المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إبراز المعاني من حرز الأماني


sawsan
10-15-2019, 06:06 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: إبراز المعاني من حرز الأماني
المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
حمزة والكسائي وأبو بكر هم: تتمة من أمال "ها" من "طه"، ثم قال "حم"؛ أي: أمال حا من "حم" في السور السبع ابن ذكوان وصحبه، ثم قال: وهم وأبو عمرو أمالوا لفظ "أدري" كيف أتى نحو "أدراك" وأدراكم، وعن ابن ذكوان خلاف فيه فقوله: وبصر مبتدأ، وليس عطفا على صحبة؛ لامتناع الجمع بين الرمز والتصريح والله أعلم.
741-
وَذو الرَّا لِوَرْشٍ بَيْنَ بَيْنَ وَنافِع ... لَدى مَرْيَمٍ هَايَا وَحَا "جِـ"ـيدُهُ "حَـ"ـلا
جمع في هذا البيت ذكر من أمال شيئا من ذلك بين بين، فورش فعل ذلك في "را" من: "الر" و"المر"، ونافع بكماله في "ها"، "يا" أول مريم، وورش وأبو عمرو فعلا ذلك في "حا" من: "حم" في السور السبع، أما لفظ "أدري"، فقد علم من مذهب ورش في إمالته بين بين من باب الإمالة، وإنما ذكره الناظم هنا لأجل زيادة أبي بكر وابن ذكوان على أصحاب إمالته، وإلا فهو داخل في قوله: وما بعد راء شاع حكما فأبو عمرو وحمزة والكسائي فيه على أصولهم، والجيد كل العنق، والله أعلم.
742-
نُفَصِّلُ يَا "حَقٍّ عُـ"ـلًا سَاحِرٌ "ظُـ"ـبًى ... وَحَيْثُ ضِيَاءً وَافَقَ الهَمْزُ قُنْبُلا
قصر لفظ "يا" ضرورة، والخلاف في: {نُفَصِّلُ الْآياتِ} بالياء والنون ظاهر، ثم قال ساحر ظبي؛ يعني: قوله تعالى قبل يفصل: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} 1.
أي: ذو سحر قرأه مدلول ظبي ساحر فقوله: ساحر هو مما استغنى لميه باللفظ عن القيد، ولكنه لم يبين القراءة الأخرى والخلاف في مثل هذا دائر تارة بين ساحر وسحار على ما في الأعراف والذي في آخر يونس، وتارة هو دائر بين ساحر وسحر على ما مر في المائدة وما يأتي في طه، وظبى جمع ظبة وهي من السيف والسهم والسنان حدها؛ أي: هو ذو ظبى؛ أي: له حجج تحميه وتقوم بنصرته ثم قال: وحيث ضياء؛ أي: حيث أتى هذا اللفظ فضياء مرفوع بالابتداء على ما عرف فيما بعد حيث والخبر محذوف أي: وحيث ضياء موجود ولا تنصب حكاية لما في يونس؛ فإنه قد يكون مجرورا نحو ما في القصص: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} 2.
ثم قال: وافق الهمز قنبلا، وهو من قولك: وافقني كذا إذا صادفته من غرضك وأراد همز الياء،
__________
1 سورة يونس، آية: 2.
2 سورة القصص، آية: 71.
(1/504)
________________________________________
ولم يبين ذلك، وفي آخر الكلمة همز، فربما يتوهم السامع أنه هو المعنى، ثم لو فهم ذلك لم يكن مبينا للقراءة الأخرى؛ فإن الهمز ليس ضده إلا تركه، ولا يلزم من تركه أبداله ياء، فقد حصل نقض في بيان هاتين المسألتين؛ ساحر وضياء، فلو أنه قال: ما تبين به الحرفان لقال ساحر ظبى بسحر ضياء همزيا الكل زملا، قالوا: ووجه هذا الهمز أنه أخر الياء وقدم الهمزة، فانقلبت الياء همزة؛ لتطرفها بعد ألف زائدة كسقاء ووداء، وهذه قراءة ضعيفة فإن قياس اللغة الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما فكيف يتحيل بتقديم وتأخير إلى ما يؤدي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل هذا خلاف حكمة اللغة، قال ابن مجاهد: ابن كثير وحده "ضياء" بهمزتين في كل القرآن؛ الهمزة الأولى قبل الألف والثانية بعدها، كذلك قرأت على قنبل وهي غلط، وكان أصحاب البزي وابن فليح ينكرون هذا، ويقرءون ضياء مثل الناس، قال أبو علي: ضياء مصدرا وجمع ضوء كبساط.
