطائي وعلي بن محمد أخي يعني أبا الحسن وتفردني وإياهما. ففعل عبيد الله ذلك، واعتزل أبو العباس وأبو الحسن وخاطبا الطائي على أن يضمناه أعمال الكوفة والقصر وباروسما الأعلى والأسفل وما يجري مع ذلك، وقررا معه الضمان على أن يحمل من ماله في كل يوم سبعة آلاف دينار، وفي كل شهر ستة آلاف دينار، وأخذا خطة بالتزام الضمان وتصحيح المال على ما تقرر من أوقاته، واستقبلا به في المياومة يومهما، وفي المشاهرة غدهما، وجاءا إلى عبيد الله فسلما إليه الخط. فلما وقف عليه استطير سروراً، ودخل إلى المعتضد وعرفه ما جرى، فقال له: قد كنت يا عبيد الله أعلم مني بهما، وما يجب إضاعة مثلهما.
(1/14)
________________________________________
ووجدت عملاً يشتمل على ذكر أحمد بن محمد الطائي وما ضمنه من الأعمال، وشرطه على نفسه من حمل مال الضمان مياومةً إلى بيت المال، وقد شرح فيه وجوه خرج المياومة، وكانت نسخته: أصل ضمان أحمد بن محمد الطائي في أول أيام المعتضد بالله رحمة الله عليه أعمال سقي الفرات ودجلة وجوخى وواسط وكسكر وطساسيج نهر بوق والذيبين وكلواذي ونهر بين والراذانين وطريق خراسان مما شرط عليه أداؤه مياوماً في بيت المال من العين: ألفي ألف وخمسمائة ألف وعشرين ألف دينار. قسط كل شهر من ذلك مائتي ألف وعشرة آلاف دينار. وكل يوم سبعة آلاف دينار.
تفصيل وجوه خرج المياومة مما شرط فيه ما قرره المعتضد بالله رحمة الله عليه منه: أرزاق أصحاب النوبة من الرجالة ومن برسمهم من البوابين ومن يجري مجراهم من جملة ثلاثين ألف دينار في الشهر ألف دينار. من ذلك البيضان من الجنابيين والبصريين وأصحاب المصاف بباب العامة، ومن على أبواب القواد المفلحية والديالمة والطبرية والمغاربة ويفتتح الاعطاء في مجلسهم بنحو مائة رجل من البوابين سبعمائة دينار.
(1/15)
________________________________________
السودان وأكثرهم مماليك الناصر رحمه الله من زغاوة ونوبة ابتيعوا من مصر ومكة. ومنهم الزنج العجم المستأمنة من عسكر الخارجي بالبصرة ممن كان صبر معه وألقى نفسه عليه عند قتله، وهم غتم قح يأكلون لحوم الناس والبهائم الميتة، وقد عوقبوا على ذلك فلم يرجعوا، وكانوا منفردين لا يختلطون بالبيضان. ومن رسمهم أن ينوبوا في مصاف باب الخاصة وحوالي القصر، ولهم وظيفة يميزون بها لقلة رزقهم في اليوم ثلاثمائة دينار.
أرزاق الغلمان الذين أعتقهم الناصر رحمه الله ويعرفون بالغلمان الخاصة، وقد كان أضافهم في الجريد إلى الأحرار الذين أيام شهرهم خمسون يوماً ليكونوا مختلطين بالقواد والموالي، فلا يقدرون أنهم مفضلون عليهم في زيادة رزق أو نقصان مدة، وكانت أيام شهرهم في القديم أربعين يوماً فأساءوا الأدب في بعض الأوقات في مطالبة كانت منهم، فحلف أن يجعل أيام شهرهم خمسين يوماً، وفعل وجرى الأمر على ذاك. فلما قام المعتضد بالله نقلهم إلى جملة الأحرار وجعل أيام شهرهم ستين يوماً، وفيهم حاجبه وخلفاء الحجاب وعدتهم خمسة وعشرون رجلاً، خمسة ملازمون وعشرون نوبتيون. فإذا وقع سفر قريب أو بعيد أمر جميعهم بالملازمة الدائمة في المضرب والموكب، وكان لهم دواب في الاصطبل فأُسقطت علوفتها من مال الطمع من جملة ستين ألف دينار في الشهر ألف دينار.
(1/16)
________________________________________
فأما مماليك المعتضد بالله فإنه رتب أمرهم على المقام في القصر والحجر تحت مراعاة الخدم الأُستاذين، وسماهم الحجرية ومنعهم من الخروج والركوب إلا مع خلفاء الأُستاذين.
أرزاق الفرسان من الأحرار والمميزين الذين كانت أيام شهرهم خمسين فجعلت تسعين ونسبوا عند ذلك إلى التسعينية. وكان المعتضد بالله عرض جمهور الجند في الميدان الصغير الذي فيه دار الأزج والأربعيني والمقاصير والسجون، وجلس لذاك في مجالس وخورنقات على ظهور المجالس والأروقة التي تلي بركة السباع، ويرتقى إليها من درجة في حجرة كانت هناك للوضوء، ولم يكن يدخل الدار الحسنية يومئذ إلا الخدم برسم الخدمة، وعبيد الله بن سليمان وبدر ورائد ومن رسمه أن يغلق أبواب البستان في الصحن الحسني، ويقف القواد والغلمان بين يديه في الميدان، ويجلس كتاب العطاء أسفل بحيث لا يراهم، ويتقدم القائد ومعه جريدة بأسماء أصحابه وأرزاقهم فيأخذها خادم منه ويصعد بها إلى المعتضد بالله، ويدعو عبيد الله بن سليمان بواحد واحد ممن فيها، فيدخل الميدان ويمتحن على البرجاص، فإن كان يرمي رمياً جيداً. وهو متمكن من نفسه، ومستقر في سرجه ومصيب أو مقارب في رميه، علم على اسمه ج وهي علامة الجيد، ومن كان دون ذلك علم على اسمه ط وهي علامة المتوسط، ومن كان متخلفاً لا يحسن أن يركب فرسه أو يرمي هدفه علم على اسمه د وهي علامة الدون. ثم يحمل بعد
(1/17)
________________________________________
العرض والامتحان إلى كتاب الجيش ليتأملوا حليته، ويقابلوا بها ما عندهم من صفته، لئلا يكون دخيلاً أو بديلاً، فأذا تكامل عرض أصحاب القائد دفعت جريدته التي فيها العلامات بخط المعتضد بالله إلى عبيد الله بن سليمان ليدفعها من وقتها إلى الكاتب، ويميز ما فيها من أرباب العلامات، ويفرد لكل صنف منهم جريدة، وإذا عمل الكاتب من ذاك ما يعمله، قابل عليه بنفسه لئلا يتم على عبيد الله مغالطة فيه ثم أخذ الجرائد المبيضات المجردات وسلم إلى عبيد الله ذات العلامات، وكل هذا من غير أن يعلم القائد وأصحابه بما يجري منه، ثم يخرج كل جريدة إلى مجلس قد أفرد لذلك الصنف، وجعل شهر الذين ارتضاهم وأمضاهم تسعين يوماً، وسماهم عسكر الخاصة. وضم المتوسطين إلى بدر ليكونوا في شحنة طريق خراسان والأنبار وزاذان ودقوقا وخانيجار، ودعاهم عسكر الخدمة، وجعل أيام شهرهم مائةً وعشرين يوماً، وأمر عبيد الله بن سليمان بأن يرسم الطبقة الدون بالخروج إلى أعمال الخراج للاستحثاث على حمل الأموال بعد أن يسقط منهم الراضة والأثبات المشاكلين للرعية، وأن يسبب أموالهم على النواحي في دفعتين من السنة، ويوفر عليهم مرافق المسقطين ومنافعهم ومكاسبهم، ويجعل منهم من يكون من أصحاب المعاون ببغداد وواسط والكوفة، وأمضى من أرزاق التسعينية المختارين ما كان لهم في أيام الناصر، وأسقط ثمن قضيم دوابهم وعلوفتهم، وهو للدابة في كل خمسة
(1/18)
________________________________________
وثلاثين يوماً أربعة دنانير، وللبغل ثلاثة دنانير ونصف، وللحمار برسم الرجالة ديناران، وأسقط من ثمن جراياتهم ووظائفهم نصف وربع دينار في كل شهر، فبلغ مال من أمضى من هؤلاء التسعينية مائةً وخمسةً وثلاثين ألف دينار في كل طمع قسط كل يوم من تسعين يوماً ألف وخمسمائة دينار.
أرزاق المختارين الذين انتخبهم من كل قيادة، وكان عرفهم بالشهامة والشجاعة من المماليك الناصرية والبغائية والمسرورية والبكجورية واليائسية والمفلحية والأزكوتكينية والكيغلغية والكنداجية واستخلصهم لمواكبه وملازمة داره، والدخول أوقات جلوسه، والمقام من أول النهار إلى آخره، ورسم رشيقا القارئ لمراعاة أمورهم وتنجز حوائجهم واستخدامهم، وجعل أيام شهرهم سبعين يوماً من جملة مال طمعهم، وهو اثنان وأربعون ألف دينار، بقسط كل يوم ستمائة دينار.
أرزاق الفرسان المثبتين في أيامه، والمميزين ممن ضم إلى بدر من عسكر الخدمة على ما تقدم من ذكره، وأيام شهرهم مائة وعشرون يوماً بحسب ما كان أوجبه ابن أبي دلف وصاحب أذربيجان للجبليين، ومال طمعهم ستون ألف دينار ولكل يوم خمسمائة دينار.
أرزاق سبعة عشر صنفاً من المرسومين بخدمة الدار والرسائل الخاصة والقراء وأصحاب الأخبار والمؤذنين والمنجمين والفنجاميين والفرانقيين والأنصار والحرس والمكوس، والشيعة والسند وأصحاب الأعلام والبوقيين والمخرفين والمضحكين والطبالين ممن كان برسم النوبة، فنقل إلى المشاهرة التي أيام
(1/19)
________________________________________
كل شهر منها ثلاثون يوماً من جملة ثلاثة آلاف وثلثمائة دينار بقسط كل يوم مائة وعشرة دنانير.
المرتزقة برسم الشرطة بمدينة السلام، والخلفاء عليهم، وأصحاب الأرباع والمصالح، والأعوان والسجانين وأصحاب الطوف والماصرين، ومن في جملتهم من الفرسان الذين ميزوا وأُلحقوا بطبقة الدون من المشايخ والمترفين، ومن هذه سبيله من الرجالة الموكلين بأبواب المدينة، وأيام شهرهم مائة وعشرون يوماً من جملة ستة آلاف دينار في المشاهرة، خمسين ديناراً. أثمان أنزال الغلمان المماليك الستينية المقدم ذكرهم مما كان يطلق للخدم الأستاذين الذين كانوا عليهم، والقواد المضموم بعضهم إليهم ليقيم كل متقدم الخبز واللحم لمن في ناحيته، ويوكل عليه من يستجيد الاقامة لهم ويطالب بإدرارها عليهم، من جملة تسعة آلاف دينار في الشهر، ثلاثمائة دينار. نفقات المطابخ الخاصة والعامة والمخابز وأنزال الحرم والحشم ومخابز السودان، من جملة عشرة آلاف دينار في الشهر، ثلاثمائة وثلاثةً وثلاثين ديناراً وثلثاً، من ذلك الخاصة ثمانين ديناراً، العامة والأنزل مائتين وثلاثة وخمسين ديناراً وثلثاً.
ثمن وظائف شراب الخاصة والعامة وآلاته ونفقات خزائن الكسوة والخلع والطيب وحوائج الوضوء والحمام، ونفقات خزائن السلاح وما يرم من الجواشن والدروع ويتخذ من النشاب والأعلام والمطارد، ونفقات خزانة السروج
(1/20)
________________________________________
وما يجدد منها ويصلح، ونفقات خزائن الفرش وثمن الخيش والربخ والحصر والستائر والسرادقات وأجور الحمالين والأعوان للسرير وغير ذلك على ما ثبت من تفصيله في ديوان النفقات، ويتولى إنفاق جميعه المنفقون المرتزقون من جملة ثلاثة آلاف دينار في الشهر، ليوم مائة دينار. أرزاق السقائين بالقرب في القصر والخزائن والمطابخ والمخابز والدور والحجر، والخدم، في داخل وفي الرحاب، ولوضوء الخاص، ومن يعمل بالروايا على البغال من الاصطبلات للحرم والبوابين في دار العامة من جملة مائة وعشرين ديناراً في الشهر، ليوم أربعة دنانير. أرزاق الخاصة ومن يجري مجراهم من الغلمان والمماليك دون الأكابر الأحرار، ومن أضيف إليهم من الحشم القدماء الذين أُقروا في دار رجاء، وأمر مؤنس الخادم بألا يستخدموا في خدم الدار لئلا يدلوا على الغلمان المتعلقين بالناصر رحمه الله بقديم حرمتهم، ولأنه لا معرفة لهم برسوم الخلافة، وأجروا في المشاهرة على خمسة وأربعين يوماً على ما قرره الناصر عناية بهم ورعاية لهم، ولما ابتاع المعتضد بالله الأتراك العجم ورتبهم في الحجر لم يلحقهم بهم، بل جعل أيام شهرهم خمسين يوماً، ورسم للأصاغر خمسة دنانير وللأكابر عشرة دنانير، وزادهم بعد سنتين دينارين فسموا الاثني عشرية. فلما تقلد المكتفي بالله وأشفق من أن يميلوا إلى بدر، وكان إذ ذاك بفارس، ألحق من كان له سبعة دنانير بالأثنى عشرية، وقرر مال الأكابر على ستة عشر ديناراً وجرى الأمر على ذاك إلى آخر أيامه، فلما تفرد الوزراء
(1/21)
________________________________________
بالتدبير صار قسط كل يوم من مال الخدم مائة وسبعة وستين ديناراً.
أرزاق الحشم الذين شهرهم خمسون يوماً من المستخدمين في شراب العامة وخزائن الكسوة، والصناع من الصاغة والخياطين والقصارين والأساكفة والحدادين والرفائين والفرائين والمطرزين والنجادين والوراقين والعطارين والمشهرين والنجارين والخراطين والأسفاطيين وغيرهم، ومن في خزانة السلاح من الخزان والصناع وفي خزانة السروج من مثل ذلك ولكل خزانة وطائفة صك مفرد يكتب من الديوان من جملة ثلاثة آلاف دينار في الشهر، ليوم مائة دينار. أرزاق الحرم صانهن الله من جملة ثلاثة آلاف دينار، ليوم مائة دينار. ثمن علوفة الكراع في الاصطبلات الخمسة وهي: إصطبل الخاص ويشتمل على الخيل والحجورة والشهاري والبراذين وبغال السروج والقباب والهوادج والفردات والحمير. وإصطبل العامة وفيه دواب الخدم والغلمان والتفاريق والبازياريين. وإصطبل الدواب والحمليات وما يرد من المروج من المهارة المحرمة ويبتاع ويهدي، وفيه يرتبط ما يحتاج إلى العلاج والمراعاة، وما يرد من الأسفار وفيه عقر وغمز. وإصطبل لبغال الأثقال وحمل العلوفات. وإصطبل بقصر الطين في الشماسية لمبارك الابل والجمازات وكان المعتضد بالله يعرض ما في هذه
(1/22)
________________________________________
الاصطبلات في كل شهر إلا ما كان من الخاص فإنه جعله قريباً منه ومشدوداً في الأواخي بين يديه وفي الميدان والرياضة والكد متصلاً عليه، ومتى أحمد قيام من يقلده شيئاً من ذاك زاده في رزقه، ومن اطلع منه على تقصير أو إضاعة صرفه واستبدل به. ثم جمع النظر في هذه الاصطبلات للنوشجاني لكفايته وثقته وأثمان كسوة الدواب وآلاتها وأدويتها وعلاجاتها وأجور الساسة والمكارية والراضة والبياطرة والوكلاء وغيرهم، من جملة اثني عشر ألف دينار في الشهر، ليوم أربعمائة دينار. ما يصرف في ثمن الكراع والابل وما يبتاع من الخيل الموصوفة في أحياء العرب ويستبدل به إذا عطب في العمل من جملة ألفي دينار في الشهر، ليوم ستة وستين ديناراً وثلثي دينار. أرزاق المطبخيين في كل شهر أيامه خمسون يوماً من جملة ألف وخمسمائة دينار في الشهر، ليوم ثلاثين ديناراً. أرزاق الفراشين والمجلسيين وخزان الفرش وخزان الشمع وأجرة الأعوان والحمالين فيها، في كل شهر أيامه خمسون يوماً، من جملة ألف وخمسمائة دينار، ثلاثين ديناراً. ثمن الشمع والزيت من جملة مائتي دينار في الشهر، ليوم ستة دنانير وثلثي دينار. أرزاق أصحاب الركاب والجنائب والسروج ومن يخدم في دواب البريد من جملة مائة وخمسين ديناراً في الشهر، ليوم خمسة دنانير.
(1/23)
________________________________________
أرزاق الجلساء وأكابر الملهين ومن كان يجري مجراهم في الجلوس إذا حضر، مثل أبي العلاء القاسم بن زرزر ووراد وأبي عيسى، وأيام شهرهم خمسة وأربعون يوماً أسوةً بالخدم، من جملة ألفي دينار، ليوم أربعة وأربعين ديناراً وثلثا.
أرزاق جماعة من رؤساء المتطببين وتلامذتهم الملازمين، مع ثلاثين ديناراً لثمن الأدوية في خزانة تكون في القصر، من جملة سبعمائة دينار، ليوم ثلاثة وعشرين ديناراً وثلثا. أرزاق أصحاب الصيد من البازياريين والفهادين والكلابين والصقارين والصيادين، وثمن الطعم والعلاج للجوارح وأصحاب الحراب والسباعين وأصحاب الشباك واللبابيد والفحالين ومن معهم من الأعوان والحمالين وأصحاب المرور وغيرهم، في كل شهر أيامه خمسة وثلاثون يوماً من جملة ألفين وخمسمائة دينار في الشهر، ومع القسط من خمسين ديناراً لتجديد آلاتها، سبعين ديناراً. أرزاق الملاحين في الطيارات والشذاءات والسميريات والحراقات والزلالات وزواريق المعابر، من جملة خمسمائة دينار في كل شهر، ستة عشر ديناراً وثلثي دينار. ثمن النفط والمشاقة للنفاطات والمشاعل، وأجرة الرجال في خدمتها، من جملة مائة وعشرين ديناراً، أربعة دنانير. الصدقة التي تحضر في كل يوم عند صلاة الصبح في خرقة سوداء، على ما كان الناصر رحمه الله رسمه. وأمر المعتضد بالله، رحمه الله، بعد بتفرقته على من
(1/24)
________________________________________
في قصر الرصافة من الحرم المحتاجات من قيمة مائتي درهم محدداً، في كل يوم خمسة عشر ديناراً. جاري أولاد المتوكل على الله وأولادهم رجالاً ونساء من جملة ألف دينار في الشهر، ثلاثةً وثلاثين ديناراً وثلث دينار. جاري ولد الواثق والمهتدي بالله والمستعين وسائر أولاد الخلفاء، ومن في قصر أم حبيب، من جملة خمسمائة دينار في الشهر، ستة عشر ديناراً وثلثي دينار.
جاري ولد الناصر رحمه الله عبد الواحد وأخواته من جملة خمسمائة دينار في الشهر، ستة عشر ديناراً وثلثي دينار. أرزاق مشايخ الهاشميين وأصحاب المراتب والخطباء في المساجد الجامعة بمدينة السلاح خاصة من جملة ستمائة دينار في الشهر، عشرين ديناراً. جاري جمهور بني هاشم من العباسيين والطالبيين مما كان الناصر رحمه الله قرره لهم من ذلك، وأوجبه لكل من أولادهم ذكورهم وإناثهم حساباً لكل واحد في كل شهر دينار، وأمر بإطلاقه من ارتفاع ضيعته المعروفة بنهر الموفقي، واقتصر المعتضد بالله رحمه الله بهم منه على ربع دينار في كل شهر، وكانت عدتهم بالحضرة أربعة آلاف نفس، من جملة ألف دينار في كل شهر، ليوم ثلاثة وثلاثين ديناراً وثلثاً. أرزاق عبيد الله بن سليمان مع خمسمائة دينار للقاسم ابنه برسم العرض بالحضرة وكتابة بدر على الجيش من جملة ألف وخمسمائة دينار مشاهرةً، ليوم ثلاثة وثلاثين ديناراً وثلثاً وقبض ذلك سنتين إلى أن عمرت ضيعته المردودة عليه ثم وفره
(1/25)
________________________________________
وحمل من فاضل ارتفاع الضيعة مائتي ألف دينار في كل سنة.
أرزاق أكابر الكتاب وأصحاب الدواوين والخزان والبوابين والمديرين والأعوان وسائر من في الدواوين؛ وثمن الصحف والقراطيس والكاغد سوى كتاب دواوين الاعطاء وخلفائهم على مجالس التفرقة وأصحابهم وأعوانهم وخزان بيت المال، فإنهم يأخذون أرزاقهم بما يوفرونه من أموال الساقطين وغرم المخلين بدوابهم، من جملة أربعة آلاف دينار وسبعمائة في الشهر، مائة وستة وخمسين ديناراً وثلثين. جاري إسحاق بن إبراهيم القاضي وخليفته يوسف بن يعقوب والد أبي عمر وأولادهما وعشرة نفر من الفقهاء، من جملة خمسمائة دينار في الشهر، ليوم ستة عشر ديناراً وثلثي دينار. جاري المؤذنين في المسجدين الجامعين والمكبرين والقوام والأئمة والبوابين وثمن الزيت للمصابيح والحصر والبواري والماء والخلوق، وثمن الستائر في الصيف والحباب والخزف والعمارة في شهر رمضان من جملة مائة دينار في كل شهر، ثلاثة دنانير وثلثاً. نفقات السجون وثمن أوقات المحبسين ومائهم وسائر مؤنهم في جملة ألف دينار وخمسمائة دينار في الشهر، خمسين ديناراً. نفقات الجسرين وثمن ما يبدل من سفنهما والقلوس وأرزاق الجسارين من جملة ثلثمائة دينار في الشهر، عشرة دنانير. نفقات البيمارستان الصاعدي ولم يكن يومئذ غيره وأرزاق المتطببين
(1/26)
________________________________________
والمئانين والكحالين ومن يخدم المغلوبين على عقولهم والبوابين والخبازين وغيرهم وأثمان الطعام والأشربة من جملة أربعمائة وخمسين ديناراً في الشهر، خمسة عشر ديناراً. فتلك النفقة كل يوم على ما بين من وجوهها سبعة آلاف دينار. وأجري الأمر على هذا سنتين. ثم أمر عبيد الله بن سليمان وبدراً بألا يحضرا ولا أحد من القاد والأولياء الدار في يومي الجمعة والثلاثاء لحاجة الناس في وسط الأسبوع إلى الراحة والنظر في أمورهم والتشاغل بما يخصهم، ولأن يوم الجمعة يوم صلاة وكان يحبه لأن مؤدبه كان يصرفه فيه عن مكتبه. وتقدم إلى عبيد الله بأن يجلس في يوم الجمعة للمظالم العامة، وإلى بدر بأن يجلس للمظالم الخاصة، ومنع من أن يفتح في هذين اليومين ديوان أو يخرج شيء إلى مجلس التفرقة على الجيش خاصة، فوفر من مالها أربعة آلاف دينار وسبعمائة دينار وسبعين ديناراً، منها: مال النوبة ألف دينار، المماليك ألف دينار، التسعينية ألف وخمسمائة دينار، المختارين ستمائة دينار، الجبليين خمسمائة دينار، أصناف خدم الدار مائة وعشرين ديناراً، شحنة الشرطة خمسين ديناراً، يكون ذلك لثمانية أيام في كل شهر ثمانية وثلاثين ألفاً ومائةً وستين ديناراً، ولسنة أربعمائة وسبعة وخمسين ألف دينار، وتسعمائة وعشرين ديناراً.
ورسم أن يحمل هذا الموفر إلى مؤنس الخادم ليجعله في بيت مال الخاصة ليصرف فيما يحتاج إليه من نفقات الموسم ومن يخرج في الغزوات الصائفة ونفقات الأبنية والمرمات والحوادث والملمات والرسل الواردين والفداء.
(1/27)
________________________________________
وزارة أبي الحسن الأولى
وكان أبو الحسن بن الفرات يتبع أبا العباس أخاه وينوب عنه إلى أن توفي أبو العباس فتقلد الأعمال رياسةً. وولي الوزارة ثلاث دفعات في أيام المقتدر بالله، فالأولى منها بعد قتل العباس بن الحسن وزوال فتنة عبد الله بن المعتز. قال أبو الحسن ثابت بن سنان فيما أرخه من الأخبار: لما زالت فتنة عبد الله بن المعتز قلد المقتدر بالله مؤنساً الخادم الشرطة بالحضرة مكان ابن عمرويه، وأنفذه إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات بخاتمه ليحضره ويقلده وزارته، وكان أبو الحسن مستتراً عند بعض التجار من جيران داره بسوق العطش، فظهر لمؤنس وركب معه إلى دار السلطان، ووصل إلى المقتدر بالله رحمة الله عليه في يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، فخاطبه بما سكن منه وأعلمه تعويله في تدبير الأمور عليه، وخلع عليه من غد خلع الوزارة، وركب وفي موكبه أبو القاسم غريب الخال والحجاب والأمراء والقواد والغلمان وسائر الناس حتى صار إلى داره بسوق العطش، ونظر في الأمور ورتب مؤنساً في المعونة، وأمر جماعةً من القواد بطوف البلد ليلاً والايقاع بأهل الدعارة ومن يرونه متعرضاً لنهب دار وأخذ مال، لأن أصاغر الجند والعوام قد كانوا قصدوا دار العباس ابن الحسن ودوراً اتصلت بها ونهبوها. وانتقل أبو الحسن بن الفرات من بعد ذلك إلى ما أقطعه المقتدر بالله إياه من دار سليمان بن وهب بباب المخرم على دجلة، وما يجاورها من دار إبراهيم بن سليمان،
(1/28)
________________________________________
والاصطبل الذي كان للسلطان، والدور التي كانت في يد داية المكتفي بالله، ومساحة ذلك مائة ألف وثلاثة وسبعون ألفاً وثلثمائة وستة وأربعون ذراعاً، وغير ذلك وجدده وأنشأ المجالس الجليلة والأبنية الحسنة وعمل للدار مسناة مشرفة على دجلة، وأقطعه المقتدر بالله أيضاً الضياع التي كان المكتفي بالله أقطعها العباس بن الحسن وارتفاعها خمسون ألف دينار، وأجرى له خمسة آلاف دينار في كل شهر، وللمحسن والحسين والفضل أولاده ألفاً وخمسمائة دينار أثلاثاً بينهم. وسلم إليه علي بن عيسى ومحمد بن عبدون فاعتقلهما في دار بدر اللاني، وقرر عليهما مصادرةً خففها عن علي بن عيسى، وثقلها على محمد بن عبدون لعداوة كانت بينهما. ثم تكفل بتخليصهما وإبعادهما من الحضرة وقال للمقتدر: إنهما لم يدخلا في أمر عبد الله بن المعتز ولا حضرا داره وقت البيعة إلا عن ضرورة، وأخرج محمد بن عبدون إلى الأهواز، وعلي بن عيسى إلى واسط بعد أن أعطي سوسناً الحاجب خمسة آلاف دينار كفه بها عن ذكر علي بن عيسى والاغراء به، وكتب إلى وكيله بواسط بخدمته وإقامة ما يحتاج إليه لنفقته، وأنفذ معه حافظاً من جهته، ومع محمد بن عبدون خادماً من خدم المقتدر بالله، ووافقه على منعه من مكاتبة أحد أو قراءة كتابه. وجرت أمور أبي الحسن، والأمور في نظره ما ليس غرضنا استيفاءه على سياقته، وإنما نورد أطرافاً منه وما كان منشوراً مما لم تتضمن التواريخ ذكره.
وكان محمد بن داود بن الجراح قد وزر لعبد الله بن المعتز ودبره. فلما انتفض أمره استتر وأخفى شخصه. وذكر أبو الحسن بن سنان أن موسى
(1/29)
________________________________________
ابن عيسى كاتب مؤنس عرض على أبي الحسن بن الفرات رقعة من محمد ابن داود، فلما قرأها قال: تقول له الاستتار صناعة وجرمك عظيم، وأمرك بعد طري. فتوقف إلى أن تخلق القصة، ثم دعني فإني أسوق الأمر إلى أخذ أمان الخليفة لك بخطه والاشهاد عليه في الوفاء به وإظهارك وبلوغ إيثارك. فلما عاد موسى ابن عيسى إلى محمد بن داود بذلك ارتاب بقول ابن الفرات، وشك فيه، وقدر أنه على وجه المغالطة والمدافعة ليستمر عليه الاستتار والنكبة فقال: أي ذنب لي أحتاج معه إلى زيادة في الاستظهار ومطاولة الانتظار؟! ومضى إلى سوسن الحاجب، فلما استؤذن عليه لم يصدق، وظن أنه رسول منه، واستثبت حاجبه واستفهمه، فخرج وعاد وقال: قد حضر هو بنفسه. فعجب من ذلك وأدخله، وأنهى خبره إلى المقتدر بالله، فأمره بتسليمه إلى مؤنس الخازن، فسلمه إليه، فقتله وطرحه على باب سقاية حتى أخذه أهله ودفنوه، وعرف أبو الحسن بن الفرات خبره فغمه أمره وقال: كان على عداوته لي فاضلاً راجحاً ومتقدماً في الصناعة بارعاً، وقد جرى عليه من القتل صبراً أمر عظيم. وحدث أبو عبد الله زنجي قال: كنت بحضرة أبي الحسن بن الفرات في أول ما وزر إذ كتب إليه صاحب الخبر بحضور رجل يقول: إن عنده نصيحةً لا يذكرها إلا للوزير فاستدعاه وسأله عما عنده، فأسر إليه بما لم نقف عليه، وتقدم إلى العباس الفرعاني حاجبه بأن يجلسه في دار العامة إلى أن يطلبه منه، ثم أمره بجمع الرجال الذين برسمه، ودعا أبا بشر بن فرجويه وقال له: قد حضر هذا الرجل المتنصح، وذكر أنه يعرف موضع محمد بن داود، وأنه بات البارحة عنده،
(1/30)
________________________________________
والتمس أن ينفذ معه من يدله عليه ويسلمه إليه، وقد بذلت له ألف دينار عند صحة قوله، أو نيله بالعقوبة إن كان كاذباً فيه، فرضي بذلك. فاكتب إلى محمد الساعة أن ينتقل عن موضعه أين كان، فإنني على إنفاد من يكسبه ويطلبه. ولم يزل ابن الفرات يحث العباس الحاجب في جمع الرجال، وهو يذكر إنفاذ من يجمعهم على اختلاف وتباعد منازلهم، ويدفع بالأمر، إلى أن عاد جواب محمد إلى أبي بشر يشكر ما فعله، وبأنه قد تحول من مكانه إلى غيره. فسأل حينئذ العباس عمن اجتمع من الرجال فقال: خمسمائة نفر. وأمره بأخذ الرجل وأخذهم وقصد الموضع الذي يذكره والاحتياط عليه من سطوحه وجوانبه، وكبسه بعد ذلك وتفتيشه، والقبض على محمد بن داود إن وجده وحمله، وإن لم يجده رد الرجل معه. فمضى العباس، وعمل ما رسمه له ابن الفرات، فلم يصادف أحداً، وعاد والرجل معه، وأمر ابن الفرات بضربه مائتي سوط على باب العامة، وشهره على جمل والنداء عليه. وطالع المقتدر بالله بما فعله فاستصابه. ولما خلي الرجل الساعي بمحمد بن داود بعد ما لحقه أعطاه ابن الفرات مائتي دينار وحدره إلى البصرة وقال لابن فرجويه: ما كذب الرجل في قوله وإنما عاقبناه على شره. وكان سوسن الحاجب يدخل مع العباس بن الحسن في التدبير، فلما وزر أبو الحسن بن الفرات لم يجر هذا المجرى، فثقل عليه ذلك، وشاع الحديث بأن سوسناً قد عمل على قتل ابن الفرات في دار الخلافة وواقف عليه جماعة من الغلمان الحجرية، وأشار على المقتدر بالله بإحضار محمد بن عبدون وتقليده الوزارة، وضمن عنه استخراج أموال كثيرة من ابن الفرات، ونفذ بني بن نفيس إلى الأهواز
(1/31)
________________________________________
على ظاهر يخالف هذا الباطن. وعرف أبو الحسن بن الفرات الصورة بعد حصول بني بن نفيس بواسط. فتوصل إلى أن قرر في نفس المقتدر بالله أن سوسناً كان من أكبر أعضاد عبد الله بن المعتز والداخلين معه في التدبير عليه، وإنما قعد أخيراً عنه لما استحجب عبد الله بن المعتز غيره. وأودع صدره فيه ما أذن له معه بالقبض عليه، فقبض عليه وقتله سراً في يومه، وأنفذ إلى محمد بن عبدون من قبض عليه في طريقه وحمله إلى الحضرة، فصادره مصادرة مجددة ثم سلمه إلى مؤنس الخادم فقتله. وعرف أبو الحسن علي بن عيسى وهو بواسط ما جرى في أمر محمد ابن عبدون، فأقلقه وأزعجه، وكتب إلى ابن الفرات كتاباً يحلف فيه أنه على قديم عداوته لمحمد بن عبدون، إلا أنه مع ذلك لا يدع الصدق عن حاله، ويقول: إنه لم يكن يسعى على دم نفسه بضمان الوزارة، وقد كان راضياً بالسلامة بعد فتنة عبد الله بن
المعتز، وإن سوسناً أسماه وذكره بغير معرفته ولا موافقته، وخرج من ذاك إلى أن سأله الاذن له في المضي إلى مكة ليسلم من الظنة وينسى السلطان ذكره. فأجابه إلى ما طلبه، وأخرجه من واسط إلى مكة على طريق البصرة مرفهاً محروساً. وكان غرض علي ابن عيسى فيما ذكر محمد بن عبدون به حراسة نفسه، فوصل كتابه وقد مضى لسبيله. وكان من جملة الداخلين في فتنة عبد الله بن المعتز أبو عمر محمد بن يوسف القاضي فأُخذ فيمن أُخذ وحبس، وحضر أبوه يوسف وهو شيخ كبير مجلس أبي الحسن ابن الفرات، وبكي بين يديه بكاء شديداً، رق له منه وسأله حراسة نفس ولده أبي عمر والتصدق عليه به. فقال أبو الحسن: الجناية عظيمة، ولا يمكن تخليته إلا بمال جليل يطمع الخليفة فيه من جهته. فبذل يوسف أن يفقر نفسه وابنه طلباً لبقائه. وتلطف ابن الفرات فيما قاله المقتدر بالله وقرر أمر أبي عمر على مائة ألف دينار، فأدى منها تسعين ألفاً، من جملتها خمسة وأربعون ألفاً كانت عنده للعباس بن الحسن، وأمره ابن الفرات بعد ذلك بملازمة داره وألا يخرج منها لئلا يجعل له حديث مجدد. وكان أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد مدلاً على أبي الحسن بن الفرات بمودة بين أسلافه وبين أبي جعفر والد أبي الحسن وأبي العباس عمه، وباختصاصه هو به، فوجه أبو الحسن الكتب إلى أصحاب المعاون في البيعة لعبد الله بن المعتز بخطه، فلم يظهر ذلك المقتدر بالله ولا ذكره، واعتمد التقديم له والتنويه به، وكان سليمان قد تقلد لعلي بن عيسى مجلس العامة في ديوان الخاصة. فقلده ابن الفرات هذا الديوان رئاسة. ثم إن سليمان شرع لأبي الحسن بن عبد الحميد في الوزارة، وعمل في ذلك نسخةً بخطه عن نفسه إلى المقتدر بالله يسعى فيها بابن الفرات وكتابه وضياعه وأمواله، وقام ليصلي صلاة المغرب مع جماعة من الكتاب فسقطت من كمه، فأخذها الصقر بن محمد الكاتب، وكان إلى جانبه، فحملها إلى ابن الفرات من وقته، فلما وقف عليها قبض عليه وحدره في زورق مطبق إلى واسط، وقد أوردنا مستأنفاً ما فعله معه بعد ذلك. ومضى لأبي الحسن بن الفرات في وزارته هذه ثلاث سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً، اختلفت عليه الأمور فيها، وحدثت الحوادث في متصرفاتها ومجاريها وحضر عيد النحر من سنة تسع وتسعين ومائتين فاحتيج فيه من النفقات إلى ما جرت العادة به، وكانت المواد قد قصرت، والمؤن قد تضاعفت، وطلب من المقتدر بالله أن يعطيه من بيت مال الخاصة ما يصرفه في نفقات هذا العيد، فمنعه ذلك، وألزمه القيام به من جهته، فأقام على أنه لا وجه له إلا مما يعان به، ووجد بذلك أعداؤه الطريق إلى الوقيعة فيه. وركب في يوم الأربعاء لأربع خلون من ذي الحجة إلى دار الخلافة وهو على غاية السكون والطمأنينة، وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه قبل الوصول إلى السلطان، فقبض عليه وعلى محمد ابن أحمد الكلوذاني وكان يكتب بين يديه وعلى محمود بن صالح وكان معه من أصحابه، ومضى القواد للقبض على أسبابه وكتابه فقبضوا على عبد الله وأبي نوح ابني جبير، وموسى بن خلف وكان من خواصه. وصار مؤنس الخادم إلى دار الوزارة فوكل بها، وأنفذ يلبق إلى دار ابن الفرات بسوق العطش فأحاط عليها. وتسرع الجند والعوام إلى دور أولاده وأهله فنهبوها وأخذوا ساجها وسقفوها، وعظم الأمر في النهب حتى ركب أبو القاسم الخال بعد العصر في القواد والغلمان وطلب النهاية، وعاقب قوماً منهم، فقامت الهيبة، وسكنت الفتنة. وأُحضر أبو علي محمد بن عبيد الله بن خاقان واستوزر، وقبض ما كان لأبي الحسن من الضياع والإقطاع والأملاك والعقار والأموال والغلات، وصح له ما مقداره ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار سوى الأثاث والرحل والكراع والجمال، ولم يؤخذ من أحد من الوزراء قبله ولا بعده مثل ذلك. ز، وإن سوسناً أسماه وذكره بغير معرفته ولا موافقته، وخرج من ذاك إلى أن سأله الاذن له في المضي إلى مكة ليسلم من الظنة وينسى السلطان ذكره. فأجابه إلى ما طلبه، وأخرجه من واسط إلى مكة على طريق البصرة مرفهاً محروساً. وكان غرض علي ابن عيسى فيما ذكر محمد بن عبدون به حراسة نفسه، فوصل كتابه وقد مضى لسبيله. وكان من جملة الداخلين في فتنة عبد الله بن المعتز أبو عمر محمد بن يوسف القاضي فأُخذ فيمن أُخذ وحبس، وحضر أبوه يوسف وهو شيخ كبير مجلس أبي الحسن ابن الفرات، وبكي بين يديه بكاء شديداً، رق له منه وسأله حراسة
(1/32)
________________________________________
نفس ولده أبي عمر والتصدق عليه به. فقال أبو الحسن: الجناية عظيمة، ولا يمكن تخليته إلا بمال جليل يطمع الخليفة فيه من جهته. فبذل يوسف أن يفقر نفسه وابنه طلباً لبقائه. وتلطف ابن الفرات فيما قاله المقتدر بالله وقرر أمر أبي عمر على مائة ألف دينار، فأدى منها تسعين ألفاً، من جملتها خمسة وأربعون ألفاً كانت عنده للعباس بن الحسن، وأمره ابن الفرات بعد ذلك بملازمة داره وألا يخرج منها لئلا يجعل له حديث مجدد. وكان أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد مدلاً على أبي الحسن بن الفرات بمودة بين أسلافه وبين أبي جعفر والد أبي الحسن وأبي العباس عمه، وباختصاصه هو به، فوجه أبو الحسن الكتب إلى أصحاب المعاون في البيعة لعبد الله بن المعتز بخطه، فلم يظهر ذلك المقتدر بالله ولا ذكره، واعتمد التقديم له والتنويه به، وكان سليمان قد تقلد لعلي بن عيسى مجلس العامة في ديوان الخاصة. فقلده ابن الفرات هذا الديوان رئاسة. ثم إن سليمان شرع لأبي الحسن بن عبد الحميد في الوزارة، وعمل في ذلك نسخةً بخطه عن نفسه إلى المقتدر بالله يسعى فيها بابن الفرات وكتابه وضياعه وأمواله، وقام ليصلي صلاة المغرب مع جماعة من الكتاب فسقطت من كمه، فأخذها الصقر بن محمد الكاتب، وكان إلى جانبه، فحملها إلى ابن الفرات من وقته، فلما وقف عليها قبض عليه وحدره في زورق مطبق إلى واسط، وقد أوردنا مستأنفاً ما فعله معه بعد ذلك. ومضى لأبي الحسن بن الفرات في وزارته هذه ثلاث سنين وثمانية أشهر
(1/33)
________________________________________
وأربعة عشر يوماً، اختلفت عليه الأمور فيها، وحدثت الحوادث في متصرفاتها ومجاريها وحضر عيد النحر من سنة تسع وتسعين ومائتين فاحتيج فيه من النفقات إلى ما جرت العادة به، وكانت المواد قد قصرت، والمؤن قد تضاعفت، وطلب من المقتدر بالله أن يعطيه من بيت مال الخاصة ما يصرفه في نفقات هذا العيد، فمنعه ذلك، وألزمه القيام به من جهته، فأقام على أنه لا وجه له إلا مما يعان به، ووجد بذلك أعداؤه الطريق إلى الوقيعة فيه. وركب في يوم الأربعاء لأربع خلون من ذي الحجة إلى دار الخلافة وهو على غاية السكون والطمأنينة، وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه قبل الوصول إلى السلطان، فقبض عليه وعلى محمد ابن أحمد الكلوذاني وكان يكتب بين يديه وعلى محمود بن صالح وكان معه من أصحابه، ومضى القواد للقبض على أسبابه وكتابه فقبضوا على عبد الله وأبي نوح ابني جبير، وموسى بن خلف وكان من خواصه. وصار مؤنس الخادم إلى دار الوزارة فوكل بها، وأنفذ يلبق إلى دار ابن الفرات بسوق العطش فأحاط عليها. وتسرع الجند والعوام إلى دور أولاده وأهله فنهبوها وأخذوا ساجها وسقفوها، وعظم الأمر في النهب حتى ركب أبو القاسم الخال بعد العصر في القواد والغلمان وطلب النهاية، وعاقب قوماً منهم، فقامت الهيبة، وسكنت الفتنة. وأُحضر أبو علي محمد بن عبيد الله بن خاقان واستوزر، وقبض ما كان لأبي الحسن من الضياع والإقطاع والأملاك والعقار والأموال والغلات، وصح له ما مقداره ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار سوى الأثاث والرحل
(1/34)
________________________________________
والكراع والجمال، ولم يؤخذ من أحد من الوزراء قبله ولا بعده مثل ذلك.
ومما حدث قبل القبض عليه أن طلع في شهر رمضان من السنة المذكورة كوكب ذو ذؤابة، فطلع آخر مثله في شوال في مطلع الهلال، وطلع ثالث في ذي القعدة في مطلع الشمس، وأكثر الناس القول في ذلك وما يحدثه من حادث، فكان زوال أمر ابن الفرات.

وزارة أبي الحسن الثانية
لما قبض عليه في اليوم المقدم ذكره من سنة تسع وتسعين ومائتين اعتقل في بعض الحجر من دار الخلافة، ولم يزل معروف الخبر إلى جمادي الآخرة سنة ثلاثمائة، فإنه نقل إلى بعض المواضع المستورة، وخفي أمره على الناس عامة حتى رجمت الظنون فيه. ثم أُخرج تابوت فيه هارون الشاري وقد مات على أنه تابوته، فزال الشك في موته، وصلى عليه أبو الحسن علي بن عيسى، وظهر بعد ذلك بقاؤه وحياته. وكان أبو بشر عبد الله بن فرجويه قد سلم من النكبة عند القبض على ابن الفرات في الوزارة الأولى، وقام على الاستتار مدة وزارة أبي علي الخاقاني ووزارة أبي الحسن علي بن عيسى. وواصل مكاتبة أبي الحسن بن الفرات في محبسه على يد سومنة الطبيب وتعريفه الأمور، وترددت جواباته إليه بما رسمه له من مكاتبة المقتدر بالله عن نفسه بالطعن على أبي الحسن علي بن عيسى ووقوف الأمر على يده،
(1/35)
________________________________________
وتأخر أرزاق الجند والحواشي في نظره. وكانت رقاعه تصل إلى المقتدر بالله فيقف عليها ابن الفرات فيقرر عنده صحة ما يذكره ويورده، ويهم المقتدر بصرف علي بن عيسى، فإذا شاور مؤنساً فيه منعه منه، ووصفه بالأمانة والكفاية عنده، إلى أن أُخرج مؤنس إلى مصر لمحاربة العلوي، فقام غريب الخال ونصر الحاجب بأمر ابن الفرات قياماً تم على علي بن عيسى الصرف معه. ثم كتب ابن فرجويه رقعة يقول فيها: متى صرف علي بن عيسى ورد ابن الفرات أطلق للولد والحرم والخدم ومن بالحضرة من الفرسان برسم التفاريق مثل ما كان يطلقه في وزارته الأولى تماماً وإدرارا، وحمل إلى المقتدر بالله في كل يوم ألف دينار وإلى السيدة والأمراء خمسمائة دينار. والتمس وقوف ابن الفرات على رقعته وتعرف ما عنده على ما بذله عنه، فعرضها المقتدر بالله عليه فالتزم القيام بذلك والوفاء بجميعه وكتب له خطه واستقر أمره. وأُطلق في اليوم الذي قبض فيه على علي بن عيسى، ووصل إلى المقتدر بالله وخاطبه بالجميل، وقلده النظر في الأمور، وخلع عليه خلع الوزارة، وركب ومعه أبو القاسم غريب الخال وبين يديه الحجاب والقواد والغلمان، ونزل في دار سليمان بن وهب وحضره الناس على طبقاتهم للسلام والتهنئة.
وحمل إليه المقتدر مالاً وثياباً وطيباً وطعاماً وأشربة وثلجاً وكذاك السيدة. وأقام في هذه الدار ثم نقل الدواوين إليها، وكتب إلى الأمراء والعمال بخبره وإقرارهم على أعمالهم. ورد المقتدر بالله ما كان قبض عنه وعن أهله وكتابة وأسبابه من الضياع والأملاك، فارتجع ما كان حصل في أيدي الناس القواد
(1/36)
________________________________________
وخواص المقتدر من ذاك، ووقع بأن يوغر حق بيت المال في جميعه بألف درهم في كل سنة على استقبال سنة أربع وثلثمائة، ووفر جاري الوزارة ولم يأخذه، وتقدم برد جاري أصحاب الدواوين وكتابهم وكتابه إلى ما كان عليه في أيامه الأولى فأضعف ذاك، وصار جاري صاحب ديوان السواد وكتابه مع ثمن الكاغد والقراطيس نحو سبعة آلاف دينار في كل شهر. وأقطع زيدان التي كانت موكلة به ضياعاً بنواحي كسكر ومستغلات بالبصرة لها ارتفاع وافر، ووقع لجماعة من أصحاب السلطان بتسويغات وإقطاع وحمالات، وبسط يده في كل ما فعله من ذلك، وأدر المقتدر بالله ما كان وعده به، وللأمراء والسيدة من ألف وخمسمائة دينار منسوبة إلى رسم الخريطة، ونصب ديواباً للمرافق واستوفاها فيه من العمال والمتصرفين كما تستوفى الحقوق، وتتبع ما بقي من ودائعه السالمة في نكبته، فارتجع منها خمسمائة ألف دينار.
وقدم عبد الله بن فرجويه وعول عليه، وتوفر على أبي محمد بن علي ابن مقلة، وأدخله في أموره وأسراره، وقلده أعمالاً كثيرة، فكانت مدة أبي الحسن بن الفرات في اعتقال المقتدر بالله خمس سنين وأربعة أيام.
وكان عبد الله بن جبير عند مقامه بواسط في أيام علي بن عيسى قد عرف قدر ارتفاعها وما يتحصل لحامد بن العباس من الفضل في ضمانها، فلما عاد إلى بغداد وقد وزر ابن الفرات عظم ذلك عنده.
وكان حامد لما انقضت مدة الضمان الذي عقده الخاقاني عليه أخر عن علي
(1/37)
________________________________________
ابن عيسى الوظيفة التي كان يحملها في كل شهر، وطالب بتجديد الضمان. وكاتب علي بن عيسى بأنه محمول على ما كان تقرر معه ومجرىً في الشراط عليه، وله على ما في وثيقته، ولم يثبت الكتاب في الدواوين، لكن حامداً ركن إليه وعول عليه. واستأذن عبد الله بن جبير ابن الفرات في مكاتبة حامد بما أخرج عليه، فأذن له، وكاتبه مكاتبة أجاب عنها بالاحتجاج لنفسه، وتردد من القول ما بسط ابن جبير معه لسانه فيه. وبلغه فظن أنه عن مواطأة من ابن الفرات له عليه، وشرع فيما يدفع به التأول عنه. وكان قسيم الجوهري يشرف للسيدة أم المقتدر بالله على ضياعها بواسط، ويكثر هناك المقام، ويحضر عند حامد فيبسطه ويتوفر عليه، فوافقه على السفارة له في الوزارة، وأصعد قسيم وخاطب نصراً الحاجب في ذلك وأطعمه في حامد، وملأ يده منه، وعرفه سعة صدره وسخاء نفسه، وضمن له عنه تصحيح المال الكثير من ابن الفرات وأسبابه، وراسل السيدة أيضاً. ووافق هذا القول والسعي سوء رأي نصر الحاجب في ابن الفرات، وخوفه منه وكثرة الوقيعة فيه، وقول الناس إنه قلد ولده الدواوين، وأقاربه الأعمال وأخذ من ودائعه القديمة التي الجملة اتسعت الأقوال فيها وكتبه إلى العمال بحمل المرافق إلى هارون بن عمران، وإفراده إياه بذلك وبقبض أموال المصالحين والمصادرين وعدله بها عن بيت المال. وأن المقتدر بالله طلب من ابن الفرات مالاً لبعض مهمه فمنعه منه
(1/38)
________________________________________
واعتل عليه فيه، فتم بذلك أمر حامد، وروسل بالاصعاد إلى الحضرة، وأن يكتب على عدة أطيار بخروجه في يومه ليقبض على ابن الفرات عند المعرفة بتوجهه، فأصعد، وكتب بخبره، وعرض الكتاب أبو القاسم بن الحواري على المقتدر بالله، فلما وقف عليه أنفذ نصراً الحاجب وشفيعاً المقتدري إلى دار أبي الحسن ابن الفرات حتى قبضا عليه في وقت العصر من يوم الخميس لثلاث بقين من جمادي الأولى سنة ست وثلثمائة، وعلى المحسن ابنه وموسى بن خلف وعبد الله بن فرجويه وعيسى بن جبير وسعيد بن إبراهيم التستري ودولة أم ولد أبي الحسن بن الفرات والحسن ابنها منه، وحملا الجماعة إلى دار الخلافة، واعتقل أبو الحسن وحده عند زيدان والباقون عند نصر الحاجب، وختم أبو نصر بشر بن علي خليفة حامد ببغداد على جميع الدواوين. وإنما قبض على ابن الفرات في داره لأن الارجاف قوي بصرفه قوةً استوحش منها كتابه وأصحابه وكان إذا ركب إلى دار السلطان تفرقوا واستتروا، وإذا عاد إلى داره ظهروا وحضروا وركب في أول النهار وهم على الجملة من الخوف والإشفاق، وعاد فعادوا على السكون إلى ذلك. وكانت مدة نظره في هذه الدفعة سنةً وخمسة أشهر وتسعة عشر يوماً.

ثم وزر الوزارة الثالثة
وأُخرج من حبسه عند زيدان القهرمانة يوم الخميس لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة، وخلع عليه وعلى أبي أحمد المحسن ابنه، وقد كان
(1/39)
________________________________________
أُفرج عن المحسن من قبل وأقام في منزله، وركبا إلى داريهما بسوق العطش وجلسا للتهنئة، وظهر أولادهما وكتابهما وحواشيهما وأسبابهما. فأما حامد فإن أبا الحسن ابن الفرات أقره على أعمال واسط بحكم ما شرطه المقتدر بالله عليه في أمره. وخاطبه بنحو مما خاطب هو علي بن عيسى به عند خلافته إياه.
وقد كان أصحاب الدواوين في وزارة أبي علي الخاقاني شرطوا على حامد في ضمانه الأول لأعمال واسط أن يؤدي في آخر سني ضمانه لما ينفق على كري الأنهار وحراسة البزندات والبذور والمعاون مثل ما أنفق وأطلق في ذلك في آخر سنة من سني الاعتبار عليه وكان نيفاً وتسعين ألف دينار ليتولى عمال السلطان الإنفاق، وشرطوا له أن يؤخر باعتبار أموال الخراج والضياع الخاصة العباسة ومبلغه مائة وسبعة وخمسون ألف دينار إلى آخر سني الضمان لتصير الجملة مائتين وخمسين ألف دينار. فما زالت المطالبة بذلك تتأخر مع تجديد الضمان سنة بعد أخرى. وقلد أبو الحسن بن الفرات أبا سهل النوبختي أعمال المبارك، وأبا العلاء محمد ابن علي البزوفري أعمال الصلح والمزارعات، ووافقهما على مطالبة حامد بالمال المذكور، فطالبه النوبختي مطالبة الكتاب، وسلك البزوفري معه سبيل العنت والإرهاق، وتبسط عليه في المناظرة والخطاب، ثم عمل له الأعمال، وادعى عليه أنه ابتاع من المزارعات السلطانية بأسافل الصلح ضواحي الجامدة في أيام الخاقاني
(1/40)
________________________________________
وبعدها ضياعاً جليلة، وأخرج عليه من الفضل فيها خمسمائة ألف دينار، مكثراً عليه بذلك. ورأى ابن الفرات تجرد البزوفري لما هو متجرد له من استعمال القبيح مع حامد وعمل الأعمال فيه، فكاتبه وأحمد فعلته، وأنفذ إليه المؤامرات المعمولة بالحضرة له، وأمره بمطالبته والاستقصاء عليه والابتداء بنفقات المصالح والبزندات والبذور والمعاون هو والنوبختي، وإنفاقها على عمارة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
فأجاب البزوفري بأن حامداً ليس يلتفت إليه، ولا يعطي شيئاً من المال، وقد بدأ بإطلاق ما يريد إطلاقه للمزارعين وأهل البلاد للعمارة المستأنفة، وادعى شروعه في ضمان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وأنه غير متمكن منه مع قوته، وأن معه أربعمائة غلام كبار يتبعهم آخرون وسبعمائة رجل، وأهل البلاد على ميل إليه وتعصب له. فعرض ابن الفرات كتابه على المقتدر بالله، فأمر مفلحا الأسود بإنفاذ مائة غلام من الحجرية ومائة راجل من المصافية إلى واسط للشد من البزوفري وبسط يده. وقال لابن الفرات: اكتب إليه بإثبات خمس مائة راجل يستظهر بهم على أمره. ففعل جميع ذلك. وكتب ابن الفرات إلى البزوفري يرسم له التوكيل بحامد عند وصول من أنفذ إليه، ومطالبته عاجلاً بالمصالح والبذور، إذ ليس يأذن السلطان في عقد الضمان مستأنفاً عليه. فأشارع البزوفري ذلك قبل ورود القوم، وعرف حامد الخبر في وقته، فأظهر ورود كتاب المقتدر بالله عليه بالمبادرة إلى الحضرة، فضرب البوق
(1/41)
________________________________________
وأصعد بكتابه وحواشيه ورجالته، ومعه ثيابه وفرشه وآلته بعد ما أودعه بواسط من ماله، وسار في السفن والسميريات، وأنفذ كراعه على الظهر، فلم يقدر البزوفري على منعه ولا الاعتراض عليه في فعله، لكنه بادر إلى ابن الفرات بالخبر على الطيور. فلما عرفه انزعج منه، وظن أنه عن أصل انطوى عنه، واستشار المحسن ابنه وخواصه فيما يدبر الأمر به. فقالوا تنهي إلى المقتدر ما كان منه، وتستعلم ما عنده فيه. ففعل وقال المقتدر: ما كوتب بشيء مما ادعى أنه كوتب به، وتقرب بينه وبين ابن الفرات إنفاذ نازوك إلى المدائن في عدد كثير من الغلمان والرجالة والفرسان للقبض على حامد وأسبابه، ووقف نازوك على ذلك. واتصل بحامد انحدار نازوك، فاستتر وترك سفنه وماله وأصحابه، ووافى نازوك فقبض على ما وجده له وحمله، وأمر المقتدر بالله بتسليم الحسبانات إلى ابن الفرات، والكراع في الاصطبلات، وما سوى ذلك إلى الخزائن. ووقع الارجاف بأن المقتدر بالله كاتب حامداً ينكر عليه خروجه من واسط على الحال التي خرج عليها، ورسم له الاستتار ودخول بغداد سراً ليرده إلى الوزارة، ويسلم إليه الجماعة، فأشفق أبو الحسن بن الفرات واستتر المحسن والحسين والحسن أولاده وحرمهم وكتابهم.
(1/42)
________________________________________
وكانت سعادة حامد قد انقضت، ومدته قد انقرضت، فدعاه المقدور إلى قصد دار السلطان في زي الرهبان، واستأذن على نصر الحاجب، فلما دخل ورآه قال له: إلى أين جئت؟ قال: جئت بكتابك. قال: إلى ها هنا كاتبتك بالمجيء؟ ولم يقم له ولا وفاه حقه؛ واعتذر إليه بخوفه من سخط الخليفة متى تجاوز به ما وقف عنده. وراسل نصر مفلحاً الأسود بالخروج إليه، لأن المقتدر بالله كان عند الحرم، فخرج إليه وقال له: قد ورد حامد على ما تراه من هذه الصورة، وهو اليوم في موضع رحمة، وما أولاك باستعمال الجميل معه. وقال حامد لمفلح: تقول لأمير المؤمنين أنا أرضى بأن اعتقل في دارك كما اعتقل علي بن عيسى، ويناظرني الوزير والمحسن والكتاب بحضرة القضاة والفقهاء والقواد، فإن وجب علي شيء خرجت منه بعد أن أُومن على نفسي، وأُمكن من استيفاء حججي. ويمنع المحسن من مقابلتي على المكاره التي أوقعتها به في طاعة أمير المؤمنين، فإنه شاب وبسط يده على مثلي ممن بلغ إلى مثل سني ووجب له من الحرمة ما وجب لي غير لائق بعادات أمير المؤمنين. فأراه مفلح أنه يفعل، ودخل إلى المقتدر فأورد عليه ضد ما قاله، وتكلمت السيدة في أمر حامد وأجابته إلى سؤاله. فقال مفلح: متى فعل ذلك لا يتم لابن الفرات أمر مع الأراجيف الواقعة به. فقال له المقتدر بالله: صدقت. وأمره بأن يتقدم إلى نصر بإنفاذ حامد إلى ابن الفرات، فخرج إليه وعرفه ما رسم له. فاستدعي حامد من نصر ثياباً يغير بها ما عليه، فامتنع مفلح من الإذن له في ذلك، وقال: وقد أمرني مولانا بإنفاذه على زيه الذي حضر فيه. فلم يزل نصر يشفع له إلى أن أذن في تغيير، وأنفذه مع ابن الزنداق الحاجب.
(1/43)
________________________________________
فلما دخل على ابن الفرات قال له: لم جئت؟ قال بكتابك. قال له: فلم لم تقصد داري؟ قال: حرمت التوفيق. قال له: لا ولكنك عملتها طائيةً فجاءتك طائية. وذاك أن الطائي ضمن إسماعيل بن بلبل من الموفق وصار إلى داره في زي الفيوج ليقيم فيها ليلته وينجز له من غد ما وعده، فلما حصل عنده أنفذه إلى إسماعيل في ذلك الزي، فأوقع به إسماعيل مكروهاً غليظاً، واستخرج منه ومن كتابه مالاً جليلاً. وتقدم أبو الحسن بن الفرات إلى أستاذ داره بأن يفرد لحامد داراً يفرشها فرشاً جميلاً، ويتفقده في طعامه وشرابه وطيبه تفقداً كثيراً. ونحن نذكر تمام حديثه إلى حين وفاته في أخباره.

أسماء القوم الذين قبض المحسن بن أبي الحسن بن الفرات عليهم ونكبهم وقتلهم وأبعدهم وما جرى عليه أمر كل واحد منهم
قد ذكرنا من أخبار حامد بن العباس وعلي بن عيسى ما لا فائدة في تكريره، فأما سليمان بن الحسن فقبض المحسن عليه من ديوان المشرق، وكان يتولاه مع غيره من الدواوين، فصادره على ما صح منه خمسون ألف دينار ثم أخرجه إلى فارس.
وأما أبو علي بن مقلة فكان يتقلد لعلي بن عيسى في وزارة حامد زمام السواد، فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات تجلد ولم يستتر، وحضر مجلسه، فأعرض عنه إعراضاً
(1/44)
________________________________________
غض به من محله، ولم يقبض عليه مراعاة للمودة بينه وبين أبي القاسم بن الحواري. فلما قبض على ابن الحواري أنفذ المحسن أبا غانم كاتبه حتى قبض علي ابن مقلة وقيده، وقد شرحنا حديثه في أخباره. وأما أبو القاسم علي بن محمد الحواري فإنه تأخر عن تهنئة ابن الفرات في صدر نهار يوم الجمعة، وراح إليه في آخره، وأطال عنده، وآنسه ابن الفرات وشاوره في أموره، وخلا به خلوة طويلة اعتمد فيها سكون نفسه، وراسله ابن الفرات فتحقق بخدمته وأظهر السرور بولايته مع ما اعتقده باطناً من مخافته، وقد كان أصحاب ابن الحواري أشاروا عليه بالاستتار عن ابن الفرات وقالوا له: إن الخليفة لم يكتمك أمره وما عزم عليه من تقليده مع ما يعرفه من العداوة بينكما إلا لسوء رأي فيك. فلم يقبل ذلك وقال: لو كان الأمر على ما قلتم لقبض علي قبل إخراجه إياه وإظهار أمره، وما أرى أن أنكب نفسي بسوء الاستشعار مني. لكنه ستر حرمه وولده واستظهر بعض استظهار في رحله وماله. وركب ابن الحواري إلى دار السلطان وحضر ابن الفرات وأذن له ولم يؤذن لابن الحواري. فاستوحش من ذلك، ثم صرف الأمر إلى أن ابن الفرات قد شرط على المقتدر بالله أن يجريه على رسمه في وزارته الثانية، فإن ابن الحواري لم يكن يصل معه ظاهراً وإنما كان يصل سراً. فلما خرج ابن الفرات من حضرة المقتدر بالله وجلس في الدار التي أفردت له للنظر في أمر القواد والحواشي دخل معه
(1/45)
________________________________________
ابن الحواري فأقبل عليه وشاوره في ما كان يخاطب عليه، وقال له: قد غبت عن مجاري الأمور منذ خمس سنين وأنت عارف بما كان علي بن عيسى قرر عليه أمر الحاشية، وأريد أن تنبهني وترشدني وتعاونني وتعاضدني، وتستعمل في ذلك ما تقتضيه المودة. فقال له: السمع والطاعة. ووعده بالإخلاص في المناصحة، وفاوضه ابن الفرات حديثاً طويلاً ونهض قبل أن يستتمه، ونزل إلى طياره ونزل ابن الحواري معه وأحمد بن نصر البازيار ابن أخيه، ومحمد بن عيسى صهره، وعلي بن مأمون الإسكافي كاتبه، وعلي بن خلف أخو محمد بن خلف صهره، فأكرم جماعتهم وأخذ يحادثهم ويضاحكهم إلى أن صعد من طياره إلى داره، ووصل إلى بعض الأروقة ثم أسر إلى العباس الفرغاني حاجبه سراً أمره فيه بالقبض عليهم ففعل، واعتقلهم في بعض الحجر، واستدعى شفيعاً اللؤلؤي، وأنفذه إلى دار ابن الحواري وأمره بحفظها وحراستها، وأنفذ إلى إصطبلاته بمن قاد دوابه وبغاله وساق جماله إلى إصطبلات السلطان، ونقل فاخر ثيابه وفرشه وآلاته إلى الخزائن، ووصي ابن الفرات قهرمان داره بإحسان مراعاة ابن الحواري في مأكوله ومشروبه. ثم راسله مع عبد الله بن جبير وغيره في تقرير أمره، وواقفه على أعمال عملت له قبل القبض عليه، فسأل أن يوسط بينه وبين أبا بكر بن قرابة، وكان ابن قرابة متحققاً بابن الفرات في هذا الوقت وبابن الحواري من قبل، فوسطه ذلك، وتقرر مصادرة ابن الحواري خاصةً من دون كتابه وأسبابه على سبعمائة ألف دينار، يعجل منها مائتين وخمسين ألف دينار ويحتسب له عن ثمن المأخوذ منه بخمسين
(1/46)
________________________________________
ألف دينار ويؤدي الباقي في أربعة وعشرين شهراً بعد أن حلف أن قيمة المأخوذ منه ثلاثمائة ألف دينار. واشترط إطلاق أحمد بن نصر البازيار ليقوم بمال التعجيل، فأُطلق وأزيل التوكيل عن دوره وسلم الباقي فيها إلى أحمد بن نصر. وتسلم المحسن بن أبي الحسن بن الفرات من بعد ذلك ابن الحواري فصفعه صفعاً عظيماً في دفعات وضربه بالمقارع. ثم أخرجه إلى الأهواز في طيار خدمه غير مقيد، وأنفذ معه الحبشي المستخرج. وحدر أيضاً في هذه الجملة سليمان بن الحسن وأبا علي بن مقلة، فلما وصلوا إلى البصرة وتوجهوا منها إلى الأهواز طرح الحبشي ابن الحواري في الماء منكساً وشد رجليه في شكات الطيار وهو سائر وبلغ موضعاً يعرف بالمنارة أسفل الأُبلة بفرسخ فأخرجه، وقد بقي فيه أدنى رمق فخنقه غلمان سودان كانوا معه ودفنوه، وحمل سليمان وابن مقلة إلى الأهواز. وأما ابن حماد الموصلي فإن ابن الفرات كتب إلى محمد بن نصر بالقبض عليه وحمله إلى الحضرة، فعرف ابن حماد ذلك وهرب، فوجد في عمر يقارب بلد فأُخذ وحمل إلى محمد بن نصر فضربه ضرباً أثخنه، لعداوة كانت بينه
وبينه، ثم أنفذه، فتسلمه المحسن وأمر ابن أبي عمر كاتبه وابن حبشي المستخرج بصفعه، فأوقعا به فلم يرض بذلك حتى أحضره بين يديه وصفعه على رأسه إلى أن خرج الدم من فيه ومات في ليلته. وخاف المحسن إنكار المقتدر بالله ما جرى في أمره فأظهر أن محمد ابن نصر أنفذه مثخناً بالضرب فتلف مما ناله منه. بينه، ثم أنفذه، فتسلمه المحسن وأمر ابن أبي عمر كاتبه وابن حبشي المستخرج بصفعه، فأوقعا به فلم يرض بذلك حتى أحضره بين يديه وصفعه على رأسه إلى أن خرج الدم من فيه ومات في ليلته. وخاف المحسن إنكار المقتدر بالله ما جرى في أمره فأظهر أن محمد ابن نصر أنفذه مثخناً بالضرب فتلف مما ناله منه.
(1/47)
________________________________________
وأما علي بن الحسن الباذبيني، وكان رجلاً متسلما، وتقلد ديوان الضياع المقبوضة في أيام علي بن عيسى، فقبض عليه المحسن وصادره على أحد عشر ألف دينار. وأعاد المكروه عليه فبلح في يديه، وأيس من حصول شيء منه. وأخرجه إلى الموصل فلم يزل مقيماً بها إلى أن وزر أبو القاسم عبد الله بن محمد الخاقاني.
وأما أبو المنذر النعمان بن عبد الله فقد كان تاب من خدمة السلطان، ولبس الخف والطيلسان، وحضر مجالس الوزراء بهما كان تحضر مشايخ الكتاب إلا أنه كان متحققاً بحامد بن العباس وعلي بن عيسى ونصر الحاجب. فلما تقلد ابن الفرات الوزارة في هذا الوقت لم يجد عليه متعلقاً ولا متسلقاً، وكان يحضر مجلسه فيكرمه، وخاف النعمان على نفسه منه لما كان يشاهده من المحسن وإقدامه على ما يقدم عليه فلازم نصراً الحاجب وثمل القهرمانة، وكان يروح إليهما في أكثر العشيات ويقيم عندهما إلى أن تمضي قطعة من الليل. فاتفق أن خرج في بعض الليالي من دار ثمل القهرمانة ومعه إبراهيم حاجبه فرآه أحد أصحاب الأخبار الذين لابن الفرات، فكتب إليه بخبره، وبأنه سمعه يقول لبعض العمال المعطلين وقد لقيه في طريقه: ما عندك من الأخبار؟ فقال: كثرة الأراجيف بابن الفرات. فقال له النعمان: على أن يكون الوزير من؟ قال: أنت أو محمد بن علي المادرائي أو عبد الله بن محمد الخاقاني، والأقوى في الظنون أنت. فقال له: ومن لهم بأن أساعدهم على ذلك. فلما قرأ ابن الفرات هذا الفصل سلمه إلى المحسن، وأمره بإحضار النعمان وأن
(1/48)
________________________________________
يعرض عليه ولاية الأعمال بالأهواز وفارس، فإن استجاب حمله معه ليكتب له الكتب ويخرج إلى عمله، وإن امتنع أوقفه على الفصل وقال له: ليس يصلح للوزير ولا لي مقامك بالحضرة، فأخرج إلى حيث تختار من غير إخراج ولا توكيل. فأحضره المحسن وخاطبه بذلك فامتنع من العمل، فأقرأه حينئذ الفصل من رقعة صاحب الخبر، وتقدم إليه بالخروج إلى حيث يريد، فاختار واسط، وانحدر إليها لحينه. فلما دخلها قصده العمال والتناء هناك، ولقوه وأكرموه وعظموه. وكتب إلى ابن الفرات بذلك، فكتب إلى محمد بن علي البزوفري بالقبض عليه، فقبض عليه في يوم جمعة من المسجد الجامع، وطالع ابن الفرات بحاله، فرسم له مطالبته بما بقي عليه من مال مصادرته في وزارته الثانية وهو سبعة عشر ألف دينار. ففعل البزوفري ذلك وأدى النعمان سبعة آلاف دينار. وأما أحمد بن محمد بن بسطام فكان مصاهراً لحامد بن العباس ومتقلداً بهرسير والرومقان وإيغار يقطين في وزارة علي بن عيسى. فلما رأى ما الناس فيه مع المحسن بن الفرات واستتر عند الشاه بن ميكال، وعرف المحسن خبره فكبسه وأخذه وقرر عليه ثلاثمائة ألف دينار، وطالبه مطالبة زاد فيها، حتى أخرجه من نعمته وضيعته، ثم عمل على إخراجه إلى واسط عند قرب مؤنس واستيحاشه منه،
(1/49)
________________________________________
وكتب له بولاية بعض النواحي فخاف وقوع حيلة عليه بذلك، فاستتر استتاراً ثانياً حتى زال أمر ابن الفرات. وأما إبراهيم أخو علي بن عيسى فإنه كان ملازماً لمنزله في أيام حامد وعلي ابن عيسى، فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات تأخر عن تهنئته، فوقع إليه توقيعاً جميلاً أمره فيه بالمصير إليه، فجاءه من وقته، وقبض عليه وطالبه بأحد عشر ألف دينار، بقيت عليه من جملة خمسين ألف دينار صادره عليها في وزارته الثانية. فاحتج إبراهيم بأن المقتدر بالله وضعها عنه، وأظهر توقيعاً معمولاً في الدواوين شاهداً على قوله، فلم يقبل ذلك منه، وطالبه حتى أدى المال، فلما أداه أحضره مجلسه، وواقفه على أمور كانت في نفسه عليه منذ أيام العباس بن الحسن، وصادره مصادرة مجددة على عشرين ألف دينار، ثم سلمه إلى المحسن فأوقع به مكروهاً شديداً إلى أن وفى القيمة، ثم نفاه إلى البصرة، وسلمه إلى ابن أبي الأصبغ عاملها، فقيل: إنه سمه فمات. وأما عبيد الله أخوه فإنه كان عليلاً في منزله، فأنفذ المحسن من حمله إليه في محفة وطالبه وأوقع به مكروهاً كرره إلى أن ضمنه أبو الحسين بن روح وجماعة بما قرره عليه. فلما أداه أخرجه إلى الكوفة. وأما أبو علي عبد الرحمن فإنه استتر بعد القبض على أبي الحسن أخيه، فلم يعرف به خبر مع شدة الطلب له، والحرص على حصوله.
وأما أبو الحسن علي بن مأمون الإسكافي كاتب ابن الحواري فصودر على مائة ألف دينار، وأدى بعضها، وتلف تحت المكروه.
(1/50)
________________________________________
وأما أبو الحسين محمد بن أحمد بن أبي البغل فكان بفارس، وكتب المحسن إلى جعفر بن محمد العامل هناك بالقبض عليه وعلى زيد بن إبراهيم عامل كرمان، ومصادرتهما على مال حده له، فإن أذعنا وإلا أشخصهما إلى الحضرة، فافتديا أنفسهما بما التمس منهما إشفاقاً من إنفاذهما إلى المحسن.
وأما أبو زنبور الحسين بن أحمد المادرائي فكان ضامناً لمصر والشام في أيام حامد فتنكر له أبو الحسن علي بن عيسى وصرفه بأبي الحسين محمد بن الحسن بن عبد الوهاب كاتبه وولي أبو الحسن بن الفرات فأقر أبا الحسين على نظره وكاتبه بحمل أبي زنبور إلى الحضرة، وكان بدمشق، فأنفذه إلى مؤنس المظفر وهو بحلب، وأنفذ ابن الفرات اعتقالاً جميلاً. ثم جمع القضاة وأصحاب الدواوين وأخرجه إلى مجلسه، وقد حضر المحسن وأبو العلاء بن سنجلا كاتبه على ديوان المغرب وأحضرا أعمالاً عملاها له، ووقعت المناظرة له على أبوابها، فألزمه ابن الفرات منها ألفي ألف وأربعمائة ألف دينار، ثم استكثرها فحط منها سبعمائة ألف دينار، وأخذ خطه بالباقي وعرضه على المقتدر بالله فأحمد فعله فيه، وزاد ابن الفرات في مراعاة أبي زنبور وإحسان عشرته لأنه كان يسترجله ويستجلده، وسامه أن يواجه علي بن عيسى بأنه أرفقه في أيام تقلده ديوان المغرب وبعد ذلك في وزارته، فاستعفاه. فقال له ابن الفرات: فلم واجهتني بأمره وليس تواجهه بأمري. فقال له: ما أُحمدت عاقبة تلك الحال ولا استحسنها لي أحد، مع الظاهر من إساءة الوزير إلي بتسليمه إياي إلى ابن بسطام
(1/51)
________________________________________
وبسط يده علي في أيام وزارته الثانية فكيف تستحسنون لي الآن معاملة علي بن عيسى بالقبيح على ماله عندي من الجميل القديم فأمسك ابن الفرات عنه.
وقدم محمد بن علي المادرائي من مصر، ولم يكن تقلد في وزارة حامد عملاً، فنوظر على أموال تلزمه وبقايا عليه في وقت شركته للحسين بن أحمد، فاحتج لنفسه احتجاجاً قاله له ابن الفرات في آخره: فلست بأعلم وأعرف من الحسين بن أحمد، وقد أورد أكثر مما أوردت، فلم يدفع ذلك عنه ما وجب عليه. وأخذ خطه طوعاً بألف ألف ومائة ألف دينار. وكتب عليه بها كتاب دين للمقتدر بالله في نجوم ثبتت، وأشهد على نفسه القضاة والشهود فيه. وكان المحسن بن الفرات يكرم محمد بن علي ويتطاول له إذا حضر عنده، وأطلقه إلى داره رعاية لما ذكر أنه حمله إليه من أموال كثيرة وجواهر ثمينة وخدم روقة وسلم محمد بن علي والحسين بن أحمد إلى مؤنس المظفر عند خروجه إلى الرقة ليستوفي منهما ما تقرر عليه أمرهما ويصرفه في نفقات رجاله. وكان مؤنس المظفر عند تقلد أبي الحسن بن الفرات الوزارة في هذه الدفعة غائباً في الغزو. فلما عاد كثر الحديث بإنكاره ما جرى على الكتاب وغيرهم من أبي الحسن بن الفرات والمحسن ابنه، وما كان من وفاة حامد مسموماً وأن أكثر الفرسان التفاريق المقيمين بالحضرة قد عملوا على أن ينضموا إليه لتروج لهم أرزاقهم به. فثقل ذلك على ابن الفرات، وركب بعد أسبوع من قدوم مؤنس إلى المقتدر بالله
(1/52)
________________________________________
وخلا به، وعرفه ما عليه مؤنس من اجتذاب الجند إليه، وأن ذلك إن تم غلب على الأمر وصار أمير الأمراء ومد يده إلى الأموال وأقل مراعاة الخدمة واحتشام الخلافة. وأغراه شديداً وخوفه منه تخويفاً كثيراً. فلما ركب مؤنس إلى المقتدر بالله قال له بمحضر من ابن الفرات: ما شيء أحب إلي من مقامك، عندي لأنني أجمع في ذلك بين الأنس بقرب دارك، والتبرك برأيك والانتفاع بمكانك، ولكن أرزاق الفرسان التفاريق عظيمة، وما يمكن إطلاقها ولا النصف منها على إدرار، ولا يطيعون في الخروج إلى بعض الجهات، وإذا أقمت طالبوا بالانضواء إليك، فإن أُجيبوا لم يف ما يحمل من أموال السواد والأهواز وفارس والمشرق بنفقات الحضرة ومال من يجتمع معك، وإن لم يجابوا شغبوا وافتتن البلد. ثم إنك إن أقمت لم يرج مال ديار مضر وربيعة والشام، ووقف ما قرر على المادرائيين، والصواب أن تخرج إلى الرقة، فإنها واسطة أعمالك وعمال الخراج والمعاون بمصر والشام يهابونك ويراقبونك، ويحملون الأموال مراعاة لك وخوفاً منك، ويستقيم أمر المملكة بذلك. وأمره بالشخوص إلى هناك من وقته في سائر من برسمه. وكان المتكلم عن المقتدر بالله ابن الفرات. فعلم مؤنس أنه أمر قد تقرر برأيه وتدبيره وعلى حكم ما يعتقده من عداوته، فقال: السمع والطاعة لأمير المؤمنين، إلا أنني استأذن في المقام بقية شهر رمضان، فإذا أفطرت وعيدت سرت وتوجهت. فقال له: افعل. فلما عيد ركب إلى ابن الفرات لوداعه ودخل إليه فقام له قياماً تاماً، واستعفاه مؤنس من ذلك فلم يعفه وحلف عليه أن يجلس معه على المصلى فامتنع. وسأله مؤنس في عدة أمور فوقع له بها وأجابه إلى جميعها، ونهض فأراد ابن الفرات
(1/53)
________________________________________
القيام له عند نهوضه فأقسم عليه برأس الخليفة أن لا يفعل، وسار إلى الرقة.
وأما نصر القشوري الحاجب فإن ابن الفرات لما فرغ من إخراج مؤنس وإبعاده عن الحضرة عدل إلى أمره، وكثر على المقتدر بالله الأموال في جنبه، وأعلمه عظم ضياعه وارتفاعه ومرافقه ومنافعه وما يصل إليه من أعمال المعاون المرسومة بولايته، فأجابه إلى القبض عليه، وتسليمه إليه دون شفيع المقتدري وقد كان القول منه فيهما جميعاً. وعرف نصر ما جرى في بابه، فلجأ إلى السيدة، ومضى في بعض أيام نوبته إلى منزله واستتر، وكلمت السيدة المقتدر بالله في أمره وقالت له: قد أبعد ابن الفرات مؤنساً وهو سيفك، ويريد أن ينكب نصراً وهو حاجبك، ليمكن من مجازاتك على ما فعلته من إزالة نعمته وهتك حريمه. فيا ليت شعري من يكون عونك عليه مع ما قد ظهر من شره وشر المحسن ابنه وأخذهما الأموال وقتلهما النفوس؟ فوعدها بالدفع عن نصر، وراسلت السيدة نصراً بالظهور والحضور، فأمن وأنس، وعاد إلى خدمته. واستأنف التذلل لابن الفرات وابنه. وما ترك ابن الفرات الوقيعة فيه، والإغراء به حتى قال للمقتدر بالله: ما ضيع عليك الأموال التي أنفقتها على محاربة ابن أبي الساج غيره، لأنه عاداه وأوحشه من أجل غلام له كان يتولى أعمال أرمينية، فصرفه ابن أبي الساج، فأفسد رأيك يه حتى جرى ما جرى.
فلما كان في بعض أيام حضر صاحب لأبي طاهر محمد بن عبد الصمد
(1/54)
________________________________________
أحد القواد المضمومين إلى ابن أبي الساج عند ابن الفرات، فعرفه أن كتاب أبي طاهر ورد عليه بأن يوسف بن أبي الساج واقع أحمد بن علي فقتله وأخذ رأسه وحمله مع جثته إلى بغداد. وركب المحسن إلى المقتدر بالله واستأذن عليه، فأوصله مفلح الأسود حيث لم يحضر نصر الحاجب، وبشره بالفتح وقرأ عليه الكتاب الوارد به، وعرفه أن نصراً يكره ذاك، فلهذا طواه عنه وكتمه إياه. ولم يبعد بعد هذه الحال أن وجد المقتدر بالله رجلاً أعجمياً واقفاً على سطح مجلس من مجالسه، وعليه ثياب دبيقية. ومن تحتها ثياب صوف ومعه محبرة ومقلمة، وأقلام وسكين وورق وسويق. فأخذ وسئل عن أمره فقال: ما أخاطب إلا صاحب الدار. فقيل: قل ما عندك. قال: ما يجوز. وأخرج إلى أبي الحسن ابن الفرات، فقال: أنا أقوم مقام صاحب الدار، فقل ما عندك. فقال: ليس يجوز إلا خطابه في نفسه. فرفق به فلم يغن الرفق. وحمله الخدم حينئذ وضربوه ضرباً عنيفاً، فعدل عن الكلام بالعربية إلى قوله بالفارسية: ندانم ولزم هذه اللفظة فلم يزل عنها في كل ما يخاطب به، وأخرج بعد أن مات تحت العقوبة إلى رحبة الجسر، وصلب هناك وضرب بالنار. وتحدث الناس بأن ابن الفرات دسه ليوهم المقتدر بالله أن نصراً الحاجب أراد الاحتيال عليه به.
(1/55)
________________________________________
وخاطب ابن الفرات نصراً الحاجب بحضرة المقتدر بالله في أمر هذا الرجل فقال له: ما أظنك ترضى أن يجري عليك في دارك مثل ما جرى على دار أمير المؤمنين، وأنت حاجبه، مما لم يتم على أحد من الخلفاء، ولا شك أن الرجل صاحب أحمد بن علي أخي صعلوك لأنه عجمي، فإما أن يكون أحمد بن علي واطأك على أمره قبل قتله وأنفذه فورد في هذا الوقت، أو تكون دسسته لثقتك بأمير المؤمنين خوفاً على نفسك منه، فمعلوم أن ابن أبي الساج عدوك وأنك صديق أحمد بن علي. فقال له نصر الحاجب: ليت شعري لم أفعل بأمير المؤمنين وهو مصطنع مثل ذلك، لأنه أخذ أموالي وضياعي وحبسني خمس سنين؟ قال المقتدر بالله لنصر: دع هذا، فلو تم على بعض العامة ما تم علي لكان عظيماً. فقال: يا أمير المؤمنين، ابن الفرات يقف أمري، ويسعى علي بقبيح أثري، ويؤخر أرزاق الرجالة المصافية الذين برسمي وكانوا عشرة آلاف رجل فأجابه ابن الفرات جواباً استوفاه، وبين الزيادة فيما ينصرف إليه على ما كان يقبضه نظراؤه. وقال للمقتدر بالله: إن أمر أمير المؤمنين أن أُخرج أرزاقه وأرزاق أولاده وغلمانه وفوائده ومرافقه وما كان يقام لأمثاله من الحجاب في أيام الناصر والمعتضد والمكتفي فعلت. فتقدم إليه بذلك، وواقف ابن الفرات الكتاب عليه، وضعفت نفس نصر الحاجب وكانت السيدة تشد منه، وتواصل خطاب المقتدر بالله في معناه، واندفع أمره إلى أن ورد الخبر في يوم الجمعة لثمان بقين من المحرم
(1/56)
________________________________________
سنة اثنتي عشرة وثلثمائة بأن أبا طاهر بن أبي سعيد الجنابي أخذ الحاج بالهبير وأسر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأحمد ابن كشمرد ونحريرا العمري وأحمد بن بدر عم السيدة وشفيعاً خادمها وفلفلاً وجماعة من الحرم والخدم، ومات الكثير من الناس بالعطش والحفا والرجلة فانقلبت بغداد في جانبيها، وخرجت النساء إلى الطرقات مسودات الوجوه منشرات الشعور يصرخن ويلطمن، وانصرف إليهن حرم من نكبه وقتله ابن الفرات. فقبحت الحال قبحاً شديداً. وتقدم ابن الفرات إلى نازوك بالركوب إلى المساجد الجامعة لزم العامة ومنع الفتنة. وضعفت نفس ابن الفرات بهذه الحادثة، وركب في آخر نهار يوم السبت إلى المقتدر بالله، وشرح له الصورة على ما أورده الزنجي سابق الحاج، واستدعى المقتدر بالله نصراً الحاجب، وأدخله في الخطاب والمشاورة، فانبسط لسان نصر على ابن الفرات وقال: الساعة تقول ما الرأي بعد أن زعزعت أركان المملكة، وأطمعت الأعداء بإبعاد مؤنس عن الحضرة، ومن يدفع الآن هذا العدو إن حاول بالسلطان أمراً؟ وأشار على المقتدر بالله بمكاتبة مؤنس واستقدامه، فأمره بذلك. فلما خرجا سأل ابن الفرات نصراً ألا يكتب إلى مؤنس شيئاً إلا بعد نفوذ كتابه، فوعده بالتوقف وعداً لم يف به. وأنفذ الرسل من وقته، وكتب إليه ابن الفرات عن المقتدر بالله بالانكفاء إلى الحضرة. ووثب العامة إلى ابن الفرات، ورجموا طياره بالآجر ورجموا ابنه المحسن وهو في موكبه على الظهر
(1/57)
________________________________________
وذكروهما في الطرق والأسواق بالدعاء عليهما. وبرز ياقوت إلى مضاربه بباب الكناس للتوجه إلى الكوفة، ومنع القرمطي منها إن حدث نفسه بورودها. ثم وردت الكتب والأخبار بانصراف القرمطي إلى بلده بما أخذه من الأموال والأمتعة والأحمال والأساري، فرد ياقوت وكثر الإرجاف بابن الفرات وابنه المحسن. فكتب إليهما المقتدر بالله رقعة تتضمن التسكين منهما، واليمين على حسن اعتقاده فيهما، وما هو عليه من الثقة بموالاتهما والإحماد لخدمتهما، وأمرهما بإظهارها لأهل الحضرة وإنفاذ نسخها إلى عمال المعاون والخراج. وركب أبو الحسن وابنه المحسن إلى المقتدر بالله في يوم الأحد لثمان بقين من صفر، فأصلح بينهما وبين نصر الحاجب، وأمرهم بالتضافر على ما فيه صلاح الدولة، وورد هلال بن بدر برسالة مؤنس إلى المقتدر بالله. فوصل وأداها وسمع جوابها، وعاد به إلى مؤنس من غير أن يحضر ابن الفرات، ووافق دخول مؤنس في أول شهر ربيع الأول، فخرج نصر الحاجب والأستاذون ووجوه القواد والغلمان لاستقباله. ثم دخل يوم الأحد لسبع خلون منه. ثم بدأ بدار المقتدر من وقته، وخدم وانصرف إلى داره، فركب ابن الفرات إليه للسلام عليه، ولم يفعل مثل ذلك أحد من الوزراء قبله، وأُوذن مؤنس به، فخرج إلى باب داره واستعفاه من الصعود فلم يعفه، وصعد وهنأه بمورده، ونهض لينصرف، فخرج مؤنس معه إلى
أن نزل إلى طياره وقبل يده، وسأله العود إلى موضعه ففعل. وركب أبو العباس بن المقتدر بالله إليه أيضاً فخرج حافياً حتى نزل إلى طياره. وصار ابن الفرات وابنه المحسن من غد وهو يوم الاثنين إلى دار المقتدر بالله، ووصلا إليه وخاطباه بما أراداه ووليا للانصراف، فعاد المحسن وحده وقال للمقتدر بالله: قد عرفت يا أمير المؤمنين ضيق المال وكثرة النفقات، وها هنا وجوه ثلاثمائة ألف دينار تصح في مدة قريبة، فإن أذنت في استخراجها استخرجت. فقال: قد أذنت لك. وخرج فلحق أباه. فلما أرادا الخروج من الصحن التسعيني أقعدهما نصر الحاجب في مجلس بالقرب، وراسل الغلمان الحجية المقتدر بالله في القبض عليهما على لسان مفلح الأسود، فدخل وأدى إليه ذلك. ثم قال له: إن في صرف الوزير بقول هذه الطائفة خطأً في التدبير وإطماعاً للغلمان. فأمره بأن يخرج ويقول لنصر حتى يصرفه، ويقول للغلمان: إننا نفعل فيما راسلتمونا به ما يجري الأمر فيه على محابكم. فلم يقدم مفلح على الخروج إلى نصر بهذا الجواب ووقف عند الستر وقال: ينصرف الوزير. فتكلم الغلمان كلاماً كثيراً حتى أنفذ إليه مفلح من وعدهم عن الخليفة بلوغ مرادهم، فحينئذ أذن نصر للوزير في الانصراف. فذكر بعض من كان معهما أنهما لم يزالا يمشيان في الممرات مشياً سريعاً حتى نزلا إلى طيارهما، وقدما إلى دار الوزير وصعدا. وسار المحسن أباه سراً طويلاً. ثم خرج ومضى إلى داره فجلس فيها ساعة حتى نظر في أمره واستتر. وجلس ابن الفرات ينظر في الأعمال وبين يديه جماعة من كتابه. ثم قام إلى دور حرمه فأكل عندهم. وخرج وقت العصر فتشاغل بالوقوف على ما ورد، وأمر ونهى على رسمه من غير أن يبين فيه خوف أو زوال عن العادة، وبات تلك الليلة على هذه الجملة، فحدث بعض خواصه أنه سمعه في آخر الليل وهو في مرقده يتمثل بهذا البيت: ن نزل إلى طياره وقبل يده، وسأله العود إلى موضعه ففعل. وركب أبو العباس بن المقتدر بالله إليه أيضاً فخرج حافياً حتى نزل إلى طياره. وصار ابن الفرات وابنه المحسن
(1/58)
________________________________________
من غد وهو يوم الاثنين إلى دار المقتدر بالله، ووصلا إليه وخاطباه بما أراداه ووليا للانصراف، فعاد المحسن وحده وقال للمقتدر بالله: قد عرفت يا أمير المؤمنين ضيق المال وكثرة النفقات، وها هنا وجوه ثلاثمائة ألف دينار تصح في مدة قريبة، فإن أذنت في استخراجها استخرجت. فقال: قد أذنت لك. وخرج فلحق أباه. فلما أرادا الخروج من الصحن التسعيني أقعدهما نصر الحاجب في مجلس بالقرب، وراسل الغلمان الحجية المقتدر بالله في القبض عليهما على لسان مفلح الأسود، فدخل وأدى إليه ذلك. ثم قال له: إن في صرف الوزير بقول هذه الطائفة خطأً في التدبير وإطماعاً للغلمان. فأمره بأن يخرج ويقول لنصر حتى يصرفه، ويقول للغلمان: إننا نفعل فيما راسلتمونا به ما يجري الأمر فيه على محابكم. فلم يقدم مفلح على الخروج إلى نصر بهذا الجواب ووقف عند الستر وقال: ينصرف الوزير. فتكلم الغلمان كلاماً كثيراً حتى أنفذ إليه مفلح من وعدهم عن الخليفة بلوغ مرادهم، فحينئذ أذن نصر للوزير في الانصراف. فذكر بعض من كان معهما أنهما لم يزالا يمشيان في الممرات مشياً سريعاً حتى نزلا إلى طيارهما، وقدما إلى دار الوزير وصعدا. وسار المحسن أباه سراً طويلاً. ثم خرج ومضى إلى داره فجلس فيها ساعة حتى نظر في أمره واستتر. وجلس ابن الفرات ينظر في الأعمال وبين يديه جماعة من كتابه. ثم قام إلى دور حرمه فأكل عندهم. وخرج وقت العصر فتشاغل بالوقوف على ما ورد، وأمر ونهى على رسمه من غير أن يبين فيه خوف أو زوال عن العادة، وبات
(1/59)
________________________________________
تلك الليلة على هذه الجملة، فحدث بعض خواصه أنه سمعه في آخر الليل وهو في مرقده يتمثل بهذا البيت:
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خير له أم وراؤه
وبكر من غد فجلس لأصحاب المظالم. قال أبو القاسم بن زنجي: فبينما هو في قراءة رقاعهم واستماع ظلامتهم إذ وردت عليه رقعة لطيفة مختومة، لم أعلم في الوقت ممن هي، ثم عرفت أنها كانت من مفلح، وتلتها رقعة أخرى من كاتب مفلح، فلما وقف عليها أمسك قليلاً، ثم دعا أبا زكرياء يحيى الدقيقي قهرمانه فأسر إليه ما لا أدري ما هو، فانصرف. وقال لأبي إسحاق المدبر: خذ قصص المتظلمين واجمعها لتعرضها الليلة علي وأوقع فيها وتفرقها عليهم من غد. ونهض من مجلسه إلى دور حرمه وتفرق الناس ولم يبعد أن وافى نازوك ومعه سلاح، وبيده دبوس، وتلاه يلبق على مثل هذه الصورة، ومع كل واحد منهما خمسة عشر غلاماً. فلما لم يروه هجموا على دار حرمه، وأخرجوه حاسراً، وأنزله في طيار، وحمل إلى دار نازوك، وقبض معه على الفضل والحسن ابنيه، وعبد الله بن جبير وسعيد بن إبراهيم التستري وأبي غانم سعيد بن محمد كاتب المحسن وابن هشام وأبي الطيب الكلوذاني. ومضى نازوك ويلبق إلى مؤنس فعرفاه الخبر، وقد خرج إلى باب الشماسية للتنزه، فانحدر معه هلال بن بدر، وجماعة من القواد، وساد يلبق إلى دار نازوك وأخرج
(1/60)
________________________________________
ابن الفرات وابنيه وكتابه إلى شاطئ دجلة. فلما شاهدهم العامة رجموهم. وأنزل مؤنس ابن الفرات معه في طياره، فأظهر السرور بحصوله في يده، ورفعه مؤنس وخاطبه بجميل وعاتبه مع ذلك عتاباً كثيراً بحضرة الناس، فتذلل له وخاطبه بالأستاذية. فقال له: الآن تخاطبني بالأستاذية وبالأمس تخرجني إلى الرقة على النفي والمطر ينزل على رأسي؟! وتقول لمولانا أمير المؤمنين إنني أسعى في فساد مملكته؟ وانحدر به إلى دار السلطان وأصعد به إليها. وسلم ولداه وكتابه إلى نصر الحاجب. واجتمع القواد إلى مؤنس ونصر وقالوا: إن اعتقل ابن الفرات في دار الخلافة خرجنا بأسرنا إلى المصلى وشغبنا. وزادوا في القول وأكثروا، فاستدعي المقتدر بالله مؤنساً ونصراً واستشارهما، فأشارا بإخراج ابن الفرات من الدار وتسليمه إلى شفيع اللؤلؤي ليكون عنده ويسكن القواد إلى ذلك. فاستدعي شفيع وسلم إليه. ونظر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن الخاقاني في الوزارة، على ما ذكرناه في أخباره. وانتهى الأمر في ابن الفرات إلى أن تقدم المقتدر بالله بتسليمه إلى الخاقاني فتسلمه في يوم الأحد لأربع عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، وسلم معه الدقيقي قهرمانه، ورد الخاقاني مناظرة ابن الفرات إلى ابن بعد شر، فأخذ من
(1/61)
________________________________________
ودائع أقر بها مائةً وخمسين ألف دينار. ثم أوقع به مكروهاً كان سبباً لتقاعده عن أداء شيء بعده. ومضى هارون بن غريب وكان موكلاً به إلى المقتدر بالله فقال له: إن ابن الفرات ممن لا يذعن بمال وينقاد إلى أداء بالقبيح، وقد جنى الخاقاني جناية كبيرة بتسليمه إياه إلى ابن بعد شر حتى خرق به وعسفه. فتقدم المقتدر بالله إلى الخاقاني بأن يجعل مطالبة ابن الفرات بحضرة هارون بن غريب، وكان ابن بعد شر قد ضيق على ابن الفرات في مطعمه ومشربه، واقتصر به على خبز خشكار وقثاء وماء الهواء. فحمل إليه الخاقاني طعاماً واسعاً جميلاً وفاكهة وثلجاً كثيراً، واعتذر إليه مما جرى وحلف أنه لم يعلم به. ثم راسله مع خاقان بن أحمد بن يحيى ومحمد بن سعيد حاجبه وقالا له: الرأي أن تقر بأموالك ولا تلاج السلطان فتؤكد سوء رأيه فيك. فأجابه بما قال فيه: لست أيها الوزير حدثاً تخدعني، ولا عزاً فتحتال علي، وما أقول إنني ما أقدر على المال، لكنني إن وثقت لنفسي بالسلامة والخلاص، وأعطاني الخليفة أمانه بخطه، وأشهد لي فيه الوزير والقضاة والغلمان. وسلمني إما إلى مؤنس المظفر، وإن كان عدوي، أو إلى شفيع اللؤلؤي، قررت أمري وأعطيت مالي. فأما أن أكون على ما أنا عليه ويراد مني المال فذلك ما لا أفعله. فأعاد الخاقاني مراسلته: بأنني لو قدرت على التوثق لك توثقت، ومتى قلت في هذا المعنى قولاً عاداني خواص الدولة ولم تنتفع أنت، وقد رد أمير المؤمنين أمرك إلى هارون بن غريب، وهو قريبه وثقته. ولعمري إنه عدو لك، ولكن العدو ربما رق في مثل هذه الصورة، والصواب أن تداريه وتلاطفه.
(1/62)
________________________________________
وحضر هارون دار الخاقاني واستحضر ابن الفرات وناظره ابن بعد شر بحضرته. فلما خرج من القول إلى الإسماع زبره هارون وقال له: تريد أن تستخرج المال من ابن الفرات على هذا الوجه! وأقبل على ابن الفرات وقال له: أنت أعرف بالأمور من أن تعرفها. والخلفاء لا يلاجهم كتابهم ووزراؤهم إذا سخطوا عليهم، والرأي لك، غير ما أنت فيه. فقال: أشر علي أيها الوزير، فإن الرأي عازب عني مع حصولي فيما أنا حاصل فيه. ولم يزل معه في مقاولة ومراوضة إلى أن أخذ خطه بألفي ألف دينار يعجل منها الربع، على أن يحتسب له من الربع بما صح من ودائعه بإقراره وغير إقراره منذ وقت القبض عليه، ويطلق في بيع ما يستبيع من ضياعه وأملاكه وينقل إلى دار شفيع اللؤلؤي أو غيره من ثقات السلطان، ويطلق أبو الطيب كاتبه ليتصرف له في أموره، وتطلق له الدواة ليكاتب من يريد أن يكاتبه، ويؤذن لمن يبتاع شيئاً من أملاكه في الوصول إليه. وصار هارون بن غريب بالخط إلى المقتدر بالله فعرضه عليه. واتفق أن وجد ابنه المحسن ليلة الجمعة الحادية عشرة من ربيع الأول، فقبض عليه، وحمل إلى دار الوزارة بالمخرم. وكان من شرح الحال في أخذه أنه لجأ في استتاره بعد القبض على أبيه إلى حماته خزابة والدة الفضل بن جعفر بن الفرات، فكانت تحمله كل يوم بكرة إلى المقابر في زي النساء، وتعيده إلى المواضع التي تثق بها، فمضت به
(1/63)
________________________________________
بكرة يوم الخميس على هذه السبيل إلى مقابر قريش، فأمست مساء بعد عليها معه الوصول إلى دواخل الكرخ، فوصفت لها امرأة كانت معها منزل امرأة تعرفها وتأمنها، ولا زوج لها لأنه توفي قبل ذلك بسنة، فحملته خزابة ومعه جماعة نساء إلى هذه المرأة التي ذكرت لها وهي غير عارفة بها، ودخلت الدار وقالت: معي امرأة عاتق لم تتزوج وقد انصرفت من مأتم وضاق عليها الوقت، وسألتها أن تفرد لها موضعاً. فأفردت لها بيتاً في صفة، وأدخلت المحسن إليه وردت الباب عليه، وجلست النسوة معه في البيت، ووافت جارية سوداء للقوم بسراج فتركته في الصفة، وجاءت خزابة إلى المحسن بسويق ليشربه وقد نزع ثيابه. واطلعت الجارية السوداء فرأته من غير أن تشعر بها خزابة، وعلمت أنه رجل، فحدثت مولاتها بذلك، فلما تصرم الليل قامت مولاتها إلى الموضع سراً حتى شاهدته. وكان من سوء الاتفاق أن كانت المرأة زوجة محمد بن نصر وكيل أبي الحسن علي بن عيسى على نفقاته، وكان المحسن طلبه فحضر ودخل ديوانه، ورأى ما يعامل الناس به من المكاره، فمات فزعاً من غير أن يكلمه المحسن أو يوقع به مكروهاً. فمضت المرأة في الوقت إلى دار السلطان حتى وصلت إلى نصر الحاجب، وشرحت له الصورة. وأنهاها نصر إلى المقتدر بالله. فتقدم بالبعثة إلى نازوك بالركوب إلى الموضع والقبض عليه. فركب من وقته وكبسه وأخذه. وضربت الدبادب ليلاً عند وصوله حتى ارتاع الناس لأصواتها، وظنوا أن حادثاً حدث
(1/64)
________________________________________
من جهة القرمطي. ووجد المحسن في زي امرأة، وقد قص لحيته، وخضب يديه ورجليه، ولبس قميصاً معصفراً. فأوقع به ابن بعد شر من وقته مكروهاً عظيماً، وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار، يؤدي الربع منها معجلاً.
وحضر من غد هارون بن غريب، وخاطبه على إظهار ماله، فوعده بتذكر ودائعه والدلالة على مواضعها، وناله مكروه عظيم في يومين فلم يذعن بدرهم واحد. وقال: لا أجمع بين ذهاب نفسي ومالي. وأعيدت مخاطبته ومطالبته بمحضر من هارون بن غريب وشفيع اللؤلؤي. وجدد المكروه عليه، وقال له هارون: هبك لا تقدر على سبعمائة ألف دينار فما تقدر على مائة ألف دينار؟! قال: بلى إذا أُمهلت وأزيل عني المكروه. فقال له: نحن نمهلك ونرفهك، فاكتب خطك بأنك تؤدي مائة ألف دينار. فكتب وقال: في مدة ثلاثين يوماً. فلما قرأ ذلك هارون قال له: كأنك تريد أن تعيش ثلاثين يوماً: فخضع المحسن وقال: أفعل ما يأمر به الأمير. فقال له: اكتب أنك تؤديها في سبعة أيام. فارتجع الرقعة ليكتب بدلاً منها، فلما حصلت في يده خرقها وأكلها. وضرب على رأسه وسائر جسده بالطبرزينات على أن يكتب غيرها فلم يكتب. فقيد حينئذ وغل، وأُلبس جبة صوف وجبة شعر، وأعيد إلى مجلسه، وعذب بكل شيء، فلم يعط درهماً واحداً. وتشاغل أبو القاسم الخاقاني بوفاة أبي علي محمد أبيه، فوقف الأمر في مطالبة ابن الفرات. فلما كان يوم الأربعاء لست بقين من شهر ربيع الأول حضر مؤنس
(1/65)
________________________________________
المظفر ونصر الحاجب الأستاذان والقضاة والكتاب في مجلس الوزير أبي القاسم الخاقاني وأُحضر ابن الفرات، وناظره الخاقاني، فلم يكن من رجاله، وكاد ابن الفرات أن يأكله. وكان من قوله له: أغللت ضياعك في مدة أحد عشر شهراً ألف ألف دينار. فقال: قد كانت الضياع في يد علي بن عيسى عشر سنين، هي أيام وزارته وأيام نظره مع حامد فما ارتفع له منها أربعمائة ألف دينار. فإذا أغللتها أنا في مدة أحد عشر شهراً ألف ألف دينار فقد ادعي لي المعجز بذلك. فقال له: قد أضفت إلى حق الرقبة حقوق بيت المال. فقال: ما يتمكن أحد أن يستر ما في الدواوين، فانظروا ارتفاع النواحي السلطانية في أيامي، وارتفاعها في أيام علي بن عيسى وحامد ووزارة أبيك التي دبرتها أنت، فإن كان ارتفاع نقص في أيامي لزمتني الحجة، أو في أيامكم عرف أثري. ومع هذا فقد علم الخاص والعام ما جرى في وزارة أبيك من الشغب حتى أخرج أمير المؤمنين من بيت مال الخاصة خمسمائة ألف دينار أنفقها في الجيش على يد شفيع اللؤلؤي. وما فعله علي ابن عيسى من إسقاط الناس وحطهم من أرزاقهم، وما فعلته أنا في نظري من توفية الحاشية جميع استحقاقها مع زيادات تكلفتها وتحملتها لأحبب أمير المؤمنين إلى خدمه وأولياء دولته. وخوطب على أمر من قتل من المصادرين، فقال: ليس يخلو الأمر من أن
(1/66)
________________________________________
يقال إني قتلتهم فأنا مقيم بالحضرة، والمدعى قتله بالبعد منها، أو إني كتبت بقتلهم فعمال المعاون ثقات السلطان، وعمال الخراج وجوه المتصرفين، وقد حكمتهم على نفسي فيما يقولونه. أو كانت الدعوى على المحسن ابني فأنا غير ابني. فقال له ابن بعد شر: إذا قتل ابنك فأنت قتلت. فقال ابن الفرات: هذا غير ما حكم الله ورسوله به وقد قال تعالى: " وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: هذا ابنك. فقال نعم. فقال: إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ومع ذلك فإنه في أيديكم فسلوه فإن وجب عليه قود بادعاء قتل في بلد نأى عنه، ويقال. إن عيره تولى القتل فيه، فاحكموا بما ترون. فتحير القوم في الجواب. وقال عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش لنصر الحاجب: إن رأى الأستاذ أن يقول له: حيث كنت تقول لمن تطالبه: إن أديت وإلا سلمتك إلى المحسن. أكنت تسلمه ليسقيه السويق والسكر أو ليعذبه؟ ومن أطلق العذاب على الناس فقد أطلق إتلاف نفوسهم، لأنه قد يتلف الإنسان من مقرعةً واحدة. فقال له نصر ذلك، فقال له في الجواب: الخليفة أطال الله بقاءه ولى المحسن، وهو ضمن له ما ضمنه بواسطة مفلح وغيره من ثقاته، وأنا إذ ذاك محبوس، وكنت أحب الرفق بالناس فأناظرهم بالقول، فإن أذعنوا وقاربوا قاربتهم وقبلت عفوهم، وإن امتنعوا سلمتهم إلى من أمر الخليفة أيده الله بتسليمهم إليه، فقال له مؤنس: كأنك تحيل على الخليفة في قتل الناس! قد قال: إنه ما أمر
(1/67)
________________________________________
بقتل أحد غير ابن الحواري فقط. ثم قال له: الخليفة أيده الله يقول: سلمت إليك قوماً بمال ضمنته لي، فإما وفيتني المال أو رددت علي القوم. فاضطرب ابن الفرات من هذا القول وقال: أما المال فصح في بيت المال، وأما الرجال فماتوا
حتف أنفهم، فقال له مؤنس: هب لك عذراً في كل شيء، أي عذر لك في إخراجي إلى الرقة حتى كأني من العمال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين؟ قال: فأنا أخرجتك؟! فقال: فمن؟ قال: مولاك. في السفط الخيزران المكتوب عليه بخطي: ما يحتفظ به من المهمات رقعة بخط الخليفة، أطال الله بقاءه، إلي يشكو فيها أفعالك وقتاً بعد وقت، وفتحك البلدان ثم إغلاقك إياها بالتدبيرات القبيحة، ويأمر بإخراجك إلى الرقة والتوكيل بك حتى تخرج. فأنفذ الخاقاني وأحضر السفط وعليه ختم ابن الفرات وفتحه فوجدت الرقعة من المقتدر على ما حكي من مضمونها. فأخذها مؤنس ومضى من وقته إلى المقتدر حتى أقرأه إياها، فاغتاظ المقتدر بالله علي ابن الفرات، وأمر هارون بن غريب بضربه بالسوط، فعاد وأقامه بين الهنبازين وضربه خمس درر وقال له: أذعن يا هذا بالمال، فكتب له خطه بعشرين ألف دينار. وأخرج المحسن وضربه حتى كاد يتلف فلم يعف بشيء وصار هارون إلى المقتدر بالله واستعفى من مطالبة ابن الفرات وابنه وقال: هؤلاء قوم قد استقتلوا وما ينقادون ولا يذعنون. فأمر بتسليمهما إلى نازوك وإيقاع المكروه بهما. فأوقع نازوك المكاره بالمحسن حتى تدود بدنه ولم يبق فيه فضل لضرب. وضرب ابن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس فلم يعط شيئاً، ولا صح للمحسن في مدة حياته أكثر من سبعة آلاف دينار منها خمسة آلاف أقر بها الحسن بن شبيب العتي تبرعاً، وواجه المحسن بأمرها فأنكر أن يكون له وقال: هذا مال اجتمع من الوقف الذي كان والدي أسنده إلي وترك عند ابن شبيب لينضاف إليه غيره ويفرق في أهله. ومنها ألف دينار اجتمعت من ثمن فرش وثياب صحاح ومقطوعة كانت مودعة عند بعض التجار بسوق العطش. وأقرت بها دنانير ورهبان جاريتا زوجة المحسن، فإنهما كانتا ممن قبض عليهما وضربهما ابن بعد شر ضرباً مبرحاً فلم تقرا بغير ذلك. واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني وقال له: أين أموال ابن الفرات وابنه التي ضمنتها لي؟ فقال: لم أترك تدبير أمرهما، ولما رأيا أن قد سلما إلى أصحاب السيوف وعدل بهما عن الكتاب خافا القتل وضنا بأموالهما. وقال نازوك: قد بلغت في مكاره القوم إلى الغاية، وللمحسن أيام لم يطعم فيها طعاماً، وإنما يشرب الماء شرباً قليلاً، وهو في أكثر أوقاته مغشي عليه. فقال المقتدر بالله: إذا كان الأمر على ذلك فليحملا إلى داري. فقال مؤنس والجماعة: الأمر لمولانا. وقال الخاقاني: قد وفق الله رأي أمير المؤمنين. وخرجوا من بين يديه. فقال الخاقاني لهم: ما قال أمير المؤمنين ذلك إلا وقد واصل أسباب ابن الفرات مكاتبته بأنه متى حمل وابنه إلى داره ورفها وأمنا على نفوسهما أديا مالاً كثيراً. ولعلهم قد بذلوا عنهما ألف ألف دينار وأكثر. وأشار بأن يجتمع القواد ويتحالفوا على أنه متى نقل ابن الفرات وابنه إلى دار الخليفة خلعوا الطاعة، وأن يثبتوا على هذا القول ثبات التظافر وقوة العزيمة، وإلا فإن حصل ابن الفرات عند السلطان وأدى ماله وتوثق لنفسه ضمن الجاعة منه، وحمله على القبض عليهم وتسليمهم إليه. فقال مؤنس: هذا أمر متى لم نفعله لم تسكن نفوسنا ولم يصف عيشنا. وتكفل هارون بن غريب ونازوك بجمع القواد ووجوه الغلمان الحجرية وموافقتهم على ذلك. وقام يلبق باستحلاف قواد مؤنس. فلما كان يوم الخميس السابع من شهر ربيع الآخر كاشفوا المقتدر بالله وقالوا: إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء كلهم الطاعة. فقال لهم: دعوني حتى أفكر. وجد هارون بن غريب خاصة. وأرادت الجماعة من الخاقاني التجريد في ذلك فقال: ما أدخل في دم. والذي أشرت به أن يمنع من حمله إلى دار السلطان. فأما قتله فإنه خطأ؛ لأنه متى سهل القتل على الملوك ضروا عليه، ولم يميزوا فيه. وقدم إلى ابن الفرات طعامه في يوم الأحد الثاني عشر من الشهر فامتنع عنه وقال: أنا صائم. وحضر وقت الإفطار فأعيد إليه فقال: لست أُفطر الليلة. واجتهد به فلم يفعل وقال: أنا مقتول في غد لا محالة. فقيل له: نعيذك بالله. فقال: بلى، رأيت البارحة في النوم أبا العباس أخي وقال لي: أنت تفطر عندنا يوم الاثنين الذي هو غد. وما قال لي في النوم شيئاً إلا صح، وغد يوم الاثنين، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسن صلوات الله عليه. أنفهم، فقال له مؤنس: هب لك عذراً في كل شيء، أي عذر لك في إخراجي إلى الرقة حتى كأني من العمال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين؟ قال: فأنا أخرجتك؟! فقال: فمن؟ قال: مولاك. في السفط الخيزران المكتوب عليه بخطي: ما يحتفظ به من المهمات رقعة بخط الخليفة، أطال الله بقاءه، إلي يشكو فيها أفعالك وقتاً بعد وقت، وفتحك البلدان ثم إغلاقك إياها بالتدبيرات القبيحة، ويأمر بإخراجك إلى الرقة والتوكيل بك حتى تخرج. فأنفذ الخاقاني وأحضر السفط وعليه ختم ابن الفرات وفتحه فوجدت الرقعة من المقتدر على ما حكي من مضمونها. فأخذها مؤنس ومضى من وقته إلى المقتدر حتى أقرأه إياها، فاغتاظ المقتدر بالله علي ابن الفرات، وأمر هارون بن غريب بضربه بالسوط، فعاد وأقامه بين الهنبازين وضربه خمس درر وقال له: أذعن يا هذا بالمال، فكتب له خطه بعشرين ألف دينار. وأخرج المحسن وضربه حتى كاد يتلف فلم يعف بشيء وصار هارون إلى المقتدر بالله واستعفى من مطالبة ابن الفرات وابنه وقال: هؤلاء قوم قد استقتلوا وما ينقادون ولا يذعنون. فأمر بتسليمهما إلى نازوك وإيقاع المكروه بهما. فأوقع
(1/68)
________________________________________
نازوك المكاره بالمحسن حتى تدود بدنه ولم يبق فيه فضل لضرب. وضرب ابن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس فلم يعط شيئاً، ولا صح للمحسن في مدة حياته أكثر من سبعة آلاف دينار منها خمسة آلاف أقر بها الحسن بن شبيب العتي تبرعاً، وواجه المحسن بأمرها فأنكر أن يكون له وقال: هذا مال اجتمع من الوقف الذي كان والدي أسنده إلي وترك عند ابن شبيب لينضاف إليه غيره ويفرق في أهله. ومنها ألف دينار اجتمعت من ثمن فرش وثياب صحاح ومقطوعة كانت مودعة عند بعض التجار بسوق العطش. وأقرت بها دنانير ورهبان جاريتا زوجة المحسن، فإنهما كانتا ممن قبض عليهما وضربهما ابن بعد شر ضرباً مبرحاً فلم تقرا بغير ذلك. واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني وقال له: أين أموال ابن الفرات وابنه التي ضمنتها لي؟ فقال: لم أترك تدبير أمرهما، ولما رأيا أن قد سلما إلى أصحاب السيوف وعدل بهما عن الكتاب خافا القتل وضنا بأموالهما. وقال نازوك: قد بلغت في مكاره القوم إلى الغاية، وللمحسن أيام لم يطعم فيها طعاماً، وإنما يشرب الماء شرباً قليلاً، وهو في أكثر أوقاته مغشي عليه. فقال المقتدر بالله: إذا كان الأمر على ذلك فليحملا إلى داري. فقال مؤنس والجماعة: الأمر لمولانا. وقال الخاقاني: قد وفق الله رأي أمير المؤمنين. وخرجوا من بين يديه. فقال الخاقاني لهم: ما قال أمير المؤمنين ذلك إلا وقد واصل أسباب ابن الفرات مكاتبته بأنه متى حمل وابنه إلى داره ورفها وأمنا على نفوسهما أديا مالاً كثيراً. ولعلهم قد بذلوا عنهما ألف ألف دينار وأكثر. وأشار بأن يجتمع القواد ويتحالفوا على أنه متى نقل ابن الفرات وابنه إلى دار الخليفة
(1/69)
________________________________________
خلعوا الطاعة، وأن يثبتوا على هذا القول ثبات التظافر وقوة العزيمة، وإلا فإن حصل ابن الفرات عند السلطان وأدى ماله وتوثق لنفسه ضمن الجاعة منه، وحمله على القبض عليهم وتسليمهم إليه. فقال مؤنس: هذا أمر متى لم نفعله لم تسكن نفوسنا ولم يصف عيشنا. وتكفل هارون بن غريب ونازوك بجمع القواد ووجوه الغلمان الحجرية وموافقتهم على ذلك. وقام يلبق باستحلاف قواد مؤنس. فلما كان يوم الخميس السابع من شهر ربيع الآخر كاشفوا المقتدر بالله وقالوا: إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء كلهم الطاعة. فقال لهم: دعوني حتى أفكر. وجد هارون بن غريب خاصة. وأرادت الجماعة من الخاقاني التجريد في ذلك فقال: ما أدخل في دم. والذي أشرت به أن يمنع من حمله إلى دار السلطان. فأما قتله فإنه خطأ؛ لأنه متى سهل القتل على الملوك ضروا عليه، ولم يميزوا فيه. وقدم إلى ابن الفرات طعامه في يوم الأحد الثاني عشر من الشهر فامتنع عنه وقال: أنا صائم. وحضر وقت الإفطار فأعيد إليه فقال: لست أُفطر الليلة. واجتهد به فلم يفعل وقال: أنا مقتول في غد لا محالة. فقيل له: نعيذك بالله. فقال: بلى، رأيت البارحة في النوم أبا العباس أخي وقال لي: أنت تفطر عندنا يوم الاثنين الذي هو غد. وما قال لي في النوم شيئاً إلا صح، وغد يوم الاثنين، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسن صلوات الله عليه.
(1/70)
________________________________________
وانحدر الناس في يوم الاثنين إلى دار السلطان فلم يصلوا، وكتب هؤلاء الرؤساء إلى المقتدر بالله رقعة بأنه إن تأخر قتل ابن الفرات وابنه عن يومهم جرى ما لا يتلافى. وأشاروا إلى ما عظموا الأمر فيه. فوقع إلى نازوك بأن يركب إلى موضعهما ويضرب أعناقهما ويحمل رأسيهما. فقال نازوك: هذا أمر لا يجوز أن أعمل فيه بتوقيع. فأمر المقتدر بالله الأُستاذين الخدم بأداء رسالة عنه إليه في هذا المعنى، فخرجوا وأدوها، فامتنع وقال: لا بد من المشافهة بذلك، فأُمر بأن ينصرف ويعود على خلوة، فمضى وعاد، فأوصله المقتدر بالله حتى سمع قوله. وكان ابن الفرات يراعي الخبر، فلما عرف انصراف الناس ونازوك سكن قليلاً ثم قيل له: قد عاد نازوك. فخاف وأيقن بالهلاك، وصار نازوك إلى دار الوزارة بعد الظهر من ذلك اليوم، وجلس في الحجرة التي كان ابن الفرات معتقلاً فيها، وأنفذ عجيباً خادمه ومعه جماعة من السودان حتى ضرب عنق المحسن ابنه وجاء برأسه إلى أبيه فوضعه بين يديه، فارتاع لذلك ارتياعاً شديداً. وعرض هو على السيف. فقال لنازوك: يا أبا منصور ليس إلا السيف! راجع أمير المؤمنين في أمري فإنني أقر بأموالي وودائعي وعندي جوهر جليل. فقال له نازوك: جل الأمر عما تقدر. ثم أمر به فضربت عنقه وحمل رأسه ورأس المحسن إلى دار السلطان مع عجيب خادمه فغرقا في الفرات وطرحت جثتاهما في دجلة. ومضى ابن الفرات عن إحدى وسبعين سنة وشهور، والمحسن عن ثلاث وثلاثين سنة. وكانت مدة وزارته الثالثة سنة واحدة.
(1/71)
________________________________________
وذكر أبو الطيب الكلوذاني كاتب ابن الفرات قال: رأيت في منامي وأنا في الاعتقال كأن مؤنساً المظفر قد دخل إلى موضعي وفي يديه عشرة خواتيم، فصوصها ياقوت أحمر وواحد منها لطيف في البنصر، فقال لي: قد قتل ابن الفرات ووالله ما أردت قتله، وإنما قيل لي فيه وأمسكت وسنقتل كلنا بالسيف، وأولنا جعفر المقتدر بالله، ولا يسلم منا من السيف إلا نصر الحاجب فإنه يموت مسموماً. قال: فسألته عن الخواتيم فقال: هي عدد سني ولايتي. قلت: فلم هذا الواحد الصغير؟ فقال: إنه لا يتم سنةً. فعاش مؤنس بعد هذه الرؤيا دون عشر سنين وقتل بالسيف.

قد مضت سياقة أمر ابن الفرات ونحن نتبعه بما عرفناه من أخباره منثورا
حدث أبو الفتح عبد الله بن محمد المروزي الكاتب قال: حدثني بعض الشيوخ الكتاب أن أبا الحسن بن الفرات قال لأبي منصور ابن جبير كاتبه: أينا أكفى أو علي بن عيسى؟ فقال: الوزير أكفى وأضبط. قال: دعني من استعمال التقية واسلك معي سبيل الحقيقة. قال: إن أردت أن تخبر ما عندي وتسبر عقلي فاجعلني آمناً في قولي. قال له: أنت آمن قال: إذا حضر علي بن عيسى بين يدي خليفة فأراد أن يكتب سراً كتب وأسحى وختم وخرط ولم يحتج إلى معين، وأنت تستدعي زنجياً ليكتب،
(1/72)
________________________________________
وللزنجي صاحب دواة فيقرأ فيخرج السر فيما بين ذلك. فقال له: فضلت علياً علينا. قال: لم أفضله ولكن يكون كاتبك. وقيل: إنه لما خلع على أبي الحسن بن الفرات خلع الوزارة زاد في ذلك اليوم في ثمن الشمع قيراط في كل من، وزاد سعر القراطيس لكثرة استعماله لهما ولأنه كان من رسمه ألا يخرج أحد من داره في وقت عشاء إلا ومعه شمعة منوية ودرج منصوري، وأنه سقي في داره في ذلك اليوم والليلة أربعون ألف رطل ثلجاً. وحدث أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الشاهد قال: حدثني الكاتب النصراني الملقب بظر أُم الدنيا قال: قال أبو الحسن بن الفرات: أصل أمور السلطان مخرقة فإذا تمت واستحكمت صارت سياسة. وحدث أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد قال: حدثني بعض شيوخ الكتاب ببغداد عمن حدثه أنه: سمع أبا الحسن بن الفرات يقول لأبي جعفر بن بسطام وكان سيء الرأي فيه:
(1/73)
________________________________________
ويحك يا أبا جعفر ما قصة لك في رغيف؟ قال: ما أعرف لي قصة فيه. قال لتصدقني فإنه خير لك. قال: نعم، إن أمي كانت امرأة صالحة، وعودتني منذ يوم ولدت أن تجعل تحت رأسي عند نومي في كل ليلة رغيفاً فيه رطل، فإذا كان الصباح تصدقت به، فأنا أفعل ذلك إلى هذه الغاية. فقال ابن الفرات: ما سمعت بأعجب من هذه الحال. اعلم أنني من أقبح الناس رأياً فيك، وأشدهم انحرافاً عنك، لأمور أوجبت ذاك، منها ومنها؛ وعدد بعضها. وكنت مفكراً منذ أيام في القبض عليك ومصادرتك. فإذا أويت إلى فراشي في منامي كأنني قد استدعيتك لأقبض عليك فتمتنع علي وتحاربني، وأتقدم بمحاربتك، فتخرج إلى من قد أمرته بمحاربتك وبيدك رغيف كالترس تدفع به السهام فلا تصيبك، وأنتبه، وإذ قد أخبرتني بأمر هذا الرغيف فأُشهد الله تعالى أنني قد وهبت كل ما في نفسي عليك، وعدت لك إلى أجمل نية، وأحسن طوية. فاسكن وانبسط. فأكب أبو جعفر على يديه ورجليه يقبلهما. وحدث أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي، في أيام عطلته وكبر سنه ولزومه بيته، قال: عرضت على أبي الحسن بن الفرات رقعةً في حاجة لي، فقرأها ثم وضعها بين يديه ولم يوقع فيها، فأخذتها وقمت وأنا أقول متمثلاً من حيث يسمع:
وإذا طلبت إلى كريم حاجةً ... فأبى فلا تعقد عليه بحاجب
(1/74)
________________________________________
فلربّما منع الكريم وما به ... بخلٌ ولكن شؤم جدّ الطالب
فقال وقد سمع ما قلته: ارجع يا أبا جعفر بغير شؤم جد الطالب، ولكن إذا سألتمونا الحاجة فعاودونا، فإن الله تعالى يقلب القلوب، هات رقعتك، فأعطيته إياها فوقع بما أردت فيها. ولما طهر المقتدر بالله بعض ولده في سنة خمس وثلاثمائة. أنفذ إلى الوزير أبي الحسن ابن الفرات ثلاث موائد، استدارة المائدة الكبيرة منها خمسون شبراً، يحملها حمالون بدهوق، وريم أن تدخل من باب الدار التي ينزلها، فضاق عنها، حتى قلع ووسع الموضع. وحمل إليه في عشي هذا اليوم تختان، فيهما ثوب وشي منسوج بالذهب، وثوب أخضر، وثلاثة أثواب بيضاً وصينية ذهب فيها دنانير ولوز وجوز وفستق وبندق، وما يجري هذا المجرى من الأصناف، وجميعه من ذهب، وقدره خمسة آلاف دينار. وحدث أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن إسماعيل زنجي. قال: حدثني أبو صلح مفلح الأسود خادم المقتدر بالله قال: كان أبو القاسم سليمان بن الحسن عند تقلده وزارة المقتدر بالله يكثر ذكر أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات بحضرة المقتدر بالله والطعن عليه، وتبين من المقتدر بالله النكرة لما يسمعه منه، فلما كان في بعض الأيام عاد سليمان بن الحسن ذكر ابن الفرات والوقيعة فيه، فقال له المقتدر بالله:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللّوم أوسدّوا المكان الذي سدّوا
قال: فتأملت سليمان وقد امتقع لونه وما أعاد بعدها ذكره.
(1/75)
________________________________________
وحدث أبو علي زكريا بن يحيى الكاتب قال: كنت في ديوان السواد في وزارة أبي الحسن بن الفرات الثانية في يوم ثلاثاء، وكان أكثر الكتاب يخلون بالحضور فيه، وأصحاب المجالس في مجلس الوزير أبي الحسن للمظالم، فوافى فرانق وقال لميمون الخازن: قال لك الوزير أحضرني جماعة جازر والمدينة العتيقة لسنة أربع ومائتين، فأخذها وركب بغل الفرانق حتى لحق بالمجلس، فلما انصرف ميمون وأبو الحسين الصقر بن يحيى بن شاذان عرض خرجاً في أمر قطيعة براز المباركة كان أبو القاسم الكلوذاني أخرجه من مجلسه، ووقع الكتاب أسماءهم عليه على الرسم في ذلك الوقت، وعليه توقيع أبي منصور عبد الله بن جبير صاحب مجلس الأصل. فقال الوزير أبو الحسن: أصح ما في هذا الخرج من ذكر هذه القطيعة سنة أربع ومائتين وهي على حك؟ لست أُمضيه. فقال زكريا بن يحيى بن شاذان لأبي القاسم الكلوذاني: أخرجه. فتأمل الكلوذاني ذكر السنة، فوجد تحت اسم الضيعة: هذه اللفظة على حك، بخط دقيق فقال: ما أعرف حكا، وهذا خط عبد الله ابن جبير. فاعترف عبد الله بن جبير بخطه وقال: لما وجدت الاسم على حك حكيت الصورة. وأقام أبو القاسم على أنه لا حك هناك، وحلف بأيمان غليظة لا مخرج له منها إلا بالطلاق والعتاق وما شاكلهما على ذلك. فتقدم بإحضار ميمون الخازن والجماعة، فلما تصفحها الوزير وجد الحك وواقف الكلوذاني عليه. فخجل وتحير. وفتش الوزير التفصيل إلى أن انتهى إلى باب المبيع، فكان حاصل براز المباركة مما بيع مصابرةً ونسبت إلى القطيعة. فعلم الوزير ومن حضر أن الحك في
(1/76)
________________________________________
الصدر على سبيل حيلة ممن رفع ذكر الحك. وانصرف الكلوذاني مسروراً ومن نسب إليه الحك مغموماً. ووقع لابن شاذان بإمضاء القطيعة.
وحدث أبو منصور فرخانشاه بن إسحاق: أنه كان يوماً مع أبي الحسن على ابن الحسن بن هبنتي القنائي بحضرة أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات وهو زير الدفعة الأخيرة، فدخل إليه أبو بكر بن قرابة، وجلس ودنا منه وساره بما لم نسمعه حتى نفض أبو الحسن يده وأبعده وقال له جاهراً بالقول: أتقول لي: لا يوحشك شيء بلغك عن امرأة؟! والله لو علمت أنني إذا ذكرت لملك الروم وبين يديه بطارقته، وملك الترك وحواليه عدده لم ترتعد فرائصهما لما قعدت هذا المقعد! أتخوفني من كلام امرأة؟ عني بذلك السيدة أم المقتدر بالله. فلما خرجنا من حضرته أقبل علي أبو الحسن وقال لي: سمعت الكلام؟ قلت: نعم. قال: هذا آخر عهد الوزير بالحياة فما مضت مديدة حتى قبض عليه.
وقال أبو الفضل بن حمد: دخل أبو الحسن علي بن محمد بن نصر بن بسام على أبي علي بن مقلة إلى ديوان الدار في وزارة أبي الحسن بن الفرات الأولى. فقال له أبو علي: قال لي الوزير: قد تغير شعر علي بن محمد. فأخذ قلماً من دواته وكتب في رقعة شيئاً، ودفعها إليه، وسأله أن يعرضها على ابن الفرات وكان فيها:
قالوا تغيّر شعره عن حاله ... فالسوق كاسدةٌ بغير تجار
أمّا الهجاء فقد عراني كثرةً ... والمدح قلّ لقلّة الأحرار
وحدث أبو القاسم قريب بن قريب قال: رفع الفراجلة إلى أبي الحسن
(1/77)
________________________________________
ابن الفرات: أن رجلاً من اليهود ادعى أن معه كتاباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بإخراج الكتاب، فلما قرأه قال: هذا مزور، لأن خيبر افتتحت بعد تاريخ كتابك بسبعة وستين يوماً، ولكنا نحتمل عنك جزيتك إعظاماً لحق من لجأت بالاعتصام به. قال أبو القاسم قريب: فرجع إلى كتب التاريخ فوجد الأمر كما ذكره ابن الفرات. وقال أبو الحسن بن الفرات في مجلسه وفيه خواصه وقد جرى ذكر السواد: لم سمي السواد سواداً؟ فذكر كل واحد ما عنده. فقال: ليس كذلك، إنما سمي السواد لأن العرب لما جاءته في أيام عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وأشرفت عليه، ونظرت إلى مثل الليل من النخل والشجر والزرع والمياه قالت: ما هذا السواد؟ فسمي سواداً لذلك. والعرب تقول: سواد الأرض وبياضها، فالسواد: العامر. والبياض الغامر. وحدث أبو عمر بن الأطروش قال: كنت بحضرة أبي الحسن علي بن الفرات يوماً وهو جالس للقواد، فعرض أحمد بن عبد الرحمن بن جعفر بن الخياط رقاعاً كثيرةً، فوقع فيها، حتى بلغ إلى بعضها فقرأها ووضعها بين يديه، فعاوده أحمد فيها، فقال: يا هذا، إن كان بيني وبين علي بن عيسى ما يعرفه الناس فإنني لا أدع الصدق عنه وقول الحق فيه حياً كان أو ميتاً. علي بن عيسى لا يطلق يده بمثل هذه التوقيعات في أموال السلطان، ولا يتجوز، مع المألوف منه في الاستقصاء والاحتياط وتجنب ما يعيبه. وقد أمسكت عن أن أقول هذا القول حتى أحوجتني إليه.
وأومى أن التوقيع مزور. فخجل ابن الخياط وقام.
(1/78)
________________________________________
ولما جمع بين أبي الحسن بن الفرات وحامد بن العباس وعلي بن عيسى في دار السلطان، وعلي بن عيسى كالسكة المحماة علي ابن الفرات، لأنه قرر في نفس المقتدر بالله مكاتبته الجنابي وحمله الألطاف إليه، بدأ ابن الفرات فقال لعلي ابن عيسى: يا أبا الحسن، بعد السن والوزارة والرئاسة والاستشهاد في الأطراف بالكفاية وعلو المنزلة صرت عوناً لهذا! يعني حامداً قال علي بن عيسى: فكنت كنار صب عليها الماء فما ناطقته بحرف. فقال به أبو القاسم بن الحواري وكان يحطب في حبل حامد: وأي عيب في هذا؟ الجماعة خدم السلطان يتصرفون على ما رآه لهم وأمرهم به، ومنازلهم في الخصوص عنده غير منقوصة ولا محطوطة. فقال ابن الفرات لحامد لما أمسك علي بن عيسى: أيها الوزير، متى رأيت وزيراً ضمن النواحي، وخرج يطوف على الغلات، ووكل خدمة الخليفة وعلم سره وتدبير العامة والخاصة إلى ضده، اللهم إلا أن يكون اشتاق إلى وطنه وداره؟ يعرض بأن له مالاً مستوراً يريد مراعاته فتحير حامد وأمسك. فلما أمسكوا قال ابن الفرات: لأي شيء جمعنا. فقال حامد: لتبين للسلطان خياناتك. فتبسم وقال: فبين بارك الله عليك فإن كفايتك حسنة. قال: كنت ترتفق من العمال. قال: أنت أحمد عمالي فإن كنت ارتفقت منك أو سامحتك بفضل في يدك أو حق ترك لك فاذكر ما يجب عليك رده ليلزمني أرش الجناية في المسامحة به والخيانة فيه.
(1/79)
________________________________________
فأخذ حامد في السفه والشتيمة وابن الفرات مطرق يبتسم. وأُمر القوم بالانصراف، فخرج علي بن عيسى وهو يقول: ما كان أغنانا عن هذا الاجتماع.
فحدث مؤنس بن عبد الكريم قال: قال لي المحسن بن علي بن الفرات: كاتبت أبي وهو محبوس وأشرت عليه بأن يضمن حامداً وعلي بن عيسى وأسبابهما فامتنع، وقد كان المقتدر بالله يعرض ذلك عليه فيأبى. وقال لرسولي: العافية أعفى لي، قد استرحت وأمنت وعلت سني مع ذلك، وتعرضي لما قد استرحت منه جهل. فلما خاطبه ابن الحواري بما خاطبه به أحفظه فضمن القوم على أن لا يعارض فيهم، وخرج ففعل المحسن ابنه الأفاعيل المشهورة، وقتل ابن الحواري وغيره. فلما قبض عليه قام في نفسه أنه مقتول وقال لشفيع وقد تسلمه: قل لأمير المؤمنين: إن آمنتني وحميتني أعطيتك مالاً كثيراً وجوهراً خطيراً وأشياء نفيسةً ذخرتها، وإن سلمتني إليهم لم أُعطك والله حبةً واحدة. فلم يورد شفيع هذه الرسالة على المقتدر، لشيء كان في نفسه على ابن الفرات. فلما أُمر بتسليمه إلى ابن بعد شر قال لشفيع: يا أبا الغصن، ليس بيننا إلا عبور دجلة والوفاء بأحد الضمانين. فوفى بما قال، ولم يعطهم شيئاً. وكان المكتفي بالله أمر العباس بن الحسن أن يجرد جيشاً إلى الحاج، فإذا انصرفوا وحصلوا بالكوفة طلب حينئذ زكرويه. فقال له العباس: إلى رجوع الحاج ربما يكفي الله مؤُونته. وجلس العباس في داره وعنده وجوه الكتاب والقواد، فقال لهم: إن أمير المؤمنين أمرني بكذا وكذا، وإني أشرت بترك طلب
(1/80)
________________________________________
زكرويه، فإن الله سيريح منه قبل وقت الحاج. فما ترون؟ فكل صوب رأيه، وأبو الحسن بن الفرات ساكت لا ينطق. فقال له العباس: ما عندك يا أبا الحسن. قال: ألا تخالف أمير المؤمنين، فإن ما رأى صواب كان توفيقاً، وخطأ كان على رأيه دون رأيك. فأقام على رأيه الأول وكان من الوقعة بالحاج ما كان. وكان الحسين بن حمدان ورد إلى باب الشماسية ليدخل إلى حضرة المقتدر بالله، فوقف أبو الحسن بن الفرات على أنهم يريدون الفتك به. فكتب إليه مبتدئاً: قرأت كتابك تذكر علتك بالنقرس، والخلع توافيك بمكانك. ففهم المعنى وتعالل، فوجه إليه بالخلع وولى ديار ربيعة وغيرها. وقال أبو بكر بن قرابة: شكي إلى أبي الحسن بن الفرات عامل قطربل وإغفاله عمل البزندات. فوقع إليه: ينبغي أن تراعى العمل قبل الوقت للوقت، وفي الوقت للوقت قال: وسمعته يقول: العامل في أول سنة أعمى، وفي الثانية أعور، وفي الثالثة بصير. قال: وجاراني يوماً ذكر أبي بن مقلة وسعايته به، فقال لي: سبيل كل عاقل أن يتحامى هذا الرجل ولا يقبله، فقد كان جرى مثل أمره في أيام
(1/81)
________________________________________
إسماعيل بن بلبل، وذلك أنه كثرت شكوى المعتمد إلى أخيه الموفق من إسماعيل، فأراد الموفق أن يقضي حقه بصرف إسماعيل إلى أن يسكن ما في نفس المعتمد، فقال له: اخرج إلى ضياعك بكوثي وأقم فيها مدة شهر معتزلاً للعمل، ثم عد بعد ذلك. وقلد مكانه الحسن ابن مخلد. فاستخلف الحسن أبا نوح، وكان أبو نوح يكاتب إسماعيل بن بلبل بأخبار الحسن، فلما عاد إسماعيل إلى الوزارة حضره أبو نوح، وجعل يخاطبه مخاطبة مأنوس به. وإسماعيل يلوي وجهه عنه. فلما خلا به أقبل عليه وقال له: إن الحال التي قدرتها قربتك مني هي التي نفرتني منك ومنعتني الثقة إليك، لأنك إذا لم تصلح لمن اصطنعك ورفعك وقلدك من العمل أكثر مما قلدتك لم تصلح لي، وما أُحب كونك بحضرتي ولا اختلاطك بخاصتي. فاختر بريد ناحية تشاكل طبعك. فاختار بريد ماء البصرة، فقلده إياه. وقال أبو الحسن بن قرابة: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول لكاتب نجع وقد سأله تضمينه الصدقات بفارس: إنما يرغب في عقد الضمان على تاجر ملي، أو عامل وفي، أو تانيء غني. فأما أصحاب الحروب فعقد الضمان عليهم ومطالبتهم بالخروج من أموالها تستدعي منهم العصيان، وخلع طاعة السلطان. قال: وسمعته يقول: من وازن من الكتاب المحاسبة، وأوضح الحجة في المكاتبة، وألزم العامل الواجب في المعاملة، كان حقيقياً بما انتسب إليه.
(1/82)
________________________________________
قال: وسمعته يقول: العمارة بالرغبة، وحفظ الغلة بالرهبة. فقل استخراج وقع في أيام عمارة إلا أبطلها. وقد كان عبيد الله بن يحيى يكتب إلى العمال في أيام العمارة: أغلقوا أبواب دواوين الخراج، واصرفوا المستخرجين من حضرتكم.
قال: وسمعت هشام بن عبد الله يقول: كتب أبو الحسن بن الفرات إلى نجح وقد أنفذ أبا جعفر حمد بن إسحاق المادرائي متقلداً للخراج بدارا بجرد، من عمله: السيف تابع والقلم متبوع، وقل سيف غلب القلم إلا كان داعية الخراب.. ولما قدم عبيد الله بن سليمان من الجبل في أيام المعتضد بالله رحمة الله عليه صار إليه أبو العباس وأبو الحسن ابنا الفرات في عشي يوم، فوجداه يميز أعمالاً وكتباً، وبين يديه كانون عظيم يحرق ما لا يحتاج إليه، فدفع إلى أبي العباس إضبارة ضخمةً وقال له: يا أبا العباس هذه الإضبارة وقائع وسعايات بك وبأخيك من أسبابكما وثقاتكما وصنائعكما وردت علي بالجبل، فخبأتها لك لتعرف بها من ينبغي أن تحترس منه، وتعامل كل واحد بما يستحقه. فأكثر أبو العباس في شكره والدعاء له، وبدأ أبو الحسن يقرأ شيئاً من الإضبارة، فانتهزه أبو العباس وقال: لا تقرأ شيئاً منها. وأخذها فطرحها في الكانون وقال: ما كنت لأقابل نعمة الله على ما وهبه لي من تفضل الوزير بما يوجب الإساءة إلى أحد، ولا حاجة لي إلى قراءة ما يوحشني من أسبابي، ويجر عليهم إساءةً مني. فلما نهضنا قال عبيد الله بن سليمان: أردت التفرد بمكرمة فسبقني أبو العباس إليها وزاد علي فيها. قال وحدثني ابن الأجري صاحب ابن الفرات قال: كنت لا أكاد أحضر
(1/83)
________________________________________
مجلس الوزير أبي الحسن إلا ليلاً، فحضرت يوماً نهاراً لأمر سألنيه ابن أبي البغل، فوجدت عنده المحسن ابنه، فلم أخاطبه بشيء خوفاً من بوادره وشره، حتى نهض وخلا المجلس، فقلت له: ابن أبي البغل يعلم محلي من الوزير، وصار إلي البارحة ليلاً فقال لي: لم أجد من آمنه على نفسي غيرك، وقد قصدتك لتستأذن لي الوزير في الخروج إلى عبادان لأقيم بها وألبس الصوف وآمن على نفسي. قال: وإذا المحسن قد عاد، فأمسك أبو الحسن حتى قام، ثم قال: قد عرفت ذنبه إلا أنه قد لزمك ذمامه، ومن لزمك ذمامه التزمناه، لأنك واحد منا، وغير منفصل عنا، فلا تعلمن بهذا أحداً، وهذا صك على ابن فلانة بثلاثة آلاف درهم فيجعلها نفقته. قال: فأخذت الصك وخطه بالاذن له، وعدت إلى الدار فوجدت ابن أبي البغل قد صعد السطح، وألقى نفسه في خربة تجاورنا ومضى. فعدت إلى الوزير وحدثته بالصورة، فأخذ الصك وأمر بطلبه وقال: والله لو قتل أولادي جميعاً ثم دخل دارك لكان ذلك أماناً وحقناً لدمه.
وحكي أن ابن الفرات اجتاز يوماً في بعض الطرق، فاتفق أن سار تحت ميزاب، فوقع عليه منه ما لوث ثيابه وسرجه ودابته، فوقف في الطريق، وأنفذ إلى داره من يحضره خلعة ثياب أخرى، فرآه رجل عطار كان في الموضع، فقام إليه، وسأله أن يدخل إلى منزله ويقيم فيه إلى أن يعود الرسول بالثياب. ففعل وأقام عنده، وخلع ما كان عليه، وتنظف بالماء مما كان أصابه، وأحضره الغلام الثياب فلبسها، ثم سأله العطار أن يأذن له في إحضار بخور يتبخر به، فأذن له، وركب أبو الحسن. ومضت الأيام، فلما ولي الوزارة كانت حال العطار قد اختلت
(1/84)
________________________________________
ورزحت، فقالت له زوجته: لو مضيت إلى الوزير وتعرفت إليه بخدمتك كانت له لرجوت أن ينظر في أمرك نظراً تغير به حالك. فأعرض عن قولها واستبعد الأمل مما ذكرته، ثم ألحت عليه في القول، فمضى ودخل دار أبي الحسن وتعرض له إلى أن رآه فأمسك وانصرف، فعرف زوجته ما جرى، فأشارت عليه بالعود، فعاد ومعه رقعة يستميحه فيها، ولم يزل حتى وجد فرصة منه فعرضها عليه، فلما وقف عليها قال: سل حاجةً تقض لك، واتفق أن صار إليه من خاطبه في أمر كاتب للعيال كان محبوساً، وسأله مسألة الوزير إطلاقه، وضمن له خمسة آلاف دينار في خاصه، وللوزير عشرين ألف دينار على يده، وللحواشي خمسة آلاف دينار، ووافقه على تعديل المال عند بعض التجار بالكرخ. فلما توثق منه قصد الوزير ومعه رقعة بالصورة، فأمره بحمل المال ليطلق له الرجل، فحمل المال، فلما حصل في الدار منعه بعض الخدم من إدخاله إلى الخزانة إلى أن يؤذن في قبضه. وعرف الوزير أمره، فتقدم إلى العطار أن يفرق ما للحاشية عليهم ويأخذ جميع الباقي لنفسه. وأمر بإطلاق كاتب العيال، فاستعظم العطار ذلك وملأ قلبه، ورأى قدره يصغر عن مثله، فقال للوزير: يقنعني من هذا كله ألف دينار أُغير بها حالي. وأجعلها رأس مالي، فقال له: خذ الجميع عافاك الله ولا تكثر علي في الخطاب. فخرج من حضرته وصار إلى أبي أحمد المحسن، وعرفه الحال، وأنه يقنعه اليسير مما أعطيه، وأومى إلى حمل الباقي إليه،
(1/85)
________________________________________
فقال له أبو أحمد: يأمر لك الوزير بشيء وأصانعك عليه! خذ المال وانصرف. ولأبي الحسن بن الفرات:
خليليّ قد أمسيت حيران موجعا ... وقد بان شرخٌ للشباب فودّعا
ولا بدّ أن أعطي اللذاذاة حقّها ... وإن شاب رأسي في الهوى وتصلّعا
إذا كنت للأعمال غير مضيّعٍ ... فما حقّ نفسي أن أكون مضيّعا
وحدث أبو علي بن مقلة قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول دفعات: ما بخلت بشيء قط إلا ندمت على بخلي به. ولابن بسام في أبي العباس أحمد وأبي الحسن علي ابني الفرات:
لي أحمدان لدنياي وآخرتي ... ولي عليّان فانظر من أعدد لي
من خاتم الملك أضحى وسط خنصره ... ومن علا كتفيه خاتم الرسل
فللشفاعة حسبي أحمد وعلي ... وللمعيشة حسبي أحمد وعلي
منهم بإثنين ما حاولت يسهل لي ... كما بإثنين إن قصّرت يغفر لي
تشبثت راحتي منهم بأربعةٍ ... في العسر واليسر والتأميل والوجل
وله أيضاً في هجائهم:
يا ربّ إنك عدلٌ ... على البريّة شاهد
بنو الفرات ثقالٌ ... وكلهم لك جاحد
ثلاثةٌ ليس فيهم ... إلا ثقيل وبارد
يا رب إن كان لا ب ... بدّ من ثقيلٍ فواحد
ولعبد الله بن المعتز إلى أبي العباس بن الفرات:
(1/86)
________________________________________
يا دهر غيّر كلّ شيءٍ سوى ... رأي أبي العباس فاتركه لي
قد كان لي ذا مشرب طيّبٍ ... حيناً فشيب الآن بالحنظل
عينٌ أصابت ودّه لا رأت ... وجه حبيب أبداً مقبل
إن كان يرضى لي بذا أحمد ... فليس يرضى لي بهذا علي
وللبحتري في أبي العباس:
كرمٌ أنجز المواعيد حتّى ... ردّ فيها نسيئة الوعد نقدا
كلما قلت أعتق المدح رقي ... رجعتني له أياديه عبدا
وحدث أبو الحسين علي بن هشام قال سمعت: أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات يحدث قال: كان النهيكي العامل قد لازم أبا القاسم عبيد الله بن سليمان في نكبته، فلما ولي الوزارة قلده بادوريا، وكان يتقلدها جلة العمال. ولقد سمعت أبا العباس أخي يقول: من استقل ببادوريا استقل بديوان الخراج، ومن استقل بديوان الخراج استقل بالوزارة، وذلك لأن معاملاتها مختلفة وقصبتها الحضرة، والمعاملة فيها مع الأمراء والوزراء والقواد والكتاب والأشراف ووجوه الناس، فإذا ضبط اختلاف المعاملات، واستوفى على هذه الطبقات صلح للأمور الكبار. قال أبو الحسن بن الفرات، فأقام النهيكي في عمالة بادوريا نحو سنتين، تقلد فيهما عبد الرحمن بن محمد ابن يزداد ثم أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي الأصبغ ديوان الخراج في أيام عبيد الله بن سليمان، فلما أُطلقت أنا وأبو العباس أخي من الاعتقال، وتقلد أخي ديوان الخراج والضياع، وخلته عليهما. عاملنا النهيكي، فكنا إذا كاتبناه برفع الحساب لم يجبنا، وإذا خاطبناه بشيء في أمر العمل لم يحفل بنا، إدلالاً
(1/87)
________________________________________
بمكانة من الوزير وعفته، وكان عفيفاً، فلما طال ذلك منا ومنه شكوناه إلى الوزير، فوكل به من لازمه حتى رفع حسابه لعدة سنين، وتشاغلت بعمل مؤامرة، فلم أجد عليه كبير تأول. وحضرنا بين يدي الوزير لمناظرته، وقد كنت صدرت أول باب من المؤامرة بأنه فصل تفصيلاً لثمن الغلة المبيعة جملته على موجب التفصيل أكثر من الجملة التي أوردها بألف دينار، فقال: أتتبع. فتتبع إلى أن صح الباب. فقال: وماذا يكون؟ هذا غلط من الكاتب في الجملة. فبدأت أكلمه. فأسكتني أخي، وأقبل على الوزير فقال: أيها الوزير، صدق. هذا غلط في الحساب، فالدنانير في كيسي من حصلت؟ فقال الوزير: صدق أبو العباس، والله لا وليت عملاً يا لص. ثم أتبعت هذا الباب بباب آخر، وهو ما رفعه ناقصاً عما كتب به من كيل غلة عند قسمتها، فلما توجهت عليه الحجة قال: أريد كتابي بعينه، فبدأت أُكلمه، فأسكتني أخي وقال: هذا أيها الوزير طعن على ديوانك، ونسخ الكتب الواردة والنافذة شاهد عدل. فقال: صدق يا عدو الله. وأمر بجره فجر. وما برحنا حتى أخذنا خطه بثلاثة عشر ألف دينار فأهلكناه بها، وما عمل كبير عمل بعدها.
وحدث أبو الحسين قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول: ناظرت الجهظ أحد العمال على مؤامرة قد عملناها له، وكنت أنا وأخي نأخذ خطه بباب باب، فلما كثر ذلك قالي لي سراً: ليس العمل في الخط، العمل في الأداء، وستعلمون أنكم لا تحصلون مني على شيء، فسمعته أنا وسمعه الوزير أبو القاسم عبيد الله بن سليمان، لأننا كنا في مجلسه، فقال له: أعد ما قلت. فاضطرب. فقال: لا بد أن تعيده. فأعاده. فقال: إذن لا تلى لي والله عملاً أبداً،
(1/88)
________________________________________
قم عافك الله إلى منزلك. خرق يا غلام المؤامرة. فخرقت في الحال، وانصرف الجهظ، وما صرفه الوزير بعد ذلك. وشاع حديثه فتحاماه الناس كلهم، وهلك جوعاً في منزله حتى بلغني أنه احتاج إلى الصدقة.
وحدث أبو الحسين قال: حدثني سليمان بن الحسن بن مخلد قال: قال لي ناقد خادم أبي وثقته وكان يتولى نفقته: ما رأيت أجسر من مولاي على أخذ مال السلطان، ومن ذلك أنني باكرته يوماً وقد لبس سواده ليمض إلى دار المعتضد على الله، وهو إذ ذاك يتولى دواوين الأزمة والتوقيع وبيت المال، فقلت له: قد صككت علي البارحة للمعاملين بألف وستمائة دينار، وما عندي منها حبة واحدة. فقال لي: يا بغيض، تخاطبني الساعة! أين كنت عن خطابي البارحة لأوجه وجهاً ما لها؟ ولكن ابتعني إلى دار السلطان. فتبعته، ودخل إلى المعتمد مع الوزير عبيد الله بن يحيى، ودخل معهما أحمد ابن صالح بن شيرزاد صاحب ديوان الخراج. فلما خرج قال: امض إلى صاحب بيت المال فخذ منه ما يدفعه إليك. فظننته قد استسلف شيئاً على رزقه، ومضيت إليه، فأعطاني ثلاثين ألف دينار، فاستكثرت ذلك، وعلمت أنه ليس من الرزق، وحملتها إلى الدار وعرفته خبرها. فقال للي: أطلق منها ما وقعت به إليك، واحفظ الباقي، فليس يتفق في كل وقت مثل ما اتفق. ومضى للحديث أيام، ودعا دعوة فيها صاعد بن مخلد وإليه إذ ذاك عدة دواوين وجماعة من الكتاب، فأكلوا وناموا وانتبهوا، فإذا كاتب من كتاب أحمد بن صالح بن شيرزاد يستأذن
(1/89)
________________________________________
على مولاي، فأذن له، وقام إلى مجلس واستدعاه إليه، فسمعته يقول له: أخوك أبو بكر يقرأ عليك السلام يعني أحمد بن صالح ويقول: أنت تعرف رسمي مع صاحب بيت المال، وأن محاسبته في سائر الأموال إلي، وإذا تمت ثلاثون يوماً وجهت حاجبي إلى الخازن فحمله مع صاحب بيت المال إلى ديواني لينتظم دستور الختمة بحضرتي، ونحن في ذلك منذ عشرة أيام، حتى تكاملت الختمة ولم يبق إلا ثلاثون ألف دينار، ذكر صاحب بيت المال أنك خرجت إليه من حضرة الخليفة وأمرته بحملها إلى خادمك ناقد، ولست أدري في أي جهة صرفت ولا ما الحجة فيها. فأجابه مولاي بغير توقف وقال: أخي أبو بكر والله رقيع، أسأل أنا الخليفة في أي شيء صرف ما استدعاه إلى حضرته؟ يجب أن يكتب في الختمة: وما حمل إلى حضرة أمير المؤمنين في يوم كذا وكذا ثلاثون ألف دينار. فقام الكاتب خجلاً ومر ذلك في الحساب على هذا، وما تنبه عليه أحد: قال أبو الحسين وقال لي سليمان بعقب هذه الحكاية: وما رأيت لهذه القصة شبيهاً إلا ما فعله أبو الحسن بن الفرات في وزارته الأولى، فإنه نصب يوسف ابن فنحاس، وهارون بن عمران الجهبذ، فلم يدع مالاً لابن المعتز والعباس ابن الحسن ومن نكب وقتل في الفتنة، وما صح من مال المصادرين وغيرهم ممن يجري مجراهم إلا أجراه على أيديهما دون يدي صاحبي بيت مال الخاصة والعامة، وأفرد ابن فرجويه كاتبه بمحاسبتهما والاستيفاء عليهما، فكان يحاسبهما ولا يرفع إلى الدواوين شيئاً من حسابهما. فلما كان في السنة التي قبض عليه فيها كتب
(1/90)
________________________________________
كتاباً عن نفسه إلى مؤنس صاحب بيت المال ذكر فيه أنه حوسب يوسف ابن فنحاس وهارون بن عمران على ما حصل عندهما من كيت وكيت حتى استغرق الوجوه وكان الباقي قبلهما بعد الذي حمل إلى حضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وصرف في مهمات أمر بها هو والسادة أيدهم الله، من الورق ألف ألف وأربعمائة وسبعون ألفاً وخمسمائة وستة وأربعون درهماً. وأمره بقبض ذلك منهما وإيراده بيت المال الخاصة، فقبضه مؤنس منهما، ومضى الأصل كله لا يعرف في أي شيء صرف، وكان مبلغه فيما ظنه الكتاب وكانوا يتعاودونه. نحو ألف ألف دينار. وفاز ابن الفرات بالمال، ولم يقم به حجة عليه. قال أبو الحسين: فحدثني أبي بعد ذلك قال: لما قلدني أبو الحسن على ابن عيسى في وزارته الأولى ديوان الدار الجامع للدواوين، أمرني بإحضار هذين الجهبذين ومطالبتهما بختماتهما لما كان حصل في أيديهما أيام وزارة ابن الفرات الأولى من الجهات المقدم ذكرها. فاستدعيتهما وطالبتهما، فأحالا على أن ابن الفرات أخذ حسابهما، وأعلمت علي بن عيسى بذاك، فأمرني بحبسهما وتهديدهما، ففعلت. وأحضراني حساباً مسوداً لم يكن منتظماً ولا متسقاً، ولم أزل ألطف بهما حتى أقرا بأنهما وصل إليهما من فضل الصرف مما ورد على أيديما وأنفقاه مائة ألف درهم، وقررت عليهما عشرة آلاف دينار، وأخذت
(1/91)
________________________________________
خطهما بها، فلم يقنع أبو الحسن علي بن عيسى بذلك، وأخذهما من يدي، وسلمهما إلى حمد بن محمد، وكان إليه ديوان المغرب، وأمره بأن يتتبع أمرهما بنفسه، من
غير أن يعرفه ما أخذت خطهما به، فنظر حمد في ذلك، ولم يجد في الحساب إلا إحالات على: حمل إلى الخليفة والسادة، وشيء انصرف في خاص نفقات ابن الفرات. فقال له حمد: هذا مال مسروق والقوم معهم حجة بالابراء وما عليهم طريق. وقد كان ابن الفرات أجلد من أن يدعهم يفوزون بحبة من المال. ير أن يعرفه ما أخذت خطهما به، فنظر حمد في ذلك، ولم يجد في الحساب إلا إحالات على: حمل إلى الخليفة والسادة، وشيء انصرف في خاص نفقات ابن الفرات. فقال له حمد: هذا مال مسروق والقوم معهم حجة بالابراء وما عليهم طريق. وقد كان ابن الفرات أجلد من أن يدعهم يفوزون بحبة من المال.
قال أبو الحسين: قال أبي: فردهما الوزير أبو الحسن إلي وقال: اجتهد في إلزامهما مائتي ألف درهم. فقلت. لا يمكن ذلك. فقال: اعمل على أنك طالبتهما بمرفق لنفسك يكون تتمة المائتين فقلت: إذا فعلت هذا فأي شيء يحصل لي؟ قال خذ منهما عشرين ألف درهم وألزمهما مائة وثمانين. فخرجت وجددت بهما حتى ألزمتهما ذلك، وأخذت لنفسي ما أعطانيه. فلما فرغت أخذت لهما خطه بالبراءة. فقال لي أبو الحسن علي بن عيسى: سأرسيك موضعي أنا من العمل، فإن للرئيس في كل أمر موضعاً لا يقوم فيه أحد مقامه. فأحضرهما إلى حضرته وأنا بين يديه وقال لهما: تريدان مني أن أُزيل عنكما تبعةً إن لم أُزلها بقيت عليكما وعلى ورثتكما أبداً، ولست أفعل ذلك إلا بعوض قريب لا ضرر فيه عليكما، وهو أنني أحتاج في مستهل كل شهر إلى مال أطلقه في ستة أيام، منه للرجالة ما مبلغه ثلاثون ألف درهم. وربما لم يتجه لي في أول يوم من الشهر ولا في ثانيه، وأريد أن تقرضاني في أول كل شهر مائةً وخمسين ألف درهم، وترتجعانها من مال الأهواز في مدة أيامه؛ فإن جهبذة الأهواز إليكما، ويكون هذا المال سلفاً واقفاً لكما أبداً.
(1/92)
________________________________________
وأضيف إلى هذا المال الوظيفة التي على حامد وترد في كل شهر وهو عشرون ألف دينار فيكون ذلك بإزاء مال القسط الأول. فتأبيا ساعةً، ولم يفارقهما حتى استجابا. فقال لي علي بن عيسى: كيف رأيت؟ قلت: ومن يفي بهذا غير الوزير؟ قال: وكان علي بن عيسى إذا حل المال وليس له وجه استسلف من التجار على سفاتج وردت من الأطراف لم تحل عشرة آلاف دينار بربح دانق ونصف فضة في كل دينار، يلزمه في كل شهر ألفان وخمسمائة درهم أرباحاً، فلم يزل هذا الرسم جارياً على يوسف بن فنحاس وهارون ابن عمران ومن قام مقامهما مدة ست عشرة سنة. وحدث أبو الحسين علي بن هشام قال: حدثني أبي قال: حدثني أبو الحسن ابن الفرات قال: دخل علي المقتدر بالله يوماً وأنا في حبسه، والوزير إذ ذاك حامد ابن العباس فقال لي: أتعرف الحسن بن محمد الكرخي؛ فقلت: نعم. قال: أي إنسان هو؟ قلت: عامل، وله محل من الصناعة، وهو من صنائعي ووجوه عمالي، وقد تقلد لعبيد الله بن سليمان قبلي، وهو أخو القاسم بن محمد الكرخي، ومن بيت معروف. فقال: قد كتب إلي يخطب الوزارة ويضمن حامداً وعلي بن عيسى. فقلت له: ولا كل هذا يا أمير للمؤمنين. وإنما أطعمه فيما طلبه بلوغ حامد من مثله ما بلغه. ولعمري إن الأمر قد وهن بحامد، وإن هذا الرجل أجود حساباً
(1/93)
________________________________________
وأعف لساناً وأشد وقاراً منه، وليس لأنه فوق حامد ترشح لهذه المنزلة. ولا لأن الغلط وقع في أمر حامد وجب أن يسلك في مثل هذه الطريقة، وعلى أنه قد غلط في تقديره أنه يصلح لصرف حامد لأن حامداً قديم الرئاسة في العمالة وله حال عظيمة، ونعمة كبيرة، ومروءة ظاهرة وهيبة معروفة، وسن في ذلك وقدمة، وكان نشا بعيداً عن الحضرة، فلم تستشف أخلاقه وأفعاله إلا بعد الوزارة، وفيه سعة صدر وسخاء نفس يغطيان كثيراً من معايبه وترك الأمر في يده ويد علي بن عيسى أولى فإن هذا لا يقارب علي بن عيسى، ولا يلحق أحد كتابه، وإني لأقول الحق فيهما على عداوتهما لي. فأضرب المقتدر بالله عن الحسن بن محمد ثم تم التدبير لأبي الحسن بن الفرات، وصرف حامد ووزر، فحين جاءه الحسن بن محمد، وتذكر ما جرى بينه وبين المقتدر بالله في بابه هابه وتصور بعد همته وتقلب رأي المقتدر بالله من حال إلى حال، فأحب إبعاده، فقلده الموصل وأعمالها، وأخرجه إليها صارفاً لابن حماد، فانتفع الحسن بما حصل في نفس ابن الفرات. قال أبو الحسين: فكنا في بعض الليالي بحضرة ابن الفرات، وهو يعمل، وأنا مع أبي، والمجلس حافل، إذ قرأ كتاباً ورد من صاحب البريد بالموصل يذكر أن أبا أحمد الحسن هذا قد قسط في الأعمال، ومد يده إلى المال، وزاد في إظهار المروءة، وركب باللبود الطاهرية، وبين يديه عدة حجاب، وخلفه جماعة
(1/94)
________________________________________
غلمان، حتى أنه يسير بينهم في موكب. وأنه وصل معه من البغال والجمال والزواريق التي تحمل أثقاله شيء كثير، وهذا إنفاق وتوسع لا يقتضيه الرزق وإنما هو من الأصول. فرمى بالكتاب إلى أبي القاسم زنجي، وكان إذ ذاك حدثا يخط بحضرته. وقال له: وقع عليه: يجاب بأنه نفع الرجل من حيث أراد الاضرار به، لأنه إذا كان في مثل هذا الصقع عامل ذو وجاهة وتجمل ومروءة صلح أن يتقلد للسلطان إلى مصر
وأجناد الشام متى أنكر من عمالها حالاً. ثم أقبل على من في مجلسه وقال: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن سليمان أن النوشجاني صاحب البريد رفع إلى المعتضد بالله بأن الأخبار شائعة ببغداد بأن حامد ابن العباس لما دخل فارس متقلداً لها كان معه مائتان وخمسون بغلاً، عليها رحله وأثقاله، ومعه عدد كثير من الغلمان والحاشية وسلم إلي المعتضد بالله كتاب النوشجاني بذلك، فقرأته وتحيرت، وخفت أن يكون قد أنكره وقدر أن حامداً قد اجتاح المال واصطلمه، وقال لي: يا أبا القاسم وقد كان كناه قرأت هذا الكتاب؟ قلت: نعم. قال: قد سرني ما قد ظهر من تجمل حامد ومروءته وما قام بذلك في نفوس الرعية من هيبته، فكم رزقه؟ فقلت: ألفان وخمسمائة دينار في كل شهر. قال: اجعلها ثلاثة آلاف ليستعين بها على مؤونته. ثم قال أبو الحسن بن الفرات عقيب هذه الحكاية: وقد فعل المعتضد بالله قريباً من هذا مع أبي العباس أحمد بن بسطام، فإن المعتضد طالبه بالعجز في
(1/95)
________________________________________
ضمانه واسط وحبسه في دار ابن طاهر، وقرر عليه سبعين ألف دينار يؤديها، وكان يصححها على جمل وأصحاب عبيد الله بن سليمان يطالبونه والموكلون به من قبل المعتضد بالله. فكتب النوشجاني: فيه بأنه كان يفرق في أيام ولايته عشرين كراً حنطةً في كل شهر على حاشيته والفقراء والمساكين والمستوردين من أهل معرفته، وأنه فرق ذلك في هذا الشهر على عادته. ودافع بأداء ما عليه من موافقته ودخل عبيد الله بن سليمان على المعتضد فأقرأه الرقعة وقال: قد سرني فعل ابن بسطام وقيامه بمروءته ومعروفه وجملنا بأن لم يظهر أننا ألزمناه ما أجحف به، وأحوجه إلى تغير رسمه فيما كان يطلقه ويبر به، فكم بقي عليه؟ قلت: بضعة عشر ألف دينار. فقال: اتركها عليه واردده إلى عمله، وعرفه إحمادي ما كان منه. ففعل عبيد الله الله ذلك. وحدث أبو الحسين بن هشام قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات يحدث قال: لما طال حبسي عقيب الوزارة الثانية تبينت أن المقتدر بالله لا يفرج عن ابن الحواري. وإن علم أنه من أكبر أعدائي. ولا يجيبني إلى تسليمه إلي في جملة خصومي، فتلطفت لافساد رأيه بأن راسلت المقتدر بالله قبل أن يطلقني بأربعة أشهر وعرفته أن أولادي في إضافة وفاقة، وسألته إطلاق مائة وخمسين ألف درهم لي، أحمد
(1/96)
________________________________________
إلى كل واحد الثلث منها لاصلاح أمره والقيام بمؤونته، وأرد العوض عنها بعد شهر من ثمن أمتعة قد بيت عند قوم من أصحاب ودائعي. فقال: هذا قدر يقبح أن نمنعه إياه مع كثير ما أخذناه من ماله، احملوا إليه ذلك، فحمل إلي. وراسلت السيدة وطلبت منها خمسين ألف درهم، فكانت تلك سبيلها، وجمعت الجميع ودفعته إلى أم كلثوم قهرمانتي، وأمرتها أن تبتاع به دنانير جدداً حساناً وتجيئني بها. ففعلت. وكانت من عادة المقتدر بالله إذا صام يوم الخميس أن يدخل إلي الحجرة التي أنا محبوس فيها، يقعد عندي ويحادثني من وقت العصر إلى وقت المغرب. فلما كان يوم الخميس قبل وقت حضوره صببت الدنانير بين يدي، فدخل وقال: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقلت: أما يرى مولانا أمير المؤمنين كثرة هذه الدنانير، وحسنها؟ قال: بلى، فكم مبلغها؟ قلت: سبعة عشر ألف دينار. قال: ولأي شيء هي بين يديك؟ قلت. اقترضت ذلك المال من أمير المؤمنين ومن السيدة وزيدان، وصرفته فيما أردت فيه، واستدعيت ما كان لي مودعاً من أمتعة وصياغات ممن هو عنده، فأنفذه إلي لما ظهر لهم من تفضل مولانا علي، وزال بذلك طمعهم في، وبعته وحصلت ثمنه هذا لأرده على من اقترضته منه. فقال: ما أقبح هذا! أترانا نبخل عليك بما أطلقناه لك مع ما أخذناه منك مما رأيناه تعويضك عنه وردك إلى أفضل ما كانت منزلتك عندنا عليه؟ فتبسمت. فقال: مم تبسمك؟ قلت: والله يا أمير المؤمنين ما طلبت المال لحاجة إليه فإن في بقية حالي ما يغني عنه، وإنما أردته لأصرفه بالدنانير، وأضعه بحضرتك، فتشاهده وتعلم أن ابن الحواري الخائن يرتزق من مالك في كل شهر مثل مبلغه، ويقتطع مع ذلك كذا، ويأخذ كذا،
(1/97)
________________________________________
وذكرت معايبه ومساوئه. قال: فرأيته قد استعظم الحال، وكثر في عينه المال، ولم ينهض من مجلس حتى وعدني بتسليم ابن الحواري إلي ولم يقبل هو ولا السيدة ولا القهرمانة عوض ما أعطونيه إلا بعد جهد وسؤال. وحدث أبو الحسين بن هشام قال: كنا على مائدة أبي العباس أحمد بن عبيد الله الخصيبي في وزارته، فجرى
ذكر علي بن عيسى وابن الفرات فقال: كان ابن الفرات نافذاً في عمل الخراج وتدبير البلاد وجباية المال وافتتاح الأطراف، وأليق من علي ابن عيسى في سياسة الملك. وكان علي بن عيسى كثير التدين شديد التصون عفيفاً عن المال، وله مذهب في الترسل لا يلحقه فيه أحد ولا ابن الفرات. والتفت إلى أبي عبد الله زنجي وكان حاضراً فقال له: ما عندك في هذا يا أبا عبد الله؟ فقام قائماً وقال: من عادتي أيها الوزير إذا صحبت وزيراً أن أُحصي محاسنه وأذكرها، فأما مساوئه فلا أُخطرها مني بالاً، ولا أُجري بها لساناً، وعلى ذلك فإن أذن الوزير في الجواب قلت ما عندي. قال: قل. فقال: كانت يد أبي الحسن بن الفرات تخونه لفساد خطه، وكان يعمل النسخ بأجزل كلام وأحسنه، ويخرجها إلي فأحررها، والبارحة كنت أميز شيئاً فمرت بي ثلاث نسخ بخطه، إن أمر الوزير بإحضارها ليتبين له موقعه من الترسل أحضرتها. فقال: افعل. وأنفذ غلامه ليحضرها، وتشاغلنا بالأكل. فلما انقضى ونهض الوزير وغسل يده ونام، جلس زنجي في مجلسه من الدار على انتظار النسخ حتى حملت إليه فقرأتها، ولم أزل أُكرر النظر فيها. وكانت إحداها نسخة كتاب منه إلى مؤنس في أمر علي بن عيسى وهي: بن عيسى وابن الفرات فقال: كان ابن الفرات نافذاً في عمل الخراج وتدبير البلاد وجباية المال وافتتاح الأطراف، وأليق من علي ابن عيسى في سياسة الملك. وكان علي بن عيسى كثير التدين شديد التصون عفيفاً عن المال، وله مذهب في الترسل لا يلحقه فيه أحد ولا ابن الفرات. والتفت إلى أبي عبد الله زنجي وكان حاضراً فقال له: ما عندك في هذا يا أبا عبد الله؟ فقام قائماً وقال: من عادتي أيها الوزير إذا صحبت وزيراً أن أُحصي محاسنه وأذكرها، فأما مساوئه فلا أُخطرها مني بالاً، ولا أُجري بها لساناً، وعلى ذلك فإن أذن الوزير في الجواب قلت ما عندي. قال: قل. فقال: كانت يد أبي الحسن بن الفرات تخونه لفساد خطه، وكان يعمل النسخ بأجزل كلام وأحسنه، ويخرجها إلي فأحررها، والبارحة كنت أميز شيئاً فمرت بي ثلاث نسخ بخطه، إن أمر الوزير بإحضارها ليتبين له موقعه من الترسل أحضرتها. فقال: افعل. وأنفذ غلامه ليحضرها، وتشاغلنا بالأكل. فلما انقضى ونهض الوزير وغسل يده ونام، جلس زنجي في مجلسه من الدار على انتظار النسخ حتى حملت إليه فقرأتها، ولم أزل أُكرر النظر فيها. وكانت إحداها نسخة كتاب منه إلى مؤنس في أمر علي بن عيسى وهي: آثار علي بن عيسى أعزك الله فيما تولاه من الأعمال، وجرى على يده
(1/98)
________________________________________
من الأموال، تدل على عجزه وإضاعته، وتبطل ما يدعيه من صناعته وكفايته. ولما صرفت عماله عما ولوه، وطالبتهم بما اقتطعوه، أعفوا بمال جزيل قدره، عظيم خطره، متجاوز مبلغه ألف ألف دينار، وانضاف إليها ما توفر مما كانوا يفوزون به من الارتفاقات، ويستثنونه في العقود والمقاطعات، وهو أربعمائة ألف دينار، وما وجب على الحسين بن أحمد ومحمد بن علي المادرائيين من خراج ضياعهما بمصر والشام في سني ولايته، فاستدركه علي بن أحمد بن بسطام وهو ثلاثمائة ألف دينار، فتحصل الجميع ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وحمل منه إلى حضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ستمائة ألف دينار، وإليك أعزك الله للنفقة على القادة النافذة لمحاربة يوسف بن ديوداذ مع صلات المستأمنة وأرزاقهم خمسمائة ألف دينار، وأُطلق الباقي لقواد أمير المؤمنين أيده الله وأجناده وخواصه عوضاً عما كان علي بن عيسى حطه من أرزاقهم، ووضعه من جملة استحقاقاتهم، فكثر الشاكر، وسكن وأمن النافر، وصلحت الأحوال، وانبسطت الآمال. ولما قربت العساكر من يوسف أفرج عن الري وما يليها من الأعمال، وزال عن أهلها كل جور وعدوان، وعمرت تلك النواحي بعقب خرابها، واستوسقت الأمور بعد اضطرابها، والله الموفق المعين. وقد توفرت أعزك الله مع ذلك مني عليه العناية، ولحقته الصيانة، في نفسه وماله، وضياعه وحاله، ترفعاً عن مجازاته على أفعاله، وجرياً على عادتي في أمثاله. والله أسأل معونتي على الجميل
(1/99)
________________________________________
الذي أعتقده وأنويه، وتوفيقي لما يحبه ويرضيه، إنه أهل الفضل وموليه، وحسبي الله ونعم الوكيل.

ونسخة الأخرى وكانت إلى أبي عباس أحمد ابن بسطام عند تقلده الوزارة الأولى:
نعم الله عند أمير المؤمنين أطال الله بقاءه تتجدد في سائر أوقاته، وتتوكد في جميع حالاته، فليس يخلو منها قاهرةً لأعدائه، وناصرةً لأوليائه، والله يعينه على أداء حقها، والقيام بشكرها، إنه ذو فضل عظيم. وكان جماعة من جلة الكتاب والقواد ووجوه الغلمان والأجناد، حسدوا أبا أحمد العباس بن الحسن رحمه الله على محله في الدولة ومنزلته، وما قام به لأمير المؤمنين أيده الله من عقد بيعته، فسعوا في إتلاف مهجته، وإزالة نعمته، وتوصل إليهم عبد الله بن المعتز بمكره وخديعته، فأوحشهم من أمير المؤمنين وشيعته، وحسن لهم الخروج عن طاعته، فنكثوا ومرقوا، وغدروا وفسقوا، وشهروا سيوف الفتنة وأظهروا أعلامها، وأضرموا نيرانها، وتفرد الحسين بن حمدان بأبي أحمد فقتله، وثنى بفاتك المعتضدي فأتلفه، وقصد المارقون دار الخلافة حتى وصلوا إلى جدرانها، وأحرقوا عدة من أبوابها، ووفق الله الخدم والأولياء المصافية والغلمان الحجرية لمحاربتهم ومنازلتهم، فانصرفوا مفلولين، واجتمعوا إلى عبد الله فعاقدوه وبايعوه، وتسمى بالخلافة في ليلته، ووازره محمد بن داود على ضلالته. وما صحبهم من غلمان
(1/100)
________________________________________
أمير المؤمنين أدام الله عزه وخاصته وذوي البأس من رعيته من حسن دينه. وخلص يقينه، فتحصنوا بالإبعاد في الهرب، لما خافوه من شدة الطلب، وأُسر جماعة من كتاب عبد الله وخواصه، منهم محمد بن عبدون، وعلي بن عيسى، ومحمد بن سعيد الأزرق، ويمن الكبير، ووصيف بن صوارتكين، وسرخاب الخادم، وعلي الليثي، ومحمد الرقاص وأبناء دميانة، والمعروف بأبي المثنى، ومحمد ابن يوسف، وحملوا إلى دار أمير المؤمنين أيده الله فحصلوا في أعظم بوس، وأضيق حبوس. ولما خمدت النائرة، وسكنت الفتنة الثائرة، استدعاني أمير المؤمنين أدام الله تاييده فأوصلني إلى حضرته، وخصني ببره وتكرمته، وفوض إلي تدبير مملكته، ورعاية خاصته وعامته، واعتمد علي في حياطة ملكه ودولته، وقلدني سائر دواوينه مع وزارته، وخلع علي خلعاً ألبسني بها إجلالاً وقدراً، وجمالاً وفخراً، وعدت إلى داري مغموراً بإحسانه، مثقلاً بأياديه وامتنانه. وأسأل الله معونتي على طاعته. وتبليغي غاية رضاه وإرادته بمنه وقدرته.
وكان أول ما بدأت به الجد في طلب عدو الله عبد الله بن المعتز، إلى أن هيأ الله الظفر به على يد صافي مولى أمير المؤمنين، بعد أن تنصح في الدلالة على موضعه خادم مشهور الديانة، مذكور الصيانة يعرف بسوسن الجصاصي، فأوجبت الحال إطلاق صلة لسائر الأولياء وافرة المبلغ، وأنا بتجديد البيعة عليهم متشاغل، وللخدمة مواصل، والأمور جارية على أحمد مجاريها. وأفضل المحاب فيها، والحمد لله رب العالمين. والأحوال أعزك الله بيننا توجب مشاركتك، وتقتضي مساهمتك، وقد
(1/101)
________________________________________
قلدتك الخراج والضياع العامة والمستحدثة بمصر ونواحيها، والكور الجارية فيها، لما أعرفه من كفايتك ومخالصتك، وأثق به من مناصحتك، وكتبت به إلى الحسين بن أحمد بتسليم هذه الأعمال إليك، وأعلمته اعتمادي فيها عليك، وأنت بصناعتك وكفايتك تستغني عن التنبيه والتبصير، وتوفي على الظن بك والتقدير إن شاء الله.
وكتب يوم الثلاثاء لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول من سنة ست وتسعين ومائتين.

ونسخة الثالثة وكانت إلى ابن بسطام في صرف سوسن عن الحجابة والقبض عليه
عوائد الله عند أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فيمن يشاقه ويناويه، توفي على غاية محابه ونهاية أمانيه، فليس يظهر أحد عصيانه ويبديه، أو يجاهر به أو يخفيه، إلا جعله الله عظةً للأنام، وأهلكه بعاجل الاصطلام، والله عزيز ذو انتقام. وممن نكث وغدر، وفسق ومرق، وطغى وبغى، وكاشف وخالف، سوسن الحاجب، فإنه كان لدم أبي أحمد العباس بن الحسن رحمه الله من السافكين، وفي معاونة عبد الله بن المعتز على فتنته من المشمرين. وكان يظهر لأمير المؤمنين أطال الله بقاءه موالاة ونصراً، ويضمر عداوة وغدراً، ويسعى في إفساد ملكه ودولته، ويوحش وجوه غلمانه وخاصته، إلى أن عاجله أمير المؤمنين أدام الله عزه بسطوته
(1/102)
________________________________________
وأزال عن الدولة حرسها الله ما عراها من معرته، وقلد مكانه من وثق بدينه وأمانته، ونصيحته ومخالصته، فاستوسقت الأمور، واستبشر الجمهور، وارتفع الأولياء وانقمع الأعداء، والله يخير لأمير المؤمنين فيما يبرمه ويمضيه، ويوفقه لما يحبه ويرضيه بجوده، ومجده، وكرمه وحمده، إنه فعال لما يريد. هذه أعزك الله حال الباغين والمارقين، والطاغين والناكثين، ومن تغره المهلة، وتفسده الغفلة، وتزله قدماه، ويعصي مولاه، فإن العاقبة للمتقين، والدائرة على المجرمين، والسلامة في طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين. وقال أبو الحسين بن هشام: سمعت أبا الحسن بن الفرات يملي جواباً لبعض العمال على ظهر كتاب: ورد منه بجملة عشرة آلاف دينار، فكان ما أحسن ولا قارب الإحسان، ولا أنا بالراضي بشيء من أمره، ولا بالمؤخر عنه ما يكرهه إن أقام على ما هو عليه، وأين عشرة آلاف دينار مما يجب عليه حمله؟ ليكبت إليه في ذلك أغلظ كتاب وأفظعه، وليعرف أني إن استفسدته بعد استصلاحي إياه أنسيته ما سلف مما جرى عليه، فليختر لنفسه ما يراه أصلح لها إن شاء الله.
وحدث أبو الحسين قال: حدثني أبو القاسم سليمان بن الحسن قال: حضرت مناظرة أبي محمد حامد بن العباس وأبي الحسن علي بن عيسى وأبي علي الحسين ابن أحمد المادرائي الملقب بأبي زنبور، لأبي الحسن علي بن محمد بن الفرات وكان ذلك بدار الخلافة، وحضر نصر الحاجب والقواد والقضاة، وأُخرج ابن الفرات وعليه قميصان ورداء، فلما توسط المجلس سلم سلاماً عامً وجلس، فكان ذلك أول
(1/103)
________________________________________
استخفافه بالقوم، فأقبل عليه حامد وقال له: مددت رجلك، وأطمعت في المحال نفسك، وعولت على القهرمانة يعني زيدان في الشفاعة لك، والمدافعة عنك وظننت أنه يقنع منك بثلاثمائة ألف دينار ونيف، أقررت بها من ودائعك. نريد أن نحاسبك على ما أغللت في ثمانية عشر شهراً من ارتفاعك، وما انضاف إلى ذلك من رزقك، وحق بيت المال في ضياعك التي رفعت عن نفسك لنفسك بأنك أوغرته، وخمسمائة ألف دينار قد حضر من ثقاتك من يواقفك على أنك ارتجعتها من ودائعك التي بقيت لك بعد نكبتك الأولى فكتمتها السلطان أعزه الله بعد يمينك له بالصدق عن جميع مالك، فإذا فرغنا من ذلك عدلنا إلى مرافقك. فقال: أما استغلال ضيعتي فلا مطالبة تتوجه علي به، وقد ردها أمير المؤمنين علي. وأما حق بيت المال الذي أوغرنيه فالحال واحدة فيه. وأما الودائع فلم يكن بقي لي ما لم أصدق عنه فيما تقدم. وأما الثقة الذي أشرت إليه في مواقفتي، فالثقة لا يكون ساعياً لحق ويكني عن باطل. فقال له: قد علمنا أنك تحسن المناظرة، ويطول لسانك بالأقوال المحالة، هذا موقف يحتاج فيه إلى وزن المال، ولا تغتر بالصيانة عن المكروه، فإنني قد شرطت على أمير المؤمنين أعزه الله تسليمك إلي، فاحفظ نفسك ما دمت في ظله قبل أن أبسط عليك من المكاره ما لا تثبت له. قال له ابن الفرات: المكاره تبسط على من أخذ أموال السلطان وفاز بها، وضمن ضمانات باطلةً بفتاوي الفقهاء والكتاب، وحصل الفضل الكبير منها، ولولا إشفاقك من ذلك لما تعرضت لما لا تحسنه وفضحت نفسك، وهتكت المملكة بالدخول فيه.
(1/104)
________________________________________
فقال له حامد: ما هذا التبسط يا عاض كذا من أبيه، حتى كأنك الوزير ونحن بين يديك. فقال ابن الفرات: دار أمير المؤمنين تصان عن السخف، وحضور هؤلاء القواد القضاة يمنع عن الفحش. فيا ليت شعري يا حامد ما الذي غرك؟ وليس ما أنت فيه بيدراً تقسمه، وأكاراً تشتمه وتحلق لحيته وتضربه، وعاملاً تذبح دابته وتعلق رأسها في عنقه، فإنما هذه الدار وهذا المجلس دار ومجلس الخليفة اللذان منهما يشيع العدل في أقطار الأرض، وإنما مكنت من مناظرتي، ولم تجعل لك سبيل إلى عرضي، ولولا أنني أتصون عن فعل مثلك لاقتصصت في القول والشتم منك، ومع إمساكي فقد وجب الحد عليك فيما أطلقت به لسانك. فأقبل علي بن عيسى على حامد وقال له: يدعني الوزير أعزه الله حتى أناظره، وقال لأبي الحسن بن الفرات: يا أبا الحسن أعزك الله تعرف هذا؟ وأومى إلى أبي زنبور فقال: ما أُنكره من سوء. قال: هو أبو علي الحسين بن أحمد المادرائي عامل مصر الذي قصدته وأفقرته، وخدمته معروفة في رده مصر على السلطان دفعات. فكيف لا تعرفه؟ فقال: لم ينكر علي أني لم أُثبته؟ فإن عهدي طويل به، وكنت أعرفه يكتب لعامل نهر جوبر بعشرين ديناراً في الشهر. ثم صحب الطولونيين العصاة، فعظمت حاله ونعمته معهم، ولم أره إلى وقتي هذا. فقال علي بن عيسى لأبي زنبور: واقفه على ما ذكرت.
(1/105)
________________________________________
فقال نعم. وأقبل علي ابن الفرات وقال: توليت لك أعمال أجناد الشام سوى جند قنسرين والعواصم، فطالبتني من المرفق بما كنت أحمله إلى العباس ابن الحسن قبلك، وهو عشرة آلاف دينار في كل شهر. وأخذت ذلك لمدة وزارتك الأولى، فكان المبلغ أربعمائة وأربعين ألف دينار. ثم إنك نصبت في وزارتك الثانية ديواناً للمرافق، واستخرجت هذا المال وأوردته في جملة مرافق حملتها إلى أمير المؤمنين. فأمسك ابن الفرات ساعة، حتى قال نصر الحاجب بعجومته: تكلمي يا قرمطية. فقال له: أمسك يا أبا القاسم عما لا ينفعك ولا يضرني. وقال لأبي زنبو: ليس يخلو ما تدعيه من حالين، إما أن يكون حملك للمال مع رسل أو بسفاتج تجار على تجار، فإن كان مع رسل فأحضرهم أو أحضر القبوض التي كتبت على أيديهم، أو بسفايج فالقبوض مع أربابها. فقال أبو زنبور: هذا شيء لا يكتب به قبوض. فقال: إذا كان ذلك كذلك وجب أن تجعل بدلاً من أربعمائة ألف أربعة آلاف ألف لتكون الحال فيه واحدة. ثم اقبل على علي بن عيسى فقال: حكم الله ورسوله في الدعاوي معروف، وأرجو ألا يخرجني أمير المؤمنين فيه عن الانصاف. ثم قال لأبي زنبور: قد وليت
(1/106)
________________________________________
لأبي الحسن وأومى إلى علي بن عيسى الشام أربع سنين، فإن كنت حملت إليه هذا المرفق في هذه المدة فهو عليه، أو لم تفعل فهو عليك لاعترافك بوجوبه.
فقال به أبو زنبور: هذا لا يلزمني، ولكن ها هنا مال الاستثناء بمصر، وهو مائة ألف دينار في كل سنة، وقد أخذت منه في وزارتك الأولى سبعمائة ألف وخمسين ألف دينار. فقال له ابن الفرات: قد وليت أيضاً مصر لأبي الحسن أربع سنين، وحكم ذلك فيما يتوجه على أبي الحسن أو عليك حكم ما قبله. والآن فها هنا ثمانمائة ألف دينار واجبة لأمير المؤمنين أعزه الله ومن الواجب أن تخرجا إليه منها. فقال له علي بن عيسى: أنا معروف الطريقة ومكشوف الرأس من مثل هذه الأسباب وكشف عن رأسه. قال: وكان المقتدر بالله قريباً من الموضع فسمع ما جرى. فقال ابن الفرات: ومن ها هنا بارك الله عليك مغطى الرأس؟ ولو تكلم الناس كلهم في هذا الموضع لوجب لك ألا تتكلم. فقال: لم يا أبا الحسن؟ أعزك الله. قال: لأن لهذا الرجل يعني أبا زنبور ومحمد بن علي ابن أخيه بمصر والشام من الضياع مسافة مائة فرسخ في مائة فرسخ، وما أخذت من حق بيت المال منها في وزارتك درهماً واحداً. فمن ترك على قوم حقوق بيت المال لم لم يأخذ المرافق منهم؟ ثم التفت إلى شفيع اللؤلؤي وإليه البربد وقال له: أنت ثقة أمير المؤمنين، وقد تعين على هذا الرجل يعني أبا زنبور مال يلزمه الخروج منه
(1/107)
________________________________________
بإقراره واعترافه أو إقامة حجة تبرئه منه، فأنه إلى أمير المؤمنين ذلك، وطالبه به.
وأقبل عليه حامد وقال له: قد أخذت في التمويهات، وعولت يا ابن الفاعلة على دفع الحق بالمباهتات. قال له: وأي شيء في يدك من الحق حتى أدفعه يا حامد، تحمل إلى السلطان مائتين وأربعين ألف دينار في كل سنة من واسط، وتدعي أن الخاقاني الأبله المتخلف ضمنك ثمن الحاصل من زرع لم يزعر. ثم تعترف بأنك تغل ضمان هذه الناحية سبعمائة ألف دينار، وتشنع بذلك، أوليس هذا الفعل شاهد عقلك وصناعتك ومقدارك في دينك وأمانتك؟ وقد رضينا بهذا الشيخ يعني علي ابن عيسى في كشف أمرك وتأمل ما عليك، فإن شغل السلطان باستيفاء ما يلزمك مما دخلت في الوزارة لتدفعه عن نفسك لما اردت استخراجه منك أعود عليه وأنفع له. فشتمه حامد شتماً مسرفاً، وأمر أن تنتف لحيته، فلم يقدم عليه أحد حتى مد حامد يده إلى لحيته وكان جالساً بالقرب منه فأخذ منها خصلة، وصاح ابن الفرات: أوه. وضرب أبو زنبور يده إلى الدواة وكتب بأنه يضمن استخراج مائة ألف دينار من ابن الفرات في مدة ثلاثين يوماً إذا سلم إليه بعد ما أداه إلى هذا الوقت. فقال له ابن الفرات: يكون عليك ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار بالمواقفة لك في هذا المجلس، ثم تدفعها بأن تضمنني بأقل من نصفها؟ إن ذلك من أطرف الأمور، وأعجب السياسة! فقال حامد: وأنا أضمنك بسبعمائة ألف دينار عاجلة في عشرة أيام، إذا سلمت إلي وكتب حامد وأبو زنبور خطهما بما بذلا فيه. واستدعى حامد مرشداً الخادم،
(1/108)
________________________________________
وسلم إليخ الخطين، وأمره بعرضهما على المقتدر بالله، فدخل وعاد وقال: أمير المؤمنين يقول: أنا أعلم أن عليه وعنده من الأموال أكثر مما قلتماه وضمنتماه. وأنا أدري كيف أستخرجها منه، وأُقابله على تقاعده بي. ومكايدته إياي، فأما أن أُضمنه وأُسلمه فلا حاجة بي إلى ذلك. ثم أقيم من المجلس إلى محبسه، فما وقعت للجماعة عين عليه بعد ذلك.
قال أبو الحسين بن هشام: فلما ولي أبو الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة حكي هذا المجلس على هذه السياقة، وزاد فيها أن علي بن عيسى قال له: ما اتقيت الله في تقليدك ديوان جيش المسلمين رجلاً نصرانياً، وجعلت أنصار الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمره. فقلت له: ما هذا شيء ابتدأته ولا ابتدعته، وقد كان الناصر لدين الله قلد الجيش إسرائيل النصراني كاتبه. وقلد المعتضد مالك بن الوليد النصراني كاتب بدر ذلك. فقال علي بن عيسى: ما فعلا صواباً. فقلت: حسبي الأسوة بهما وإن أخطأ على زعمك. ولعمري إنك لا ترى أمانتهما، ولا تعتقد طاعتهما، فلذلك لا تقتدي بآرائهما، ولا ترتضي بأفعالهما، ومع هذا فما وجدت لي روحين إذا مضى أحدهما بقي الآخر. قال: ما أردت بهذا القول؟ قلت: وجدت العباس بن الحسن قد قلد محمد بن داود بن الجراح ديوان
(1/109)
________________________________________
الجيش، فطمع في الوزارة، وسعى على العباس حتى قتله، وخلع أمير المؤمنين أعزه الله وأجلس عبد الله بن المعتز. فخفت أن يتم علي وعلى الدولة ما تم منه. قتال: ثم صحت، وأنا أعلم أن الخليفة يسمع: يا أمير المؤمنين، قد اجتمع هؤلاء يريدون قتلي خوفاً من علمي بمساوئهم، وما في ذممهم من الأموال التي تلزمهم، كما اجتمع الكتاب في أيام المتوكل جدك في نجاح بن سلمة حتى قتلوه، ولي عليك حق حرمة وخدمة، فاحرس نفسي. وبارك الله لك في مالي. قال: فما استوفيت القول حتى خرج الخدم وحملوني إلى موضعي، ولم أجتمع مع واحد منهم حتى جلست هذا المجلس.
وحكى أبو الحسن ثابت بن سنان أن أبا زنبور لم يقم من مجلسه الذي ناظر ابن الفرات فيه حتى قال له: إن أقررت على نفسك مصادرةً التزمت عنك خمسين ألف دينار. فلما خرج قال له علي بن عيسى ونصر الحاجب وابن الحواري: دخلت إلى الرجل لتناظره وخرجت من عنده وقد بذلت مرفقاً مصانعةً. فقال: نعم، أدخلتموني إلى رجل قال لي بعضكم لما دخلت إليه: أنظر لمن تخاطب وقال آخر: أنظر بين يديك وقال آخر الله الله في نفسك. فلم أجد أقرب إلى الصواب مما فعلته. قال: فلما تقلد ابن الفرات الثالثة قبض على ولد لأبي زنبور وأخذ خطه بخمسة وعشرين ألف دينار كانت واجبةً عليه للسلطان، وأخر مطالبته بها إلى أن وافى أبوه من الشام، ثم قال له وعدتني في المجلس الذي ناظرتني فيه بحمل خمسين ألف دينار، وقد كنت مالك أمرك في أن تفعل أو لا تفعل،
(1/110)
________________________________________
وهذا خط ابنك بخمسةً وعشرين ألف دينار واجبة عليه لا حجة له ولا لك في دفعها عنه وقد رددته إليك مكافأةً عما عملت وبذلت. ووجدت في هذه الحكاية من الزيادة أن حامداً قد كان أحضر أبا علي ابن مقلة معه لمواقفة ابن الفرات على استخرجه من ودائعه في وزارته الثانية، فلما طلبه وجده قد انصرف، ورساله بالعود فقال: أنا أكتب خطي. وأشهد على نفسي بجميع ما تريده مني، فأما أن أواجه ابن الفرات به فما لي وجه يثبت على ذلك. فكان هذا الفعل سبب سوء رأيه فيه.
وحدث أبو الحسين بن هشام. قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد ابن عبد الحميد كاتب السيدة يحدث أبي في يوم عيد الأضحى من سنة ست وثلاثمائة قال: لما صح عند أبي الحسن بن الفرات فساد أومره عند المقتدر بالله، وتمام التدبير عليه في صرفه وتقليد حامد استدعاني وخلا بي وقال: أنت عارف بخدمة هذه المرأة وما فيه صلاح رأيها، وأريد أن تلطف في استمالتها واستعطافها حتى تبطل ما دبره أعدائي علي وأشر علي بما أفعله في أمري. فقلت له: قد دبر عليك تدبير لا ينحل سريعاً، وجنيت على نفسك في هذه الدفعة ثلاث جنايات لا يمكن تلافي الخطأ فيها. فقال: وما هي؟ قلت: أولها أن صرفت أصحاب الدواوين والعمال والمنفقين وأصحاب البرد والخرائط وأكثر القضاة وبعض المعاون. وقلدت أصحابك وذوي عناياتك، فصاروا أعداءك وسعاةً عليك، وقال الناس، إنك قلدت للعناية لا للكفاية، وحتى قال الخليفة: ما كان في هؤلاء المتصرفين من يصلح للإقرار على عمله.
(1/111)
________________________________________
وثانيها: أنك أخذت توقيع الخليفة برد أملاكك وضياعك عليك، وقد تفرق أكثرها في أهل الدار والقواد والخواص فانتزعت ذلك من أيديهم ولم تعوضهم عنه. وقد أنفق أكثرهم النفقات العظيمة عليه، وانضاف هؤلاء إلى أولئك وصارت كلمتهم واحدةً في السعي عليك. وثالثتها: أن حلفت للخليفة وأنت في حبسه قبل أن تقلدت من وزارته ما تقلدته أنه لم يبق لك وديعة ولا ذخيرة إلا وقد صدقته عنها، ثم قعدت في ولايتك تطالب بالودائع ظاهراً، وتستخرجها شائعاً، فكيف يمكن إصلاح فساد هذه أسبابه؟ ولكنني أُشير عليك برأي إن قبلته أحمدته. قال: وما هو؟ قلت تقسط على نفسك وكتابك وعمالك مالاً يقارب النصف من أحوالهم وتحمله إلى الخليفة فترضيه به، وأعقد لك مع السيدة عقداً يقوم بأمرك معه، وأُحلفها عليه يميناً تسكن النفس إلى مثلها. وأنت وهم قادرون على الاعتياض فيما تعطونه على مهل. فقال: أما هذا الرأي فقد أشار به علي جماعة من أسبابي، منهم موسى بن خلف وابن فرجويه، وأبو الخطاب، وهشام قال أبو الحسين: وإنما حدث ابن عبد الحميد أبي بهذا الحديث لتعلقه بذكره فخطأت جميعهم فيه، وقد كنت عندي بعيداً من الخطأ، وقد شاركتهم فيه الآن. فقلت: وكيف؟ قال: ما بذل قط وزير ولا كاتب ولا عامل بذلاً على وجه المصادرة في ولايته إلا كان من أكبر دواعي الطمع. وأكثر أسباب الحجة عليه، لأن أعداءه يقولون قد بان الآن كثرة ماله وحاله بما بذله عفواً من نفسه ووراء ذلك أضعافه. ويكون هذا القول مسموعاً مقبولاً، ويتم ما يتم وإن يدافع يوماً ومدة وقد مضى المال
(1/112)
________________________________________
ضائعاً. ومع هذا فأي شيء أقبح بي مع علو همتي وكثرة نعمتي من أن أُنشئ أصحاباً وعمالاً يلون بولايتي وينكبون بنكبتي ويتصرفون بتصرفي ويتعطلون بعطلتي ثم أُزيل نعمهم وأحوالهم بيدي وفي أيامي؟ القتل والله أهون من ذلك. فعجبت من كبر نفسه وعظم كرمه، وانصرفت، فقبض عليه بعد أيام. وحدث أبو الحسين قال. دخلت مع هشام والدي إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق ابن البهلول القاضي عقيب عيد لأهنئه به، فتطاولا الحديث، وقال له والدي في عرضه: قد كنت أُكاتب الوزير يعني ابن الفرات في محبسه وأُعرفه ما عليه القاضي من موالاته ومشاركته والتألم من محنته، ومواصلة الدعاء بتفريجها عنه، وهو الآن على شكر للقاضي واعتداد به. فلما سمع ذلك صرف من كان في مجلسه وخلوا. وقال له القاضي: ليس يخفى علي ما أراه في عين الوزير ونظره من التغير والتنكر، وإن كان ما نقضي من منزلة ولا عمل، وبالله أحلف لقد لقيت حامد بن العباس متلقياً بالمدائن لما أصعد للوزارة، فقام إلي في حراقته قياماً تاماً، وأقبل علي وسألني عن خبري وقال: هذا أمر لك ولولدك، وستعرف ما أفعله في زيادتك من العمال والأرزاق، ثم لقيته يوم خلع عليه فتطاول لي، فلما فعلت في أمر الوزير بحضرة أمير المؤمنين ما فعلته عاداني ولم يعرني طرفه من بعد، وتخوفته حتى كفاني الله أمره بتفرد علي بن عيسى بالعمل، وتشاغله هو بالضمان وسقوط الحاجة إلى لقائه، ومالي إلى الوزير ذنب يوجب انقباضه عني، واستيحاشه مني إلا أنني
(1/113)
________________________________________
سلمت الوديعة التي كانت له عندي، والله لقد دافعت عنها بغاية ما أمكنتني المدافعة به، مع ما اتي بحيث لا يمكن مثلي الكذب فيما يسأل عنه، حتى جاء ابن حماد كاتب موسى بن خلف وأقر بها علي، وأقام الدليل بإحضار المرأة التي كانت حملتها إلي، فلم أستطع مع هذه الحال إنكارها، ولم أجد بداً من تسليمها. وقد فعل أبو عمر مثل ذلك فيما كان عنده، غير أنه أخذ مالاً من ماله ووضعه في أكياس وختمه بخاتم نفسه وكتب عليه علي بن محمد. فلما عاد الوزير قال له: إن الوديعة بعينها عندي، وإنما غرمت ما غرمته من مالي، تقرباً إليه وتنفقاً عنده ومالي من المال ما لأبي عمر، ولا عندي من الاستحلال مثل ما عنده، ولا جرت عادتي أن أقدح في أمانتي ومروءتي بمثل فعله. والآن فأُريد أن تستل سخيمة الوزير وتصلح قلبه، وتذكره بحقي القديم عليه، ومقامي له بين يدي الخليفة المقام الذي قمته، فإن مثله يرعى ويراعى. فقال له: ما الذي أفعل وأتلطف؛ وقد اختلفت الأقوال فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي أن يشرحه لي. فقال أبو جعفر كنت أنا وأبو عمر وحامد وعلي ابن عيسى بحضرة الخليفة، وفي المجلس جماعة من خواصه الذين يعادون الوزير أيده الله وينحروه عنه، إذ أحضر
حامد الرجل الجندي الذي زعم أنه وجده راجعاً من أردبيل إلى قزوين، ومتردداً بينهما وبين أصبهان والبصرة، وأنه أقر له عفواً أنه رسول ابن الفرات إلى ابن أبي الساج في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان، وأن الشروع واقع من الجماعة في أخذ البيعة له، ومسير ابن أبي الساج إلى بغداد به، حتى إذا قرب عاونه ابن الفرات ومهد له من أمر الحضرة ما يجب تمهيده. وقال حامد للرجل: اصدق عما عندك. فذكر مثل ما ذكره حامد عنه، ووصف أن موسى بن خلف اختاره لابن الفرات لأنه من الدعاة إلى الطالبيين، وأن موسى قد كان مضى في وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من ذلك. فلما استتم الرجل قوله اغتاظ الخليفة غيظاً شديداً بان في وجهه، واقبل على أبي عمر فقال: ما عندك فيمن فعل هذا واستجازه؟ فقال: لئن كان فعله لقد ركب عظيماً، وأقدم على أمر يضر بالمسلمين جميعاً، واستحق كذا بكلمة عظيمة لا أحفظها. قال أبو جعفر: وتبينت في وجه علي بن عيسى كراهيةً لما يجري وإنكاراً لهذه الدعوى وهزؤا بما قيل فيها، فقويت بذاك نفسي، وعطف الخليفة إلي فقال: ما عندك يا أحمد فيمن فعل ما سمعته؟ قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن الجواب. قال: ولم؟ قلت: لأنه ربما أغضب من أنا محتاج إلى رضاه، وخالف رأيه وهواه، واستضررت بذلك ضرراً أتأذى به. قال: لا بد من أن تقول. فقلت: الجواب ما قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ينَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ". ومثل هذا الأمر الكبير لا يقبل فيه خبر الواحد، والعقل يمنع من قبول مثله على ابن الفرات، لأن من المحال أن يرضى ببياعة ابن أبي الساج، ولعله ما كان يؤهله لحجابته في أيام وزارته. ثم أقبلت على الرجل فقلت له: صف لي أردبيل أعليها سور أم لا؟ فلا شك في معرفتك بذلك مع ما ذكرته من دخولك إياها. واذكر لي باب دار العمارة هل هو حديد أو ملبس أم خشب؟ فلجلج في كلامه. ما كنية ابن محمود كاتب ابن أبي الساج؟ فلم يعرف ذاك. وقلت: فأين الكتب التي معك؟ قال: لما أحسست بوقوعي في أيديهم رميت بها إشفاقاً من أن يجدوها معي فأُعاقب. فقلت: يا أمير المؤمنين هذا رجل جاهل مكتسب أو مدسوس من عدو غير محصل. فقال علي بن عيسى: قد قلت ذاك للوزير فما قبل مني، وليس يخوف هذا فضلاً عن أن ينزل به مكروه إلا وقد أقر بالصورة. فأقبل الخليفة على نذير الحرمي وقال له: بحقي عليك إلا ضربته مائة مقرعة أشد ضرب إلى أن يصدق وإنما عدل بهذا الأمر عن نصر الحاجب لما كان يعرفه من عداوته لابن الفرات قال: فأُخذ الرجل من حضرة الخليفة ليضرب على بعد. فقال: لا، لا، ها هنا. فضرب بحيث يشاهده دون خمس مقارع. فقال: غررت وضمنت لي ضمانات فكذبت، ووالله ما رأيت أردبيل قط. وطلب أبو معد نزار بن محمد الضبي صاحب الشرطة فكان قد انصرف. وقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن يضربه مائة سوط ويثقله بالحديد ويطرحه في المطبق. فوالله لقد رأيت حامداً وقد كاد يسقط انخزالاً وانكساراً ووجلاً وإشفاقاً. وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب وانصرف حامد، وأخذ علي بن عيسى ينظر في أمور كلم فيها، وأخر أمر الرجل حتى قال له ابن عبدوس حاجبه: قد أُنفذ بدبر المضروب المتكذب. قال أبو جعفر: فقلت: هذا رجل قد جهل، وغمني إذ كنت سبباً لما لحقه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه المستأنف أو بعضه كان لك فيه أجر. فقال: لعن الله هذا. وأي أجر في مثله؟ ولكنني أقتصر به على خمسين مقرعة وأعفيه من السياط. ثم وقع بذلك إلى نزار وانصرف. وقد صار حامد من أشد الناس حنقاً علي وعداوةً لي. امد الرجل الجندي الذي زعم أنه وجده راجعاً من أردبيل إلى قزوين، ومتردداً بينهما وبين أصبهان والبصرة، وأنه أقر له عفواً أنه رسول ابن الفرات إلى ابن أبي الساج في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان، وأن الشروع واقع من الجماعة في أخذ البيعة له، ومسير ابن أبي الساج إلى بغداد به، حتى إذا قرب عاونه ابن الفرات
(1/114)
________________________________________
ومهد له من أمر الحضرة ما يجب تمهيده. وقال حامد للرجل: اصدق عما عندك. فذكر مثل ما ذكره حامد عنه، ووصف أن موسى بن خلف اختاره لابن الفرات لأنه من الدعاة إلى الطالبيين، وأن موسى قد كان مضى في وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من ذلك. فلما استتم الرجل قوله اغتاظ الخليفة غيظاً شديداً بان في وجهه، واقبل على أبي عمر فقال: ما عندك فيمن فعل هذا واستجازه؟ فقال: لئن كان فعله لقد ركب عظيماً، وأقدم على أمر يضر بالمسلمين جميعاً، واستحق كذا بكلمة عظيمة لا أحفظها. قال أبو جعفر: وتبينت في وجه علي بن عيسى كراهيةً لما يجري وإنكاراً لهذه الدعوى وهزؤا بما قيل فيها، فقويت بذاك نفسي، وعطف الخليفة إلي فقال: ما عندك يا أحمد فيمن فعل ما سمعته؟ قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن الجواب. قال: ولم؟ قلت: لأنه ربما أغضب من أنا محتاج إلى رضاه، وخالف رأيه وهواه، واستضررت بذلك ضرراً أتأذى به. قال: لا بد من أن تقول. فقلت: الجواب ما قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ينَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ". ومثل هذا الأمر الكبير لا يقبل فيه خبر الواحد، والعقل يمنع من قبول مثله على ابن الفرات، لأن من المحال أن يرضى ببياعة ابن أبي الساج، ولعله ما كان يؤهله لحجابته في أيام وزارته. ثم أقبلت على الرجل فقلت له: صف لي أردبيل أعليها سور أم لا؟ فلا شك في معرفتك بذلك مع ما ذكرته من دخولك إياها. واذكر لي باب دار العمارة هل هو حديد أو ملبس أم خشب؟
(1/115)
________________________________________
فلجلج في كلامه. ما كنية ابن محمود كاتب ابن أبي الساج؟ فلم يعرف ذاك. وقلت: فأين الكتب التي معك؟ قال: لما أحسست بوقوعي في أيديهم رميت بها إشفاقاً من أن يجدوها معي فأُعاقب. فقلت: يا أمير المؤمنين هذا رجل جاهل مكتسب أو مدسوس من عدو غير محصل. فقال علي بن عيسى: قد قلت ذاك للوزير فما قبل مني، وليس يخوف هذا فضلاً عن أن ينزل به مكروه إلا وقد أقر بالصورة. فأقبل الخليفة على نذير الحرمي وقال له: بحقي عليك إلا ضربته مائة مقرعة أشد ضرب إلى أن يصدق وإنما عدل بهذا الأمر عن نصر الحاجب لما كان يعرفه من عداوته لابن الفرات قال: فأُخذ الرجل من حضرة الخليفة ليضرب على بعد. فقال: لا، لا، ها هنا. فضرب بحيث يشاهده دون خمس مقارع. فقال: غررت وضمنت لي ضمانات فكذبت، ووالله ما رأيت أردبيل قط. وطلب أبو معد نزار بن محمد الضبي صاحب الشرطة فكان قد انصرف. وقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن يضربه مائة سوط ويثقله بالحديد ويطرحه في المطبق. فوالله لقد رأيت حامداً وقد كاد يسقط انخزالاً وانكساراً ووجلاً وإشفاقاً. وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب وانصرف حامد، وأخذ علي بن عيسى ينظر في أمور كلم فيها، وأخر أمر الرجل حتى قال له ابن عبدوس حاجبه: قد أُنفذ بدبر المضروب المتكذب. قال أبو جعفر: فقلت: هذا رجل قد جهل، وغمني إذ كنت سبباً لما لحقه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه المستأنف أو بعضه كان لك فيه أجر. فقال: لعن الله هذا. وأي أجر في مثله؟ ولكنني أقتصر به على خمسين مقرعة وأعفيه من السياط. ثم وقع
(1/116)
________________________________________
بذلك إلى نزار وانصرف. وقد صار حامد من أشد الناس حنقاً علي وعداوةً لي.
وحدث أبو الحسين علي بن هشام قال: لما وزر أبو الحسن بن الفرات وزارته الأولى وجد سليمان بن الحسن يتقلد مجلس المقابلة في ديوان الخاصة من قبل علي بن عيسى، وهو صاحب الديوان إذ ذاك، فقلده الديوان بأسره، وأقام يتقلده سنتين. واتفق أن قام في بعض العشيات يصلي المغرب، فسقطت من كمه رقعة بخطه فيها سعاية بابن الفرات وأسبابه، وسعي لابن عبد الحميد كاتب السيدة في الوزارة، فوقعت في يد أحد الحواشي، فحملها إلى ابن الفرات، فلما وقف عليها قبض عليه من وقته، وأنفذه في زورق مطبق إلى واسط، فصودر هناك وضرب. ثم رفع صاحب البريد إلى ابن الفرات في جملة رفوعه أن أم سليمان ماتت ببغداد ولم يحضرها ولدها ولا شاهدته قبل موتها، فاغتم بذلك وهزته الرعاية لأن كتب إليه بخطه كتاباً أقرأناه سليمان من بعده فحفظته وهو: ميزت أكرمك الله بين حقك وجرمك، فوجدت الحق يوفي على الجرم، وذكرت من سالف خدمتك في المنازل التي فيها ربيت، وبين أهلها غذيت، ما ثناني إليك، وعطفني عليك، وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت، فثق أكرمك الله بذلك واسكن إليه، وعول في صلاح ما اختل من أمرك عليه. واعلم أنني أراعي فيك حقوق أبيك التي تقوم بتوكد السبب مقام اللحمة والنسب وتسهل ما عظم من جنايتك، وتقلل
(1/117)
________________________________________
ما كثر من إساءتك، ولن أدع مراعاتها والمحافظة عليها، إن شاء الله، وقد قلدتك أعمال دستميان لسنة ثمان وتسعين ومائتين وبقايا ما قبلها، وكتبت إلى أحمد ابن حبش بحمل عشرة آلاف درهم إليك، فتقلد هذه الأعمال وأظهر فيها أثراً حميداً يبين عن كفايتك، ويؤدي إلى ما احبه من زيادتك إن شاء الله.
وحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسين علي ابن هشام قال: كنت حاضراً مع أبي مجلس أبي الحسن بن الفرات في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثمائة في وزارته الثانية فسمعته يتحدث ويقول: دخل إلي أبو الهيثم العباس بن محمد بن ثوابة الأنباري في محبسي في دار المقتدر بالله وطالبني بأن أكتب له خطي بثلاثة عشر ألف ألف دينار. فقلت: هذا مال ما جرى على يدي للسلطان في طول أيام ولايتي فكيف أصادر على مثله؛ قال: قد حلفت بالطلاق على أنه لا بد أن تكتب بذلك. فكتبت له بثلاثة عشر ألف ألف، ولم أذكر درهماً ولا ديناراً. فقال اكتب ديناراً لأبرأ من يميني فكتبت وضربت عليه وخرقت الرقعة ومضغتها وقلت: قد برت يمينك ولا سبيل بعد ذلك إلى كتب شيء. فاجتهد ولم أفعل، ثم عاد إلي من غد ومعه أم موسى القهرمانة، وجدد مطالبتي وأسرف في شتمي، ورماني بالزنا، فحلفت بالطلاق والعتاق وتمام الأيمان الغموس أنني ما دخلت في محظور من هذا الجنس منذ نيف وثلاثين سنةً، وسمته أن يحلف
(1/118)
________________________________________
بمثل يميني على أن غلامه القائم على رأسه لم يأته في ليلته تلك. فأنكرت أم موسى هذا القول، وغطت وجهها حياء منه. فقال لها ابن ثوابة: هذا رجل بطر بالأموال التي معه، ومثله مثل المزين مع كسرى، والحجام مع الحجاج بن يوسف. فتستأمرين السادة في إنزال المكروه به حتى يذعن بما يراد منه وكان قوله: السادة، إشارةً إلى المقتدر بالله والسيدة والدته وخاطف ودستنويه أُم ولد المعتضد بالله، وهم إذ ذاك مستولون على التدبير لصغر المقتدر بالله فقامت أم موسى وعادت وقالت لابن ثوابة: يقول لك السادة: قد صدقت فيما قلت ويدك مطلقة فيه. قال ابن الفرات: وكنت في دار لطيفة، والحر شديد فتقدم بتنحية البواري عن سمائها حتى نزلت الشمس إلى صحنها، وإغلاق أبواب بيوتها، فحصلت في الشمس من غير أن أجد مستظلاً منها، ثم قيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف قد نقعت في ماء الأكارع، وغلني بغل، وأقفل باب الحجرة وانصرف، فأشرفت على التلف. وعددت على نفسي ما عاملت الناس به، فوجدتني قد عملت كل شيء منه، من مصادرة ونهب وقبض ضياع وحبس وتقييد وتضييق وإلباس جباب الصوف، وتسليم قوم إلى أعدائهم وتمكينهم من مكروههم، ولم أذكر أنني غللت أحداً، فقلت: يا نفس هذه زيادة. ثم فكرت أن النرسي كاتب الطائي ضمنني من عبيد الله بن سليمان، فلم يسلمني إليه وسلمه إلي فسلمته إلى الحسن المعلوف المستخرج، وكان عسوفاً، وأمرته بتقييده وتعذيبه ومطالبته بمال حددته له، وألط
(1/119)
________________________________________
ولم يود، فتقدمت بغله ثم ندمت بعد أن غل مقدار ساعتين. وأمرت بإنزال الغل عنه. وتجاوزت الساعتين وأنا مغلول، فذكرت أمراً آخر، وهو أنه لما قرب سبكرى مأسوراً مع رسول صاحب خراسان كتبت إلى بعض عمال المشرق بمطالبته بأمواله وذخائره. فكتب بإلطاطه وامتناعه، فكتبت بأن يعل، فوصل الكتاب الأول وغل، وتلاه الثاني بعد ساعتين فحل. فلما تجاوزت عني أربع ساعات سمعت صوت غلمان مجتازين في الممر الذي فيه حجرتي، فقال الخدم الموكلون: هذا بدر الحرمي وهو صنيعتك. فاستغثت به وصحت: يا أبا الخير، لي عليك حقوق، وأنا في حال أتمنى معها الموت، فتخاطب السادة وتذكرهم حرمتي وخدمتي في تثبيت دولتهم لما قعد الناس عن نصرتهم، وافتتاحي البلدان المأخوذة، واستيفائي الأموال المنكسرة، وإن لم يكن إلا مؤاخذتي بذنب ينقم علي فالسيف فإنه أروح. فرجع ودخل إليهم وخاطبهم ورققهم، وأمروا بحل الحديد كله عني، وتغيير لباسي وأخذ شعري، وإدخالي الحمام وتسليمي إلى زيدان، وراسلوني: بأنك لا ترى بعد ذلك بؤساً. وأقمت عند زيدان مكرماً إلى أن رددت إلى هذا المجلس. قال أبو الحسين: ثم ضرب الدهر ضربه فدخلت إليه مع أبي في الوزارة الثالثة وقد غلب المحسن على رأيه وأمره. فقال له أبي: قد أسرف أبو أحمد في مكاره الناس حتى أنه يضرب من لو قال له: اكتب خطك بما يريده منه لكتب بغير ضرب. ثم يواقف المصادر على الأداء في وقت بعينه، فإن تأخر إيراد
(1/120)
________________________________________
الروز به، أعاد ضربه. ومع هذا الفعل شناعة مع خلوه من فائدة. فقال له أبو الحسن: يا أبا القاسم، لو لم يفعل أبو أحمد ما يفعله بأعدائنا ومن أساء معاملتنا لما كان من أولاد الأحرار ولكان نسل هوان. أنت تعلم أنني قد أحسنت إلى الناس دفعتين فما شكروني، وسعوا على دمي. ووالله لأسلكن بهم ضد تلك
الطريقة. فلما خرجنا من حضرته قال لي أبي: سمعت أعجب من هذا القول؟ إذ كنا لم نسلم مع الإحسان نسلم مع الإساءة؟ فما مضى إلا أيام يسيرة حتى قبض عليه وجرى ما جرى في أمره. قال القاضي أبو علي التنوخي قلت لأبي الحسين بن هشام: قد عرفنا خبر المزين مع كسرى وهو أنه جلس ليصلح وجهه فقال له: أيها الملك، زوجني بنتك، فأمر بأن يقام، فأقيم. وقيل له: ما قلت؟ فقال: لم أقل شيئاً. ففعل به ذلك ثلاث دفعات. فقال الملك: لهذا المزين خطب، وأحضر أهل الرأي فأخبرهم بحاله. فقال جميعهم: ما أنطق هذا المزين إلا باعث بعثه من مال وراء ظهره. فأنفذ إلى منزله فلم يوجد له شيء. فقال الملك: احفروا مكان مقعده عند خدمته لي، فحفر فوجد تحته كنز عظيم. فقال الملك: هذا الكنز كان يخاطبني. ثم قلت لأبي الحسين: فهل تعرف خبر الحجام مع الحجاج؟ قال: نعم. بلغنا أن الحجاج احتجم ذات يوم، فلما ركب المحاجم على رقبته قال له: أُحب أيها الأمير أن تخبرني بخبرك مع ابن الأشعث، وكيف عصا عليك. فقال له: لهذا الحديث وقت آخر، وإذا فرغت من شأنك حدثتك. فأعاد مسألته وكررها، والحجاج يدفعه ويعده ويحلف له على الوفاء له. فلما فرغ ونزع المحاجم عنه، وغسل الدم، أحضر الحجام وقال له: إنا وعدناك بأن نحدثك حديث ابن الأشعث معنا، وحلفنا لك، ونحن محدثوك: يا غلام، السياط. فأُتي بها، فأمر الحجاج فجرد وعلته السياط، واقبل الحجاج يقص عليه قصة ابن الأشعث بأطول حديث. فلما فرغ استوفى الحجام خمسمائة سوط، فكاد يتلف. ثم رفع الضرب وقال له: قد وفينا لك بالوعد، وأي وقت أحببت أن تسأل خبرنا مع غير ابن الأشعث على هذا الشرط أجبناك. الطريقة. فلما خرجنا من حضرته قال لي أبي: سمعت أعجب من هذا القول؟ إذ كنا لم نسلم مع الإحسان نسلم مع الإساءة؟ فما مضى إلا أيام يسيرة حتى قبض عليه وجرى ما جرى في أمره. قال القاضي أبو علي التنوخي قلت لأبي الحسين بن هشام: قد عرفنا خبر المزين مع كسرى وهو أنه جلس ليصلح وجهه فقال له: أيها الملك، زوجني بنتك، فأمر بأن يقام، فأقيم. وقيل له: ما قلت؟ فقال: لم أقل شيئاً. ففعل به ذلك ثلاث دفعات. فقال الملك: لهذا المزين خطب، وأحضر أهل الرأي فأخبرهم بحاله. فقال جميعهم: ما أنطق هذا المزين إلا باعث بعثه من مال وراء ظهره. فأنفذ إلى منزله فلم يوجد له شيء. فقال الملك: احفروا مكان مقعده عند خدمته لي، فحفر فوجد تحته كنز عظيم. فقال الملك: هذا الكنز كان يخاطبني. ثم قلت لأبي الحسين: فهل تعرف خبر الحجام مع الحجاج؟ قال: نعم. بلغنا أن الحجاج احتجم ذات يوم، فلما ركب المحاجم على رقبته قال له: أُحب أيها الأمير أن تخبرني بخبرك مع ابن الأشعث، وكيف عصا عليك. فقال له: لهذا الحديث وقت آخر، وإذا فرغت من شأنك حدثتك. فأعاد مسألته وكررها، والحجاج يدفعه ويعده ويحلف له على الوفاء له. فلما فرغ ونزع المحاجم عنه، وغسل الدم، أحضر الحجام وقال له: إنا وعدناك بأن نحدثك حديث
(1/121)
________________________________________
ابن الأشعث معنا، وحلفنا لك، ونحن محدثوك: يا غلام، السياط. فأُتي بها، فأمر الحجاج فجرد وعلته السياط، واقبل الحجاج يقص عليه قصة ابن الأشعث بأطول حديث. فلما فرغ استوفى الحجام خمسمائة سوط، فكاد يتلف. ثم رفع الضرب وقال له: قد وفينا لك بالوعد، وأي وقت أحببت أن تسأل خبرنا مع غير ابن الأشعث على هذا الشرط أجبناك.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسين بن هشام قال: حدثني أبو علي بن مقلة قبل وزارته قال: عزم أبو الحسن بن الفرات في وزارته الأولى يوماً على الصبوح من غد، وكان يوم الأحد من رسمه أن يجلس للمظالم فيه. ثم قال له: كيف نتشاغل نحن بالسرور، ونصرف عن بابنا قوماً كثيرين قد قصدوا من نواح بعيدة وأقطار شاسعة مستصرخين متظلمين؟ فهذا من أمير، وهذا من عامل، وهذا من قاض، وهذا من متعزز، ويمضون مغمومين داعين علينا. والله ما أطيب نفساً بذلك، ولكن أرى أن تجلس أنت يا أبا علي ساعةً ومعك أحمد بن عبيد الله بن رشيد صاحب ديوان المظالم وتستدعيا القصص وتوقعاً منها فيما يجوز توقيعكما فيه، وتفردا ما لا بد من وقوفي عليه، وتحضرانيه لأُوقع فيه، وينصرف أرباب الظلامات مسرورين، وأتهنأ يومي بذلك. فقلت: السمع والطاعة. وبكرت من غد فقال لي: اخرج واجلس على ما واقفتك عليه. فخرجت ومعي ابن رشيد، وجلسنا ووقعنا في جمهور ما رفع إلا عشر رقاع كانت مما يحتاج إلى وقوفه عليها توقيعه بخطه فيها، وكان منها رقعة كبيرة ضخمة ترجمتها: المتظلمون من أهل روذمستان وهرمزجرد وهما ناحيتان من السيب الأسفل وجنبلاء، وكانتا إذ ذاك
(1/122)
________________________________________
في إقطاع السيدة. وقدرت أنها في ظلامة من وكيلها في تغيير رسم ونقص طسق. فجعلتها فيما أوردته، وعدت إلى أبي الحسن فعرفته ما جرى. فأخذ الرقاع ولم يزل يوقع فيها إلى أن انتهى إلى هذه الرقعة، فقرأها ووجهه يربد ويصفر، وينتقل من لون إلى لون، فضاق صدري وندمت على ترك قراءتها وقلت: لعل فيها أمراً يتهمني فيه، وأخذت ألوم نفسي على تفريطي فيما فرطت فيه. وفرغ منها، فكتمني ما وقف عليه فيها وقال: هاتوا أهل روذمستان وهرمزجرد. فصاح الحجاب دفعات، فلم يجب أحد، وقام وهو مهموم منكسر، ولم يذاكرنا بأمر أكل ولا شرب ودخل بعض الحجر، وتأخر أكله، وزاد شغل قلبي، وقلت لخليفة لساكن صاحب الدواة، وكان أُميا: أريد رقعةً لابن بسام الشاعر، عليها خرج لأقف عليه، ولم أزل أخدعه حتى مكنني من تفتيش ما هو مع الدواة، ولو كان ساكن حاضراً لما تم لي ذلك. وأخذت الرقعة فإذا هي رقعة بعض أعداء ابن الفرات، وقد قطعه فيها بالثلب والطعن وتعديد المساوئ والقبائح، وهدده بالسعاية، وقال فيما قاله: قد قسمت الملك بين نفسك وأولادك وأهلك وأقاربك وكتابك وحواشيك، واطرحت جميع الناس، وأقللت الفكر في عواقب هذه الأفعال، وما ترضى لمن تنقم عليه ما تنقمه بالإبعاد وتشتيت الشمل حتى تودعهم الحبوس وتفعل وتصنع. وختمها بأبيات هي:
لو كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائماً أبداً
لكن رأيت الليالي غير تاركةٍ ... ما ساء من حادثٍ أو سر مطّردا
وقد سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
(1/123)
________________________________________
قال وبطل صبوح أبي الحسن، ودعانا وقت الظهر فأكلنا معه على الرسم، ولم أزل أبسطه وأقول أقوالاً تسكنه، إلى أن شرب بعد انتباهه من نومه غبوقاً، ومضى على هذا اليوم أربعة أشهر وقبض عليه، واستترت عند الحسين بن عبد الأعلى. فلما خلع على أبي علي محمد بن عبيد الله بن خاقان جلسنا نتحدث ونتذاكر أمر ابن الفرات. فقال لي ابن عبد الأعلى: كنت جالساً في سوق السلاح أنتظر جواز الخاقاني بالخلع لأقوم إليه وأهنئه، فاتفق معي رجل شاب حسن الهيئة، جميل البزة، وحدثني أنه صاحب لأبي الحسين محمد بن أحمد بن أبي البغل، وأنه أنفذه من أصبهان قاصداً حتى دس إلى ابن الفرات رقعةً على لسان بعض المتظلمين، فيها كل طعن وثلب ودعاء وسب وتوعد وتهدد وفي آخرها شعر. فقلت له: على رسلك هذه الرقعة على يدي جرت ووصلت إلى ابن الفرات، وخرج الحديث متقابلاً.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسين بن هشام قال: سمعت أبي يقول لأبي علي بن مقلة في أول وزارته الأولى وقد جلس مجلساً نقض فيه الأعمال وبان منه فضل كفاية واستقلال: العمل في يد الوزير أيده الله ذليل. فقال: على هذه الحال نشأنا يا أبا القاسم، وأخذناها عمن كانت الدنيا والمملكة يطرحان الأثقال عليه فنهض بها يعني أبا الحسن بن الفرات ثم قال أبو علي: لقد رأيته جالساً في الديوان للمظالم، والوزير إذ ذاك القاسم بن عبيد الله، فتظلم إليه رجل من رسم ثقله عليه الطائي وغير به رسماً له قديماً خفيفاً، ويسأل رده إلى ما كان عليه أولاً. وهو يقول: قد سمتني أن أُبطل رسماً قرره أبو جعفر الطائي رحمه الله في محله من العدل والثقة والبصيرة بأسباب العمارة، وقد درت عليه الأموال، وصلحت
(1/124)
________________________________________
الأحوال، وأحمده لجمهور، واستقامت عليه الأمور. وهذا سوم إعنات. ويكتب بحمله على ما رسمه أبو جعفر. ثم رأيت مرة ثانية متظلماً آخر من رسم ثقيل حففه الطائي لعلمه بأن الضيعة لا تحتمل غيره، وقد اعترض عليه فيه ويسأل إجراءه على رسم الطائي فيقول له: يا بارك الله عليك، ليس الطائي أبا بكر الصديق أو عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب الذين نقتفي آثارهم ونمضي أفعالهم. وإنما الطائي ضامن عمل، رأى ما رآه حظاً لنفسه، وما يلزم السلطان تقريره، وأنت معنت في تظلمك. ويكتب بأن يجرى على الرسم القديم الثقيل. ويخاطب كلاً من الرجلين بلسان غير اللسان الآخر شحاً على الأموال وحفظاً لها. وحكى القاضي أبو علي التنوخي قال: اجتمعت مع أبي علي بن أبي عبد الله ابن الجصاص، فرأيت شيخاً حسن المحاضرة، وحدثني قال: حدثني أبي قال: لما ولي أبو الحسن بن الفرات إحدى وزاراته قصدني قصداً قبيحاً، وأطلق لسانه في ثالباً متنقصاً، ورسم للعمال حط ضياعي ونقص معاملاتي، وأدام الغص مني والكسر بجاهي، ووسطت بيني وبينه جماعةً من الناس، وبذلت له بذلاً في مثله ما صلحت القلوب، فأقام على أمره، وأقمت على احتماله، إلى أن زاد الأمر، وسمعت حاجبه يقول وقد وليت عنه: أي بيت مال يمشي على وجه الأرض؟ أي ألفي ألف دينار مالها من يأخذها؟ فعلمت أن القول قول صاحبه، وأنني منكوب على يده. وكان عندي في الوقت ما قدرته وقيمته سبعة آلاف دينار مالاً وجوهراً سوى باقي المملوكات، فضاقت علي الدنيا، وأشفقت إشفاقاً شديداً، وسهرت أكثر
(1/125)
________________________________________
ليلي مفكراً في تدبير أمري. ثم عن لي الرأي آخر الليل إلى أن ركبت إلى ابن الفرات، فوجدت بابه مغلقاً لم يفتح بعد فدققته. فقال البوابون: من الطارق؟ فقلت: ابن الجصاص. فقالوا: الوزير نائم وما هذا وقت وصول. فقلت: عرفوا الحجاب أنني حضرت في مهم، فعرفوهم. فخرج إلي أحدهم وقال: الساعة تنبه، تجلس ساعةً وتدخل. قلت: الأمر أهم من ذلك. فدخل وعرفه ما قلته له. وخرج بعد ساعة وأدخلني من دار إلى أخرى حتى وصلت إلى مرقده، وهو على سريره، وحواليه خمسون فراشاً كأنهم حفظة، ووجدته مرتاعاً من قولي، وقد ظن حدوث حادثة، وأنني جئته برسالة الخليفة. فلما رآني وقال لي: ما جاء بك في هذا الوقت؟ قلت: خير، وما حدثت حادثة، ولا معي رسالة، وإنما حضرت في أمر يخص الوزير ويخصني، ولم يجز إيراده إلا على خلوة تامة. فسكن ثم قال لمن كان حواليه: انصرفوا. فمضوا وقال: هات. قلت: قصدتني أيها الوزير أعظم قصد، وشرعت في هلاكي وزوال نعمتي من كل وجه، وليس من المهجة والنعمة عوض. ولعمري إنني قد أسأت في خدمتك، وحرمت التوفيق في معاملتك، إلا أن في بعض هذه المقابلة بلاغاً وكفاية، وما تركت باباً في صلاح قلبك إلا طرقته، ولا أمراً في استعطاف رأيك إلا قصدته، ووسطت بيني وبينك فلاناً وفلاناً، وبذل لك كذا وكذا، وأنت مقيم على أمرك في أذيتي، وما حيوان أضعف من السنور، وإذا عاثت في دكان بقال ثم ملكها ولزمها ولزها إلى زواية ليخنقها وثبت عليه، وخدشت وجهه، وخرقت ثيابه، وطلبت الخلاص بكل ما تقدر عليه، وقد وجدت نفسي معك في هذه المنزلة، ورأيتها كالسنور التي هي على هذه الصورة. فإن صلحت لي، وفعلت ما تقتضيه الفتوة
(1/126)
________________________________________
والمروءة معي، وإلا فعلي وعلي وحلفت له أيماناً مغلظة لأقصدن الخليفة الساعة، ولأُحولن إليه ألفي ألف دينار عيناً من خزانتي، فلا يصبح إلا وهي في يديه، وأنت تعلم قدرتي عليها، ولأقولن له: خذ المال، واستوزر فلاناً، وسلم
ابن الفرات إليه. نعم، ولا أذكر له إلا من يقبله قلبه، ويكون فيه نفاذ وحركة ولسان ومحرقة، ما يتعدى هذه الصفة أحد كتابك فيسلمك والله في الحال حرصاً على المال، ويراني المتقلد بمنزلة من أعطى ماله في قضاء حقه وبلوغ غرضه، فيخدمني ويتدبر بتدبيري، ويتسلمك فينتهي في مكروهك إلى حد يستخرج به المال منك، ويرده علي، وحالك تحتمله، ولكنك تفتقر بعده، فأكون قد حرست نفسي، وشفيت غيظي، وأهلكت عدوي واسترجعت مالي، وازددت محلا بصرف وزير وتقليد وزير. فلما استوفى قولي سقط في يديه وقال: يا عدو الله، أو تستحل ذلك مني؟ قلت: لست عدو الله، ولكني أستحل السعي على من يريد هلاكي وإزالة نعمتي فقال: أو أي شيء؟ قلت: تحلف لي الساعة بما أستحلفك به، على أن تكون معي لا علي، وأن تجريني على رسومي، وتحرس ضياعي، وترفع مني، وتعتقد الجميل في ولا تسعى لي في سوء، ولا تمكن مني أبداً ظاهراً أو باطناً، وتفعل كل ما تؤمنني به. فقال: وتحلف لي أيضاً على إخلاص النية، واعتقاد الطاعة، واعتماد المؤازرة والمظاهرة. فقلت: أفعل، وعملنا نسخة يمين حلف وحلفت بها على الشرائط المقدم ذكرها. وقال لي بعد ذلك: لعنك الله فما أنت إلا إبليس، والله لقدر سحرتني وعظمت مع ذلك في نفسي، وخففت ثقلاً عن قلبي، ولعمري إن المقتدر بالله لا يفرق بين موقعي وغنائي وكفايتي، وبين أخس كتابي مع الطمع الحاضر والمال المبذول، فليكن ما جرى منطوياً. فقلت: سبحان الله. فقال: إذا كان من غد فادخل إلى مجلس العموم لترى ما أُعاملك به. فقمت وقال: يا غلمان، بين يدي أبي عبد الله. فخرج بين يدي نحو مائتي غلام وعدت إلى داري. ولما طلع الفجر جئته عند الإصباح، وقد جلس في المجلس العام، فرفعني على كل من بحضرته، وقرظني تقريظاً كثيراً، ووصفني وصفاً جميلاً، حتى علم الحاضرون صلاح رأيه، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي بصيانة ضياعي، وإعزاز وكلائي، وإمضاء رسومي، ووقع إلى كتاب الدواوين بإبطال ما ثبت فيها من الزيادة علي، وقص معاملاتي، فدعوت له وشكرته، وقمت، فقال: يا غلمان، بين يديه. فخرج الحجاب يجرون سيوفهم، والناس يشاهدونهم، ورجع جاهي واستقامت أموري. فما حدثت بذلك إلا بعد القبض عليه. قال القاضي أبو علي: فقال لي أبو علي بن الجصاص عند استتمامه لهذا الحديث: فهل فعل أبي ما فعله مما يليق بما يقال فيه ويحكى عنه؟ قلت: لا. قال: فكانت له في تلك المقالات والحماقات المروية إن كانت حقاً أغراض غير معروفة. بن الفرات إليه. نعم، ولا أذكر له إلا من يقبله قلبه، ويكون فيه نفاذ وحركة ولسان ومحرقة، ما يتعدى هذه الصفة أحد كتابك فيسلمك والله في الحال حرصاً على المال، ويراني المتقلد بمنزلة من أعطى ماله في قضاء حقه وبلوغ غرضه، فيخدمني ويتدبر بتدبيري، ويتسلمك فينتهي في مكروهك إلى حد يستخرج به المال منك، ويرده علي، وحالك تحتمله، ولكنك تفتقر بعده، فأكون قد حرست نفسي، وشفيت غيظي، وأهلكت عدوي واسترجعت مالي، وازددت محلا بصرف وزير وتقليد وزير. فلما استوفى قولي سقط في يديه وقال: يا عدو الله، أو تستحل ذلك مني؟ قلت: لست عدو الله، ولكني أستحل السعي على من يريد هلاكي وإزالة نعمتي فقال: أو أي شيء؟ قلت: تحلف لي الساعة بما أستحلفك به، على أن تكون معي لا علي، وأن تجريني على رسومي، وتحرس ضياعي، وترفع مني، وتعتقد الجميل في ولا تسعى لي في سوء، ولا تمكن مني أبداً ظاهراً أو باطناً، وتفعل كل ما تؤمنني به. فقال: وتحلف لي أيضاً على إخلاص النية، واعتقاد الطاعة، واعتماد المؤازرة والمظاهرة. فقلت: أفعل، وعملنا نسخة يمين
(1/127)
________________________________________
حلف وحلفت بها على الشرائط المقدم ذكرها. وقال لي بعد ذلك: لعنك الله فما أنت إلا إبليس، والله لقدر سحرتني وعظمت مع ذلك في نفسي، وخففت ثقلاً عن قلبي، ولعمري إن المقتدر بالله لا يفرق بين موقعي وغنائي وكفايتي، وبين أخس كتابي مع الطمع الحاضر والمال المبذول، فليكن ما جرى منطوياً. فقلت: سبحان الله. فقال: إذا كان من غد فادخل إلى مجلس العموم لترى ما أُعاملك به. فقمت وقال: يا غلمان، بين يدي أبي عبد الله. فخرج بين يدي نحو مائتي غلام وعدت إلى داري. ولما طلع الفجر جئته عند الإصباح، وقد جلس في المجلس العام، فرفعني على كل من بحضرته، وقرظني تقريظاً كثيراً، ووصفني وصفاً جميلاً، حتى علم الحاضرون صلاح رأيه، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي بصيانة ضياعي، وإعزاز وكلائي، وإمضاء رسومي، ووقع إلى كتاب الدواوين بإبطال ما ثبت فيها من الزيادة علي، وقص معاملاتي، فدعوت له وشكرته، وقمت، فقال: يا غلمان، بين يديه. فخرج الحجاب يجرون سيوفهم، والناس يشاهدونهم، ورجع جاهي واستقامت أموري. فما حدثت بذلك إلا بعد القبض عليه. قال القاضي أبو علي: فقال لي أبو علي بن الجصاص عند استتمامه لهذا الحديث: فهل فعل أبي ما فعله مما يليق بما يقال فيه ويحكى عنه؟ قلت: لا. قال: فكانت له في تلك المقالات والحماقات المروية إن كانت حقاً أغراض غير معروفة.
(1/128)
________________________________________
وحدث أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي: أن رجلاً اتصلت عطلته، وانقطعت مادته، فحمل نفسه على أن زور كتاباً من أبي الحسن بن الفرات إلى أبي زنبور المادرائي عامل مصر في معناه متضمناً للوصاة به، والتأكيد في الإقبال عليه، والإحسان إليه، وخرج إليه فلقيه، وارتاب أبو زنبور بأمره لتغير الخطاب فيه عما يعهده، وزيادة تأكيد على ما جرت به العادة في مثله، وأن الدعاء للرجل في الكتاب أكثر مما يقتضيه محله. فراعاه مراعاةً قريبة، ووصله بصلة قليلة، وارتبطه عنده على وعد وعده به، وكتب إلى ابن الفرات يذكر الكتاب الوارد عليه، وأنفذه بعينه إليه، واستثبته. وقرأ ابن الفرات الكتاب المزور فوجد فيه ذكر الرجل بأنه من أهل الحرمات به، والموات لديه، وما يقال في ذلك، ويتبعه مما يعود بمعرفة حقه واعتماد نفعه. وعرضه على كتابه وأصحابه، وعرفهم الصورة فيه، وتعجب منها وقال لهم: ما الرأي في أمر هذا الرجل؟ فقال بعضهم: يؤدب بالضرب والحبس. وقال آخرون: تقطع إبهامه لئلا يعاود مثل هذا التزوير. وقال أحسنهم محضراً: تكشف لأبي زنبور قصته ويتقدم إليه بطرده وحرمانه مع بعد شقته. فقال لهم ابن الفرات: ما أبعدكم من الخيرية: وأنفر طباعكم عن الحرية. رجل توسل بنا، وتحمل المشقة إلى مصر في تأميل الصلاح بجاهنا، واستمداد صنع الله ورزقه بالانتساب إلينا تكون، أحسن أحواله عند أجملكم محضراً تكذيب ظنه وتخييب سعيه! والله لا كان هذا أبداً. ثم أخذ القلم ووقع بخطه على ظهر الكتاب المزور: هذا كتابي، ولست أعرف لم أنكرت أمره واعترضتك شبهة فيه؟ وليس كل من خدمنا وأوجب حقاً علينا عرفته. وهذا رجل تحرم بخدمتي، أيام استتاري
(1/129)
________________________________________
ونكبتي، وما أعتقده فيه أكثر مما تضمنه الكتاب من وصف ما عندي له. فأحسن تفقده، ووفره رفده، وصرفه فيما يعود عليه نفعه، وتصل إليه فوائده. ورده إلى أبي زنبور من يومه. فلما مضت مدة طويلة دخل على أبي الحسن بن الفرات رجل ذو هيئة وبزة جميلة، وأقبل يدعو له ويثني عليه ويبكي ويقبل الأرض بين يديه، فقال ابن الفرات: من أنت بارك الله عليك؟ وكانت هذه كلمته. قال: صاحب الكتاب المزور إلى أبي زنبور الذي صححه كرم الوزير وتفضله، صنع الله به وصنع. فضحك ابن الفرات وقال له: كم وصل إليك منه؟ قال: أوصل إلي من ماله وتقسيط قسطه وعمل صرفني فيه عشرين ألف دينار. فقال ابن الفرات: الحمد لله، الزمنا فإنا نعرضك لما يزداد به صلاح حالك. ثم اختبره وامتحنه فوجده كاتباً سديداً. فاستخدمه وأكسبه مالاً جزيلاً.
وحدث أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي الكاتب قال: حدثني غير واحد من كتاب الحضرة أن أبا أحمد العباس بن الحسن لما مات المكتفي بالله جمع كتابه وخواصه وخلا بهم وشاورهم فيمن يقلده الخلافة. فأجمعوا وأشاروا على العباس بعبد الله بن المعتز إلا أبا الحسن بن الفرات فإنه أمسك. فقال له العباس: لم أمسكت ولم تورد ما عندك؟ فقال: هو أيها الوزير موضع إمساك. قال: ولم؟ قال: إنه وجب أن ينفرد الوزير أعزه الله بكل واحد منا فيعرف رأيه وما عنده. ثم يجمع الآراء ويختار منها بصائب فكره وثاقب نظره ما شاء. فأما أن يقول كل واحد رأيه بحضرة الباقين فربما كان عنده ما يسلك سبيل التقية في كتمانه وطيه. قال: صدقت والله، قم معي، فأخذ يده ودخلا وتركا الباقين بمكانهم. فقال له
(1/130)
________________________________________
ابن الفرات: قررت رأيك على ابن المعتز؟ قال: هو أكبر من يوجد. قال: وأي شيء تعمل برجل فاضل متأدب قد تحنك وتدرب وعرف الأعمال ومعاملات السواد وموقع الرعية في الأموال، وخبر المكاييل والأوزان وأسعار المأكولات والمستعملات، ومجاري الأمور والمتصرفات، وحاسب وكلاءه على ما تولوه، وضايقهم وناقشهم، وعرف من خياناتهم واقتطاعاتهم أسباب الخيانة والاقتطاع التي يدخل فيها غيرهم، فكيف يتم لنا معه أمر إن حمل كبيراً على صغير، وقاس جليلاً على دقيق؟! هذا لو كان ما بيننا وبينه عامراً وكان صدره علينا من الغيظ خالياً، فكيف وأنت تعرف رأيه؟ قال العباس: وأي شيء في نفسه علينا؟ قال: أنسيت أنه منذ ثلاثين سنة يكاتبك في حوائجه فلا تقضيها، ويسألك في معاملاته فلا تمضيها، وعمالك يصفعون وكلاءه فلا تنكر، ويتوسل في الوصول إليك ليلاً فلا تأذن، وكم رقعة جاءتك بنظم ونثر فلم تعبأ بها ولا أجبته إلى مراده فيها. وكم قد جاءني منه ما هذه سبيله فلم أُراع فيه وصولاً إلى ما يريد إيصاله إليه. وهل كان له شغل عند مقامه في منزله وخلوته بنفسه إلا معرفة أحوالنا والمسألة عن ضياعنا وارتفاعنا وحسدنا على نعمتنا؟ هذا وهو يعتقد أن الأمر كان له ولأبيه وجده، وأنه مظلوم منذ قتل أبوه، مهضوم مقصود مضغوط، فكيف يجوز أن نسلم إليه نفوسنا فنتحرس، فضلاً عن أموالنا؟ فقال العباس: صدقت والله يا أبا الحسن، فمن يقلد وليس ها هنا أحد؟! قال: تقلد جعفر بن المعتضد، فإنه صبي لا يدري أين هو، وعامة سروره أن يصرف من المكتب، فكيف أن يجعل خليفة ويملك الأعمال والأموال وتدبير النواحي
(1/131)
________________________________________
والرجال؟ ويكون الخليفة بالاسم وأنت هو على الحقيقة، وإلى أن يكبر قد انغرست محبتك في صدره، وحصلت محصل المعتضد في نفسه. قال: فكيف يجوز أن يبايع الناس صبياً أو يقيموه إماماً؟ فقال له: أما الجواز، فمتى اعتقدت أنت أو نحن إمامة البالغين من هؤلاء القوم؟! وأما إجابة الناس، فمتى فعل السلطان شيئاً فعورض فيه، أو أراد أمراً فوقف؟ وأكثر من ترى صنائع المعتضد، وإذا أظهرت أنك اعتمدت في ذلك مراعاة حقه، واقرار الأمر في ولده، وفرقت المال، وأطلقت البيعة، وقع الرضا، وسقط الخلاف. وطريق ما تريده أن تواقف بعض أكابر القواد وعقلاء الخدم على المضي إلى دار ابن طاهر وحمله إلى دار الخلافة، وأن تستر الأمر إلى أن يتم التدبير، وإن اعتاص معتاص مد بالعطاء والإحسان. فقال العباس: هذا هو الرأي. واستدعى في الحال مؤنساً مولى المعتضد، وأورد عليه ما ذهب فيه إلى الجنس الذي أشار به أبو الحسن في الوفاء للمعتضد، ورعاية ما كان منه في اصطناع الجماعة، ورسم له قصد دار ابن طاهر، وحمل جعفر إلى دار الخلافة والسلام عليه بها. ففعل، وماج الجند ففرق فيهم مال البيعة، ودخل عليهم من طريق الوفاء للمعتضد وتم التدبير. فلما زال أمر العباس، وكان من قتله ما كان، وانتظمت الأمور بعد قتل ابن المعتز، وتقلد أبو الحسن الوزارة، صارت ثمرة هذا الرأي له، وكان يقف بين يدي المقتدر بالله وهو صبي قاعد على السرير، فيخاطب الناس والجيش عنه. فإذا انصرفوا أمرت السيدة بأن يعدل بأبي الحسن إلى حجرة، فيجلس فيها، ويخرج المقتدر فيقوم إليه فيقبل يده ورأسه، ثم يقعد ويقعده في حجره كما يفعل الناس بأولادهم. وتقول له السيدة من وراء الباب: هذا يا أبا الحسن ولدك، وأنت قلدته
(1/132)
________________________________________
الخلافة أولاً وثانياً. تعني ما تقدم من مشورته على العباس به وبتقلده الخلافة، ومن بعد إزالة فتنة ابن
المعتز. فيقول ابن الفرات: هذا مولاي وإمامي ورب نعمتي وابن مولاي وإمامي. وبقي على ذلك مدة وزارته الأولى، وتمكن أبو الحسن من الخزائن والأموال وفعل ما شاء وأراد. ز. فيقول ابن الفرات: هذا مولاي وإمامي ورب نعمتي وابن مولاي وإمامي. وبقي على ذلك مدة وزارته الأولى، وتمكن أبو الحسن من الخزائن والأموال وفعل ما شاء وأراد.
قال أبو محمد الصلحي: قال لنا أبو علي بن مقلة، وقد جرى ذكر ابن الفرات: يا قيوم، سمعتم بمن سرق عشر خطوات سبعمائة ألف دينار؟ قلنا: كيف ذلك؟ قال: كنت بين يدي ابن الفرات في وزارته الأولى، ونحن في دار الخلافة نقرر أرزاق الجيش، ونقيم وجوه مال البيعة، ونرتب إطلاقه، وذلك عقيب فتنة ابن المعتز. فلما فرغ مما أراده، وخرج فركب طياره، وبلغ نهر المعلي. فقال: إنا لله، إنا لله، قفوا. فوقف الملاحون. فقال لي وقع إلى أبي خراسان صاحب بيت المال بحمل سبعمائة ألف دينار تضاف إلى مال البيعة وتفرق على الرجال. فقلت في نفسي: أليس قد وجهنا وجوه المال كله؟ ما هذه الزيادة؟ ووقعت بما رسمه، وعلم فيه بخطه، ودفعه إلى غلام وقال: لا تبرح من بيت المال حتى تحمل هذا المال الساعة إلى داري. ثم سار. قال: فحمل إليه بأسره، وسلم إلى خازنه، فعلمت أنه أُنسي أن يأخذ شيئاً لنفسه في الوسط، ثم ذكر أنه باب لا يتفق مثله سريعاً، ويحتمل ما احتمله من هذا الاقتطاع الكثير، فاستدرك من رأيه ما استدرك، وتنبه من فعله على ما تنبه. وحدث أبو محمد الصلحي قال. حدثنا جماعة من كتاب أبي الحسن بن الفرات وخواصه قالوا: عاد أبو الحسن من الموكب يوماً، فجلس بسواده مغموماً يفكر فكراً
(1/133)
________________________________________
طويلاً. فشغل ما رأينا منه قلوبنا، وظنناه لحادث حدث، فسألنا عن أمره، ودافعنا، وألححنا عليه، فحاجزنا، وقال: ما ها هنا إلا خير وسلامة. فقام ابن جبير، وكان من بيننا متهوراً مدلاً. فقال: تأمر أيها الوزير بأمر؟ قال: إلى أين؟ قال: أستتر وأستر عيالي، وسبيل هؤلاء الذين بين يديك أن يفعلوا مثل فعلي. قال: ولم؟ قال: تعود من دار الخلافة وأنت من الغم الظاهر في وجهك على هذه الصورة، ونسألك عن أمرك فتكتمنا، ولم تجر عادتك بذلك معنا، هل وراء هذا إلا القبض والصرف؟ فقال له: اجلس يا أحمق حتى أُحدثك السبب. فجلس. وقال: ويحكم، قد علمتم أنني أشكو إليكم نقصان هذا الرجل يعني المقتدر دائماً وشدة تلومه واختلاف رأيه، وإنني أحب منذ مدة أن أزوره وأعرف قدر ذلك منه، وهل هو في كل الأمور أو في بعضها، وفي صغارها أم في كبارها؟ فقلت له اليوم في أمر رجل كبير ولم يسمه ابن الفرات: يا أمير المؤمنين إن فلاناً قد فسد علينا، وليس مثله من أخرج عن أيدينا. وقد رأيت أن أُقلده كذا، واقطعه وأُسوغه كذا وأكثر لتستخلصه بذلك، وتستخلص نيته، وتستديم طاعته، ولم يجز أن أفعل أمراً إلا بعد مطالعتك، فما تأمر؟ قال: افعل. ثم حدثته طويلاً وخرجت من أمر إلى آخر، وقرب وقت انصرافي فقلت له: يا مولانا، عاودت الفكر في أمر فلان فوجدت ما نعطيه إياه مما استأذنت فيه كثيراً مؤثراً في بيت المال، ولا نأمن أن يطمع نظراؤه في مثل ذلك، وإن أجبناهم عظمت الكلفة، وإن منعناهم فسدوا، وقد رأيت رأياً آخر في أمره. قال: ما هو؟ قلت: أن نقبض عليه ونأخذ نعمه ونخلده الحبس أبداً. قال: افعل. فقلت: واويلاه كذا والله تجري حالي معه. يقال: إن ابن الفرات الكافي
(1/134)
________________________________________
الناصح، وهو وطأ لك الأمر، وأقامك في الخلافة وهو.. وهو ... فيقول: نعم. ويقربني ويقدمني، ثم يقف غداً بين يديه رجل فيقول: قد سرق ابن الفرات الأموال، ونهب الأعمال، وفعل وصنع. والوجه أن يقبض عليه ويصرف ويقيد ويحبس، ويقلد وزير آخر. فيقول: نعم. ويفعل ذلك بي. ثم يعاود ويقال له: لا يجوز أن يوحش ابن الفرات ويستبقى، ولا يؤمن أن يستفسد ويترك، والصواب قتله، فيقول: افعلوا. فأهلك. قال: واستشعر هذا فكان على ما قدره. وقد توارت هذه الحكاية عن جماعة عنه. ومما ذكر عن ابن الفرات أنه كان يقول: تمشية أمور السلطان على الخطأ خير من وقوفها على الصواب. ويقول أيضاً: إذا كانت لك حاجة إلى الوزير فاستطعت أن تقضيها بخازن الديوان أو كاتب سره فافعل، ولا تبلغ إليه فيها.
وحدث أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي قال: حدثني أبو علي بن مقلة قال: كنت أكتب لأبي الحسن بن الفرات في التحرير أيام خلافته أبا العباس أخاه على ديوان السواد بجاري عشرة دنانير في كل شهر، ثم تقدمت حاله فأرزقني ثلاثين ديناراً في كل شهر، فلما تقلد الوزارة جعل رزقي خمسمائة دينار في الشهر، ثم أمر بقبض ما في دور القوم الذين بايعوا ابن المعتز. فحمل في الجملة صندوقان، فسألك هل علمتم ما فيهما؟ قالوا: نعم. جرائد بأسماء من يعاديك ويدبر في زوال أمرك. فقال: لا يفتحان. ثم دعا بنار، دعاءً كرره وصاح فيه، وأحضرها الفراشون
(1/135)
________________________________________
فأججت. وتقدم بطرحهما في النار على ما هما فلما أحرقت أقبل على من كان حاضراً وقال: والله لو فتحتها وقرأت ما فيها لفسدت نيات الناس كلهم علينا، واستشعر الخوف منا، ومع فعلنا ما فعلناه طوينا الأمور بهذا، فهدأت القلوب واطمأنت النفوس. ثم قال لي يقول هذا أبو علي بن مقلة: قد آمن الله والخليفة أعزه الله كل من بايع ابن المعتز، فاكتب الأمانات للناس جميعاً وجئني بها لأوقع فيها، ولا ترد أحداً عن أمان يطلبه، فقد أفردتك لذلك، لأنه باب مكسب كبير. وقال لمن حضر: أشيعوا قولي وتحدثوا به بين الخاص والعام ليأنس المستوحش، ويأمن المستتر. قال أبو علي: فحصل لي في كتب الأمانات مائة ألف دينار أو نحوها. وحدث محدث أن التزويرات كثرت على أبي الحسن علي بن عيسى عند صرفه وتقلد أبي الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة، وزاد الأمر فيها: فوقع ابن الفرات إلى أصحاب الدواوين توقيعاً نسخته: قد نسخ لكم أكرمكم الله آخر هذا التوقيع كتاب ورد من أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فيما انتهى إليه من حال توقيعات في أيدي الناس بخط علي بن عيسى، بزيادات ونقل وفك وإثبات، فأمر أعلى الله أمره بترك إمضاء شيء منها، فانتسخوا هذا التوقيع في مجالسكم، وامتثلوا ما أمر به فيه، ولا تنفذوا توقيعاً من علي بن عيسى بحطيطة وتسويغ واحتمال أو نقل جار، وتحروا من ايقاع حيلة في ذلك أو في شيء منه إن شاء الله. ونسخة كتاب المقتدر بالله في آخره: أمتعني الله بك وبالنعمة عندك، انتهى في الخبر حال توقيعات كثيرة زورت
(1/136)
________________________________________
على أنها بخط علي بن عيسى، وظهرت في الدواوين بزيادات لقوم في أرزاقهم، فرأيت ألا تمضي يا أبا الحسن أمتعني الله بك توقيعاً من علي بن عيسى في زيادة ولا نقل ولا إثبات ولا في شيء يجري هذا المجرى إلا ما كتبت به جامعاً حتى إذا اجتمعت عندك الجوامع، عرضت علي في كل ثلاثة أشهر ما يجتمع منها لأقف عليه وآمر برأي فيه. فاعمل متعني الله بك بذلك، ولا تخالفه، وعرفني امتثالك إياه إن شاء الله.
وحدث أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن الحسن بن عبد الأعلى قال: كنت بحضرة أبي الحسن بن الفرات في وزارته الأولى، وهو جالس يعمل، إذ رفع رأسه، وترك العمل من يده، وقال: أريد رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يطيعني حق الطاعة فأُنفذه في مهم لي، فإذا بلغ فيه ما أرسمه له أحسنت إليه إحساناً يظهر عليه وأغنيته. فأمسك من حضر. ووثب رجل يكنى بأبي منصور أخ لابن أبي شبيب حاجب ابن الفرات فقال: أنا أيها الوزير. قال: وتفعل؟ قال: أفعل وأزيد. قال: كم ترتزق؟ قال: أرتزق مائةً وعشرين ديناراً. قال: وقعوا له بالضعف. وقال: سل حوائجك. فسأله أشياء أجابه إليها، فلما فرغ من ذلك قال: خذ توقيعي وامض إلى ديوان الخراج، وأوصله إلى كاتبي الجماعة وطالبهما بإخراج ما على محمد بن جعفر بن الحجاج، وطالبه بأداء المال، وأتلفه إلى أن يستخرج جميعه، ولا تسمح له حجة، ولا تمهله البتة. فخرج وأخذ من رجالة الباب ثلاثين رجلاً، فقلت: لأخرجن وأمضين إلى الديوان حتى أنظر ما يؤول إليه الحال. فخرجت، وصرت إلى الديوان وهو في الدار المعروفة بفتح القلانسي فدخل أبو منصور هذا إلى الصقر بن محمد،
(1/137)
________________________________________
وعبيد الله بن محمد الكلوذاني، وهما صاحبا المجلس شركةً، فلم يجد الكلوذاني ووجد الصقر بن محمد، فأوصل إليه التوقيع وقال له: أخرج ما على ابن الحجاج. فقال: عليه من باب واحد ألف ألف درهم، نطالبه بذلك إلى أن تفرغ بالعمل بسائر ما يلزمه وكان محمد بن جعفر من عمال أبي الحسن علي بن عيسى. قال: فأحضر ابن الحجاج وشتمه وافترى عليه، وابن الحجاج يستعطفه ويخضع له. ثم أمر بتجريده وإيقاع المكروه به فأُوقع، وهو في ذلك كله يقول: يكفي الله. ثم أمر أبو منصور بنصب ذقل، فنصب، وجعل في رأسه بكرة فيها حبل، وشدت فيه يد ابن الحجاج، ورفع إلى أعلى الدقل، وهو يستغيث ويقول: يكفي الله. فما زال معلقاً وأبو منصور يقول له: المال المال. وهو يسأله حطه وإنظاره إلى أن يواقف الكتاب على ما اخرج عليه، وهو لا يسمع فعله. فلما ضجر قال لمن يمسك الحبال: أرسلوا ابن الفاعلة وعنده أنهم يتوقفون ولا يفعلون. فأرسلوه لما رأوه عليه من الحدة والغضب. ووافى ابن الحجاج إلى الأرض، وكان بديناً سميناً، فوقع على عتق أبي منصور فدقها، وخر على وجهه، وسقط ابن الحجاج مغشياً عليه. فحمل أبو منصور إلى منزله في محمل فمات في الطريق، ورد ابن الحجاج إلى محبسه وقد تخلص من التلف. وعجب من حضر مما رأى. وكتب صاحب الخبر بالصورة إلى ابن الفرات، فورد عليه منها أعظم مورد. وبكرت عرفان زوجة ابن الحجاج إلى موسى بن خلف حتى
(1/138)
________________________________________
أوصلها إلى ابن الفرات، فقررت أمره على مائة ألف دينار سلمت ببعضها جعدة وقراها من طسوج كوثي، ونجم الباقي، وأطلق ابن الحجاج. وكان الناس يعجبون من قول ابن الفرات: أريد رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يطيعني.
وحدث محمد بن عبيد الله بن جعفر بن الحسن بن الجنيد قال: حضرت أبا العباس أحمد بن محمد بن بعد شر، وبين يديه أبو الحسن بن الفرات في المكروه. وهو يقول: يا قوم بمن أسأت؟ ولمن ضربت؟ فقال له: فمن قتل حامداً والنعمان وابن الحواري؟ فقال: ما خرج حامد من داري إلا صحيحاً، ولقد كنت أُطعمه من طعامي، وأسقيه من شرابي، وأُلبسه من ثيابي، وأبخره من بخوري. وأما النعمان فذكر ما لست أعرفه في أمره. فأما ابن الحواري فسلوا هذا الفتى يعني المحسن عنه، فلعله يورد حجةً أو يظهر خطوطاً تبرئ ساحته منه. وأنا قلت للخليفة: قد أطلقت يد هذا الغلام في مطالبة الناس، وقد تخطى إلى ما فيه وهن على المملكة، فأمرني بترك الاعتراض عليه.
وحدث أبو عمرو بن الجمل النصراني كاتب شفيع اللؤلؤي قال: لما قبض على أبي الحسن بن الفرات في الدفعة الثالثة من وزارته امتنع القواد من اعتقاله في دار الخلافة إشفاقاً من أن يراسل المقتدر بالله ويستعطفه ويستميله ويحتال عليه ويخدعه، واستقر الأمر على تسليمه إلى شفيع اللؤلؤي، فلما حمل إلى داره وصعد الدرجة من شاطئ دجلة لم يمسك أحد بيده، فجعل يعلق بالدرج ويصعد. ثم أقبل على شفيع
(1/139)
________________________________________
وأنا حاضر فقال: يا أبا الغصن، ما هكذا عاملت غيري؟ فقال له: كان غيرك أتقى لله منك يعني أبا الحسن علي بن عيسى قال: فأفرده شفيع بحبس له، ودعا طباخه سراً وقال له: استزد فإن ابن الفرات ملك، فاستزاد له، وفرغ من الطعام. فقال لي شفيع: ادخل إليه واعرض عليه الطعام، فدخلت وآذنته فقال:
على كلّ حال يأكل القوم زادهم ... على البؤس والنعماء والحدثان
هات الطعام. فقدم إليه، فأكل أكلاً مستوفىً منه، وسقي ماء مثلوجاً، فلم يستبرده، فاستزاد من الثلج حتى صار مائعاً، ثم شربه، وقال لي: من قلد الوزارة؟ قلت: أبو القاسم الخاقاني. قال: نكب السلطان لا أنا. فمن قلد ديوان السواد؟ قلت: أبو الفرج بن حفص. فتبسم وعجب وقال: رمي بحجره. فمن تقلد الدواوين الباقية؟ قلت: تقلد المالكي ديوان المغرب، والمصري ديوان المشرق، وابن هبنتي القنائي دواوين بيت المال والخاصة والمستحدثة وضياعك، وعبد الوهاب الخاقاني الأزمة، وصلح ديوان النفقات. فقال: لقد أُيد الوزير أعزه الله بالكفاة. ثم قال لي: أريد الاجتماع مع أبي الغصن. فقلت. هو نائم. فقال أنبهه وعرفه أن بيننا مهماً أريد مجاراته إياه. فأنبهته وعرفته ما قال. فقال: ما أُحب لقاءه، ولكن تعرف ما عنده، فعدت إليه واعتذرت وسألته عما يريد. فقال: قل له عرف أمير المؤمنين أيده الله عني أنني لا أدع نصحاً والياً ومنكوباً، وأنني حاسبت هارون بن عمران الجهبذ البارحة محاسبةً تولاها هشام صاحب بيت المال، فكان الباقي عنده من أموال المصادرين مائة ألف وخمسةً وخمسين ألف دينار ومائتين ذكرها ابن الفرات وربما عدل بها الخاقاني
(1/140)
________________________________________
عن بيت مال الخاصة وادعى أنه أثارها واستراح إلى تمشية أمره بها، وهي لأمير المؤمنين خاصةً. وكتب شفيع إلى المقتدر بالله بذلك عنه، ونفذ بالرقعة مع قيصر خليفته. فعاد جواب المقتدر بالله بخطه إلى شفيع بأن يبادر بنفسه إلى دار الخاقاني ويقبض على هارون بن عمران، ويأخذ المال من يده، ولا يمكن الخاقاني منه. ففعل شفيع ذلك، والخاقاني لم يعلم بعد بما عند هارون الجهبذ. وكانت هذه الحال من أول ما حير به الخاقاني وأدهشه، وحمل المال إلى بيت مال الخاصة وصحح فيه.
وحدث أبو علي عبد الرحمن بن عيسى قال: حدثني أبو الحسن سعيد ابن سنجلا الكاتب. قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن إسماعيل زنجي الكاتب قال: كنت بحضرة أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات في وزارته الأخيرة، وقد رسم لي كتب كتاب عنه في مهم من أمور السلطان، فأنا متشاغل به، وقد شاع أمر مؤنس ونفوذ الكتاب إليه وهو بالرقة في الورود إلى الحضرة، وابن الفرات شديد الإشفاق من القصة حتى استؤذن لأبي الهواء نسيم الخادم، وهو من خواص الخدم وجلتهم ودخل، فلما جلس أومى إلى التخلي لتأديه رسالة، فنهض من كان في المجلس وبقيت وحدي مقشعراً من الجلوس، وأخذوا في السرار والخطاب، وأكمشت على ما في يدي من الكتاب حتى فرغت ثم قمت. فقال لي: اجلس. فجلست وأظهر ابن الفرات ما كان يسره ثم قال: بيننا يا أبا الهواء حقوق تلزمك أن تراعيها. وأنت قليل التراسل فيما بيني وبين السادة، وأريد أن أُحملك رسالة
(1/141)
________________________________________
تؤديها كما أقولها. فقال: أيها الوزير. إن كانت جميلة فعلت، وإن كان فيها غلظة فليس في عادتي إلا إعادة ما يحسن. فقال: لا بد من أن توردها على حالها وتتحمل لي ما في ذاك من مشقة. وقال: تقول للسادة: أنتم تعلمون ما كان مني في ابتداء هذا الأمر، فإن الخاص والعام اعتزلوكم جانباً، وأفرجوا عنكم إفراجاً كلياً غيري، فإنني أقمت على طاعتكم، وتفردت بنصرتكم، وكان غاية أملي وتقديري المقام على ما كنت عليه أتولاه من ديوان السواد، لا تشره نفسي إلى غيره ولا يدور في فكري تجاوزه، فأخذتموني بتقلد هذا الأمر والقيام به، ولم تفارقوني حتى أجبت إليه، وجددت في الأمر إلى أن انعقد وتوكد، وعاديت كل أحد في رضاكم حتى استوسقت لكم الأمور، وتكامل في حياطة دولتكم التدبير، وفتحت لكم فارس وما يليها، ووفرت عليكم الأموال ومرافقها، وكددت ديني ودنياي فيها، فلما قام لكم الأمر وعلا مناره واستحصفت لكم الطاعة ممن بعدت ودنت داره، نكبتموني فهتكت حرمتي وسلبت نعمتي وقبضت ضيعتي؛ ثم أعدتموني، فما حلت عما عهدتموه مني، ولا فارقت ما كنتم تحمدونه وتصفونه عني. ثم أوقعتم بي إيقاعاً ثانياً، فاستوعبتم بقية النعمة، وأتيتم على الأصل والتتمة، وجذبتموني إلى هذه الدفعة الثالثة، فقد علمتم ما كان مني في استخراج الأموال، وإصلاح الأحوال، والاستقصاء على جميع من خدمكم من الكتاب والعمال. ووالله لا لحقني مكروه في هذه الدفعة في
(1/142)
________________________________________
نفس أو ولد ولا حال إلا ولحقكم مثله، وإن تمادى أمده، من الله تعالى جده، فاعملوا ما بدا لكم. وما زال يكرر هذا وأشباهه حتى عرفه نسيم ووعاه وانصرف. وألقى ابن الفرات ذقنه على صدره ولحيته ساعةً ثم رفع رأسه فقال: سمعت ما كنا فيه؟ فقلت: نعم. وما كان لما جرى وجه، والقوم مكنوك واستناموا إليك في هذه الدفعة زيادةً على ما تقدمها. فقال: دعني من هذا يا أبا عبد الله، فوالله ليصحن ما قلت. وأُخبرك في هذا المعنى بخبر طريف جرى بين وبين أبي الحسن علي ابن عيسى، ما لهوت عنه إلا في هذه الدفعة، فإنه يتصور لي في النوم واليقظة، ويعترضني في الشغل والخلوة، وأنا أخبرك به: لما بلغ المكتفي بالله آخر أمره، كان العباس بن الحسن يجلس في كل يوم آخر النهار، فإذا فرغ من العمل جارانا خبر المكتفي بالله وعلته، وآيسنا من عافيته، وشاورنا فيمن يقوم بالأمر بعده، فلا يستقر الرأي على شيء يعتمده، إلى أن تكامل اليأس منه. فنحن في بعض العشايا عنده، وقد أردنا النهوض حتى قال: قد انقضى أمر الخليفة، وما نفترق إلا بعد تقرر الرأي على من يقعد مقعده، فما عندكم؟ فقال أبو عبد الله محمد بن داود: الله الله أيها الوزير أن نعدل عمن يقوم بهذا الأمر ونلزمه خيره وشره ونتصرف على أمره ونهيه. ونحو هذا الكلام. فقال لعلي بن عيسى: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: الله الله أيها الوزير في الإسلام، نحن جميعاً صنائع المعتضد بالله رحمة الله عليه ثم هذا الخليفة، ولكنه أمر الدين فقلد هذا شيخاً قد فهم الأمور وعرف بصواب الرأي والتدبير بعمارة هذه الثغور وحج البيت المعمور، ويقيم الحدود، ومن إذا قلت:
(1/143)
________________________________________
أمير المؤمنين، صدق قولك الصغير والكبير. قال ابن الفرات: فعارضت قوله بأن قلت للعباس: قلد أيها الوزير الأمر من يكون في حجرك، ويتدبر برأيك، فتسلم نعمتك ونعمتنا معك. فقال العباس: رأيي لرأيك تبع يا أبا الحسن. ونهض وانصرفنا. فلما حصلنا في
بعض الممرات قبض أبو الحسن علي بن عيسى على يدي وقال: بيننا شيء. فوقفت معه، وابتدأ يحلف يميناً أغرق فيها وأبلغ على أنه ما أراد بقوله ورأيه غير الله عز ذكره وإعزاز دينه وإصلاح شؤونه. ثم حلف على أني ما أردت أنا الله بما قلته وأشرت به، وقال: كيف استجزت أن تجيء إلى رجل معروف يعني العباس فتساعده على ما يسخط الله به، ويبعد من الحق، ويزيده تسلطاً وجرأة على الظلم؟! فقلت: لا والله يا أبا الحسن أعزك الله ما نعمل إلا للدنيا، وإن جاء من يعرف أسعار الخبز واللحم لم نأمنه على نفوسنا ونعمنا. قال: فقال لي مجيباً: والله لئن تم الأمر على هذا وانتظم لا بلي بالمحنة فيه غيرك، فانظر لنفسك أو دع. فمضى ما مضى بما فيه، وصليت بما صليت به منه، ويوشك أن يصح قول أبي لحسن علي بن عيسى ولا يبعد، لأن من أراد الله كان الله معه، ومن أراد غيره خذله، فما يخلو فكري من قوله وخاصةً في هذه الدفعة، ونسأل الله حسن العاقبة. وحدث هارون بن إبراهيم النصراني الكاتب قال: حضرت مجلس القاسم ابن عبيد الله في بعض الأيام، وبين يديه كتاب الدواوين، إذ خرج إليه توقيع من المكتفي بالله يعرفه فيه ما عزم عليه من الخروج إلى سر من رأى للتصيد، ويرسم له إنفاذ من يصلح الطرق وإعداد العلوفة والمير وما تدعو إليه الحاجة للعكسر. فرمى به إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، لأنه مما كان يجري في ديوانه، وقال له: اكتب في هذا المعنى بما يؤكده، وأضف إليه منشوراً لتستحث المطالبة والإعجال، ومشاهدة ما يجري عليه الحال. فقال: نعم أعز الله الوزير وجعل التوقيع تحت فخذه، وطلب دواةً، فحضرت وتركت بين يديه، وأخذ يكرر النظر في كتب قد أخرجت إليه متعلقة بديوانه، ومضت ساعة. فقال له القاسم: كتبت الكتب؟ قال: نعم. والتفت فقال: ادعوا زنجياً الكاتب لينشئ نسخ ذلك ويحررها فإنه أعرف برسوم المناشير، فضحك القاسم بن عبيد الله ثم أقبل علي أبي عبد الله محمد بن داود بن الجراح فقال: الأمر يا أبا عبد الله مهم لا يحتمل التأخير، ومنشئ أبي الحسن غير حاضر، ولعله يحتبس. وقال لابن الفرات: ادفع إليه التوقيع ليكتب في المعنى بما يتضمن. قال: فأخذ أبو عبد الله التوقيع وكتب سريعاً بأبلغ عبارة وأشد استيفاء ووصاة. وخجل ابن الفرات. ولم تكن كتابته مقصرة ولا بلاغته متأخرة، ولكن يده كانت تخونه وتقعد به. ض الممرات قبض أبو الحسن علي بن عيسى على يدي وقال: بيننا شيء. فوقفت معه، وابتدأ يحلف يميناً أغرق فيها وأبلغ على أنه ما أراد بقوله ورأيه غير الله عز ذكره وإعزاز دينه وإصلاح شؤونه. ثم حلف على أني ما أردت أنا الله بما قلته وأشرت به، وقال: كيف استجزت أن تجيء إلى رجل معروف يعني العباس فتساعده على ما يسخط الله به، ويبعد من الحق، ويزيده تسلطاً وجرأة على الظلم؟! فقلت: لا والله يا أبا الحسن أعزك الله ما نعمل إلا للدنيا، وإن جاء من يعرف أسعار الخبز واللحم لم نأمنه على نفوسنا ونعمنا. قال: فقال لي مجيباً: والله لئن تم الأمر على هذا وانتظم لا بلي بالمحنة فيه غيرك، فانظر لنفسك أو دع. فمضى ما مضى بما فيه، وصليت بما صليت به منه، ويوشك أن يصح قول أبي لحسن علي بن عيسى ولا يبعد، لأن من أراد الله كان الله معه، ومن أراد غيره خذله، فما يخلو فكري من قوله وخاصةً في هذه الدفعة، ونسأل الله حسن العاقبة. وحدث هارون بن إبراهيم النصراني الكاتب قال: حضرت مجلس القاسم ابن عبيد الله في بعض الأيام، وبين يديه كتاب الدواوين، إذ خرج إليه توقيع من المكتفي بالله يعرفه فيه ما عزم عليه من الخروج إلى سر من رأى للتصيد، ويرسم له إنفاذ من يصلح الطرق وإعداد العلوفة والمير وما تدعو إليه الحاجة
(1/144)
________________________________________
للعكسر. فرمى به إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، لأنه مما كان يجري في ديوانه، وقال له: اكتب في هذا المعنى بما يؤكده، وأضف إليه منشوراً لتستحث المطالبة والإعجال، ومشاهدة ما يجري عليه الحال. فقال: نعم أعز الله الوزير وجعل التوقيع تحت فخذه، وطلب دواةً، فحضرت وتركت بين يديه، وأخذ يكرر النظر في كتب قد أخرجت إليه متعلقة بديوانه، ومضت ساعة. فقال له القاسم: كتبت الكتب؟ قال: نعم. والتفت فقال: ادعوا زنجياً الكاتب لينشئ نسخ ذلك ويحررها فإنه أعرف برسوم المناشير، فضحك القاسم بن عبيد الله ثم أقبل علي أبي عبد الله محمد بن داود بن الجراح فقال: الأمر يا أبا عبد الله مهم لا يحتمل التأخير، ومنشئ أبي الحسن غير حاضر، ولعله يحتبس. وقال لابن الفرات: ادفع إليه التوقيع ليكتب في المعنى بما يتضمن. قال: فأخذ أبو عبد الله التوقيع وكتب سريعاً بأبلغ عبارة وأشد استيفاء ووصاة. وخجل ابن الفرات. ولم تكن كتابته مقصرة ولا بلاغته متأخرة، ولكن يده كانت تخونه وتقعد به.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: سمعت بعض شيوخ الكتاب يقول: كان أبو الحسن علي بن عيسى معظماً لصناعة الكتابة، محافظاً على مكانه منها، متحذراً من عيب يلحقه فيها، وكانت المنافسة واقعة بين أبي الحسن بن الفرات وبينه في الأعمال والمنازل والكتابة والصناعة، فاتفق أن عمل علي بن عيسى مؤامرة لعامل يعنى به أبو الحسن بن الفرات، وأخرج عليه فيها مائة ألف دينار، واعتقد مواقفته عليها وإلزامه إياها. ثم أحضره وأراه المؤامرة وقال له: قف عليها واذكر ما عندك في كل باب منها، فإن كانت لك فيه حجة تسقطه وإلا التزمته وأديته. فقال: أريد أن أقرأها قراءة تأمل، وأنظر فيها نظر تصفح، وما يكون ذلك إلا
(1/145)
________________________________________
في منزلي عند خلوتي بنفسي. فقال: خذها. فأخذها وجاء إلى أبي الحسن بن الفرات، فشرح له صورته، وسأله النظر في المؤامرة، وتلقينه الجواب عن كل باب منها. فقرأها ابن الفرات وقال للعامل: لولا أن علي بن عيسى قد سها فيها سهواً ظاهراً ربما خلصك لما سقط عنك درهم واحد مما أخرج عليك، وذلك أنه صدر المؤامرة بباب خرج عليك فيه فضل الكيل في غلات ناحيتك، وأنك لم تورده، وحصل عليك صدراً كبيراً من المال عنه، ثم ذكر بعد ذلك في باب آخر أنك اقتطعت من غلات المقاسمة ما لم تورده، وأقام الشاهد عليك فيه، وألزمك مالاً جزيلاً عنه. وقد كان من قانون الكتابة أن يبتدئ بذكر الاقتطاع من أصول الغلة. ثم يجعل فضل الكيل مؤخراً، فإذا صدر فضل الكيل فقد صح به الأصول، وهذا غلط فاحش وخطأ ظاهر غير محيل، والصواب أن تمضي إليه وتخلو به وتقول له: محلك في الصناعة لا يقتضي ما فعلته في هذه المؤامرة، وقد سهوت فيها سهواً قبيحاً وهو كذا وكذا، وأنا معك بين أمرين، إما أن أكشف للناس خطأك فعليك فيه ما تعرفه، وليس يكون ما يلحقك من القباحة بأقل مما تتناولني به من النكبة، وإما أن تفضلت بطي هذا الأمر وستره وإبطال المؤامرة والإمساك عنها ولك من ذلك مرفق أحمله إليك. فإن إشفاقه على جاهه، وكراهته ما يقدح في صناعته، ورغبته في المرفق، يحمله على إبطال المؤامرة. قال العامل: فمضيت سحراً إلى داره، فلما رآني قال: ما عملت في المؤامرة؟ فقلت له: بيننا شيء أقوله سراً، ودنوت إليه فقال: ما هو؟ فأوردت عليه ما كان ابن الفرات علمنيه، ونشرت المؤامرة ووقفته على المواضع، فحين شاهدها وتأملها وجم
(1/146)
________________________________________
وجوماً شديداً وقال: يا هذا، قد وفر الله عليك المرفق، وأسقط عنك المؤامرة، فإن أكبر الأمور عندي في هذه القصة أن وقفت على غلطي وتيقظت مستأنفاً من مثله، والله بيني وبين ابن الفرات، فإن هذا من تعريفه وتوقيفه وإلا فلست ممن يتنبه على ما هذه سبيله. ونهضت من عنده وقد كفيت الأمر، وزالت عني المؤونة والمطالبة، وربحت المرفق الذي كنت على التزامه، وعدت إلى أبي الحسن بن الفرات، وحدثته بالحديث فضحك.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق قال: لما حمل علي بن عيسى إلى ابن الفرات في وزارته الثالثة رآه ابن الفرات وهو مقبل إليه فبدأ يكتب كتاباً، وجاء علي بن عيسى وهو كالميت خوفاً وجزعاً، فوقف قائماً وابن الفرات يكتب، وعند علي بن عيسى والحاضرين أنه لم يره، وبقي واقفاً نحو ساعة إلى أن فرغ ابن الفرات من كتابته، ثم رفع رأسه وقال: اقعد بارك الله عليك. فأكب علي ابن عيسى عليه يقبل يده ويقول: أنا عبد الوزير وخادمه وصنيعته القديم، وصنيعة أبي العباس أخيه رحمه الله تعالى، ومن لا يعرف صاحباً ولا أستاذاً غيره. فقال: هو كذلك وأنت فيه صادق، وإني لأرعى لك حق خدمتك القديمة لي ولأخي رحمه الله، وما عليك بأس في نفسك، ولولا طاعة السلطان ما أفسدت صنيعتنا عندك. وقرر عليه من المصادرة ما قرره، وعمل المحسن بن علي بن الفرات على قتل علي بن عيسى، فلم يدعه أبوه. واستقر الأمر على نفسه وإبعاده عن الحضرة، واختار هو الخروج إلى مكة وأظهر أنه يريد الحج والمجاورة. وخرج بعد أن ضم
(1/147)
________________________________________
إليه موكلون، ووصاهم المحسن بسمه في الطريق إن تمكنوا أو قتله بمكة، وعرف علي بن عيسى ذلك فتحرر في مأكله ومشربه. ووصل إلى مكة رجل يعرف بأحمد بن موسى الرازي، وكان داهيةً ذا مكر وخبث، وقد اصطنعه علي بن عيسى في وزارته، وقلده القضاء هناك. فلما اجتمع علي بن عيسى معه حدثه بحديثه، وسأله إعمال الحيلة في تخليصه وحراسة نفسه، فتلطف في ذلك بأن وضع أهل البلد وقد كانوا قدموه وأطاعوه على أن اجتمعوا وثاروا بالموكلين، وخاف أن يجري ما يلحقه فيه إثم وإنكار من السلطان، فطرح نفسه عليهم حتى خلصهم وأخرجهم ليلاً إلى بغداد، بعد أن أعطاهم نفقةً. وأقام بمكة. وقد كان أبو العباس أحمد ابن محمد بن الفرات في خلافته عبيد الله بن سليمان على الأمور عمل ديواناً سماه ديوان الدار، وجمع إليه سائر الأعمال ودبره بنفسه وكتابه، واستناب أخاه أبا الحسن علي بن عيسى، وأبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح عمه، فكانا يجلسان بحضرة أبي الحسن، ويأمرهما وينهاهما، ويسميانه أُستاذنا، على رسم أصحاب الدواوين إذ ذاك. وجرى الأمر على هذا الترتيب إلى أن عزم المعتضد بالله على إخراج المكتفي بالله إلى الجبل، ومعه عبيد الله بن سليمان، والخروج بنفسه إلى آمد والثغور، ومعه القاسم بن عبيد الله، فقال عبيد الله لأبي العباس بن الفرات: أريد كاتباً يصحبني ويتصفح أعمال كل بلد نفتحه ويقرر معاملاته على ما يدل عليه الديوان القديم من رسومه. فقال: ذلك محمد بن داود. وإليه من ديوان الدار مجلس ما فتح من
(1/148)
________________________________________
أعمال المشرق، وفيه الحسبانات العتيقة. وقال القاسم: وأنا أريد آخر يكون معي إلى المغرب. فقال: يكون علي بن عيسى.
وخرج محمد بن داود علي بن عيسى في جملة عبيد الله والقاسم. فنفق محمد على عبيد الله وقرب منه واختص به، ورأى من فضله وصناعته ما أعجبه، وانتهى أمره معه إلى أن زوجه عبيد الله بنته، وانتزع مجلس المشرق من ديوان الدار وجعله ديواناً مفرداً وقلده محمد بن داود رئاسةً. وحصلت لعلي بن عيسى حرمة بالقاسم، وشاهد من كفايته وسداده وكتابته ونفاذه ما عظم به في عينه، فقدمه وتوفر عليه. وفعل مثل فعل أبيه مع محمد بن داود في انتزاع مجلس المغرب من ديوان الدار وتقليده علي بن عيسى رئاسة، ولم يجعلا لأبي العباس بن الفرات بعد ذلك عليهما يداً. وكان قول علي بن عيسى لابن الفرات ما قاله من أنني عبدك وصنيعتك وعبد وصنيعة أبي العباس أخيك. وقبول ابن الفرات ذلك منه وتصديقه إياه فيه، على هذا الأصل. وحدث أبو علي عبد الرحمن بن عيسى قال: كان أخي أبو إسحاق إبراهيم ابن عيسى يتقلد أعمال الزاب الأعلى في أيام عبيد الله بن سليمان خلافةً لأبي الحسن علي بن عيسى ثم رئاسةً، فصرفه بمحمد بن محمد بن حمدون بن سليمان الواسطي عنها، قال: فحدثني ابن حمدون هذا قال: أحضرني أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات فقال لي: قد صرفت إبراهيم بن عيسى بك، وأريد أن تعتقله وتضيق عليه. واتفق أن حضر أبو عبد الله محمد بن داود مسلماً عليه، وقد عرف
(1/149)
________________________________________
الخبر، فقال له: تتقدم أعزك الله إليه في إمضاء مقاطعتي وإجمال معاملتي. قال: فقال لي ابن الفرات: أبو عبد الله من قد عرفت محله من الوزير أبي القاسم ومنا، فاعمل تصنيعته في جميع إرادته. فلما انصرف أبو عبد الله قال لي: إياك أن تمضي مقاطعته أو تدع الاستقصاء عليه في مسامحه، ووكل بغلته حتى تستوفي حق بيت المال منها على واجبه وتمامه وكماله، وإبطال مظالمه. قال: فورد علي من ذلك أعظم مورد، وتبينت به ما في نفسه على آل الجراح، وشخصت إلى العمل، فما داجيت أبا إسحاق، وطالبته بأن يجيئني في كل يوم، فغلظ ذلك عليه، وهو لا يعلم ما تقدم به ابن الفرات في أمره، واتصلت كتب ابن الفرات إلي بالحث على ما وصاني به والتاكيد فيه اتصالاً طويته عن أبي إسحاق الإشراف على أعمال واسط كنت أدخل إليه فيقل الإقبال علي، ويظهر الانحراف عني، حتى خفت أذيته في ضيعتي، فجئته في بعض الأيام، ومعي بعض ما كان ابن الفرات يكتبه إلي في بابه. فلما خلا وجهه دنوت منه وقلت له: قد تبينت منك إعراضاً وسوء رأي، ولا شك أن ذلك لما كان مني إليك، وقد علم الله نيابتي كانت عنك، وحراستي إياك مما كنت أُطالب به فيك، ومن الدليل على صدقي هذه الكتب. وأخرجتها إليه وقرأتها عليه. فلما وقف على ما فيها أكبره وأعظمه، وبسط عذري فيما عاملته به، وعاد إلى ما أحبه. وكان تقلد أبي إسحاق الإشراف على واسط بعد أن تقلد أعمال
(1/150)
________________________________________
الراذانين. وكاشف ابني الفرات فيما اقتطعاه واجتذباه من الضياع السلطانية، وحسن أثره عند القاسم بن عبيد الله، فنقله إلى الإشراف على أعمال واسط نقلاً كان من سببه أن كان القاسم سيء الرأي في أبي العباس بن الفرات. فقال لأبي الحسن علي بن عيسى: قد كثرت ضياع ابني الفرات بنواحي واسط، واستضافا إليها ضياعاً سلطانية، وصارا يأخذان لمصالحهما نحو عشرين ألف دينار في السنة، وأريد رجلاً حصيفاً أرد إليه الإشراف على هذه النواحي وأُعول عليه في كشف ضياع ابني الفرات، وإثارة الفضل الذي في أيديهما، وآمن عنده محاباةً لهما وخوفاً منهما، فهل في أهلنا من يصلح لذلك؟ فوصف له أبا إسحاق بالشهامة والاستقلال، واستحضره وقلده، وانحدر وجد في النظر والكشف، وواصل كتب الكتب بما وقف عليه وعرفه، وعمل الأعمال بما اثاره واستدركه، فكان من ذلك عمل ما يقبضه وكلاء ابن الفرات لمصالح ضياعهما بواسط، وهو زيادة على عشرين ألف دينار في السنة، وعمل آخر لما اقتطعاه من ضياع السلطان وأضافاه إلى أملاكهما، وهو نيف وثلاثون بيدراً، منها بيدر يعرف باليهودي، ارتفاعه نحو الخمسين ألف درهم. وعاد إلى الحضرة وعرض الأعمال على القاسم، فقال له: تواقف ابن الفرات على أعمالك هذه؟ فقال: ما عملتها لأسترها وأخاف المناظرة عليها. فأحضره وقد حضر أبو العباس بن الفرات، وواقفه في المجلس مواقفة ألزمه فيها مالاً كثيراً، فرأى القاسم من أبي إسحاق صرامةً عجيبةً، وتبين ابن الفرات من القاسم إنكاراً همته نفسه معه.
(1/151)
________________________________________
قال أبو علي عبد الرحمن، فحدثني بعض أصحابنا قال: لما انصرف أبو العباس ابن الفرات من هذا المجلس إلى منزله، وهو مثخن، وجد أخاه أبا الحسن يعمل. فقال له: يا أبا الحسن ما فارقتني حتى هتكتني ونكبتني، قرأ هذا العمل. ورمى إليه بعمل المصالح وقال له: إذا كانت نفقات مصالحنا عشرين ألف دينار فأي شيء نقول للسلطان والوزير والناس في الارتفاع والاستغلال؟! ثم أعطاه العمل بالضياع المستضافة. قال: هذه الطامة الكبرى والفضيحة العظمى. قال عبد الرحمن: وهم القاسم بن عبيد الله بالقبض عليهما والإيقاع بهما، فتدافع الأمر بظهور صاحب الخال والتشاغل بخطبه والخروج إلى المغرب في طلبه. فلما عادوا لم تطل المدة حتى توفي القاسم بن عبيد الله وأبو العباس بن الفرات في آخر سنة إحدى وتسعين ومائتين. ثم ولي أبو الحسن بن الفرات الوزارة فقصد أبا إسحاق ونفاه إلى الصافية، ووزر أبو الحسن علي بن عيسى بعد ذلك وصرف، وعاد ابن الفرات فنكب أبا إسحاق وصادره على خمسين ألف دينار استخرج منها ثلاثين ألف دينار. وأقام أبو إسحاق في منزله وامتنع من العمل بعد ما لحقه. فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة أعاد القبض عليه وطالبه ببقية المصادرة، ثم بمثلها فأداه ثم بمثلها دفعة ثالثة بعد مكروه عسفه به، وأخرجه بعده إلى البصرة، وسلمه إلى ابن الأصبغ عاملها، فيقال إنه سمه، ومضى لسبيله.
(1/152)
________________________________________
وحدث أبو علي عبد الرحمن قال: كان سبب العداوة بين أبي الحسن بن الفرات ومحمد بن عبدون أنه غلب علي العباس بن الحسن واختص به فسعى في صرف أبي الحسن بن الفرات ونكبته لقبيح قديم كان بينه وبينه، واستمال محمد بن عبدون أبا عبد الله محمد بن داود بن الجراح عمي فمال معه، وساماً أبا الحسن علي بن عيسى أخي الدخول معهما فامتنع، وجرت في ذلك خطوب طويلة باطنة وظاهرة. وتجرد محمد بن عبدون بفضل شر وحسد كانا فيه في مكروه ابن الفرات وطالب العباس بإطلاع المكتفي بالله على خياناته واقتطاعاته وما تأثل من حاله بذاك وعظم من نعمته، وساعده محمد بن داود على أمره. قال عبد الرحمن: فأذكر، وقد صار أبو الحسن بن الفرات في بعض الأيام إلى أخي أبي الحسن علي بن عيسى في داره، فقام إليه وأكرمه، وجعل ابن الفرات يشكو إليه ما يلاقيه من محمد بن عبدون، ويعرض بمحمد بن داود عمي، وأخي يسترجع ويقول له: يكفيك الله ثم قال له أخي: أما أنا فقد عرفت إخلاصي لك، وما يراني الله تعالى مساعداً فيما يسوءك، وأما عمي فالأمر معه قريب، وسأرده وأكفيك ما تخافه منه، ومع هذا فدبر أمرك تدبيراً يصلحه مع صاحبنا وصاحبك. فقال له: أشر علي يا سيدي. فقال: استعطف الوزير. قال: قد فعلت. قال: زد، وليس بكثير أن تغرم في هذه القصة خمسين ألف دينار، وإن احتجت إلى مالي في ذلك فهو بين يديك. فتكره وقال: أريد التوثقة منك. فقال له أخي: ما تجد عندي خلافاً عليك إلا أن اليمين غير مباركة وما بنا إليها حاجة، وفي الأقوال الصادقة والآراء الصافية غنىً وكفاية. وقام فانصرف.
قال عبد الرحمن: ووافي ابن عبدون في بعض الأيام إلى أبي الحسن أخي، فلما
(1/153)
________________________________________
جلس قال له: قد فرغنا من أمر الرجل إن كانت منك مساعدة. فقال:
اللهم غفراً. وقمنا، وخلوا وتحدثا. ثم نهض ابن عبدون، وعدت أنا وإبراهيم ابن أيوب الكاتب إليه، فوجدناه مقطباً واجماً. فقال لنا مبتدئاً: ما أعجب ما نحن فيه! نعوذ بالله من البغي وجوالبه. ثم قال: وافانا هذا الرجل يعني ابن عبدون يريد أن يلفتنا عن ديننا، وذكر أن الخليفة قد استجاب إلى صرف ابن الفرات إن توليت ديوانه، فقلت له: يا هذا، إن صرفت ابن الفرات ازددت بصرفه رزقاً وأجلاً، وإن لم أصرفه نقصني الله ما قرره لي؟ قال: لا. قلت: فإن تركتموني أُدبر هذا الأمر معكم وأقوم بما إلي منه، وإلا لزمت منزلي وأرحت نفسي. فانصرف متنكراً متسخطاً وقال: هذا الأمر يراد. ومضى ابن الفرات إلى العباس فأعطاه وأرضاه. وقد كان قال للمكتفي بالله: إن حال ابن الفرات قد عظمت، وأنا آخذ منه خمسين ألف دينار أردها في بيت مال الخاصة، وأُبقي عليه صدراً من نعمته. فقال له. نعمة ابن الفرات لي، ومتى أردتها أخذتها، وما يمكني إنشاء كاتب واصطناعه والرفع منه حتى يكون حاله الحال الذي يظن فيه. وكان ما قاله المكتفي بالله وفعله من أحسن ما روي وأُثر عن كل خليفة قبله. وقد كان خفيف السرمقندي الحاجب يقوم بأمر ابني الفرات ويعضدهما ويشد منهما، فقلما طمع في أبي الحسن وانبسطت الألسن فيه.
وحدث عبد الرحمن قال: لما عقد الأمر لأبي العباس عبد الله بن المعتز، ووزر له محمد ابن داود بن الجراح عمي تأخر أبو الحسن علي بن عيسى أخي عن الحضور، ووصلت مراسلة بالاستدعاء، وهو يأبى ويتوقف، حتى إذا زاد الإلحاح عليه وبلغه عن عبد الله بن المعتز أنه قال: علي بن عيسى متأخر عنا ليمضي إلى جعفر، فإن كانت
(1/154)
________________________________________
له خلص عمه، وإن كانت لنا خلصه عمه. وليس كذلك. فإنه لات حين مناص صار إلى القوم. فلما لم ير ابن الفرات قال لمحمد بن داود: ما فعل ابن الفرات؟ قال له: وأية فائدة في حضوره؟ قال: كل فائدة، وستعلم ما تكون عواقب تأخره وأنه لا يكون هلاك الجماعة إلا على يده. فكأن قوله وافق قدراً. ولما انتقض أمر ابن المعتز ووزر أبو الحسن بن الفرات وأُخذ علي بن عيسى ومحمد بن عبدون وحملا إلى دار بدر اللاني، كتباً رقعة إلى ابن الفرات ترجماها: لعبديه محمد بن عبدون وعلي بن عيسى. فعاد الجواب: فهمت هذه الرقعة يا أبا الحسن علي بن عيسى أطال الله بقاءك. وأدام عزك وسعادتك، وأنت تعلم ما يلزمني من حقك، وما أنا عليه لك، ولن أدع ممكناً في تخليصك واستنقاذك وردك إلى أفضل ما كنت عليه إلا أتيته وبلغته وقضيت حقك به. ولم يذكر محمد بن عبدون بشيء، فلما وقفا على ذلك لطم محمد بن عبدون على رأسه وقال: قتلني والله. وكان الأمر كما قال: ولم يدع ابن الفرات المنافسة في الرئاسة والغيرة على الوزارة حتى نفي علي بن عيسى إلى مكة. وحدث عبد الرحمن قال: لما ثقل علي أبي الحسن بن الفرات أمر سوسن وبلغه عنه عمله على الإيقاع به وشروعه لمحمد بن عبدون في الوزارة، خوف المقتدر
(1/155)
________________________________________
بالله منه، وأعلمه أنه على الوثوب به، وأنه كان على تقديم عزمه منه إلى أن سأله أنوش بن الحرهان كاتب سوسن أن يؤخر ذلك في هذا اليوم لعيد له، ووقع الاتفاق بيهم على الإيقاع بك وبي وبجماعة معنا في يوم الثلاثاء المقبل بعد يوم الموكب، وقرر ذلك في نفسه وحققه عنده، فلما كان يوم الاثنين لثمان بقين من رجب ركب المقتدر بالله إلى الميدان، ومعه تكين الخاصة ونازوك وغريب الجيلي ورائق وياقوت، وقد ضمن ابن الفرات لتكين أن يقلده مصر إن ساعده على أمر سوسن. وأحس سوسن بما يدبر عليه ويراد به، فتحرز في أمره ودخل الميدان ولم ينزل عن فرسه، ولعب مع الخليفة ساعة بالصولجان، ثم مضى إلى صافي الحرمي يعوده من شيء وجده، وتبعه مؤنس الخازن والغلمان، فلما نزل إلى صافي وكان في آخر الميدان قبض عليه تكين الخاصة.
قال عبد الرحمن: حدثني تكين الخاصة عند اجتماعنا بمصر، وقد جرى ذكر سوسن وتجبره وعتوه قال: فلما مضى إلى صافي بادرت كأني معه، ونزل فمددت يدي إلى منطقته كأنني أتوكأ عليها، فجذبتها، وأخرجت سكيناً معي فقطعتها، وحصلت مع السيف في يدي، وسلبه الغلمان ما كان عليه، ودفعناه حتى أدخلناه باب الميدان، فعند ذلك بكى، وحمل الخدم السلاح، ووكل بداره، واجتمع من كان خلفه وصار في حيزه من الغمان، فخرج إليهم خادم وقال: مولانا يقول لكم: أنتم غلماني وخاصتي، وهذا عبدي ومملوكي، وقد بلغني عنه ما أريد موافقته عليه، وأنا لكم بحيث تحبون. فدعوا وقالوا: الأمر لمولانا. وتفرقوا ولم يعد منهم قول بعد ذلك. وقرر ابن الفرات في نفس المقتدر بالله دخول محمد بن عبدون وعلي بن عيسى
(1/156)
________________________________________
مع سوسن فيما كان عمل عليه وهم به. فأما محمد بن عبدون فإنه أنفذ من حمله من الأهواز إلى الحضرة. قال عبد الرحمن: فحدثني من سمع ابن الفرات يقول له: والله لأقتلنك. وابن عبدون يقول: يكفي الله ويعفو الوزير. فقال: لا والله. ما فيها إلا التلف وحسبنا الله ونعم الوكيل. وحبس أياماً يسيرة وأخرج ميتاً وطرح في مشرعة الساج عند داره، ووجد عند غسله وقد أكل لحم ذراعية فما طالت الأيام حتى أصاب من ساعد ابن الفرات على أمره مثل ذلك. فأما أبو الحسن علي بن عيسى فكتب بحمله إلى الكوفة، وأقام بها إلى وقت الموسم، وخرج إلى مكة وقد وكل به حبشي بن إسحاق السجان.
وحدث أبو علي عبد الرحمن قال: وزر أبو الحسن بن الفرات، وارتفاع ضيعته وضيعة أخيه أبي العباس نحو مائتي ألف دينار، وصرف بعد أربعة وعشرين شهراً. وقد بلغ ثمانمائة ألف دينار وكسراً. وذلك بما استضافه واجتذبه من الأملاك والضياع. ووجد له أبو علي الخاقاني عند تقلده بعده في الدواوين والودائع نحو ثلاثة آلاف ألف دينار أكثرها محمول من بيت مال الخاصة الذي بنى له المعتضد بالله، وكان قلعة قد صب في أنقالها الرصاص. ومات وقد اجتمع فيه تسعة آلاف ألف دينار وكسر، وكان نذر عند بلوغ ذلك عشرة آلاف ألف دينار أن يترك عن أهل البلاد ثلث الخراج في سنة البلوغ، وأضاف المكتفي بالله إلى هذه الجملة في أيام خلافته سبعة آلاف ألف دينار حتى تكامل المبلغ ستة عشر ألف دينار وكسراً. ومات المكتفي بالله، وتفرق المال
(1/157)
________________________________________
وتمزق. وقيل: إنه وجد فيما وجد من ودائع ابن الفرات ما هو بختوم أبي خراسان فرغان الخادم خازن المعتضد على بيت مال القلعة. وذلك أن الأمر فيما كان يحول إلى حضرة المقتدر بالله ويخرج إلى مجلس العطاء زاد علي الحد. وخرج عن الضبط. قال عبد الرحمن: وقرأت توقيعاً لفاطمة القهرمانة خرج إلى ابن الفرات تقول فيه: أمر أمير المؤمنين بحمل أربعين بدرةً عيناً من بيت مال الخاصة إلى حضرته. وتوقيع ابن الفرات في آخره بامتثال المرسوم فيه، وكانت لهذا التوقيع نظائر كثيرة، وابن الفرات يحتال لنفسه في أمثال ذلك، حتى قيل إنه أخذ من بيت مال القلعة ألف ألف دينار. وأطلق منها لعبد الله بن جبير مائة ألف دينار، ولأصطفن بن يعقوب كاتب بيت مال الخاصة وخليفة دانيال بن عيسى كاتب مؤنس الخادم الملقب بالمظفر مائة ألف دينار. قال عبد الرحمن فحدثني أبو الحسن سعيد بن عمرون سنجلا أن رزق ابن جبير لما كان يكتب وهو بين يدي ابن الفرات في مجلس من مجالس ديوان الخراج خمسة وعشرون ديناراً. فلما تقلد ابن الفرات الوزارة بلغ به مائة دينار وأن رزق يعقوب بن اصطفن كان في أيام مؤنس وهو ينوب عن دانيال بن عيسى عشرة دنانير. ثم بلغ أربعين ديناراً في وزارة ابن الفرات الثانية، فظهر لهما من الحال ما قدر فيها ألف ألف دينار.
وحكى عبد الرحمن بن هشام بن عبد الله الملقب بأبي قيراط كاتب ابن الفرات على ديوان بيت المال أنه قال له في بعض الأيام سراً: قد وقفت على أنه قد اقتطع من بيت مال الخاصة ألف ألف دينار. وحمله ما حول منه. فعلم من قوله اطلاعه
(1/158)
________________________________________
على القصة، وقال له: لن تعدم نصيبك يا أبا القاسم. وأوصل إليه في أوقات مائة ألف دينار عظمت بها حاله، وابتاع منها ضياعاً جليلة بنواحي واسط، حتى كتب إلى القاهر بالله يخطب وزارته فدفع رقعته إلى أبي العباس الخصيبي وسأله عنه، فقال: هذا رجل جاهل أخذ من المال في أيام ابن الفرات كذا وكذا المبلغ الذي ذكرناه وأنا أستخرجه منه. وانصرف ووقع إليه: قد رسم تقليدك بعض الدواوين فاحضر. فقدر ان رقعته قد حركت أمره، وبادر فقبض عليه، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، أدى بعضها وكتب على ضيعته بباقيها ونفاه إلى الموصل.
وحدث أبو علي عبد الرحمن قال: فلما حصل أبو الحسن أخي بمكة خرجت للحج وتجديد العهد به، ووصلت إليه واجتمعت معه، وورد عليه كتاب ابن الفرات بالإذن له في الحج، لأنه كان محبوساً في داره، ممنوعاً من التصرف على إيثاره، ووافى بعد أيام أبو الحسن عبيد الله بن عيسى أخي في الرفقة الأخيرة، فسأله أخي عن شخوصه من مدينة السلام ووقته. فقال: خرجت في آخر الناس لاحتباسي على لقاء ابن الفرات ووداعه. فقال عبد الرحمن: فلما كان يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين مضيت إلى المسجد الحرام ارتفاع النهار، وصليت وطفت وسعيت وعدت إلى المسجد، وجلست عند باب السهميين، فوافاني خادم لنا أسود شيخ يقال له مقبل غلام الجدة، واستنهضني فنهضت إلى جوار المسجد، وقال لي: اعلم أن سيما الفلاني من غلمان الحجر لقيني الساعة وهو صديقي وأعلمني سراً أن ابن الفرات قد قبض عليه. فورد علي من السرور ما لم أتمالك نفسي، وبادرت
(1/159)
________________________________________
إلى أبي الحسن أخي، وهو جالس يسبح. فعرفته ما عرفني. فقال: ويحك، من أين له هذا؟ قلت: قد أخبرتك بما خبرني به، وما عنده زيادة عليه. فقال: امض إلى أبي الحسين أخيك وسله عما عنده. فمضيت إليه وحدثته. فقال: ما خلق الله لذلك أصلاً وأنا آخر من ودعه وهو جالس للمظالم على أجل حال وأنفذ أمر. فقال أبو الحسن أخي: فاقصد ابن مجاشع المنفق وسله. ففعلت، وكان قولاً وقول أبي الحسين واحداً. وأمسكنا، وشاع ذلك بمكة، وكثرت به الأراجيف. فلا والله ما كان إلا عند وصولنا إلى الحاجر راجعين حتى وافى مؤنس الورقاني صاحب السرية ليلا لتلقي الحاج. فقال: أبشروا يا معاشر الحاج، قد قبض على ابن الفرات، واتفق أن كان قريباً مني، والليل يحجر بينه وبين معرفتي، فقلت له مبادراً: ومتى كان ذلك يا مبارك؟ فقال: يوم الأربعاء السادس من ذي الحجة. فورد علي من قوله وموافقه اليوم الذي سمعت فيه ما سمعته ما عجبت منه واستطرفته، ووجدت هذا الحديث مشاكلاً حديث الرشيد في موته بطوس وانتشار خبره بمدينة السلام في يومه. والحديث ماثور مشهور. وأنشدت لأبي الحسن ابن الفرات:
معذبتي هل لي إلى الوصل حيلةٌ ... وهل لي إلى استعطاف قلبك من وجه
فلا خير في الدنيا وأنت بخيلةٌ ... ولا خير في وصلٍ يكون على كره
وقال جعفر بن حفص: مضيت قاصداً حتى رأيت أبا العباس بن الفرات وأبا الحسن أخاه ينظران في الأعمال، فنظرت إلى حفظ لأمر الدنيا لم أر مثله، ولو رآهما من تقدم من الكتاب لعلموا أنهم لم يروا مثلهما.
(1/160)
________________________________________
وذكر أبو علي الصولي قال: خرجت يوماً مع أبي العباس النوفلي من دار أبي الحسن بن الفرات مع صلاة المغرب، فخرج معنا فراشان بشمعتين، فلما نزلنا إلى السميرية دفعا الشمعتين إلى غلماننا، فرددناهما وامتنعنا من أخذهما، فقالا: قد أمرنا بأن ندفع إلى كل من يخرج من الدار عند اصفرار الشمس شمعةً. فقلنا: قد قبلناهما ووهبناهما لكما. فقالا: تريدان أن نعاقب ونصرف؟ وتركاهما ومضيا.
وحدث أبو الفضل بن الوارث قال: لما قبض على أبي الحسن بن الفرات في وزارته الأولى نظرنا فإذا هو يجري على خمسة آلاف إنسان ما بين مائة دينار في الشهر إلى خمسة دراهم، ونصف قفيز دقيقاً إلى عشرة أقفزة. وحدث أبو العباس أحمد بن العباس النوفلي وكان جليساً لبني الفرات قال: سمعت الوزير أبا الحسن قبل الوزارة يقول: ما رأيت أحداً قط في داري أو على بابي ليس لي عنده إحسان إلا كنت أشد اهتماماً بإيصال ذلك إليه منه والاحتيال له. وحكي أن أبا الحسن بن الفرات ألس يوماً للمظالم في سنة ثمان وتسعين ومائتين. فتقدم إليه خصمان في دكاكين بالكرخ. وتأملهما فقال لأحدهما: أرفعت إلى قصة في سنة اثنتين وثمانين في هذه الدكاكين؟ ثم رجع فقال له: سنك تصغر عن هذا. فقال: ذاك أبي. فقال: نعم، قد كان رفع قصةً فوقعنا له فيها. ثم وقع بإخراج رفع القصص والتوقيعات في سنة اثنتين وثمانين من الديوان. وقال للخصمين: كونا ها هنا. قال بعض من حضر المجلس: فلما خرجت
(1/161)
________________________________________
من عند الوزير أبي الحسن سمعت أحدهما يدعو له. فقلت له: ما شأنك؟ قال: لما سمع خصمي بهذا فر وعلم أن التوقيع كان بتسليم الدكاكين إلى أبي.
وقال الحسين الخادم المعروف بالمخلدي: سمعت خفيفاً لسمرقندي الحاجب يقول للمكتفي بالله: الخليفة الماضي لم يستغن عن ابني الفرات ووزيره عبيد الله ابن سليمان، كيف تستغني أنت عنهما ووزيرك القاسم؟ قال القاضي أبو علي التنوخي: أنشدني أبو الحسين علي بن هشام لنفسه لما قتل أبو الحسن بن الفرات:
فرات غاض من آل الفرات ... ففاض عليه دمع المكرمات
سماءٌ غودرت في بطن أرضٍ ... وبحر غاض في بعض الفلاة
عسى الأيام آخذةً بثأرٍ ... فتأخذ لي بثأر المأثرات
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسين علي بن هشام قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات يتحدث في مجلسه قال: كنا بعد وفاة أبينا وقبل تصرفنا مع السلطان نقدم إلى بغداد من سر من رأى فنقيم بها المدة بعد المدة، ونتفرج ثم نعود، وننزل إذا وردنا شارع عمرون بن مسعدة بالجانب الغربي، فبكرنا يوماً نريد بستاناً، فإذا بخالد الكاتب والصبيان يولعون به، وقد اختلط وهو يرجم ويشتم، ففرقناهم عنه، ومنعناهم منه، ورفقنا به، وسألناه أن يصحبنا وأنزلنا أحد غلماننا من مركوبه وأركبناه، وحملناه إلى البستان. فلما أكل وسكن وجدناه متماسك العقل، بخلاف ما رأيناه عليه، وظنناه به، وسمعناه عنه، فقلنا له:
(1/162)
________________________________________
ما الذي يلحقك؟ فقال: أكثر آفتي هؤلاء الصبيان فإنهم يزيدون علي حتى أعدم بقية عقلي وأصير إلى ما شاهدتموه مني. وأخذ ينشدنا لنفسه، ويورد الحسن من شعره. وطاب لنا يومنا معه. وأحب أخي أن يمتحنه في قول الشعر، وهل هو على ما كان أم قد اختل، فقال له: أريد أن تعمل شيئاً في الفراق الساعة، فأخذ الدواة وفكر وقال:
عيني أكنت عليك مدّعياً ... أم حين أزمع بينهم خنت
إن كنت فيما قلت صادقةً ... فعلى فراقهم ألا بنت
وحدث محدث عمن حضر مجلس أبي الحسن بن الفرات في يوم من أيام نظره أن نسوةً رفعن إليه قصةً يشكون فيها رقة أحوالهن، وانتسبن إلى أنهن بنات ابن رستم، فقدر أنه ابن رستم كاتب كان بسر من رأى، ووقع بأن يجري عليهن دقيق ودراهم في كل شهر. فلما انصرفن قال له أحد الكتاب: ليس هؤلاء النسوة بنات ابن رستم الذي أشار الوزير إليه، وإنما هن بنات ابن رستم الذي كان مع بغا الشرابي. فقال: ليكن من كن فقد أخذن رزقهن، وإن حضر أولئك أجرينا لهن أيضاً وأحسنا إليهن.
وحدث أبو الحسين أحمد بن محمد بن ميمون قال: كنت بحضرة أبي الحسن ابن الفرات في بعض العشايا، فقط الفراش الشمعة التي كانت بين يديه قطاً استعجل فيه، فسقط منها شرار قرب منه، وخاف الفراش فمضى مبادراً، وتبعه خادم كان يرؤس على حواشيه لينكر عليه ويضربه، فصاح الوزير به وقال له: عد إلى مكانك، أتراه البائس تعمدني بما فعل واعتقد أن يحرقني؟ وإنما اتفق ما اتفق على سبيل الغلط.
(1/163)
________________________________________
وحدث أبو الحسين قال: عرض أبو أحمد المحسن على أبيه عملاً من أعمال المغرب الذي كان يتولى ديوانه، وقد أخطأ المحرر له فكتب سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وأراد سنة ثلاث وثلاثمائة. فقال الوزير أبو الحسن: هذا غلط وكان يجب أن يكون سنة ثلاث وثلاثمائة. فأظهر المحسن الغيظ على الكاتب، فقال له الوزير: كأني بك عند خروج وقد استدعيته ووبخته وعنفته. فبحياتي عليك إن فعلت وعامل كتابك وأصحابك بفضل الحلم وحسن العشرة ولطف القول فإن الناس لا يخلون من السهو. وكانت عادته جاريةً مع كتابه إذا وقف لهم على خطأ فيما يعملونه أن يواقف صاحبه عليه من غير إنكار ولا تهجين، ثم يسلم العلم إليه ليتولى إصلاحه، وإن طعن أحدهم على صاحبه في عمله أنكر قوله ورده وسهل على المطئ خطأه وأقام فيه عذره. وحدث محدث أن أحمد بن أيوب صاحب خبره رفع إليه يذكر أنه كان له في وزارته الأولى سبعة دنانير برسم النوبة. فلما تقلد الخاقاني قطعها وجعلها لرجل أسماه وسأله ردها عليه، فوقع على ظهر رقعته: أما إسقاط الرجل المثبت فلا أراه ولا أستجيزه، ولكن اطلب رسم رجل ساقط بأكثر من هذا الرزق لأوقع لك به، وقد بلغني أن هذا البائس قد التزم على ما أثبت باسمه جملةً. ثم وقع لأحمد بن أيوب بمثل ما كان له. وعرض عليه كتاب من صاحب ديوان الجيش أو صاحب الإعطاء يذكر فيه أنه قد توفر من جاري جماعة من المشايخ والزمني ومن يجري أمره هذا
(1/164)
________________________________________
المجري أسقطوا نحو خمسمائة دينار، فوقع على ظهره: إن كان هؤلاء أسنوا وأصيبوا في طاعة السلطان وخدمته فليمض أمرهم، أو كانوا بدلاء ودخلاء أقيموا مقام غيرهم فليصدق عن صورتهم. ثم أتبع ذلك بأن قال: أمض أمر جماعتهم، ولا تسقط أحداً منهم فإنني أكره أن أقطع معيشة إنسان.
وعمل قوم من الكتاب لأحمد بن العباس بن عيسى بن شيخ وكان رجلاً كبيراً مغفلاً توقيعاً بتضمينه آمد وجميع ما كان إلى عيسى بن شيخ وتقلد. ونقل غلمانه من برسم الأحرار إلى رسم المماليك، وزيادته في أرزاقه وأرزاق من معه، وضم جماعة من الرجال إليه، وصار الشيخ إلى ديوان المغرب، وتنجز الكتب وأخرجت له الخروج، وبينما هو في ذلك شك أبو أحمد المحسن في بعض ما عرض عليه، واستثبت أباه فيه، فأنكره واستعظم الإقدام عليه بمثله، وأمر بإحضار الشيخ. فلما حضر غلظ عليه في القول وقال له: ما حملك على هذا القول؟. فقال: خدمتك وأن أظهر كفايتي عندك، وأراك قد استكثرت لي هذا العمل، وهذا بلد لم نزل نتولاه، وقد تقلده أخي وابن أخي وما أنا بدونهما. وأقبل يخاطبه مخاطبة المحاج المناظر لا الجاني المحاذر. فضحك منه عندما سمعه من قوله. وعلم أنه استغفل واحتيل عليه. فقال له: عرفني من أخرج هذه التوقيعات لك، فأقر على جماعة من الكتاب، أحضر بعضهم وحبسوا أياماً ثم أطلقوا، ولم يعرض للشيخ ولا لحقه منه مكروه. وحدث محدث أن بنات محمد بن سعيد الأزرق الأنباري الكاتب الذي
(1/165)
________________________________________
كان يتقلد أمر الجيش وقبض عليه مع أصحاب عبد الله بن المعتز، ومات في حبس مؤنس رفعن إلى أبي الحسن بن الفرات أن وكيلاً كان لأبيهن غلبهن على ماله وأنكرهن إياه، وابتاع عقارات ومستغلات به. فنظر إليهن نظراً رق فيه لهن، ودمعت عيناه عطفاً عليهن ورأفة بهن، وتقدم بإحضار الوكيل. فلما حضر خاطبه على ما ادعينه عليه، فأنكر أن يكون محمد بن سعيد خلف في يده مالاً، وجحد ذلك جحداً شديداً. وأمر الوزير أحد أصحابه بالمسألة عن حال الرجل وما كان يتصرف فيه قبل أن يصحب محمد بن سعيد، وما تصرف فيه بعده، وإعلامه ذلك على صحة. فامتثل صاحبه ما رسمه له، وعاد وعرفه أن هذا الوكيل ما تصرف قبل محمد بن سعيد ولا معه ولا بعده تصرفاً يقتضي كسبه الذي في يده. فأعاد إحضاره، ولم يزل يراوضه إلى أن اعترف عنده ببعض ما ادعي عليه، وأشهد لبنات محمد بن سعيد بشيء من العقار الذي كان ابتاعه. فأحياهن بما استخلصه لهن، وسترهن بما أعاده إليهن.
وذكر أبو القاسم بن زنجي أن أبا الحسن بن الفرات خوطب في معنى أسماء بنت عيسى أخت أبي الحسن علي بن عيسى وزوجة علي بن محمد بن داود، وعرف رقة حالها واختلال أمرها، فرد عليها الضيعة المقبوضة عن محمد بن داود بكوثي ونهر درقيط، وأجرى عليها خمسمائة درهم في كل شهر من ماله. فلما تقلد أبو الحسن علي بن عيسى أخوها منعها ذلك. ووجدت ثبتاً بما كان أبو الحسن بن الفرات يخاطب به السيدة والأمراء وأولاد الخلفاء والولاة والكبراء وأصحاب الأطراف وعمال الأعمال وسائر الطبقات في كتبه توقيعاً به إليهم أيام وزراته الثالثة. وقد تغيرت الرسوم ووهت الأمور
(1/166)
________________________________________
ووقع التسمح منه فيما كان من قبل يضايق فيه، فأوردته متعجباً ومعجباً من التفاوت الشديد بين ما كان وبين ما نحن عليه الآن، فإننا اليوم في انخراق قد زاد وأسرف، وتمادى وما وقف، حتى أن الملوك ومن بعدهم من الوزراء قد أنفوا من ذكرهم بسيدنا، واستقلوا خطابهم بمولانا، فعدل الناس بأولئك إلى الحضرة الشريفة، والحضرة العالية والحضرة السامية، وبالوزراء إلى مثل ذلك. ثم كنوا عن الخلفاء بالموقف الأشرف المقدس، وذكروه بالمقام الأطهر النبوي، ونقلوا الملك إلى الأشرف والأعظم. وقالوا في الدعاء: نوره الله ونصره الله: إلى ما بعد ذلك من المغالاة والمبالغة، وانتهت هذه الحال إلى أن شاركهم فيها الأكابر من أصحاب الأطراف، ووقفوا بالوزارة على الحضرة السامية. ثم ألحقوا بها: المظفرة والمنصورة، مع النسبة إلى الألقاب كالوزيرية والعميدية والكمالية، وما أرى هذا المجرى، وداخلهم في ذلك من يتلوهم من خلفائهم، وأصحاب الجيوش وأمراء العرب والأكراد. واتسع هذا الباب، فدخل فيه كل من أراد من غير احتشام ولا ارتقاب. ولا أعرف معنى للموقف ولا الحضرة، لأنه إشارة إلى غير شخص متمثل، وعبارة عن غير محسوس متشكل، وما الذي يتعلق بالمخاطب من ذلك؟ أم أي موضع للدعاء إذا كان لما لاحظ له فيه، ولا عائدة عليه منه؟ ولقد استخير من هذا الأمر ما لا جمال فيه، ولا جلالة ولا عظم ولا فخامة. وإنما يشار إلى الحضرة والموقف كما يشار إلى الباب الذي يطرقه الزوار والوفود، والمجلس الذي يكون فيه المثول والقعود والمقام الذي يكون فيه الحضور والوقوف. فأما الخلفاء فذكرهم بالسادة وأمير المؤمنين التي لا يشاركون فيها، ولا يجاذبون عليها أولى وأعلى من هذه الفقاقيع التي لا تفيد معنى. وأما الملوك والوزراء فذكرهم بالسيادة والملك والوزارة وما هو جار ذلك المجرى
(1/167)
________________________________________
كان أحرى ولخلصوا من المشاركة الواقعة، وحصلت لهم منزلة الانفراد بهذه السمة الرائعة، وإنما تبين الرتب إذا تفاوتت، وتظهر المنازل إذا تباينت، وأما أن يبتدر الرئيس والمرؤوس بحالة واحدة، ويجروا في طريقة جامعة، فإن ذلك يدعو إلى التساوي ويخلط الأدون بالعالي، ولو أعيد الوقوف بالخلفاء على: سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، وأفراد الملوك بمولانا الملك، واقتصر بالوزراء على: سيدنا الوزير، واتبع في ذلك ما كان معهوداً من قبل، وطبق من بعدهم على حكم منازلهم، وقدر مواقعهم، لكان التمييز موجوداً، والاختلاط مفقوداً، على أنه لم يكن يعرف فيما مضى مولانا، ولا مولاي، ولا سيدين وإنما كان التكاتب والتخاطب بالدعاء فقط. ولقد بلغني أن بعض خواص المقتدر بالله رحمة الله عليه سأل أبا الحسن علي بن عيسى زيادة أحد العمال المتقدمين في خطابه، وكان يخاطبه: بأعزك الله، فامتنع عليه امتناعاً شديداً، وعاوده حتى وعده. وكتب إلى الرجل: بأعزك الله. ممدود ما بين العين والزاي فقال ألم يعدني الوزير بالزيادة؟ قال: قد فعلت. قال: في أي شيء؟. قال: كنت أجمع بين العين والزاي. وقد مددت بينهما مدةً وهي الزيادة. فكان القوم على هذه الصورة من المناقشة ليبين الترتيب فيها ويلوح التطبيق في مجاريها. فأما عصرنا هذا فقد اختلفت الرسوم وانقلبت الأعيان فيه، وقلت المراعاة لما كانت موكولة به، وصارت ملوكه المدبرون للأمر يخاطبون وزراءهم بمولاي الأجل وزير الوزراء أدام الله علوه.
(1/168)
________________________________________
ومن بعدهم من أصحاب الجيوش وأمراء العرب والأكراد، وخلفاء الوزراء ومن جرى مجراهم بالأجل. على الكناية. ويجمعون في الأجل بين وجوه الكتاب والأتراك والحواشي وحتى القضاة والشهود. فأما الألقاب فقد خرجت عما يحاط به ويوصف أو يأتي عليه حصر، وصار لقب الأصغر أعظم من لقب الأكبر. ومن أنموذج هذا الإفراط والاختلاط أنني كنت أشاهد الوزراء في آخر أيام عضد الدولة، وأيام صمصام الدولة يذكرون عنهما بأبي فلان فلان بن فلان أدام الله عزه. وأراهم وأرى خلفاءهم وأصحاب الدواوين ونطراءهم وزعماء الجيوش ومن يتلوهم من القواد وخواص الناس من سائر الأصناف ينزلون من دوابهم في الباب العام من دار المملكة في أماكن ما يقنع اليوم بما كان الوزراء إذ ذاك منها كاتب طائفة من الأتراك، وكان البوابون يدعون بدابة الوزير غلام الأستاذ، مطلقاً بغير كنية. ومن بعده بالكني الذين يفضلون في مراتب أربابها بإعلاء الصوت وخفضه. وبعد المدى وقربه، ويقتصرون في الأقل الأدنى على اللفظ المدغم الذي لا يرفع ولا يكاد يسمع، هذا فيمن يتميز أدنى تميز. فأما الجمهور الأكبر فلا يفعل معهم ذلك، وأوسط الكتاب والحواشي يدعى بدابته اليوم بغلام الرئيس الأجل، والأجل مع اللقب إن كان، مع غير تمييز ولا ترتيب. لا جرم أن الرتب قد نزلت لما تساوت، وسقطت لما توازت. ولم يبق لها طلاوة يشار إليها ولا حلاوة يحافظ عليها. حتى لقد بلغني عن مولانا الخليفة القائم بأمر الله أطال الله بقاءه أنه قال: لم تبق رتبة لمستحق.
(1/169)
________________________________________
ومن أطرف طريف أن السلطان أطال الله بقاءه يذكر القضاة والشهود بالأجل والجليل. وقاضي القضاة يوقع إليهم بما يقول فيه: أبو فلان فلان بن فلان أيده الله يفعل كذا. ومعلوم أن ذلك مما يتفاوت ويتباين ولا يتناسب، وعهد وأنا أوقع في قصص المتظلمين في أيام صمصام الدولة عن أبي إسحاق جدي في ديوان الانشاء إلى قضاة الحضرة الناظرين فيها: أبو فلان فلان بن فلان القاضي أعزه الله، والقاضي مؤخر، وربما تقدم لمن تميز. وإلى قضاة النواحي: فلان بن فلان الحاكم، بغير كنية ولا دعاء ولا ذكر قضاء. وأما المناشير فلم تجر العادة فيها بذكر أحد بكنية ولا دعاء. وقد فعل في زماننا ذلك على الزيادة والتناهي. والعلة في ألا يذكر الناس بالكنية والدعاء أن ذكر السلطان يكون فيها بألقابه خاصةً من دون الدعاء، فلا يجوز أن يقع التميز عنه. فظاهر قولنا: هذا كتاب من فلان لفلان، إخبار عن الكتاب ولذلك يقال في الكتب عن الخلفاء: من عبد الله أمير المؤمنين إلى فلان، إما بلقب ونية بغير لقب أو باسم دون الكنية واللقب. ولا يدعى للمكتوب عنه حتى إن استتم التصدير استوقف الدعاء بعد قولهم: أما بعد. فقيل: أما بعد، أطال الله بقاءك وأمتع بك. وما شاكل ذلك وما كان الأصل. فما تغير عن الرسوم الصحيحة واستوقف من هذه الفقاقيع الطريفة إلا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان. فإن القادر بالله صلوات الله عليه منعه
(1/170)
________________________________________
بعد فخر الملك أبي غالب من مخاطبة أحد من الوزراء بمولانا. فلما ورد أبو محمد بن سهلان إلى بغداد كتب إليه: بسيدنا. فأنكر أبو محمد ذلك، ورمى بالرقعة وقال: يزيدني وينقصني عما كان يخاطب به أبا غالب، لا أرضى بهذا ولا أقبله ولا أقرأ له رقعة به. ومضت مدة فكتب إليه: بالحضرة العالية الوزيرية على ما يكتب الآن فاستنكر ذلك وقال: هذا فرار من: مولانا. ولا أقنع به. فقيل له: هذا أجل وأعظم، وأعلى وأفخم، وما منعك من: مولانا. إلا لأن الخليفة حظر عليه خطاب أحد بمولانا سواه. فقبل هذا القول وتصور زيادةً به لا نقيصةً. فاقتفى الناس أثره فيه. ثم أخرج أبو الحسن في ذكر الخليفة: الحضرة المقدسة النبوية. اختراعاً جعله قربةً فصار سنةً، وأشرك به: السدة النبوية. ومضى من هذا الفن ما خرق به العرف والعادة، وأسقط معه القوانين القديمة المعهودة، وتجاوز هذه المنزلة إلى أن صارت كتابته عن الخليفة بالخدمة، وتصرف في ذلك حتى قال: قالت الخدمة، وفعلت الخدمة، وسئلت الخدمة. حتى رأيت بخط أبي الحسن بن أبي الشوارب القاضي في ترجمة رقعة: خادم الخدمة الشريفة فلان بن فلان. ومضى من يعرف الأصول، ونشأ من لم يعرف ولم يسمع إلا بهذه الفروع، فخالها الصحيح، وتعدى الأمر من حال إلى حال، في الباطل والانتقال، حتى أفضى هذا إلى الاختلال والانحلال.
(1/171)
________________________________________
المخاطبات عن أبي الحسن بن الفرات
أولاد المقتدر بالله: أطال الله بقاء الأمير. والدعاء عدة سطور. والترجمة: عبده، علي بن محمد، بغير كنية، السيدة أم المقتدر بالله: مثل ذلك، الخالة: أطال الله بقاء الخالة. والدعاء عدة سطور. والترجمة: للخالة أطال الله بقاءها. من علي بن محمد، أولاد المعتضد بالله والمكتفي بالله: أطال الله بقاءك يا سيدي. والدعاء عدة سطور والترجمة: لأبي فلان، بأجل دعاء، من علي بن محمد. ثمل وزيدان القهرمانتان: أطال الله بقاءك. ويتمه بثلاثة سطور دعاء. والعنوان: لثمل أو لزيدان القهرمانة، من أبي الحسن. ثم زاد زيدان خاصة: يا أختي. نصر بن أحمد صاحب خراسان، وثلاثة أسطر هي: أطال الله بقاءك، وأدام عزك وتأييدك، وسعادتك وكرامتك، وسلامتك وعافيتك، وأتم نعمته عليك، وزاد في إحسانه إليك، وفضله لديك، وجميل مواهبه عندك، وجزيل قسمه لك، وجعلني من كل سوء ومكروه فداك، وقدمني قبلك. والفصول: أدام الله عزك. وفي آخر الكتاب: فإن رأيت ... والعنوان: لأبي فلان، أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده وسعادته وسلامته ونعمته. من علي بن محمد بلا كنية. مؤنس المظفر: أطال الله بقاءك، وأعزك وأكرمك، وأتم نعمته وإحسانه
(1/172)
________________________________________
إليك. العنوان: لأبي الحسن أطال الله بقاءه، من أبي الحسن. أبو القاسم نصر الحاجب وأبو القاسم يوسف بن داود ابن أبي الساج لما جمعت له أعمال أرمينية وأذربيجان والري وقزوين وزنجان وأبهر.
أطال الله بقاءك، وأدام عزك، وأكرمك، وأتم نعمته عليك وأدامها لك والعنوان: لأبي القاسم أدام الله عزه نصر الحاجب مولى أمير المؤمنين، من أبي الحسن.
شفيع اللؤلؤي وشفيع المقتدري وبشر الشرابي وبدر الحرمي ومفلح الأسود وهارون بن غريب الخال وأحمد بن بدر العم ونازوك وياقوت: أعزك الله وأطال بقاءك، وأكرمك وأتم نعمته عليك. العنوان: لأبي فلان أعزه الله. من أبي الحسن. فلان مولى أمير المؤمنين، أمير الشام وأجنادها، والمسمعي، ومن يتقلد فارس وكرمان، وصيف البكتمري وهو يتقلد جند قنسرين والعواصم وأنطاكية ونجح الطولوني. أمير أصبهان، ومن يتقلد الموصل وقردي وبزبدي وديار ربيعة: أعزك الله ومد في عمرك وأتم نعمته عليك وإحسانه إليك. العنوان: لأبي فلان أدام الله كرامته. من يتقلد ديار ربيعة وديار مضر مفرداً، وأمراء الثغور الشامية، والثغور الجزرية، محمد بن أحمد بن بدر العم، وأمير واسط، محمد بن عبد الله الفارقي، أمير البصرة، وأحمد بن هلال صاحب عمان، أمير همذان وماه البصرة وماه الكوفة والإيغارين، غريب الجيلي، وغريب الكبير، وأبناء رائق وفريد إذا لم يكونوا ولاة:
(1/173)
________________________________________
مد الله في عمرك وأكرمك، وأتم نعمته عليك وإحسانه إليك. العنوان: لأبي فلان أكرمه الله. أمير الرحبة وهيت وعاملها، وعمال المشرق، وأمير ماسبذان، ومهرجان نقذق، أمير الطيب وقرقوب وجوخي، المسمعي صاحب أيذج والبنيان وواسط والزموم: أكرمك الله وابقاك، وأتم نعمته عليك، وأدامها لك. العنوان: لأبي فلان أعزه الله. عبد الله بن حمدان، وجعفر بن ورقاء، ومن يجري مجراها إذا لم يكونوا ولاة: مد الله في عمرك، وأتم نعمته عليك وإحسانه إليك. العنوان: لأبي فلان أدام الله كرامته. ولباقي القواد: أكرمه الله. صاحب اليمن والتيز ومكران، والمتقلد الكوفة وأعمالها: أكرمك الله ومد في عمرك، وأتم نعمته عليك وأدامها لك. العنوان: لأبي فلان أكرمه الله.
أبو أحمد المحسن ابن الوزير: أطال الله بقاءك. وتمام سطرين. العنوان: لأبي أحمد أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده وسعادته. وباقي الولد بمثل ما يدعى لمؤنس إلا ابن دولة الأصغر فإنه كان يكتب على العنوان: لأبي علي أبقاه الله طويلاً في عافية وسلامة. وكذلك كان يكتب عبيد الله بن سليمان إلى القاسم ابنه إلى أن استخلفه على الوزارة.
(1/174)
________________________________________
أصحاب الدواوين
ثلاثة طبقات الطبقة الأولى: مثل شفيع المقتدري وطبقته.
الطبقة الثانية: مثل المسمعي وطبقته.
الطبقة الثالثة: مثل عامر ديار ربيعة.

العمال
عامل مصر مثل أميرها، عامل الشام مثل أميرها، عامل فارس مثل أميرها، عامل أصفهان مثل أميرها، عامل البصرة مثل أميرها، عامل الثغور مثل أميرها، عامل الأهواز إذا اجتمعت أعمالها مثل عامل فارس، عامل الري مثل عامل أصفهان.
فأما حامد بن العباس فكان يجري في الدعاء مجرى أمير الشام وعاملها، إلى أن أرفق ابن الحواري وأم موسى القهرمانة وأصحاب الدواوين مالاً جليلاً فألحق بصاحب مصر، ودعاؤه: أدام الله عزك وأطال بقاءك وأكرمك وأتم نعمته عليك وإحسانه إليك. العنوان: لأبي محمد أطال الله عزه حامد بن العباس. من أبي الحسن

القضاة
أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، وأبو عمر محمد بن يوسف: أعزك الله وأكرمك، وأتم نعمته عليك وأدامها لك. والعنوان: لأبي فلان أدام الله كرامته فلان بن فلان، من أبي الحسن.
(1/175)
________________________________________
أبو محمد الحسن بن عبد الله بن أبي الشوارب، وأبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي: مد الله في عمرك وأدام كرامتك، وأتم نعمته عليك وإحسانه إليك. العنوان: لأبي فلان أدام الله كرامته فلان بن فلان. من أبي الحسن. أبو عبد الله بن أبي موسى وأبو الحسين عمر بن الحسن الأشناني وإليهما إذ ذاك القضاة في نواح جليلة وهما مقيمان بالحضرة وأبو طالب بن البهلول قاضي مصر إذا كان واحداً، والقاضي بفارس، والقاضي بالأهواز إذا اجتمعت له أعمالها، والقاضي بأصبهان والقاضي بالري: مد الله في عمرك وأكرمك وأتم نعمته عليك وأدامها لك. العنوان: لأبي فلان، أكرمه الله فلان بن فلان. من أبي الحسن. قاضي الجبل سوي الري وقاضي مهرجا نقذق وماسبذان وقاضي واسط ومن يجري مجراهم: أكرمك الله وأبقاك وأتم نعمته عليك وأدامها لك. العنوان: لأبي فلان أبقاه الله فلان بن فلان. فأما قضاة طساسيج السواد إذا فرقت طسوجاً طسوجاً: حفظك الله وأبقاك وأمتع بك. والعنوان: لأبي فلان حفظه الله. ومن الجانب الآخر: فلان بن فلان.
أصحاب المظالم والحسبة وأسواق الرقيق والعيار والمواريث على طبقتين. الطبقة الأولى: من يتولى مصر والأهواز أو فارس أو الري وأعمالهما وأصبهان، وخطابهم: أكرمك الله وابقاك، وأتم نعمته عليك وأدامها لك. والعنوان: لأبي فلان، أبقاه الله فلان بن فلان من أبي الحسن.
الطبقة الثانية: باقي المحتسبة والمطالبين: حفظك الله تعالى وأمتع بك.
عامل طساسيج السواد، وعامل المستغلات بالحضرة، وعامل الجوالي بها، وعامل سوق الغنم، وعامل دار البطيخ والقطن: مثل المحتسبة، إلا ابن بطحا محتسب الحضرة وسوق الرقيق خاصةً فإنه يجري مجرى الطبقة الأولى:
(1/176)
________________________________________
الذراع والمهندسون إذا اجتمع لواحد منهم أعمال كثيرة فخطابهم: حفظك الله وأبقاك، وأمتع بك. وإذا كانوا ذا عمل واحد: حفظك الله وعافاك. والعنوان: لأبي فلان أكرمه الله. ويبيض الجانب الآخر. المستحثون؛ يدعى لهم مثل ما يدعى للذراع الجليل. التجار المبتاعون للغلات: عافانا الله وإياك من السوء. والعنوان: إلى فلان ابن فلان، بغير كنيه. المنفقون في الإعطاء إذا جمعت للواحد منهم أعمال مصر أو أعمال الشام كلها أو الأهواز أو فارس أو الري أو الجبل أو أصفهان فخطابهم: أكرمك الله وأبقاك، وأتم نعمته عليك وأدامها لك. والعنوان: لأبي فلان أبقاه الله فلان بن فلان. من أبي الحسن. وإذا كان إليهم ما دون ذلك: فأبقاك الله وحفظك وأتم نعمته عليك. والعنوان: لأبي فلان حفظه الله، فلان بن فلان، من الجانب الآخر. يوسف بن فنحاس، وهارون بن عمران وزكريا بن يوحنا وجهابذة الحضرة، يوقع إليهم توقيع: أبقاك الله. وعلى رأسه: أبو فلان فلان بن فلان أبقاه الله.
صاحب ديوان البريد والخرائط، مثل الطبقة الثالثة من كتاب الدواوين، وإذا تقلد البريد على الوزير وأصحاب الدواوين قائد أو خادم، وانفرد بذلك دون غيره مما هو أجل منه، كوتب: أعزك الله وأطال بقاءك وأكرمك، وأتم نعمته عليك وإحسانه إليك.
(1/177)
________________________________________
فأما أبو مروان عبد الملك بن محمد بن عبد الملك الزيات الخرائطي فكان يتولى ديوان الخرائط المسمى ديوان البريد وحده ثلاثين سنة، وكان يكاتب: مد الله في عمرك، وأكرمك، وأتم نعمته عليك، وأدامها لك.

أصحاب البرد وسائر النواحي
الطبقة الأولى ممن يتقلد الأعمال الجليلة: أكرمك الله، ومد في عمرك، وأتم نعمته عليك وأدامها لك. والعنوان: لأبي فلان فلان بن فلان، أكرمه الله، من أبي الحسن. والطبقة الثانية منهم: أكرمك الله وأبقاك، وأتم نعمته عليك وأدامها لك. والطبقة الثالثة: حفظك الله وأبقاك وأمتع بك. وعلى مثل ذلك يكاتب أصحاب الخرائط في النواحي. وأصحاب الوزير الذين من قبله: أبقاك الله.
وحدث أبو علي بن هبنتي القنائي قال. كان بشر بن علي كاتب حامد صديقاً لي ولأبي يعقوب أخي. فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة في الدفعة الثالثة، واستعرت الدنيا ناراً بشر ابنه المحسن، وتسلطه وتبسطه، طلب بشراً وأبا محمد بن عينونة في جملة من طلبه، وتتبعه وكبس عليه واستقصى في أمره. فأما بشر فإنه أخذ لنفسه عند القبض على حامد صاحبه بأن استتر وأخفى نفسه وشخصه. وأما ابن غينونة فإنه حصل عندي حصولاً لم أعلم أخي به خوفاً من أن يحلف فيدل عليه. واتفق أن كتب أخي إلى بشر رقعةً ضمنها كل إرجاف وفضول وما اطلع
(1/178)
________________________________________
عليه من تقرر الأمر لأبي القاسم الخاقاني وقرب تقلده إياه، وأنه قد أحكم له ما يريد منه. وأجابه بشر في تضاعيفها بما شاكل الابتداء من غير تحفظ ولا تحرز، فاختلطت الرقعة بين يدي أخي بمكاتبات وحسبانات ضيعته وغير ذلك مما لا فكر فيه.
وكتب أبو أحمد عبيد الله بن محمد أخو أبي إبراهيم موسى بن محمد وكان يتولى نصيبين إلى المحسن بما قال فيه: إن أردت ابن عينونة وعبد الرحمن بن عيسى ابن داود فهما عند ابن القنائي. فما شعر أبي وأخي في يوم الأحد النحس إلا بمريب خادم المحسن قد كبسهما في جماعة من الرجالة، وفتش جميع الدور والحجر والبيوت، ولم يبق غايةً إلا بلغها في الاستقصاء والاحتياط. فلما لم ير أحداً عدل إلى ما كان بين أيديهما من رقاع وحساب، فجمعه وحمله إلى المحسن، وفي جملته رقعة بشر المشتملة على العجائب. ورأى أخي ذلك، فمات في جلده، ولم يقصد داري أحد اكتفاءً بما جرى على دار أبي وأخي، وعلم ابن عينونة، وكان في الوقت سكران لا فضل فيه لحركة.
فحدثني أبو منصور فرخانشاه صهرنا قال: كان خبر الرقعة عندي، وقد علمت أنها حصلت في جملة ما أخذه مريب من الرقاع التي بين يدي أبي يعقوب. فأنا على مثل النار للإشفاق عليه منها، ولم أزل أمشي خلف مريب وهو متأبط لما أخذه إذا انسلت الرقعة بعينها بتفضل الله جل وعز من بين سائر الكتب والرقاع، وسقطت إلى الأرض ولم يشعر مريب بها، وأخذتها أنا وبادرت إلى مستراح وطرحتها فيه، وهدأت نفسي عند ذلك. قال أبو علي بن هبنتي: ومضى أبي وأخي مع مريب إلى المحسن، ووقف على الكتب والرقاع وقرأها، فما وجد شيئاً أنكره وخاطبهما بالجميل والاعتذار، وعرفهما السبب الذي من أجله أنفذ إليهما. وكتب
(1/179)
________________________________________
الوزير أبو الحسن أبوه ينكر عليه ما فعل، وانصرفا مكرمين، وزالت البلية المخوفة بانسلال تلك الرقعة من بين الرقاع المأخوذة، ولله الحمد والمنة.
وحدث أبو علي قال: خرج إلي في يوم من أيام وزارة أبي الحسن علي بن الفرات الأخيرة وقد ابتدأ المحسن ابنه في مصادرة الناس وقتلهم، وقتل أحمد بن حماد الموصلي وغيره سعيد وعبد الله إبنا الفرخان، وأنا في ديوانهما فقالا لي: كنا الساعة مع الوزير في أمر طريف. قلت: فما هو؟ قالا: قال لنا: عمل أبو معشر مولدي، وحكم فيه بأشياء عظيمة صحت كلها وقال: إن علي في سنة سبعين من عمري نكبةً عظيمة يكون سببها بعض ولدي وأنا في السبعين. وقد دخل هذا الفتى أعني المحسن ولده من مكاره الناس فيما نسأل الله السلامة من عاقبته. قلت لهما: فأي شيء قلتما له؟ قالا: ما قلنا له شيئاً. قلت: قد غششتماه، فإنه كان يجب أن تشيرا عليه بقبض يده وصرفه، وأن يستعمل من الخير ما يقربه إلى الله وإلى الناس. قالا: لم نجسر على أن نواجهه بهذا الرأي، ولكن أباك متمكن منه، فقل له حتى يشير عليه به. فقلت: أبي لا ينكب بنكبته، وأنتما أولى بالاشفاق عليه، وعلى نفوسكما. قال أبو علي: وكنت قد حصلت طالع وقت نظره ومولده المحسن ابنه. فجلعت أنظر فيهما وأسير الكواكب منهما حتى عرفت من ذلك يوم نكبته، وصرت إلى أبي بشر بن فرجويه قبل ذلك بخمسة عشر يوماً فذكرته له ونبهته عليه، وحذرته من أن يقع كما وقع في الدفعة الوسطى. فقال لي: ما أصنع وأنا منوط بهذه الأعمال التي ترى. وبماذا أحتج على صاحبي؟ قلت: تعالل وتأخر. قال: لا يتم لي ذلك إلا بأمره. قلت: فالله الله أن تحكي له ما عرفتك إياه شيئاً؛ فإنه يقبح مواجهته به. ولكن اذكر ما عليه الناس من
(1/180)
________________________________________
الإرجاف، وما يتحدث به من كون الاختلاط، وما جرى عليك حين أخذت من المكروه الغليظ في جسمك، وأنك تخاف أن يلحقك مثله فتتلف وتستأذنه في التعالل والتأخر. فإني ألازم الديوان مع خليفتك أبي محمد المادرائي ولا أفارقه حتى يقضي الله بما هو قاض. قال: نعم. واجتمعنا من غد فخلا معي وقال لي: جاريت الوزير ما جرى بيننا على جهته فقال لي: من قال لك هذا؟ فإنه قد صدق فيه وأصاب، ونصح لك في الرأي، لأن أبا معشر حكم في مولدي بنكبة مريخية في سنة سبعين، وهذه سنة سبعين، وقد بقي من الأيام إلى الوقت الذي قاله أبو معشر كذا وكذا يوماً؛ قلت: فلان. قال: قد سرني أن كان في هذه المنزلة من الصناعة، فاقبل ما أشار به ولا تخالفه، فأنا ماض الآن لأستتر، فالزم أنت الديوان ولا تخل به، ومن سألك عني عرفه أنني عليل حتى ننظر ما يكون. قلت: استخر الله. ثم مضى واستتر أياماً، ثم لم أشعر به إلا وقد حضر الديوان، فسألته عن سبب حضوره مع قرب المدة. قال: أرجو ألا يكون لما حكمت به وحذرت منه أصل، ومتى تطاول انقطاعي عن صاحبي لم آمن من فساده علي. فما مضت شهد الله خمسة أيام حتى قبض على ابن الفرات، وكان تقديري له أن ينكب في يوم الاثنين، فنكب في يوم الثلاثاء بعد يوم التقدير، وحصل في الحبس، وأفلت أبو بشر. فحدثني الموكل كان بابن الفرات قال: مكث أياماً كاسف البال شديد الاشفاق، حتى إذا كان يوم ضربت فيه عنقه جزع جزعاً شديداً وقال لي: ويحك، جاء الوزير اليوم؟ قلت: لا. قال: أرجو الله وأتوكل عليه. فسألته عن قصته. قال: قد حكم لي أبو معشر في مولدي أنني متى سلمت
(1/181)
________________________________________
في هذا اليوم انحسرت المحنة عني، وزالت المخافة علي، وتجددت لي حال جميلة، فأنا قلق إلى أن يتصرم النهار. فما زال على هذه الصورة حتى سمع الحركة وأصوات الرجال والغلمان. فقال لي: ما الخبر؟ قلت. الأمير نازوك قد حضر. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهبت والله. ولم يكن بأسرع من أن دخل عليه فضربت عنقه. وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: تظلم إلى ابن الفرات في وزارته رجل من أهل السواد من بعض العمال. وذكر أن ضيعته قطيعة، ورسمها قديم، وأنه قد عومل فيها على معاملة الإستان، وسأل إنصافه وإزالة الظلم عنه، وحمله على رسمه، وكتب إليه رقعة في هذا المعنى، فوقع عليها بإخراج الحال. فأخرج من ديوان السواد خرج حكي فيه: أنه رجع إلى جماعة العامل للسنة الماضية فوجد في التخريج: قد أجرى فيها البيدر الذي تظلم لأجله على معاملة الإستان. فلما عرض ذلك على أبي الحسن عرفه وجوب الحجة عليه، وأن العامل لم يتحيفه فيما فعله. وأقام على الظلامة، وأن غلته لم تقسم في السنة الماضية إلا على مقاسمة
(1/182)
________________________________________
القطائع. وكان يكثر من الحضور في أيام جلوسه للمظالم
ويعاود التظلم، ويقف له في الطريق، ويسأله تأمل أمره والتقرب إلى الله تعالى بإنصافه. فلما ألح وألحف تقدم إلى أحمد بن يزيد المدير بأن يحضره جماعة العامل لينظر فيها بنفسه. فأحضره إياها، وتأملها وتتبعها، وحسب مبلغ ما يجيء من الغلة في سائر أعمال الناحية على أن تلك الغلة جارية في معاملة الاستان ومبلغ ما يجب فيها على رسم القطائع، ووجد الحيلة قد وقعت من بعض أعداء أصحاب الضيعة في حك موضع رسمها في القطائع وإثباته في الإستان. فاستدعى صاحبها وأعلمه بالصورة، وأن الذي أراد الإساءة به وإفساد معاملته لم يحسن التأتي لذلك، لأنه اقتصر على إصلاح موضع قسمة الغلة دون تتبع مواضع الحمل، وأن رسمه صحيح لا شبهة فيه. فشكره ودعا له، وسأله الكتاب إلى العامل بإجرائه على رسمه في القطائع. فتقدم به. ثم عرفه أنه يتخوف أن يثبت في ديوان الناحية ما حمل من غلتها على غير الرسم الصحيح، وسأله التوقيع بإطلاقه له ورده عليه. فوقع له بذلك، وكان الرجل يدعو لابن الفرات ويقول: أي وزير يتفرغ لي حتى يتتبع جمل الجماعة من أولها إلى آخرها، ويحصل ارتفاع الناحية بأسرها حتى يظهر له موضع الحيلة علي؟ وكان عبيد الله بن الحسن النرسي رفع جماعته لأعمال السيب الأعلى لسنة اثنتين وثمانين ومائتين إلى ديوان الخراج، فنظر فيها أحمد بن محمد الهرلج الكاتب، وعمل لها معاملة تحصيل، فوجد بقايا المعاملة شديدة الاضطراب، فقابل بها الجماعة لم يجد فيها خطأً، فقال: لا بد أن يكون لهذا الاضطراب سبب، وتتبع مواضع الجمل التي تقتضيها معاملة التحصيل، فكان قد عقد جملة النفقات في المعاملة بألوف دنانير، وأرج النفقات التي عقد منها تلك الجملة، فعجزت ألفا وثلاثمائة دينار. وأخرج الباب إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، وكانت إليه خلافة أبي العباس أحمد بن محمد أخيه على ديوان الخراج، فأحضر أحمد بن إبراهيم بن أفلح العكبري كاتب النرسي، ووقفه على ذلك، فلم تكن له حجة فيه، وعرف النرسي ما جرى، فلام كاتبه وقال له: لا بد من أن تقف على دستور الجماعة وأقابلك عليه. وكان النرسي عاملاً كاتباً فهماً بالحساب، وتقابلا، فوجد النرسي أحمد بن إبراهيم كاتبة قد أغفل عند التحرير الاحتساب بألف وثلاثمائة دينار انصرفت في النفقة على بثق بالسيب الأعلى. فصار إلى أبي الحسن بن الفرات ووقفه على موضع السهو من الكاتب، وأعطاه رفع الداريج بالنفقة، فلم يقبل أبو الحسن ذلك منه. ثم استظهر بالرجوع إلى ما رفع من هذه الجملة إلى مجالس الأصل والجماعة والسودان، فكانت النسخة واحدةً، وقد أغفل إيراد هذه النفقة في كل منها، فألزمه المال كملاً، ولم يلتفت إلى ما أحضره إياه من رفع الداريج. وهذا حق في حكم الكتابة لا يدفع. د التظلم، ويقف له في الطريق، ويسأله تأمل أمره والتقرب إلى الله تعالى بإنصافه. فلما ألح وألحف تقدم إلى أحمد بن يزيد المدير بأن يحضره جماعة العامل لينظر فيها بنفسه. فأحضره إياها، وتأملها وتتبعها، وحسب مبلغ ما يجيء من الغلة في سائر أعمال الناحية على أن تلك الغلة جارية في معاملة الاستان ومبلغ ما يجب فيها على رسم القطائع، ووجد الحيلة قد وقعت من بعض أعداء أصحاب الضيعة في حك موضع رسمها في القطائع وإثباته في الإستان. فاستدعى صاحبها وأعلمه بالصورة، وأن الذي أراد الإساءة به وإفساد معاملته لم يحسن التأتي لذلك، لأنه اقتصر على إصلاح موضع قسمة الغلة دون تتبع مواضع الحمل، وأن رسمه صحيح لا شبهة فيه. فشكره ودعا له، وسأله الكتاب إلى العامل بإجرائه على رسمه في القطائع. فتقدم به. ثم عرفه أنه يتخوف أن يثبت في ديوان الناحية ما حمل من غلتها على غير الرسم الصحيح، وسأله التوقيع بإطلاقه له ورده عليه. فوقع له بذلك، وكان الرجل يدعو لابن الفرات ويقول: أي وزير يتفرغ لي حتى يتتبع جمل الجماعة من أولها إلى آخرها، ويحصل ارتفاع الناحية بأسرها حتى يظهر له موضع الحيلة علي؟ وكان عبيد الله بن الحسن النرسي رفع جماعته لأعمال السيب الأعلى لسنة اثنتين
(1/183)
________________________________________
وثمانين ومائتين إلى ديوان الخراج، فنظر فيها أحمد بن محمد الهرلج الكاتب، وعمل لها معاملة تحصيل، فوجد بقايا المعاملة شديدة الاضطراب، فقابل بها الجماعة لم يجد فيها خطأً، فقال: لا بد أن يكون لهذا الاضطراب سبب، وتتبع مواضع الجمل التي تقتضيها معاملة التحصيل، فكان قد عقد جملة النفقات في المعاملة بألوف دنانير، وأرج النفقات التي عقد منها تلك الجملة، فعجزت ألفا وثلاثمائة دينار. وأخرج الباب إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، وكانت إليه خلافة أبي العباس أحمد بن محمد أخيه على ديوان الخراج، فأحضر أحمد بن إبراهيم بن أفلح العكبري كاتب النرسي، ووقفه على ذلك، فلم تكن له حجة فيه، وعرف النرسي ما جرى، فلام كاتبه وقال له: لا بد من أن تقف على دستور الجماعة وأقابلك عليه. وكان النرسي عاملاً كاتباً فهماً بالحساب، وتقابلا، فوجد النرسي أحمد بن إبراهيم كاتبة قد أغفل عند التحرير الاحتساب بألف وثلاثمائة دينار انصرفت في النفقة على بثق بالسيب الأعلى. فصار إلى أبي الحسن بن الفرات ووقفه على موضع السهو من الكاتب، وأعطاه رفع الداريج بالنفقة، فلم يقبل أبو الحسن ذلك منه. ثم استظهر بالرجوع إلى ما رفع من هذه الجملة إلى مجالس الأصل والجماعة والسودان، فكانت النسخة واحدةً، وقد أغفل إيراد هذه النفقة في كل منها، فألزمه المال كملاً، ولم يلتفت إلى ما أحضره إياه من رفع الداريج. وهذا حق في حكم الكتابة لا يدفع.
(1/184)
________________________________________
وكان أبو الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل كتب إلى الوزير أبي أحمد العباس بن الحسن وهو يتولى له أعمال البصرة كتاباً عدد فيه آثاره، وذكر أنه قد عقد صدقات أراضي العرب بالبصرة لسنة ثلاث وتسعين ومائتين بمائة ألف وعشرة آلاف دينار، وأن غيره عقد ذلك لسنة اثنتين وتسعين ومائتين ستةً وتسعين ألف دينار. وأخرج الكتاب إلى ديوان الخراج، فنظر بعض كتاب المجالس فيه، ورجع إلى مواقفة أبي الحسن بن أبي البغل لسنة اثنتين وتسعين ومائتين، فوجدها مرفوعة لعشرة أشهر من هذه السنة، وقد أورد فيها من مال الصدقات نيفاً وثمانين ألف دينار. ثم كتب بعد ذلك بما ارتفع إلى وقت انقطاع العرب، فكان تتمة تسعين ألف دينار ونيف. ونظر في جماعته لسنة اثنتين وتسعين ومائتين، فكان ما عقده من ارتفاع مال الصدقة في أرض العرب مثل ذلك، واتفق ما أوجبته المواقفة وتضمنته الكتب الواردة. وأخرج في ذلك خرجاً إلى ابن الفرات. وكان ابن الفرات يقصد ابن أبي البغل، ويتبع عثراته، ويبدي مساويه، لميله كان إلى أبي الحسن علي بن عيسى وعمه أبي عبد الله محمود بن داود، ومحمد بن عبدون، وانحرافه عن ابني الفرات. فلما وقف أبو الحسن بن الفرات على ما أخرجه الكاتب. دعا بالجماعة والكتاب، وقابل على ما ذكر في الباب، فوجده صحيحاً لا شبهة فيه. والتمس من ابن عمر خازن الديوان كتاب ابن أبي البغل بالتقدير لسنة ثلاث وتسعين ومائتين وكل كتاب له يتضمن التقدير. فحمل إليه ثلاثة كتب في ذلك قد، أورد فيها آثاره، وزيادة تقدير مال الصدقة لسنة ثلاث وتسعين ومائتين على عبرتها لسنة اثنتين وتسعين ومائتين. فلما قرأ ابن الفرات الكتب أمره بتحرير الخراج وإنقاذه إلى
(1/185)
________________________________________
الوزير أبي أحمد. فلما قرأه الوزير أمر بمطالبة ابن أبي البغل بالمال، وكتب إليه فيه كتاباً طويلاً عمل في الديوان، فأجاب عنه بأن الارتفاع الذي ذكره في كتبه الوزير بالتقدير، ونسبه إلى العبرة لسنة اثنتين وتسعين ومائتين في الصدقة بأراضي العرب بالبصرة هو مع ارتفاع الشعبي والولدي، وأن الكاتب غلط في النقل ونسب جميع المال إلى الصدقة، وأنه إذا تؤمل ارتفاع الشعبي والولدي وجد ستة آلاف دينار وهو قدر الخلاف. وكتب إلى أصحابه المائلين إليه بنسخة جوابه ليعرفوا الصورة فيه ويعارضوا ابن الفرات في مجلس الوزير أبي أحمد بما أورده من حجته. وكان الوزير أبو أحمد أيضاً على عناية بابن أبي البغل شديدة. فلما وقف على الكتاب خاطب ابن الفرات في ذلك بحضرة الكتاب فقال: الآن وجب المال أيد الله الوزير ولزمه الخروج منه، لأنه اعترف بصحة ما أخرج، وادعى السهو الذي لا يقبل من العمال بعد نفوذ كتبهم بالارتفاع ورفعهم حسباناتهم به إلى الديوان. وضحك من المعارضين له ضحك متعجب منهم. وقال: ما ظننت أن أحداً يذهب عليه هذا الموضع أو يلحقه منه شك. فورد على القوم ما حيرهم وأدهشهم وقطعهم. وأمر الوزير حينئذ بإنفاذ الرنداق إلى ابن أبي البغل لمطالبته بالمال، وذلك بعد أن أحضر ابن الفرات الكتب والجماعات، وواقف الوزير والكتاب واعترفوا بكون الحق معه. وانحدر الرنداق إلى البصرة، وحمل ابن أبي البغل من داره إلى ديوان البلد وأقامه على ساق وعامله وخاطبه بما زاد فيه على ما أمر به، ولم يبرح حتى أخرج ابن أبي البغل المال إلى مجلس العطاء، وأطلق للجند وأورد جماعته سنة
(1/186)
________________________________________
ثلاث وتسعين ومائتين منسوباً إلى وجهه، وهو من العين ستة آلاف دينار وكسر.
وكان أبو الحسن بن الفرات في وزارته الأواى قلد نصر بن علي براز الروز والبند نيجين من أعمال طريق خراسان. فلما رفع الحسان بذلك إلى ديوان الخراج أخرج الكتاب عليه أنه احتسب في الجاري بربع العشر في الارتفاع وأوجبه عن ستمائة ألف درهم، ونظر في جماعته وما أورده فيها فوجد المال خمسمائة وسبعين ألف درهم. وأخرج عليه التفاوت بين المبلغين وهو ثلاثون ألف درهم. وأجمع الكتاب على مناظرته ومواقفته، فضج وقال: قد رضيت بحكم الوزير، طالعوه بالصورة، وأنقذوا إليه المؤامرة، وكان متخلياً في دار حرمه. فضحك وأمر بإيصال الجماعة إليه، وأصحاب المجالس يومئذ أبو القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، وأبو منصور عبد الله بن جبير، وأبو الحسين الصقر بن محمد، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن سهل، فدخلوا ومعهم نصر بن علي فقال له ابن الفرات: ويلك يا نصر، عملت لنفسك مؤامرة، من كان أخذك بذكر الارتفاع؟ ولم لم تقبض جاريك وتمسك عنه؟ قال: أخطأت أيها الوزير. فقال: خطاؤك يلزمك المال. ثم ألزمه ربع العشر في الثلاثين وأخذ خطه به. وكان من طريق ما أخرج على نصر أيضاً أنه كتب عند تقلد براز الروز والبندنيجين فذكر أنه وجد في بعض البيوت من غلة السنة الماضية نحو من مائة كر بالمعدل حنطةً وشعيراً. ثم أورد في حسابه ستين كراً، فأوجب عليه التتمة. فقال: إنما كتبت: بنحو مائة كر. ورضي بحكم الوزير أبي الحسن.
(1/187)
________________________________________
فأنفذ الكتاب الخرج بذلك إلى حضرته. فوقع بخطه: النحو: من واحد إلى تسعة، فإذا تجاوز للعشرة لم يجز أن يقال فيه: نحو. فلما وقفوا على ذلك وضعوا عنه عشرة أكرار، وألزموه ثلاثين كراً حنطة وشعيراً.
وكان أبو أحمد الحسن بن محمد الكرخي يتقلد المسرقان من أعمال الأهواز في وزارة أبي أحمد العباس بن الحسن، فعملت له مؤامرة عرضت على أبي الحسن ابن الفرات، فلم يكن فيها على ما ذكر باب واحد يظهر وجوبه، وأخرج في باب المرافق ما جرت العادة بالتأول فيه. فقال أبو الحسن: هذا لا يخرج مثله كتاب الحضرة إذ كان رجماً لا يقوم على مثله بينة. وحضره المظفر بن المبارك القمي بعد مديدة قريبة، وقد كانت له ضيعة بالأهواز قد باعها على أبي الحسن ابن الفرات، فاستدعى منه حساب وكيله فيها ليستدل منه على رسومها ومعاملاتها، وجاءه به في بعض العشايا، فقرأه. ووجده للسنة التي كان الحسن بن محمد الكرخي مقلداً فيها. وقد احتسب الوكيل فيه نحو خمسمائة دينار، ونسبها إلى الحسن بن محمد وعماله وخلفائه على سبيل المرفق: فأنفذ في الوقت من أحضر الحسن بن محمد الكرخي وأحمد بن محمد بن سهل والصقر بن محمد وعبيد الله بن محمد الكلوذاني، فحضروا، ووجدوه يتميز غيظاً، ودعا بالمؤامرة التي كانت عملت للكرخي فاطرحها، وأقل المبالاة بها، وأخذ في مناظرته على ما أخرج من المرافق، فاحتج بما يحتج به مثله في ذلك، وعرض عليه الكتاب حساب ابن المبارك القمي وقال له: يا عدو الله يا خائن، يا لص، تأخذ من ضيعة واحدة ورجل واحد خمسمائة دينار مرفقاً وتقديرها نصف ارتفاعه! فكم أخذت من أهل الكورة؟ وما أحتاج أن أنظر في غير هذا. فبهت الحسن وورد عليه ما لم يكن في حسابه:
(1/188)
________________________________________
ثم قال: قد أخطأت وأنا بين يديك. فأخذ خطه طائعاً بعد أن قبل يده مراراً بسبعة آلاف دينار، فأدى من ذلك خمسة آلاف دينار. ثم استشفع على ابن الفرات، وعرفه سوء حاله وقصور يده، فسامحه بالبقية، ورد خطه عليه، وقلده بابل وخطر نية.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: حدثني أبي قال: كان أبو العباس وأبو الحسن ابنا الفرات يكرمان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ويعرفان حقه وقدمته. فبعث إليه أبو الحسن في بعض الأيام مع أبي عبد الله محمد بن عبد الله ابن رشيد الكاتب بجملة وافرة، وحمله رسالةً جميلة يعده فيها بما يتلو ذلك ويتبعه من مراعاته وتفقده. قال ابن رشيد: فأوصلت المحمول إليه، وأوردت القول معه عليه. فشكر ثم شكر ثم قال فيه أبلغ قول، وكتب إليه:
أياديك عندي معظماتٌ جلائل ... طوال المدى، شكري لهنّ قصير
لئن كنت عن شكري غنياً فإنني ... إلى شكر ما أوليتني لفقير
قال: فقلت له: هذا أعز الله الأمير حسن. قال: أحسن منه ما سرقته منه. فقلت له: إن رأيت أن تعرفنيه فافعل. قال: حديثان حدثنا بهما أبو الصلت الهروي بخراسان عن أبي الحسن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أسرع الذنوب عقوبةً كفران
(1/189)
________________________________________
النعمة وبهذا الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يوتي بعبد فيوقف بين يدي الله تعالى فيأمر به إلى النار فيقول: يا رب، لم أمرت بي إلى النار؟ فيقول: لأنك لم تشكر نعمتي. فيقول: يا رب، أنعمت بكذا فشكرت بكذا. فلا يزال يحصي النعم ويعدد الشكر. فيقول الله عز وجل: صدقت عبدي، إلا أنك لم تشكر من أنعمت عليك على يديه. وانصرف ابن رشيد بالخبر إلى أبي الحسن، وهو في مجلس أبي الباس أخيه، وعرفه ما جرى، فاستحسن أبو العباس الحكاية عن عبيد الله، وبعث إليه بصلة أوفر من صلة أخيه على يدي ابن رشيد. فحكي أنه لما أوصل ذلك إليه سر سروراً شديداً وكتب إلى أبي العباس:
شكري لك معقود بإيماني ... حكّم في سري وإعلاني
عقد ضميرٍ وفمٍ ناطقٍ ... وفعل أعضاءٍ وأركان
قال: فقلت: هذا أحسن من الأول. فقال: أحسن منه ما سرقته منه. قلت: وما هو؟ قال: حدثني أبو الصلت الهروي بخراسان عن أبي الحسن الرضا عن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عن الصادق عن الباقر عن السجاد عن السبط عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليم السلام. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان عقد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان.
(1/190)
________________________________________
وعدت إلى أبي العباس فعرفته ما ذكره عبيد الله فاستحسنه. واتفق أن حضر المجلس ابن راهويه الفقية وكان متهماً بالنصب فقال: ما هذا الإسناد؟ فقال له ابن رشيد: هذا سعوط الشيلثا الذي إذا سعط به المجنون برأ.
قال أبو القاسم بن زنجي: قال لي أبو جعفر محمد بن القاسم بن الكرخي: قال لي أبو القاسم بن محمد: ما حضرت مجلس رئيس قط إلا ووعدتني نفسي بالقيام بما يقوم به والزيادة عليه إلا أبا العباس بن الفرات، فإنني كنت أعلم من نفسي لقصور عما يقوم به، لبراعته في كل حال، واستقلاله بالعظيم من الأعمال. وحدث أبو عبد الله زنجي قال: كان عبد الله بن الحسن النرسي وإخوته يتقلدون عدة نواح من سقي الفرات، فاستقصى عليهم أبو العباس وأبو الحسن ابنا الفرات في المعاملة استقصاءً غلظ عليهم، وتخوفوهما معه، وعدلوا إلى استخصامهما ومظاهرة أعدائهما ومساعدتهم عليهما، وأقبلوا يذكرونهما ويذكرون ما في أيديهم من الضياع، وما يتحصل لهما من الارتفاع. فتقدم أبو العباس إلى أبي الحسن أخيه أن يعمل لما يتقلدونه من الأعمال عملاً، ويخرج ما يلزمهم من مردود الجاري والاحتسابات الباطلة، ولا يحتسب لهم إلا بالواجب الصحيح، ويرجع إلى ما كتب به أصحاب البرد والأخبار فيما وصل إليهم من الأموال والاستثناء على مبتاعي الغلات. فعمل ذلك وجوده، وأحضره أبو العباس، فوجده يشتمل على ثلاثمائة ألف دينار، فاستحسنه ووافقه على أن يجعله في الديوان، فأي وقت أنكر أحد من النرسيين أمراً أظهره. ولم يمض إلا أيام يسيرة حتى بلغ أبا العباس اجتماعهم مع محمد بن داود ومحمد بن عبدون وإفاضتهم في ذكره وذكر أخيه أبي الحسن، وأنهم قد جمعوهما على مخاطبة أبي القاسم عبيد الله بن سليمان في بابهما، وأن يضمنا له عنهم مالاً وافراً من ضياعهما، ولم يزالا بهما إلى أن خاطبا عبيد الله في ذلك. وواجهوا أبا العباس
(1/191)
________________________________________
وأبا الحسن بذكر الضمان، فثبت أبو العباس وأقل الحفل بهم، وقال لعبيد الله: هذا كلام فارغ لا محصول له، وتشنيع باطل لا حقيقة لشيء منه، وإنما دعاهم إليه الاستقصاء في المعاملة، وعليهم أيها الوزير ما اقتطعوه من أصول الأموال، وسرقوه من الغلات، وزادوه في الاحتسابات، ثلاثمائة ألف دينار، أنا أُصححها عليهم بالشواهد الظاهرة والدلائل الواضحة. فلما سمع ذلك عبيد الله خاف أن يتصل خبر المجلس بالمعتضد بالله رحمة الله عليه فسلمهم إليه ومكنه منهم. ووجه أبو العباس من وقته إلى دورهم من كبسها، وحمل ما كان فيها من الأعمال والحسبانات والكتب والرقاع. ونقلهم إلى ديوانه، وأقبل يناظرهم على باب باب مما أخرج عليهم، حتى أخذ خطوطهم به، وأحضر عبيد الله بن سليمان ذلك، فاستحسنه، وطولبوا بالمال فأدوه. قال أبو عبد الله زنجي: وقد كان النرسي الأكبر عبد الله بن الحسن صار إلي في بعض الأيام مسلماً علي، ثم سألني إجمال خلافته بحضرة أبي العباس ابن الفرات، وحفظ غيبه ومراعاة ما يجري من ذكره، ووضع غلامه بين يدي صرة فيها ثلاثمائة دينار، وتختين فيهما ثياب، وسامني قبول ذلك فامتنعت، وقال: إني لا أُكلفك أن تكشف لي سراً لصاحبك ولكن تشعرني بما يجري من ذكرنا فقط. فقلت: مت ضمنت لك هذا لم أف به، ولكنني أحسن المناب عنك، وأقضي ما يعرض من حوائجك ولا أُعلمك ذلك ولا أمتن به عليك. وأما هذا المحمول فعلي وعلي، وحلفت يمنيناً غموساً إن قبلته على وجه وسبب. فنهض وتركه بين يدي، وتقدمت إلى بعض غلماني بأخذه إتباعه به، ورده عليه، وحذرته من أن
(1/192)
________________________________________
يرجع وهو معه، فأبطأ الغلام طويلاً، ثم عاد وعرفني أنه لحقه، وقد نزل في دار بعض الوجوه، ولم يزل يسأله ويلطف به إلى أن تقدم إلى غلامه بأخذه. فلما قبض ابنا الفرات على النرسيين، وأُخذ ما كان في منازلهم من الأعمال والكتب وحمل إلى دارهما، وميزاه، وجدا فيه ثبتاً بما بر به النرسيون أسبابهما. قال أبو عبد الله: وكنت جالساً قريباً من أبي العباس، ومعي أبو منصور وأبو نوح عبد الله وعيسى ابنا جبير وجماعة من الكتاب، فأنا أحدثهم بحديث قد شغلني عما سواه إذ وقع هذا الثبت في يد أبي العباس فأخذه وأنفذه إلى أبي الحسن أخيه، وهو قريب منه، وقال: انظر فيه هل ترى إسماً لصاحب الزاي يريد زنجي فقرأه وتأمله ثم رده عليه وقال: ما فيه ذكر له. فأعاده إليه ثانياً وقال: اردد نظرك فيه. فأعاد قراءته ورده وقال: ماله فيه ذكر. كل هذا ولا أعلم صاحب الزاي من هو، حتى قال لي أبو منصور بن جبير: أيها المشغول بالحديث قد افتضح اليوم الخلق غيرك، واسودت الوجوه وابيض وجهك. فقلت: بماذا؟ قال. وجد فيما أخذ من دور النرسيين
تبت بما رفعوه إلى واحد واحد من أسباب أستاذنا ولم يوجد لك فيه ذكر ولا اسم. فحمدت الله وشكرته على ما وفقني له. ولما فرغ أبو العباس دعاني إلى حجرة خلوته، فدخلت وهو جالس، ومعه أخوه أبا الحسن، فشكراني على خروجي من جملة من قبل بر النرسيين وجزياني خيراً عن حفظ الأمانة، واستقامة الطريقة، وخاطباني أجمل خطاب ووعداني أحسن وعد، وحلفا على أنني قد أصبحت لديهما كأحدهما. ولم تزل الحال تزيد معها وعندهما إلى آخر المدة. وكان النرسيون بفضل عدواتهم لهما قد توصلا إلى بر كتابهما وخزانهما
(1/193)
________________________________________
وغلمانها والفراشين والقهارمة في دورهما، ومن يتولى نفقات حرمهما، حتى لا يخفى عليهم شيء من أمورهما في خلواتهما ولا مجالس أعمالهما. بما رفعوه إلى واحد واحد من أسباب أستاذنا ولم يوجد لك فيه ذكر ولا اسم. فحمدت الله وشكرته على ما وفقني له. ولما فرغ أبو العباس دعاني إلى حجرة خلوته، فدخلت وهو جالس، ومعه أخوه أبا الحسن، فشكراني على خروجي من جملة من قبل بر النرسيين وجزياني خيراً عن حفظ الأمانة، واستقامة الطريقة، وخاطباني أجمل خطاب ووعداني أحسن وعد، وحلفا على أنني قد أصبحت لديهما كأحدهما. ولم تزل الحال تزيد معها وعندهما إلى آخر المدة. وكان النرسيون بفضل عدواتهم لهما قد توصلا إلى بر كتابهما وخزانهما وغلمانها والفراشين والقهارمة في دورهما، ومن يتولى نفقات حرمهما، حتى لا يخفى عليهم شيء من أمورهما في خلواتهما ولا مجالس أعمالهما.
وقال أبو القاسم بن زنجي: كان حامد بن العباس قد اعترف بأن له قبل جماعة من أهل واسط نحو ثلاثمائة ألف دينار، منهم علي بن إسحاق وأبو أحمد بن المنتاب وابن شاندة وابن جناح وإسحاق بن شاهين. وكتب إليهم كتباً بخطه بتسليم ذلك إلى محمد بن علي البزوفري العامل كان يومئذ على أكثر أعمال واسط وأنفذ الوزير أبو الحسن علي بن الفرات الكتب إلى محمد بن علي، وأمره بأخذ المال من القوم وحمله. فكتب محمد بن علي يقول: إنهم أنكروا ما ادعاه حامد عليهم وكتب بتسلمه منهم. ووقف الوزير على ذلك، فغاظه، وعظم عليه، وظن أن غرض حامد فيما كتب به المدافعة والتربص ومضي الأيام بنفوذ الكتاب ورجوع الإجابة. قال أبو القاسم: وكان ورود هذا الجواب في يوم الجمعة، وأنا جالس بحضرته، فأعطانيه ومعه الكتب المردودة، ورسم لي الدخول إلى حامد وأن أقفه على ما ورد، وأُتبع ذلك بما تقتضيه الصورة من التحريك والغلظة في المخاطبة. فقمت، ومشى بين يدي الغلام الموكل بالدار التي كان حامد فيها، فلما أراد فتح بابها وكان مقفلاً سمع حامد صوت فتح القفل، فارتاع، وتشوف ورآني، فسكن لأنني كنت أُكرمه وأعرف له حق رئاسته وجميل فعله بنا، وكان غيري ممن يدخل إليه يسيء عشرته، ويلقاه بالقبيح فيما يخاطبه به. فأقرأته كتاب البزوفري، وأريته الكتب المردودة، وعرفته ما وقع في نفس الوزير من أمرها، وقلت: الصواب أن تكون الحال معمورةً، والمواعيد صحيحة، لئلا يتمكن طاعن من طعن. فذكر أن المال قبل القوم على مبالغة التي كتب بها إلا ألف
(1/194)
________________________________________
دينار شك فيه. وذكر أنه قد كان كتب بدفعه إلى أحد غلمانه، فإن كان أُطلق وضع من الجملة. وبذل إعادة المكاتبة وتأكيد القول على القوم مما لا يكون بعد مراجعة. فقبلت ذلك منه، ووضع غلامي الدرج والدواة بين يديه، وكتب إلي القوم بما استوفى الخطاب فيه. وأخذت الكتب وعدت إلى الوزير، وابنه المحسن جالس على يساره وكذلك كان يجلس ووضعتها بحضرته، وعرفته أن حامداً أنكر مخالفة القوم وعظم عليه ردهم الكتب، وأعاد اليمين بحصول المال قبلهم، وأنه قد جدد مكاتبتهم بما لا يتأخر معه صحته من جهتهم: فقرأ الكتب، وتقدم بإجابة البزوفري عن كتابه، وأمره بإحضارهم، وقبض المال منهم، وحمله منفرداً عن مال الخراج. ووقع فيه توقيعاً طويلاً يلزمه فيه المبادرة بالمال وترك تأخيره أو قبول احتجاج في أمره، وأمرني بختمه وإنفاذه في خريطة محلقة. وأصلحه صاحب الدواة في الخريطة، وجاءني بها فعنونتها وحلقتها بإحدى عشرة حلقةً، وأنفذتها إلى أبي مروان عبد الملك بن محمد بن عبد الملك الزيات، وكان على ديوان البريد. فلما خلا مجلس الوزير تقدمت إليه وعرفته سراً أنني رأيت الشعر قد كثر على وجه حامد وذراعيه، ولم أستجز ستر ذلك عنه، فأحمدني على مطالعته بذلك، وأمر بإحضار الحسن المزين، وكان في الدار، وتقدم إلى بدر الخادم الحرمي بإحضار صينية المزين على مثل ما تقدم عليه إليه. وأمر بإدخال الحسن المزين والصينية إلى حامد، وتقدم عقيب هذا بإصلاح الحمام على أنه هو الداخل، ثم استحضر أبا زكريا
(1/195)
________________________________________
يحيى بن عبد الله الدقيقي قهرمانه، ورسم له بإحضار ثياب تاختج وقصب ودبيقي وعمائم ليختار منها لحامد ما يصلح لخلعتين. فقال له يحيى: ليس في الخزانة إلا متاع حمله التجار وما قطع ثمنه معهم. فقال: هاته. فليس يلزمنا لهم أكثر من أن نعطيهم الثمن على سومهم. فمضى وأحضر عدة تخوت اختير منها بحضرته ما يكفي لمبطنتين ودراعتين من تاختج وثوبان من دبيقي لسراويلين وثوبان من قصب لقميصين وعمامتان من تاختج، وأمره بإحضار الخياطين وألزمهم الفراغ عاجلاً من خلعة واحدة ليلبسها حامد عند الخروج من الحمام. فذكر ان من برسم الدار من الخياطين تأخروا لأنه يوم جمعة، فأنكر ذلك وقال: برسم الدار فوجان أفتأخروا جميعاً؟ والآن فاستدع من على الطريق من الخياطين حتى يفرغوا الساعة. وتفرق الرسل في طلب الخياطين إلى أن أحضروا جماعةً منهم، وسلمت إليهم الثياب، ولم يزل يراعيهم إلى أن قاربوا الفراغ من خلعة واحدة. وتقدم إلى بعض الغلمان بإنذار حامد بإصلاح الحمام. وأعلمه بذلك فدخله. وأمر الوزير بحمل الخلعة التي فرغ منها إليه ليلبسها عند خروجه، فلما خرج قدمت إليه فامتنع من لبسها. وعرف الوزير امتناعه فأنكره، وتقدم إلي بالمضي إليه والرفق به وإبلاغه
رسالةً عنه في هذا المعنى، ففعلت ولطفت به في لبس الثياب فأبى وقال: ثيابي غير محتاجة إلى تغيير. وعاودته فأقام على أمره. ووقع لي في هذا الوقت تخوفه من حيلة تتم عليه في أمر الثياب، فحلفت له على بعد الحال من ذلك وقلت: أنا أدخل الحمام وأُفيض علي الماء ثم أخرج وأتنشف وألبس الثياب ثم أنزعها لتلبسها بعدي. وقلت: إن نية الوزير قد صلحت، فلا تفسدها بما أنت عليه من هذا الامتناع. فلان في القول، وجددت اليمين فسكن ولبس الثياب، وعدت إلى الوزير فعرفته ذلك فسر به. ثم تقدم بأن يحمل إليه صينية الطيب وبخور كثير وماء ورد فأنفذت واستعمل منها ما أراد. وخف من أن يعيد الوزير على ابنه المحسن ما جرى فيقع عنده أقبح موقع فتقدمت إليه وسألته ستر ذلك عنه. فتبسم وجعلني على ثقة ألا يكون لي فيه ذكر. ثم عدت إلى موضعي من المجلس. فلما قعدت فيه سمعت أصوات الملاحين في طيار المحسن، ثم اتصل ذلك بصعوده فحمدت الله تعالى على ما وقع لي من مخاطبة أبيه بما خاطبته به قبل حضوره. ثم خفت أن يجري في عرض الحديث ذكر ذلك على غير عمد، فبينما أنا على هذه الجملة من الإشفاق إذ وافى أبو صالح مفلح الخادم الأسود برقعة من المقتدر بالله رحمه الله ورسالة فاجتمعوا على السرار. وكتب الوزير أبو الحسن الجواب بخطه وعنونه وختمه، وسلمه إلى مفلح، وقد نودي بالصلاة وقت المغرب، وانصرف، وانصرف المجلس في أثره. ولما عدت إلى منزلنا حدثت أبي بما جرى، فاستصوب فعلي وقال لي: عرف الله تعالى نيتك فوقاك ما تخوفته. ً عنه في هذا المعنى، ففعلت ولطفت به في لبس الثياب فأبى وقال: ثيابي غير محتاجة إلى تغيير. وعاودته فأقام على أمره. ووقع لي في هذا الوقت تخوفه من حيلة تتم عليه في أمر الثياب، فحلفت له على بعد الحال من ذلك وقلت: أنا أدخل الحمام وأُفيض علي الماء ثم أخرج وأتنشف وألبس الثياب ثم أنزعها لتلبسها بعدي. وقلت: إن نية الوزير قد صلحت، فلا تفسدها بما أنت عليه من
(1/196)
________________________________________
هذا الامتناع. فلان في القول، وجددت اليمين فسكن ولبس الثياب، وعدت إلى الوزير فعرفته ذلك فسر به. ثم تقدم بأن يحمل إليه صينية الطيب وبخور كثير وماء ورد فأنفذت واستعمل منها ما أراد. وخف من أن يعيد الوزير على ابنه المحسن ما جرى فيقع عنده أقبح موقع فتقدمت إليه وسألته ستر ذلك عنه. فتبسم وجعلني على ثقة ألا يكون لي فيه ذكر. ثم عدت إلى موضعي من المجلس. فلما قعدت فيه سمعت أصوات الملاحين في طيار المحسن، ثم اتصل ذلك بصعوده فحمدت الله تعالى على ما وقع لي من مخاطبة أبيه بما خاطبته به قبل حضوره. ثم خفت أن يجري في عرض الحديث ذكر ذلك على غير عمد، فبينما أنا على هذه الجملة من الإشفاق إذ وافى أبو صالح مفلح الخادم الأسود برقعة من المقتدر بالله رحمه الله ورسالة فاجتمعوا على السرار. وكتب الوزير أبو الحسن الجواب بخطه وعنونه وختمه، وسلمه إلى مفلح، وقد نودي بالصلاة وقت المغرب، وانصرف، وانصرف المجلس في أثره. ولما عدت إلى منزلنا حدثت أبي بما جرى، فاستصوب فعلي وقال لي: عرف الله تعالى نيتك فوقاك ما تخوفته.
وحدث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأنباري زنجي قال: لما تقلد أبو الحسن علي ابن محمد بن الفرات الوزارة الأولى واستدعاني واستدعى أبا علي محمد بن علي بن مقلة، وبدأ فدفع لي درجاً فيه ثبت الدواوين بالحضرة وأرزاقها، وقال لي: اختر من ذلك ما تحب أن أُقلدك إياه، فأخذته وقرأته إلى آخره، ثم أعدت نظري فيه لأنني كلما رأيت شيئاً تتبعته نفسي. فلما رأى ذلك قال: أنا أعرف منك بما تريده، وقد قلدتك ديوان الدار ومكاتبة العمال بالسواد والأهواز وكرمان وما يجري مع ذلك من أعمال
(1/197)
________________________________________
الحرمين وعمان وأذربيجان وأرمينية وأصحاب الأطراف والأعمال الجارية بحضرتي، وأجريت عليك في كل شهر خمسمائة دينار، فقدر ما تحتاج إليه لكتابك. فقدرت ذلك بتفصيل اشتملت جملته على خمسة وتسعين ديناراً، وتقدم إلى أبي علي بن مقلة بأن يوقع لي بذلك، فوقع. ثم دفع الدرج إلى أبي علي وقال له: اختر منه ما تريد. فأخذه أبو علي ودفعه إلي وقال لي: أحب أن تختار لي. فنظرت فلم أجد ما يصلح له أن يتقلده إلا ديواني الفض والخاتم، وجاريهما في كل شهر أربعمائة دينار، فعرفته ذلك. وسأل الوزير تقليده إياهما، فتقدم إلي بالتوقيع له بهما، فوقعت. ثم قال لنا: إن بني أخي وأهلي سيصيرون إلي ويسألونني أن أقلدهم بقية هذه الأعمال، فإن كان في نفوسكما أن تسألاني بقية شيء منها مضافاً إلى ما قلدتكما إياه فاذكراه لأوقع لكما به. فشكرناه وعرفناه أن لا حاجة بنا إلى زيادة عليه. وتقدم إلي بأن أسبب لنفسي وكتابي بجاري شهرين على عمال الأهواز، وأسبب لأبي علي بن مقلة بمثل ذلك، ففعلت، وعرضت الكتب عليه، فأمر بإخراج نسختها إلى الديوان، وضربها بالعالامات، وردها إليه بعد ذلك. وجرى الأمر على هذا، وأُعيدت إليه، فوقع فيها وأمر بختمها. وأحضر يوسف بن فنحاس الجهبذ اليهودي وكان جهبذ الأهواز، فقال له: إن هذه الحال وافت ولم يتأهب أصحابنا لها، وقد سببت أرزاقهم على مال الأهواز، ولا بد أن تقدم لهم مال شهرين. فذكر كثرة الأموال التي ألزم تعجيلها من معاملة الأهواز، وأنه لا يتمكن من غير ذلك، فلم يزل معه في مناظرة حتى استجاب إلى إطلاق جاري شهر معجلاً في ذلك اليوم. ثم أنفذت بشرى غلامي معه لقبض المال منه، وفعل أبو علي مثل فعلي، وانصرفنا، وفي منزل كل واحد منا ألوف دراهم كثيرة. فتعجبنا وتعجب الناس
(1/198)
________________________________________
من حسن رعايته، وأنه لم يبدأ بأحد قبلنا، ولا شغلته الحال التي دفع إلى معاناتها عن افتقاد أمورنا والعناية بمصالحنا. وقال أبو القاسم بن زنجي: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول في وزارته الثالثة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة أنه أنفق على الدار التي كان ينزلها في ذلك الوقت وفيها قبض عليه، وهي دار سليمان بن وهب وموقعها في المخرم، وفي يد الحاجب الكبير أبي منصور سبكتكين الآن شيء منها، وفي يد ابن لشكرون شيء آخر، وفي أيدي قوم من قواد الديلم الباقي ثلاثمائة ألف دينار. واشتهى في وزارته هذه أن يجمع حرمه وبنات إخوته وأصاغر ولده في الدار المعروفة بدار البستان، من هذه الدار المعروفة بدار سليمان بن وهب، فتقدم بإصلاحها وتنظيفها وإنفاق ما يحتاج إليه من تبييضها، فبلغت النفقة خمسين ألف دينار. وجلس وهم فيها يوماً واحداً، ولم يعد بعد ذلك إلى الجلوس فيها معهم.
ومن أحاديث أبي العباس أحمد بن محمد أخي أبي الحسن في فضائله ما لا بأس بإيراده في عرض أخباره. قال عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر: حدثني بعض الكتاب قال: سمعت محمد بن عبدون يحدث في مجلسه قال: جاء ابن سمعان صاحب بدر المعتضدي إلى أبي النجم بدر وقال له: أيها الأمير، أحمد بن محمد بن الفرات لا يزال يستخف بنا، ويستهين برسلنا، ويجبههم بالقبيح فيما يوصلونه إليه، ويعرضونه عليه من التوقيعات بإقطاعاتك، وهو عدو مكاشف لهذه الدولة، وصاحب إسماعيل بن بلبل.
(1/199)
________________________________________
فقال له بدر: خذ نحريراً وامض به إلى ديوانه وجئني به. فجاءه به، فلما رآه قال له: أمسيطر أنت على مولاي أم شريك له؟ يقطعني الإقطاعات فتمتنع منها وتعترض فيها! فقال له: اسمع أيها الأمير قولي، فإن ثبتت عندك حجة لي فخفض من لومي وإلا عملت بعدها ما رأيت. أنت تعلم أن قوام الملك بالمال، وأن الجند لا يسمعون ولا يطيعون إلا إن أعطاهم، وإن عدموا المال كان ذلك الداعية القوية إلى ذهاب الملك وسفك الدماء وانقطاع السبل وانتهاك المحارم. وجميع المال في عنقي وعلي فأذا خرجت الضياع من الإقطاع تبعها الخراج فتحيفت الحقوق، وأضيف إلى كل ناحية ما يجاورها، وكان في ذلك مالاً خفاء به مما أعوذ بالله منه. قال له: صدقت يا أبا العباس أيدك الله ارتفع فإن الحق في يدك. وإنما تحرس بهذا الفعل نعمة مولاي من أن تزول، ودماء الخاصة والعامة من أن تراق، وكل من يخاطبني فإنما يتبع هواي ولا ينظر في أعجاز الأمور. أحضروني خلعاً. فأُحضرها فمنحها أبا العباس، واحتسبه حتى أكل عنده وقدمه في مجلسه، ودعا بطيب طيبه به. فلما أُحضرت المجمرة قام أبو العباس ليتبخر خارج المجلس، كما كان أبو القاسم عبيد الله يفعل وهو كاتبه إذا أمر له بمثل هذا. فحلف بدر أنه لا يتبخر إلا بين يديه. فبخره وخرج، فأمر نحريراً وابن سمعان بالركوب معه إلى ديوانه على سبيل التكرمة وقال له: يا أبا العباس، لا ترى قط من إلا ما تحب بعد هذا اليوم ولا تجري مني إلا مجرى الأخ، ولست أُورد عليك توقيعاً بإقطاع ولا ضيعة بعد هذه الدفعة. قال: وسمعت أبا الحسن محمد بن عبدون يقول: سمعت بدراً يقول بعد خروج ابن الفرات: لا يزال السلطان بخير ما دام في كتابه مثل هذا الرجل لولا عجلة فيه.
(1/200)
________________________________________
قال أبو القاسم بن زنجي حدثني أبو عبد الله أبي قال: وافت رسالة أبي النجم بدر في ذلك اليوم إلى أبي العباس بن الفرات وأنا في الديوان بين يديه، فوجم لها كل من حضر سواه، فإنه بادر إلى لبس ثيابه، واستدعى دوابه، وركب من وقته وسار إلى بدر. فعدل به ابن سمعان إلى داره، فأجلسه فيها، وعرف أبو القاسم عبيد الله بن سليمان ذلك، فقامت عليه القيامة منه، وعظمت في نفسه الحال فيه، وبادر إلى بدر تخوفاً من أن يتصل بالمعتضد بالله فينكره على بدر ويجري ما يضيق صدراً به. ووصل عبيد الله إلى باب بدر وسأل عن ابن العباس، فعرف انصرافه مكرماً إلى ديوانه، فحين سمع ذلك أراد الرجوع قبل لقائه، فاستقبحه، ودخل إليه. فابتدأه بدر بالحديث، ونسب الأمر عنده إلى أجمل وجوهه، وأخذ عبيد الله في وصف ابن الفرات وتقريظه، وذكر كفايته وكتابته فصدقه بدر. وقال: ما ظننه على ما شاهدته منه. ولا يزال السلطان بخير وأمره مستقيماً، ما دام في أعوانه مثل هذا الرجل. ولما عرف بدر أن ابن سمعان أدخل أبا العباس إلى داره قبل أن يطالعه بخبره أنكر ذلك عليه أشد إنكار، وأغلظ عليه القول فيه أتم إغلاظ، وتقدم إليه بالإذن له والدخول إلى بين يديه، وكان فعل ابن سمعان ما فعله مما حل ما كان في نفس بدر وخففه.
وحدث أبو القاسم قال: حدثني أبو عبد الله أبي قال: كانت للمعتضد رحمة الله عليه جارية يتحظاها يقال لها فريدة، فأمر بإقطاعها ضياعاً بمال حده وبين مبلغه، فصار كاتبها إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان بتوقيع المعتضد بالله بذلك، فقبله ووقع بامتثاله، واختار كاتبها ضياعاً وبساتين بأكناف مدينة السلام من الجانب الشرقي، وعرض على عبيد الله بن سليمان الثبت بذلك فوقع بتسليمه. وصار الكاتب إلى أبي العباس بن الفرات به فقبله، وطالب بتسليم ما في الثبت من
(1/201)
________________________________________
الضياع والبساتين فامتنع عليه وقال: هذه مواضع طرف أمير المؤمنين إذا ركب ولا يجوز أن يقطع لأحد. فأقام على المطالبة بتسليم ذلك إليه، وأقام أبو العباس على منعه إياه. ومضى الكاتب إلى فريدة، فأعاد عليها ما جرى شيئاً شيئاً وقال لها: مضيت إلى الوزير فعرضت عليه توقيع الخليفة بما أمر لك به والتسمية بما اخترته فقبل ووقع، وصرت إلى ابن الفرات كاتبه فدفعني وقال. إنه لا يسلم إليك الضياع والبساتين. وجرى علي من رده القبيح ما استحييت معه من كل من حضر عنده وهذا لا يشبه محلك من الخليفة وموضعك من جميل رأيه. وأتبع هذا القول بما يشاكله من الطعن على أبي العباس بن الفرات. فدخلت على المعتضد بالله وهي مقطبة كالسيف المرهف، وأعادت عليه قول الكاتب وقالت: وأي شيء ينفعني من عنايتك بي ومحلي منك إذا كان كاتبك يعارضك في أوامرك ولا يقبل توقيعك؟ وسألته أن يوقع لها توقيعاً مجرداً بإمضاء الإقطاع على ما سمي في الثبت، فقال لها: لست أتهم ابن الفرات في معرفته بحقك. ومن المحال أن يمنع كاتبك مما أراده إلا جحجة تقوم له بالعذر، فسليه بأي شيء أحتج عليه، ولأي سبب منعه، ليكون ما أوقع به بحسب ذلك. فاستعلمت الكاتب، فذكر أنه قال له: هذه مواضع طرف أمير المؤمنين إذا ركب، ولا يجوز أن يقع عليها إقطاع لأحد. فقال المعتضد بالله: وقد صدق ابن الفرات وأحسن فيما فعل، أرددي كاتبك إليه وسليه أن يختار لك بما لك ضياعاً يعود عليك منها ما وقعت به. فعاد الكاتب إليه برسالتها فاختار لها الضياع المعروفة بالفريديات من بزر جسابور، وكتب بتسليمها إليها.
قال أبو القاسم: وهذا قريب من حديث حدثني به عمي أبو الطيب أحمد ابن إسماعيل فإنه قال: إن المعتضد بالله رحمه الله أقطع دريرة حظيته التي قال فيها
(1/202)
________________________________________
علي بن محمد بن بسام ما قال إقطاعاً، ووقع به توقيعاً تسلمه كاتبها وصار به إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان، فوقع تحته بامتثاله. ثم جاء إلى أبي العباس ابن الفرات، فوقع بالعمل عليه، وأنشأ الكتاب من حضرته بتسليم الإقطاع والتمكين منه، عنايةً منه بأمرها، وإيثاراً لاجتلاب شكرها. وأمر المدير بإدارته في الدواوين، وإثباته، وأخذ علامات الكتاب على رأسه ورده إلى حضرته من وقته، ففرغ منه في نحو من ساعتين وسلمه أبو العباس إلى الكاتب وانصرف شاكراً. ومضى إلى أبي القاسم ميمون بن إبراهيم صاحب ديوان الزمام، فعرض عليه التوقيع والكتاب فقبل التوقيع وامتنع من إمضاء الكتاب، وذكر أنه يحتاج إلى أن يخرج إليه من ديوان الزمام عين الإقطاع ليكون بما يمضيه على معرفة وبينة. فالتمس منه توقيعاً إلى أبي أحمد ابن أخيه، وكان خليفته على الديوان، فوقع له بذلك، ودفع التوقيع إلى أبي أحمد. فماطله ودافعه، ولم يزل يتردد إليه وهو يعده ويخلفه، وعاد إلى أبي القاسم ميمون مستعدياً به على خليفته، وشاكياً من مطله ومدافعته، فقال له: لا يجوز إمضاء الكتاب إلا بعد الوقوف على العبرة من الديوان. وحمل الكاتب ما عرض بقلبه من الضجر بوقوف أمره على أن صار إلى دريرة وعرفها الصورة، وخاطبها بما بعثها فيه على مراجعة الخليفة، فدخلت إليه، وأعادت ما ذكره الكاتب عليه. ثم شكرت الوزير وذمت ميمون
(1/203)
________________________________________
ابن إبراهيم، واستدعت منه توقيعاً بإنكار ما كان منه، وإمضاء إقطاعها على ما أمر به وأمضاه وزيره وصاحب ديوانه. فقال لها: الخطأُ منك ومن كتابك، ولو كنت عملت ما يوجبه الحزم ويقتضيه الصواب لراج أمرك وعمل كتابك وتسلمت إقطاعك، ولكن كاتبك متخلف لا يحسن التأتي لأمره، ويريد ما يريده على شدة وصعوبة، فقالت: يا مولاي، وما كان الصواب؟ قال: أن تبعثي إليه بثياب وألطاف كما يفعل الناس، فإنك كنت تستغنين عن خطابي وخطاب وزيري، وكان ذلك أنفع لك وأعود في العاقبة عليك. قالت: يا مولاي، فأحتاج إلى هذا مع موضعي منك وموقعي من عنايتك؟! قال: إي والله إنك لمحتاجة إليه. فعدلت عما كانت عليه، وبعثت إلى أبي القاسم ميمون تخوتاً فيها ثياب فاخرة من قصب ودييقى، وطيباً كثيراً، وراسلته بإنكارها على الكاتب تقصيره في حقه وإغفاله ما وجب أن يقدمه من ملاطفته وبره، وسألته إمضاء الكتاب بإقطاعها. فقبل ما أنفذته، وأخذ الكتاب من يد الرسول، وعلم عليه، وسلم إليه خرجاً كان خليفته قد أخرجه، واشتمل على عبرة ثقيلة لا توجب إمضاء الإقطاع، وعرفه إغضاءه عن ذلك ومسامحته إياها بالفضل، واعتماده موافقتها بهذا الفعل. فأعادت على المعتضد بالله ما جرى، فاستصوب ما كان منها وقال لها: هذا أنفع لك من عنايتي في هذا الوقت وفيما بعده. وكان أبو القاسم ميمون يفتخر على الكتاب بأنه أخذ مصانعة بأمر الخليفة وأن ما فيهم من يجسر على مثل ذلك.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال حدثني أبو الطيب أحمد بن إسماعيل عمي قال: مضيت في يوم من الأيام على الرسم إلى الديوان بالثريا، فبينما أنا أسير
(1/204)
________________________________________
إذ لحقني فارس فسايرني، وأقبل يحدثني ويسألني عن اسمي وكنيتي ومنزلي وصناعتي، فلما ذكرت له مكاني مع أبي العباس بن الفرات قال: كيف مذهبه في العمل؟ قلت: أحسن مذهب، يستقصي حقوق سلطانه ويستوفي مناظرة عماله، ويجد في استخراج أمواله. قال لي: فكيف يجري أمر هذا الوزير؟ يعني عبيد الله بن سليمان فإنني ما رأيت أشد تخليطاً منه، ولا أفظ من حجابه، ولا أكثر إخلافاً للمواعيد منه، قلت له: وكيف ذلك؟ قال: لأني رجل من الفرسان قد أخر عني رزقي، وأحوجني إلى القدوم إلى الحضرة متظلماً منه، وأنا أجتهد في أن يطلق لي ما وجب من رزقي فليس يلتفت إلي، ولا يفكر في، وكلما رفعت إليه رقعةً رمى بها، ومتى وصلت إليه لم يخرج عليها توقيع، فقد احترقت وهلكت وذهبت نفسي وطالت على بابه مدتي، فكيف يمكن هذا الرجل وهو على ما وصفته لك أن يعمل أعمال الخليفة ويدبر أمر مملكته؟ قلت له: الذي نعرفه من مذهبه ومعرفته وكفايته غير ما ذكرته عنه، وما يدع شيئاً إلا نظر فيه، ولا مظلوماً إلا أنصفه. قال: الذي يبلغني عنه أنه قد اصطلم الدنيا، وأخذ الأموال لنفسه، فالجند يتظلمون، وحاشية الخليفة يشكون، والنواحي خراب. فقلت: ما أحد من الحاشية إلا وهو راض، والأموال كلها تحمل إلى الحضرة وقد حسب للعمال أرزاق الشحن. والعمارة زائدة، والأمور منتظمة. فقال: ما الآفة في جميع ما يجري إلا هذا الغلام الذي قد رفعه الخليفة، وأعطاه ما لا يستحقه وصير الناس عبيداً وخولاً له. قلت: ومن الغلام الذي تعنيه؟ قال: بدر. وأقبل يطعن عليه، ويتكلم فيه. قلت: ما وضعه الخليفة إلا موضعه، والرجال حامدون له راضون برئاسته. ثم حول وجهه فنظر إلى كوكبة عظيمة من الفرسان قد
(1/205)
________________________________________
أقبلت، فحرك دابته ومضى. فلم يبعد حتى أقبل العسكر، وجاء قوم يسألوني عن الخليفة هل رأيته، وأين أخذ. فقلت لهم: ما رأيت الخليفة. قالوا: فهل مر بك فارس على دابة من صفته كذا، وعليه من اللباس كذا وكذا؟ قلت: نعم. قالوا: فأين مضى؟ قلت: بين أيديكم، فمن هو؟ قالوا: المعتضد بالله. فوقعت فيما لا ينادي وليده؟ وأقبلت أتذكر ما خاطبني به وأجبته عنه، حذراً من أن يكون وقع خطأ منى أو طعن على إنسان ممن سألني عنه. وصرت إلى الديوان بالثريا، وأنا لا أعقل غماً. فأنا في تلك الحال إذ خرج عبيد الله بن سليمان من حضرة المعتضد بالله، وأحمد عنده ما كان منى في الإجابة عما سألني عنه، وجزاني الخير. وخرج أبو العباس فاستدعاني، وسألني عن حالي في طريقي فأعدت عيه خبر الفارس وجميع ما جرى بيني وبينه، فصدقني فيه. وقال: إن الوزير أعاد على ملثه. وأقبل يحمد الله على حسن توفيقه إياي فيما خاطبته به. ثم أوصاني بالتحفظ فيما أخاطب به من يسايرني. والاحتراس من زلل تقع فيه، فصرت بعد ذلك لا أمر في طريقي إلا ومعي جماعة، ومتى خاطبني إنسان تحرزت منه غاية التحرز.
وحدث أبو القاسم قال: حدثني أبو عبد الله والدي قال: كنت يوماً بحضرة أبي العباس بن الفرات في الديوات في دار السلطان إذ جاءه خادم برسالة من المعتضد بالله رحمه الله يقول فيها: إنه قد زوج جارية في داره من أحد غلمانه،
(1/206)
________________________________________
وأنفذ إليه ألف دينار أمره أن يبتاع بها لهما جهازاً، وأن يفرغ من جميعه في بقية يومه. فأجابه بالسمع والطاعة. ثم أمرني بإثبات جميع ما يحتاج إليه، فأثبته، ونظر فيه وزاد فيما أراد. ثم أحضر محمد بن عبد الوهاب وجماعةً ممن يسكن إلى نهوضه وكفايته، فأفرد كل واحد منهم بصنف يبتاعه، ودفع إليه من المال بقدر حاجته، ووصاهم باختيار ما يبتاعونه، والاحتياط في ثمنه، والمبادرة به إلى حضرته في الدار ومضوا، ولم يزل يراعيهم إلى أن انصرفوا إليه بعد العصر بما ابتاعوه، فنظر إليه وارتضاه، وقابل به الثبت الذي عمله فوجده قد انتظم جميعه. ثم تذكر فقال: يحتاج أن يكون مع ذلك كبريت وحراق وأحجار النار وسرج. وتقدم بإحضار ذلك فأُحضر. وطلب الخادم، فخرج وسلم إليه المتاع وثبتاً به، وحمله الخادم ومن معه إلى حضرة المعتضد بالله. فلما عرض عليه شاهده شيئاً شيئاً وقابل به الثبت، فوافق أحمد المعتضد فعل أبي العباس فيما تفقده وقال: من راعى هذا الأمر هذه المراعاة حتى لم يخل بشيء مما تدعو إليه الحاجة لحقيق بتدبير المملكة، وموضع للإعتماد والتعويل. ووقع عنده ما كان منه ألطف موقع وأحسنه.
وحدث أبو القاسم قال: حدثني أبو عبد الله أبي قال: لما شخص أبو القاسم عبيد الله بن سليمان إلى الجبل مع بدر المعتضدي استخلف أبا الحسين القاسم ابنه على الوزارة وضاقت الأحوال على أبي الحسين، واشتدت المطالبة بالاستحقاقات، فدعته الضرورة إلى طلب مائتي ألف دينار من المعتضد بالله قرضاً إلى أن ترد الأموال فيرد عوضها. وخاطبه في ذلك، وسأله إسعافه. فأجابه إلى إطلاق ما استدعاه منه إن حضر أحمد بن محمد بن الفرات وضمن رده. فحملت القاسم الحاجة على أن سأل أبا العباش ضمان المال للمعتضد بالله، فاستعفاه من لقائه، وعرفه كراهية
(1/207)
________________________________________
الدخول إليه، وكان القاسم لذلك أكره، لكن الضرورة دعته إلى ما خالفه رأيه وإيثاره فيه، فأخذه معه، واستأذن له على المعتضد بالله، فأوصله. فلما مثل بين يديه استدناه وقربه، وأقبل يسأله عن نواحي السواد، وما يرتفع منها ومن عبرها القديمة في الوقت الذي اقتتحت فيه. ثم تجاوز ذلك إلى نواحي البصرة ونواحي الأهواز ثم فارس وكرمان وسبجستان وفرج بيت الذهب والقندهار والسند والهند والصين، ثم نواحي خراسان والجبل، ثم نواحي الموصل وديار ربيعة ومضر وأجناد الشام ومصر والإسكندرية وما وراء ذلك من البلدان. وهو يجيبه بارتفاع ناحية ناحية، وفي أيام من فتحت، ويشرح له أحوالها، فاستعظم المعتضد بالله ما شاهده وسمعه منه، وأعجبه إعجاباً شديداً، وأقبل عليه إقبالاً كثيراً شق على أبي الحسين القاسم، وندم معه على الجمع بينه وبينه. ثم سأل أبا العباس عما عنده في أمر المال الذي التمسه القاسم منه فعرفه صدق الحاجة إليه، وضمنه رده إلى بيت مال الخاصة، فضمن له ذلك عند افتتاح الخراج واتساع الارتفاع، فوقع إلى صاحب بيت المال بإطلاقه، ووقع إليه وإلى صاحب بيت مال العامة بألا يقبلا توقيعاً للقاسم في شيء من المال إلا بعد أن يكون فيه توقيع أحمد بن محمد بن الفرات، وأعلمه أن إعتماده في استيفاء الأموال وجمعها عليه لا يعرف فيها سواه. وانصرف القاسم كئيباً حزيناً بما جرى، ولم ينفذ له من بعد توقيع بإطلاق مال إلا ما يوقع فيه أبو العباس.
وكتب القاسم إلى أبيه بصورة المجلس، فكتب إلى أبي العباس يشكره على ما كان منه، وإلى القاسم يوبخه ويعنفه على فعله، وقال له في فصل من كتابه: كنت ظننت أن السن حنكتك، والأيام قد ثقفتك، حتى ورد كتابك بما ورد به.
(1/208)
________________________________________
ثم أتبع ذلك بالخطاب القبيح بما يشاكله، وأعلمه أنه قد أخطأ وأساء، وجنى على نفسه وعلى أبيه جناية لا يمكن تلافيها، وأنه كان يجب أن يستسلف المال من التجار ويلتزم في ماله ومال أبيه الربح فيه ولا يفعل ما فعله.
قال أبو القاسم: وسمعت جماعة من الكتاب يذكرون أن السواد لم يرتفع لأحد بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثل ما ارتفع له إلا المعتضد بالله فإن أبا العباس أحمد ابن محمد بن الفرات رفعه في أيامه ثلاثمائة ألف وأربعين ألف كر شعيراً مصرفاً بالفالج، وباع الكرين بالمعدل من الحنطة والشعير بتسعين ديناراً فكان ثمن الأكرار أربعة آلاف ألف وثمانين ألف دينار، وحصل من الخراج وأبواب المال أكثر من ألف ألف دينار، فإذا أضيف إلى ذلك فضل الشروط والمقاطعات والإيغارات، بلغت الجملة ما حصل لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه.
قال أبو القاسم: وسمعت مشايخ الكتاب يقولون: إنه لم يجتمع في زمن من الأزمنة خليفة ووزير وصاحب ديوان وأمير جيش مثل المعتضد بالله. وأبي القاسم عبيد الله ابن سليمان وأبي العباس بن الفرات وبدر. فكان التدبير مع هؤلاء الأربعة مطرداً، والأمر منتظماً، والعمارة وافرة الأموال دارةً، حتى اجتمع في بيت المال بعد النفقات الراتبة والحادثة وإطلاق الجاري للأولياء في سائر النواحي وجميع المرتزقة بها وبالحضرة تسعة آلاف ألف دينار فاضلةً عن جميع
(1/209)
________________________________________
النفقات. وكان المعتضد بالله رحمه الله قد اعتقد أن يتمها عشرة آلاف ألف دينار، ثم يسبكها ويجعلها نقرةً واحدة ويطرحها على باب العامة ليبلغ أصحاب الأطراف أن له عشرة آلاف ألف دينار، وهو مستغن عنها، فاخترمته المنية، قبل بلوغ الأمنية.
وحدث أبو القاسم قال: حدثني أبو عبد الله أبي قال: تأخرت عن أبي العباس ابن الفرات في يوم جمعة، وأقمت عند بعض أهلي بالجانب الغربي، وحضرتنا مغنيتان محسنتان فاندفعت إحداهما وغنت
قايست بين فعالها وجمالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
والله لا كلمتها ولو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي
وضربت الأخرى وغنت:
يا ذا الذي حلف العشية جاهداً ... الا يكلمني فعال المسرف
قد جرت فيما كان منك وإنه ... ليزيد قبح الجور عند المنصف
قال: فاستحسنت أن أجابت الثانية الأولى بجواب في وزن الصوت وقافيته ومعناه. وصرت إلى أبي العباس بن الفرات من غد، وسألني عن سبب تأخري عنه، فأعلمته إياه، وحدثته حديث المغنيتين وما غنتا به، فعجب منه ومضى إلى أبي الحسين القاسم ابن عبيد الله فأخبره. فكانت سبيله فيه سبيله وقد كان أبو العباس سألني عن قائل الشعر. فقلت: هو لعبد الله بن المعتز، وحضر القاسم بحضرة المكتفى بالله، فأعاد عليه الحديث فقال له: لمن الشعر؟ فقال: لعبيد الله بن عبد الله
(1/210)
________________________________________
ابن طاهر. فقال: قد بلغني عنه خلة، فأحمل إليه ألف دينار، وأعلمه أنني لا أُخليه من مثله في كل مدة. وانصرف القاسم وعرف أبا العباس ما جرى، وما حمل إلى عبيد الله من الدنانير. قال أبو عبد الله: وأخبرني أبو العباس بما جرى فقلت: الشعر لعبد الله بن المعتز. فقال: قد أتاح الله لعبيد الله بن عبد الله الرزق من حيث لم يحتسب، وهذا ما لا حيلة للمخلوقين فيه. وحدث أبو القاسم عن أبيه أنه كان جالساً بحضرة أبي العباس بن الفرات في يوم سبت وقد ابتدأ المطر، وهو يريد المضي إلى دار أبي القاسم عبيد الله بن سليمان، إذ وردت عليه رقعة محمد بن إبراهيم بن الخصيب وفيها:
انعموا آل الفرات ... واشربوا بالبكرات
يوم سبتٍ ورذاذٍ ... وجوارٍ محسنات
ما قرى كسرى أنوشر ... وان هذا في الصفات
فعمل على القعود، وأضرب عن الركوب، وبعث إلى محمد بن إبراهيم في الحضور، واستدعى أبا الحسن أخاه، ومر لنا أطيب يوم. وكتب أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بخطه إلى أبي العباس أحمد ابن محمد بن الفرات:
يا وليّ الإمام هنّأك الله ... بدين الهدى وشهر الصيام
وبكل الأعياد في الدين فاسعد ... أمد الدهر عابر الأيام
عالياً غاية الذّرى كالئ الدين ... رئيساً أقصى مدى الإحرام
(1/211)
________________________________________
أنت قطب الدنيا تدور عليه ... ما اديرت وحافظ الإسلام
أنت بالدين في الزمان مهنّىً ... وله في يديك عقد الذمام
وتهنّي الدنيا وأعيادها من ... ك بطول البقاء والإحتكام
والمراقي في المجد والأمر والنّهي ... وأعلى الإعزاز والإكرام
واتّصال الإحسان منك إلى النا ... س وشفع الإيصال بالإنعام
أنت عنوان كلّ مجد وتاريخ ... المعالي وسيد الأقوام
حارس الإرث والخلافة والسلطان ... والدهر كله والأنام
علم الدهر فابق فيه تجاهاً ... علماً للمنار والأعلام
جمع الله كلّ خيرٍ ومأمو ... ل وسؤلٍ ونعمةٍ للهمام
جامعاً للوزير كل تمامٍ ... من أقاصي المنى بكل دوام
ذا دعائي وصلته بثنائي ... ومناي انتظمتها في نظام
مقسماً بالوفاء والشكر والإخ ... لاص والنّصح غاية الإقسام
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات يقول: كثر القول في حفظ أبي جعفر أحمد بن إسرائيل الكاتب الأنباري، فأحب أخي أبو العباس أن يقف على صحة ذلك من بطلانه، فمضى إليه، وأخذني معه، ودخلنا داره، وقصدنا مجلسه، فوجدناه قد نهض منه يريد الركوب، فقال لي أخي: فاتنا كل ما قدرناه. وسلمنا عليه ومشينا معه. فبينما نحن في تلك الحال إذ جاءه خليفة لبعض العمال بكتاب ضخم من العامل الذي كان يخلفه، فدفعه إليه، وفضه، وأخذ الغلام طرفه، وأقبل بهذه عليه هذا سريعاً متصلاً حتى انتهى إلى آخره. ثم رمى به إلى الكاتب وقال له: وقع عليه بأن يجاب
(1/212)
________________________________________
بكذا وكذا. ومشى إلى الموضع الذي يركب منه وركب. فقال أخي: أُعطي الله عهداً إن كان قرأ الكتاب أو درى ما فيه، وإنما فعل ما فعله ليرينا أنه قد قرأه وفهمه. وتقدم إلى بعض غلمانه بطلب صاحب الدواة، وبذل شيء له على إخراج الكتاب إلينا لنقرأه ونرده من وقته، ففعل ذلك، وجاءنا بالكتاب فقرأناه، وقرأنا التوقيع عليه، فوجدناه قد انتظم بسائر معاني الكتاب. فعلمنا أن الذي تحدث به عنه حق لا تزيد فيه.
وحدث أبو القاسم عن عبد الله أبيه قال: كان أبو العباس بن الفرات يحتبسني عنده في أيام خلوته للأُنس، قال: فحضر عنده في بعض الأيام عدة مغنيات، وغنت إحداهن لأبي العتاهية:
أخلاّي بي شجوٌ وليس بكم شجو ... وكل فتى من شجو صاحبه خلو
رأيت الهوى جمر الغضا غير أنّه ... على حره في حلق ذائقه حلو
فقال أبو العباس: هذا خطأ، وإنما يجب أن يكون البارد ضد الحار والحلو ضد المر. فقلت له: فكيف كان يجب أن يقول؟ قال: كان يقول:
غدوت على شجو وراح بي الشجو ... وكل فتى من شجو صاحبه خلو
وباكرني العذّال يلحون في الهوى ... ومر الهوى في حلق ذائقه حلو
فلم يبق أحد ممن حضر إلا علم أن الذي قاله أحسن وأصوب.
وحدث أبو القاسم عن أبيه قال: تقدم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل إلى أبي عبد الله محمد بن غالب الأصفهاني أن يكتب إلى العمال في النواحي كتباً يدعوهم فيها إلى الاستكثار من العمارة، ويأمرهم بمطالبة الرعية بها، فكتب
(1/213)
________________________________________
الكتب وأحضرها أبا الصقر، فاستحسنها وتركها بين يديه. وأقبل أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات، فدفعها أبو الصقر إليه وقال له: اقرأها وانظر ما أحسن ما أورده أبو عبد الله في هذا المعنى. فقرأها، ووجده قد افتتحها بأن قال: الحمد لله الذي استعمر عباده في أرضه ليخرج رزقهم منها وليكفتهم فيها. ثم قال بعد ذلك: ولو لم يكن من فضيلة الازدراع إلا قول الله عز وجل في محكم كتابه: " كَزَرْعِ أَخْرَجَ شَطْأَهْ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ " فلما قرأها أدرجها، وأمسك عن إيراد شيء في معناها، فقال له أبو الصقر: ما عندك فيها؟ وأطنب في وصفها، فعارضه أبو العباس في ذلك. فقال له: ما الذي أنكرت؟ قال: ابتدأه بأن قال: الحمد الله الذي استعمر عباده في أرضه ليخرج رزقهم منها وليكفتهم فيها. فلم يدع لهم نفساً. ثم ثنى بأن جعل الآيات التي جعلها الله في نبيه وأصحابه عليهم السلام مثلاً للزرع، وهذا خلاف ما جاءت به الروايات، وفسره المفسرون. فعلم أبو الصقر أن الأمر على ما قال، وكلفه كتب الكتب من جهته، ودفع المكتوبة إليه. وكان أبو عبد الله محمد بن غالب يعتب على أبي العباس لما كان منه في ذلك. وحدث أبو القاسم عن أبيه قال: خلا أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات للشرب في وزارته الأولى، في الدار المعروفة بالدار الجديدة من دار سليمان بن وهب. وحضرت انا وجماعة من كتابه، وحضر من المغنيات بين يدي الستائر ومن ورائها ما لا يحصى كثرة، وأُحضرت من أواني الذهب والفضة ماله القيمة الوافرة.
(1/214)
________________________________________
ومر يوم حسن طيب إلى وقت العصر، وإذا العباس الفرغاني حاجبه قد دخل وقال: يا سيدنا، قد حضرت بدعة الكبيرة وهي في طيارها تستأذن للوصول. فأطرق مفكراً ثم رفع رأسه وقال: ارفعوا ما ها هنا من الأواني. فرفع إلا قليلاً، ونهضت المغنيات اللواتي كن قدام الستارة، وأمره بالإذن لها. فدخلت ووقفت بحضرته ثم تقدمت وقبلت يده وقالت: بلغني أن سيدي الوزير قد نشط للشرب فحضرت للخدمة. فأمرها بالجلوس، وجلست وطلبت العود، فجيء به، وغنت فجودت، واستحسن أبو الحسن ما أتت به، وطرب عليه وشرب. ثم أخذ ربع قرطاس كان في دواته، وكتب شيئاً وقطعه، ودفعه إلي وقرأته فكان:
إذا بدعةٌ جوّدت عودها ... تذلل في ضربها كل صعب
تغنّي فتجني ثمار القلوب ... وتهدي سروراً إلى كل قلب
فاستحسنت ذلك، وكانت بدعة بالقرب مني. فقلت لها: إسمعي إلى ما وصفك الوزير به. وأنشدتها البيتين، فسرت وفرحت، وقامت مسرعة فقبلت يده ثم الأرض وعادت إلى موضعها وقالت: بالله يا سيدي إلا أعدت الشعر علي حتى أحفظه، ففعلت وحفظته وأدارته في حلقها، وعملت له لحناً من وقتها، ثم ضربت وغنته، فجاء في نهاية الحسن. ونشط أبو الحسن، وتقدم برد المجلس ومن كان فيه إلى ما كان عليه. ولم يزل ذلك الصوت صوتنا عليها بقية ليلتنا. فقال أبو القاسم: فقلت لأبي عبد الله أبي: فلم كره حضور بدعة وهي من آلة الشرب وموصوفة بالحذق في ذلك الوقت؟ قال لأنه كان يتهمها بنقل أخباره إلى المقتدر بالله رحمه الله.
قال أبو القاسم: وكان لأبي الحسن بن الفرات مطبخان في داره. فأما مطبخ
(1/215)
________________________________________
الخاصة الذي يطبخ فيه فلا أحصى ما كان يدخله من الغنم والحيوان لكثرته. وأما مطبخ العامة المرسوم بما يقدم إلى خلفاء الحجاب المقيمين في الدار ويغرف منه للرجالة والبوابين وأصاغر الكتاب وغلمان أصحاب الدواوين فكان يستعمل فيه في كل يوم تسعون رأساً من الغنم وثلاثون جدياً ومائتا قطعة دجاجاً سماناً وفراريج مصدرة، ومائتا قطعة دراجاً، ومائتا قطعة فراخاً. وهناك خبازون يخبزون الخبز السميذ ليلاً ونهاراً، وقوم يعملون الحلواء عملاً متصلاً، ودار كبيرة للشراب. وفيها ماذيان يجعل فيه الماء المبرد ويطرح في الثلج كدراً، ويسقى منه جميع من يريد الشرب، الرجالة والفرسان والأعوان والخزان ومن يجري مجري هذه الطبقة من الأتباع والغلمان، ومزملات فيها الماء الشديد البرد. وبرسم خزانة الشراب خدم نظاف، عليهم الثياب الدبيقية السرية، وفي يد كل واحد منهم قدح فيه سكنجبين أو جلاب ومخوض وكوز ماء ومنديل من مناديل الشراب نظيف، فلا يتركون أحداً ممن يحضر الدار من القواد والخدم السلطانيين والكتاب والعمال إلا عرضوا ذلك عليه. وفي جانب الدار أدراج كثيرة لأصحاب الحوائج والمتظلمين حتى لا يلتزم أحد منهم مؤونةً لما يبتاعه من ذلك، وأنصاف قراطيس وأثلاث.
قال أبو القاسم: وحدثني أبي قال: كان أبو الفضل بن الحجام النحوي
(1/216)
________________________________________
يكثر الجلوس إلى جانبي في دار أبي العباس أحمد بن محمد بن الفرات يحادثني، فاتفق أن جلس يوماً على رسمه، واستمددت من الدواة فترشش من ذلك المداد على ثيابه، فأخذ قلماً من دواتي وقرطاساً من بين يدي وكتب إلى أبي العباس:
يا سيدي ومؤملي ... في كلّ حادثةٍ وريب
لك كاتب شاب الكتا ... بة بالبلاغة أيّ شوب
فإذا جلست بجنبه ... جعل اسمه صبغاً لثوبي
يعني زنجي فضحك أبو العباس مما كتب به، وأمر فحملت إليه عدة أثواب من دبيقي وقصب وغير ذلك.
قال أبو القاسم: حدثني عمي أبو الطيب أحمد بن إسماعيل قال: كان معنا في الديوان خازن شيخ قد خزن في الدواوين في سر من رأى، يعرف بجعفر الحرامي، فكان يقول كثيراً: ما استطعت ألا تبيت مغموماً فافعل فكنت أسمع هذا الكلام منه صفحاً. فلما كان بعد مدة، وأنا أكتب بين يدي أبي العباس أحمد ابن محمد بن الفرات وأخفف عنه. جاءني رجل من التناء بالسواد، ومعه توقيع بنقل مقاسمة بيدر له من رسم ثقيل إلى رسم خفيف، ذكر أن أبا القاسم عبيد الله بن سليمان وقع له به، وتوقيع أبي العباس ابن الفرات فيه بالعمل على موجبه. فاستربت بالتوقيع فشككت في صحته، وبذل لي مائة دينار على إمضائه، وكتب الكتاب بمقتضاه. ففعلت وأخذت المائة دينار وتسلم الكتاب فلما كان الليل وأويت إلى فراشي اجتهدت في النوم فامتنع علي، وذكرت ما عملته وتجوزت فيه؛ فضاق صدري، وساء ظني، وقلت: هذا الذي كان يحذرني منه جعفر الحرامي، وندمت على
(1/217)
________________________________________
ما كان مني، وتقلبت على الفراش من غير أن يدخل النوم عيني، وحدثت نفسي بالركوب وقصد الرجل. وقد كان ذكر لي فيما جرى بيننا من الحديث أن منزله في الجانب الغربي في سكة كذا من سكك المدينة، فلم يمكن ذلك لأنه كان أول الليل، ثم لم أزل على حالي في القلق طويلاً، حتى إذا زاد ما بي تقدمت إلى غلماني بأن يسرجوا لي وبالخروج إلى الشارع، والمسألة عمن بتلك الطريق، فخرجوا وعادوا يذكرون أنه ما مر أحد. ثم أمرتهم بأن يسرجوا لي على كل حال، وأسرجوا وحملوا بين يدي شمعة، وركبت وسرت، فإذا الشرائج ممدودة، وأبواب الدروب مغلقة، فما تهيأ لي فتح شيء منها إلا ببر الحراس. ولم أزل على ذلك حتى انتهينا إلى رأس الجسر من الجانب الشرقي، فكان الباب مقفلاً، فسأل الغلمان الموكل به فتحه، فأبى، وبذلوا له دراهم عن ذلك فلم يقبلها. ووقفت إلى أن وافى فرانق من قبل بدر غلام المعتضد بالله بكتاب منه إلى بعض أهل الدولة النازلين في الجانب الغربي، ففتح له الباب وجاز وجزت معه. ثم وصلت بعد اجتهاد إلى دار الرجل، وتقدم غلماني إلى بابه فدقوه، وطالعهم من السطح، وسألهم عما يريدونه، فأشعروه بحضوري، فأمهل قليلاً ثم فتح الباب، وأذن في الدخول، ورآني فأنكر مجيئي في مثل ذلك الوقت، وقال: لو كتبت إلي لجئتك! فما الذي تحب الآن؟ فقلت وقع على سهو في الكتاب الذي كتبته لك، وخفت أن يقع عليه من يتتبعني وتتطرق من قوله قباحة علي. فقال: هذا قول لا يجوز على مثلي، ومن المحال
(1/218)
________________________________________
أن يخرج عن يدك ما فيه لحن وخطأ، ولعلك فكرت في شيء آخر من أمر الكتاب نفسه، فقلت: لا بد من إحضاره، فقال: توقف قليلاً. ثم قام وغاب لحظة وجاء ومعه صرة فيها خمسون ديناراً، وقال: تلك مائة وهذه خمسون ديناراً، وليس في كل وقت يعرض مثل ذلك، وكم في الدواوين من توقيع يجري هذا المجرى ولا يؤبه له ولا يتنبه عليه؟ ورغبني فيها ترغيباً كدت معه أن آخذها. ثم ذكرت محلي من أبي العباس بن الفرات، وموضعي من خدمته، ومكان أخي منه، وأنني أقدر أن أفيد معه وفي جملته الفوائد الكثيرة، فتماسكت وامتنعت، وعاودته المطالبة بالكتاب، ووضع غلامي بين يديه المائة الأولى. فقال: أحب أن تتوقف قليلاً. وقام ثم رجع ومعه الكتاب وخمسون ديناراً أخرى، وقال: هذه مائتا دينار، وهذا الكتاب، فاختر ما تريده منهما وخده. وأعاد من تهوين القصة وتجديد القول الداعي إلى الرغبة ما كادت به يدي تمتد إلى الدنانير. ثم راجعت الفكر، وأشفقت من ظهور الأعداء على الأمر، وفساد الجاه، وأخذت الكتاب ومزقته، ونهضت وركبت. فلما توسطت الجسر رميته مخرقاً في الماء، وعدت إلى منزلي، وكنت أنزل بسوق العطش. وقد بقيت سدفة من الليل، فطرحت نفسي على الفراش، ونمت نوماً طيباً، وزال ما كنت عليه من سوء الفكر واستشعار الخوف، وأصبحت وسألت غلماني عما عندهم من الطعام، وأنفذت إلى جماعة كانوا يعاشرونني، فحضروا وأكلنا، وحضر النبيذ وشربنا، وجاءني غلامي وقال: غلام أبي العباس بن الفرات بالباب يستدعيك. فأدخلته وأجلسته معنا، فأكل وشرب، وقلت له: عرفه أنني عند بعض أهلي بالجانب الغربي. فمضى، ولم يبعد أن جاء غلام آخر يطلبني، ففعلت به كمثل فعلي بالأول.
(1/219)
________________________________________
فانصرف. وقلت في نفسي: لأن ألقي أبا العباس معتذراً من تأخر يوم عن خدمته أولى من أن ألقاه معتذراً من مثل ذلك الذنب الكبير. فأقمت على جملتي بقية يومي
وباكرته من غد، فسألني عن سبب تأخري فأعلمته كوني عند بعض أهلي بالجانب الغربي. ومضت أيام، وورد كتاب العامل الذي تلك الضيعة في عمله وفي درجه حزر الغلة وقد نسب كل بيدر إلى مقاسمته؛ وعلى مثل هذا كانت الحزور ترد. فقرأه أبو العباس على رسمه حرفاً حرفاً، ووجد قد حكي تحت اسم بيدر من البيادر: مما ورد الكتاب بنقله من مقاسمة كذا إلى مقاسمة كذا. فلما قرأة اختلط وأنكر ذلك وقال: ما أذكره، ومتى أمرنا بنقل المقاسمات الثقيلة إلى المقاسمات الخفيفة؟ واستدعى أبا عبد الله أخي، وتقدم إليه بأن يكتب إلى العامل بإنكاره ما وقف عليه من الحكاية التي حكاها في الحزر، ويرد الكتاب الذي وصل إليه في هذا المعنى بعينه. فكتب ذلك، ومضت أيام فلم أشعر وأنا بحضرته إلا بكتاب العامل قد ورد جواباً عما كوتب، وفي درجة الكتاب الذي طلب منه. وقرأه أبو العباس ابن الفرات، وأقبل يدفعه إلى واحد واحد من الكتاب الذين في مجلسه، ويسأله عن صاحب خطه. ثم دفعه ألي فلما قرأته ذكرت اسم البيدر، وقلت في نفسي: أي شيء كان أسوأ حالاً مني لو كان بخطي وقد ورد في مثل هذا المجلس الحافل؟ ولم يعرف أحد من الحاضرين الخط، وسلمه إلي أحمد بن يزيد المدير وقال له: إمض به إلى الديوان، وخذ خطوط أصحاب المجالس وخلفائهم بما عندهم من العلم به، وجئني بنسخته إذا وجدتها من مواضعها. كرته من غد، فسألني عن سبب تأخري فأعلمته كوني عند بعض أهلي بالجانب الغربي. ومضت أيام، وورد كتاب العامل الذي تلك الضيعة في عمله وفي درجه حزر الغلة وقد نسب كل بيدر إلى مقاسمته؛ وعلى مثل هذا كانت الحزور ترد. فقرأه أبو العباس على رسمه حرفاً حرفاً، ووجد قد حكي تحت اسم بيدر من البيادر: مما ورد الكتاب بنقله من مقاسمة كذا إلى مقاسمة كذا. فلما قرأة اختلط وأنكر ذلك وقال: ما أذكره، ومتى أمرنا بنقل المقاسمات الثقيلة إلى المقاسمات الخفيفة؟ واستدعى أبا عبد الله أخي، وتقدم إليه بأن يكتب إلى العامل بإنكاره ما وقف عليه من الحكاية التي حكاها في الحزر، ويرد الكتاب الذي وصل إليه في هذا المعنى بعينه. فكتب ذلك، ومضت أيام فلم أشعر وأنا بحضرته إلا بكتاب العامل قد ورد جواباً عما كوتب، وفي درجة الكتاب الذي طلب منه. وقرأه أبو العباس ابن الفرات، وأقبل يدفعه إلى واحد واحد من الكتاب الذين في مجلسه، ويسأله عن صاحب خطه. ثم دفعه ألي فلما قرأته ذكرت اسم البيدر، وقلت في نفسي: أي شيء كان أسوأ حالاً مني لو كان بخطي وقد ورد في مثل هذا المجلس الحافل؟ ولم يعرف أحد من الحاضرين الخط، وسلمه إلي أحمد بن يزيد المدير وقال له: إمض به إلى الديوان، وخذ خطوط أصحاب المجالس وخلفائهم بما عندهم من العلم به، وجئني بنسخته إذا وجدتها من مواضعها.
(1/220)
________________________________________
قال: وسبق الخبر إلى الكتاب، وقد كان الرجل صاحب البيدر برهم بجملة حتى أثبتوه عندهم، فما منهم إلا من قطعه وأخرجه من شك الورق، ورمى به في المستراح، أو أعطاه غلامه حتى أخرجه من الديوان وخبأه في خفه أو تحت الأرض. ولما دار عليهم ابن يزيد أنكروا وجحدوا ما فيه من علاماتهم وخطوطهم فأخذ خطوطهم على ظهر الكتاب بما ذكروه، وجاء به إلى أبي العباس. ونحن في تلك الحال إذ جاءت إليه رقعة من متنصح يذكر فيها اسم الرجل الذي كتب الكتاب وموضع منزله، فدعا أبو العباس العباس الفرغاني حاجبه، وأمره بكبس الدار وطلب الرجل، فإن وجده أحضره وإن لم يجده أنهب كل ما فيها. فمضى ومعه ثلاثون راجلاً فكبس الدار، ولم يظفر بالرجل، فنهب الرجالة والأتباع ما كان فيها، وعرف الرجل الخبر فاستتر مدة، ثم خرج إلى الموصل هارباً، ولم يزل مقيماً بها إلى أن مات أبو العباس، فحمدت الله وشكرته على ما وفقني له، وخلصني منه، وعلمت أنه لا شيء أنفع من الصحة ولا أجل من الأمانة.
قال أبو القاسم: وحدثني أبي قال: كان أبو العباس بن الفرات يميل إلى أبي خازم القاضي ويكرمه ويقبل عليه إذا حضر عنده، ويتحدث معه، وكان أبو خازم أديباً وحافظاً، فحضر يوماً عند أبي العباس، وجرى الحديث بينهما، إلى أن أنشده أبو خازم:
أأنت الذي أخبرت أنك ظاعنٌ ... غداة غد أو رائح لهجير
وقلت يسيرٌ نصف شهر أغيبه ... وما نصف يوم غيبةً بيسير
قال له أبو العباس: أتحفظ في هذا الشعر غير ما أنشدته؟ قال: لا. قال: بلى
(1/221)
________________________________________
أنشدنا أبو محلم قال: أنشدنا الأصمعي لبعض العرب:
وما أنس ملأشياء لا أنس موقفاً ... لنا ولها بالصفح سفح ثبير
ولا قولها يوماً وقد بل جيبها ... سوابق دمع للفراق غزير
أأنت الذي أخبرت أنك ظاعن ... غداة غد أو رائح لهجير
وقلت يسير نصف شهر أغيبه ... وما نصف شهرٍ غيبة بيسير
قال: فقلت له: ألا قال نصف لحظة، نصف ساعة. قال: إن العرب تتهالك في أشعارها أحياناً، وتترك أحياناً فيه نفساً. فعجب أبو حازم من حفظه وزيادته على ما كان عنده، وطلب الدواة وكتب الحكاية والزيادة عنه وقال له: ما جئناك بفائدة إلا وانصرفنا من عندك بفوائد.
وحكى أبو القاسم عن أبيه قال: كان أبو العباس بن الفرات أذكر الناس وأحفظهم لما يمر به من قليل وكثير، فقال لي يوماً. ما اشتهيت أن أحفظ شيئاً قط إلا حفظته. وما آسي من عمري إلا على ثلاث سنين أفنيتها في علم إقليدس، فكيف لم أفنها في الفقه؟ قال: وكان أعلم الناس بالفقة على سائر المذاهب. وقال أبو القاسم: تأخرت أرزاق الكتاب في وزارة حامد بن العباس ونظر علي بن عيسى تأخراً طويلاً. فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة، وعرف ذلك، أنكره، وعجب من استمراره، وأنفذ المستحثين إلى العمال للمطالبة به، فقبضوا في مدة عشرة أشهر جاري أربعة عشر شهراً، وكان شديد التعصب لهم، والعناية بأمرهم. ولقد سمعته يوماً وقد خاطبه مخاطب على أن يجعل جاري بعض الكتاب
(1/222)
________________________________________
لكاتب في ناحيته، وهو يقول: قطع الله رزقي يوم أقطع رزق كاتب. ووقع للذي سئل في أمره بجار مستأنف. وقال أبو القاسم: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول في وزارته الثالثة، وقد ذكر حال السواد وجلالته: إن الإحسان إلى الرعية يزيد في ارتفاعه، ولولا خوفي من أن يجلس في هذا المجلس من لا يعرف غرضي فيما أفعل، ويجعله تسوقاً علي عند من لا يفهم، لنقصت المزارعين ثلاثة أقفزة في كل كر من مقاسمة الإستان التام، ثم كان ينظر بعد ذلك كم يزيد في الارتفاع بهذه المسامحة. وحكى أبو القاسم قال: كان أبو الحسن بن الفرات يطلق للشعراء في كل سنة من سني وزارته عشرين ألف درهم رسماً لهم سوى ما يصلهم به متفرقاً وعند مديحهم إياه. فلما كان في وزارته الأخيرة تذكر طلاب الحديث وقال: لعل الواحد منهم يبخل على نفسه بدانق ودونه، ويصرف ذلك في ثمن ورق وحبر، وأنا أحق بمراعاتهم ومعاونتهم على أمرهم. وأطلق لهم من خزانته عشرين ألف درهم. قال أبو القاسم: وكان في جهتي رجل يعرف بأبي بكر محمد بن إبراهيم البرني فأخذت له منها ثلاثمائة درهم، وأخذت لأبي سعيد الحسن بن علي العدوى خمسمائة درهم؛ وكان جاري وقد سمعت منه سماعاً كثيرة. وأخذت لأبي العباس أحمد بن عبد الله بن عمار لأنه كان يجيئني ويقيم عندي وسمعت منه أخبار المبيضة
(1/223)
________________________________________
ومقتل حجر وكتب صفين وكتاب الجمل وأخبار المقدمي وأخبار سليمان بن أبي شيخ وغير ذلك خمسمائة درهم. وتم لي أخذ هذه الدراهم لمن أخذتها له وهم محدثون لا من طلاب الحديث بفضل الجاه يومئذ.
وقال أبو القاسم: كان أبو الحسن بن الفرات قد تقدم إلى والدي أبي عبد الله بأن يستأمره في كل توقيع يرد عليه، فكان يفعل ذلك، وحضره في بعض الأيام رجل بتوقيع في آخر رقعة قد كتبها يشكو فيها حاله، ويسأل إجمال النظر في أمره بإجراء خمسة عشر ديناراً في كل شهر وتسبيبها على بعض الجهات، فلما قرأه عرفه ما أمر به الوزير من استئذانه في كل توقيع يرد، وسأله عما يحبه في ترقيعة: من رده عليه لأنه كان قد استراب به أو عرضه والاستئمار فيه. فآثر الاستئمار، وأعلمه أنه يفعل ذلك في يومه، وأنه يجب أن يعود إليه في غده ليعرفه ما يكون منه فيه. وعرض والدي التوقيع على أبي الحسن، فلما قرأه أنكره وعرفه أنه مزور، وتقدم إليه بإحضار الرجل الذي أوصله إليه ليضربه بالسوط، ويشهره على جمل ويخلده الحبس، ويجعله أدباً وعظة لغيره ممن يحدث نفسه بمثل هذا الفعل، وأكد القول عليه. وحضر الرجل من غد متعرفاً لما جرى في أمر التوقيع، فأشار عليه والدي بالإنصراف والإمساك وألا يعيد قولاً في ذلك. فامتنع امتناعاً دعاه إلى أن شرح له الصورة، وأشعره بغلظ القصة وقال له: أنا أُخالف الوزير فيما أمرني به، وأعرفه متى سألني عنك أنك لم تعد إلي. فذكر أن توقيعه صحيح، وأنه لا يبالي بالحضور والوصول إلى حضرة الوزير، ولا يدع عند ذلك إقامة حجته وإبراء ساحته. فراجعه وحذره إشفاقاً عليه؛ وهو مقيم على أمره. ثم قال: فأتقدمك إلى الدار. قلت: الاختيار إليك. فانصرف.
قال أبو عبد الله: وتشاغلت بالنظر في حوائج من كان عندي من أسباب
(1/224)
________________________________________
المقتدر بالله رحمه الله وغيرهم. فلما فرغت ركبت، ووجدته قد سبقني، ودخلت إلى أبي الحسن بن الفرات فقال لي: أين الرجل صاحب التوقيع؟ فقلت: ها هو حاضر. فأمر بإيصاله إليه. فلما رآه انتهره وزبره وقال له: تقدم على التزوير؟ وتقدم بحمله إلى صاحب الشرطة ليعاقبه ويشهره، ثم سأله عن نسبه، فأعلمه أنه ابن عم العباس بن الحسن. فلما ذكر ذلك له سكن غضبه، وأقبل عليه فتعرف منه خبر واحد واحد من أهله، ووصف له حالهم. فقال له: ما الذي حملك على ما فعلته؟ فقال كتابك الذين بحضرتك، لأني قصدتهم وسألتهم إيصال رقعة لي إليك أستعطف بها رأيك، وأستدعي فيها إحسانك، فما منهم من فعل، وأحوجني فعلهم إلى أن جعلت هذا التوقيع سبباً للوصول إلى مجلسك، وشكوى حالي إليك. فأخذ التوقيع ووقع تحته بإمضائه، ورسم لي مراعاته فيه حتى يسبب له على حيث يروج منه. ثم دعا أبا العباس أحمد بن مروان وكيله في داره، وتقدم إليه بأن يطلق له عاجلاً ثلاثة آلاف درهم يصرفها في مؤونته، وأن يقيم له في كل شهر خمسة عشر ديناراً من ماله سوى الجاري السلطاني الذي أمرنا بإجرائه له. فلما خرج إلي قال لي: أيما كان أعرف الوزير، أنا أو أنت؟ وعجب الناس من كرم ابن الفرات ورعايته لأهل البيوتات وذوي النعم والأقدار.
قال أبو القاسم: وحدثني أبي قال: كان أبو القاسم عبيد الله بن سليمان قد قلد أبا عبد الله جعفر بن محمد بن الفرات أعمال بهرسير والرومقان وإيغار يقطين وما يجري مع ذلك. وكان لأبي عبد الله محمد بن غالب الأصبهاني هناك مقاطعة، وتتبعها جعفر بن محمد فوجد فيها فضلاً كثيراً حمله على أن وكل بغلاتها إلى أن
(1/225)
________________________________________
يرد عليه الكتاب بالإفراج عنها أو غير ذلك. وشق ما كان منه على محمد ابن غالب، وكتب إلى عبيد الله بن سليمان رقعة في هذا المعنى، وأورد في آخرها أبيات شعر فيها:
أيظلمني عامل البهرسير ... ويركب مني صعب الأمور
ويبطل من سنتي ما جرى ... ويضغمني ضغم ذئبٍ عقور
وأوصلها من يده إلى عبيد الله، وكان أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات حاضراً، فأعطاه عبيد الله الرقعة وقال لمحمد بن غالب: الأمر إلى أبي العباس في الإمضاء أو الفسخ. فقال أبو العباس: فإني قد أمضيت. وأخذ القلم من الدواة ووقع بإمضاء المقاطعة، والإفراج عن الغلة. فكان محمد بن غالب يشكره على ذلك بعد عيبه عليه مما جرى في أيام أبي الصقر إسماعيل بن بلبل.
وحدث أبو القاسم قال: اجتمع كتاب أبي الحسن بن الفرات يوماً بحضرته، وذلك في وزارته الأخيرة، فذكر كل واحد منهم ما لحقه من الشدائد في استتاره، فحدثه أبو عمرو سعيد بن الفرخان النصراني انه كان في موضع وأراد الانتقال عنه، فخرج قبل طلوع الفجر، فلما توسط الطريق تبعه إنسان لا يعرفه. وأخذ في غير الوجه الذي أراده، وتبعه، وخرج منه إلى غيره، وهو يمشي معه. قال أبو عمرو: فلما كاد الصبح يسفر وقفت وقلت: أنا رجل خائف، وأريد أن أقصد موضعاً أستتر فيه، وقد قارب الوقت الذي قدرته أن يقرب باتباعك إياي. قال لي: قد عرفتك، وما قصدت فيما فعلته إلا الجميل معك، ولو أردت الاستتار لكانت معوضة، وهذا منزلي لك وبين يديك، وأسألك أن تعدل إليه وتعمل على المقام فيه. فنظرت فإذا الوقت قد أزف، ولا يمكنني الوصول إلى الموضع الذي أردت قصده إلا مع طلوع الشمس. فمضيت معه، وتقدمني واتبعته حتى وصل إلى منزله،
(1/226)
________________________________________
ودخل وأدخلني، فوجدت داراً طيبة، وفيها فرش نظيف، وأكرمني ومهد لي، وجلس دوني وقال لي: اعلم جعلني الله فداك أني رجل مزين، وأرجع إلى سعة حال ولي ثلاثون غلاماً، لكل واحد منهم منزل مثل منزلي، فتقيم عندي ما أحببت، فمتى ضاق صدرك وأحببت الانتقال نقلتك إلى منزل واحد واحد منهم، فأقمت فيه شهراً، ولعل المدة في فرج الله عنك وبلوغك محابك أن تكون أقصر من ذلك، وبالعاجل قد أفردت لك داراً، وأعددت فيها جميع ما تحتاج إليه، حتى لا تستعمل شيئاً مما نستعمله نحن، فربما لم تستنظفه. ونهض من عندي وغاب ساعة وقال: إذا شئت يا سيدي. فقمت وأدخلني إلى دار متصلة بداره، قد فرشت بفرش نظيف، وجعل فيها ما يحتاج إليه، من طست وإبريق وجرار وكيزان وقدور وغضائر وجامات وسكرجات وصواني وأطباق وقناني وأقداح، وإذا جارية سوداء واقفة. فقال: تكون هذه بين يديك متولية لخدمتك، وأنا صاحب خبرك، فإذا كان عشية انصرفت إليك بما أسمعه. فشكرته وجزيته الخير. ومضى وطبخ لي ما أردت، واحضرت من الشراب ما طلبت، وكان يجيئني في آخر كل نهار فيحدثني بما يعرفه فلم أزل على هذه الحال مدة أربعة اشهر لا أعدم شيئاً مما أريده. ثم ضاق صدري وأحببت الانتقال، فأشعرته بذلك، فاختار لي واحداً من أصحابه ذكر تقدمه عنده وثقته، فأشار بالنقلة إلى داره. فمضيت إليه معه، فكان منزله قريباً من منزل مولاه، وخدمني وما قصر في معرفة حقي والقيام بما أريده، وأقمت عنده شهراً،
(1/227)
________________________________________
وأردت الانتقال، فعرفت المزين ذلك، فأشار بالرجوع إلى منزله، فرجعت ولم تمض إلا أيام يسيرة حتى فرج الله عنا، وكشف وجوهنا بالوزير أدام الله تأييده.
فقال له الوزير أبو الحسن بن الفرات: فأي شيء عملت في أمر هذا الرجل؟ وبأي مكافأة كافأته على جميل فعله؟ قال: لا والله أيها الوزير ما عملت معه قليلاً ولا كثيراً. فقال له: بئس ما فعلت. فإنك قد فضحت المستترين، وضيقت عليهم مذاهبتهم. والآن أنا أولى بقضاء الحق عنك منك. أنفذ إلى الرجل وجئني به. قال ابن الفرخان: فقلت لكاون غلامي: امض إلى المزين الذي كنا مستترين عنده فجيء به، وعرفه أن الوزير يريده. فمضى فلما بعد قال لي الوزير: أردده وتقدم إليه بأن يورد عليه رسالة جميلة يسكن إليها، وأن يحضره على وفق وإكرام قال: فرددته وأوصيته، ومضى الغلام، وتشاغل أبو الحسن بالنظر والعمل، وتشاغلنا بالتوقيع والكتب. ثم جاء الغلام وعرف أبا عمرو بن الفرخان حضور المزين، وعرف أبو عمرو الوزير ذلك. فقال: يدخل. وخرج الحاجب فأوصله إلى المجلس، فوقف على بعد، فاستدناه وامتنع، فألح عليه فدنا، وأمره بالجلوس فأبى أشد الإباء. ولم يزل به حتى جلس. ثم قال له: لم تتأخر مقابلة أبي عمرو لك عن جميل ما أوليته إياه إلا لأنه خرج على حال مختلة، وذات يد قصيرة، وأنا أتولى ذلك عنه، ولقد أحسنت بارك الله عليك وفعلت ما يفعله الأحرار. فقام وقال: قد وصلت أيها الوزير إلى أعظم الجزاء بوصولي إلى هذا المجلس، وسماعي لهذا الخطاب، وبلغت غاية أملي، ونهاية أمنيتي بذلك. وما بلغت ما كان في نفسي من قضاء حقه وأشار إلى أبي عمرو فأمر أبو الحسن بإحضار أبي العباس أحمد بن مروان وكيله، فحضر وأسر إليه شيئاً لم نعلم ما هو، فخرج وأخذ المزين معه، ثم عاد بعد ساعة وحدثه ما لم نسمعه، فأخرج رأسه من سراره وقال: أرأيتم مثل ما نحن فيه مع هذا
(1/228)
________________________________________
المزين؟ تقدمت إلى ابن مروان بأن يدفع إليه خمسة آلاف درهم، فعرفني أنه امتنع من قبولها؛ وذكر سعة حاله واستغناءه عنها. ورد إليه ابن مروان برسالة في هذا المعنى، فمضى وعاد فذكر إقامته على الامتناع، فأمر الوزير أبا عمرو بن الفرخان بأن يقوم إليه، ويلطف به ويرفق، ولا يدعه حتى يقبل ما أطلقه، وقال: لعله استقل الخمسة آلاف درهم، فلتجعل خمسمائة دينار. فأحضره وألزمه أخذها، وعرفه أنه إن امتنع من ذلك غضبت عليه وأنه يفسد ما قد حصل له في نفسي. فقام أبو عمرو ساعة ثم عاد وقال ما زلت معه في مراوضة وملاطفة حتس قبلها وانصرف شاكراً. فبقينا وبقي الناس زماناً يتعجبون من فعل المزين وكبر نفسه. وكرم ابن الفرات وكافأته عن كاتبه.
قال أبو القاسم بن زنجي: كان أبو الحسن بن الفرات قد كاتب يوسف بن ديوداد ابن أبي الساج في أمر الري، وطالبه بحمل ما وجب من مالها على أنها ضمان في يده. فأجاب بأنه لم يضمن ضماناً يتعين عليه الخروج منه، ويسأل أبو الحسن عما عنده في ذلك يعني علي بن عيسى وكان إذ ذاك مصروفاً منكوباً في اعتقال أبي الحسن ابن الفرات فسأله عن ذلك، فذكر أنه ضمنه الأعمال، وأن وثيقة الضمان عند صاحب الديوان. وكان أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد يتقلد ديوان المشرق، وهذه الناحية جارية فيه، فطولب بذلك، وأحال على أبي الفتح الفضل بن جعفر بن محمد ابن الفرات وكان خليفته على الديوان. ورجع إليه فذكر أن الوثيقة حملت إليه، ووقف عليها، وردها بعد أن حملها إلى صاحب الديوان. واعتقل أبو الحسن بن الفرات الفضل ابن جعفر بهذا السبب، وجرت خطوب في هذا المعنى، وذلك في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة بعقب صرف حامد عن الوزارة وعلي بن عيسى عن خلافته،
(1/229)
________________________________________
وأوجبت الصورة طلب ذلك في الخزانة المنقولة من دار علي بن عيسى إلى دار أبي الحسن بن الفرات.
قال أبو القاسم: فأمرني أبو الحسن بأن أدخل الخزانة، وأقلب ما فيها من الأعمال، وألتمس وثيقة الضمان، وفعلت، وكانت خزانة عظيمة في بيت يعرف بالدمشقي في داره المعروفة بسليمان بن وهب في المخرم، والأعمال تكاد تبلغ السقف. وكان يمر في عرض ما أفتش عنه نسخ ما كتبه علي بن عيسى إلى ذكا الأعور، المقيم كان بمصر، ثم إلى تكين الخاصة المتقلد لها بعده وإلى الحسين بن أحمد المادرائي ومحمد بن جعفر القرمطي ونجح وابن رسم وغير هؤلاء من الولاة، فأقرأها وأجدها في نهاية الحسن. وربما أخذت بعضها وأجد في خلال ذلك حزوراً وكيولاً وكتباً من المنفقين في العساكر بما توفر من أموال الرجال، وبما وقفوا عليه من حال البدلاء والدخلاء لم يخرج إلى الدواوين، وأجمع ذلك وأخرج ألى الوزير أبي الحسن إضبارةً منه في كل يوم. فكان يعجب من علي بن عيسى وتركه وإخراج هذه الأعمال إلى الدواوين ويطعن عليه بذلك ويقول: يا قوم، سمعتم من يؤخر إخراج تقدير الغلات وحزرها وكيلها وكتب المنفقين بما توفر من المال إلى الدواوين؟ لم لا يتناقل كبار الكتاب وأصاغرهم هذه الأعمال ويثبتونها في مجالسهم ويقابلوا عليه ما عندهم؟ وأية حجة تكون لنا على الأعمال والعمال أذا احتسبوا بمال الرجال على العبر من غير حطيطة؟ وكان فيما أخرجته في بعض الأيام إليه عمل عمله عثمان بن سعيد المعروف بابن الصيرفي صاحب ديوان الجيش لما يراد للجيش في مدة سنة، وقد أورد فيه حال المماليك لخمسة أشهر، فحين وقف عليه جزاني الخير على إخراجه إليه، وذكر أن
(1/230)
________________________________________
نصرا القشوري طالبني بحضرة المقتدر بالله بإطلاق مال المماليك لستة أشهر، وادعى أن على بن عيسى كان يطلق لهم على ذلك، وأن هذا العمل يبطل قوله سيما وهو بخط ابن الصيرفي كاتبه وصاحب ديوانه. فأخذه معه، وانحدر إلى المقتدر بالله، وواقف نصرا الحاجب عليه بحضرته، فوقع له بذلك من المقتدر أحسن موقع، ولنصر أقبح موقع. قال أبو القاسم: وكان في هذه الخزانة كتب إلى علي بن عيسى ممن كان يشخصه من القاسم بن دينار وأحمد بن محمد بن رستم وزيد بن إبراهيم والحسين ابن أحمد المعروف بأبي زنبور المادرائي وأبي بكر محمد بن علي المادرائي فيها، العجائب، ودفتر منسوب إلى الحلاج فيه آداب الوزارة، وغير ذلك من رقاع المقتدر بالله ووالدته إليه ونسخ أجوبتها.
قال أبو القاسم: وكان أبو الحسن بن الفرات قد استظهر في أمر الموسم لسنة إحدى عشرة وثلاثمائة استظهاراً شديداً، لأنه أحب أن يجري أمره في أيامه على أفضل ما جرى عليه فيما قبلها، وأطلق لأبي الهيجاء بن حمدان في وقت واحد بإطلاق واحد مائة ألف دينار، وأخرج إلى أن نفذ في القافلة الثانية ما قدره أبو بكر عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش، وكذلك لمن صدر في القافلة الثالثة، وكان أكثر من مائة ألف دينار. وأزاح العلة في ثمن جميع ما احتيج إلى ابتياعه من الحضرة، وابتيع ذلك وحمل، وانتظم أمر القوافل، وتوجهت بأجمعها
(1/231)
________________________________________
من الحضرة. واتصل بأبي الحسن بن الفرات أن القرامطة قد تحركوا للفساد وهموا باعتراض الجيش، فكتب إلى أبي الهيجاء كتاباً بخطي يعرفه ما بلغه، ويوصيه ويحذره، ويأمره بالتيقظ والتحفظ وإذكاء العيون في جميع الطرق، وأجابه من القصر جواباً أنفذ في درجه كتاباً في جلد يضمن فيه المال والدم، وقد أشهد فيه جماعة الشهود والوجوه والتناء في البلد. فلما قرأه أبو الحسن سرته قوة نفسه، وضاق صدره من هذا الفعل الذي هو جار في سبيل البغي. وحدث في تلك السنة ما حدث على الحاج مما زاد به القلق والانزعاج، وأنفذ نزار ابن محمد وغيره من القواد لتلقيهم، وأطلق صدراً كبيراً من المال ابتاع به من الحضرة القمص والسراويلات والعمائم والأردية والأرز ليدفع ذلك إلى من يحتاج إليه، وحمل مالاً واسعاً ففرق على الناس بحسب أحوالهم وما يتحملون به إلى منازلهم.
وحدث أبو القاسم قال: كان أبو العباس وأبو الحسن إبنا الفرات ينزلان في أيام أبي الصقر إسماعيل بن بلبل في ربض حميد، وكان حد دارهما من الموضع الموازي لسكة الحوض إلى درب أبي سورة، وهو حد الدار المعروفة بالعروض. وعهدي بها وفيها بستان كبير كثير النخل والشجر، وبيت أحمر السقف والحيطان يعرف ببيت الدم. ثم قبضت وبيعت مع أن أصلها وقف، وابتاعها جماعة وتنقل الملك فيها من واحد إلى آخر. فمن ذلك الدار التي في الطرق وتوازي
(1/232)
________________________________________
سكة الحوض، فإنها حصلت لأبي الحسن محمد بن عبيد الله العلوي الكوفي، ثم انتقلت إلى ورثته. ومن ذلك دور وحجر وغرف كثيرة تلي هذه الدار صارت لجماعة من الناس، ومن ذلك دار كانت لعثمان بن الحسين ابن عبد العزيز الهاشمي، ويليها دار لعلي بن عبد الرحمن المعروف بابن هانيء الكوفي، ثم دار كبيرة واسعة ملكتها نزهة الملقمة. وهي تنتهي إلى آخر دور بني الفرات.. ولجعفر بن قدامة في أبي الحسن بن الفرات:
يا بن الفرات ويا كري ... م الخيم محمود الفعال
ضيعت بعدك واطرح ... ت وبان للناس اختلالى
وتغيرت مذ غيرت ... أحوالك الأيام حالي
لهفا أبا حسن على ... أيامك الغر الخوالي
لهفا عليها إنها ... بليت بأحوال بوالي
لا يجوز في لهفا التنوين لأن تفجع المرزئة لهفاه فحذفت الهاء في الوصل وبقيت الألف على سكونها. وله أيضاً فيه:
لمّا خلوت من الفوا ... ئد والمنافع والصلات
وعدمت في الأعياد ما ... عودت من كل الجهات
وبقيت فيها حائراً ... كالسفر ضلوا في الفلاة
ناديت يا سقيا ويا ... رعيا لعصر ابن الفرات
(1/233)
________________________________________
ملك أشم مسود ... رطب الأنامل بالهبات
يعطي الرغيب ولا يمن ... ولا ينغص بالعدات
وله فيه أيضاً:
لما غدوت وفي الحشا ... نار مضرمة تشب
والفكر والأحزان مش ... حون بها جسم وقلب
أنشدت ما قال ابن جه ... مٍ وهو بالأشعار طب
أملقت بعدك يا علي ... ونالني ما لا أحب
وحدث أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان قال:
كان الفضل بن الحسن الواسطي يتولى بيع غلات أبي العباس وأبي الحسن ابني الفرات، وكانت عظيمة لكثرة ضياعهما وزيادة ارتفاعهما. فاتفق أن مات، فأقاما مقامه عبد الوهاب بن أحمد بن ما شاء الله أحد غلمانه الرفاشين بين يديه، وقدماه ورفعا منه ونوها باسمه، وأكسباه مالاً جزيلاً، فتأثلت به حاله وصرف أبو الحسن عن وزارته الأولى. فخدم علي بن عيسى وباع غلاته. فلما عاد أبو الحسن بن الفرات إلى الوزارة ثانياً لم يؤاخذه بخدمة علي بن عيسى، وأجراه على رسمه في بيع غلاته، وخاطب أبا عمر القاضي في قبول شهادته وإظهار عدالته. وقبض علي بن الفرات، وتقلد الوزارة حامد بن العباس، وخلفه علي بن عيسى ورؤساء الناس، فلما صرف
(1/234)
________________________________________
حامد ووزر ابن الفرات الوزارة الثالثة قبض علي ابن ما شاء الله، فأنفذ مفلح الأسود خادم المقتدر بالله وله القدم المتمكنة، والمنزلة المتقدمة، والدالة القوية على ابن الفرات لقيامه بأمره عند عوده في هذا الوقت إى نظره يسأله في بابه، وحضر كاتبه برسالته في معناه. فقال ابن الفرات: الأستاذ هو الصاحب، وأمره الممتثل، وأنت أيها الرسول المأمون، لكنني أحضر ابن ما شاء الله، وأقفه بين يديك على ما تسمعه، فإن أردت بعد ذلك أن تتخذه سلمته إليك ولم أراجعك فيه. تم تقدم بإحضار ابن ما شاء الله، فحضر يرسف في قيوده، فأمر بنزع الحديد عنه، فنزع من ورقته، ثم قال له: اجلس، فامتنع، فكرر عليه القول فجلس. ثم أحلفه يميناً استوفاها عليه أن يسمع ما يقول له ويجيب بما عنده من غير تقية، ولا تورية ولا مواربة، ومتى ذكر له ما فيه تزيد رده أو تعنت دفعه، وناظره مناظرة النظير لنظيره من غير مراعاة لموضعه، ولا احتشام لمكانه. فلما فرغ من ذلك قال له: ألم يكن الفضل ابن الحسن الواسطي بيعي وبيع أبي العباس أخي، وله الحال والجاه والمنزلة والوجاهة بمعاملتنا وتولى غلاتنا وكنت رفاشاً بين يديه؟ قال: بلى. قال: فلما مات ألم نصطنعك ونقمك في خدمتنا مقامه ونرتبك الترتيب الذي شاع ذكرك فيه؟ ومال الناس إلى معاملتك به من أبي الحسن علي بن عيسى خصمنا وغيره من أصحاب السلطان حتى كثر مالك وتريشت حالك؟ قال: بلى. قال: فلما سخط السلطان علي وانصرفت عما كنت أخدمه فيه ألم تعدل إلى أبي الحسن علي بن عيسى وهو عدوى تعامله وتداخله؟ قال: بلى. قال: ثم عدت إلى خدمة السلطان فهل
(1/235)
________________________________________
واخذتك بذلك أو نقمته عليك أو عدلت في خدمتي عنك؟ قال: لا. قال: فهل استعنا بك في نكبة، أو حملناك من أمرنا كلفة، أو حملت إلينا قط مرعاة أو ملاطفة أو فعلت لك مع أحد من أسبابنا في وقت استغناء أو حاجة؟ قال: لا. قال: أفلم نرفع من قدرك وألزمنا أبا عمر القاضي قبول شهادتك حتى زدت على الأماثل من نظرائك؟ قال: بلى. ثم قال له المحسن ابنه وكان حاضراً: أما جئتك ليلة في سميرية ومعي خديجة بنت الفضل بن جعفر بن الفرات بنت عمي وزوجتي وثلاثون بدرة عيناً نقلتها على كتفي إلى المسجد المجاور لدارك بشارع الماذيان وعلى قريب من سوق الطعام، وأجلست المرأة تحفظ البدر، وطرقت بابك متخفياً، وعلي كنانة سوداء، وبيدي طبرزين، ودفعت الباب ففتحت لي جاريتك وهجمت عليك وأنت وحرمك في صفة دارك فارتعت وقلت: من أنت؟ فلما تبينت وجهي قلت: سيدنا الوزير؟ قلت: لست الوزير أنا سرور غلام خديجة بنت الفضل بن جعفر، اخرج معي وأبعد من معك عنك. فخرجت. ونقلنا البدر إلى دارك، ومعها زوجتي وقلت لك: هذه خديجة بنت عمي وزوجتي وهي طالق مني ثلاثاً بتاتاً إن كان هذا المال لي أو لأبي، بل هو ملكها وإرثها عن أبيها، وهو وديعة لها عندك، وأمانة في عنقك، لا تعط أحداً منه ديناراً فما فوقه سواها. فقلت: نعم. وتسلمت البدر؟ قال: نعم. قال: واعتذرت بما كان جرى فعذرتك وقلت لك: إنما اعتبرتك واختبرتك؟ قال: نعم. فقال له أبو الحسن بن الفرات: أفلم نحضر الشهود عند مصادرتنا وقد جمع الناس فحلفنا أنا والمحسن
(1/236)
________________________________________
ابني بالأيمان المغلظة السلطانية والمشتملة على العتاق والطلاق وصدقة المال أنه لم يبق لنا موجود ولا مذخور ولا مودوع، وأقسمنا بعد القسم بالله بحق رأس أمير المؤمنين على مثل ذلك، وأحللناه من دمنا إن كنا كاذبين؟ قال: نعم. قال: أفلم تسمع اليمين وأنت تعلم أننا صادقان فيها بخروج ما عندك عما نملكه مع ما قاله لك المحسن في أمره أنه لزوجته من دونه ودون
غيره، وأنه مال ورثته عن أبيها، ما استفادته منا؟ قال: نعم. قال: أفلم تقم في ذلك المجلس مع علمك ما تعلم وقلت كذب، له عندي ثلاثون بدرة عيناً أودعنيها ابنه المحسن؟ ولو لم نبلغك ما بلغناك ونقدمك من منزلة الشهود إلى ما قدمناك لما حضرت مثلك ذلك المجلس. ويا ليتك لما فعلت ما فعلت صدقت عن باطن الأمر، فقد كان يسعك أن تعطي ما أعطيت وتسلم ما تسلمت بعد أن تذكر ما جرى بين المحسن وبينك. فلما سمع كاتب مفلح من قول ابن الفرات لابن ما شاء الله ما قال واعترافه له بجميع ذلك نهض وقال: أستودع الله الوزير. وانصرف، وأمر الوزير برد ابن ما شاء الله إلى محبسه ثم قتله. وقال الناس: إن كان دم لا يطالب الله به ابن الفرات فدم ابن ما شاء الله. وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسن الأزرق التنوخي قال: حدثني بعض أصحابنا قال: حدثني أبو علي بن مقلة قال: هـ، وأنه مال ورثته عن أبيها، ما استفادته منا؟ قال: نعم. قال: أفلم تقم في ذلك المجلس مع علمك ما تعلم وقلت كذب، له عندي ثلاثون بدرة عيناً أودعنيها ابنه المحسن؟ ولو لم نبلغك ما بلغناك ونقدمك من منزلة الشهود إلى ما قدمناك لما حضرت مثلك ذلك المجلس. ويا ليتك لما فعلت ما فعلت صدقت عن باطن الأمر، فقد كان يسعك أن تعطي ما أعطيت وتسلم ما تسلمت بعد أن تذكر ما جرى بين المحسن وبينك. فلما سمع كاتب مفلح من قول ابن الفرات لابن ما شاء الله ما قال واعترافه له بجميع ذلك نهض وقال: أستودع الله الوزير. وانصرف، وأمر الوزير برد ابن ما شاء الله إلى محبسه ثم قتله. وقال الناس: إن كان دم لا يطالب الله به ابن الفرات فدم ابن ما شاء الله. وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسن الأزرق التنوخي قال: حدثني بعض أصحابنا قال: حدثني أبو علي بن مقلة قال: كنت أكتب بين يدي أبي الحسن بن الفرات قبل وزارته، فلما وزر قال لي في يوم نظره: أحضر ابن الأكموش وعشرة أنفار من التجار وبع عليهم ثلاثين ألف كر من غلات السواد، واستثن في كل كر بدينارين، وطالبهم بتعجيل مال الاستثناء في ثلاثة أيام. ففعلت ذلك، وكتبت لهم بالتسليم، وأنسيت مطالعة الوزير لشغل قطعني. ثم عرفته أياه. ثم استأذنته في تسليم المال إلى من يراه، فقال:
(1/237)
________________________________________
يا سبحان الله، أقدرت أنني استثنيت به لنفسي؟ لقد قبحت في هذا الظن، إنما أردت أن أصلح حالك به وأبين صحبتك بمكانه، فخذه واصرفه فيما تحتاج إليه، فقبلت يده ودعوت له، وانصرفت ألى منزلي وما أتمالك فرحاً، فطالبتني نفسي منذ حصل لي ما حصل من المال بمعالي الأمور وكبير المنازل.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو جعفر طلحة بن عبد الله قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي قال: قال لنا أبو الحسن بن الفرات يوماً وقد جرى بحضرته أمر رجل قد أسرف في الظلم: الظلم إذا زاد رفع نفسه. وقال أحد مشايخ الكتاب: سمعت أبا الحسن بن الفرات يملي على كاتب بحضرته إلى وكيل في ضيعته: استكثر من غلة المقاسمة فإنها لنا دون الأكار، وتوسط في الشتوي فإنه لنا وللأكار، وقلل الصيفي فإنه للأكار دوننا.
وحدث أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن الروذباري قال: حدثني أبو بكر ابن فتح الوراق قال: وقف علي أبو الحسن بن جعفر بن حفص الكاتب، وكان جماعة للكتب قد قرأ وسمع، فقال لي: كنت يا أبا بكر في مجلس الوزير أبي القاسم يعني عبيد الله بن سليمان فجرى ذكر الفيروزج فوصف أبو العباس ابن الفرات أجناسه بأحسن وصف وأبلغ شرح، وخرج من ذلك إلى ذكر أصناف الأحجار ومعادنها وخواصها وفضائلها، حتى استغرق المجلس، واشتمل عليه دون من كان فيه من الرؤساء والعلماء، فمن أين علم ذلك؟ قلت: من كتاب هو عندك. قال: فما هو؟ قلت: كتاب الأحجار، ولكن حفظ أبو العباس وأنسيت أنت. قال لي: أحب أن تجيئني لنخرجه.
وحدث أبو الحسن الروذباري قال: مر أبو العباس بن الفرات في طريق له
(1/238)
________________________________________
على أرجاء عبد الملك وقد عطش، فنظر إلى باب رحبة فيها دكان، عليه شيخ كبير اللحية، نظيف البزة، له رواء وهيئة، يعرف بالمرى، فقال لأحد غلمانه: استسق لنا من هذا الشيخ ماء. ففعل الغلام، وقام الشيخ مسرعاً، فجاء بثلجية نظيفة فيها ماء بارد، فشرب وانصرف أبو العباس إلى منزله، فلم ينزع خفه حتى أنفذ من سأل عن خبره، فتعرف اختلال حاله، فأمر بحمل مائتي دينار إليه، وأجري عليه في كل شهر عشرة دنانير برسم الكتاب، فما زال يقبضها حتى مات: وحدث أبو بشر بن فرجويه في وزارة أبي الحسن بن الفرات الثانية قال: بينما نحن في ليلة من الليالي الشتوية نعمل؛ إذ خرج إلينا من حضرة الوزير أبي الحسن توقيع بخطه مع خادم من خدمه، وقد مضى من الليل قطعة، يقول فيه: خرجت يا أبا بشر جعلت فداك لأهريق الماء، فوجدت ريحاً قد هب، فوقفت حتى عرفتها، وهي ريح إذا انشأت مرت على السكر الفلاني من أنهار الجامدة وأفسدته وقطعته، فاكتب الساعة إلى وكيلنا بهذه الناحية، وإلى ابن المشرف المهندس في المسير إلى الموضع ومراعاته، وإصلاح شيء إن كان اختل منه، وإعداد آلة عتيدة تكون عنده، ووكد القول في ذلك غاية التأكيد، ولا تعتمد على حامد بن العباس فيه، فإنه لا يهتم به. وقعد الخادم عندنا حتى كتبت الكتب.
ومن طريق أحاديث أبي الحسن بن الفرات في معرفته بالأمور ما حدث به أبو علي الحسن بن حمدون، فإنه قال: كنت مع يوسف بن ديوداد بنواحي باب الأبواب، وهو السد الذي كان أنوشروان عمله بين الخزر وأرض فارس، وطول
(1/239)
________________________________________
السور مسيرة يوم، وله مروحة في البحر طولها ستمائة ذراع، تمنع مراكب الخزر من الدخول، والباب من حديد، والسور من حجارة مهندمة، في كل حجر ثقبان فيهما عمودان من حديد، قد صب عليهما الرصاص، والمروحة التي في البحر على هذا العمل. فاتفق أن سقطت هذه المروحة، ودفعت يوسف بن ديوداد الضرورة إلى أن قصد الموضوع، ونزل عليه لإصلاحه، وجمع المهندسين وذوي الخبرة بالأعمال، فقدروا له ستين ألف دينار تنفق على إعادة المروحة. وكتب إلى الوزير أبي الحسن ابن الفرات يعرفه الخبر، ويعتذر إليه من تأخير المال الذي واقفه عله بهذا الحادث الذي حدث في هذا الموضع، فوالله ما كان إلا مقدار مسافة الطريق حتى ورد علينا كتاب ابن الفرات يقول فيه: فهمت كتابك أطال الله بقاءك بما شرحته من حال المروحة الساقطة، وما قدر لها من المال للنفقة. وقد قرأنا في الأخبار أن أنوشروان لإشفاقه على هذا الموضع أعد له ما يكفيه، فأحضر مشايخ أهل البلد وذوي الأسنان العالية منهم، وسلهم هل سقطت المروحة قبل هذه الدفعة؟ فإن كانت سقطت فقد استعملت الآلة فيها، وإن كانت لم تسقط فاطلب الآلة وسل عنها فإنك تجدها، وعرفني ما يكون منك إن شاء الله. قال ابن حمدون: فلما ورد الكتاب على يوسف أحضر المشايخ وسألهم عن ذلك، فلم يجد أحداً يذكر أو يخبر أن هذه المروحة سقطت قبل هذه الدفعة، وسألهم عن الآلة وموضعها فلم يكن فيهم من يعرف حديثها إلا رجل منهم فإنه قال: سمعت مشايخي يتذاكرون خبرها، وأنها مدفونة على قرب من المروحة. فلم يزل يفتش عنها حتى وجدها وأخرجها، فكانت كاملة من حجارة منحوتة منقوبة، وأعمدة من حديد مفروع منها، ورصاص وسائر ما يحتاج إليه، فاستعملها، ولم يؤد من المال إلا قدر أجرة الصناع.
(1/240)
________________________________________
وحضر أحد العمال بحضرة أبي الحسن بن الفرات. فلما ناظره على ما أراده لم يذهب فيه ولم يجيء. فقال له: يا هذا، إن كنت تزوجت امرأتك على شرط أنك كاتب فقد بانت منك وحرمت عليك، لأنك خلو من الصناعة منسلخ منها. ولما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة قال أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: ما افتقرت الوزارة إلى أحد قط مثل افتقارها إلى هذا الوزير المتقلد، على أنه لم يتجدد عليه منها إلا الاسم، فأما أعمالها فما زالت دائرة عليه وعلى أبي العباس أخيه. ولقد دخلت يوماً إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان وهما بين يديه فرأيته يقف على الرقاع ثم يرمي بها إليهما، وينظر ما يقولان فيأمر به، حتى ذكرت قول القائل:
خليفة مقتسم ... بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ... كما يقول الببغا
وقال خفيف السمرقندي: لما قام المعتضد بالله واستوزر عبيد الله بن سليمان قال له: قد دفعت إلي ملكاً مختلاً، ودنياً خراباً، وأريد أن أعرف ارتفاع النواحي لأجري النفقات والرواتب على موجب ذلك، فاعمل به عملاً مشروحاً، وأتني به وعجله. فخاطب عبيد الله كتابه وأصحاب دواوينه على ذلك فوعدوه واستنظروه. وكان أبو العباس وأبو الحسن ابنا الفرات محبوسين مصادرين، وعرفا ما التمسه المعتضد بالله فبذلا القيام به والفراغ منه في ثلاثة أيام، ووفيا بذاك وبلغا المراد منه. وعلم عبيد الله أن الخبر سيصل إلى المعتضد بالله فكلمه فيهما واستأذنه في استخدامهما والاستعانة بهما.
وحكى أبو بكر الصولي قال: خاطب يحيى بن علي المنجم أبا الحسن بن الفرات في أبي حاتم محمد بن حاتم المزنوي، وأنه يريد الخروج إلى بلده، ويخاف التتبع
(1/241)
________________________________________
لأجل رزقه، وسأله أسقاط جاريه، والإذن له في الخروج الذي اعتزمه. فضحك وقال: ما أوجبت له في الرزق فأقطعه، ولو كنت موجباً له لما رآني الله وأنا أوقع بقطع رزق أحد، فإن شاء فليقم، وإن شاء فليخرج. ودفع أبو الحسن إسماعيل القاضي إلى أبي الحسن بن الفرات رقعةً ذكر فيها أن ضيعته الفلانية قطيعة، وقد تأول عامل الناحية عليه وادعى انها إستان. فلما وقف عليها قال: هذه الضيعة كانت في إقطاع زبيدة، وانتقلت إلى إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وباعها ابنه محمد، فاشتراها ابن فلان السي وتوفي فصارت لورثته فقال له أبو الحسن: أنا اشتريتها من ابنه فلان. قال: فما فعلت حصة أخيه؟ قال: لولده، وهم شركائي فيها. فوقع إلى العامل: هذه الناحية من القطائع القديمة، فأمضها على رسمها ولا تعرض لها. فعجب الناس من حفظه ما حفظه. وحدث أبو الحسن أحمد بن العباس بن الحسن قال: كنت بحضرة الوزير أبي أحمد والدي وعنده كتابه، وهو يتصفح رقاعاً بين يديه، فرمى واحدة إلى محمد بن داود، وكانت من صاحب الخبر. فلما قرأها محمد اضطرب وقال: كذب كاتبها أيها الوزير. قال له وماذا يكون لو صدق؟ ثم رمى بأخرى إلى أبي الحسن علي بن عيسى تتضمن ذكر ماله من الغلات بسوق الطعام فتغير وجهه واربد لونه وقال: كذب كاتبها أيها الوزير والذي لي في الأحراز هناك دون المبلغ المذكور. ورمى إلى محمد بن عبدون بثالثة فقرأها وجحد ما فيها. ثم رمى رابعة إلى أبي الحسن بن الفرات فلما نظر فيها ضحك وقال له: أنا أذكر ما عندي في معناها. وجلس إلى أن
(1/242)
________________________________________
تقوض المجلس ولم يبق عند أبي غيري، ثم قال له: قد كذب صاحب الخبر أيد الله الوزير، فإن لي بسوق الطعام وعند الباعة أضعاف ما ذكره، فإن كان قوله في غيري مثل قوله في فقد حابى وصانع وكذب ولم يصدق، وأنا مستغن عن جميع ما أشرت إليه، ومستظهر على الزمان بأكثر منه، ولله الحمد والمنة. بلى، لي إلى الوزير حاجة أسأله الإنعام على بيها. قال: ما هي؟ قال: لا أقولها إلا بعد أن يشرط لي الإجابة إليها. قال قد شرطت وفعلت، قال: عندي خمسمائة ألف دينار أنا في غناء عنها، فليأذن لي الوزير في أن ابني بها داراً لأبي الحسن، وأبتاع له ما يحتاج إليه فيها واجعل ما يبقى من المال في خزانته، فإنه في دار الوزير، وموضعه ومكانه يقتضيان إفراده بدار وأثاث وتجمل وحال. فقال لي أبي: بل يزيدك الله يا أبا الحسن ويضاعف مالك وحالك ويريني لك في الشهر الواحد ضعف ذلك ويجريه على يدي في قضاء حقك. فقال له نقص الوزير شرطي، وأخلف وعدي، وما أقنع منه إلا بالوفاء. فجعل يشكره ويدافعه وأبو الحسن مقيم على أمره وملح في سؤاله، ثم قام على رجليه وأخذ يضرع إليه ويكرر القول عليه، حتى قال له: قد قبلتها فلتكن لي قبلك إلى أن أعرفك من بعد رأيي فيها. فعند ذلك أمسك وانصرف. وأقبل أبي يقول لي بعد خروجه: ما أعلم أن الله تعالى خلق مثل هذا الرجل في سعة نفسه، ولا مثل أولئك في ضيق نفوسهم وجحدهم القليل مما نسب إليهم، واعتراف هذا بأضعاف ما ذكر أنه له، ثم بذله اياه هذا البذل من نية خالصة صادقة. ثم أخذ أبي ينشد ويردد:
عزمت على إقامة ذي طلوح ... لأمر ما يسوّد من يسود
قال أبو الحسن: ودخل جدي ونحن في ذلك، فحدثه بما جرى، وقال له: قد
(1/243)
________________________________________
والله سرني ما شاهدته منه، وعلمت أنه ردء للملك ومفزع متى دعته إليه حاجة. قال: وكان أبي ربما يمازحه ويقول له: ما خبر تلك الجارية؟ فيقول: أكمل ما كانت، أفيأذن الوزير في حملها؟ فيقول لا بل تكون على حالها. وعرض عليه في وزارته الثانية وقد جلس للمظالم رجل عمري رقعة تتضمن شكوى حاله ورقتها، وأن عليه ديناً قد ضاق ذرعه به، وعلى ظهرها توقيع أحد الوزراء بأن يقضي دينه من مال الصدقات، فقال له: يا هذا، إن مال الصدقات لأقوام بأعيانهم لا يتجاوزهم، ولقد رأيت المهتدي بالله رحمة الله عليه وقد جلس للمظالم، وأمر في مال الصدقات بما جرى هذا المجرى، فقال له أهلها: ليس لك يا أمير المؤمنين ذلك! فإن حملتنا على أمرنا وإلا حاكمنا إلى قضاتك وفقهائك. فحاكمهم فخاصموه. وإن شئت أنت حاكمتك. فقال له العمري: لا حاجة لي إلى المخاصمة. قال: الآن نعم أواسيك وأقضي دينك. وفعل، وكان مبلغه خمسمائة دينار.
وحدث محمد بن داود بن الجراح قال: قال ابن أبي بدر وغيره: أنشدنا أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن الفرات لنفسه:
وعلمتني كيف الهوى فحملته ... وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي
وأعلم مالي عندكم فيردني ... هواي إلى جهل فاقصر عن علم
وله أيضاً:
لا تلحني لست سامع الفند ... عدلت بي عن مناهج الرشد
إن كنت لم تصطبر لحادثة ... فالصبر في الحادثات من عددي
(1/244)
________________________________________
وقال أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات في وزارته الثانية بحضرة أبي منصور ابن جبير: تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدته عشرة آلاف ألف دينار وما أخذت من الحسين بن عبد الله الجوهري فكان مثل ذلك. إلا أن فيما أخذ من الجوهري متاعاً وجوهراً. وللقاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول في أبي الحسن بن الفرات في وزارته الثالثة:
قل لهذا الوزير قول محق ... بثه النصح أيما إبثاث
قد تقلدتها مراراً ثلاثاً ... وطلاق البتات عند الثلاث
ووقع بيدي ثبت أخرج من ديوان المغرب في أيام الراضي بالله بما أخذه المحسن ابن علي بن محمد بن الفرات من الخطوط ممن قبض عليه وصادره في أيام وزارته الثالثة، نسختها: أحمد بن محمد بن إبراهيم البسطامي عن النصف ممن بقي عليه من مصادرته في سنة ثلاثمائة، سبعة آلاف وثلثمائة دينار.
علي بن الحسن الباذبيني الكاتب عما تولاه بالموصل أحد عشر ألف دينار. أبو الفضل محمد بن أحمد بن بسطام، خمسين ألف درهم. محمد بن عبد الله الشافعي عما تصرف فيه لعلي بن عيسى، ثلاثين ألف دينار. محمد بن علي بن مقلة عما تصرف فيه، ثمانين ألف دينار. محمد بن الحسن المعروف بأبي طاه. مائة ألف دينار. الحسن ابن أبي عيسى الناقد عما ذكر أنه وديعة لعلي بن عيسى، ثلاثة عشر ألف دينار.
(1/245)
________________________________________
ومن الحسن بن أبي عيسى صلحاً عن نفسه، أربعة آلاف دينار. إبراهيم بن أحمد المادرائي، عشرين ألف دينار. عبد الواحد بن عبيد الله بن عيسى عن بقية مصادرة والده، ستة وثلاثين ألفاً وثلاثمائة وثلاثين ديناراً. أحمد بن يحيى بن حاني الكاتب عن مصلحة وجبت، عشرة آلاف دينار. إبراهيم بن أحمد بن إدريس الجهبذ عن صلحه، ستة آلاف دينار. محمد بن عبد السلام بن سهل عما عنده من الوديعة لمحمد بن علي وإبراهيم بن أحمد المادرائي، أربعة آلاف دينار. عبد الوهاب بن أحمد بن ما شاء الله عن صلحة، أربعين ألف دينار. علي بن حسن الباذبيني صلحاً عما تصرف فيه بالموصل، وقتل، مائتي ألف درهم. محمد بن عبد الله بن الحارث عن صلحة، عشرة آلاف دينار. محمد بن أحمد بن حماد صلحاً عما تصرف فيه بأعمال الموصل وغيرها وقتل بعد أيام يسيرة، مائتين وخمسين ألف دينار. إبراهيم بن أحمد المادرائي عن الباقي عليه من جملة خمسين ألف دينار، خمسة عشر ألف دينار. أبو عمر محمد بن أحمد، بن الصباح الجرجرائي عن ضمانة الباقي من مصادرة أبي ياسر إسحاق بن أحمد، مائة ألف درهم. أبو عمر بن الصباح أيضاً عن الباقي علي أبي العباس أحمد بن علي الجرجرائي المعروف بقرقر، ثلاثة آلاف دينار. علي بن محمد الحواري، وقتل، سبعمائة ألف دينار
(1/246)
________________________________________
عبيد الله بن أحمد اليعقوبي، مائة ألف درهم هارون بن أحمد بن هارون الهمذاني، سبعة آلاف دينار. الحسن بن إبراهيم الخرائطي صلحاً عما اقتطعه من مال الرئيس، مائة ألف درهم الحسين بن علي بن نصير أخو نصير بن علي، مائة ألف درهم. عبد الله بن زيد بن إبراهيم، ألفين وخمسين ديناراً. ومن عبد الله بن زيد صلحاً عن نفسه، خمسة عشر ألف دينار. علي بن محمد بن أحمد بن السمان عن ورثة قرقر، ألفين وخمسمائة درهم. علي بن مأمون بن عبد الله الإسكافي كاتب ابن الحواري، وقتل، ستين ألف دينار. أبو بكر أحمد بن القاسم الأزرق الجرجاني عن ضياع علي بن عيسى، عشرة آلاف درهم. الحسين بن سعد القطربلي، مائةً وثلاثين ألف درهم. محمد بن أحمد بن ما سراد، ألف ألف وخمسمائة ألف درهم. أبو الحسن محمد بن أحمد بن بسطام، ثلاثة آلاف ألف درهم. أحمد بن محمد بن حامد بن العباس، خمسين ألف درهم. يحيى بن عبد الله بن إسحاق عما تصرف فيه مع حامد، سبعين ألف دينار حامد بن العباس، وقتل، ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار محمد بن محمد بن حمدون الواسطي، مائة وخمسين ألف دينار. أبو الحسن علي بن عيسى ثلاثمائة ألف واحداً وعشرين ألف دينار.
(1/247)
________________________________________
إبراهيم ين يوحنا جهبذ حامد بن العباس، مائة ألف دينار. أبو محمد الحسن بن أحمد المادرائي، ألف ألف ومائتي ألف دينار ومنه أيضاً بخط آخر، ألف ألف دينار. أبو بكر محمد بن علي المادرائي، ألف ألف دينار وألف دينار وبخط آخر أيضاً، عشرة آلاف دينار. سليمان بن الحسن بن مخلد، مائة وثلاثين ألف درهم. فذلك من العين سبعة آلاف ألف وخمسمائة ألف وخمسة وتسعين ألفاً وستمائة وثمانين ديناراً ومن الورق خمسة آلاف ألف وثلاثمائة ألف درهم. قيمة الورق عينا على التقريب ثلاثمائة وثمانين ألف دينار. ويكون الجميع من العين ثمانية آلاف ألف دينار وأربعين ألف دينار.
وحدث أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات أن منجماً أخبره أنه لم ينزل زحل في برج السنبلة إلا حدثت حادثة، وقد جرت العادة بذلك على مضي الأوقات، ومن ذلك أنه نزل هذا البرج سنة ثمان للهجرة فكان في تلك السنة فتح خيبر ومكة، ونزل في سنة ثمان وثلاثين، فكانت حرب صفين بين علي عليه السلام وبين معاوية، ونزل في سنة ثماين وستين وكان فيها حرب المختار وعبد الملك وقصة عبد الله بن الزبير، ونزل في سنة ثمان وتسعين فمات سليمان بن عبد الملك
(1/248)
________________________________________
وانتقل الأمر إلى عمر بن عبد العزيز، ونزل في سنة ثمان وعشرين ومائة فظهر أبو مسلم وجرت قصة مروان بن محمد. ونزل في سنة ثمان وخمسين ومائة فمات المنصور ونزل في سنة ثمان وثمانين ومائة فأوقع الرشيد بالبرامكة. ونزل في سنة ثمان عشرة ومائتين فتوفي المأمون. ونزل في سنة ثمان وأربعين ومائتين فتوفي المنتصر وقتل المتوكل. ونزل في سنة ثمان وسبعين ومائتين فوتفي الموفق. وحدث من الأمور ما حدث.
وحدث أبو عبد الله زنجي قال: لما توفي أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات أحضر المكتفي بالله القاسم بن عبيد الله وسأله عنه، فعرفه وفاته وعزاه عنه، واستأذنه فيمن يقلده الديوان مكانه، فأعلمه ما كان يسمعه من المعتضد بالله أبيه في وصف بني الفرات وذكر كفايتهم، وأمر بإقرار أبي الحسن على دواوينه، وسمع خفيف السمرقندي ذلك فأنفذ إلى أبي الحسن سراً فطالعه وهو جالس للعزاء عن أبي العباس أخيه، وأعلمه أنه أمر يجب كتمانه إلى أن يظهر من غير جهته، وأنفذ إليه القاسم أبا علي وأبا جعفر ابنيه معزيين له ولأبي محمد الفضل وأبي الخطاب العباس وأبي جعفر محمد بني أبي العباس، وسار إليه وإليهم أبو أحمد العباس بن الحسن وأبو الحسين ابن فراس، معزيين، ولم يبق أحد من القواد والكتاب والقضاة وسائر الطبقات إلا فعل مثل ذلك. فحضر أبو الحسن بن الفرات بعد انقضاء أيام العزاء الديوان، ونظر في الأعمال، وأمضى ما كان تأخر إمضاؤه منها. وكان في نفس القاسم من أبي العباس وأبي الحسن ما لا يتمكن من إظهاره في حياة أبي العباس، فلما توفي عاود محمد بن عبدون الوقيعة في أبي الحسن، وأغرى القاسم به، وحمله مع علته على مطالبته بما كان أخرج عليه. فأمر بإحضار الأعمال التي كانت عملت له، وجلس للنظر فيها، ومواقفه عليها في يوم الثلاثاء قبل وفاته بثمانية أيام، وأقبل يناظر أبا الحسن
(1/249)
________________________________________
وهو وقيذ من علته ويشم الروائح الطيبة طلباً للتماسك في قوته. فلما زاد ما يجده أشار عليه إسحاق بالإمساك لئلا يزيد احتداد طبعه، ودعا بماء ورد فرشه على وجهه وانقضى المجلس. واشتغل القاسم بنفسه وتوفي في يوم الأربعاء لست ليال خلون من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين ومائتين بعد أن كاتب المكتفي بالله، وعرفه اشتداد مرضه ويأسه من برئه، وأشار عليه بالتعويل في مكانه على العباس بن الحسن كاتبه، ووصفه بما رغبه فيه به. وكانت فارس الداية على عناية بأمره، لأن القاسم استكتبه لها فأحسن خدمتها، فأشارت على المكتفي بالله وكان كثير القبول منها بالتعويل عليه، والتفويض إليه، ففعل. وخرج المكتفي بالله إلى سر من رأي، ومعه العباس ابن الحسن، وهو معتقد للقبض علي أبي الحسن بن الفرات هناك. فذكر أبو عبد الله زنجي أنه خرج متبعاً لأبي الحسن بن الفرات، فلقيه أبو القاسم ميمون ابن إبراهيم المادرائي منصرفاً عن وداعه، وسأله عن مقصده، فعرفه أنه لاحق بأبي الحسن ابن الفرات ليكون معه: فأشار عليه بالعود إلى منزله وأوحى إليه بإشفاقه من حادث يحدث عليه. قال: فقلت: لا يحسن التأخر عنه، وكفاية الله من دون ما يشفق منه وسار المكتفي بالله والعباس بن الحسن وأبو الحسن بن الفرات، وأنا في الصحبة، ووصلنا إلى الأحمدي وليس مع أبي الحسن من كتابه غيري وغير أبي منصور بن جبير. فلما كان في بعض الأيام حضرت عنده على رسمي، وقدم الطعام، ودعاني إليه فامتنعت وقلت: إنني صائم. وسألني عن سبب ذلك وألح، فعرفته أنني رأيت
(1/250)
________________________________________
في المنام أبا العباس أخاه وهو يقوله له: قل لأبي الحسن أخي: لست تغتم بعد هذا اليوم. فسر بما حدثته به وقال: أنا أحق بالصوم. وأمر برفع المائدة وجلسنا، فنحن في ذلك حتى وافاه خادم أسود مسرع قد علا وجهه الغبار، فدنا منه وساره ثم انصرف. والتفت أبو الحسن إلي وقال: قد حقق الله رؤياك، هذا رسول خفيف السمرقندي يعلمني عن خفيف أن أمير المؤمنين المكتفي بالله ركب في هذا اليوم يتصيد ومعه العباس بن الحسن، وأنه قال له: إن جماعة من الكتاب قد غلبوا على ضياع للسلطان، وعليهم من حقوق بيت المال ما يحتاج معه إلى القبض عليهم وارتجاع ما حصل في أيديهم. وأذن له في تدبير أمرهم بما يراه، قال: فلما انصرف دنوت من أمير المؤمنين وقلت له: إنما أراد العباس بما قاله لك أبا الحسن بن الفرات، وأن المعتضد بالله كان يوثقه ويوثق أبا العباس أخاه، ويعول عليهما في تدبير الأعمال وحفظ الأموال. فقال لي: إذا كان الأمر على ذلك فبادر إلى العباس وتقدم إليه بألا يعرض لأبي الحسن بن الفرات ولا يغير شيئاً من أمره، ويعمل ما شاء في غيره. ففعلت وبادرت إليه بمن قال له هذا لئلا يعجل إلى أمر من الأمور. فسجد أبو الحسن بن الفرات شكراً لله تعالى وتصدق بصدقة كثيرة. وصحح يومئذ ثلاثين ألف دينار عند صاحب بيت المال وأخذ خطه بقبضها، وصار إلى العباس فأعلمه أن الكلام
قد كثر والخوض قد طال في ذكره وذكر ما كان في يده من ضياعه وأملاكه وما خدم به وكلاؤه من حقوق بيت المال مما لا تعرف حقيقة الدعاوي فيه، وأنه صحح لبيت المال ثلاثين ألف دينار صلحاً عن هذه القروف المشتبهة، وحسما لمادة الأقوال المختلفة، وتخفيفاً عن قلب الوزير والإهتمام بأمره، وسلم إليه الخط بالقبض. فأظهر العباس إنكاراً لفعله وقال له: عجلت إلى ما وجب أن تتوقف عنه، وتعرفني ذلك وعزمك فيه. وأورد جميلاً كثيراً فيما خاطبه به. ولما لم يجد العباس طريقاً إلى ما هم به في أبي الحسن بن الفرات عدل إلى الإقبال عليه والتفويض إليه. وعاد المكتفي بالله من سفره بعد أن ضاقت صدور أصحابه وندمائه من طول مقامه وشدة البرد الذي يلاقونه والقشف الذي يقاسونه، وقال يحيي بن علي المنجم أحد جلسائه: قد كثر والخوض قد طال في ذكره وذكر ما كان في يده من ضياعه وأملاكه وما خدم به وكلاؤه من حقوق بيت المال مما لا تعرف حقيقة الدعاوي فيه، وأنه صحح لبيت المال ثلاثين ألف دينار صلحاً عن هذه القروف المشتبهة، وحسما لمادة الأقوال المختلفة، وتخفيفاً عن قلب
(1/251)
________________________________________
الوزير والإهتمام بأمره، وسلم إليه الخط بالقبض. فأظهر العباس إنكاراً لفعله وقال له: عجلت إلى ما وجب أن تتوقف عنه، وتعرفني ذلك وعزمك فيه. وأورد جميلاً كثيراً فيما خاطبه به. ولما لم يجد العباس طريقاً إلى ما هم به في أبي الحسن بن الفرات عدل إلى الإقبال عليه والتفويض إليه. وعاد المكتفي بالله من سفره بعد أن ضاقت صدور أصحابه وندمائه من طول مقامه وشدة البرد الذي يلاقونه والقشف الذي يقاسونه، وقال يحيي بن علي المنجم أحد جلسائه:
قالوا لنا إن في القاطول مشتانا ... ونحن نأمل صنع الله مولانا
والناس يأتمرون الرأي بينهم ... والله في كل يوم محدثٌ شانا
وغني للمكتفي بذلك، فسأل عن قائله فقيل: يحيى بن علي المنجم. فأمر بالرحيل إلى بغداد وشكر الناس يحيى بن علي على شعره. ولما حصل العباس بن الحسن بالحضرة وعاود محمد بن داود ومحمد بن عبدون وعلي بن عيسى الوقيعة في أبي الحسن بن الفرات والاغراء به، والإطماع فيه، والكلام على حاله.
قال أبو عبد الله زنجي: وحضرت مع أبي الحسن في دار العباس، فوجدناه جالساً مجلسه، والجماعة المذكورون بين يديه، إذ نهض وأقام الكتاب على انتظاره، وخرج كاتبه فاستدعى أبا الحسن، فدخل إليه، ولم يشك الحاضرون أنه يقبض عليه. وقال أبو عبد الله: واشتد إشفاقي، وزاد خوفي، وتأخر عنده طويلاً. والقوم متشوقون إلى علم ما جرى في أمره. ثم خرج العباس وأبو الحسن معه، وقعد
(1/252)
________________________________________
وأقعده عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه، وزاد في تقريبه وبسطه، ونظر بعض الجماعة إلى بعض واجمين بما يشاهدونه، ومتعجبين من انعكاس ما كانوا يقدرونه. ثم نهض أبو الحسن منصرفاً إلى داره، وصحبته، ووصل فما استقر به مجلسه حتى سألته عن خبره، وما جرى عليه أمره مع العباس، فقال: دعاني ودخلت إلى حجرة ما دخلت إليها من قبل، فوجدته جالساً خالياً بنفسه وبعض حواشيع، فتقدم إلى الحاجب بإخراج كل من يقرب من موضعه، والجلوس على الباب، ومنع كل من رام الدخول، وانفردنا جميعاً وبدأ يذكر ما يعتقده في من الجميل، وما هو عليه من المحاماة عني، وأنه قد حمل في أمري على أشياء فوقف عنها مراعاة لحقي. ثم قال: إن كان في نفسك من هذا الأمر يعني الوزارة شيء سلمتها إليك وخليت عنها لك، على أن تحرسني في نفسي ومالي وحرمي وولدي. فأعلمته أنني أحسن حالاً منه مع الأثقال التي عليه، وأنني أرجع من المال والنعمة والأملاك والضيعة والجاه والقدرة إلى ما أستغني به عن زيادة. وراجعني مراجعة بعد مراجعة. فلما رآني مقيماً على على حال واحدة قال. فإذا كان ذلك كذلك فأنا أتصور أن الأمر من بعدي صائر إليك، وأوصيك بولدي وحرمي، فقلت: بل يبقيك الله ويطيل عمرك ولا يخلي مكانك منك، ولا يريني سوءاً ولا محذوراً فيك. فلم يقنع إلا بأن استحلفني ثم مد يده إلي وعانقني وقال: أمرنا الآن واحد، ويدنا واحدة، فلا تلتفت إلى هؤلاء الكتاب وأقوالهم، ولا تفكر في كلامهم وتشنيعاتهم، وثق بما لك عندي من مزية المراعاة وزيادة المحاماة. فشكرته ودعوت له وأعلمته قوة نفسي الآن به، وخرجنا. فكان ما رأيت من فعله. قال أبو عبد الله: فسررت كل سرور بما حدثنيه. ثم رد العباس بعقب ذلك إلى أبي الحسن الزمام على علي بن عيسى. وأعفاه من ديوان الجيش، وقد كان سأل القاسم ابن عبيد الله إعفاءه منه لم يفعل.
(1/253)
________________________________________
وقيل إن أبا الحسن تصدق عنه إعفائه بعشرة آلاف درهم. ولما قتل العباس بن الحسن ووزر أبو الحسن بن الفرات قبض على أولاد العباس في جملة من قبض عليه. وأدخلت اليد في جميع أملاكهم فحدث أبو عبد الله زنجي قال: التمس أبو الحسن بن العباس بن الحسن لقاء أبي الحسن بن الفرات فمنع منه، فألح في ذلك إلحاحاً طولع به أبو الحسن فأمر بإحضارهن فحضر وقال له: احفظ فينا أيها الوزير وصية أبينا لك وما أخذه لنا من عهدك. قال: ومتى كان ذلك؟ قال: في اليوم الذي خلوت فيه معه في الحجرة، وصرف كل من كان بين يديه وقريباً منه، وكان من حديثكما فيما تفاوضتماه كذا وكذا. قال له: ومن أين عرفت ذاك ولم يكن معنا ثالث؟ قال: كنت في الرواق خلف الباب، وسمعت ما جرى بينكما كله. قال: صدقت وقد كنت أُنسيت ذلك. ثم أمر بإطلاقه وإطلاق إخوته والإفراج عن أملاكهم التي تخصهم. ثم قلدهم بعد ذلك الدواوين.
وحدث أبو عبد الله زنجي قال: حضرت مع أبي الحسن بن الفرات مجلس أبي أحمد العباس بن الحسن وهو وزير، وبين يديه الأعمال ينظر فيها، إذ مر به كتاب من الحسن بن محمد القصري المعروف بابن زياد وإليه الصدقات بقصر ابن هبيرة جواباً عما كوتب به من حمل ما اجتمع عنده من مالها. فلما نشره قرأ في العطف الذي وراءه: ضربت وجهك يا عباس فلا حول ولا قوة إلا بالله. فاستشاط غضباً واختلط غيظاً وقال: من ابن زياد الكلب حتى يلقاني بما لقي، ويستعمل من الجرأة واطراح المراقبة ما استعمل؟! ودفع الكتاب إلى أبي الحسن بن الفرات وقال له أنفذ إليه من يسحبه إلى الحضرة على وجهه، ويعامله من المكروه بما استدعاه لنفسه، وإذا ورد لم يبرح من الديوان إلا بعد الخروج مما عليه. وقام أبو الحسن ومضى إلى ديوانه وتصفح ما قدم إليه من الكتب، فقرأه، ولحظ في طي عنوانه
(1/254)
________________________________________
ضربت وجهك يا علي بن محمد بلا حول ولا قوة إلا بالله. فاغتاظ أبو الحسن مثل غيظ العباس وأكثر، وأمر بإنفاذ من يجره من القصر إلى الحضرة ثم قال: لا، ولكن التمسوا ثلاثة أنفس من المستحثين الغلاظ والفظاظ وأنفذوهم إليه وواقفوهم على ألا يفارقوه إلا بعد تصحيح ما عليه، وأوجبوا لكل واحد منهم في اليوم دينارين يأخذونها منه. قال أبو عبد الله بن زنجي: والتفت إلي وقال: اكتب لهم منشوراً ينفذون به، وندب من يخرج، وكتبت المنشور، وحمل إلى حضرته مع غيره مما كنت كتبته، فأول ما وقع بيده المنضور، فأخذه وقرأه وعزله إلى جانبه وأقبل يقرأ ما سواه إلى أن استغرق قراءة الجميع. ثم قال لي وأنا جالس بين يديه: قد والله يا أبا عبد الله ضرب ابن زياد وجهنا بشيء لا نقدر معه على أن نسيء به، خرق المنشور وأضرب عن إنفاذ المستحثين، واكتب إليه أن يعجل حمل ما عليه ولا يحوج إلى إنفاذ من يقيم عنده ويثقل عليه مؤونته. ففعلت ذلك، ومضى الأمر عليه، ولم يعد من العباس فيه قول. ووجدت نسخة ما كتب به أبو الحسن بن الفرات عن نفسه إلى ولاة البلاد عند تقلده الوزارة وزوال فتنة عبد الله بن المعتز فكانت:
نعم الله عند أمير المؤمنين أطال الله بقاءه تتجدد في سائر أوقاته، وتتوكد في جميع حالاته، فليس يخلو منها قاهرة لأعدائه وناصرة لأوليائه، والله سبحانه وتعالى يعينه على أداء حقها والقيام بشكرها، إنه ذو فضل عظيم. وكان جماعة من جلة الكتاب والقواد ووجوه الغلمان والأجناد حسدوا أبا أحمد العباس ابن الحسن رحمة الله على محله ومنزلته، وما قام به لأمير المؤمنين أيده الله من عقد بيعته، فسعوا في إتلاف مهته، وإزالة نعمته، وتوصل إليهم عبد الله ابن المعتز بمكره وخديعته، فأوحشهم من أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وشيعته، وحسن لهم الخروج عن طاعته، فنكثوا ومرقوا، وغدروا وفسقوا، وشهروا سيوف
(1/255)
________________________________________
الفتنة، وأضرموا نيرانها، وأظهروا أعلامها. وتفرد الحسين بن حمدان بأبي أحمد فقتله، وثنى بفاتك المعتضدي فأتلفه، وقصد المارقون دار الخلافة، ووصلوا إلى جدرانها، وحرقوا عدةً من أبوابها، ووفق الله الغلمان الحجرية والخدم والأولياء المصافية لمنازلتهم ومحاربتهم، فانصرفوا مفلولين. واجتمعوا إلى عبد الله فعاقدوه وبايعوه، وتسمى بالخلافة في ليلته، ووازره محمد بن داود بن الجراح على ضلالته، وصحبهم من غلمان أمير المؤمنين أدام الله تمكينه وخاصته وذوي البأس من رعيته من حسن دينه، وخلص يقينه، فتحصنوا بالإبعاد في الهرب لما خافوه من شدة الطلب، وأُسر جماعة من أصحاب عبد الله بن المعتز وكتابه، منهم: يمن الكبير ووصيف بن صوارتكين وخطارمش وعلى الليثي ومحمد الرقاص وسرخاب الخادم، وأبناء دميانة ومحمد بن عبدون وعلي بن عيسى بن داود ابن الجراح ومحمد بن سعيد الأزرق والمعروف بأبي المثنى، ومحمد بن يوسف المكني أبا عمر، وحملوا إلى دار أمير المؤمنين، وحصلوا في أعظم البؤس، وأضيق الحبوس. ولما خمدت النائرة، وسكنت الثائرة، استدعاني أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأوصلني سائر دواوينه مع وزارته، وخلع علي خلعاً ألبسني بها جلالاً وقدراً، وجمالاً وفخراً، وعدت إلى داري مغموراً بإحسانه، مثقلاً بأياديه وامتنانه، وأسأل الله معونتي على طاعته، وتبليغي غاية رضاه وإرادته بمنه ورحمته. وقد أوبقت عبد الله
(1/256)
________________________________________
ابن المعتز ذنوبه، وأسلمته عيوبه، وحصل في قبضة صافي مولى أمير المؤمنين مأسوراً مقهوراً. وأوجبت الحال إطلاق صلة للأولياء وافرة المبلغ، وأنا بتجديد البيعة متشاغل وللخدمة مواصل، والأمور جارية على أجمل مجاريها، وأفضل المحاب فيها، والحمد لله رب العالمين. وعرفتك ما جرى لتعلمه أهل عملك وتزداد اجتهاداً إلى اجتهادك، وكفاية وغناء على كفايتك وغنائك، وتكتب بما يكون منك في ذلك إن شاء الله.
وكان أبو الحسن بن الفرات خاطب محمد بن داود وهو يتولى عطاء الجيش فيما يطلقه بغير صك ولا حجة، وأخرج عليه مما أطاقه من بيت المال صكين مثبتين مكررين مائةً وعشرين ألف دينار، واقفه على ذلك بحضرة العباس مواقفة اعترف بها محمد بن داود، واعتذر بالسهو في فعله. وجدد ذلك أن أمر العباس صاحب بيت المال بألا يطلق شيئاً في إعطاء وإنفاق إلا ما عرفه أبو الحسن وأذن فيه، وثبتت علامته على الصكاك به، وكان مما قاله أبو الحسن لمحمد بن داود: أنا أجمع الأموال وأحصلها وأنتم تفرقونها وتفرطون فيها! فقال له محمد: التفريط والتضييع كان في أيامك يعني أيام نظره في ديوان الجيش فقال له أبو الحسن: قد كنت أحد كتابي إذ ذاك وفي بعض مجالس الإطلاق، فإن عرفت خيانة فاذكرها أو إضاعةً فاستدركها. وقال له العباس. حالك يا أبا الحسن في الضبط والاحتياط معروفة، وطريقتك في الاستيفاء والاستقصاء معلومة، وما بك إلى هذا القول حاجة. وكان أبو الحسن بن عيسى حضره بحضرة العباس بن الحسن لمناظرة أبي الحسن بن الفرات على ما كتب به إبراهيم بن عيسى ومحمد بن عيسى العرموم أخواه في ضيعة أبي الحسن بن الفرات بكورة كسكر، وضياعه بناحية الأجمتين وما غير
(1/257)
________________________________________
من معاملتها وخفف من مقاسمتها. فلما بدأ علي بن عيسى يذكر ما كتب به أخواه وأورده قال العباس بن الحسن لأبي الحسن بن الفرات: ما عندك يا أبا الحسن في ذلك؟ قال له. ما أعرف من أمر ضياعي شيئاً، لأن العمال قد أدخلوا أيديهم فيها منذ نيف وعشرين شهراً، وأخذوا الحقوق السلطانية فيها على ما أرادوه واقترحوه منها، وما تكلمت ولا تظلمت انصراف قلب عنها، ولكنه قد وجب على محمد بن عيسى من ثمن الأرز بالسيبين أكثر من ثمانية آلاف دينار لا عذر ولا حجة له في دفعها، ولما كاتبته بحملها والخروج منها كتب في أمر ضيعتي بما كتب، والأمر للوزير، وهو أعلى عيناً فيه. فأمر العباس عند سماعه ذلك بإنفاذ من يستحث محمد بن عيسى فيما أخرج عليه، ويطالبه بالخروج منه ثم صرفه من بعد، وتقدم إلى أبي الحسن بن الفرات بأن يعمل له عملاً يستقصي النظر فيه ويكشف أمره فيما تولاه وقام به. وقال له أبو الحسن: ومما أسأله صرف جعفر أخي عما يتقلده، فإن علي بن عيسى قد قصده وأنفذ إليه من المستحثين من ثقل به عليه، وإذا انقطعت المعاملة بينه وبينه زال بذلك تسوقه عليه وعلي به. فأجابه العباس إلى صرفه. وكتب أبو الحسن بن الفرات إلى عامل طريق خراسان مما تولاه بيده: قد اشتهرت بأحكام الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، رحمة الله عليهم أجمعين، في الخراج مذ افتتحت نواحيه، ووضعت الطسوق فيه، بالرسوم الجارية والسنن الباقية التي سنها أفضل سلف، وعمل بها أعدل خلف، ليس في شيء منها حكمان مختلفان ولا طسقان متفاوتان، في صقع واحد، لمسلم أو معاهد. وبطريق خراسان وكلوذاي ونهر بين معاملات محطوطة الوضائع، في الإستان والقطائع، لطائفة دون أخرى، سببها ما شرطه محمد بن جعفر في سني ضمانه. وأحق المشروط عند الفقهاء بالإبطال،
(1/258)
________________________________________
ما يجري على سبيل حيلة وإدغال، فانقض كل شرط ورسم يعودان على مال السلطان أعزه الله بنقض أو ثلم، واستوف خراج ذلك على أكمل طسوقه، وأفضل حقوقه، حتى تنحسم تلك الأطماع، ويتوفر على يدك الارتفاع إن شاء الله. وكتب للنصف من رجب سنة ست وتسعين ومائتين. ولما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة في أول مرة أجرى كلاً من حجابه وكتابه وأصحابه على رسمهم، وأقرهم على ما كانوا يتولونه من أمره، ولم يستبدل بهم، ولا استزاد فيهم، لإكتفائه بمن كان معه عن غيرهم. وكانت أخلاقه وهو وزير مثله وهو صاحب ديوان. ومن رسمه أن يغدو إليه الكتاب فيواقفهم على الأعمال، ويسلم إلى كل منهم ما يتعلق بديوانه، ويوصيه بما يريد وصاته به. ثم يروحون إليه بما يعلمونه من أعمالهم، فيوافقهم عليها، وعلى ما أخرجوه من الخروج، وأمضوه من الأمور، ويقيمون إلى بعض من الليل. وإذا خف العمل، وقد عرضت عليه في أثنائه الكتب بالنفقات والتسبيبات والإطلاقات والحسبانات، نهض من جلسه، وانصرفت الجماعة بعد قيامه. وكانت علامته تحت بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: ورفع إلى أبي الحسن بن الفرات أن جماعة الكتاب في ديوان الجيش المتولين للعطاء احتسبوا على الجند بما لم يعطوهم إياه، وأخذوه لنفوسهم، واقتطعوه من دونهم، فأنكر ذلك، وعظم في نفسه، وكشف عنه فوجده صحيحاً، ورأى الإقدام على مثله غليظاً. فقبض على القوم الذين فعلوه، فمنهم من ضربه وأدبه، ومنهم من ارتجع منه ما حصل في يده، ومنهم من صفح عن جرمه. وكان في الجماعة أبو القاسم الحسين بن علي بن كردي،
(1/259)
________________________________________
وقد اعتقل، فكتب إلى أبي عبد الله والدي يسأله خطاب الوزير في بابه والتلطف في إطلاقه. واتفق أن دعا الوزير أبا عبد الله إلى طعامة على رسمه، فلما حضر امتنع من الأكل، فقال له الوزير: ما سبب امتناعك؟ قال: أنني ما أطيب نفساً بأن آكل وابن كردي قريبي في الحبس يعرض للمكروه. وأتبع ذلك بالمسألة في أمره وهبة ما عليه له، فأجابه جواباً جميلاً، وتقدم بتخلية ابن كردي، وتسليمه إليه، والصفح له عما يطالب به. ثم قال له. تقدم الآن كل. قال أبو القاسم: ولم يكن بيننا وبين ابن كردي نسب ولا قربي. وإنما قال أبي ما قاله تأكيداً للخطاب في بابه.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: استدعى أبو الحسن بن الفرات في بعض الأيام أبا علي بن مقلة وأبا عبد الله والدي في وقت العصر، على خلوة لم يحضرها غيرهما، وقال لأبي علي: استدع قرطاساً يكتب فيه. فأحضره صاحب الدواة تلث قرطاس، وقال له: وقع بأن يكتب إلى علي بن أحمد بن بسطام بوصول كتبه بما قرر عليه أمر المادرائيين، وأنني وجدته مخالفاً لما أمرته به. وما توجبه الجملة المحصلة عليهم وهي ثلاثة آلاف ألف وكذا دينار، وكذا منها من جهة كذا وكذا، ومن جهة كذا وكذا، حتى استوفى الإملاء بتفصيل الجملة المذكورة، وفيها أنصاف دينار وأثلاثه وأربعاه وما دون ذلك. ووصل القول بما ملأ به الثلث. واستدعى أبو على ثلثاً آخر، واستتم الأمر فيه وفيما أراد خطابه به في معانيه، فكان ذرع الثلثين اللذين كتب فيهما نحو ستين ذراعاً. ثم قال لأبي عبد الله أبي: اكتب إلى علي بن أحمد على موجب ذلك. فقال له: والله أيها الوزير ما يحتاج إملاؤك إلى أكثر من أنت تثبت في أوله وآخره الدعاء، فإنه قد أتى على كل غرض، وبلغ فيما يراد كل مبلغ. فقال: تأمله على كل حال وتفقده وقف معانيه. قال
(1/260)
________________________________________
أبو القاسم: ولقد حدثت بعض الرؤساء هذا الحديث في مجلس حافل قد صعن على ابن الفرات فيه بنزارة الكلام، فعجب منه، وقال لي: لولا أن ذكرته لما صدقته.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: رسم أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات في وزارته الثانية أن يدعي أبو الحسن موسى بن خلف وأبو علي محمد بن علي بن مقلة وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني وأبو عبد الله محمد بن صالح وأبو عبد الله والدي وأبو بشر عبد الله بن الفرخان النصراني وأبو الحسين سعيد بن إبراهيم التستري النصراني وأبو منصور عبد الله بن جبير النصراني وأبو عمرو سعيد بن الفرخان النصراني في كل يوم إلى طعامه فكانوا يحضرون مجلسه في وقته، ويقعدون من جانبيه وبين يديه، ويقدم إلى كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء، ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف وكل طبق فيه سكين يقطع بها صاحبه ما يحتاج إلى قطعة من سفرجل وخوج وكمثري، ومعه طست زجاج يرمي فيه التفل، فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفروا كفايتهم، شيلت الأطباق وقدمت الطسوت والأباريق فغسلوا أيديهم، وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيازر ومن تحتها سفرة أدم فاضلة عليها، وحواليها مناديل الغمر من الثياب المعصور فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية، وأخذ القوم في الأكل، وأبو الحسن بن الفرات
(1/261)
________________________________________
يحثهم ويباسطهم ويؤانسهم فلا يزال على ذلك، والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين، ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه، ويغسلون أيديهم، والفراشون قيام يصبون الماء عليهم، والخدم وقوف على أيديهم المناديل الدبقية، ورطليات ماء الورد لمسح أيديهم وصبه على وجوههم، فمن كانت له من الكتاب حاجة قام إليه وخاطبه فيها وسأله إياها، ومن أراد إطلاعه على سر يجب الانفراد معه فيه فعل مثل ذلك، ثم يخرج وظائف الكتاب وغلمانهم والخزان ومن دونهم وسائر من جرت عادته بالوظيفة، على طبقاتهم، وأتبع ذلك بتفرقة وظائف الثلج على أصحاب الدواوين والكتاب والمقيمين في الدار.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: كثر الإرجاف بأبي الحسن بن الفرات في آخر وزارته الثانية، وكان كتابه إذا ركب في يوم الاثنين والخميس إلى دار السلطان استتروا، وإذا عاد إلى داره ظهروا وحضروا. فلما كان قبل القبض عليه بأيام كتب إليه المقتدر بالله يلتمس منه حمل مائتي ألف دينار من أموال الواحي. فخلا بأبي الحسن موسى بن خلف، وكان يثق به على سره، ويستشيره في أمره، وعرفه ما طلبه المقتدر بالله منه، فقال له. لا تفعل ومتى فعلت أطمعته في نفسك ومالك، وطالبك في كل وقت بما تعجز عنه قدرتك. ورجع أبو الحسن في ذلك إلى أبي بشر عبد الله بن الفرخان، فأشار عليه بمثل ما أشار به موسى بن خلف. وأعلم أبا عبد الله والدي ما جرى، واستعلم ما عنده في ذلك، فقال له: الأعمال في يديك، والأموال محمولة إليك، وما يتعذر هذا القدر عليك، إما تقدمةً من مالك، أو أخذاً له من جهابذتك
(1/262)
________________________________________
ومعامليك، ودفع الشيء أولى من تعجله، ومتى جرى وأعوذ بالله أمر أخذ أكثر مما وقع الالتماس له. فلم يدعه موسى ابن خلف، وأقام على ما أورد من رأيه. وأجاب أبو الحسن ابن الفرات المقتدر بالله بالاعتذار والاحتجاج وتكثير ما عليه من المؤن والنفقات والأعطيات الإطلاقات. واحتد الإرجاف بعقب هذه الحال احتداداً شديداً، وكتب إليه المقتدر بالله يعلمه رأيه الجميل فيه وإحماده الكثير له ومقامة على النية الصادقة في بابه، وحلف له بتربة المعتضد بالله على سلامة باطنه، وأنه لا يعتقد تغييراً لأمره، ولا استبدالاً بنظره. ووقف أبو الحسن على ذلك فسر به، وسكن ألى ما عرفه منه، وأطلع كتابه عليه، فاستبشرت الجماعة وزال عنها الشك والمخافة. ووجم والدي وأمسك، وتبين أبو الحسن منه ذلك، فأدناه إليه، وقال له: أراك ساكتاً وعن جملتنا في السكون خارجاً، فما الذي وقع لك؟ فقال له: أما أنا فقد زادتني هذه الرقعة استيحاشاً، وملأتني خوفاً وإشفاقاً، لأنه لم يتجدد ما يقتضيها ويوجب ابتداءنا بما فيها. فقال له: أنت يا أبا عبد الله بعيد للنظر سيء الظن، يحملك فرط الشفقة علي إلى تصور هذه الأسباب، وأرجو أن يكذب الله تقديرك، ويجري علي جميل العادة. وكان هذا يوم الثلاثاء، فلما كان يوم الخميس الثلاثين من جمادي الأولى سنة ست وثلاثمائة مضى على رسمه في أيام المواكب ألى المقتدر بالله، ووصل إلى حضرته، ووقف بين يديه، وخاطبه فيما احتاج فيه إلى خطابه، وانصرف ألى داره، وعرف كتابه خبره، فظهروا وحضروا، ونظروا في الأعمال، وأعطي كلاً منهم ما يتعلق بديوانه، ودعا بالطعام فأكل، ثم قام
(1/263)
________________________________________
إلى بيت منامه ونام، وانتبه وقت العصر، وجدد الوضوء، وصلى في الدار المعروفة بدار الصلاة، وجلس على مصلاة يسبح، وما عنده إلا ساكن صاحب دواته وغلامان من غلمانه. فبينما هو على ذلك إذ هجم أبو القاسم نصر القشوري الحاجب إلى موضعه، ومعه عدة كثيرة من الرجالة وقال: أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يأمرك بالحضور. فقال: بثياب الموكب أم بدراعة؟ قال بدراعة. فقال له: حينئذ أوصيك يا أبا القاسم بالحرم خيراً. وأخذه وأنزله في الماء إلى دار السلطان، بعد أن وكل بجميع من في داره من الكتاب والأصحاب.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: كنت في دار حامد بن العباس، وهو وزير بباب خراسان المعروفة بدار حجرة، إذ أدخل الفراشون إلى حضرة حامد رجلاً مكوراً في كساء أسود، ثم سمعنا صوت صراخ ووقع الصفع، وحامد يقول للصافع: جود. والرجل المصفوع يقول: الله الله قد ذهبت والله عيني. وهو يقول له: إلى لعنة الله يا ابن كذا ويا زوج كذا. ويسرف في الشتم ويبالغ. ويقول له الرجل: لا تسن أيها الوزير هذه السنة على أولاد الوزراء. ويقول له: وأنت من أولاد الوزراء؟ ثم يزيده صفعاً وشتماً، فلما لم يبق فيه بقية أمر برده إلى حيث كان فيه، فأخذه الفراشون وحملوه، وجاء أحدهم إلى الموضع الذي كنت فيه، فأخبرنا أن الرجل المحسن بن أبي الحسن بن الفرات، وأنه مقيد بقيد ثقيل، وعليه جبة صوف قد غمست في النفط مزرورة في عنقه، وأنهم ردوه إلى الحجرة التي كان فيها وحبسوه في الكنيف منها ودلوا رأسه في بئره.
وقال أبو القاسم: وقمت إلى أبي عبد الله والدي لأحدثه بذلك، وهو جالس مع بشر بن علي النصراني صاحب حامد وخليفته. فابتدأ وسألني عن الصياح الذي
(1/264)
________________________________________
سمعه، فأعلمته بالصورة، فانزعج، وأقبل على بشر بن علي يعجبه. فقال له بشر: هذا رجل محين، وهؤلاء القوم يلون عليه منذ ثلاثين سنة، ويقومون بأمره ويحسنون عونه، فلما ملك من أمرهم ما ملك عاملهم بهذه المعاملة، وما هذا إلا إدبار وسوء توفيق. ولم يزل حامد يردد المحسن في صنوف العذاب ويحمله على كل حال، إلى أن كلم المقتدر بالله في أمره، وبذل لأبي القاسم بن الحواري مال على إخراجه عن يده، فسعى في ذلك إلى أن تم نقله إلى دار السلطان، وأقام بها أياماً، ثم سلم ألى أبي القاسم بن الحواري وحصل في داره، وخاطب المقتدر بالله من بعد في إطلاقه إلى منزله فأذن فيه. وأقام يتعرف أخبار علي بن عيسى وحامد بن العباس وما يقررانه ويدبرانه ويصلح حواشي المقتدر بالله ويستميلهم، ويعمر ما بينه وبينهم. وانتشبت بينه وبين أبي نصر بشر بن عبد الله النصراني الأنباري كاتب مفلح الخادم مودة، وترددت مراسلة، ثم جمع بينهما أبو سهل نصر بن علي الطبيب النصراني كاتب المحسن في دار بين القصرين على شاطئ دجلة. وقال له المحسن، إنه يصحح للمقتدر بالله ثلاثة آلاف ألف دينار، وألفاً وخمسمائة دينار في كل يوم إذا أطلق أبا الحسن أباه واستوزره وسلم إليه حامد بن العباس وعلي بن عيسى ومكنه منهما ومن مناظرة المادرائيين واستيفاء ما عليهم. وكتب بذلك رقعةً سلمها إلى بشر بن عبد الله كاتب مفلح، وتفرقا، ومضى بشر إلى مفلح وعرفه ما جرى، وأن الذي بذله المحسن جملة كثيرة يرغب فيها المقتدر بالله، ومتى تم الأمر وصح المال بواسطته تضاعف جاهه وأحمده سلطانه، ولم يعدم من أبي الحسن والمحسن معرفة حقه وقضاء حوائجه.
(1/265)
________________________________________
وأشار عليه بالكلام في ذلك، وعرض الرقعة التي كتبها المحسن، فقبل وفعل، وعاونته القهرمانة زيدان، واجتمعت معه على إيراد ما يورده. فلما وقف المقتدر بالله على رقعة المحسن أنفذها إلى أبيه أبي الحسن وقال له: أنت قيم بهذا الضمان وملتزم له؟ فقال: نعم. واستدعاه من موضعه حتى سمع قوله، وعقد عليه الوفاء بما قاله. فلما كان يوم الخميس لسبع ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة حضر أبو الحسن علي بن عيسى دار السلطان، ومعه جماعة من القواد والغلمان على رسم الموكب، وجلس في المجلس الذي جرت العادة بجلوسه فيه، إلى أن يستأذن له. ثم خرج إليه من قبض عليه، وأنفذ إلى داره ودور إخوته وكتابه وأصحابه ووكل بها، واستظهر على ما فيها. واستدعى المقتدر أبا الحسن بن الفرات من حيث كان مقيماً فيه من داره، وحضر المحسن ابنه وكان قريباً من الدار، وخلع عليهما وحملهما على حملان بمراكب ذهب، وتقدم إلى الأمراء والقواد والغلمان والخدم وسائر الطبقات بالركوب معهما إلى دارهما.
ومن فضائل أبي الحسن بن الفرات والمأثور من ذكائه أنه وقع تشاجر بين ولد المكتفي وعلي بن المقتدر بالله في أجمة هوثا من أعمال القصر، وادعى كل من الفريقين أنها له، وأوجبت الصورة أن وقع إلى عامل سوق المسك بالحظر على ثمن ما يرد من صيود هذه الأجمة إلى أن تبين صورتها. وكان المقتدر بالله يوقع في وقت لعلي ابنه وفي آخر لولد المكتفي بالله، فلما زاد وقوف هذا الأمر وتأخر فصله وظهور الحق فيه لمستحقه، أحضر أبو الحسن بن الفرات خادماً لولد المكتفي بالله، ووكيلاً لعلي بن المقتدر بالله يعرف بالحربي، للمناظرة والحكومة، وقال أبو الحسن للخادم: ممن ابتعتم هذه الأجمة؟ قال: من ولد بدر اللاني. فأمرهما بالخروج والجلوس في الدار
(1/266)
________________________________________
بقربه إلى أن يدعوهما، وأحضر ابناً لبدر اللاني كان من أحد خلفاء الحجاب، وسأله عما عنده من الحسبانات التي لوكلائهم بنواحي القصر. فذكر أن الأملاك والضياع لما خرجت عن أيديهم أقلوا المراعاة للحسبانات فذهبت وهلكت، ولم يبق منها باق. فقال له: امض إلى دارك وسل وفتش وأحضر ما تجده. فمضى وعاد بعد ساعة ومعه حساب ذكر أنه وجده لبعض وكلائهم، فأخذه منه وسلمه إلى أبي منصور عبد الله بن جبير وكان بين يديه، وقال له: تصفحه وانظر هذا الحق من الأجمة كيف أورد، وإلى أي شيء نسب. فقرأه أبو منصور ورده إليه وقال: ما لهذا الحق ذكر فيه. فقال: هذا محال، وأخذ الحساب وقرأه وتأمله تأملاً استوفاه ثم وضع يده وقد تصفح ثلثيه على موضع وقال: ها هنا يجب أن يكون ما تطلبه منسوباً إلى وجهه. ووقف ساعة ثم دعا بالخادم والوكيل وقال لهما: هذا الحد منسوب إلى الإلجاء لا إلى الملك. أفتعرفان في يد من كانت هذه الأجمة من قبل؟ قالا: لا. قال: كانت في يد فلان في سنة إحدى وأربعين ومائتين، ثم انتقلت في سنة ثلاث وخمسين إلى يد فلان، ثم انتقلت في سنة أربع وستين إلى إبراهيم بن فورعره، ثم انتقلت في سنة خمس وثمانين إلى فلان. ولم يزل يذكر حالها وقتاً بعد وقت إلى أن دخلتها يد بدر اللاني. قال المحدث بهذا الخبر: فقلت لإنسان كان إلى جانبي: كيف يذكر الوزير سنة إحدى وأربعين وفيها مولده؟ ورأى شفتي تتحركان بالقول، فقال لي: ما قلت؟ ودافعته فكرر سؤالي وقال لي: قل ما قلت. فصدقته عنه فقال: أحسنت بارك الله عليك فيما تأملت وتتبعت. إني لما دخلت الديوان في حال الحداثة كان أستاذي الذي أخدمه أسن من فيه، فكنت أذا مر بي رسم كان من
(1/267)
________________________________________
قبل سألته عنه وحفظت ما يقوله فيه، أو جرى شيء في أيامي حفظته، وكان هذا مما عرفنيه. وحكم بالملك لولد المكتفي بالله، وطالبه صاحبهم بتسليم ما اعتيق من ثمن الصيد، فوقع بذلك، وكتب إلى المقتدر بالله بما كشفه وحكم به.
وحدث أبو عبد الله زنجي قال: توفي أبو عيسى أحمد بن محمد بن خالد المعروف بأخي أبي صخرة في يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من شعبان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في وزارة أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، وخلف أموالاً وأملاكاً كثيرة، ولم يخلف ولداً. فتعرض أصحاب المواريث لتركته، وبلغ أبا الحسن بن الفرات ذلك فأنكره، ومضى إلى المقتدر بالله وقال له: قد كان المعتضد بالله والمكتفي بالله رفعا المواريث وأزالاها وأنت أولى من أمضي فعلهما وأجرى سننهما. فأمره بفعل ذلك والتقدم به، وفعل وأزال التوكيل عن دار أبي عيسى أخي أبي صخرة والاعتراض عما خلفه، وسلم جميعه إلى الورثة، وأشهد عليهم بتسلمه. وأمر بأن يكتب إلى العمال في سائر النواحي برفع المواريث، فكتب أبو الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة بما نسخته: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يؤثر في الأمور كلها ما قربه من الله جل جلاله ومن طاعته ما اجتلب له منه جزيل مثوبته، وحسنت به العائدة على كافة خليقته ورعيته، لما جعل الله عليه نيته من العطف عليها، وإيصال المنافع إليها،
(1/268)
________________________________________
وإزالة الإعنات عنها، وإبطال رسوم الجور التي كانت تعامل بها، وإحياء سنن الخير وإيثاره لها، جارياً مع الكتاب والسنة، عاملاً بالآثار عن الأفاضل من الأئمة، وعلى الله يتوكل أمير المؤمنين، وإليه يفوض وبه يستعين. وأنهى إلى أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن محمد ما يلحق كثيراً من الناس من الإعنات في مواريثهم، وما يتناول على سبيل الظلم من أموالهم، ويحكم فيه فخلاف ما جرت به السنة، وأنه قد كان عبيد الله بن سليمان أنهى إلى المعتضد بالله صلوات الله عليه حال المتقلدين لأعمال المواريث، وما يجري على الرعية من مطالبتهم إياهم بأحكام لم ينزل بها كتاب الله عز وجل ولا جرت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجمع أئمة الهدى رحمة الله عليهم عليها، فكتب صلوات الله عليه إلى يوسف بن يعقوب وعبد الحميد بن عبد العزيز القاضيين كانا بمدينة اسلام وما يتصل بها من النواحي في أيامه يسألهما عن الحال عندهما في مواريث أهل الملة والذمة. فكتب عبد الحميد رضي الله عنه كتاباً في مواريث أهل الملة، حكى فيه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم رأوا أن يرد على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث إذا لم يكن للمتوفي عصبة يحوز باقي ميراثه، وجعلوا رضي الله عنهم تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمة إن لم يكن له وارث سواهم، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول: " وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى ببَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍّ عَلِيمٌ " وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن
(1/269)
________________________________________
الأخت والجدة. وكتب يوسف بن يعقوب إليه كتاباً في مواريث أهل الذمة حكي فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن المسلم لا يرث الكافر، وأن الكافر لا يرث المسلم وأنه لا يتوارث أهل ملتين. ووصف يوسف في كتابه أن السنة جرت بأن أهل كل ملة يورثون من هو منهم إذا لم يكن له وارث من ذي رحمه. وعرف أبو الحسن أمير المؤمنين أن ما قرر عليه حامد بن العباس الأمر من تتبع المواريث وتقليد جبايتها عمالاً يجرون مجرى عمال الخراج شيء لم يكن في خلافة من الخلافات إلى أن مضى صدر من خلافة المعتمد على الله رحمه الله فإن يداً دخلت فيها في ذلك الوقت على سبيل تأول بما روي عن زيد بن ثابت رحمه الله دون غيره، فأزالها المعتضد بالله صلوات الله عليه. ثم أعاد ذلك الرسم الجائر والأثر القبيح السائر حامد بن العباس بظلمه وتعديه وتهوره وتسطيه وتأول على الرعية بما لم يرض الله عز وجل فيه. فأمر أمير المؤمنين بأن يرد على ذوي الأرحام ما أوجب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود سلام الله عليهم ومن إتبعهم من أئمة الهدى رضي الله عنهم رده من المواريث عليهم، وأن ترد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثاً على أهل ملته، وأن يصرف جميع عمال المواريث في سائر النواحي ويبطل
أمرهم، ويرد النظر في أعمال المواريث إلى الحكام على ما لم يزل يجري عليه قبل أيام المعتمد على الله. ورأى أمير المؤمنين أن من الحق لله عليه فيما قلده من خلافته، وألبسه من جلباب كرامته، وألزمه من رعاية عباده في بلاده الدانية والقاصية، ونواحي سلطانه القريبة والبعيدة، أن يعم جميعهم بعدله وإنصافه، ويتناولهم بفضله وإحسانه، ويسن لهم سنة الخير في أيامه، ويزيل
(1/270)
________________________________________
عنهم البوائق والعوارض التي توجد بها السبيل إلى أن تنقص أموالهم ويتوصل فيها إلى ظلمهم وإعناتهم، وأن يجري الأمر في المواريث على ما كان جارياً عليه في أيام المعتضد بالله، وترك تبديله والحذر من إزالته وتغييره، وإذاعة ما أمر به إظهاره وقراءته على الناس في المسجدين الجامعين بمدينة السلام ليكون مشهوراً متعالماً، والخبر به إلى الأداني والأقاصي واصلاً. فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره واعمل عليه وبحسبه إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله، وكتب أبو الحسن يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابه إليه في أمر المواريث. وصل كتاب الأمير يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجباً من مال المواريث لبيت المال، وما لا أراه واجباً منه، وتلخيص ذلك وتبيينه، وأنا ذاكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل نه ليقف على ذلك إن شاء الله. الناس مختلفون في توريث الأقارب، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة إذا لم يكن للمتوفي من يرثه من عصبة وذي سهم لجماعة المسلمين وبيت مالهم، وكذلك يقول في الفضل بعد السهمان المسماة إذا لم تكن عصبة، ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت، وقد خالفه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وجعلوا ما يفضل من السهمان رداً على أصحاب السهام
(1/271)
________________________________________
من القرابة، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه. والسنة تعاضد ما روي عنهم، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت. وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه، وليس لأحد أن يقول، في خلاف السنة والتنزيل، بالرأي. قال الله تعالى: " وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍّ عَلِيمٌ " فصير القريب أولى من البعيد، وإلى هذا ذهب عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة، وعليه اعتمدوا، وبه تمسكوا، والله أعلم. ولو كان في هذه المسألة ما لا يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين، وترك قبول من سواهم ممن لا يلحق بدرجتهم بسابقته. وإذا رد أمر الناس إلى التخير من أقاويل السلف فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيداً لا يفي علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله؟ وأذا فضلوا في السابقة والهجرة فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت واطراح ما روي عنهم؟ وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه. وبالسنة فيما أفتوا به. والرواية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة، فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح، عن راشد ابن سعد، عن أبي عامر الهوزني عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الخال وارث من لا وارث له، يرث ماله ويعقل عنه. وكذلك بلغنا عن شريك بن عبد الله عن ليث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وعن ابن جريج عن عمرو بن مسلم عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك. وذكر عن عبادة ابن أبي عباد، عن محمد بن أسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال:
(1/272)
________________________________________
توفي ثابت بن الدحداح فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي: أله فيكم نسب؟ قال: لا. فدفع تركته إلى ابن أخته. فقد أوجب عليه السلام بما نقلته عنه هذه الرواية توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السهمان المبينة في الكتاب، وأعطى الجدة السدس من الميراث ولا فرض لها، وفي ذلك الاتفاق وفيما صير لها من السدس دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها، إذا بطلت السهام، ولم يكن من أهلها، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي. والمروي عن زيد بن ثابت انه جعل الفضل عن سهام الفرائض وكل المال إذا سقطت السهام بعد أهلها لجماعة
المسلمين، فجعلهم كلهم وراثاً، وجعل ما يصير لهم من ذلك في خلاف مال الفيء المصروف ألى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك يكون، فيما روي عنه، للناس كافة، وعددهم لا يحصى، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض مشارقها ومغاربها. وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس يمكن فسد، وثبت ما قلناه من قول أكابر الأئمة. وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى: " وَأُولُوا الأَرْحَامَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب الله " فقال فيه: كان الناس يتوارثون بالحليف دون القرابة، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب منع الحليف بما فرض من السهمان، فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص، فذلك غير واجب مع عدم الدليل، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم. وبعد، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض، لوجب في بدء، وما قالوا: إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما وعلى المقدم من حكمهما، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذا التأويل من له سهم دون من لا سهم له. فإذا ارتفع المانع رجع الحكم إلى بدئه. ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم، وإن كان لا وارث سواه، وهذا يدل على فساد تأويلهم، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد. وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد وترك الرواية عن عمر وعلي وعبد الله عليهم السلام جانباً، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب أن يجعل ذا الرحم أولى، لأنه يفضل الأجنبي بالقرابة. وترتيب المواريث في الأصل يجري على تقدم من فضل غيره في المناسبة كالأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن العم للأب والأم وابن العم للأب، وأخصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع. قال الله تعالى: " يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثيين " وولد الولد من سفل منهم ومن ارتفع يعمهم هذا الاسم، إلا أن الأقرب منهم في معنى الآية أحق من الأبعد. فإذا كان ذلك كذلك كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي يقرب بها دونه. وبعد، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما وما روي عن ابن مسعود، ثم ل يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وترجمان القرآن، وبحر العلم، ومن كان إذا تكلم سكت الناس، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب. وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي وعبد الله والجماعة، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين أعزه الله يستقضون الحكام فيقضون برد المواريث على الأقارب، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم، ولا يرونه متجاوزاً للحق فيه، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة. وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف، واقتدى بخلفاء الله، ومال إلى أفضل المذهبين. وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير وتسديده. والحمد لله رب العالمين. وحدث أبو الخصيب كاتب أحمد بن العباس قال: حدثني حامد قال: دخلت إلى عبيد الله بن سليمان وهو وزير المعتضد بالله رحمه الله فوجدته خالياً، وعنده أبو العباس بن الفرات، وعبيد الله يعاتبه، فلم يحتشمني لعلمه بما بيني وبينه، فسمعته يقول لأبي العباس: ولكنك تميل إلى فلان وفلان وابن بسطام. فقال له: أما فلان أيها الوزير فميلي إليه لأنه أسعفني في وقت نكبتي وعند مصادرتي بخمسين ألف دينار، ومن عاونني بماله، وأشركني في حاله، فقد استحق مني أن أصفيه الود وأخلص العقد. وأما ابن بسطام فرجل كاتب له علي رئاسة، وحق الرئاسة لا ينسى ودينها لا يقضى. سلمين، فجعلهم كلهم وراثاً، وجعل ما يصير لهم من ذلك في خلاف مال الفيء المصروف ألى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك يكون، فيما روي عنه، للناس كافة، وعددهم لا يحصى، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض مشارقها ومغاربها. وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس يمكن فسد، وثبت ما قلناه من قول أكابر الأئمة. وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى: " وَأُولُوا الأَرْحَامَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب الله " فقال فيه: كان الناس يتوارثون بالحليف دون القرابة، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب منع الحليف بما فرض من السهمان، فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص، فذلك غير واجب مع عدم الدليل، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم. وبعد، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض، لوجب في بدء، وما قالوا: إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما وعلى المقدم من حكمهما، لأن الذي منعهما إذا ثبت
(1/273)
________________________________________
هذا التأويل من له سهم دون من لا سهم له. فإذا ارتفع المانع رجع الحكم إلى بدئه. ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم، وإن كان لا وارث سواه، وهذا يدل على فساد تأويلهم، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد. وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد وترك الرواية عن عمر وعلي وعبد الله عليهم السلام جانباً، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب أن يجعل ذا الرحم أولى، لأنه يفضل الأجنبي بالقرابة. وترتيب المواريث في الأصل يجري على تقدم من فضل غيره في المناسبة كالأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن العم للأب والأم وابن العم للأب، وأخصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع. قال الله تعالى: " يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثيين " وولد الولد من سفل منهم ومن ارتفع يعمهم هذا الاسم، إلا أن الأقرب منهم في معنى الآية أحق من الأبعد. فإذا كان ذلك كذلك كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي يقرب بها دونه. وبعد، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما وما روي عن ابن مسعود، ثم ل يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد
(1/274)
________________________________________
أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وترجمان القرآن، وبحر العلم، ومن كان إذا تكلم سكت الناس، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب. وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي وعبد الله والجماعة، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين أعزه الله يستقضون الحكام فيقضون برد المواريث على الأقارب، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم، ولا يرونه متجاوزاً للحق فيه، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة. وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف، واقتدى بخلفاء الله، ومال إلى أفضل المذهبين. وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير وتسديده. والحمد لله رب العالمين. وحدث أبو الخصيب كاتب أحمد بن العباس قال: حدثني حامد قال: دخلت إلى عبيد الله بن سليمان وهو وزير المعتضد بالله رحمه الله فوجدته خالياً، وعنده أبو العباس بن الفرات، وعبيد الله يعاتبه، فلم يحتشمني لعلمه بما بيني وبينه، فسمعته يقول لأبي العباس: ولكنك تميل إلى فلان وفلان وابن بسطام. فقال له: أما فلان أيها الوزير فميلي إليه لأنه أسعفني في وقت نكبتي وعند مصادرتي بخمسين ألف دينار، ومن عاونني بماله، وأشركني في حاله، فقد استحق مني أن أصفيه الود وأخلص العقد. وأما ابن بسطام فرجل كاتب له علي رئاسة، وحق الرئاسة لا ينسى ودينها لا يقضى.
(1/275)
________________________________________
حدث محدث قال: قلت لأبي العباس بن الفرات يوماً على شرب وقد رأيته يلعب بالخصوم وأرباب الظلامات لعباً، فتارة بالحجج الديوانية وتارة بالحجج الفقهية: يا سيدي هل قطعك أحد في مناظرة؟ فقال أما بالحجة فلا. بل كابرني رجل مرة فحرت في جوابه، وانقطعت في يده، وذلك أن محمد بن زكريا المعروف بوزير الإسكافي كان صنيعة لي، فتولى الضياع بواسط، وحضر من تكلم عليه وبذل مواقفته على ما فرقه، فرسم لي عبيد الله بن سليمان مكاتبته بالحضور، فقلت له: هذا أعز الله الوزير وقت العمارة، وإذا أخل العامل بها وقع التقصير فيها، واحتج علينا بأننا قطعناه بالاستدعاء عنها. قال: فأخره إلى أن يفرغ منها. فأخرته شهوراً، ثم عاود المتظلم منه القول فيما تكلم عليه به، وأمرني عبيد الله باستدعائه، فقلت: هذا وقت التقدير، وبه يحصر الارتفاع. قال: فأخره. فاخرته شهرين، ثم عاود المتظلم، وعاودني عبيد الله. فقلت: قد شبهت الغلات إلا بالحزر. فقال المتظلم: كيف تسمح نفس أبي العباس بإحضار من عمر ضياعه وأضاف إليها خواص السلطان وأملاكه ونقل إليها أكرة الوزير؟! فضياعه كالعرائس المجلوات، وضياع الوزير كضياع الأرامل والأيتام.
قال أبو العباس: وعمل كلامه والله في عبيد الله. فابتدأت أحلف على كذبه واستحالة قوله، فمنعني وقال: حسبك الآن. وكتب منشوراً بخطه بإشخاصه، وأنفذ به مستحثاً، وحمل وزير، واعتقله وصادره.
(1/276)
________________________________________
وحدث محدث قال: رأيت أبا العباس بن الفرات يناظر شيخاً مزيناً ببادوريا قد احتال في تخفيف مقاسمة بيدره وقال له: في أية سنة قسم هذا البيدر على ما ادعيته في المعاملة؟ قال: السنة التي ملكت فيها أيدك الله البيدر الفلاني والبيدر الفلاني. حتى عد عشرة بيادر في عدة طساسيج من خواص السلطان التي استضافها إلى ضياعه. فورد عليه من قوله ما أدهشه وأسكته، وأمضى مقاسمة بيدره وصرفه.
وحدث أبو عبد الله بن الماسح الكاتب قال: حدثني أبو الحسن علي بن عيسى، وقد جرى ذكر الجهبذة، وقال: ما أعجب ما جرى في أمرها بنواحي المغرب. وذلك أنها لما صحت في أيام المعتضد بالله؛ وكتبت لعبيد الله بن سليمان على الديوان، أمرني أن أعمل عملاً بارتفاع الموصل والزابات، فعلمته وعرضته عليه، فاعترضه أبو العباس بن الفرات على رسمه في مثل ذلك وما تقتضيه خلافته لعبيد الله، وقال لي: ما أرى لمال الجهبذة في هذا العمر ذكراً. فقلت له: هذا ما لا أعرفه في أصل ولا مضاف، فإن يكن من مال السلطان فهو بمنزلة ما يؤخذ من الذيل ويرقع به الجيب، أو يكن من مال الرعية فهو ظلم، وطريق للجهابذة إلى أخذ أموال المعاملين. وهذه نواح افتتحت قريباً، وسبيلها أن يعامل أهلها بالإنصاف، وتخفف عنها المؤن لتحلو لهم سياسة السلطان. فقال: هذا باب من أبواب الارتفاع، ولا يجوز أن يترك ويضاع، فيلحقنا من السلطان استبطاء وإنكار. وتقدير ما يجب في هذه النواحي من ذلك عشرة آلاف دينار، فما هو إلا أن سمع الوزير ذكر السلطان وعشرة آلاف دينار تزيد في الارتفاع حتى قال: سبيل
(1/277)
________________________________________
هذه النواحي سبيل غيرها من نواحي السواد. فأمسكت، واستمر بلاء الجهبذة على الناس إلى حين انتهينا.
وحدث أبو الحسن بن ماني الكوفي الكاتب قال: حدثني على بن حسين الجهظ كاتب أبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة قال:
جرت المناظرة يوماً بين أبي العباس بن ثوابة وأبي العباس بن الفرات في حساب باروسما الأعلى بحضرة عبيد الله بن سليمان. فأقام ابن ثوابة الشاهد على صحة ما رفعه، والبرهان على عامل ابن الفرات في تأويله. وأخذ ابن الفرات يباهت في نصرة قوله. فقال ابن ثوابة: كيف أنتصف منك يا أبا العباس وأنا أناظرك بالحجة، وأنت تعارضني بفضل القدرة، وتزعم أن هذا الوزير أسير في يديك؟ قال: فنظر عبيد الله إلى من حضر وقال: اشهدوا أنني أسير في يدي كل كاف. قال: يقول ابن ثوابة: قد علمنا. قال: وتظلم أهل السارية من أهل بادوريا إلى المعتضد بالله وحكوا أن أهل سقي الفرات واطئوا العمال والمهندسين على ظلمهم وكتمان ما عندهم في أمر أبواب قنطرة دمما، ووافقوهم على تضييقها ليتوفر الماء عليهم. فتقدم المعتضد بالله إلى بدر بالخروج مع القاسم بن عبيد الله ومن استنصحه القاسم من أصحاب الدواوين ومشايخ العمال والمهندسين وقضاة الحضرة وطائفة من الشهود وابن حبيب الذراع ومن يختاره من الذراع للوقوف على ما وقعت الظلامة منه، وكشف الصورة فيه. فخرجا وفي القوم علي وجعفر ابنا الفرات، ومحمد بن داود بن الجراح وعلي بن عيسى، وإسماعيل ابن إسحاق وأبو الخازم القاضيان، وإبراهيم بن عبد الله عامل بادوريا وجماعة من
(1/278)
________________________________________
تنائها وشيوخها، ووصلوا إلى الموضع واستدعوا الدهاقين بسقي الفرات، واستقر الأمر على أن ذرع الباب الكبير بذراع السواد، فكان ستة عشر ذراعاً، وذرعت الأربعة الأبواب الصغار، فكان كل واحد منها ثمانية أذرع، وكان مقام الماء على الصب الذي قسمت عليه الأبواب فوق الدكة أربعة أذرع ونصفاً في أيام الطنكاب وقلة الماء. وسئل أهل بادوريا عما عندهم، فأقاموا على أن عرض الباب الكبير خمسة وثلاثون ذراعاً، وقاربوا أهل سقي الفرات في الأبواب الصغار وقالوا: لولا أن سعة الباب ما ذكرنا لما أمكن انحدار زورق في الباب ولا طوف من طواف الزيت والخشب، وأنكر أهل الأعلى قولهم، وطالبوهم بالشاهد عليه، فلم يأتوا به، واختلفت الأقوال مع الإجماع على أنه فوق العشرين ذراع. فقال أبو الحسن بن الفرات للقاسم بن عبيد الله: قد كثر أيها الوزير الاختلاف والتلاحي والأقاويل والدعاوي، فليأمر بكتب ما يقوله كل فريق ليتحصل ويعلم، ولا يقع عنه رجوع من بعد. فأمر بذلك، وأخذت الخطوط به. ثم قال ابن الفرات: فيسألهم الوزير: هل كانت قراقير الرمان وأطواف الزيت والخشب تنحدر في الباب أم لا؟ قالوا: بلى. قال: فلينفذ الوزير ثقةً من ثقاته مع صاحب للقاضي حتى يذرع عرض قراقير الرمان التي ترد دجلة من هذا الباب. فذرعت عشرة قراقير، فكانت سعتها ما بين عشرين ذراعاً. وكتب بذلك إلى المعتضد بالله، وأقام القوم بمكانهم إلى أن ورد أمره بأن يجعل الباب الكبير
(1/279)
________________________________________
بالذراع السوداء اثنين وعشرين ذراعاً، والأبواب الصغار على رسمها.
وحدث محمد قال: كان أبو الحسن بن الفرات يستظهر في نفقات المصالح. ويستكثر من إعداد الآلات على الأماكن التي تخاف الحوادث منها، فلما ولى علي ابن عيسى العباس بن منصور على المصالح أظهر العفة وقلل النفقة، ونسب ابن الفرات فيما كان يفعله ألى التفريط والإضاعة. وقدر للنفقة على بزند من بزندات نهر الرفيل ثلاثون ديناراً، فلم يطلقها، وقال: نفقة هذا البزند واجبة على صاحب الضيعة لأنها قطيعة. فأحدث فعله انفجار البثق المعروف بأبي الأسود في نهر الملك، فخرج إليه إبراهيم بن عيسى وأنفق عليه سبعمائة ألف درهم، وذهب من ارتفاع السلطان ببهرسير والرومقان وإيغار يقطين أضعاف ذلك، وكثرت البثوق والجبايات في نفقاتها والمضرة بحوادثها.
وحدث أبو بكر بن ثوابة قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول: حدثني أبو العباس أخي قال: قال لي عبيد الله بن سليمان: قد ألح علي أمير المؤمنين بأن أجعل بالجانب الغربي بإزاء داره ميداناً يكون تكسيره مائتي جريب. فقلت: أعوذ بالله أيها الوزير من ذلك. قال: فإني لا أجترئ على مخالفته ومراجعته. قال له أبو العباس: فإذا عاود فاذكرني له لأعرفه ما في ذلك عليه. فعاود المعتضد بالله عبيد الله بن سليمان وضجر عليه من تأخيره ما أمره به. فقال: يا أمير المؤمنين، بالباب أحمد بن محمد بن الفرات، فإذا شرفه أمير المؤمنين بالوصول إلى حضرته ذكر ما عنده في ذلك. فأذن له، فحضر وسلم وخدم، فقال له المعتضد بالله: ما عندك؟ فقال: طساسيج السواد يا أمير المؤمنين أربعة وعشرون
(1/280)
________________________________________
طسوجاً، أجلها طسوج بادوريا وهو اثنا عشر رستاقاً، أجلها رستاق الكرخ وهو اثنتا عشرة قرية، وأجلها ما على دجلة، وكل جريب منه يساوي ألف دينار، ويغل ألف درهم، أفيرى أمير المؤمنين إضاعة مائتي ألف دينار يشيع خيرها فيما لا فائدة فيه؟ قال: لا والله، فاطلبوا لنا موضعاً آخر. قال: يكون ما بين الحلبة والرحبة. فتقدم بالعمل على ذلك. قال أبو بكر: وسمعت أبا الحسن بن الفرات يقول: أصل العمارة وزيادة الارتفاع حفظ البذور، ولن يتم ذلك إلا بالعدل. ويقول: الضمان يذهب بالارتفاع كما يذهب الساكن بالعقار. وسمعته يقول: سبيل العامل أن يؤدب على الزيادة في المساحة كما يؤدب على الاقتطاع منها. قال: ووقع يوماً بحضرتي إلى بعض العمال وقد رفع إليه صاحب الخبر أنه صفع واحداً من التناء لتقاعده بأداء الخراج: في الحبس للتناء مأدبة، فلا تعامل بعدها أحداً بهذه المعاملة فأُمكنه من الاقتصاص منك. قال: وسمعته يقول: أحسنت إلى بعض الأكرة والمزارعين في ناحية كحلة من طسوج الأنبار بنحو مائة درهم، فأخلف علينا ذلك عشرة آلاف دينار، وذلك أنه صار الرجل المسامح إلى بعض البلدان فذكر أنه أُحسن إليه في معاملته بمائة درهم، فرغب أهل البلد في الانتقال إلى قرى كحلة، فانتقلوا وعمروا، وارتفعت في تلك السنة بعشرة آلاف دينار، ووكيلنا فيها محمود بن صالح.
قال أبو بكر: كتبت إلى أبي الحسن بن الفرات أسأله أن يرد إلي شيئاً أتولاه وأجعل جاريه لأبي علي أبي. فوقع لي بخطه: وصلت رقعتك جعلني الله فداك
(1/281)
________________________________________
ولأاعمال كثيرة، غير أنك تكره القضاء، والعمالة فلا تدخل فيها، والحسبة فلا تصلح لك، والمظالم فتجري مجرى الحكم والذي يصلح لك أن تعقد عليك الغلات في عدة طساسيج تختارها من السواد، فإن أردت جميع غلات السواد كان ذلك لك مبذولاً، فاعمل على ذلك فأنه أصلح لك وأعود عليك أن شاء الله. وذكر أنه كان بمدينة السلام رجل من أهل الأهواز يتحلى بالقضاء، وكانت له حال واسعة ونعمة ظاهرة، وعادته جارية بالحيلة على الناس وأخذ أموالهم بالتمويهات والتزويرات. فصار إليه رجل من أهل إسكاف بني الجنيد وسأله أن يسعى له في تقليده ناحيةً أسماها. فتركه أياماً، ثم دفع إليه كتاباً بتقليدها، وأعلمه مواقفته الوزير أبا الحسن علي بن الفرات على تقدمة خمسين ألف درهم. فأخذ الرجل الكتاب، وأقرض من بعض التجار المال وسلمه إليه ليحمله إلى الوزير، وواعده إلى البكور إليه في غد ذلك اليوم للقاء الوزير ووداعه، وفارقه. وغدا إليه على وعده فلم يره، وخاف أن ينتهي إلى الوزير خبره بالحضرة فينكره، فدخل إليه وتقدم فقبل يده واستأمره في الخروج. فقال له الوزير: إلى أين؟ قال إلى حيث قلدتني. قال ما قلدتك شيئاً فأخرج الكتب وعرضها عليه فلما قرأها الوزير عجب منها، وسأل عمن تنجزها له. فأسمى القاضي وأعلمه أنه أخذ منه خمسين ألف درهم باسمه، فأمر بطلبه فطلب فقيل إنه هرب. فقال الوزير. الحيلة علي تمت. ووقع في الكتب وأمضاها وكتب له بالعوض عن المال وأمره بالنفوذ.
وحدث أبو الحسن علي بن جعفر الهمذاني الكاتب قال: لما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة حضره من عمال علي بن عيسى العباس
(1/282)
________________________________________
ابن موسى بن المثنى، وابن أمينة، وأحمد بن محمد بن سمعون وكان يخلف أبا ياسر على أعمال الأنبار، وأمر بأن يخرج إليه تقدير الغلات من النواحي التي كانوا يتقلدونها، وأُخرج. ونظر في تقديرات ابن المثنى، وكان يتولى كوثى ونهر درقيط، فوجده يعجز نحو ستة آلاف كر بالفالج، وقال له: من أنت؟ فقال. العباس بن موسى ابن المثنى من أهل همينيا. فقال ابن الفرات: كان المثنى بندارا ويحلف على الكذب أكثر مما يحلف على الصدق وقد حلقت نصف لحيته على اقتطاع اقتطعه. ونظر في تقدير أبي ياسر فوجده يعجز اثني عشر ألف كر، وقال لابن سمعون: من أين أنت؟ قال: من أهل جرجرايا. فقال. لم أعرف بجرجرايا هذا الاسم، ولكنك من قرية البرت، وكان أبوك هرك فلان. ونظر في تقدير ابن أمينة فوجده يعجز ثمانية آلاف كر. فقال: يا أبا الحسن علي بن عيسى، شغلت نفسك بأخلاق المملكة والنظر في علوفة البط، والحطيطة من أرزاق الناس وما يجري هذا المجري من الصغائر المستهجنات، لعمارة بيدر واحد أصلح للسلطان وأعود عليه من توفيرك ما تقربت به إليه. ثم تقدم بمحاسبة الجماعة.
(1/283)
________________________________________
محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان
أبو علي محمد بن عبد الله بن يحيى بن خاقان.
كان أبو علي أكبر ولد أبيه، وتقلد بعد وفاته ديوان زمام الخراج والضياع السلطانية في وزارة الحسن بن مخلد فلما صرف الحسن وتقلد سليمان بن وهب قلده نفقات أبنية المعتمد على الله بالمعشوق في الجانب الغربي الذي من سر من رأى، ثم صرفه المعتمد فلازم بيته إلى أن تقلد أبو القاسم عبيد الله بن سليمان فرد إليه البريد بكورتي ما سبذان ومهرجا نقذف. وكان أبو القاسم عبد الله ابنه صحب أبا القاسم عبيد الله بن سليمان عند حصوله بالجبل مع بدر المعتضدي فضمه إلى أبي عبد الله محمد بن داود بن
(1/284)
________________________________________
الجراح، وأبو عبد الله يتقلد ديوان الإشراف، فرد إليه الإنشاء فيه، وولى أبو عبد الله محمد بن داود ديوان الجيش فنقله إليه، وأقام أبو علي على البريد وعبد الله ابنه في ديوان الجيش إلى أن تغيرت الأمور في فتنة عبد الله بن المعتز، وتقلد أبو الحسن ابن الفرات، فخافه أبو علي لشيء أنكره منه، واستتر عنه، وأقام على الاستتار والسعي على ابن الفرات، إلى أن قبض على ابن الفرات وتقررت الوزارة لأبي علي، وأنفذ إليه من دار السلطان، وظهر وحضر ومعه إبناه عبد الله وعبد الواحد وذلك في اليوم الرابع من ذي الحجة الذي وقع القبض فيه على ابن الفرات، ووصل إلى حضرة المقتدر بالله فقدمه وأكرمه وقلده وزارته وتدبير أموره، وانصرف وعاد من غد وخلع عليه وحمل على فرس بمركب ذهب، وركب ومعه الحجاب والغلمان والقواد، وأقطعه المقتدر بالله ما في
(1/285)
________________________________________
يد ابن الفرات من الضياع العباسية، وأجري له خمسة آلاف دينار في كل شهر على رسم ابن الفرات، ولعبد الله ألف دينار ولعبد الواحد خمسمائة دينار، ووهب له دار صاعد بن مخلد على دجلة، وأعطي ورثته شيئاً عنها، وأشهد عليهم بها وعمرها ونزلها. وقلد أبا القاسم عبد الله ابنه العرض على المقتدر بالله وكتابة الأمراء، وخلع علي عبد الواحد أخيه وعول علي أبي الحسن بن أبي البغل في مناظرة ابن الفرات ومطالبته فاستخرج منه صدراً كبيراً. ثم ورد أبو الهيثم العباس بن محمد بن ثوابة من الموصل، فولاه ذلك، فجد أبو الهيثم بأبي الحسن بن الفرات وكتابه وأسبابه وعسفهم، وزاد في الاستقصاء عليهم، وإيقاع المكروه بهم حتى حصل منه ومنهم الجملة التي ذكرناها في أخبار ابن الفرات. وتقدم أبو الهيثم عند الوزير أبي علي بهذا الفعل، فقلده ديوان الدار الكبير، وبسط يده حتى أمر ونهى، وعزل وولى، وغلب على أكثر الأعمال. وكانت فيه سطوة وخشونة جانب، فاستجاز لجزف واستعمل العسف، وقسط على أصحاب الدواوين والقضاة وأسباب السلطان مالاً على وجه القرض الذي يسبب لهم عوضه على النواحي، وصادر قوماً من الكتاب منهم المادرائيون، فلم تقع هذه الأسباب موقعاً فيما تدعو إليه الحاجة، ولا أثرت إلا القباحة والشناعة. وحول من بيت مال الخاصة إلى بيت مال العامة ألف ألف وستمائة ألف دينار في مدة نظر أبي علي الخاقاني على سبيل القرض، ولم يؤد من عوض ذلك سوى أربعين ألف دينار. وكان في أبي علي إهمال للأمور واطراح للأعمال وتلون في الأفعال، فكانت الكتب ترد عليه وتصدر جواباتها عنه من غير أن يقف عليها أو يأمر بشيء فيها، وإذا أُخرجت إليه جوامعها تركها أياماً فلم
(1/286)
________________________________________
يطالعها، وربما وردت رسائل بحمول، وكتب فيها سفاتج بمال فتبقى أياماً لا تفض، وإذا قلد عامل اتبع بمن يعزله قبل وصوله إلى عمله وأُتبع الصارف بمن يصرفه. فقيل إنه اجتمع في خان بحلوان سبعة انفس، وقد قلد كل واحد منهم ماء الكوفة في عشرين يوماً. وبالموصل خمسة قد قلدوا قردي وبزبدي، وأنهم اجتمعوا وتشاركوا ما دفعوا إليه، وخرج عن أيديهم من نفقاتهم وما بذلوه عن تقليدهم على أن ينالوا من مال العمل ما قدموه وأنفقوه، واستظهروا لنفوسهم به وخلوا العمل على آخر من ورد الناحية. وكان إذا سئل حاجة دق صدره بيده وقال: نعم وكرامة، حتى لقب دق صدره بذلك، وبسط يده وأيدي أولاده وكتابه بالتوقيعات بالصلات والإطلاقات، والإقطاعات والتسويغات وتخفيف الطسوق والمعاملات، وأخذ المرافق على إضاعة الحقوق وإسقاط الرسوم، فسخفت الوزارة وأخلقت الهيبة وزادت الحال، في إخلال الأعمال، ووقوف الأموال، وقصور المواد، وتضاعف الاستحقاقات، واشتداد المطالبات، وشغب الجند شغباً بعد شغب وتسحبوا على السلطان تسحباً بعد تسحب، وأخرج إليهم من بيت مال الخاصة الشيء بعد الشيء الذي بلغ تلك الجمله
المذكورة. حتى إذا انحل النظام وبان الانتشار وتصور المقتدر بالله الصورة فيما تطرق من الوهن على المملكة، شاور مؤنساً الخادم فيمن يقلده الوزارة. وجاراه ذكر ابن الفرات، ورده فقال: لم يطل يا أمير المؤمنين العهد بعزله، وربما ظن الناس وأصحاب الأطراف أن عزله كان طمعاً في ماله. وأصحاب الدواوين الذين دبروا الأمور والأعمال منذ أيام المعتضد بالله هم إبنا الفرات ومحمد بن داود بن الجراح ومحمد بن عبدون وعلي بن عيسى بن داود بن الجراح، فأما إبنا الفرات فقد توفي منهما أبو العباس وتقلد الآخر الوزارة وجرب نظره وأثره. وأما محمد بن عبدون ومحمد بن داود فقد مضيا عقب فتنة ابن المعتز، ولم يبق من الجماعة من هو أسد تصرفاً، وأشد تعففاً وأظهر كفايةً، وأكثر أمانة، من علي بن عيسى. فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر باستقدامه واستخدامه، لم يعدم إحماد الرأي في بابه. فأمره بإنفاذ يلبق لإحضاره، ووقف الخاقاني على أمره ورسم له. استدعاؤه واستخلافه على الدواوين. فكتب إلى عج بن عاج بإنفاذه، ووجه مؤنس يلبق حاجبه ليلقاه، وتدافع الأمر إلى أن وصل يلبق إلى مكة، وشهد الموسم مع أبي الحسن علي بن عيسى، وقضيا حجهما وأقبلا. وعند أبي علي أنه يقدم على القاعدة التي تقررت معه في استخلافه على الدواوين، ولم يكن ذلك كذلك، وإنما أريد ليقام مقامه، حتى إذا انكشف له باطن السر في بابه، توصل إلى إصلاح خواص المقتدر بالله وبطانته، ونقض ما دبر في أمر علي بن عيسى وتسليمه إليه، ورتب على ما ظن أنه أخذ بالوثيقة فيه. وورد أبو الحسن علي بن عيسى ابن داود في سحرة اليوم العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثمائة، ووصل إلى حضرة المقتدر بالله وقت صلاة الصبح. وبكر أبو علي الخاقاني ومعه إبناه إلى الدار على رسمه، وهو واثق بأن أبا الحسن علي بن عيسى يسلم إليه، وجلس في المجلس الذي جرت عادته بالجلوس فيه إلى أن يؤذن له في الوصول. وقلد أبو الحسن الوزارة وانصرف إلى داره، ووكل بأبي علي وابنتيه وابن سعد حاجبه وأبي الهيثم بن ثوابة وجماعةً من كتابه، فكانت مدة نظره سنة واحدة وشهراً وخمسة أيام. ة. حتى إذا انحل النظام وبان الانتشار وتصور المقتدر بالله الصورة فيما تطرق من الوهن على المملكة، شاور مؤنساً الخادم فيمن يقلده الوزارة. وجاراه ذكر ابن الفرات، ورده فقال: لم يطل يا أمير المؤمنين العهد بعزله، وربما ظن الناس وأصحاب الأطراف أن عزله كان طمعاً في ماله. وأصحاب الدواوين الذين دبروا الأمور والأعمال منذ أيام المعتضد بالله هم إبنا الفرات ومحمد بن داود بن الجراح ومحمد بن عبدون وعلي بن عيسى بن داود بن الجراح، فأما إبنا الفرات فقد توفي منهما أبو العباس وتقلد الآخر الوزارة وجرب نظره وأثره. وأما محمد بن عبدون ومحمد بن داود فقد مضيا عقب فتنة ابن المعتز، ولم يبق من الجماعة من هو أسد تصرفاً، وأشد تعففاً وأظهر كفايةً، وأكثر أمانة، من علي بن عيسى. فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر باستقدامه واستخدامه، لم يعدم إحماد الرأي في بابه. فأمره بإنفاذ يلبق لإحضاره، ووقف الخاقاني على أمره ورسم له. استدعاؤه واستخلافه على الدواوين. فكتب إلى عج بن عاج بإنفاذه، ووجه مؤنس يلبق حاجبه ليلقاه، وتدافع الأمر إلى أن وصل يلبق إلى مكة، وشهد الموسم مع أبي الحسن علي بن عيسى، وقضيا حجهما وأقبلا. وعند أبي علي أنه يقدم على القاعدة التي تقررت معه في استخلافه على الدواوين، ولم يكن ذلك كذلك، وإنما أريد ليقام مقامه، حتى إذا انكشف له باطن السر في بابه، توصل إلى إصلاح خواص المقتدر بالله وبطانته، ونقض ما دبر في أمر علي بن عيسى وتسليمه إليه، ورتب على ما ظن أنه أخذ بالوثيقة فيه. وورد أبو الحسن علي بن عيسى ابن داود في سحرة اليوم العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثمائة، ووصل إلى حضرة المقتدر بالله وقت صلاة الصبح. وبكر أبو علي الخاقاني ومعه إبناه إلى الدار على رسمه، وهو واثق بأن أبا الحسن علي بن عيسى يسلم إليه، وجلس في المجلس الذي جرت عادته بالجلوس فيه إلى أن يؤذن له في الوصول. وقلد أبو الحسن الوزارة وانصرف إلى داره، ووكل بأبي علي وابنتيه وابن سعد حاجبه وأبي الهيثم بن ثوابة وجماعةً من كتابه، فكانت مدة نظره سنة واحدة وشهراً وخمسة أيام.
وحكي أن السبب في تقليد الخاقاني الوزارة أن دستنبوية أم ولد المعتضد بالله
(1/287)
________________________________________
قامت بأمره مع المقتدر بالله، لأنه بذل لها مائة ألف دينار. وبلغ أبا الحسن ابن الفرات ما هو ساع فيه فهم أن يقبض عليه، فاستتر وجد ابن الفرات في طلبه، فنبه على أمره، وظن أن نفوره منه أفضل فيه عنده، وأشير عليه بأن يؤمنه ويوليه بعض الدواوين ليزول الخوض في بابه ويختلط بكتابه، فلم يفعل. فكان أبو علي ينمس على الخدم بالصلاة وإظهار التسنن، فإذا وافاه خادم برقعة أو رسالة تركه زمناً طويلاً إلى أن تتم صلاته، وكان يطيلها ثم يتبعها بالتسبيح، فيصفونه بالديانة، ويميلون إليه بهذه الوسيلة.

أخبار أبي علي المنثور
حدث أبو الحسن علي بن هشام قال: حدثني أبو عبد الله الحسن بن علي الباقطاني، وأبو الفضل بنان بن بنان وعلي بن عيسى الزنداني النصرانيان قالوا: حدثنا أبو علي محمد بن عبيد الله الخاقاني قال: لما تمادت الأيام بما وعدنيه المقتدر بالله من القبض علي أبي الحسن بن الفرات وتقليدي الوزارة استعظم الحال في نكبته وأشفق من حادث يحدث بذاك في دولته، وعلمت أنه لا ينفع في ذاك ألا إعمال الحيلة. وكنت أتتبع الأخبار في استتاري فجاءتني في بعض الأيام امرأة من عجائزنا وقالت: رأيت الساعة عماريةً على بغال، وجنداً وغلماناً يمضون إلى باب الكناس يريدون الكوفة، وربما كان ذاك لخارجي خرج وفتق حدث. فكتبت إلى أبي عيسى يحيى ابن إبراهيم المالكي أسأله عن هذا الأمر، وكان ظاهراً متبصرفاً، فأجابني بأن ملاحاة جرت بين هشام بن عبد الله وعبد الله بن جبير
(1/288)
________________________________________
كاتبي ابن الفرات فيما يحتاج إليه من الإبل والبقر والغنم للأضاحي في عيد النحر، ورسوم الأولياء والحواشي.
قال أبو الحسن: وكان الرسم جارياً بأن يفرق على القواد والفرسان والغلمان الحجرية والرجالة والخدم والبوابين والفراشين وأصحاب الرسائل والفرانقيين ووجوه الكتاب وأصاغرهم وخزان الدواوين في كل عيد. من شاة إلى عدة بعران، وتنحر في المصلى سبعون ناقة ويلتزم على ذلك مال جليل، فأسقطه علي بن عيسى في وزارة حامد ابن العباس واستيلائه على الأمور. قال المالكي: فأشار ابن جبير على ابن الفرات مغايظةً لابن الدردي الذي ضمنه إقامة الأضاحي، وإظهاراً لتوفر فيها أن يقلد ذلك رجلاً أسماه، وكان من أولاد الكتاب متخلفاً منزقاً فقلده، وأمره بالخروج إلى الكوفة لتحصيل ما يراد من هذه الأضاحي في فسحة من الوقت، قال الخاقاني: فتجلف الرجل وخرج بهذا الزي والصفف وترك العمارية فارغة ليبعد عن البلد ثم يركبها وركب الدواب فتأتت لي الحيلة في الحال، وكتبت رقعة إلى أم موسى القهرمانة أقول فيها قد أحضر ابن الفرات رجلاً علوياً قريب النسب من صاحب الخال الذي قتله المكتفي بالله، وعزم على إجلاسه في الخلافة يوم عيد النحر، والجند والناس متشاغلون بصلاة العيد، وإن من الدليل على ذلك إنفاذه عاملاً من ثقاته إلى الكوفة ومعه عمارية خرجت فارغةً ظاهراً، لم يخف خبرها لركوب العلوي فيها متخفياً ليحصل بالقرب من بغداد قبل الوقت الذي يفعل فيه ما يفعل قال:
(1/289)
________________________________________
وعظمت القصة وقلت. إن لم يعالج ابن الفرات تمت الحيلة الموضوعة. ثم سألتها مطالعة الخليفة والسيدة بذلك، وكتمانه عن كل أحد بعدهما لئلا ينم الحديث إلى ابن الفرات فيبطل ما رتبه. ففعلت أم موسى، وأنفذ المقتدر بالله شفيعاً خادم السيدة إلى القصر على وجه التصيد حتى عرف خبر العمارية الفارغة، ورأى زي العامل الذي هو أكثر من عمله. فلم يشك المقتدر بالله في صحة ما ذكرته، واستظهر بأن شافه مؤنساً وغريباً الخال بذلك، وكانا عدوي ابن الفرات ومعي في التدبير عليه، فقالا: هو خبر مستفيض. وقوياه في نفسه، وقالا له: إن لم تعالجه امتنع من حضور الدار، واعتصم بمن يساعده من الجيش على كثرتهم. فقبض عليه في يوم الأربعاء الثالث من ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين. قال أبو الحسن بن هشام: فحدثني أبو عبد الله بن عبد الأعلى الإسكافي كاتب نصر القشوري الحاجب قال: كنت بحضرة صاحبي في يوم للعرض على ابن الفرات، فرأيته قد خاف خوفاً شديداً، فقلت: ما الخبر أيها الأستاذ؟ قال: ويحك، جاءني الساعة خادم ممن أُعول عليه في مراعاة أخبار الخليفة، فعرفني أنه شاهده وقد جمع جماعةً من خواص خدمه، وأقامهم حواليه بالسلاح، وأسبل الستور والستائر في الدار التي هو وهم فيها، وهذا لأمر كبير ما أعلم ما هو. فما مضت ساعة حتى وافى أبو الحسن بن الفرات، وخرج نصر الحاجب فتلقاه على رسمه، ودخل إلى دار الوزارة المرسومة به، وأنفذ نصر يستأذن في وصوله. فخرجت رسالة الخليفة: بأني
(1/290)
________________________________________
في دار خلوة، فقل له يدخل وحده مع بعض الخدم، ولا يصحبه منكم أحد، واحبس أنت القواد واصرفهم، فليس هو يوم وصول.
فدخل ابن الفرات مع الخدم، وقبض عليه نذير الحرمي وخدم السيدة في طريقه، وعدلوا به إلى حيث حبسوه فيه، وعرف نصر الحاجب الحال فأشفق من القبض عليه أو صرفه، ولم يزل مروعاً إلى أن تصرم النهار. فعلمت أن أولئك الخدم أقيموا لخوف المقتدر بالله ألا يتم له القبض عليه، وأن الجيش ربما هجموا فمنعوا منه.
قال أبو الحسن: وكان الرسم إذا دخل الوزير على الخليفة وخدمه ألا يقبض عليه في ذلك اليوم، لا في داره ولا منصرفاً عن حضرته، إيجاباً لحق الوصول وحرمته، وإنما يقبض عليه في بعض الممرات عند دخوله من قبل أن تقع عينه عليه. وكان أيضاً من الرسم أن يكون للوزير دار مفردة في دار الخلافة يجلس فيها وينظر، منذ أيام صاعد وإلى أيام الخاقاني الأكبر، ويجلس الخواص والحواشي بين يديه. فلما ولي الخاقاني صارفاً لابن الفرات جلس في دار الحاجب متقرباً إليه ومدارياً له، وفعل علي بن عيسى بعده مثل فعله. فلما عاد أبو الحسن بن الفرات إلى الوزارة عاد إلى الدار الأولى المفردة، وشق ذاك على الحاشية، وتقلد حامد فجلس في دار الحجبة، ورجع ابن الفرات في الدفعة الثالثة فرجع إلى الدار القديمة، ثم بطل الجلوس فيها بعده.
وحدث أبو عيسى أخو أبي صخرة قال: كان أبو علي الخاقاني يتهمني بمودة أبي الحسين بن أبي البغل. فلما استدعي وقرب من بغداد خرجت إليه وتلقيته، وثقل
(1/291)
________________________________________
ذاك على أبي علي، وأرجف الناس به، وبأنه أقيم بلغةً إلى أن يرد أبو الحسن. وكان أبو الحسن أخو أبي الحسين قد تقلد مناظرة أبي الحسن بن الفرات وأسبابه في دار السلطان، وإثارة ودائعهم، بعناية أم موسى وقيامها بأمره، سعت أم موسى وابن الحواري في تقليد أبي الحسين ابن أبي البغل. وقد كان ظهر من اختلال نظر الخاقاني وسوء تدبيره ووقوف الأمر على يده ما دعا إلى صرفه قبل تطاول المدة. وعرف الخاقاني ما يجري الخوض فيه، فتوصل إلى فسخه بحيلة عملها، وذاك أنه قال لأبي القاسم ابنه: ادع دعوةً اجمع فيها أصحاب الدواوين ووجوه القواد وإخوتك وكتابنا، فإن لذة الوزارة في ظهور الرئاسة، وإلا فما الفرق بين العمل والعطلة؟ فقال: السمع والطاعة. وعين له في ذلك على يوم سبت لأنه لا موكب فيه، ودعا الجماعة فلما حصلوا عند أبي القاسم ابنه وقد كتم رأيه فيما هو مدبره عنه وعن كل أحد مضى وقت العصر من ذلك اليوم إلى دار الخلافة وقال لنصر الحاجب: استأذن لي على أمير المؤمنين لأجاريه مهماً لا يحتمل تأخر وقوفه عليه، فذكر نصر ذلك للمقتدر بالله، فقلق وخاف من حدوث حادث عظيم، فأوصله. فلما دخل إليه ودنا منه قال: ها هنا مهم لا يجوز أن يحضره أحد، فانصرف نصر الحاجب وسائر من في المجلس حتى بقيا خاليين، ثم قال له الخاقاني: قد رفعتني يا أمير المؤمنين بعد ذلة وأغنيتني بعد قلة، وما قصرت في خدمتك، ولا قعدت عن ممكن في تمشية أمور دولتك، وفيما بان من اجتهادي أخذي من أموال ابن الفرات ما مبلغه ألفاً ألف دينار وكسر سوى الأمتعة الجليلة. وما أدفع أني لست كهوفي الكفاية لطول عطلتي ودربته، واعتزالي وتصرفه، ولكنني مأمون على أيامك، ومعتقد لامامتك
(1/292)
________________________________________
وهؤلاء الرافضة كلهم أعداؤك، ورأيهم مع الطالبيين لا معك ولا مع آبائك. وقد وفر الله عليك من ارتفاع ضياع ابن الفرات ما قدره ألف ألف دينار في السنة، وليس يبلغ أثر تقصيري في تدبيري على ما يقال لك هذا القدر، فكيف وليس الأمر على ما يدعي؟! وما استعنت إلا بالكفاة الذين كانوا يعملون مع عبيد الله بن سليمان والقاسم ابنه، وابن الفرات بعدهما، والأمور منتظمة بهم، وقد أمنت بذلك عدواً يسعى على أصول الدولة. ولعمري إن ولدي وحاشيتي قد مدوا أيديهم إلى قبول هدايا العمال ومرافقهم لأنهم كانوا فقراء، وعقيب محنة طويلة وعطلة متصلة، لكننا ما أخذنا حبةً واحدة من الأصول، وقد غنينا الآن بما حصل لنا وبل أحوالنا، وسأحلف آنفاً على استئناف الأمانة، واستعمال النزاهة، وأضبط أولادي وأصحابي عن أخذ درهم واحد. وابن أبي البغل أعظم عداوةً لمولانا من ابن الفرات، لأنه رجل ملحد، يبطل الإسلام والنبوة، ويلهو بالقرآن، ويدعي الخطأ فيه، وقد أخرج عيوبه وصنف فيه كتاباً، فكيف يوثق بمن هذه حاله عل الخدمة وقد ضافره جماعة من عمالي على أمره، وتربصوا بما قبلهم من الأموال توقعاً لأيامه. وقد بلغني اليوم أنه قال لثقاته: إن أمير المؤمنين قد أنفذ إليه على يد فرج النصرانية صاحبة أم موسى خاتمه، وجعله على ثقة من تقليده في يوم الموكب الأدنى فإن كان ذلك حقاً فقد حضرت دار أمير المؤمنين بعد أن جمعت عند ابني جميع أولادي وأقاربي وكتابي وأصحابي، ولم أطلعهم على أمري، فإن أراد مولانا وهم بالقبض عليهم فنحن في يده، فيأمر بإنفاذ من يتسلم الجماعة بعد أن تحرس نفوسنا بكوننا عنده. فقد يجوز أن نستخدم في كتابة السيدة والأمراء ولا نخرج عن الجملة. وأن يفضل مولانا بإتمام صنيعته، وتمكيني من هذا الملحد ابن أبي البغل الذي
(1/293)
________________________________________
أبعده الوزراء قبلي لشره، وطردوه من الحضرة لقبح فعله، وكانوا أعرف به مني أثرت من جهته وجهة أخيه مالاً كثيراً، أذ كان أخوه قد اقتطع من مال ابن الفرات الذي تولى إثارته صدراً كبيراً. وبكى ورقق المقتدر بالله، وأطمعه، فرق له ورحمه، وتوقف عن أمر ابن أبي البغل، وقال للخاقاني: ما أردت صرفك، ولو كنت أردته لزلت عنه الآن مع سماعي ما سمعته منك، وقد أطلقت يدك في ابن أبي البغل وأخيه، فاقبض عليهما وأبعدهما. فقال: يا أمير المؤمنين كانت أم موسى سعت لي في هذا الأمر، وقد تغيرت علي، وعدلت عني إلى السعي لابن أبي البغل
والقيام بأمره، وأخاف أن يفسد قلب السيدة فتثنيك عن هذا الرأي فأهلك أنا. بأمره، وأخاف أن يفسد قلب السيدة فتثنيك عن هذا الرأي فأهلك أنا.
فعاهده ألا يطلع السيدة ولا غيرها على ما جرى بينهما إلى أن يتم القبض عليه، فقال له الخاقاني: فيظهر أمير المؤمنين أني حضرت لأجل كذا وكذا، لحديث علمه من أمور الأطراف. وخرج الخاقاني فجلس في دار الحجبة، وكتب بخطه إلى أبي الحسن ابن أبي البغل: إن أمير المؤمنين قد طلب مني عملاً لما صح من أموال ابن الفرات وأسبابه فحضره الساعة، فإني مقيم في الدار أنتظرك. فما بعد أن وافي ابن أبي البغل، فقال له الخاقاني: قد جرى بيني وبين أمير المؤمنين في أمر أخيك ما لو توليته لما زدت علي فيه، وقررت معه تقليده أصول دواوين السواد والمشرق والمغرب، ليكون هو على الأصول، وأبو بكر محمد ابن علي المادرائي على الأزمة، وأتشاغل أنا بالخدمة، وتزول هذه الأراجيف الواقعة، ونكون يداً واحدة في إثارة الأموال وتسديد الأحوال. فشكره ابن أبي البغل على ذلك، وظن أنه شيء قرره الخليفة وأمر به ليجعله
(1/294)
________________________________________
طرفاً إلى ما اعتقده، وسبباً لسكون الخاقاني وألا يستوحش من الأقوال التي تقال في الإرجاف به، وأن الخاقاني أدعى من ذاك ما ادعاه لنفسه تجملاً وتمنناً عليه بما لا صنع له فيه. وأمره الخاقاني بمكاتبة أخيه بأن يسبقه إلى داره ليوقع له بما رسمه أمير المؤمنين ويتسلم الدواوين. وكتب ابن أبي البغل إلى أخيه بالصورة وبما حسبه فيها وقدره. فبادر دار الخاقاني وتأخر الخاقاني في دار الخلافة إلى وقت صلاة المغرب، ثم انصرف ليلاً، فساعة رأى ابن أبي البغل حاصلاً وقد صعد أخوه معه قبض عليهما، وأنزلهما في زورق مطبق، ووكل بهما ثقاته وحدرهما إلى واسط لينفيهما منها إلى حيث يتقرر رأيه عليه. وعرفت السيدة وأم موسى ما جرى، فقامت القيامة عليهما، وخاطبتا المقتدر بالله فيه فقال. أنا أمرت به، ولا يجوز فسخه مع وقوعه، فكانت غاية ما عندهما أن سألاه مراسلة الخاقاني بألا يصادرهما وأن يقلدهما بعض الأعمال لينفذ إليهما. ووجهت أم موسى بأخيها وابن الحواري إليه، فما برحا حتى قلد أبا الحسين أصبهان وأبا الحسن الصلح والمبارك وكتب بإطلاقهما وإنفاذهما إلى أعمالهما. وحدث أبو بكر الزهري الأصبهاني الكاتب قال: لما تقلد القاسم بن محمد الكرخي أصبهان، وقبض علي أبي الحسين بن أبي البغل، أقام في حبسه إلى أن تقلد الأهواز وحمله معه، ومات القاسم وتقلد أبو عبد الله ابنه موضعه. وكتب أبو الحسين بن أبي البغل من الحبس إلى أم موسى القهرمانة بالشروع له في الوزارة، وبذل البذول الكثيرة، فقامت أم موسى بأمره وقررته مع المقتدر بالله والسيدة، وكتبت إليه بذلك، وبأن الخليفة قد أمر بمكاتبتك بالإصعاد ليستوزرك. فلما قرأ كتابهما لم ينتظر ورود كتاب السلطان، وخرج من الحجرة التي كان معتقلاً فيها، فقال له الموكلون به: إلى أين؟ فانترهم وشتمهم، وأظهر الكتاب،
(1/295)
________________________________________
ورأى بغلاً مسرجاً لأبي عبد الله بن القاسم، فركبه يريد الدار التي فيها رجاله وغلمانه. وعرف أبو عبد الله خبره، فخرج حافياً حتى لحقه وقد وضع رجله في الركاب، فقال له: عرف الله الوزير البركة، وخار له فيه. فقبل ذلك منه، ثم قال أبو عبد الله: ما ورد عللي الكتاب بشيء من هذا. أفأكتب إلى بغداد بما فعله الوزير من خروجه عن محبسه، وركوبه من غير أمر ورد في بابه، واحتجاجه بكتاب القهرمانة؟ فقال له: اكتب ما شئت. فوافى إلى داره واستأجر سفناً، وسار من يومه عن الأهواز يريد الحضرة. وكتب أبو عبد الله إلى الوزير الخاقاني بالصورة، فركب إلى المقتدر بالله، ودخل إليه وحل سيفه ومنطقته بين يديه، وقبل الأرض وبكى، وأذكره بخدمته وحرمته، وحقوق أسلافه على أسلافه، بعد أن عرفه حال ابن أبي البغل، وما أظهره بالأهواز، وما فعله، وبذل له أن يقوم بكثير مما بذله ابن أبي البغل، واستحيا المقتدر بالله، ورق لقوله وبكائه، وغاظته عجلة أبي الحسين بن أبي البغل، ومبادرته إلى الإصعاد قبل ورود أمره عليه بذلك، فأمره برده من الطريق وترك الفسحة له في الورود. وعرفت أم موسى ما جرى، فقامت عليها القيامة منه، وراجعت الخليفة، وأذكرته بما قررته معه، فامتنع عليها من استيزاره، وأجابها إلى تعويضه من ذلك، وإخراجه، من النكبة، ورده إلى أصبهان، وكتب له بتقليد هذه الناحية، ورسم له الرجوع من حيث يلقاه الكتاب فيه، وألا يتمم إلى الحضرة. فاتفق أن وصل الكتاب إليه وقد حصل بجرجرايا، فعاد مغموماً وتوجه إلى
أصبهان. بهان.
قال أبو بكر الزهري: ولما وردها، نزل بظاهرها في بستان يسمى مابان، وخرج الناس لاستقباله، ودخلت إليه، وجلست عنده. فلما خلا قال أعطني ذلك التقويم،
(1/296)
________________________________________
وأومأ إلى تقويم في زواية المجلس، فجئته به. فكتب على ظهره بيتين لنفسه وأنشدنيهما، فسمعتهما منه وهما:
ولي همةٌ تعلو السّماكين رفعةً ... وتسمو إلى الأمر الذي هو أشرف
وجدّي عثورٌ كلما رمت نهضةً ... تقاعد بي يغتالني ليس ينصف
وله في هذا المعنى لما انتقض أمره في الوزارة:
أملٌ كان كضوء ال ... شمس في بعد المكان
فإذا صار على قر ... بٍ بلمسٍ وعيان
استردته يد الدّه ... ر فعدنا في الأماني
ولأبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد الأصبهاني الكاتب إلى أبي الحسين ابن أبي البغل في هذا المعنى من قصيدة أولها يقول فيها:
نضا شيبه من جدة اللهو ما نضا ... وعوضه ثوب النّهى فتعوضا
أقول وقد شمت البروق فلم أجد ... كبرقٍ بدا من أصبهان فأومضا
سقى الرائح الغادي بلاداً رفضتها ... ولم تك لولا أن نبت بي لترفضا
وهل هي إلاّ موطن لي محبب ... إليّ أعادته الخطوب مبغّضا
ولما تولاها الأغرّ محمدٌ ... حدا ذكره شوقي إليه فأومضا
كأني بذاك الصقع قد حله أبو ال ... حسين فجادته يداه فروضا
فأُلبس فيه الأمن من كان خائفاً ... وحكّم في الإثراء من كان منفضاً
وأصلح ملتاثاً هناك بعزمه ... وقوّم معوجاً وذلل ريضاً
(1/297)
________________________________________
وجازى بإحسان مسيئاً ومحسناً ... وكل امريءٍ يقضي الذي حيث أقرضا
وفيها يذكر الوزارة:
ووالله ما أدري أرأيك تنتضي ... أم القدر الماضي إذا الخطب أجهضا
ومعرضةٍ عن خاطبيها تبرجت ... إليك على قصد فألفتك معرضا
رأت منكراً في الرأي أن رأب الثأي ... سواك امرؤٌ أو أن يمرّ فينقضا
فجاءتك تخطو العز ممن تعرضوا ... لها، وهي لا تألوك منها تعرّضا
تجوب إليك البر والبحر والورى ... يحثونها لما رأوك لها رضا
فحاطك عنها الله علماً بأنها ... مدى غايةٍ إما انتهى فقد انقضى
وردّك صونا للمكارم والعلى ... إلى منهجٍ لا نبتغي عنه مدحضا
وليس بمغبوطٍ أخو الرتبة التي ... إذا زلّ عنها قيس شبر فقد قضى
ولو كنت قد حمّلت أعباء ثقلها ... لحملت وزراً يترك الظهر منقضا
أعيذك والراجون طراً من التي ... تكون بها للنائبات معرضا
وهنئت أغباب الزمان بثابت ... من العز والسلطان لن يتقوضا
فإنك لم تحبس لسوء ولم تضم ... ولم تلف في تلك المقامات مدحضا
وما كان يدعي ذلك المجلس الذي ... تبوأته إلاّ عريناً ومربضا
(1/298)
________________________________________
وما كنت إلاّ السيف يرهب مغمداً ... وإن كان محصوراً ويقطع منتضى
محمد يا حلف الندا يا بن أحمدٍ ... نداء امريءٍ أضحى إليك مفوضّا
أترضى ببعدي عن ذراك فما أرى ... وراءك لي عيشاً وإن كان مرتضى
فداؤك نفسي كم يدٍ بعدها يدٌ ... جبرت بها عظمي وكان مهيضا
أيادٍ نمى طولاً وعرضا غراسها ... تحقّ لشكري أن يطول ويعرضا
وله إليه في هذا المعنى من قصيدة:
أرادوا له ما لم يرده لنفسه ... لكى يدركوا عزاً وفضل ثراء
وأفضل من نيل الوزارة لامريءٍ ... بقاء يريه مصرع الوزراء
ولا سيما من كان مستوجباً لها ... وإن عاقه عنها اعتلال قضاء
ومن قد رأينا بالخلافة فاقةً ... إلى مثله من راشدي الخلفاء
ومن هو معلوم بأنّ وفاءه ... بها لو يليها فوق كل وفاء
أريد له طول البقاء وقلما ... رأيت وزيراً نال طول بقاء
وذكر أبو الحسن ثابت بن سنان قال: لما ظهر من الاختلال في أيام الخاقاني ما ظهر، كتب أبو محمد الحسن بن روح إلى المقتدر بالله رقعة يضمن فيها الخاقاني وأسبابه بما يعجل منه خمسمائة ألف دينار ويقول: أنا أقتصر على الوزارة، وتكون الدواوين إلى علي بن عيسى، فتمشي الأمور، وتستقيم الأعمال. وسلم الرقعة إلى أم موسى القهرمانة لتوصلها، وتحرز الأمر في مضمونها.
(1/299)
________________________________________
فسلمتها أم موسى إلى الخاقاني، فأنفذ إلى منزل ابن روح وكبسه، وقبض عليه وحبسه، وصرفه عن ديوان ضياع الخاصة.
وحكى أبو عبد الله أحمد بن محمد الكاتب قال: قلت للوزير أبي علي محمد ابن عبيد الله الخاقاني في كلام جرى: العادة طبيعة ثابتة. فقال لي: يا أبا عبد الله، هذا تصحيف، إنما هو: العادة طبيعة ثانية. وذكر أبو علي عبد الرحمن بن عيسى أن أبا علي كان لين العريكة، قليل البصيرة، لا يدفع عن شيء يخاطب فيه، ولا يتصور عواقب الأمور فيما يكون منه فانبسطت العامة عليه فضلاً عن الخاصة، ولقب بدق صدره، ووقع بكل سؤال وإنفاذ لكل محال.
قال عبد الرحمن: فحدثني سبك المفلحي أن أحد القواد الأصاغر سأل أبا علي الخاقاني أمراً فقال: اكتب رقعة حتى أوقع لك فيها. فأحضر بياضاً وقال: يوقع الوزير في آخره بالإجابة إلى المسؤول لأكتب العرض بعد ذلك. فوقع له بذلك. وحكي عبد الرحمن أيضاً: أن نصر بن الفتح كاتب مؤنس الخادم تأخر عن أبي علي الخاقاني، وجاءه، فسأله عن سبب تأخره، فاعتذر إليه بعلة بنت له عزيزة عليه. فاتفق أن انصرف من عنده، وعرض عليه صك عليه لبعض الوجوه بمال اطلق له، فوقع إليه: أطلق أكرمك الله ذلك وعرفني خبر الصبية إن شاء الله. وذكر عبد الرحمن عن سبك المفلحي: أنه سأله إثبات راجل معه بأربعة دنانير في المشاهرة. فقال: أربعة دنانير! وكررها، وما زال يحسبها حتى
(1/300)
________________________________________
صارت ثمانية وأربعين ديناراً في السنة. ثم وقع بإجراء ثمانية وأربعين في المشاهرة.
وحدث أبو الفرج السلمي الكاتب قال: حدثني أبو العباس ابن النفاط قال: حدثني أبو عبد الله بن أبي العلاء الكاتب قال: كنت بحضرة الخاقاني وقد عرض عليه كتاب كتب من الديوان إلى عامل النيل بحمل غلة كانت حاصلة قبله وأنكر عليه تأخيرها، فوقع إليه في الكتاب: احمل الغلة، وأزح العلة، ولا تجلس متودعاً في الكلة. قال: ثم التفت إلي وقال: يا أبا عبد الله، في النيل بق يحتاج إلي كلل؟ فقلت: إي والله وأي بق ومن أجله يلزم الناس الكلل نهاراً وليلاً. قال: فسر وقال: نحمد الله على حسن التوفيق. ونفعني ذلك عنده. ووقع في كتاب إلى بعض العمال وكان مستزيداً له: الزم وفقك الله المنهاج، واحمل ما أمكن من الدجاج، إن شاء الله. قال: فحمل العامل دجاجاً كثيراً على سبيل الهدية. فقال: هذا دجاج وفرته بركة السجع. وتقدم بأن يباع ويورد ثمنه في الحساب، فأورد منسوباً إلى ثمن دجاج السجع. قال: وسأله رجل كتاب شفاعة إلى أم موسى القهرمانة، فكتب له، وعنونه: لأبي موسى. قال: وكان لها أخ يجلس فيلقاه الناس وأصحاب الحوائج ليأخذ رقاعهم وقصصهم إليها. فلما دفع إليه ذلك المستشفع الكتاب نظر إلى عنوانه وضحك وقال له: احمله إلى صاحبه. قال: وأين منزله؟ قال: في مقابر الخيرزان. قال: أحمله إلى أهل
(1/301)
________________________________________
القبور؟ قال: فإذا كان ذلك إلى أهل القبور، تحمله إلى سكان الدور؟ وأخذ الكتاب منه وشاع خبره.
ومن أحاديث الخاقاني المشهورة أن أبا الحسن علي بن عيسى جلس معه يوماً في طياره، وأراد الخاقاني أن يحييه بتفاحة كانت في يده، وهم أن يبصق في الماء، فبصق في وجه علي بن عيسى، ورمي بالتفاحة إلى الماء. وقال: إنا لله، غلطنا. فقال: علي ابن عيسى: إنا لله ثلطنا. ومن أحاديثه أيضاً أنه مر في طياره منصرفاً من دار السلطان عند صلاة المغرب، فرأى ملاحين يصلون في مسجد على دجلة بمشرعة القصب، فقدم وصعد وصلى معهم وكان صائماً. فأنفذت إليه بدعة الكبيرة ماء مثلوجاً ليفطر عليه، فرده وشرب ماءً حاراً من دجلة. وقيل: إنه كان يدخل إليه الرجل الذي قد عرفه طويلاً فيسلم عليه ويسأل عنه، فيقول أو يقال له: هذا فلان، أو إنه فلان. ثم يلقاه بعد يوم فتكون حاله معه مثل الحال الأولى.
وحدث أبو الحسين علي بن هشام قال: سمعت أبي وأبا إسحاق وإبراهيم بن عيسى بن داود بن الجراح وأبا القاسم سليمان بن الحسن يحدثون، قالوا: لما تقلد أبو الحسن علي بن عيسى الوزارة صارفاً للخاقانى عنها، وجد في أيدي القواد والحاشية والرعية توقيعات كثيرة بخطه وخط عبد الله وعبد الواحد ابنيه، ومحمد وأحمد ابني سعيد حاجبه، وبنان بن بنان ويحيى بن إبراهيم المالكي وعلي بن عيسى الزنداني، كتابه، في فك وإثبات وتقرير وإيجاب ومظالم وتسويغات وإقطاعات
(1/302)
________________________________________
ومقاطعات مما مثله يأتي على ارتفاع المملكة. وقد كان الخاقاني أذن لهذه الجماعة في التوقيع عنه بكل ما رأوه، وكانوا على فاقة وضغطة وخروج من نكبة وعطلة، وغرضهم الارتفاق وأخذ ما لاح، وأغلظ الأمر وكثر الحرج. وتأمل علي بن عيسى هذه التوقيعات، فأسقطها، وكان منها ما ثبت في الدواوين وما لم يثبت، وعمل على إعلام المقتدر بالله ما على الملك وبيت المال من الوهن والنقص بإمضائها واستئذانه في ردها وإبطالها.
قال هشام: وكنت متحققاً به إذ ذاك فقلت: لا تفعل فإن الخليفة على ما تعرفه من التدبر بآراء النساء، والقبول من الحاشية، وأكثر هذه التوقيعات لهم وللمتعلقين عليهم، وللملتجئين إليهم، فاعدل إلى أن تنظر ما قد أنشيء الكتاب به من ديوان الدار إلى أصحاب الدار فتمضيه، وما كان بخلاف ذلك أبطلته، فإنك تمضي القليل وتبطل الكثير، وتأمن عداوة الناس، ومتى استأذنت الخليفة لم تأمن أن يأمرك بإمضاء الكل فتقع في الطويل العريض. فلم يقبل، ومضى فطالع المقتدر بالله بالصورة، واستأمره في إسقاط التوقيعات، وقد كان الحواشي سبقوا إليه بالشكوى، فقال له: ارجع إلى الخاقاني وابنه فما عرفاك أنه بتوقيعهما أمضيته، وما كان بتوقيع أصحابهما رددته فأمر علي ابن عيسى أصحاب الدواوين بجمع الرقاع، فجمعت في أيام، وأنفذها إلى الخاقاني وابنه مع إبراهيم بن أيوب كاتب حضرته وابن الماسح ليعرضاها عليهما، ويسألاهما عنها. فلما دخلا على الخاقاني وابنه وجدا الخاقاني قائماً يصلي صلاة الضحى وكان يطيلها وابنه عنده جالساً فعدلا إليه، وأديا الرسالة، وأعطياه الرقاع على حكم ما كان عليه من الاستبداد بالأمور في خلافته لأبيه. فأخذ يتأملها ويميزها، ويفرد الأقل
(1/303)
________________________________________
ويطرح الأكثر، ولحظه أبوه، فخفف الصلاة ثم صاح عليه وقال له: أفسدت أمري في نظري، وتريد أن تفسده في حبسي! وأقبل على الرسولين وقال لهما: ما أحسنتما الفعل. فإنكما أنفذتما إلي فعدلتما إلى ولدي عني، وإنما كان خليفتي. فقاما إليه وعرفاه ما حضرا فيه. وأقرآه الرقاع. فجعل يتأمل التوقيعات خاصة، حتى إذا استوفى النظر فيها قال لهما: قولا للوزير أيده الله هذه التوقيعات صحيحة، وما وقع بها إلا بإذني، فإنه ما كان أحد من كتابي يقدم على أن يوقع عني بما لا أعلمه ولا أرسمه، والذي فعلته هو ما رأيته صلاحاً لنفسي وخدمةً للخليفة أطال الله بقاءه في استمالة قلوب حاشيته ورعيته، واستخلاص نيتهم في موالاته وطاعته، والأمر الآن إليك فافعل ما تراه. قال: فقاما وعادا إلى علي بن عيسى، وأعادا عليه قوله: فقامت قيامته منه، واضطر إلى إمضاء الأكثر، وإسقاط من استضعف صاحبه واستلان جانبه، ولم تكن له جهة تشفع في بابه. وعرف الحاشية ذلك، وشكروا الخاقاني وتعصبوا له، وقاموا بأمره مع المقتدر بالله حتى قررت مصادرته وأطلق بعد أربعة أشهر.
وقال الخاقاني لابنه بعد انصراف ابن أيوب وابن الماسح: أردت يا بني أن تبعضنا إلى الناس بغير فائدة، ويكون أبو الحسن علي بن عيسى قد لقط الشوك بأيدينا! نحن قد صرفنا، لم لا نتحبب إلى الخاصة والعامة بإمضاء ما زوروه علينا؟ فإن أمضاه كان الحمد لنا والثقل عليه، وإن أبطله كان الحمد لنا والذم عليه. وقد كان الخاقاني متخلفاً عامياً إلا أنه كان خبيثاً داهياً، ولم يكن له إلا هذه الأفعال الثلاثة: في أمر ابن الفرات، وأمر ابن أبي البغل، وتلافي الحاشية بعد النكبة.
وقد حفظ من سقطاته وحكاياته ما كان أعداؤه يشنعون عليه به. وقد أوردنا ما سمعناه وتأدى إلينا منه.
(1/304)
________________________________________
علي بن عيسى بن داود بن الجراح
أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح وأبو الحسن من أهل ديرقني، ومولده يوم الجمعة لثمان خلون من جمادي الأولى سنة خمس وأربعين ومائتين، والطالع العقرب بد والرأس فيه ح د والقمر في القوس ط لح والمشتري راجع في الدلو كا، يد، والذنب في الثور ح د، والشمس في الأسد يوح، وزحل فيه بط لا، وعطارد في السنبلة ايه، والزهرة فيه كط والمريخ في الميزان دلح. وكتب في الدواوين، وتقلد كثيراً منها رئاسة. وقد مضى من ذكره في أخبار أبي الحسن بن الفرات ما لا حاجة بنا فيه إلى الإعادة. ولما أشار مؤنس باستدعائه من مكة، وتقليده الوزارة، وأنفذ يلبق الاستقدامه إلى الحضرة، ورد في اليوم العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثمائة. ووصل إلى حضرة المقتدر بالله، وخاطبه بما أراد خطابه به، وقلده وزارته وتدبير أمره. وخرج أبو الحسن ومؤنس معه وأبو علي الخاقاني جالس في المجلس الذي كان يجلس فيه قبل الوصول إلى الخليفة وقال للحجاب وخواص الغلمان: اتبعوا الوزير وامشوا بين يديه. فارتاع أبو علي وقال: من الوزير؟ فقال له مؤنس: أبو الحسن علي بن عيسى. فقال أبو علي: الله الله يا أبا الحسن في دمي، فإنني ما أردت الدخول في هذا الأمر، وإنما أُجبرت عيه. فأجابه جواباً سكته فيه، ونقل إلى الاعتقال في الموضع الذي أُعد له. ومضى أبو الحسن علي بن عيسى إلى داره، والناس في موكبه، وبكر إلى الدار
(1/305)
________________________________________
من غد وخلعت عليه الخلع السلطانية، وركب إلى الدار المعروفة بسليمان بن وهب، فجلس فيها، وركبت إليه الأمراء والقواد في النواحي، وكتب إليهم بإقرارهم في مواضعهم من ولاياتهم وأعمالهم، وحثهم على استخراج الأموال وحملها. وسلم إليه أبو علي الخاقاني وولداه، وأبو الهيثم بن ثوابة، وطالبهم مطالبةً رفيقه. وسئل في أمر عبد الواحد بن أبي علي، فأطلقه بعد مديدة في ليلة الخميس لتسع خلون من جمادي الآخرة، ثم أطلق أبا القاسم أخاه ليلة الجمعة مستهل شوال، وحمل أبا الهيثم بن ثوابة إلى الكوفة، وسلمه إلى إسحاق بن عمران صاحب المعونة، فكان عنده إلى أن توفي يوم الأحد لليلة بقيت من ذي الحجة. وأجرى المقتدر بالله لأبي الحسن علي بن عيسى خمسة آلاف دينار في كل شهر، وارتجع الضياع العباسية التي كانت جعلت لابن الفرات وأبي علي الخاقاني، ورتب أبو الحسن علي بن عيسى الأمور والدواوين على ما رأى فيه الصلاح والسداد، وكان رجلاً عاقلاً متديناً متصوناً ظلفاً متعففاً، عارفاً بالأعمال حافظاً للأموال، كثير الوقار والجد بعيداً من التبذل والهزل، على شح غالب في طباعه، وتجهم ظاهر في أخلاقه. وما كان يخل بصلاة الجماعة والجمعة في كل يوم جمعة، ولا يدع المناوبة في ذلك بين المساجد الجامعة، حتى قيل: إنه كان يستعمل الوضوء في أيام الجمعات التي يكون فيها محبوساً، ويستوفي طهوره، ويلبس ثيابه، ويقوم ليخرج من موضعه، فيرده الموكلون به ويمنعونه، فيرفع رأسه إلى السماء ويقول: اللهم اشهد. وعمد في نظره إلى تخفيف المؤن، وحذف الكلف، ونقص الخرج، والمضايقة في الجاري والرزق. ورد كثيراً مما وقع به أبو علي الخاقاني من الإثبات والزيادات، فأوحش بذلك خواص المقتدر بالله وعاداهم، وكثرت به السعاية عليه والوقيعة فيه
(1/306)
________________________________________
واستثقل أكثر الناس موضعه، وضاقت صدورهم بنظره، ووقع الشروع في إفساد أمره، وتغيير رأي المقتدر بالله فيه، ورد ابن الفرات. وعرف أبو الحسن علي بن عيسى ما يجري في ذلك، فبدأ بالاستعفاء والخطاب عليه، ومواصلة القول فيه. وتحدث في دار المقتدر بالله بأن ابن الفرات شديد العلة، واتفق أن مات هارون الشاري الذي كان محبوساً في دار السلطان، وكان التدبير في أمر الشراة أن يكتم موت من يؤخذ من أئمتهم، لأنهم لا يرون إقامة غيره وهو حي، فأظهر أنه ابن الفرات وكفن وأخرجت جنازته على أنها جنازة ابن الفرات. فصلى عليه علي بن عيسى، وانصرف موجعاً إلى داره وقال لخواصه: اليوم مات الكتابة. ومضت أيام ووقف علي بن عيسى على أنه حي وقد تم السعي له مع المقتدر بالله، فعجب ابن عيسى وقال: ما ينبغي لأحد أن يحدث بكل ما يسمع، ويصدق بجميع ما يخير. فلما طالب الجند عند أخذ الحسين بن حمدان بما طالبوا به من الزيادة، واستعملوا ما استعملوه من الشغب وخرق الهيبة، وبلغ لهم في ذلك ما بلغ من الإرادة وكثرت النفقات، وتضاعفت الاستحقاقات، ولحق الشوب غلات سنة
أربع وثلاثمائة، وتأمل علي بن عيسى الأمر وخاف أن يطالب بما لا يكن له وجه، وأن يحدث من الفساد ما لا يقوم له به عذر. فوقف أملاكه، وأعتق عبيده، وشرع في الاستعفاء، وراسل في ذلك المقتدر بالله، فدفعه عنه دفعاً ووعده فيه بالمعونة على تمشية الأمور. وكان فيما وقع إلينا من رقاعه في ذلك رقعة إلى السيدة نسختها: ربع وثلاثمائة، وتأمل علي بن عيسى الأمر وخاف أن يطالب بما لا يكن له وجه، وأن يحدث من الفساد ما لا يقوم له به عذر. فوقف أملاكه، وأعتق عبيده، وشرع
(1/307)
________________________________________
في الاستعفاء، وراسل في ذلك المقتدر بالله، فدفعه عنه دفعاً ووعده فيه بالمعونة على تمشية الأمور. وكان فيما وقع إلينا من رقاعه في ذلك رقعة إلى السيدة نسختها:
بسم الله الرحمن الرحيم. أطال الله بقاء السيدة وأدام عزها وتأييدها، وكلاءتها وحراستها، وأسبغ نعمه عليها، وزاد في إحسانه إليها، ومواهبه الجميلة، وآلائه الجزيلة، وأقسامه الهنيئة وفوائده السنية عندها، وبلغها في سيدنا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأدام له العز والتمكين، والنصر والتأييد غاية محبتها وأفضل أمنيتها، ووصل أيام سرورها بعافيته، واغتباطها برؤيته، ووقاها فيه وفي نفسها وفي الأمراء أستودعهم الله وأستوهبه إياهم كل سوء محذور ومخوف، بمنه ورأفته. وصلت الرقعة أعز الله السيدة وعرفت ما تضمنت. فأما الفتنة التي كانت ملتحمةً مع أعظم الأعداء مضرةً، وأقربهم محلةً، وأشدهم على المطالبة جرأة، فقد تكلفت الإنفاق عليها، وقمت بتدبيرها، حتى بلغ الله أمير المؤمنين والسيدة في جميعها المحبة، وانتظمت في صدور الأعداء شرقاً وغرباً الهيبة، وما أنفقت مع ذلك من بيت مال الخاصة بعد الذي رددته إليه نصف عشر ما أنفقه محمد ابن عبيد الله الخاقاني وابن الفرات قبله، وأنا عامل بعون الله على رد ذلك عن آخره. ومتى لم ينفق المعتضد بالله في أسفاره على مائدة أعدائه من بيت مال الخاصة أضعاف هذه النفقة؟! وقد أنفق المكتفي بالله وكان من النظر في القليل اليسير وعلى ما عرف به من بيت مال الخاصة جملةً بعد جملة، مع قلة النفقات في أيام المعتضد بالله. وما أقول قولاً يدفع، لأن الدواوين تشهد به وحسبانات بيوت الأموال تدل عليه، ومؤنس خازن بيت مال الخاصة منذ أيام المعتضد بالله وإلى هذه
(1/308)
________________________________________
الغاية يعلمه، وإن سئل عنه صدق. هذا مع رفقي بالرعية، وعمارتي النواحي المختلة، وإزالتي عنها كل ظلم ومؤونة، حتى صارت أيام أمير المؤمنين أطال الله بقاءه منذ خدمته أيام الخير، وفيها الآثار الموصوفة، وامتلأت قلوبها هيبةً بعد أن كانت تثب على الرؤساء، وترمي بالحجارة على ما قيل لي عند اجتيازهم في دجلة. وأما الاستحقاقات المتأخرة فلست أعرفها، وبباب أمير المؤمنين الكثير من الغلمان والحاشية والفرسان والرجالة، وما أحسب صنفاً من هذه الأصناف يقدر أن يقول: إنه قبض في وقت من الأوقات قبضاً متصلاً، وليس يقول أحد منهم إنه دفع عن استحقاق ولا تأخر له شيء من رزقه ونزله. وكذلك الفرسان والعساكر الخارجة مع مؤنس وغيره مستوفية، وأكثر من بالحضرة هذه سبيلهم به. وقد حضروا منذ مدة بباب العامة، وطالبوا، فأدخلت طائفةً منهم ونوظرت، فلم تكن لهم حجة في الاستحقاقات، وإنما التمسوا الزيادة والنظر والصلة، وهذا خارج عن الواجب، ولو منع بعضهم فلم يعط شيئاً لكان ذلك واجباً صالحاً. ومتى كان الجند يوفون حتى لا يكون لهم شيء متأخر؟ ما كان هذا في زمن من الأزمان وما تركت أن قلت لسيدنا أمير المؤمنين أعزه الله في ذلك ما يجب أن أقوله، وخاطبت أم موسى مرةً بعد مرة فيه، وأما ما قيل للسيدة أعزها الله في استعفائي فلم أستعف نصاً، ولو حملت الرماد على رأسي لما تكرهت ذلك ولا تأبيته، وإني لأُلزم نفسي الصبر على كل نائبةً في خدمة سيدنا أمير المؤمنين أيده الله وأرى ذلك ديانة، ولكني أعز الله السيدة أضجر كما يضجر الناس إذا خوطب بما لا يحب، وأنا أبلغ جهدي في النصيحة وتأدية الأمانة، فإن كان ذلك واقعاً موقعه فهو الذي أقصد، وإن كان يظن بي غير ما أنا عليه فهي المصيبة. وقد يحرم الإنسان ثمرة اجتهاده، ويقع ما يفعله على خلاف مذهبه واعتماده، وما يسعني ولا يحل لي أن أؤخر الصدق
(1/309)
________________________________________
في جميع الأحوال، قاضياً بذاك حق الله عز وجل، وحق سيدنا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وحق السيدة أعزها الله وأسأل الله أولاً وآخراً أن يصلح لهما أمورهما ظاهراً وباطناً، صغيرها وكبيرها، ويكفيهما المهم ويسهل الصلاح بهما وعلى أيديهما بمنه وقدرته وجوده وكرمه. وقرب عيد الأضحى واحتيج إلى ما جرت العادة بإطلاقه للحرم والحاشية، فجاءته أم موسى القهرمانة في آخر ذي القعدة سنة أربع وثلاثمائة مخاطبة على ذلك، ومقررة للأمر فيه، وكان محتجباً، فلم يقدم سلامة حاجبه إلى الاستئذان لها، واعتذر إليها عذراً لطيفاً، وصرفها صرفاً جميلاً، فغضبت وانصرفت. وأعلم علي بن عيسى خبرها في حضورها وانصرافها فأنفذ إليها واستعذرها فلم تعذر، وصارت إلى المقتدر بالله وإلى السيدة وأغرتهما به، وتكذبت عندهما عليه، وأدى ذلك إلى القبض عليه
في غداة يوم الاثنين الثامن من ذي الحجة سنة أربع وثلاثمائة عند ركوبه إلى دار السلطان، واعتقاله عند زيدان، فكانت مدة وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوماً. وكان مما فعله في وزارته هذه أن أسقط المكس بمكة، والتكملة بفارس وسوق بحر بالأهواز وحصن مهدي، ونهر السدرة، وكان يعترض في هذه المواضع على ما يجهز إلى البحر ويرد منه، وتؤخذ الضرائب المسرفة عنه، وأزال جباية الجمهور بديار ربيعة. وأشار على المقتدر بالله بوقف المستغلات بمدينة السلام وغلتها نحو ثلاثة عشر ألف دينار والضياع الموروثة بالسواد الجارية في ديوان الخاصة وارتفاعها نيف وثمانون ألف دينار على الحرمين والثغور، فقبل رأيه وأشهد بذلك القضاة والشهود على نفسه، ونصب علي بن عيسى لهذه الوقوف ديواناً سماه ديوان البر، ورده إلى أبي شجاع ابن أخت أبي أيوب ولما كان بمكة وجد الماء ضيقاً على أهلها، وأصحاب السلطان يسخرون جمال الناس وحميرهم لنقله من جدة إليها، فابتاع عدداً كثيراً من الجمال والحمير ووقفها على حمل الماء، وأقام لها العلوفة الراتبة، ومنع من السخرة وحظرها، وحفر بئراً عظيمة في الحناطين، فخرجت عذبةً شروبا وسماها الجراحية. وابتاع عينا غزيرة بألف دينار، وفتحها ووسعها حتى كثر ماؤها، واتسع الماء بمكة، ووصل الرفق به إلى أهل الضعف والمسكنة. وكان فيما أقطعه علي بن عيسى من إقطاع الوزارة أربعة أحجار أرحاء بالعباسية تعرف بالعباسية، وتعرف باليوسفية، قيمتها عشرة آلاف دينار. فتظلم مجاوروها من أخذها الماء وقصوره عنهم، وإضرار ذلك بزروعهم ونقصه من ارتفاع ضياعهم، وتأذي أهل الشفة بهذه الحال أيضاً، فأمر بهدمها ونقضها وعمل مسجد في موضعها، وتوفر الماء على أهل الضياع والشفة. ي غداة يوم الاثنين الثامن من ذي الحجة سنة أربع وثلاثمائة عند ركوبه إلى دار السلطان، واعتقاله عند زيدان، فكانت مدة وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوماً. وكان مما فعله في وزارته هذه أن أسقط المكس بمكة، والتكملة بفارس وسوق بحر بالأهواز وحصن مهدي، ونهر السدرة، وكان يعترض في هذه المواضع على ما يجهز إلى البحر ويرد منه، وتؤخذ الضرائب المسرفة عنه، وأزال جباية الجمهور بديار ربيعة. وأشار على المقتدر بالله بوقف المستغلات بمدينة السلام وغلتها نحو ثلاثة عشر ألف دينار والضياع الموروثة بالسواد الجارية في ديوان
(1/310)
________________________________________
الخاصة وارتفاعها نيف وثمانون ألف دينار على الحرمين والثغور، فقبل رأيه وأشهد بذلك القضاة والشهود على نفسه، ونصب علي بن عيسى لهذه الوقوف ديواناً سماه ديوان البر، ورده إلى أبي شجاع ابن أخت أبي أيوب ولما كان بمكة وجد الماء ضيقاً على أهلها، وأصحاب السلطان يسخرون جمال الناس وحميرهم لنقله من جدة إليها، فابتاع عدداً كثيراً من الجمال والحمير ووقفها على حمل الماء، وأقام لها العلوفة الراتبة، ومنع من السخرة وحظرها، وحفر بئراً عظيمة في الحناطين، فخرجت عذبةً شروبا وسماها الجراحية. وابتاع عينا غزيرة بألف دينار، وفتحها ووسعها حتى كثر ماؤها، واتسع الماء بمكة، ووصل الرفق به إلى أهل الضعف والمسكنة. وكان فيما أقطعه علي بن عيسى من إقطاع الوزارة أربعة أحجار أرحاء بالعباسية تعرف بالعباسية، وتعرف باليوسفية، قيمتها عشرة آلاف دينار. فتظلم مجاوروها من أخذها الماء وقصوره عنهم، وإضرار ذلك بزروعهم ونقصه من ارتفاع ضياعهم، وتأذي أهل الشفة بهذه الحال أيضاً، فأمر بهدمها ونقضها وعمل مسجد في موضعها، وتوفر الماء على أهل الضياع والشفة.
وحدث أبو علي عبد الرحمن بن عيسى قال: لما ابتاع أخي أبو الحسن علي بن عيسى من تركة نازوك ووالدة القاسم بن عبيد الله الثلث من حصتها في قصر القاسم في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وأضاف إليه حصصاً ابتاعها الزوجات وبعض الأولاد الأصاغر، وعمل ذلك داره المعروفة بباب البستان، وكانت مسناة القصر
(1/311)
________________________________________
القديمة بعيدةً من دجلة فأخرج أحمد بن بدر عم السيدة أم المقتدر بالله مسناةً لداره المجاورة له إلى الماء، وفعل عبيد الله بن القاسم مثل ذلك من الجانب الآخر، وبقيت دار أخي مستورة بينهما، فخاطبه أبو إسحاق إبراهيم أخونا في ذلك، وأعلمه ما في إخراج المسناة حتى توازنهما من الزيادة في قيمة العقار، وكانت الذراع على دجلة في المواضع الرذلة على ذلك العهد تباع بدينار عيناً. فقال له: قدر لها ولما يبنى عليها ما يحتاج إليه من النفقة. فقدر لذلك مائة ألف درهم، وصور البناء، وأحضره الصورة والتقدير. فأقام أبو إسحاق يحثه على إطلاق المال والابتداء بالعمل، والوزير يعده ويدفعه، حتى إذا اجتمع في خزانته ما جعله لذلك من ارتفاع ضيعته، تقدم إلى خازنه بإحضاره ودعا بعبد الوهاب بن أحمد بن ما شاء الله، فأعطاه إياه، وأمره بصرفه في ضعفاء آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي فقراء المسلمين ومساكينهم بعد أن أثبتهم في ديوانه، ففعل، وأخرج جميع المال وفرقه عليهم. وحضر أبو إسحاق، فذكره بالعمل والأمر بتقديمه قبل زيادة دجلة، فضحك إليه وقال لابن ما شاء الله: حدثه يا أبا القاسم بحديث العقار الذي ابتعنا، وتجاوزه في النفع هذا البناء الذي لا يزيد الله من حاوله إلا إثماً وبعداً. فحدثه، فحار أبو إسحاق، وما أمكنه الجواب، وعلم أنه كان من وعده على غرور. وبقي ماء داره محبوساً، وسمي الفضاء بين المسناتين الستيني. وكان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال جدي ابتاع دار عبيد الله بن القاسم من أبي الحسن بن أبي عمرو الشرابي حاجب الخلافة بخمسة آلاف دينار، وكانت مسناتها طاعنةً في دجلة لا يفارقها الماء في سائر أوقات السنة.
(1/312)
________________________________________
خلافة علي بن عيسى
ذكر خلافة أبي الحسن علي بن عيسى لحامد بن العباس وتفرده بالأمور من بعد ذلك
قد أوردنا في أخبار حامد عند وزارته ما جرى أمر أبي الحسن بن الفرات معه وبعده، وما انتهى ذلك إليه من القبض عليه واعتقاله عند زيدان القهرمانة. وراسله المقتدر بالله بأن يصدق عن أمواله، فكتب رقعة يذكر فيها أنه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار. واتفق من ورود القرامطة إلى البصرة، ودخولهم إليها واستيلائهم عليها ونقلهم ما وجدوه فيها ثم انصرافهم بعد أيام عنها، ما دعا إلى إخراج بني بن نفيس لقتالهم ودفعهم، ووصل وقد عادوا إلى بلدهم. فكتب إلى ابن الفرات بذلك، وبأنه أسر قوماً منهم، وحكي عنهم أنهم قالوا: إن علي بن عيسى كاتبهم بالمسير إلى هناك، وأنفذ إليهم في عدة أوقات هدايا من سلاح وآلات. فلما وافى هؤلاء الأسراء، وعرض ابن الفرات على المقتدر بالله كتاب بني بن نفيس فذكرهم وذكر ما حدثوا به على علي ابن عيسى، أمر بالجمع بينه وبين القوم ليواجهوه بما قالوا فيه، فأُخرج وجمع بينه وبينهم بحضرة ابن الفرات. فقال علي بن عيسى: من كانت صورته صورتي في سخط السلطان وانحراف الوزير عنه لقي بالحق والباطل. ثم عدل ابن الفرات إلى خطابه في أمر الأعمال فقال له: قد كان علي بن أحمد بن بسطام أخذ خطوط
(1/313)
________________________________________
المادرائيين في وزارتي الثانية بألف ألف وثلاثمائة ألف دينار صلحاً عن خراج ضياعهما بمصر والشام، وما أخذاه من المرافق عند تقلدهما الأعمال في أيامك الأولى. وبقي عليهما من المصادرة التي واقفهما أبو علي الخاقاني عليها، وأديا في أيامي نحو خمسمائة ألف دينار، وكانا على أداء تتمة المال، حتى صرفت ابن بسطام ساعة وليت عن الدواوين، وقلدت هذين العاملين الخائنين المجاهرين بأخذ أموال السلطان واقتطاعها، وكتبت عن أمير المؤمنين بإسقاط مال الصلح عنهما، وذكرت أنه أمر بذلك، وقد سألته فأنكر دعواك عليه ما أدعيته. فقال علي ابن عيسى: كنت في الوقت كاتباً لحامد، وخليفةً له على الأعمال، ومتصرفاً على أمره في كبير الأمور وصغيرها وهو ذكر لي عن أمير المؤمنين أنه أمر بإسقاط هذا المال، ووقع بذلك توقيعاً كتبت في آخره بامتثاله كما يفعل خليفة الوزير فيما يأمر به صاحبه. فقال له ابن الفرات: أنت كنت تعارض حامداً في كل أحواله، وتخاصمه في اليسير مما يخرج عليه من مال ضمانه، حتى تحدث الناس بكما، وعجبوا لما يجري بينكما، فلم تركت أن تستأذن السلطان في مثل هذا المال الجليل؟ فقال: كنت في أول الأمر كاتباً لحامد مدة سبعة أشهر حتى بان لأمير المؤمنين ما رأى معه التعويل علي في تدبير الأمور، وكان ما جرى من أمر المادرائيين في صدر أيام حامد. فقال له ابن الفرات: فلما اعتمد عليك أمير المؤمنين ألا صدقته عن غلط حام فيها غلط به وفرط فيه؟ فقال: إنما تركت ذلك
(1/314)
________________________________________
لأنني أخذت خط الحسين بن أحمد بحضرة أمير المؤمنين بألف ألف دينار عن مصر والشام خالصاً للحمل، بعد النفقات ومال الجند في تلك الأعمال، وكا ذاك غاية ما قررت عليه. فقال ابن الفرات: أنت يا أبا الحسن تعمل أعمال الدواوين منذ نشأت وقد وليت ديوان المغرب سنين كثيرة، وقد تقلدت الوزارة، فهل رأيت من يدع مالاً واجباً يؤدي معجلاً ويأخذ العوض عنه ضماناً مؤجلاً لا يدرى ما يجري فيه؟ وهبك على ما ذكرت من أنك رأيت ذلك صواباً وهو خطأ، فهل استوفيت مال الضمان من هذا الضامن بخمس سنين دبرت فيها المملكة؟. فقال: قد كان حمل من مال السنة الأولى صدراً ثم حدث من تغلب العلوي بإفريقية على أكثر تلك النواحي ما دعا إلى خروج مؤنس المظفر وانصراف المال في نفقاته وأعطيات الجند، وانكسر الباقي لأجل هذه الحادثة. فقال ابن الفرات: انهزم هذا العلوي منذ سنتين، فهل أدى مالهما كاملاً؟. فقال علي بن عيسى في جواب ذلك قولاً استوفاه لنفسه، وأخذ ابن الفرات خطه بالحجة عليه وله بأنه قد رضي بحكم أمير المؤمنين. ثم قال له ابن الفرات في آخر قوله: قد أمر أمير المؤمنين بأن تطالب بالأموال التي اقتطعتها وجمعتها، وينبغي أن تعطيها عفواً وتصون نفسك عن
(1/315)
________________________________________
المكروه. فقال: لست من ذوي الأموال، وما لي قدرة على أكثر من ثلاثة آلاف دينار. فقال له ابن الفرات: تقول هذا وقد وجد لك عند عيسى الناقد سبعة عشر ألف دينار وأُخذ خطه بها وديعةً كانت لك عنده؟ فقال. هذا رجل قلدته مال ضياع البر والجهبذة، وعنده أموال حاصلة، فإما أن يكون المال منها أو تكون قد أخذت ماله ونسبته
إلي وأكرهته على أن كتب خطه بذلك. فقال له ابن الفرات قد أسقطت من أرزاق أولاد القرابة والحرم والحواشي والخدم والفرسان الذين كنت أُوفيهم أرزاقهم في أيامي الأولى والثانية مدة خمس سنين دبرت فيها المملكة، وأخذت من ارتفاع ضياع الملك والإقطاع بعدما افرد منها للأمراء ما يكون مبلغه مع ما كنت أحمله إلى أمير المؤمنين في وزارتي الثانية وهو في كل شهر خمسة وأربعون ألف دينار للمدة المذكورة الجملة الكبيرة، فإما أن تكون قد احتجنت ذلك لنفسك أو أضعته لتفريطك. فقال له علي بن عيسى: ما استغللته من الضياع ووفرته من أرزاق من يستغني عنه تممت به عجزاً أدخل في الخرج حتى اعتدلت الحال، ولم أمدد يدي إلى بيت مال الخاصة. وأما خمسة وأربعون ألف دينار التي كنت تحملها من المرافق فإنني لم أر ما رأيته أنت قط من المرافق للعمال، بل حظرتها عليهم علماً بأنها طريق إلى ضياع الحقوق وخراب البلاد وظلم الرعية، وأنت كنت توصي الحواشي بإخراب بيت المال، وتحول ما في بيت مال الخاصة إلى بيت مال العامة، ومن الدليل على ذلك أني كنت أتولى ضياع ديوان الخاصة، فلما تقلدت الوزارة بعد العباس بن الحسن انصرفت عنه فتركت في بيت مال الخاصة سبعة عشر ألف ألف دينار حاصلةً، فلما قلدني أمير المؤمنين وزارته في سنة إحدى وثلاثمائة لم أجد من ذلك المال شيئاً كبيراً. فقال له ابن الفرات: اكتب حظك بأنك خلفت في بيت مال الخاصة سبعة عشر ألف ألف دينار. أطلق العباس بن الحسن منها في البيعة لأمير المؤمنين ثلاثة آلاف ألف دينار. ووجدت أعمال فارس وكرمان خارجةً عن يد السلطان منذ أيام المعتضد لا يحمل منها المتغلبون عليها إلا النزر اليسير، فصدقت أمير المؤمنين عن صورتها وضمنت له فتحها ففتحتها. وقد كانت لي أموال جمعتها في خدمة أمير المؤمنين أنا وأخي وأسلافي مع أسلافه، وضياع وافرة الارتفاع، فلما رأى أمير المؤمنين أخذها كان أحق بها، فصح لي في بيوت الأموال في دفعتين أربعة آلاف ألف دينار. ثم أخذ ابن الفرات في مطالبته بالمال، فأقام على أنه لا مال عنده، وأعيد إلى محبسه. وكانت له بعد ذلك مناظرات، منها ما حدث به أبو محمد عبد الله بن علي المعروف بذكويه كاتب نصر القشوري الحاجب، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب بني الفرات قالا: حضر أبو الحسن بن الفرات في وزارته الثالثة في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادي الآخرة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في أيام المقتدر بالله، وجمع القواد والقضاة والكتاب، فأُحضر أبو الحسن علي بن عيسى من محبسه وجمع بينه وبين ابن فلحة رسوله كان إلى القرامطة في وزارته الأولى حتى واجهه بأنه أنفذه إلى القرامطة مبتدئاً، وكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وغير ذلك، فحمل جميعه إليهم، وأخرج أبو الحسن بن الفرات نسخة كتاب أنشأه ابن ثوابة عن علي بن عيسى إلى القرامطة جواباً عن كتاب ورد منهم إليه وفيه إصلاحات بخطه، ولم يقل فيها: إنكم خارجون عن ملة الإسلام لمخالفتكم الإجماع وعصيانكم على الإمام. بل قال: ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد. وداخلون مع أهل العناد والفساد. لي وأكرهته على أن كتب خطه بذلك. فقال له ابن الفرات قد أسقطت من أرزاق أولاد القرابة والحرم والحواشي والخدم والفرسان الذين كنت أُوفيهم أرزاقهم في أيامي الأولى والثانية مدة خمس سنين دبرت فيها المملكة، وأخذت من ارتفاع ضياع الملك والإقطاع بعدما افرد منها للأمراء ما يكون مبلغه مع ما كنت أحمله إلى أمير المؤمنين في وزارتي الثانية وهو في كل شهر خمسة وأربعون ألف دينار للمدة المذكورة الجملة الكبيرة، فإما أن تكون قد احتجنت ذلك لنفسك أو أضعته لتفريطك. فقال له علي بن عيسى: ما استغللته من الضياع ووفرته من أرزاق من يستغني عنه تممت به عجزاً أدخل في الخرج حتى اعتدلت الحال، ولم أمدد يدي إلى بيت مال الخاصة. وأما خمسة وأربعون ألف دينار التي كنت تحملها من المرافق فإنني لم أر ما رأيته أنت قط من المرافق للعمال، بل حظرتها عليهم علماً بأنها طريق إلى ضياع الحقوق وخراب البلاد وظلم الرعية، وأنت كنت توصي الحواشي بإخراب بيت المال، وتحول ما في بيت مال الخاصة إلى بيت مال العامة، ومن الدليل على ذلك أني كنت أتولى ضياع ديوان الخاصة، فلما تقلدت الوزارة بعد العباس بن الحسن انصرفت عنه فتركت في بيت مال الخاصة سبعة عشر ألف ألف دينار حاصلةً، فلما قلدني أمير المؤمنين
(1/316)
________________________________________
وزارته في سنة إحدى وثلاثمائة لم أجد من ذلك المال شيئاً كبيراً. فقال له ابن الفرات: اكتب حظك بأنك خلفت في بيت مال الخاصة سبعة عشر ألف ألف دينار. أطلق العباس بن الحسن منها في البيعة لأمير المؤمنين ثلاثة آلاف ألف دينار. ووجدت أعمال فارس وكرمان خارجةً عن يد السلطان منذ أيام المعتضد لا يحمل منها المتغلبون عليها إلا النزر اليسير، فصدقت أمير المؤمنين عن صورتها وضمنت له فتحها ففتحتها. وقد كانت لي أموال جمعتها في خدمة أمير المؤمنين أنا وأخي وأسلافي مع أسلافه، وضياع وافرة الارتفاع، فلما رأى أمير المؤمنين أخذها كان أحق بها، فصح لي في بيوت الأموال في دفعتين أربعة آلاف ألف دينار. ثم أخذ ابن الفرات في مطالبته بالمال، فأقام على أنه لا مال عنده، وأعيد إلى محبسه. وكانت له بعد ذلك مناظرات، منها ما حدث به أبو محمد عبد الله بن علي المعروف بذكويه كاتب نصر القشوري الحاجب، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب بني الفرات قالا: حضر أبو الحسن بن الفرات في وزارته الثالثة في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادي الآخرة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في أيام المقتدر بالله، وجمع القواد والقضاة والكتاب، فأُحضر أبو الحسن علي بن عيسى من محبسه وجمع بينه وبين ابن فلحة رسوله كان إلى القرامطة في وزارته
(1/317)
________________________________________
الأولى حتى واجهه بأنه أنفذه إلى القرامطة مبتدئاً، وكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وغير ذلك، فحمل جميعه إليهم، وأخرج أبو الحسن بن الفرات نسخة كتاب أنشأه ابن ثوابة عن علي بن عيسى إلى القرامطة جواباً عن كتاب ورد منهم إليه وفيه إصلاحات بخطه، ولم يقل فيها: إنكم خارجون عن ملة الإسلام لمخالفتكم الإجماع وعصيانكم على الإمام. بل قال: ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد. وداخلون مع أهل العناد والفساد.
وقال ابن الفرات لعلي بن عيسى موبخاً ومهجناً: تقول ويحك للقرامطة الذين قد أجمع الناس أنهم أهل ردة وضلالة قولاً تلحقهم فيه بأهل الملة وهم لا يصلون ولا يصومون ولا يدينون بما يدين به المسلمون، وتنفذ إليهم الطلق الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل النار فيه؟ قال: إنما اعتمدت بذاك المصلحة، وأن أستعيدهم إلى الطاعة بالرفق والاستمالة. فقال ابن الفرات لأبي عمر القاضي: ما عندك في هذا يا أبا عمر؟ فتوقف عن جوابه، وأقبل على علي بن عيسى وقال له: قد أقررت يا هذا بما لو أقر إمام به لسقطت طاعته وتعطلت إمامته. قال: فنظر علي بن عيسى إليه نظر منكر لقوله، لعلمه بأن المقتدر بالله بحيث يسمع ما يجري ولا يرى. وطالب ابن الفرات أبا عمر بأن يكتب خطه بشيء من هذا المعنى، فلم يفعل وقال: قد غلط علي بن عيسى غلطاً كبيراً فأما جواب هذا القول فما عندي. فأخذ خطه بما سمعه من إقراره في أن الكتاب كتابه، وأن الإصلاح في النسخة بخطه. ثم أقبل ابن الفرات على أبي جعفر أحمد بن أسحاق بن البهلول القاضي فقال: ما عندك يا أبا جعفر في ذلك؟ فقال: إن أذن الوزير أن أقول ما عندي على بيان قلته. قال: أفعل. قال: صح عندي أن هذا الرجل وأومأ إلي علي ابن عيسى
(1/318)
________________________________________
استخلص بكتابين كتبهما إلى القرامطة في وزارته الأولى ابتداءً وجواباً ثلاثة آلاف رجل من المسلمين كانوا مستعبدين معهم ومسترقين بالاستحلال منهم، حتى رجعوا إلى أوطانهم وأولادهم ونعمهم وأموالهم. فإذا كتب الإنسان مثل هذه الكتب على وجه الصلاح والمغالطة للعدو لم يجب عليه حكم. قال: فما عندك فيما أقر به من أن القرامطة مسلمون؟ قال: إذا لم يثبت عنده كفرهم، وكاتبوه بذكر الله والصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وانتسبوا إلى الإسلام، وكانوا إنما ينازعون في الإمامة، لم يطلق عليهم بالكفر. قال له: فما عندك بالطلق الذي أذا طليت به الأبدان لم تعمل النار فيها يحمل إلى أعداء الإمام ورفع صوته بذلك على أبي جعفر كالمنكر لما جرى من قوله فقال أبو جعفر لعلي بن عيسى: أنفذت الطلق الذي هذه صورته إلى القرامطة؟ قال: لا. فقال ابن الفرات: رسولك وثقتك ابن فلحة.. يقر عليك بذلك. فدهش علي بن عيسى وأمسك. فقال ابن الفرات لأبي جعفر بن البهلول: احفظ اعترافه بأن ابن فلحة رسوله وثقته، وقد أقر عليه بما أنكره. فقال. أيها الوزير، ليس هذا إقراراً. إنما هو دعوى. قال: فهو ثقته بإنفاذه إياه. قال: إنما وثقه في حمل كتاب، ولا يقبل قوله عليه في غيره. فقال ابن الفرات: أنت يا أبا جعفر وكيله لا حاكم. قال: ما أنا وكيل لكنني أقول الحق كما قلته في أمر الوزير أيده الله لما أراد حامد في وزارته الحيلة عليه بما هو أعظم من هذا. فعدل ابن الفرات إلى أن قال لعلي بن عيسى: يا قرمطي فقال: أنا أيها الوزير قرمطي؟ أنا قرمطي؟ وكررها تعريضاً به. قال: نعم، وكان عندي أنك عدو لأمير المؤمنين وبني العباس خاصةً أعز الله سلطانهم وإذا أنت عدو للمسلمين كافةً. فأمسك علي بن عيسى خوفاً
(1/319)
________________________________________
على نفسه. وأخذ نصر الحاجب والمحسن بن أبي الحسن بن الفرات بيده وأقاماه بعد أن استأذنا الوزير في الخلوة به، فأذن، فجلسا معه على انفراد.
قال أبو الطيب في حديثه: فقمت معهما، وسمعت ما جرى بينهما وبينه وكان أن قالا له: إن رجعت إلى موضعك من محبسك ولم تقرر أمرك في صلحك خفنا عليك من استحلال السلطان دمك بعد ما سمعه عنك. ولم يزالا به إلى أن استجاب إلى ثلاثمائة ألف دينار يعجل منها الثلث في ثلاثين يوماً، ويؤدي الباقي على رسم المصادرات، وكتب خطه بذلك، وعادا إلى ابن الفرات وعرفاه ما جرى فأمضاه. واستدعي علي بن عيسى وجعل يواقفه على شرائط الخط، وكان إذا امتنع الوزير من شيء غمز أبو الحسن علي بن عيسى يده وقال: يتفضل الوزير. فيستحي ابن الفرات ويطرق ثم يفعل وإنما كان علي بن عيسى يفعل ذلك إذكاراً بعهد كان بينهما في أيام العباس بن الحسن ومعاقدة في أن يتعاضدا ويحرس كل واحد منهما صاحبه، ولا يسعى على نعمتة ولا نفسه حتى إذا انتهى القول إلى حق بيت المال في ضياع علي بن عيسى قال علي بن عيسى: وعما كثر به العمال عليه من حق بيت المال في ضياعه، ووجوبه به مدةً، وذكروه في تحيفه السلطان في ذلك! فقال له ابن الفرات: كل شيء أحتمله وأفعله إلا أن تعرضني لما يقدح في صناعتي، ويطرق عيباً علي في خدمة سلطاني، أرأيتك إن كتب العمال بأنه يجب عليك من هذه الجهة ثلاثمائة ألف دينار ألست أكون قد أخذت حظك بحق بيت المال في ملكك لا مصادرةً عن تصرفك؟ وقد ترددت في الوزارة والأعمال الجليلة مذ عشر سنين؛ ولكن خذ مبلغاً في استثنائك بما يستثني به لنفسك. فقال: عشرون ألف دينار. فأجابه إلى ذلك، وكتب على أنه: متى أوجب العمال عليه
(1/320)
________________________________________
بالعدل والإنصاف والموافقة التي لا يعترضها تحيف من حق بيت المال في سائر ضياعه ووقوفه منذ وقت ملكه لها وإلى هذا الوقت ما يكون مبلغه من ألف دينار إلى عشرين ألف دينار فقد دخل ذلك في مال المصادرة، وإن زاد على هذا المبلغ كانت الزيادة خارجةً عن الجملة، ولازمةً له بعدها. ولما تقررت النسخة وابتدأ علي بن عيسى يحررها بخطه كتب في التعجيل: بعد ثلاثين يوماً. فقال له ابن الفرات: ارفق بنا يا أبا الحسن ما صغرنا وكبرت، أفأدعك تسعةً وعشرين يوماً لا أُطالبك ولا تؤدي شيئاً؟ ولكن اكتب: أُصححه أولاً أولاً في مدة ثلاثين يوماً. فقال علي بن عيسى: على شرط من أن يكون ابتدائي بالأداء إذا خرجت من دار أمير المؤمنين إلى موضع يأمن الوزير أيده الله فيه على نفسي يومى ألا يسلم إلى المحسن أو من جرى مجراه في إشفاقه وخوفه إياه فتقرر الأمر على ذلك وأنفذ الخط إلى المقتدر بالله فأمضاه، ورد أبو الحسن علي ابن عيسى إلى محبسه. وقالت زيدان القهرمانة والسيدة للمقتدر بالله: إن سلم علي بن عيسى إلى ابن الفرات سلمه إلى ابنه المحسن، ولم يؤمن عليه منه، وهو رجل دين وقد خدمك وخدم أباك، وليس يفزع اليوم إلا منه، فلا تسلمه إليهم. وقدرتا بذلك أن تبطلا المال الذي قرره علي بن عيسى على نفسه. فقال وقد كان وقر في صدره ما سمعه من حديثه مع القرامطة وتشعث به رأيه فيه: إن أدى المال في داري لم أُسلمه، وإن تقاعد وألط مكنت المحسن في داري وغير داري منه وسلمته إليه. وأخذ المحسن في الإغراء بعلي بن عيسى، فاستدعاه إليه في دار الخلافة أياماً
(1/321)
________________________________________
من غير حضور الوزير أبيه، وطالبه وجد به، فأحال علي بن عيسى على خطه وما شرط فيه له وعليه. فقال له المحسن: هذا تقاعد، وتريد ألا تؤدي في دار أمير المؤمنين ولا تسلم إلي، وهذا أمر لا يتم. فإذا أديت بحيث أنت، وإلا أخذتك إلي. فقال علي بن عيسى: هذا نقض لما تقرر. واستدعى أحمد بن محمد بن جاني، وكان يتولى ضيعته، وإبراهيم بن أيوب النصراني، وكان يكتب بحضرته، فلما حضر أمرهما ببيع داره التي في سويقة أبي الورد المعروفة بدليل النصراني، وعقار له يجاورها فلم يرج من ثمن ذلك إلا ألفا دينار وكسر. واستعفى إبراهيم من العود فأعفي وواصل ابن جاني. وأراد المحسن أن يوحشه ليقف أمر علي بن عيسى فقال له: أنت كنت كاتبه على ضياعه، ورسوله إلى أصحاب ودائعه، ولا بد من أن تصدق عما تعرفه من صوره، وأوقع به مكروهاً غليظاً أغمي عليه فيه، وقيل: إنه تلف، ثم أفاق وتراجع، وجزع المحسن من ذلك فأطلقه، إلا أنه استتر، ووقف أمر علي ابن عيسى. وواصل المحسن القول في بابه عند المقتدر بالله، ونسبه إلى التقاعد في فعله، وحضر الوزير والمحسن في يوم الاثنين الثالث عشر من رجب بحضرة المقتدر بالله
فجدد المحسن القول في أمر علي بن عيسى وسكت الوزير، وأقبل المقتدر بالله وقال له: أنت رجل خير، وتريد أن تتفضل على علي بن عيسى ليقول الناس: رعي حقه وعرف له حرمة ما كان بينه وبينه، وراعى ذمام الصناعة فيه. ويضيع مالي في الوسط، وما أصبر على ذاك. وهذا رجل قرمطي، ودمه وماله حلالان، وإذا وهبت له ماله فلا أقل من أن يستوفي مالي منه. ثم قال للمحسن: اخرج أنت واجلس في الدار، واستدع بعلي بن عيسى، وأرهبه، فإن أقر بودائعه وخرج مما قرره على نفسه وإلا قيده، فإن أذعن وإلا ألبسه مع القيد جبة صوف، فإن أقام على أمره أوقع المكروه به في جسمه بمحضر من القواد جزاءً له على ما فارق الطاعة. فخرج المحسن وجلس معه نصر القشوري الحاجب ونازوك والقواد، وأُحضر علي بن عيسى، فبدأه المحسن بالرفق، ثم نقله إلى الأغلظ فلم يستجب إلى أداء شيء في دار الخلافة، وقال: ما يمكنني الاحتيال وتصحيح المال إلا حيث أن أكون في موضع امن فيه على نفسي، ويمكن أن يجيئني من أريده من كتابي وأصحابي بحسب ما تقرر من شرائط خطى. فتقدم المحسن إلى نازوك بإحضار قيد فيه عشرون رطلاً وجبة صوف مدهونة بماء الأكارع، فأحضرهما، وجيء بحداد، وأمر بتقييده. فلما بدأ بذلك نهض نصر القشوري منصرفاً. فقال له المحسن: ما بمثل هذا عاملتني يا أبا القاسم لما أنفذ هذا عامله ابن حماد حتى قيدني بحضرتك، وأمر علي المكروه بمشاهدتك. فقال له نصر: والله يا سيدي ما ندري كيف نصنع إذا غضب مولانا على وزرائه وكتابة وأمر فيهم بأمر، إن حضرنا عادونا إذا عادوا إلى الخدمة وسعوا في قبيحنا، وإن امتنعنا من الحضور عادانا من إليه الأمر، فدلونا على ما نتخلص به منكم. د المحسن القول في أمر علي بن عيسى وسكت الوزير، وأقبل المقتدر بالله وقال له: أنت رجل خير، وتريد أن تتفضل على علي بن عيسى ليقول الناس: رعي حقه وعرف له حرمة ما كان بينه وبينه، وراعى ذمام الصناعة فيه. ويضيع مالي في الوسط، وما أصبر على ذاك. وهذا رجل قرمطي، ودمه وماله حلالان، وإذا وهبت له ماله فلا أقل من أن يستوفي مالي منه. ثم قال للمحسن: اخرج أنت واجلس في الدار، واستدع بعلي بن عيسى، وأرهبه، فإن أقر بودائعه وخرج مما قرره على نفسه وإلا قيده، فإن أذعن وإلا ألبسه مع القيد جبة صوف، فإن أقام
(1/322)
________________________________________
على أمره أوقع المكروه به في جسمه بمحضر من القواد جزاءً له على ما فارق الطاعة. فخرج المحسن وجلس معه نصر القشوري الحاجب ونازوك والقواد، وأُحضر علي بن عيسى، فبدأه المحسن بالرفق، ثم نقله إلى الأغلظ فلم يستجب إلى أداء شيء في دار الخلافة، وقال: ما يمكنني الاحتيال وتصحيح المال إلا حيث أن أكون في موضع امن فيه على نفسي، ويمكن أن يجيئني من أريده من كتابي وأصحابي بحسب ما تقرر من شرائط خطى. فتقدم المحسن إلى نازوك بإحضار قيد فيه عشرون رطلاً وجبة صوف مدهونة بماء الأكارع، فأحضرهما، وجيء بحداد، وأمر بتقييده. فلما بدأ بذلك نهض نصر القشوري منصرفاً. فقال له المحسن: ما بمثل هذا عاملتني يا أبا القاسم لما أنفذ هذا عامله ابن حماد حتى قيدني بحضرتك، وأمر علي المكروه بمشاهدتك. فقال له نصر: والله يا سيدي ما ندري كيف نصنع إذا غضب مولانا على وزرائه وكتابة وأمر فيهم بأمر، إن حضرنا عادونا إذا عادوا إلى الخدمة وسعوا في قبيحنا، وإن امتنعنا من الحضور عادانا من إليه الأمر، فدلونا على ما نتخلص به منكم.
وتركه ومضى إلى حجرته المرسومة بالحجبة في دار الخلافة. وجعل القيد في رجل علي بن عيسى وضربه به الحداد بالمطرقة ليسمره، فأخطأ وأصاب كعبه، فقال علي بن عيسى: يا هذا، أي عداوة بيني وبينك حتى فعلت ما فعلت؟ فقال له: كيف لا أعادي وقد أسقطت من رزقي ديناراً؟ فوثب نازوك ليمضي. فقال له المحسن: أنت صاحب الشرطة وهذا أمر يلزمك القيام به، فإذا تركته وانصرفت لم يكن لجلوسي معنى، وإذا كنتم على هذه الحال من محبة علي بن عيسى ومراقبته، وقد سمعتم من أمير المؤمنين لي فيه ما سمعتموه، فألأ واجهتموني بالامتناع من الحضور
(1/323)
________________________________________
أولاً؟ فقال له نازوك: ما أستحسن أن أحضر مكروه رجل قبلت يده عشر سنين، وله عندي من الأيادي والفضل، ومع ذلك فهو شيخ يتدين ويصوم الدهر. فاغتاظ المحسن وقال للقواد الباقين: إن جلستم وإلا قمت، فلست صاحب شرطة، فقعدوا. وأخذ ياقوت وصالح من بينهم يستعطفانه لعلي بن عيسى، وسألاه ألا يلبسه الجبة الصوف ولا يجري عليه مكروهاً. فقال: لا أفعل إلا أن يكتب خطه بأداء ثلاثين ألف دينار في عشرين يوماً، إذ لا أقل من ذلك، فقال علي ابن عيسى: لا أكتب بما لا أفي به ولو قطعت يدي. فألبسوه الجبة حينئذ، وقال له: لم يبق إلا المكروه فإن استجبت وإلا امتثلت أمر أمير المؤمنين في إيقاعه بك، وكنت أنت الذي توقعه بنفسك. فقال: إذا كتبت بما لا أتمكن منه وقع المكروه بحجة، وإن وقع بي الآن كنت مظلوماً. فدعا المحسن بعشرة غلمان كان قد واقفهم على أن يشددوا المكروه به، وأمرهم بصفعه، فصفعه كل واحد صفعةً عظيمة، فصاح في ثلاث: أوه. وقال في الباقي: أستغفر الله من ذنب مكن مثلك من مثلي. وكان مفلح قد قام ودخل إلى حضرة المقتدر بالله قبل ما جرى على علي بن عيسى وكان قريباً من الموضع. فلما سمع المقتدر قوله واستغفاره باللفظ الذي وصله به رق له ورحمه وقال: ما أشك في أن علي بن عيسى خير عند الله من المحسن، وقد وقع السرف فيما عومل به وبلغ منه. فأخرج وحل بين المحسن ومكروهه. ورده إلى محبسه. وقامت القيامة على السيدة وزيدان بما جرى وقالتا: إنما صنا ابن الفرات ومنعنا أعداءه منه لما كان يصون الوزراء ويعرف حقوقهم، والآن فقط بسط هذا المجنون ابنه لما يخالف العادة ويورث القباحة والشناعة.
(1/324)
________________________________________
وانصرف المحسن إلى أبيه وعرفه ما جرى، وقد كان أخر طعامه انتظاراً لحضوره. فلما وقف من الصورة على ما أخبره به قلق من ذلك قلقاً شديداً وقال: كان يجب يا بني ألا تفعل ما فعلته وتقبل ما أُمرت به كله، وأنت حدث لم تجرب الأمور، ومغرور لم تتدرب، وقد أفسدت أمر علي بن عيسى علينا. ووالله لا سلم بعد هذا إلينا. ووجه من وقته إلى هشام بن عبد الله فاستحضره، وأعلمه ما كان من المحسن وجنايته في أمر علي بن عيسى، وقال له: ستعظم زيدان على الخليفة والسيدة ما جرى، وتجعل ذلك طريقاً إلى نزع جبته وفك قيده، وألا يسلم إلينا، فما الرأي عندك؟ قال: أن تكتب الساعة إلى الخليفة رقعة بخطك لا بخط كاتب من كتابك، وتذكر له ما انصرف به إليك أبو أحمد من خبر علي بن عيسى، وأن ذلك أقلقك وأزعجك، وشق عليك وبلغ منك، حتى دعاك إلى ترك الأكل، وتنسب المحسن إلى الحداثة وركوب الخطأ فيما فعله، وتقرظ علي بن عيسى، وتستعطف رأيه له، وتذكره ما سلف من حقوقه وحرماته، وتسأله الصفح عنه، والتجاوز عما أنكره منه، وترغب إليه في فك قيده ونزع الجبة عنه. لتوهمه بذلك إنكارك للقصة، وتشيع أن تنحية قيده وجبته بشفاعتك، وتمن على علي بن عيسى بما صدر عنك. فأما متى لم تفعل هذا فعل بغير مرادنا، وخسرنا الحمد والمنة، وحصلنا على القباحة والشناعة. فقال ابن الفرات: صدقت وأصبت الرأي. وكتب الرقعة وأنفذنا مع صافي الخادم، وكان يحمل رقاعه إلى المقتدر بالله، فأخذها مفلح منه، وأوصلها، وعاد الجواب
(1/325)
________________________________________
من وقته بخط نعمة الكاتبة، يتضمن شكر المحسن على ما كان منه، وذم علي ابن عيسى، واستصغار ما جرى عليه، وأن المحسن لو لم يمتثل ما أُمر به فيه لأفسد حاله عنده، وأنه مع ذلك قد شفع أبا الحسن بن الفرات في علي بن عيسى، ووهبه له وأمر بنزع الجبة والقيد عنه. ومضت عشرة أيام، وأُنفذ علي بن عيسى إلى ابن الفرات، وقيل له: قد حمل إليك لتطالبه بالمال المقرر عليه. وكان الباطن أن زيدان قالت لابن الفرات: لولا ما استعمله المحسن ابنك بعلي بن عيسى لسلم إليك إقامةً لجاهك لئلا يظهر من منعك عنه ما تضعف به يدك. وأشارت عليه بنقله إلى دار شفيع اللؤلؤي من وقته، وأن يظهر اختيار علي بن عيسى لذاك وسؤاله إياه. ووعدها ابن الفرات بالعمل على رأيها. وأُحضر علي بن عيسى دار ابن الفرات وهو في دار حرمه، فجلس في رواق بقرب من مجلس ابن الفرات، ومعه فائق وجه القصعة وفلفل، وكانا يشهدان عند القضاة. ولما رأى كتاب ابن الفرات علي بن عيسى قاموا إليه، وسلموا عليه، وأُذن بصلاة العصر، فقام علي بن عيسى وصلى بقوم اجتمعوا خلفه، ودخل هشام إلى ابن الفرات وقال له: أُهنئ الوزير أيده الله. فقال: بأي شيء؟ قال: تقلد علي بن عيسى في دارك، ونمس على الخدم والعامة بذلك. فقال ابن الفرات: ما أراد إلا التفاؤل بأن يقيم حقاً في هذه الدار ويأمر وينهي.
ثم خرج ابن الفرات من دار حرمه إلى مجلسه، وقام إليه فائق وفلفل وأوصلا رقعة المقتدر بالله إليه بإنفاذه علي بن عيسى ليؤدي ما قرر عليه وكان فيها: إن علياً وإن كان قد أخطأ وأذنب فله خدمة وحرمة، وأريد أن تراعيه
(1/326)
________________________________________
في مطعمه ومشربه، وتتفقده أجمل تفقد وأحوطه، فقد ضمن الإسراع إلى أداء المال.
فلما قرأ ابن الفرات الرقعة استدعي علي بن عيسى، وقربه حتى صارت ركبته مع مرفع الدواة، واجتمع الناس ينظرون، ووافى المحسن، فقام علي بن عيسى، وقد كان الأمراء والقواد وسائر الطبقات يقومون للمحسن في مجلس أبيه، فلم ينكر ابن الفرات قيام علي بن عيسى لابنه. وأعاد ابن الفرات قراءة الرقعة الواردة، ودفعها إلى المحسن حتى وقف عليها وردها بعد ذلك إلى أبيه. فأقبل ابن الفرات على الخادمين وقال: ما أقبح ما وصيت به من تفقد أبي الحسن في مطعمه ومشربه، فإن كان ذلك لتقصير يظن بي فيما هذه سبيله فما أبعدني عن مثله، وإن كان لكناية عن أمر آخر فأرجو ألا أكون في منزلة من يستجيزه أو يطلقه. وقد سلم حامد إلي مع تناهيه في العداوة لي واستعمال القبيح معي فعاملته بالجميل الذي عرف، ومعلوم فرق ما بينه وبين أبي الحسن عندي. وقد كان ابن الفرات قطع لحامد لما سلم إليه ثياباً بعشرة آلاف درهم، وأصلح له فرشاً وثيرة، وأجلسه في دار كبيرة، وأخدمه عدة غلمان وخدم، وكان يبخره في كل يوم دفعات، ويقدم إليه أحسن وأوسع طعام فاستخرج بذلك منه ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار لا يعلم بها أحد غير حامد، كان منها أربعمائة ألف وكسر من آبار بواسط ومائة ألف دينار وكسر من ودائع. وإنما جرى عليه المكروه من المحسن بغير إيثار ابن الفرات، ولأن المقتدر بالله أقام على أنه لا بد من تسليمه إلى المحسن، فإنه ضمنه منه بعد ما أخذه أبوه منه بخمسمائة ألف دينار. وخرج من المكروه إلى حد علم به أن الغرض نفسه لا ماله فأقام على التبلج ولم يؤد على يد المحسن درهماً واحداً. وجرى عليه بواسط ما أدى إلى هلاكه، وقيل:
(1/327)
________________________________________
إنه طلب في الطريق ما يأكله فأتوه ببيض مسموم فأكله، ولم يزل يقوم حتى مات في دار البزوفري. وكان قول ابن الفرات ما قاله قبل تسليم حامد إلى المحسن. ونرجع إلى استتمام حديث علي بن عيسى. وقال له ابن الفرات: والله لقد استأذنني حامد في الفصد عندي لوجع لحقه في ضرسه فخفت أن يجتمع عليه الفصد وعلو السن فيضعف ويتلف، فلم آذن له ومنعته. مالنا ولهذا إذا كنا نخاف على النفوس؟ فوالله لا أقام هذا الرجل في داري. وقع يا أبا عبد الله وأومأ إلى زنجي إلى شفيع الكبير يعني اللؤلؤي بالحضور، فوقع إليه، وقد كان شفيع عرف الخبر من دار السلطان فلما جاءه التوقيع أنفذ قيصراً خادمه فأجاب بالاعتذار وقال: قد انفذت ثقتي وهو يقوم مقامي، فما يراد مني؟ فرد إليه الوزير: بأن لا بد من حضورك. وحضر، فسلم إليه علي بن عيسى، ووصاه بحفظه ليؤدي المال المقرر عليه عنده. وقبل ذلك أعطي علي بن عيسى ابن الفرات تذكره له كان أولها: الكتاب إلى العمال بالإفراج عن وقوفي. فلما قرأ ذلك دعا بساكن صاحب دواته وقال: هات الكتب التي كتبت أمس من ديوان المقبوضات وأمرتك بحفظها. فأحضرها، وإذا هي بالإفراج لعلي ابن عيسى عن وقوفه وقال: قد فعلت ذلك قبل أن تسأله، وعملت فيه ضد
(1/328)
________________________________________
ما عاملتني به، لأن أمير المؤمنين أيده الله أمرك في نكبتي بالإفراج عن بعض وقوفي فرجعت ودافعت، حتى إذا ما لم تجد مدفعاً استخرجت ما فيها ورددتها فارغة وأنا قد أطلقتها لك بغلاتها وأموالها، وما استحللت إطلاق أيدي العمال في وقوف. فشكره علي بن عيسى وقال: أيها الوزير فني الحديث إلا هذا. ودخل المحسن في القول في الزيادة من توبيخ علي بن عيسى في فعله، فقال له قولاً لاطفه فيه وفي عرضه: أنا والله أستحليك فغلظت هذه اللفظة على المحسن وغاظته. فأجابه المحسن جواباً حشمه فسكته أبوه. ثم أقبل على علي بن عيسى فقال له: أبو أحمد كاتب أمير المؤمنين وصنيعته ووصف موضعه منه، وتفويضه إليه فاعتذر علي ابن عيسى من كلمته أشد اعتذار، ورجع أبو الحسن إلى قراءة التذكرة. وكان الباب الثاني منها: الإفراج عن دوري وعقاري ببغداد. فقال له ابن الفرات أما دورك وولدك فما عرض لهم. وأما عقارك فأنا أطلقه. ووقع بذلك. وكان الباب الثالث: كتب أمان لأولادي وأسبابي. فقال له ابن الفرات: أما أولادك فلا علقة عليهم، لأنك ما صرفتهم في أيامك ولا قلدتهم شيئاً من أعمالك، ولكني أستظهر لك ولهم بالأمان، وأما أسبابك فسم من تريد ممن لا تبعة عليه. فأسمي جماعةً. وكتب الأمان لهم ولأولاده.
(1/329)
________________________________________
وكان الباب الرابع: إطلاق غلة إن كانت بقيت في ضياعي. قال ابن الفرات: هذا لا يجوز لأنني لا أطلق الضياع ولا الغلة إلا بعد ان تؤدي مال التعجيل، ولكني أكتب إلى العمال بأن يحصلوا موجود الارتفاع ليحسب ذلك من مال التعجيل، فهو أعود. وكان الباب الخامس: إطلاق ضياعي بديار ربيعة والموصل والشام. فقال ابن الفرات: أما ما كان بديار ربيعة والموصل فأنا أطلقه بعد أن تؤدي ثلاثين ألف دينار، وأما ما بالشام فهو مختلط ولا أعرف ارتفاعه، ولكن عرفني مبلغه لأقفه عنك، فإنني أثق فيه بقولك: فقال: هو في هذه السنة ناقص العمارة ومقداره مائة ألف درهم، فقال: أنا أقف هذا القدر عنك. والباب السادس: إطلاق ضيعتي بالسود إذا أديت ثلاثين ألف دينار. فامتنع أبو الحسن من ذلك، ووقع في الأبواب الأول بما ذكرناه. وعرض فائق وفلفل عليه رقاعاً في حوائج لهما، فشغل بهما وبمن جرى مجراهما من أرباب المطالب. وأقبل المحسن على علي بن عيسى وقال له: ألست زعمت أن حامد بن العباس أسقط عن المادرائيين ألفي ألف ومائتي ألف دينار مصابرة، وكتب لهم مؤامرةً بذلك إلى الخليفة، وأخذ توقيع الخلافة فيها؟ وأنت وإن كنت إذ ذاك من قبله فقد جحد حامد هذا القول منك. فقال له علي بن عيسى: يجحد وهو الناظر الآمر! فقال له: فألا عارضته ومنعته؟ لأن الخليفة أقامك للاستظهار عليه. فقال: ما كنت في الوقت ألا من قبله، فلما ضمن اعتمد الخليفة علي في استيفاء ما استوفيته، ومع هذا فصناعتك ترتفع عن أن تلزمني في مثل ذلك دركاً لو كنت فعلته متعمداً، فإن المال يلزم من هو عليه.
(1/330)
________________________________________
وعلا صوتاهما بالقول: فأقبل ابن الفرات عليهما وقال: في أي شيء أنتما؟ فعرفه المحسن الصورة. فقال ابن الفرات: المادرائي وابن أخيه واردان، وإذا وردا كان الخطاب معهما والمناظرة لهما، وقد أسقطت المصادرة عن أبي الحسن كل تبعة، وكفاك ما عاملته به فأمسك عنه. فقال المحسن: هو شيخي، وقد علم الله أنني ما آثرت ما جرى. فقال له علي بن عيسى: كذلك الظن بك يا سيدي. ثم رجع ابن الفرات إلى قراءة ما بقي من التذكرة التي لعلي بن عيسى، فإذا فيها: يؤذن للكتاب وأصحاب الدواوين الولاة والمعطلين والقواد وكتابهم في الاجتماع معي ولا يمنع واحد منهم عني. فقال ابن الفرات: أما أصحاب الدواوين الولاة فلا يجسرون على لقائك فزعاً مني إلا رجلاً واحداً هو جار الموضع الذي أنت فيه يعني ابن الصريفيني صاحب الجيش لأن داره كانت مجاورة لدار شفيع اللؤلؤي التي في مشرعة القصب على دجلة، وانتقلت من بعد إلى أبي بكر محمد بن بدر الحمامي وسيصير إليك سراً. وأما القواد فعليك في مجيئهم إليك شناعة. فقال: إنما أريدهم لابتياع ضياعي، ومنهم داود بن حمدان، وهو يرغب فيما بديار ربيعة منها، ولا شناعة في مثل ذلك. فقال: بلى. وربما صار منه حديث، وكتابهم يجيئونك، وفيهم كفاية. ووقع بهذا. وتبع هذا الباب من التذكرة: كتاب يكون في يدي بما تقررت عليه مصادرتي، وأنه مزيل لكل تبعة وتأول عني وعن كتابي وأسبابي. فضحك ابن الفرات وقال: ما أطرف هذا بين أن تضج وتتظلم وتقول: إنه لا يجب على مثلك مصادرة، ثم تحتاط لنفسك في التبعة بأن تتنجز بها كتاباً. فقال: إي لعمري ما هي واجبة علي، ولا ارتزقت في مدة خمس سنين إلا مثل مال التعجيل وهو مائة ألف، ولكن إذا وقعت المصادرة فلي ولأسبابي في هذا الكتاب حجة في نفوسنا وأملاكنا.
(1/331)
________________________________________
فأقبل ابن الفرات على المحسن ابنه وقال له: أنت تتولى لأمير المؤمنين ديوان المصادرين، فاكتب له بما يريد. فقال أُوقع بأن يكتب له ذلك. قال: لا، بل تكتبه بخطك. قال: فكيف أدعو له؟ قال: بالدعاء التام. فكتب له المحسن بخطه عن نفسه كتاباً بالمصادرة، ودعا له في صدره، ثلاثة أسطر، وترجمة بالدعاء التام، وكتب: من المحسن بن أبي الحسن. كما يكتب إلى الناس كلهم، ودفع الكتاب إلى أبي غانم سعيد بن محمد المعروف بابن الشاشي خليفته على ديوان المصادرين. وبينما ابن الفرات يحادث علي بن عيسى خرج أبو علي الحسن بن أبي الحسن ابن الفرات، من دولة، وسنه إذا ذاك بضع عشرة سنين. فقام إليه علي بن عيسى، فأكبر ذاك أبو الحسن بن الفرات وقال: يا أبا الحسن أعزك الله هذا ولدك. فقال علي بن عيسى: قد خدمت السيد الماضي أبا العباس رحمه الله وخدمت الوزير أيده الله، وأرجو أن أعيش حتى أخدم هذا السيد أعزه الله. فشكره ابن الفرات على قوله، وأخذ قرطاساً ووقع فيه إلى هارون بن عمران بأن يحتسب عليه من مال ضيعته بألفي دينار يحملها إلى أبي الحسن علي بن عيسى من غير دعاء معونة له على مصادرته. فقال علي بن عيسى: ما أحب التثقيل على الوزير أيده الله ولكن لا أرد تفضله مع الحاجة إليه. وأخذ المحسن الدواة وكتب له بألف دينار. وتقدم ابن الفرات إلى هارون بن عمران بأن يكتب له قبضاً بهذه الثلاثة الآلاف الدينار من مال مصادرته، ونهض علي بن عيسى بعد أن قبل يد
(1/332)
________________________________________
أبي الحسن بن الفرات، وضمه ابن الفرات إليه، وأكب علي بن عيسى على رأس المحسن فتطاول له تطاولاً كالقيام، وقام معه كل من كان بحضرة ابن الفرات إلا وجوه أصحاب الدواوين، ومشى بين يديه الحجاب والحواشي، ومضى إلى دار شفيع. ولم يبعد أن قام ابن الفرات لصلاة المغرب، فلما صلى دعا بهشام وابن جبير وابن فرجويه وقال: رأيتم مثل رجلة علي بن عيسى وتطأمنه للنكبة واستعانته عليها بالاستعطاف والتذلل؛ وهذه طريقة لا أحسنها، لأن كبدي في المحن كأكباد الإبل، لا جرم أنها تزداد وتتضاعف. ثم دعا بالعباس الفرغاني حاجبه وقال له: حدثهم. فقال: نعم، لما نزل علي ابن عيسى إلى طيار شفيع اللؤلؤي أجلسه في صدره وجلس بين يديه. فقال ابن الفرات: هذا غير منكر لأنا ما عاملنا بقبيح فيتصنع لنا شفيع بإذلاله، وهو مع ذلك شيخ قد رأس عليهم، وكان معظماً في أيام عبيد الله بن سليمان وله أُبوته وصناعته. وأقام علي بن عيسى في دار شفيع إلى أن أدى ثلاثمائة ألف دينار المصادرة، وأطلقت ضياعه. ثم أُبعد إلى مكة، وأطلق له ابن الفرات عشرة آلاف درهم نفقة سلمها إليه، وأعطي في أجر الجمالين ونفقات الموكلين ثمانية آلاف درهم. فلما حصل بمكة أُعيد قبض الضياع وأمر بإخراجه إلى صنعاء. وإنما تم ذلك عليه بعد خروج مؤنس إلى الرقة كالمبعد. وذكر أن علي بن عيسى لم يقبل لأحد من الكتاب في نكبته هذه معونة
(1/333)
________________________________________
من بذلهم ذلك له، إلا بن فرجويه فإنه حمل إليه ألف دينار. وحمل إليه الفضل والمحسن ابناً ابن الفرات ألف دينار. وكان أبو الهيجاء بن حمدان أنفذ إليه عشرة آلاف دينار فردها وقال له: لو كنت متقلداً فارس لقبلتها، وأعلم أنها تجحف بما لك، وما أُحب ثلمك. فحلف أبو الهيجاء أنها لا ترجع إلى ملكه ففرقت على الطالبيين والضعفاء. وحمل إليه هارون بن غريب جملة قبلها. وبذل له شفيع ألفي دينار فامتنع منها وقال له: لا أجمع عليك مؤونتي ومعونتي: ولأبي الميمون سالم بن عبد الله في علي بن عيسى لما أُخرج إلى مكة:
سيرت الشمسة بالنحس ... فأطلعت سعداً على الأنس
فأبعد الله الذي سيرت ... في الأرض أقصى مطلع الشمس
لمّا غدا أهلوه في مأتم ... أصبحت الأمة في عرس
فلا كلاه الله من ذاهب ... ولا رعاه الله من جبس
أطلع في أيامه كلها ... على البرايا كوكب النحس
وضيّق الدنيا على أهلها ... كأنها العالم في حبس
يضيع الأموال من عجيبة ... وينظر الساقط من فلس
أهلكه الله ولا ردّه ... فهلكه أطيب للنفس
ما يؤمن الشر ولا ينقضي ... حتى يوارى النّذل في رمس
(1/334)
________________________________________
وزارة أبي الحسن علي ابن عيسى الثانية
لما قبض علي أبي الحسن علي بن عيسى بعد نظره مع حامد بن العباس جرى أمره مع أي الحسن بن الفرات وابنه المحسن على ما ذكرناه. ثم أخرجاه إلى مكة، ومنها إلى اليمن، فكان هناك إلى أن قبض عليهما. ووزر أبو القاسم الخاقاني، فسأل مؤنس الخاقاني أن يأذن لعلي بن عيسى في الرجوع إلى مكة، ففعل، ثم سأل مؤنس المقتدر بالله من بعد تقليده الإشراف على مصر والشام، فأمر الخاقاني بذلك، وكتب إلى علي بن عيسى به، وأجري له ألفي دينار في كل شهر. وكان عامل مصر يومئذ أبو أحمد الحسن بن محمد الكرخي وعامل الشام محمد بن الحسن ابن عبد الوهاب. وتقلد أبو العباس الخصيبي الوزارة فأقره على ذلك. وقد أمر الخصيبي، فأشار مؤنس على المقتدر بالله باستقدام علي بن عيسى ورد الأمور إليه والتعويل فيها عليه. وندب سلامة الطولوني للنفوذ إلى دمشق في طريق البرية وإحضار علي بن عيسى منها، ونفذ في يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة، واستقر الأمر في مراعاة الأعمال إلى حين وصوله على أن استدعي المقتدر بالله عبيد الله بن محمد الكلوذاني في يوم الخميس الحادي عشر من ذي القعدة، وعرفه تقليده أبا الحسن علي بن عيسى الوزارة، وأمره بالنيابة عنه إلى حين وروده، فانصرف أبو القاسم إلى دار الوزارة بالمخرم في طيار الخصيبي المقبوض عنه، وجلس ونظر في الأعمال،
(1/335)
________________________________________
وقرأ الكتب الواردة، ووقع في الكتب الصادرة، وكتب إلى عمال الخراج والمعاون وعراض الجيوش وأصحاب الأخبار والبرد والقضاة بما رد إلى علي بن عيسى ورسم له من خلافته، وأمر ونهى وعزل وولى. وظهر في هذا اليوم أبو علي بن مقلة وأبو الفتح الفضل بن جعفر، وجاءا إلى أبي القاسم وسلما عليه، وحضر هشام بن عبد الله ونظر فيما كان ينظر فيه للخصيبي. ولم يزل الكلوذاني يدبر الأمور حتى مشى كثيراً واستخرج صدراً كبيراً. وسار علي بن عيسى من دمشق إلى جسر منبج ثم انحدر في الفرات إلى بغداد، وخرج الناس لتلقيه في سلخ المحرم وأول صفر من سنة خمس عشرة وثلاثمائة، فمنهم من لقيه بالرحبة ثم بهيت ثم بالأنبار. وورد إلى الحضرة في يوم الثلاثاء خامس صفر، وبدأ بالمقتدر بالله، فوصل إليه بعد العشاء الآخرة، ومعه مؤنس المظفر، فخاطبه خطاباً جميلاً وانصرف إلى منزله، فحمل إليه المقتدر بالله من الثياب الفاخرة والفراش الجليل والمال ما قيل: إن ثمنه وقدره نحو عشرن ألف دينار، وأمره بالاستعانة بذلك على إصلاح أمره وإقامة تجمله، وخلع عليه خلع الوزارة في يوم الخميس لسبع ليال خلون من صفر، وسار معه مؤنس المظفر إلى أن بلغ داره بسوق الثلاثاء، ثم حلف عليه علي بن عيسى فتأخر عنه، وسار بين يديه هارون بن غريب وشفيع ومفلح ونسيم وياقوت ونازوك وجميع القواد والغلمان إلى داره بباب البستان. وقدم بقدوم علي بن عيسى أخوه عبد الرحمن وقد كان خرج إليه عند تقلد الخصيبي الوزارة من غير أن يلقاه، وسليمان بن الحسن. وقد ذكرنا حاله فيما تقلد من أعمال الشام في وزارة الخصيبي وعبيد الله بن عبد الله بن الحارث، وأبو زنبور الحسين بن أحمد المادرائي. وبلغ هشام بن عبد الله أنه قد ذكر عند أبي الحسن علي بن عيسى
(1/336)
________________________________________
بما أفسد رأيه فيه، وذكر بما كان كاشفه فيه في أيام ابن الفرات الأخيرة، وما عامل به إبراهيم وعبد الله أخويه من القبيح قولاً وفعلاً، فاستوحش وأشفق واقتصر على أن وقف لعلي بن عيسى في الطريق، وترجل له، وعاد إلى منزله ولم يجسر على حضور داره. وكان يتقلد مع ديوان المصادرين كتابة أحمد بن بدر العم، فلما تأخر عن علي بن عيسى وقع إليه: لم أرك مد الله في عمرك أحضرتني عملا للمصادرات التي تتقلد ديوانها، ولا أنفذت إلي كتاباً بالمطالبة بشيء من مالها، ولا أخرجت إلي ما تعلم شدة الحاجة إليه من أحوال ضمانات الضمناء التي ضمنوها، وبلغني أنك متشاغل عن هذه الأعمال بغيرها، فينبغي أكرمك الله أن تخرج إلي سائر ما قبلك، وتجري على عادتك في خدمتي وملازمة حضرتي إن شاء الله. فأجابه هشام: بأنه حضر الدار للخدمة فوجد الوزير قد قام من مجلسه وعزم على الرواح وملازمة الخدمة التي يتشرف بها وأنه إنما أخر إخراج ما على المصادرات لعلمه بمذهب الوزير في البحوث عن الظلم. وعمل على المشافهة بما عنده ليخرج من المصادرات ما هو واجب مما لم يجر فيه تحريف ولا حيف. فوقع إليه: أخرج ما عندك كائناً ما كان، وبين وجوهه
وأسبابه لأتقدم فيه بما يوفق الله إن شاء الله. وحضر هشام مجلسه، فقال له: ليس من مذهبي أن أذكر إساءة أحد، ولما خلصني الله تعالى من صنعاء وعدت إلى مكة عاهدته سبحانه على ترك مقابلة كل من سعي علي في ولايتي ولكبتي، ووكلت جميعهم إلى الله. ولك خدمة قديمة توجب لك حقاً، وعليك أضعافه، فإذا لم ترع ما يلزمك لم أدع رعاية ما يلزمني. ثم قال له: أموال الصدقات بفارس وكرمان معقودة على أبي عيسى أحمد بن بدر العم، وقد حل منها ثلاثمائة ألف درهم، والضرورة قائدة إلى مطالبته بأداء ذلك في بيت مال العامة لأسبب له عوضه على المسمعي من مال ضمانة الضياع والخراج بفارس، وأريد أن تكتب لي خطك بعشرة آلاف دينار من ذلك. فكتب له بمائة ألف درهم، ووقع لأهل الصدقات بالعوض منها على المسمعي، ثم ذكر له هشام أن على إسحاق بن إسماعيل من مال ضمانة النهروانات، وعلى نصير بن علي من مال ضمانة طريق خراسان وموات جلولاً، وعلى محمد بن الحسن الكرخي الملقب بالجرو من مال ضمانة نهر بوق والزاب الأسفل، وعلى ابن عرفة خليفة محمد بن القاسم الكرخي من مال الأعمال التي يتولاها صاحبه، وعلى محمد وجعفر ابني جعفر الكرخي من مال مصادرتهما، وعلى محمد بن الحسن كاتب المسمعي من مال ضمانة أعمال فارس وكرمان، وعلى خليفته ابن رستم من مال أصبهان، أموالاً كثيرة، وأنهم لم يؤدوا منذ وقع اسمه على الوزارة إلا شيئاً يسيراً. وأنه قد أحضر خطوطهم بأعيانها، وعملاً بأصول ما عليهم وما أدوه، وبقي خطوط المصادرين بما تقررت عليه أمورهم، وعملاً مفصلاً بما بقي منها على كل واحد منهم. وقال: سبيل ذلك كله أن يستوفى. فأمره علي بن عيسى بتسليم الخطوط إلى صاحب دواته بثبت، وتسلم هو العملين بيده، وقرأهما، وتقدم إلى أبي القاسم الكلوذاني بالاجتماع مع هشام على المطالبة بالمال والجد في ذلك حتى يصح في ثلاثة أيام. وأخرج علي بن عيسى جميع الأعمال إلى أبي القاسم الكلوذاني، ولزم أصحاب الدواوين مجلسه في دار علي ابن عيسى حتى ظن أنه خليفته على الدواوين كلها. فلما أخرج الكلوذاني كل ما عنده إلى علي بن عيسى وتشاغل بما أمره به من مطالبة الضمناء والمصادرين قال له علي بن عيسى: إليك أجل الدواوين، وإن ارتسمت بخلافتي اختل ما إليك منها، وليس يقوم أحد مقامك في ذلك، فينبغي أن تتوفر على ذلك فسر الكلوذاني بهذا القول لأنه خاف أن يرد ديوان السواد إلى عبد الرحمن أخيه على ما كان فعله في وزارة حامد، ويحصل هو على خلافة لا يوفيه علي بن عيسى حكمها، لأن من مذهبه أن ينظر في الأعمال بنفسه ليلاً ونهاراً. وعول على عبد الرحمن أخيه وسليمان بن الحسن في عمل من الأعمال للضمناء والعمال مما يخرجه إليهما أصحاب الدواوين، وفي مكاتبة عمال الخراج والضياع والمعاون في نواحي المغرب عنه، والنظر في سائر أعمال المغرب كما ينظر صاحب الديوان، فتحققا به ولازما مجلسه، وتجدد إشفاق هشام واستيحاشه، وذاك أنه بلغه حضور أولاد إبراهيم بن عيسى عند عمهم علي بن عيسى فلما رآهم دمعت عينه وقال: ترك أبوهم العمل معي في وزارة حامد طلباً للسلامة فلم ينفعه ذاك وأفقره ابن الفرات ثم سلمه إلى من قتله. فقال له من كان بحضرته: الذي جرى عليه من هشام مكروهاً وشتما له ولآل الجراح كلهم أعظم من القتل وخفف هشام الحضور في دار علي بن عيسى، وكان ينفذ إليه الأعمال من غير أن يلقاه. وزاد ما يتأدى إليه من ذكر أصحاب علي بن عيسى له وتضريتهم إياه عليه، فاستتر وستر حرمه، ولم يعرض له علي بن عيسى، ووقع إليه بعد أيام من استتاره توقيعاً جميلاً فأجاب عنه بأنه قد كان واثقاً بتفضل الوزير عليه وصفحه عنه. وعمل على ملازمة الخدمة ألى أن أكثر أعداؤه من الإغراء به والوقيعة فيه، فأقام في منزله واثقاً بنيته ومعولاً على عفوه ورأفته. فوقع إليه: ما صرفتك أكرمك الله فإن أحببت الحضور والخدمة وإلا فالله لك بالرشد. فلم يسكن وأقام على الاستتار. ابه لأتقدم فيه بما يوفق الله إن شاء الله. وحضر هشام مجلسه، فقال له: ليس من مذهبي أن أذكر إساءة أحد، ولما خلصني الله تعالى من صنعاء وعدت إلى مكة عاهدته سبحانه على ترك مقابلة كل من سعي علي في ولايتي ولكبتي، ووكلت جميعهم إلى الله. ولك خدمة قديمة توجب لك حقاً، وعليك أضعافه، فإذا لم ترع ما يلزمك لم أدع رعاية ما يلزمني. ثم قال له: أموال الصدقات بفارس وكرمان معقودة على أبي عيسى أحمد بن بدر العم،
(1/337)
________________________________________
وقد حل منها ثلاثمائة ألف درهم، والضرورة قائدة إلى مطالبته بأداء ذلك في بيت مال العامة لأسبب له عوضه على المسمعي من مال ضمانة الضياع والخراج بفارس، وأريد أن تكتب لي خطك بعشرة آلاف دينار من ذلك. فكتب له بمائة ألف درهم، ووقع لأهل الصدقات بالعوض منها على المسمعي، ثم ذكر له هشام أن على إسحاق بن إسماعيل من مال ضمانة النهروانات، وعلى نصير بن علي من مال ضمانة طريق خراسان وموات جلولاً، وعلى محمد بن الحسن الكرخي الملقب بالجرو من مال ضمانة نهر بوق والزاب الأسفل، وعلى ابن عرفة خليفة محمد بن القاسم الكرخي من مال الأعمال التي يتولاها صاحبه، وعلى محمد وجعفر ابني جعفر الكرخي من مال مصادرتهما، وعلى محمد بن الحسن كاتب المسمعي من مال ضمانة أعمال فارس وكرمان، وعلى خليفته ابن رستم من مال أصبهان، أموالاً كثيرة، وأنهم لم يؤدوا منذ وقع اسمه على الوزارة إلا شيئاً يسيراً. وأنه قد أحضر خطوطهم بأعيانها، وعملاً بأصول ما عليهم وما أدوه، وبقي خطوط المصادرين بما تقررت عليه أمورهم، وعملاً مفصلاً بما بقي منها على كل واحد منهم. وقال: سبيل ذلك كله أن يستوفى. فأمره علي بن عيسى بتسليم الخطوط إلى صاحب دواته بثبت، وتسلم هو العملين بيده، وقرأهما، وتقدم إلى أبي القاسم الكلوذاني بالاجتماع مع هشام على المطالبة بالمال والجد في ذلك حتى يصح في ثلاثة أيام. وأخرج علي بن عيسى جميع الأعمال إلى أبي القاسم الكلوذاني، ولزم أصحاب الدواوين مجلسه في دار علي ابن عيسى حتى ظن أنه خليفته على الدواوين كلها. فلما أخرج الكلوذاني كل ما عنده إلى علي بن عيسى وتشاغل بما أمره به من مطالبة الضمناء والمصادرين قال له علي بن عيسى: إليك أجل الدواوين، وإن ارتسمت
(1/338)
________________________________________
بخلافتي اختل ما إليك منها، وليس يقوم أحد مقامك في ذلك، فينبغي أن تتوفر على ذلك فسر الكلوذاني بهذا القول لأنه خاف أن يرد ديوان السواد إلى عبد الرحمن أخيه على ما كان فعله في وزارة حامد، ويحصل هو على خلافة لا يوفيه علي بن عيسى حكمها، لأن من مذهبه أن ينظر في الأعمال بنفسه ليلاً ونهاراً. وعول على عبد الرحمن أخيه وسليمان بن الحسن في عمل من الأعمال للضمناء والعمال مما يخرجه إليهما أصحاب الدواوين، وفي مكاتبة عمال الخراج والضياع والمعاون في نواحي المغرب عنه، والنظر في سائر أعمال المغرب كما ينظر صاحب الديوان، فتحققا به ولازما مجلسه، وتجدد إشفاق هشام واستيحاشه، وذاك أنه بلغه حضور أولاد إبراهيم بن عيسى عند عمهم علي بن عيسى فلما رآهم دمعت عينه وقال: ترك أبوهم العمل معي في وزارة حامد طلباً للسلامة فلم ينفعه ذاك وأفقره ابن الفرات ثم سلمه إلى من قتله. فقال له من كان بحضرته: الذي جرى عليه من هشام مكروهاً وشتما له ولآل الجراح كلهم أعظم من القتل وخفف هشام الحضور في دار علي بن عيسى، وكان ينفذ إليه الأعمال من غير أن يلقاه. وزاد ما يتأدى إليه من ذكر أصحاب علي بن عيسى له وتضريتهم إياه عليه، فاستتر وستر حرمه، ولم يعرض له علي بن عيسى، ووقع إليه بعد أيام من استتاره توقيعاً جميلاً فأجاب عنه بأنه قد كان واثقاً بتفضل الوزير عليه وصفحه عنه. وعمل على ملازمة الخدمة ألى أن أكثر أعداؤه من الإغراء به والوقيعة فيه، فأقام في منزله واثقاً بنيته ومعولاً على عفوه ورأفته. فوقع إليه: ما صرفتك أكرمك
(1/339)
________________________________________
الله فإن أحببت الحضور والخدمة وإلا فالله لك بالرشد. فلم يسكن وأقام على الاستتار.
ونظر علي بن عيسى في الجاري والأرزاق، فنزل أصحاب الدواوين من الثلثين إلى النصف، وجعل لأبي القاسم الكلوذاني من خمسمائة دينار كان يقبضها في كل شهر عن ديوان السواد خمسة آلاف درهم، وقرر لأبي الفتح الفضل بن جعفر عن ديوان المشرق مائة دينار في كل شهر، ولأبي علي بن مقلة عن ديوان الخاصة والمستحدثة مائة دينار. وكان حامد أجري له ثلاثة آلاف درهم في كل شهر برسم مشيخة الكتاب، وكان يقبضها إلى أن نكبه ابن الفرات. وأسقط أرزاق كل من كان يقبض برسم الدواوين من الكتاب وأولاد الكتاب الذين يحضرون ولا يعملون، وغلمان وأسباب وأصحاب الدواوين، واقتصر بالغلمان على جاري عشرة أشهر في السنة. وبأصحاب البرد والمنفقين على ثمانية أشهر. وحذف من كان جارياً بالفرسان والرجالة برسم النوبة من الكتاب والتجار ومن لا يحمل السلاح، وأرزاق الأولاد الذين في المهود، وجميع أرزاق الخدم والحشم والجلساء والندماء والمغنين وأصحاب العنايات وأرباب الشفاعات. ثم إن علي بن عيسى رأى من اختلال النواحي في وزارة أبي القاسم ابن الخاقاني وأبي العباس الخصيبي ونقصان الارتفاع، وتضاعف النفقات، وما زيده الرجالة عند ورود القرمطي وهو مائتان وأربعون ألف دينار في السنة، ما استعظم الصورة فيه، وعلم أن الأمور لا تستقيم معه، وتبين انحراف نصر الحاجب عنه لميل مؤنس المظفر إليه وقيامه بأمره. فاستعفى المقتدر بالله من النظر استعفاء دفعه عنه وقال له: أنت عندي بمنزله المعتضد بالله، ولا بد من أن تصبر وتحتمل. فترك مديدةً ثم عاود وواصل
(1/340)
________________________________________
وشاور المقتدر بالله مؤنساً فيمن يقلده: وقال له: قد أسمي لي الفضل بن جعفر فلم أرده، وابن مقلة فما عندك فيه. قال: هو حدث خامل، والوزارة تحتاج إلى شيخ له ذكر وفيه فضل. فقال له: محمد بن خلف النيرماني وقد بذل تحصيل ألف ألف دينار من مال النواحي في مدة أربعة أشهر. قال: هذا رجل متهور ولا يحسن أن يكتب اسمه. وأشار بمداراة علي بن عيسى. وخاطب مؤنس علي ابن عيسى، فقال: لو كنت مقيماً بالحضرة لعملت وعولت على معاونتك ومعاضدتك، فأما وأنت خارج إلى الرقة فلا يتم لي أمر. وبلغ أبا علي بن مقلة ذلك، فجد في السعي على علي ابن عيسى. وشاور المقتدر بالله نصراً الحاجب في الثلاثة الذين هم الفضل بن جعفر وابن مقلة ومحمد بن خلف النيرماني، فقال: أما الفضل فما يدفع عن محل وصناعة، ولكنك قتلت عمه بالأمس، وبنو الفرات كلهم يدينون بالرفض، ويميلون إلى القرمطي، وابن مقلة فلا هيبة له. وأشار بمحمد بن خلف، فلم يتقبله المقتدر بالله، لأن مؤنساً وهارون بن غريب نفراه منه. وعرف ابن مقلة طعن نصر الحاجب عليه، فواصل مداراته واستصلاحه، وواقف أبا عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري على ملاقاة أبي محمد دلويه كاتب نصر واستعانته على إصلاح صاحبه. وأشار مؤنس بأبي زنبور المادرائي، فكرهه نصر وانقاد لأبي علي بن مقلة والمشورة به، وقال: يقلد فإن استقل بما ندب إليه والإ صرف واستبدل به. فاضطر المقتدر إلى أن استوزره. وحصلت له وسيلة أخرى قوت أمره، وذاك أن المقتدر بالله كان شديد التطلع إلى معرفة أخبار أبي طاهر القرمطي، ولم يكن يقف عليها إلا من جهة الحسن ابن إسماعيل الإسكافي عامل الأنبار وما يكتبه منها إلى علي بن عيسى في كل أيامه،
(1/341)
________________________________________
فأنفذ أبو علي علي بن مقلة طيوراً إلى الأنبار، وعول على قوم من أهلها في مكاتبته بأخبار القرمطي على الساعات. فكان يرد من ذاك ما ينفذه لوقته إلى نصر الحاجب، ويعرضه نصر على المقتدر بالله ويجعله طريقاً إلى تقريظه وإطرائه حتى قال له: إذا كانت هذه مراعاته لأمورك يا أمير المؤمنين ولا تعلق له بخدمتك فكيف يكون إذا اصطنعته واستكفيته؟ فلما كان وقت الظهر من يوم الثلاثاء ثالث عشر ربيع الأول من سنة ست عشرة وثلاثمائة أنفذ المقتدر بالله هارون بن غريب إلى علي بن عيسى للقبض عليه، فصار إلى داره، ومعه أبو جعفر بن شيرزاد وهو متعطل إذ ذاك، فلما قرب هارون منها قدم أبا جعفر أمامه إليه، وعرفه ما أُنفذ فيه حياءً من لقائه به، وعرفه أبو جعفر الحال، فقال: أنا جالس أتوقعه. ولبس عمامة وطيلساناً وخفاً، وأخذ في كمه مصحفاً ومقراضاً. ووافى هارون فدخل إليه، وسأله صيانة حرمه وولده، ففعل، ومنع من التعرض لشيء من الدار. ولم يجد في مجلسه ولا داره أحداً من كتابه وأسبابه، وبصر
بأبي علي عبد الرحمن في بيت من الدار مطلعاً في شباك، فهجم عليه وأخذه، وحملهما إلى دار السلطان، وسلم علي بن عيسى إلى زيدان القهرمانة، واعتقل عبد الرحمن عند نصر الحاجب، فكانت مدة وزارة علي بن عيسى هذه سنةً وأربعة أشهر ويومين. وادعى نصر الحاجب بسوء رأيه في أبي الحسن علي بن عيسى أنه وجد رجلاً يعرف بالجوهري وأقر بأنه رسول للقرمطي وسفير بينه وبين علي بن عيسى، وحكي عنه أن علي بن عيسى كان يكاتب القرمطي على يده، وجمع بينه وبين علي بن عيسى حتى واجهه بذلك. فقال علي بن عيسى: كذب علي وبهتني، وما خلق الله لما قاله أصلاً ولا فرعاً، وعاون أبو علي بن مقلة نصراً الحاجب إلى أن كاد المكروه يتم على علي بن عيسى، وهم المقتدر بالله بأن يضربه بالسوط على باب العامة بحضرة الفقهاء والقضاة وأصحاب الدواوين. فتوصلت السيدة إلى كشف ما ادعي عليه، حتى وقفت على بطلانه، وقررت ذاك في نفس المقتدر بالله، فزال ما كان اعتقده فيه. وتقلبت بعلي بن عيسى من بعد أمور قد ذكرناها فيما أوردناه من أخباره المنثورة وأخبار الوزراء. ورد إليه في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة في خلافة المتقي لله وإمارة بجكم، ونظر أبي عبد الله الكوفي النظر في المظالم، فجلس لذلك ونظر في خصومات بين عوام، ورد ما يتعلق بعامل وصاحب ديوان وجندي إلى أبي عبد الله الكوفي، وبالحكم إلى الحكام. فلما انهزم أبو عبد الله البريدي من كورتكين وتكينك، وخلت الوزارة من ناظر فيها ومرسم بها، استدعي المتقي لله أبا الحسن علي بن عيسى وأبا علي عبد الرحمن أخاه وأمرهما بالنظر، وكان أبو علي عبد الرحمن يدبر الأعمال وعلي بن عيسى يصل إلى حضرة المتقي لله، وجرى الأمر على ذلك تسعة أيام ثم تقلد أبو إسحاق القراريطي الوزارة، ولازما منزلهما. وتوفي أبو الحسن علي بن عيسى في يوم الجمعة لليلة خلت من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن تسع وثمانين وستة أشهر، لأن مولده كان في جمادي الآخرة سنة خمس وأربعين ومائتين. علي عبد الرحمن في بيت من الدار مطلعاً في شباك، فهجم عليه وأخذه، وحملهما إلى دار السلطان، وسلم علي بن عيسى إلى زيدان القهرمانة، واعتقل عبد الرحمن عند نصر الحاجب، فكانت مدة وزارة علي بن عيسى هذه سنةً وأربعة أشهر ويومين. وادعى نصر الحاجب بسوء رأيه في أبي الحسن علي بن عيسى أنه وجد رجلاً يعرف بالجوهري وأقر بأنه رسول للقرمطي وسفير بينه وبين علي بن عيسى، وحكي عنه أن علي بن عيسى كان يكاتب القرمطي على يده، وجمع بينه وبين
(1/342)
________________________________________
علي بن عيسى حتى واجهه بذلك. فقال علي بن عيسى: كذب علي وبهتني، وما خلق الله لما قاله أصلاً ولا فرعاً، وعاون أبو علي بن مقلة نصراً الحاجب إلى أن كاد المكروه يتم على علي بن عيسى، وهم المقتدر بالله بأن يضربه بالسوط على باب العامة بحضرة الفقهاء والقضاة وأصحاب الدواوين. فتوصلت السيدة إلى كشف ما ادعي عليه، حتى وقفت على بطلانه، وقررت ذاك في نفس المقتدر بالله، فزال ما كان اعتقده فيه. وتقلبت بعلي بن عيسى من بعد أمور قد ذكرناها فيما أوردناه من أخباره المنثورة وأخبار الوزراء. ورد إليه في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة في خلافة المتقي لله وإمارة بجكم، ونظر أبي عبد الله الكوفي النظر في المظالم، فجلس لذلك ونظر في خصومات بين عوام، ورد ما يتعلق بعامل وصاحب ديوان وجندي إلى أبي عبد الله الكوفي، وبالحكم إلى الحكام. فلما انهزم أبو عبد الله البريدي من كورتكين وتكينك، وخلت الوزارة من ناظر فيها ومرسم بها، استدعي المتقي لله أبا الحسن علي بن عيسى وأبا علي عبد الرحمن أخاه وأمرهما بالنظر، وكان أبو علي عبد الرحمن يدبر الأعمال وعلي بن
(1/343)
________________________________________
عيسى يصل إلى حضرة المتقي لله، وجرى الأمر على ذلك تسعة أيام ثم تقلد أبو إسحاق القراريطي الوزارة، ولازما منزلهما. وتوفي أبو الحسن علي بن عيسى في يوم الجمعة لليلة خلت من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن تسع وثمانين وستة أشهر، لأن مولده كان في جمادي الآخرة سنة خمس وأربعين ومائتين.

أخبار أبي الحسن المنثورة
حدث أبو علي عبد الرحمن بن عيسى قال: كان محمد بن جعفر العبرتائي من عمال أبي الحسن بن الفرات وخواصه، وكان يعامل أخي أبا الحسن علي بن عيسى فيما ضمنه من طساسيج طريق الجارية في الخاصة، فاستوفى عليه استيفاءً تشدد فيه، واجتهد في إصلاح نيته وقبول مبرته بكل ما يجتهد مثله مع مثله، وأخي يمتنع ويقول: يا هذا الرجل إنما بيننا أمر هذا الضمان فإن وفيت به وخرجت منه فأنت أجل الناس عندي وأقربهم مني، وإن أقمت على أمرك في المغاورة والمدافعة فأنت أبعدهم من قلبي وأشقاهم بي. فحضر عنده في بعض الأيام وكان يوم ثلاثاء، وأخي خال من العمل؛ وجرى ذكر البلدان وما خص به كل واحد منها من الطرف والألوان، فقيل: لمصر دهن البلسان وللبصرة النخل والبساتين، ولسكسكر زكاء الأرض جودة الغلات
(1/344)
________________________________________
وللكوفة القسوب وللأهواز القند، ولتستر الديباج والفاكهة، ولجند يسابور الدستنبو ولنهاوند الكمثرى والزعفران، ولقطربل الشراب. وذكر محمد ابن جعفر كلواذي ووصف أُترجها وتجاوزه في القد والكبر ما في السوس منه، فقال أخي على مجاز القول: أحب أن أراه. وتقوض المجلس. فلما كان وقت المغرب حضر باب أخي رسول لمحمد بن جعفر. قال عبد الرحمن فحدثني ماهر الخدام وكان عاقلاً محصلاً قال: جاءني البواب فقال: بالباب من يطلبك. فخرجت فإذا صاحب العبرتائي قد حضر، ومعه قماطر ما رأيت أدق ولا أحسن منها، وفيها أترج قد أنفذه، ومعه رقعة إلى مولاي، ورقعة إلي يسألني إيصال القماطر ووضعها بين يدي مولاي، وإذا معه خمسون ديناراً لي على التوصل إلى القبول. فدعوت بالغلمان وأشالوها إلى حضرته، وأوصلت رقعته فقرأها وقال: إفتح. ففتحنا بعض القماطر، وأخرجنا منها أترجاً مثل المساور اللطيفة لم ير مثلها حسناً ونبلاً وكبراً. فقال بعض الخدم: فيها شيء أثقل من شيء. فقال: تأمولها. فتأملناها، وإذا فيها عشر أترجات مقورة مخيطة، فسللنا الخيوط وإذا في كل أترجة ديباج فيه ألف دينار. والجميع عشرة آلاف دينار، فتقدم بردها كما كانت، ودعا بالرسول وأمر بتسليمها إليه بحضرته، فتسلمها وقال له: قل له: لم يذهب علي ما أردته بهذا الفعل، وأنت عارف بمذهبي وستعرف خبرك. قال ماهر: فبادرت مع الرسول حتى خرج ورددت عليه الخمسين دينار. فقال: أنت قد فعلت ما يجب عليك فلم ترد
(1/345)
________________________________________
الدنانير وهي يسيرة في جنب استحقاقات. فقلت: ما أجسر على قبول شيء مع ما جرى. وبكر أخي إلى الديوان، وابتدأ بالنظر في أمور الأعمال التي في ضمان محمد ابن جعفر، وأخرج إليه ما ألزمه فيه عند المناظرة نحو خمسين ألف دينار.
وحدث أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي قال: حدثني أبو الحسن بن ظفر الكرخي بمصر قال: كنت أكتب لأبي علي الحسين بن أحمد المادرائي. ووافى أبو الحسن علي بن عيسى من مكة في أيام وزارة أبي القاسم عبد الله بن محمد ابن خاقان للإشراف على مصر والشام، فدخل إلى مصر وتحته حمار وعليه طيلسان. وكان المتولي للمعونة تسكين، فتلقاه وترجل له، وعظمت هيبته في النفوس جداً. وجلس ونظر. ثم ركب في بعض الأيام متفرجاً وعاد، فحين دخل من باب الدهليز ونحن مجتمعون في داره لإنتظاره صاح: اللصوص. ففزعنا كلنا خوفاً من أن يكون قد وقف لنا على خيانة. فلما استقر في مجلسه قال: يا معشر الناس اجتزت الساعة على جسر قارون وهو بزند من البزندات، وتسمى البزندات بمصر جسوراً فقدرت النفقة عليه عشرة دنانير ووجدت العمال يحتسبون عنه على السلطان ستين ألف دينار كل سنة. وكرر ذلك وأكثر التعجب منه والقول فيه، وكان أبو علي حاضراً، فلم يجبه عن كلامه، فقال: الشأن أنني أقول ما أقوله فلا تجيبني عنه يا أبا علي! فنهض وانصرف. واغتاظ أبو الحسن علي ابن عيسى من ذلك، وأطبق دواته وقال: لعن الله أمر السلطان إذا انتهي إلى هذا الحد. وقام ودخل، وانصرف الناس، ومضيت إلى أبي علي قلقاً بما شاهدته وسمعته، ووجدته قد أنفذ خادماً إلى علي بن عيسى يستأذنه في حضوره عنده على خلوة. فأذن له، ومضى وأطال، فجلست أنتظره. فلما عاد سألته عما جرى
(1/346)
________________________________________
فقال: دخلت إليه وقلت له: لم أترك جوابك سوء أدب عليك، ولا استهانةً بقولك، وإنما كرهت أن أعترف بحضرة الناس فأُلزم نفسي ما لا يلزمها، أو أجيبك بما حضرت الآن لذكره فيكون ما عليك فيه أكثر مما علي فيه، فامتنعت إكراماً لك وصيانة. ثم قلت: كم جاري؟ فقال: ثلاثة آلاف دينار في الشهر. فقلت: يمكنني وأنا عامل مصر أن أكون بغير كتاب ولا عمال ولا كراع ولا جمال ولا إعطاء ولا إفضال؟. قال: لا. قلت: أفلا تعلم أن لي حرماً وأولاداً وأقارب وأهلاً أحتاج لهم إلى مؤونة؟. قال: بلى. قلت: فأخلو من أن يرد علي زوار بكتبك وكتب أمثالك من الرؤساء فتقتضي المروءة أن أبرهم وأصلهم؟. قال: بلى لعمري. قلت: فهذا الجبار الذي أجاوره وفائق خادمه له ثمانون مرقداً وهو متسلط على الأمر كله يمكنني أن أقيمه على الطاعة وأمنعه إدخال اليد في الضياع إلا بمؤونة أتكلفها له وأولاده وخدمه وكتابه حتى يستقيم ما بيني وبينه؟. قال: هذا ما لا بد منه. قلت: فالخليفة والسيدة والخالة والقهرمانة ومؤنس ونصر الحاجب وكتابهم وأسبابهم يجوز أن لا أهاديهم في كل سنة؟.. قال: هذا رسم لا يمكن الإخلال به. قلت: فالوزراء إذا تقلد الواحد منهم هل يدخل داره شيء قبل ما يحمله خليفتي إليه؟ وإذا نكب فهل يؤدي من مال مصادرته شيئاً قبل ما يستدعيه مني؟ وهذا أنت أيدك الله وأنت أعف الوزراء ومن لا يعرف له نظير ألم أحمل إليك في وقت كذا وكذا وفي وقت كذا وكذا؟ وأُجر على عيالك في مدة كذا وكذا؟! فقال: أنا والله شاكر لذاك. فقلت: ما ذكرت هذا اعتداداً عليك، وإنما ذكرته لتعلم أنه يلزمني لغيرك مثله وأكثر منه. وهذا حق بيت المال في ضياعك بمصر والشام وهو بضعة عشر ألف دينار في السنة أديت منها درهماً واحداً؟. فقال: ما أدري، فقلت: هذا مال عظيم ولست أبرح أو أعلم أنه
(1/347)
________________________________________
قد حصل لك، أو كان أصحابك خانوك فيه حتى أرتجعه منهم للسلطان؟ فأعاد الشكر. فقلت يا سيدي فمصادرتي في كل وقت تزيد على ألف ألف دينار هل من الثلاثة الآلاف الدينار الجاري تكون؟. فقال: دع هذا يا أبا علي فإن كبار الرجال يغضي لهم السلطان عن كثير الأموال. وما سمعناه بعد ذلك أعاد في شيء من أمور أعمالنا قولاً.
وحدث أبو محمد الصلحي قال: حدثني بعض أصحابنا قال: قال لي أبو القاسم الخاقاني في وزارته: أشرت على المقتدر بالله بتقليد أبي الحسن علي ابن عيسى الإشراف على مصر والشام، فرأيته متكرهاً لذاك ثم قال: افعل ما ترى. فأقبلت أصفه بالموالاة والثقة لأعرف ما عنده في أمره على حقيقة، فقال: هو كما تصف ولكن أحفظني عليه أن سمته تقلد وزارتي في أيام حامد ابن العباس فامتنع، وثقل علي امتناعه، وشاورته فيمن يراه لهذا الأمر فقال: أبو عمر محمد بن يوسف القاضي. فعلمت أنه غشني ولم ينصح لي. فقلت: وما لمحمد ابن يوسف يا أمير المؤمنين؟ فقال: لعمري إنه عالم ثقة إلا أنني لو فعلت ذاك لافتضحت عند ملوك الإسلام والكفر، لأنني كنت بين أمرين إما أن تتصور مملكتي بأنها خالية من كاتب يصلح للوزارة فيصغر الأمر في نفوسهم، أو أنني عدلت عن الوزراء إلى أصحاب الطيالس، فأُنسب إلى سوء الاختيار.
وحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي قال: حدثنا أبو طاهر المحسن ابن محمد بن الحسن الجوهري المعروف بالمقنعي أحد الشهود قال: حدثني أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى أنه كان يرتفع لأبيه من ضياعه في كل سنة عند الاعتزال والعطلة بعد ما يتصرف في النفقة ثلاثون ألف دينار. ويرتفع من ضياع
(1/348)
________________________________________
أبي الحسن علي بن محمد ابن الفرات إذا قبضت عنه ألف ألف دينار، وإذا وزر وردت عليه أُضعفت.
قال القاضي: واتفق أن حضر هذا الحديث منه أبو الحسن أحمد بن يوسف ابن الأزرق الأنباري فقال: حدثني جماعة من أصحاب أبي الحسن علي بن عيسى أن جميع ما كان يرتفع له في السنة نيف وثمانون ألف دينار يخرج منها في أبواب البر وسبل الخير وتفقد الطالبيين والعباسيين والأنصار وأولاد المهاجرين ومصالح الحرمين نيف وأربعون ألف دينار، ويبقى الباقي لنفقاته. وأنه كان يسمع الكتاب يقولون في ضياع أبي الحسن بن الفرات: إنها ترتفع في وزارته بألف ألف دينار وعند القبض عليه ودخول يد العمال فيها بثمانمائة ألف دينار وأقل وأكثر.
وحكى أبو الحسن ثابت بن سنان قال: قال لي أبو الحسن علي بن عيسى يوماً، وهو متعطل في أيام الراضي بالله في عرض حديث كان يجارينيه بعد إقرائي العمل الذي عمله في سنة ست وثلاثمائة لارتفاع الدنيا ونفقاتها: قال لي ابن الفرات يوماً وقد أُخرجت إليه من دار السلطان بعد صرفه إياي: أبطلت الرسوم وهدمت الارتفاع. فقلت: أي رسم أبطلت وارتفاع هدمت، قال: المكس بمكة فقلت له: قد أزلت هذه وأشياء كثيرة، منها ومنها وعددت الأبواب التي رفعتها وكان مال ذلك في السنة خمسمائة ألف دينار فلم أستكثرها مع ما حططته عن أمير المؤمنين من الأوزار بها، وغسلته من الأدران عن دولته فيها. ولكن انظر ما حططت وأبطلت إلى ارتفاعي وارتفاعك ونفقاتي ونفقاتك.
(1/349)
________________________________________
قلت: فبأي شيء أجاب. قال: خرج الخادم ففرق بيننا قبل أن يجيب.
وحدث أبو عمر أحمد بن محمد بن الحسين البصري قال: لما توفي القاضي أبو الحسن بن أبي عمر ركب أبو الحسن علي بن عيسى إلى أبي نصر وأبي محمد ابنيه يعزيهما به. فلما نهض منصرفاً قال: مصيبة وجب أجرها خير من نعمةً لا يؤدى شكرها.
وحدث أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق الأنباري قال: كان أبو عيسى أخو أبي صخرة جاراً لنا ببغداد، وكان عظيم الحال، كثير المال، كامل الجاه، معدوداً في شيوخ الكتاب، وقد تقلد كبار الأعمال، وخلف إسماعيل ابن بلبل على الوزارة فلما وزر أبو علي محمد بن عبيد الله الخاقاني قلده ديوان السواد، ثم صرف أبو علي وورد أبو الحسن علي بن عيسى من مكة وزيراً. فلم يره أهلاً لهذا الديوان لنقصان صناعته، وكان يغض منه إذا حضر في مجلسه، ولا يوفيه ما يقتضيه عمله، وإذا أراد عملاً أو خراجاً أو حساباً استدعاه من كتابه وواقفهم وخاطبهم عليه بمشهد منه فلا يترك له هذا الفعل جاهاً. ثم إن عرض عمل يعلم أن كتابة أبي عيسى لا تنهض به وقوله لا يعبر عن غرضه فيه خاطبه عليه على رؤوس الأشهاد ليتبين له نقصه وعجزه، فطال ذلك على أبي عيسى وزاد احتماله له فجلس عنده يوماً إلى أن تقوض مجلسه ولم يبق فيه غيره وغير إبراهيم بن عيسى أخي أبي الحسن، فقال له أبو الحسن ألك حاجة؟ قال: نعم، إذا خلا مجلس الوزير ذكرتها.
فأُخبرت عن إبراهيم أنه قال: فلما سمعت قوله نهضت وانصرفت وعدت من غد إلى مجلس أخي فوجدت أبا عيسى متصدراً فيه بأمر ونهي وتبسط وعمل، وخطاب الوزير معه دون الكتاب، وقد انتقل من الثرى إلى الثريا، فدعتني نفسي
(1/350)
________________________________________
إلى مسألة الوزير عن أمره حتى إذا خلا قال: تقول يا بني شيئاً؟. قلت: أسأل عن فضول. قال: إن كان فضولاً فلا تسل عنه. قلت: لا بد. قال: فقل. قلت: خلا بك أبو عيسى أمس لما لم أعرفه. ثم رأيتك اليوم مقبلاً عليه ومعاملاً له بضد ما كنت تعامله به، فما سبب ذلك؟ قال: نعم، إنه خاطبني خطاباً عظم في نفسي به، وعلمت صدقه فيه فرجعت له. قال: وقد خلا بي، أنا أيد الله الوزير رجل من شيوخ الكتاب، أعرف قدر صناعتي في الكتابة، وإنني في جملة المتأخرين عن الغاية، وما يخفى علي سوء رأي الوزير في واعتماده الغض مني، وطلب فضيحتي بالرجوع إلى الكتاب في أمور ديواني وقصدي بمعضلات الأمور إبانةً لعجزي وقصوري. ويجب أن يعلم أيده الله أن باطن حالي ومالي أوفر من ظاهرها على كثرته ووفوره، وما أتصرف طلباً لفائدة، ولا حاجةً إلى مكسب، وإنما أريد قيام الجاه ونفوذ الأمر، وقد عشت طول ما مضى من عمري مستوراً في أمري مقدماً عند السلطان على كثير من نظرائي، وخلفت إسماعيل بن بلبل على الوزارة، وتقلدت كبار الأعمال واحداً بعد آخر، وسلمت على الوزراء وسلموا علي، وقد نمكن في النفوس من موضعي ومنزلتي ما لا يخرج منها، ولا يمكن أحداً إزالته عنها. وأنا بين أمور مما لحقتني الغضاضة به، إما أن توصلت إلى إزالته بما يثقل على الوزير فيزداد سوء رأيه؛ أو استعفيت ولزمت منزلي فلم أكن خاملاً؛ وجعلت نفسي حينئذ بحيث أختاره من الكون في أولياء الوزير أو أعدائه، أو عاد إلى الأولى به ووفاني حقوق ما قلدنيه. فقلت له: ليس ترى بعد ذلك يا أبا عيسى شيئاً تنكره، وسأرجع في معاملتك إلى أفضل ما تؤثره. وبكر إلي ليمتحن وعدي ويختبر ما عندي، فكان ما رأيت.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي عن أبيه وأبي الحسين بن عياش قالا: كان
(1/351)
________________________________________
أبو الحسن علي بن عيسى يجعل في كل باب من ورائه مستورةً ويسبل عليها ستراً طويلاً يغطيها، فإذا جلس في أُخريات النهار مجلساً حافلاً ألصق بها ظهره من وراء الستر لئلا يشاهد مستنداً، تمسكاً بالوقار. وقيل: إنه ما رئي قط متبذلاً في مجلسه، ولا متخففاً في ملبسه، ولا فارق الدراعة إلا والقميص من دونها، والمبطنة من دونه ولا الخف في أكثر أوقاته إلا إذا أوى إلى فراشه أو قعد مع حرمه. وقد فعل أبو الحسن علي ابن عيسى مع أبي علي بن مقلة مشبهاً بما فعله مع أبي عيسى أخي أبي صخرة، وذلك أنه بلغه عمل المقتدر بالله على صرفه بأبي علي وكان متقلداً له إذ ذاك على عدة دواوين فاستدعاه وطالبه بأعمال يعملها له، فوعده بها. وحضر مجلسه بعد أيام فاعتمد الغض منه بأن قال له على ملاء من الناس: كنت التمست منك أعمالاً فأخرتها، فإن كنت عاجزاً عنها وغير ناهض بها فاصدق عن نفسك. فقال أبو علي: قد أحضرتها وها هي. ووضعها بين يديه وأخذ يقرؤها ويواقفه على غلط بعد غلط فيها، ويقبل على مشايخ الكتاب فيعجبهم من ضعف صناعته وقلة بصيرته، وحتى قال له في بعض القول: هذه حياكة لا كتابة. وضرب على عمل، بعد عمل ورسم في تضاعيفه ما يجب أن يبنى عليه نظمه وترتيبه، والكتاب الحاضرون يثنون عليه بحسن الكفاية، ويغمزون على أبي علي بضعف المعرفة. ثم رمى بها إليه وقال له: قم فاعملها على هذا المثال وحررها وجئني بها، فقام يجر رجليه. فلما ولى قال أبو الحسن: إن أمراً عجز عنه ابن الفرات ونحن فيه مرتبكون، ويدعي هذا القيام به لأمر عجيب، فما مضى على هذا المجلس أربعة أو خمسة أيام حتى قبض على أبي الحسن علي بن عيسى
(1/352)
________________________________________
وسلم إلى أبي علي بن مقلة. فأراد الغض من علي بن عيسى بأمر يظهره وشيء يقدح فيه به، فلم يستطع ذلك، ولا قدر على أكثر من تلقيه بالقبيح، ومعاملته بالمكروه الفظيع. فحدث أبو أحمد الفضل ابن عبد الرحمن بن جعفر قال: كنت بحضرة أبي علي بن مقلة في وزارته، وقد دخل إليه علي بن عيسى، فجلس بين يديه. وكان أبو عبد الله الموسوي العلوي وأبو علي الحسن بن هارون حاضرين، فقال أبو علي بن مقلة للحسن بن هارون: اكتب رقعةً عن أبي عبد الله يشكو فيها إخلال ضيعته وقصور مراده منها وفائدته. ومثل له إيجاب مظلمة وإطلاق معونة. فكتبها الحسن وعرضها فوقع على ظهرها بإخراج الحال، وأنفذ التوقيع إلى الكاتب. فأخرج ما صدق فيه دعوى أبي عبد الله، ووقع أبو علي تحت ذلك بأن يطلق له عشرون كراً حنطة وعشرون كراً شعيراً معونةً، ويحتسب له بكذا منسوباً إلى المظلمة. فاستحسن الحاضرون فعله وما تكرم به على رجل علوي، وأخذ أبو الحسن علي بن عيسى يشكره. فقال له مجيباً. فلم لم تفعل مثل هذا يا أبا الحسن في وزارتك؟ فنهض أبو الحسن وقال: أستودع الله الوزير. وانصرف. وقيل: إن أبا عمر دخل إلى أبي الحسن علي بن عيسى يوماً وعليه قميص دبيقي شقيري مرتفع الثمن جداً، فأراد أبو الحسن أن يخجله فقال له: بكم اشتريت أيها القاضي شقة هذا القميص؟ قال: بمائة دينار. فقال أبو الحسن: ولكنه اشتريت لي شقة هذه الدراعة والقميص الذي تحتها بعشرين ديناراً. فقال له أبو عمر
(1/353)
________________________________________
مسرعاً: الوزير أعزه الله يجمل الثياب فلا يحتاج إلى المبالغة فيها، ويخدمه الخواص الذين يعلمون أنه يدع الكثير عن قدرة، ونحن نتجمل بالثياب ونغالي فيها، ونلاقي العوام الذين يساسون بما يروق عيونهم من جلالتها، وتقام الهيبة بما يكبر في صدورهم من فخامتها. فكأنما ألقم أبا الحسن حجراً فما، أعاد عليه قولاً ولا رد جواباً.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو بكر محمد بن عبد الرحمن ابن قريعة قال: حدثني مكرم بن بكر بن عمر أبو يحيى بن مكرم القاضي قال: كنت أختص بأبي الحسن علي بن عيسى وربما شاورني في أموره. فدخلت له يوماً فرأيته، مهموماً فقدرت أنه بلغه عن المقتدر بالله ما يشغل قلبه فاقتضى تقسمه فقلت: أرى الوزير؟ أيده الله مفكراً، فهل حدث شيء؟ وأومأت إلى جهة الخليفة. فقال: ليس ما أنا مغموم به من ذلك الجنس، بل لما هو أعظم في نفسي منه. فقلت: إن جاز أن يعرفنيه الوزير فليفعل، فلعله يجد عندي فيه رأياً أو قولاً. قال: نعم. كتب إلي عاملنا بالثغر بأن أسارى المسلمين كانوا في بلد الروم على حال رفاهة وصيانة إلى أن ولى ملك الروم آنفاً حدثان منهم، فعسفا وعاقباهم وأجاعاهم وأعرياهم، وطالباهم بالتنصر، وأنهم في بلاء وجهد، وهذا أمر لا حيلة فيه، ولا مقدرة على دفع ما أظل هؤلاء المساكين، ولو ساعدني الخليفة على إنفاق الأموال وتجهيز الجيوش إلى هؤلاء الكفار لفعلت في ذلك غاية ما أوجبه الله علينا من بذل الوسع والإمكان. فقلت: عندي أيها الوزير رأي في هذا الأمر ربما نفع وكان أسهل مما تحسب وتقدر. قال: قل يا مبارك. قلت: بأنطاكيه عظيم للنصارى يدعى البطرك
(1/354)
________________________________________
وببيت المقدس آخر يقال له الجاثليق، وأمرهما ينفذ على ملك الروم، لأن أمورهم لا تتم إلا بهما، والطاعة لا تلزم جمهور رعيتهم إلا بقولهما، وربما حرما الواحد منهم فيحرم عندهم. والرجلان في ذمتنا وتحت سلطاننا، فيأمر الوزير بمكاتبة عاملي البلدين بإحضارهما وإعلامهما ما يجري على الأسارى في بلد الروم وأنه مما لم تجر به عادة، ومتى لم يزل ذلك عنهم وتستأنف حسن المعاملة معهم طولبا بجريرة ما يفعل هناك، وسلك في معاملة النصارى مثل ذلك، وننظر ما يكون الجواب. فاستدعي في الحال كاتباً وأملى عليه كتاباً في هذا المعنى وكيدةً، وأنفذها وقال لي: سريت عني قليلاً، وخففت عن قلبي شغلاً. فلما كان بعد شهرين وأيام وقد أُنسيت الحديث جاءني فرانق من بابه يستدعيني. فركبت وأنا متشوق إلى معرفة ما يريدني له، فدخلت وهو مسرور، ووجهه مسفر، فحين رآني قال لي: أحسن الله جزاءك عن نفسك ودينك وعني. فقلت: ما الخبر؟ قال: كان رأيك في أمر الأسارى ببلد الروم أصوب رأي وأصحه، وهذا رسول العامل وأومأ إلى رجل بحضرته قد ورد لذكر ما جرى في بابهم. وقال له علي بن عيسى: عرفنا الصورة. فقال الرجل: أنفذني العامل مع رسول البطرك والقاثليق الذي أنفذاه إلى قسطنطينية، وكتبا على يده إلى ملكي الروم: بأنكما قد فعلتما بأسارى المسلمين عند كما ما هو محرم عليكما ومخالف لوصية المسيح عليه السلام في أمثالهم، وأمره فيمن جرى مجراهم. فإما زلتما عن هذه
(1/355)
________________________________________
الطريقة وعدلتما عنها إلى ما تقتضيه السنة المأثورة وأحسنتما إلى من في أيديكما، وتركتماهم على أديانهم، ولم تكرهاهم على خلاف آرائهم، وإلا لعنا كما وتبرأنا منكما وحرمناكما. فلما وصلنا إلى القسطنطينية أوصل رسول البطرك والقاثليق إلى الملكين وحجبت وخلوا به ووقفا على ما ورد معه، وتركانا أياماً ثم أحضراني إليهما، فسلمت عليهما وقال لي ترجمانهما: الملكان يقولان: الذي أُدي إلى ملك العرب من فعلنا بأسارى المسلمين كذب وشناعة، وقد أذنا في دخولك دار البلاط لتشاهدهم وتسمع شكرهم وتعلم استحالة ما ذكر لكم في أمرهم. وحملت إلى دار البلاط فرأيتهم كأنهم خارجون من القبور، وقائمون إلى النشور، ووجوههم دالة على ما كانوا فيه من الضر والعذاب، إلا أنهم في حال صيانة مستأنفة، ورفاهة مستجدة، وتأملت ثيابهم فكانت جدداً كلها، فتبينت أنني أخرت ذلك التأخير حتى غير أمرهم وجدد زيهم، وقالوا لي: نحن شاكرون للملكين فعل الله لهما وصنع مع إيمائهم إلي بأن حالهم كانت على ما تأدى إلينا، وإنما خفف عنهم وأحسن إليهم بعد حصولي هناك. وقالوا لي في عرض قولهم: كيف عرفت صورتنا؟ ومن تنبه على مراعاتنا حتى أنفذك من أجلنا؟ فقلت: ولي الوزارة الوزير أبو الحسن علي ابن عيسى وبلغه خبركم، فأنفذ وفعل كذا وكذا. فضجوا بالدعاء له، وسمعت امرأة منهم تقول: قر يا علي بن عيسى، لا نسي الله لك هذا الفعل. قال أبو يحيى بن مكرم: فلما سمع الوزير ذلك بكى بكاء شديداً، ثم سجد لله تعالى شاكراً وحامداً، وبر الرسول وصرفه. وقلت لعلي بن عيسى: أسمعك
أيها الوزير تتبرم بالوزارة في خلواتك، وترغب في الانصراف عنها تحرجاً من آثامها، فلو كنت معتزلاً لها ومتخلياً منها هل كنت تقدر على مثل هذه الحال الجامعة لجمال الدنيا وثواب الآخرة وطيب السمعة وحسن العاقبة؟ أيها الوزير تتبرم بالوزارة في خلواتك، وترغب في الانصراف عنها تحرجاً من آثامها، فلو كنت معتزلاً
(1/356)
________________________________________
لها ومتخلياً منها هل كنت تقدر على مثل هذه الحال الجامعة لجمال الدنيا وثواب الآخرة وطيب السمعة وحسن العاقبة؟ وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني الفضل بن أحمد الحياني قال: قال لي أبو بكر الشافعي صاحب أبي الحسن علي بن عيسى: كان المحسن بن علي ابن محمد بن الفرات قبض علي في نكبة أبي الحسن علي بن عيسى، وصادرني وأوقع بي مكروهاً، وجعل التأول على اختلاطي بأبي الحسن وصحبتي إياه. فلما أُخرجنا من المحنة، وعاد أبو الحسن إلى الوزارة، طلبت الانتفاع بأمور أُخاطب فيها، وأُخلف بعض المصادرة منها، فتصديت لأخذ الرقاع بالحوائج، وعرضها على أبي الحسن. فاتفق أن عرضت عليه في بعض الأيام شيئاً استكثره وضجر علي به، فقلت: أيها الوزير إذا كان حظنا من أعدائك في أيام نكبتك الصفع، ومنك في أيام ولايتك المنع، فمتى ليت شعري يكون النفع؟ فضحك ووقع لي في جميع الرقاع، وما استثقل شيئاً رفعته إليه بعد ذلك.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو السري عمر بن محمد القارئ قال: حدثني أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى قال: قال لي أبي: عرض علي أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي في بعض أيام وزارتي رقعةً التمس فيها محالاً، وقبل يدي، وتركتها من يدي مفكراً فيما أفعله مما أبلغ به غرضه ولا يلحقني عيب فيه. وعرض لي رأي في الركوب، فنهضت، فلما رأى ذلك قبض على يدي وقال: أنا نفي من العباس إن تركت الوزير يركب إلا بعد أن يوقع في رقعتي أو يقبل يدي كما قبلت يده. فوقعت له قائماً بما أراد، وعجبت من سوء أدبه وشدة وقاحته.
قال القاضي أبو علي: وشاهدت أنا أبا بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز هذا
(1/357)
________________________________________
في سنة خمسين وثلاثمائة، وقد تقلبت به الأيام وبأهل بيته، وهو بحضرة أبي محمد المهلبي، وقد كان العيارون ثاروا بمدينة السلام وأوقعوا فتناً عظيمة، أصلها أن عربد رجل عباسي على رجل علوي في خندق طاهر وهما على نبيذ، فقتل العلوي، ونفر أهله واستغاثوا لأجله، ودخل العامة بين الفريقين، وشرفت القصة إلى ما احتيج معه إلى إقامة الديلم في الأرباع وترتيبهم في كثير من الأصقاع، وحتى أغلق العباسيون باب المسجد الجامع بالمدينة، ومنعوا من صلاة الجمعة، وزادوا في إشعال النائرة. ودبر أبو محمد الأمر بأن قبض على جماعة من وجوه العباسيين وكثير من المستورين والعيارين، وأدخل فيهم عدة قضاة وشهود وصلحاء عباسيين، وكان منهم أبو بكر بن عبد العزيز. ثم جلس لهم وأحضرهم وناظرهم، وسامهم أن يسموا له العيارين وحملة السكاكين ليقتصر على أخذهم، ويفرج عن الباقين، وأن يضمن أهل الصلاح منهم أهل الريبة، ويأخذوا على أيديهم أخذاً يحسم به مواد الفتنة. فأخذ القاضي أبو الحسن محمد بن صلح الهاشمي يقول قولاً سديداً لطيفاً في دفع ذلك واستعطاف أبي محمد المهلبي وترقيقه، والرفق به وتسكينه، واعترض أبو بكر بن عبد العزيز الخطاب، وقال قولاً فيه بعض الجفاء والغلظة. فقال له أبو محمد: يا ماض كذا وكذا، ما تدع جهلك وتبسطك، ولا تخرج هذه الخيوط من رأسك، كأني لا أعرفك قديماً وحديثاً أعرف حمقك وحمق أبيك وتدرعك في مجالس الوزراء وإيثارك أن تقول: قال الوزير وقلت. ولعلك تقدر أن المقتدر بالله على السرير، وأنني أحد وزرائه، ليس ذاك كذلك، السلطان اليوم الأمير معز الدولة الذي يرى سفك دمك قربة إلى الله تعالى وينزلك منزلة
(1/358)
________________________________________
الكلب. يا غلمان برجله. فجر برجله ونحن حاضرون. فقال القاضي: فلقد رأيت قلنسوة كانت على رأسه وقد سقطت. ثم قال: طبقوا عليه زورقاً وانفوه إلى عمان. فقبلت الجماعة يده وسألته الصفح عنه، وراسله المطيع لله رحمه الله عليه في أمره مراسلات ترددت إلى أن تركه وألزمه بيته. وأخذ خطوط العباسيين بجميع ما كان سامهم إياه وامتنعوا منه، وقبض من بعد على جماعة كثيرة من أحداث العباسيين وأهل العيارة والدعارة منهم ومن العامة، وجعلهم في زواريق مطبقة مسمرة، وأنفذهم إلى بيروذ وبصني، وحبسهم هناك في دور بقيتهم بعد وفاة أبي محمد المهلبي بسنين، وزالت الفتن في تلك الأيام.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي قال: كانت عادة أبي الحسن بن الفرات في كلامه أن يقول للإنسان: بارك الله عليك. ومن عادة أبي الحسن علي بن عيسى أن يقول: والك أو واك فكان الناس يقولون: لو لم يكن من الفرق بين الرجلين إلا حسن اللقاء وصرف ما بين القولين.
وحكي أبو محمد الصلحي قال: لما صرف الراضي بالله أبا علي عبد الرحمن ابن عيسى عن وزارته ونكبه ونكب أبا الحسن علي بن عيسى وصادر أبا الحسن على ألف ألف درهم وعبد الرحمن على ثلاثة آلاف دينار وكان ذلك طريقاً وحصل أبو الحسن معتقلاً في دار الخلافة، وخاف أبو الحسن أن يكون في نفس
(1/359)
________________________________________
الراضي بالله عليه ما يريد معه قتله، فراسلني يقول: هذا أبو محمد وكان إذ ذاك كاتب أبي بكر بن رائق يسألني خطاب الراضي بالله عن صاحبي في نقله إلى دار وزيره إلى أن يؤدي ما قرر عليه أمره. قال: فجئت إلى الراضي بالله وقلت له: يا أمير المؤمنين، علي بن عيسى خادمك وخادم آبائك، ومن قد عرفت محله من الصناعة، وموقعه من جمال المملكة، ومن حاله وأمره كذا وكذا. فقال: هو كذلك، ولكن له عندي ذنوب. وأخذ يعدد ذنوب عبد الرحمن: فقلت له: يا مولانا، وأي درك يلزمه فيما قصر فيه أخوه؟ قال: سبحان الله، وهل دبر عبد الرحمن إلا برأيه وأمضى شيئاً أو وقفه إلا عن أمره أو أمري إياه بألا يحل ولا يعقد إلا بموافقته؟ وأقبلت أعتذر له وأجعل بإزاء كل ذنب حجة. قال: دع ذا، ما خاطبني قط إلا قال واك فهل يتلقى الخلفاء بمثل ذاك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن هذا طبع له قد ألف منه وحفظ عليه، وعيب به في أيام خدمته للمقتدر بالله رحمة الله عليه وما استطاع أن يفارقه مع شبه عليه وتعوده إياه. فقال: أعمل على أنه خلق، أما كان يمكنه أن يغيره مع ما وصفته من فضله وعقله، أو يتحفظ معي خاصة فيه مع قلة اجتماعي معه ومخاطبتي إياه؟ وما يفعل ما يفعله إلا عن تهاون وقلة مبالاة. فقبلت الأرض مراراً بين يديه وقلت: الله الله أن يتصور مولانا ذلك فيه، وإنما هو عن سوء توفيق، والعفو من أمير المؤمنين مطلوب. ولم أزل إلى أن أمر بنقله إلى دار وزيره، ونقل وصحح ما أُخذ به خطه، وصرف إلى منزله. وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني جماعة من أهل الحضرة أن رجلاً
(1/360)
________________________________________
عطاراً مشهوراً بالستر والصيانة ركبه دين، فقام عن دكانه ولزم منزله، وأقبل على الصلاة والدعاء عدة ليال، فبينما هو قد صلى ذات ليلة ودعا، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول له: امض إلى علي بن عيسى الوزير، فقد أمرته بأن يدفع إليك أربعمائة دينار تصلح حالك بها. قال العطار: وكان علي ستمائة دينار ديناً، وأصبحت فقلت: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي فلم لا أمضي إلى الوزير وأعرف ما عنده؟ قال: فمضيت، فلما وقفت على بابه منعت الوصول وجلست إلى أن ضاق صدري، وهممت بالانصراف، فأنا على ذاك إذ خرج الشافعي صاحبه وكان يعرفني معرفةً قريبة فقمت إليه وعرفته خبري فقال: يا هذا إن الوزير يطلبك منذ السحر، وإلى الآن قد سأل عنك كل واحد، والرسل مبثوثة في التماسك، فكن بمكانك. قال: ودخل، فما كان بأسرع من أن دعي بي، فدخلت إلى الوزير أبي الحسن، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: فلان بن فلان العطار. قال: من أهل الكرخ؟ قلت: نعم، قال: أحسن الله يا هذا جزاؤك في قصدك إياي، فوالله ما تهنأت عيشاً منذ البارحة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي في منامي: أعط فلان بن فلان العطار بالكرخ أربعمائة دينار يصلح بها شأنه. فكنت اليوم منذ الغداة وإلى هذه الغاية أسأل عنك، وما عرفنيك أحد. يا غلام هات ألف دينار. فجيء به عيناً، فقال: خذ منه أربعمائة دينار امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والستمائة الباقية هدية مني إليك. فقلت: أيها الوزير ما أحب أن أزداد شيئاً من عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أرجو البركة فيه. فبكى وقال: ما أحسن هذا اليقين؛ خذ ما بدا لك. فأخذت
(1/361)
________________________________________
أربعمائة دينار وانصرفت، وقصصت قصتي على صديق لي، ورجيته الدنانير وكلفته أن يخبر غرمائي بأمري، ويتوسط ما بنيهم وبيني. ففعل، وبذلوا له تأخيري بما لهم ثلاث سنين، فقلت: لا بل يأخذون مني الثلث وينظروني بالباقي. ففرقت عليهم مائتي دينار وفتحت دكاني وأدرته بالمائتين الباقية معي، فما حال الحول إلا وقد بلغ مالي ألف دينار، فوفيت غرمائي ما بقي لهم، وما زالت حالي تنمو ومالي يزيد ولله الحمد.
وكان الحنابلة بنوا مسجداً، وجعلوه طريقاً إلى المشاغبة والفتنة، فتظلم إلى أبي الحسن علي بن عيسى من أمره، فوقع على ظهر القصة: أحق بناء بهدم، وتعفية رسم، بناء أُسس على غير تقوى من الله. فليلحق بقواعده إن شاء الله.
وكان أبو الحسن بن نيداد يتقلد كور الأهواز، فتربص بأُزر من ارتفاع الناحية، فوقعت فيه النار واحترق، فكتب إلى علي بن عيسى كتاباً أقام به عذره، وسجع في كتابة سجعاً زاد فيه، فوقع علي بن عيسى على ظهر الكتاب: أنت يا أبا الحسن تكتب فتجيد، والاسم الحميد خير من الكلام السديد، ضيعت علينا أرزاً حصلته، وعولت بنا على كلام ألفته، وخطاب سجعته، أوجب صرفك عما توليته، والسلام. فقال أبو الحسن بن نيداد: ما صرفني غير السجع. وكتب إليه. وصل كتاب سيدنا الوزير أطال الله بقاءه مشتملاً على وصف وصرف. فأما الوصف فهو منه أدام الله تأييده مع محله من الصناعة نهاية الفخر والسعادة. وأما الصرف عن الاعتذار، بما جرى به المقدار، فما جزاء من اعتذار من حال لأدرك عليه فيها أن يصرف عن ولاية لا جناية منه عليها، والاعتذار بلفظ الصواب، أولى من الاحتجاج بسوء الخطاب.
(1/362)
________________________________________
فوقع علي بن عيسى عن جوابه: قد أدته البلاغة إلى الإرادة، فليكتب بإقراره على العمل، وإسعافه بالأمل، إن شاء الله. وورد الحضرة قوم من أهل ديار ربيعة يتظلمون من حيف لحقهم في معاملاتهم، فكتب على أيديهم إلى المحسن بن محمد بن عينونة العامل هناك كتاباً نسخته. بسم الله الرحمن الرحيم. في علمك أكرمك الله بما أمر الله به من العدل والإحسان، ونهى عنه من الجور والعدوان، وعاقب به الظالمين في سالف الأزمان، غني لك عن التنبيه والتوقيف، والوعظ والتخويف: وفيما رسمته لك مشافهة ومكاتبة في إنكار الظلم وإزالته، وإظهار العدل وإفاضته، كفاية وبلاغ. وقد ورد الحضرة أكرمك الله جماعة من وجوه التناء والمزارعين بديار ربيعة متظلمين مما عوملوا به في سني إحدى واثنتين وثلاث عشرة وثلاثمائة، من إكراههم على تضمن غلات بيادرهم بالحزر والتقدير وإلزامه حق الأعشار في ضياعهم على التربيع، واستخراج الخراج منهم على أوفر عبر قبل إدراك غلاتهم وثمارهم، وإكراه وجوههم وتجارهم على ابتياع الغلات السلطانية بأسعار مسرفة مجحفة. فأقلقني ما أفاضوا فيه من الشكوى، وآلمني ما انتهى إلي وصفه من عظيم البلوى، ووجدته مع قبيح ذكره وعظيم وزره عائداً بخراب الضياع، ونقصان الارتفاع. فينبغي أكرمك الله أن تجري سائر رعيتك على المعاملات القديمة، وتحملهم على الرسوم السليمة، حتى يعودوا إلى أفضل حال عهدوها، وأجمل سيرة حمدوها، وتزيل السنن الجائرة وتبطلها، وتقطع أسبابها وتحسمها، وتكتب إلي بما يكون منك في ذلك فإنني على اهتمام به، ومراعاة له، إن شاء الله.
(1/363)
________________________________________
وكتب إلى عبد الله بن علي الجرجرائي عامل الصلح والمبارك.
وصل كتابك أكرمك الله جواباً عن الكتب النافذة إليك فيما تظلم منك فيه جماعة من الرعية، وواصلوه من الشكية، بما دللت عليه من بطلان أقوالهم، وشدة أطماعهم، وحكيت من وجوبه عليهم بالحجج الواضحة، والشواهد اللائحة، وفهمته. فأما ما وصفته من استعمالك الحق في قولك وفعلك، وحلك وعقدك، فانظر أي دعوى أدعيتها لنفسك، وماذا تحتج به غداً عند ربك. واعلم أن أقبح الناس في الدنيا ذكراً، وأعظمهم عند الله وزراً، من وصف عدلاً وأتى جوراً، وأحسن قولاً وأساء فعلاً. وأما ما ذكرت أن هؤلاء المتظلمين أوقعوا فيه المغابنة، وابتاعوه من أراضي المزارعات مصابرة، فارتجعته منهم لتبيعه بالثمن الوافر، والنقد الحاضر، فقد عدلت في أمرهم عن طريق الحكم، ألى أشنع جهات الظلم. ولو بانت دعواك وظهرت، وقامت البينة عليها ووضحت، لما جاز أن تمنعهم عما ملكوه، ولا تحول بينهم وبين ما ابتاعوه، إلا بعد أن يختاروا فسخ البيع ويرضوه، ويؤثروه ولا يأبوه، وترد عليهم من الثمن ما وزنوه، وتدفع فيما بينك وبينهم بنظر محمد بن محمد ابن حمدون ووساطته، ولا تعدل عن قبول رأيه ومشورته. وأما ما أنفذته من العمل لبقايا سنة ثمان وثلاثمائة وما قبلها وبينت أن معظمه على الطائفة المتظلمة منك، فقد وقفت عليه، وأحوال هذه البقايا مختلف، والحكم فيها واضح منكشف، وسبيل ما كان منها على الجهابذة والبلدية، وسكان المستغلات السلطانية، أن تستخرجه في أسرع الأوقات، وتستوفيه على تصرف الحالات. وما نقاه المحملون وأصحاب المناثر
(1/364)
________________________________________
عن نقائض قناب الحاصل، ووصفوا أن تصحيحه واجب على أرباب البيادر، فسبيلك أن تجريه مجرى أسلاف البذور التي تستنظفها، مع التوثق منها بعد شهور. وما بقي من الأسماء المجهولة ولا أشك أنه من خراج نخل وخضر في أقرحة معروفة فيجب أن تطالب مزارعي تلك الأقرحة حتى يصححوه، أو يكشفوا حاله ويوضحوه، فاعمل في ذلك بما رسمته، ولا تتجاوز ما حددته، إن شاء الله. وأما ما ذكرت أن ابن المرف الذراع أشار عليك بإيقاع المساحة عليه من حريم الأنهار، المحفوف بالنخل والأشجار، لتطالب بابتياعه، من تجده قد فاز بارتفاعه، فقد غشك هذا الذراع في مشورته، ودلك على سوء سريرته. وجميع نواحي واسط أصلحك الله من السواد المفتتح عنوة، وليس يملكه السلطان أعزه الله فيباع، لأنه فيء للمسلمين يقوم مقام الوقف على جميعهم، وإنما تبايع أهليه فيه يجري مجرى السكني لأجل ما أدوه ويؤدونه من الخراج وهو الكراء، ومن غرس في هذا الحريم نخلاً أو شجراً، أو زرعه غلةً أو خضراً، فقد نفع سلطانه أعزه الله وانتفع، وثمر ماله بما صنع. فاحذر أن يخطر هذا الباب ببالك، أو يجري ذكره على لسانك، وارجع عما يعزب عنك فهمه ويشكل عليك حكمه إلى الفقهاء، لتسلم من سمه المسبة، وتأمن سوء المغبة، إن شاء الله.
وحدث أبو الحسن علي بن هشام قال: أقرأني أبو عبد الله أحمد بن محمد الحليمي كتاباً بخط أبي الحسن علي بن عيسى ذكر أنه كتبه إليه في وزارته الأخيرة وهو يتقلد طساسيج طريق خراسان، يحثه فيه على حمل المال وكانت نسخته:
(1/365)
________________________________________
قد كنت أكرمك الله عندي بعيداً من التقصير، غنياً عن التنبيه والتبصير راغباً فيما خصك بالجمال، وقدمك على نظرائك من العمال، واتصلت بك ثقتي، وانصرفت نحوك عنايتي، ورددت الجميل من العمل إليك، واعتمدت في المهم عليك. ثم وضح عندي من أثرك، وصح عندي من خبرك، ما اقتضى استزادتك، وردفه ما استدعى استبطاءك ولائمتك، وأنت تعرف صورة الحال، وتطلعي مع شدة الضرورة إلى ورود المال. وكان يجب أن تبعثك العناية، على الجد في الجباية، حتى ترد حمولك، ويتوصل ما نتوقع وروده من جهتك. ونشدتك بالله لما تجنبت مذاهب الإغفال والإهمال، وقرنت الجواب على كتابي هذا بمال تميزه من سائر جهاته وتحصله، وتبادر به وتحمله، فإن العين إليه ممدودة، والساعات لوروده معدودة، والعذر في تأخره ضيق، وأنا عليك من سوء العاقبة مشفق، والسلام.
وحدث أبو الحسين علي بن هشام قال: سمعت أبا عبد الله الباقطائي يقول: لما غلب السجزية على فارس، جلا قوم من أرباب الخراج عنها لسوء المعاملة، ففض خراجهم على الباقين، وكمل بذلك قانون فارس القديم، ولم تزل هذه التكملة تستوفى على زيادة تارةً، ونقصان أُخرى. وافتتح أبو الحسن ابن الفرات فارس في وزارته الأولى سنة ثمان وتسعين ومائتين على يد وصيف كامه، ومحمد
(1/366)
________________________________________
ابن جعفر العبرتاوي فأجرى الأمر على رسمه، وفعل مثل ذلك محمد بن عبيد الله الخاقاني وعلي بن عيسى في صدر وزارته الأولى. فلما مضى منها مديدة، ورد عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي إلى الحضرة، فتكلم علي محمد بن أحمد بن أبي البغل، وقدح فيه، وكان يتقلد فارس إذ ذاك، وخطب العمل، وبذل توفير جملة من المال، فعقد علي بن عيسى الضمان عليه، وصرف ابن أبي البغل وقلده أصبهان ثم أخر عبد الرحمن بن جعفر المال واحتج بتظلم أهل فارس من التكملة المذكورة، وامتناعهم من أدائها، فكتب علي بن عيسى إلى أبي المنذر النعمان بن عبد الله وهو يتقلد كور الأهواز بالاستخلاف على عمله، والنفوذ إلى فارس، ومطالبة عبد الرحمن بما حل عليه من المال، والنظر في أمر التكملة التي وقعت الظلامة منها، وشرح أمرها وحل ضمان عبد الرحمن، وعقد البلد على أحمد بن محمد ابن رستم، وكتب إلى ابن رستم بأن يصير من أصبهان إلى فارس، ليعقد له عليه.
فلما وصل النعمان إلى هناك وجد قطعة من التكملة على عبد الرحمن. وقد رام أن يكسرها، فعسفه وباع شيئاً من أملاكه حتى استوفى ما عليه، واستخرج مال التكملة من الناس، وكتب إلى علي بن عيسى بأن العمال يستضعفون قوماً من أرباب الخراج فيلزمونهم من التكملة أكثر مما يلزمهم ويرهنون آخرين فيحملونهم أقل مما يخصهم. وقال هو وابن رستم: وإن من طرائف ما يجري بفارس مطالبة الناس بهذه التكملة وهي ظلم لا شك فيه ولا شبهة، ومما سنه الخوارج جوراً
(1/367)
________________________________________
ومجازفة. وإن هناك مما قد أُغضي عنه لأربابه، والمطالبة به أولى وأحق، وهو خراج الشجر، لأن فارس افتتحت عنوة، وهي في أيدي المزارعين على سبيل الإجارة، ولا حجة لهم في دفعهم إلا دعواهم أن المهدي أسقطه عنهم. وعرف أهل بلاد فارس ما يجري من الخوض في هذا الأمر، فورد قوم من أجلادهم إلى حضرة علي بن عيسى، ودخلوا عليه في يوم جلوسه للمظالم وقالوا: نمنع غلاتنا وتعتاق في الكناديج حتى تهلك وتصير هكذا وطرحوا من أكمامهم حنطة محترقة ونطالب بتكملة ما أوجبه الله علينا فتدعونا الضرورة إلى بيع نفوسنا وشعور نسائنا وأدائها حتى تطلق الغلة وهي على هذه الصورة ثم رموا من أكمامهم تيناً يابساً وخوخاً مقدداً ولوزاً وفستقاً وبندقاً وغبيراء ونبقا وعنابا وقالوا: وهذا كله بلا خراج لقوم آخرين، والبلد فتح عنوة فإما تساوينا في العدل أو الجور. فأنهى علي بن عيسى ذلك إلى المقتدر بالله، وجمع القضاة والفقهاء ومشايخ الكتاب والعمال وجلة القواد في دار الوزارة بالمخرم وقد جعلها ديواناً وتناظر الفريقان من أرباب الشجر وقد ورد منهم قوم وأرباب التكملة. فقال أرباب الشجر: هذه أملاك قد أنفقنا عليها أموالنا حتى نبتت الغروس فيها، وحصل لنا بعض الاستغلال منها، ومتى ألزمت الخراج بطلت قيمتها، وقد كان المهدي أزال المطالبة برسم الخراج عنها. وقال المطالبون بالتكملة ما شكوا به حالهم فيها، واستمرار الظلم عليهم بها. ورجع إلى الفقهاء في ذلك فأفنوا بوجوب الخراج وبطلان التكملة. وقال
(1/368)
________________________________________
الكتاب: إن كان المهدي شرط شرطاً لمصلحة رآها في الحال ثم زالت سقط الشرط ورجع الحكم إلى الأصل. وقال لهم علي بن عيسى: أليس احتجاجكم بأن المهدي إمامم رأى رأياً فيه صلاح ففعله؟ قالوا: بلى. قال: فإن أمير المؤمنين الإمام قد رأى أن من الأحوط للمسلمين إلزام الشجر الخراج وإزالة التكملة. فقام الزجاج ووكيع القاضي فدعوا له وأثنيا عليه. وقال وكيع: لقد فعل الوزير في هذه القصة كفعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مطالبته أهل الردة بالزكاة. وأنهى علي ابن عيسى والقضاة ما جرى للمقتدر بالله في يوم الموكب، واستأذنه في كتب الكتاب بإسقاط التكملة عاجلاً إلى أن يتقرر أمر الشجر. فأمره بكتب ذلك في الحال بحضرته، وأحضرت له دواة وكان رسم الوزراء إذا أرادوا كتب كتاب بحضرة الخليفة أن تحضر لهم دواة لطيفة بسلسلة فيمسكها الوزير بيده اليسرى، ويكتب بيده اليمنى وبدأ علي بن عيسى يكتب بغير نسخة، فلما رآه المقتدر بالله وقد شق ذلك عليه أمر بإحضار دواته وأن يقف بعض الخدم معه فيمسكها إلى أن يفرغ من كتابته. وكان أول وزير أُكرم بهذا، ثم صار رسماً للوزراء بعده فكانت نسخة ما كتبه علي بن عيسى:

بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين إلى النعمان بن عبد الله، سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فإن أفضل الأعمال قدراً، وأجملها ذكراً، وأكملها أجراً، وأذخرها ذخراً، ما كان للتقى جامعاً، وللهدى تابعاً، وللورى نافعاً، وللبلوى دافعاً، وقد جعل
(1/369)
________________________________________
الله أمير المؤمنين فيما استرعاه من أمور المسلمين مؤثراً ما يرضيه، مثابراً على ما يزلف عنده ويحظيه، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل، وبه يستعين. وقد عرفت حال السجزية والخرمية الذين تغلبوا على كور فارس وكرمان، واستعملوا الجور والعدوان، وأظهروا العتو والطغيان، وانتهكوا المحارم، وارتكبوا العظائم، حتى أنفذ أمير المؤمنين جيوشه إليهم، وتورد بها عليهم، فأزالهم وأبادهم، وشتتهم وأبارهم بعد حروب تواصلت، ووقائع تتابعت، أحل الله بهم فيها سطوته، وعجل لهم نقمته، وجعلهم عبرةً للمعتبرين، وعظةً للمستمعين. " وَكَذَلِكَ أَخْذ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَديِدٌ " ولما محق الله أمر هؤلاء الكفار، وفرق عدد أوباشهم الفجار، وجد أمير المؤمنين أفظع ما اخترعوه، وأشنع ما ابتدعوه، في مدتهم التي طال أمدها، وعظم ضررها، تكملة اجتبوها بكور فارس في سني غوايتهم لما طالبوا أهلها بالخراج على أوفر عبرتهم من غير اقتصار فيه على الموجودين، حتى فضوا عليهم خراج ما خرب من ضياع المفقودين، فأنكر أمير المؤمنين ما استقر من هذا الرسم الذميم، وأكبر ما استمر به الظلم العظيم، ورأى صيانة دولته عن قبيح معرته، وحراسة رعيته من عظيم مضرته، مع كثرته ووفور جملته. فارفع عن الرعية هذه التكملة رفعاً مشهوراً، فقد جعل الله من سنها مدحوراً. وناد في المساجد الجامعة بإزالتها وإبطال جبايتها. ليذيع ذلك في الجمهور، ويتمكن السكون إليه في الصدور، ويحمد الله الكافة على ما أتاحة الله لها من تعطف أمير المؤمنين ورعايته، وجميل حياطته
(1/370)
________________________________________
وعنايته، وأجب بما يكون منك في ذلك، فإن أمير المؤمنين يتوكفه ويراعيه ويتشوفه إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله. وكتب علي ابن عيسى يوم الخميس النصف من رجب سنة ثلاث وثلاثمائة. وقد كان علي بن عيسى نظر في سنة اثنتين وثلاثمائة الخراجية لأهل هذه التكملة بألف ألف درهم قبل أن يستقر على أرباب الشجر الخراج. ثم تقرر على أن يقارب أهله فيه ويلزموا طسوقاً مخففة عنه، وفعل النعمان في ذلك فعلاً وفق به، وكان ما ارتفع منه قريباً من مال التكملة. وكتب علي بن عيسى في أمر الشجر بما نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين إلى أحمد بن محمد بن رستم، سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فأن الله بعظيم آلائه، وقديم نعمائه، وجميل بلائه، وجزيل عطائه، جعل أموال الفيء للدين قواماً، وللحق نظاماً، وللعز تماماً، فأوجب للأئمة جبايتها وحرم عليهم إضاعتها، إذا كان ما يجتبى منها عائداً بصلاح العباد، وحراسة البلاد، وحماية البرية، وحياطة الحوزة والرعية، ولذلك يعمل أمير المؤمنين فكره ورويته، ويستفرغ وسعه وطاقته في حراستها وحياطتها، وقبض كل يد عن تحيفها وتنقصها، والله ولي معونته بمنه ورحمته. ولما فتح الله كور فارس على المسلمين، وأزال عنها أيدي المتغلبين، وجد أمير المؤمنين أهلها قد احتالوا في أسقاط خراج
(1/371)
________________________________________
الشجر بأسره، مع كثرته وجلالة قدره، فأمر بإشخاص وجوههم إلى حضرته، واتصلت المناظرة لهم بمشهد من قضاته وخاصته، إلى أن اعترفوا به مذعنين، والتزموه طائعين، وضمنوا أداء ما أوجبه الله فيه من حقوقه على ما تقرر من وضائعه وطسوقه فطالب بخراج الشجر، في سائر الكور، على استقبال سنة ثلاث وثلاثمائة. فاستخرجه واستوف جميعه واستنظفه واكتب بما يرتفع من مساحته ويتحصل من مبلغ جبايته، متحرياً للحق، متوخياً للرفق إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله. وكتب علي بن عيسى يوم الاثنين لعشر ليال خلون من شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة. وحدث أبو الحسن أحمد بن محمد بن سمعون الجرجرائي قال: كنت أخلف أبا ياسر الجرجرائي على النهروانات، فمسحنا على الناس ما يجري على الطسق من غلاتهم فإذا أحد التناء. قد أصعد إلى دار الوزير أبي الحسن علي بن عيسى ونحن لا نعلم فتظلم من أننا زدنا عليه في مساحة قراح له. فلم نشعر إلا وقد جاءنا ابن البذال العامل، وهو من وجوه العمال، ومعه فوج من مساح بادوريا، فرسان ورجالة، فلم نشك أنه صارف لنا. فقال لي صاحبي: أحب أن تتلقاه وتعرف الخبر. فتلقيته فوجدته منفذاً لاعتبار مساحة القراح الذي للرجل، وعدت إلى صاحبي
(1/372)
________________________________________
بذلك، فقال لي: ما تدري كيف جرى أمر مساحته؟ قلت: لا. قال: فاخرج حتى تواقف وتجتهد. قال: فخرجت ومعي مساح البلد الذين مسحنا بهم، وواقفنا واستقصينا، وما زلت ألطف حتى استقرت مساحة القراح على أحد وعشرين جريباً وقفيز وكنا مسحناه اثنين وعشرين جريباً. واحتججت بأن المساحة وقعت أولاً والغلة قائمة فيه، ومسح الآن بعد حصادها، وليس بمنكر أن يكون بين المساحة على الحالتين هذا القدر. وانصرف القوم وطالعوا علي بن عيسى بالصورة، فوردت علينا كتبه بالصواعق في الإنكار والتوعد وقال: والله لئن عادت ظلامة أو تحيف أحد من الرعية في معاملة أو مساحة لأقابلن على ذلك أشد مقابلة. فتحرزنا وتحفظنا وحرسنا الناس ونفوسنا، وزاد الارتفاع في السنة الآتية ثلاثةً في كل عشرة لأن العدل شاع، والحيف زال، فتوفرت العمارة.
وحدث أبو محمد ثابت بن أحمد بن المشرف كاتب بادوريا قال: كان أهل بادوريا معروفين بالجلد، وكانت لهم مظالم وقوف. ومظالم رسوم، ومظالم تدعى مظالم القرطاس. فتقلد عليهم ابن أبي السلاسل العامل وفي قلبه أحقاد، فأراد الاستقصاء عليهم والتشفي منهم. وأخرج ما عليهم من البقايا، وأضاف إليها ما رده من هذه المظالم، وحبسهم وطالبهم فامتنعوا عليه، وصبروا على الحبس، فقيدهم واحتملوا القيد، ولم يجسر على أن يوقع بهم مكروهاً خوفاً من علي بن عيسى. فأملى في بعض الأيام على كاتبه بحضرتهم رقعةً إلى علي بن عيسى يغريه فيها بهم كل إغراء ويقول: هؤلاء قوم يدلون بالجلد، وعليهم أموال قد ألطوا بها وصبروا
(1/373)
________________________________________
على الحبس والقيد، ومتى لم تطلق اليد في تقويمهم واستخراج المال منهم كسروه، وتأسى بهم أهل السواد فبطل الارتفاع، والوزير أيده الله أعلى عيناً فيما يراه من الإذن في معاملتهم بما يضطرهم إلى الخروج من الحق. قال: فجزع القوم وخافوا أن يعدو الجواب بإطلاق يده فيهم فيبلغ منهم مبلغاً يهلكون به، وهموا بالانقياد له إلى ما يريده. ثم سبروا، فورد الجواب على ظهر الرقعة بخط علي ابن عيسى: الخراج عافاك الله دين لا يجب فيه غير الملازمة فلا تتعد ذلك إلى غيره. ففرج الله عنهم، وأمضيت رسومهم، ولم يؤدوا إلا البقايا الصحيحة، وزاد ارتفاع بادوريا في السنة الثانية اثنين في كل عشرة.
وحدث أبو محمد عبد الله بن أحمد بن داسة قال: حدثني أبو سهل بن زياد القطان قال: كان أبو الحسن علي بن عيسى يدخل إلى حجرة زوجته والدة أبي القاسم ابنه في كل اسبوع. فلما نشأ أبو القاسم وترجل جاء إلى حجرة أمه في يوم نوبتها من أبيه فأقفلها عليها، وأخذ المفتاح وانصرف، ووافى علي بن عيسى على رسمه، فلما رأى الباب مقفلاً سأل عن ذلك فقيل: فعله أبو القاسم ابنك. فاستحيا وعرف غرضه، فلم يدخل من وحدث أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى قال: حدثني أبي قال: لما حبسني المقتدر بالله كنت مكرماً في محبسي، فدخلت إلي القهرمانة بعد ثمانية عشر شهراً من القبض علي وقالت: يريد الخليفة أن يجيئك فتأهب لذلك. فما مضت ساعة حتى دخل إلي مؤنس القشوري وابن الحواري وقالا لي: أراد أمير المؤمنين أن يجيئك
(1/374)
________________________________________