743-
وَفِي قُضِيَ الفَتْحانِ مَعْ أَلِفٍ هُنَا ... وَقُلْ أَجَلُ المَرْفُوعُ بِالنَّصْبِ "كُـ"ـمِّلا
يريد: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} 1، قراءة ابن عامر على البناء للفاعل، فنصب أجلهم على المفعولية، وقراءة الباقين على بناء الفعل للمفعول، وهو أجلهم، فلزم رفعه، فقول الناظم الفتحان؛ يعني: في القاف والضاد والألف بعدهما، والقراءة الأخرى علمت بما لفظ به لا من الضدية ولو بين القراءة الأخرى باللفظ، فقال: قضى موضع قوله: هنا أو موضع قوله: وقل لكان أولى وأكثر فائدة؛ لما فيه من الإيضاح ورفع وهم احتمال أن يريد زيادة ألف على الياء فيصير قضيا، وإنما قال: هنا احترازا من التي في الزمز: {قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} 2؛ فإن الخلاف فيها أيضا كهذا الخلاف، وإن كان الأكثر ثَم على مثل قراءة ابن عامر هنا وكان مستغنيا عن هذا الاحتراز؛ فإن الإطلاق لا يعم غير ما في السورة التي هو في نظم خلفها على ما بيناه مرارا، والله أعلم.
744-
وَقَصْرُ وَلا "هَـ"ـادٍ بِخُلْفٍ "زَ"كَا وَفي الْـ ... ـقِيَامَةِ لا الأولى وَبِالحَالِ أُوِّلا
يعني بالقصر: حذف ألف ولا من قوله: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} 3، ومن قوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 4.
__________
1 سورة يونس، آية: 11.
2 سورة الزمر، آية: 42.
3 سورة يونس، آية: 16.
4 سورة القيامة، آية: 1.
(1/505)
________________________________________
دون قوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ} 1، فهذا معنى قوله: لا الأولى؛ أي: وقصر لا الواردة في سورة القيامة أولا فالمعنى على القصر: "وشاء لأدراكم به" فتكون اللام جواب لو قال ابن مجاهد: قرأت على قنبل: {وَلا أَدْرَاكُمْ} ، فقال: "ولا دراكم"، فجعلها "لا" ما دخلت على أدراكم، فراجعته غير مرة فلم يرجع ذكر ذلك في غير كتاب السبعة، ويوجد في بعض نسخها، ومعنى القصر في "لا أقسم" مؤول بأنها لام الابتداء دخلت على فعل الحال أي؛ لأنا أقسم فهذا معنى قوله: وبالحال أولا، وقراءة الباقين بالمد ظاهرة في: {وَلا أَدْرَاكُمْ} ، بكون لا نافية، أما في القيامة فيكون موافقة لما بعدها، وفي معناها اختلاف للمفسرين قبل لا زائدة، وقيل: نافية ردا على الكفرة ثم استأنف: "أقسم بيوم القيامة" فيتفق معنى القراءتين على هذا، واختار الزمخشري أنه نفي للقسم على معنى أن المذكور قدره فوق ذلك والله أعلم.
745-
وَخَاطَبَ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُنا "شَـ"ـذًا ... وَفي الرُّومِ وَالحَرْفَيْنِ في النَّحْلِ أَوَّلا
عما يشركون فاعل خاطب، وشذا حال منه، ولو قدمه على هنا لكان أولى ليتصل المعطوف وهو قوله: وفي الروم وما بعده بالمعطوف عليه وهو هنا، ولئلا يتوهم أن الذي في الروم والنحل خطابه لغير حمزة والكسائي، ولا سيما وقد قال في آخر البيت: أولا فيتوهم أنه رمز لنافع، وإنما هو ظرف للحرفين؛ أي: اللفظين الواقعين أول سورة النحل، ولم يحترز بذلك من شيء بعدهما، وإنما هو زيادة بيان، وهذا مما يقوي ذلك الوهم، ولو كان احترازا لخف أمره، والذي هنا بعده: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً} 2.
والذي في الروم بعده: {ظَهَرَ الْفَسَادُ} 3، واللذان في النحل: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4، {بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5؛ الخطاب في الجميع للمشركين والغيب إخبار عنهم والله أعلم.
__________
1 سورة القيامة، آية: 1.
2 سورة يونس، آية: 19.
3 سورة الروم، آية: 41.
4 سورة النحل، آية: 1.
5 سورة النحل، آية: 3.
(1/506)
________________________________________
746-
يُسَيِّرُكُمْ قُلْ فِيهِ يَنْشُرُكُمْ "كـ"ـفَى ... مَتَاعَ سِوَى حَفْص بِرَفْعٍ تَحَمَّلا
أي: جعل مكان "يسيركم" "ينشركم" من قوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} 1 و {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2، بالرفع خبر "بغيكم" أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو متاع، وخبر: بغيكم قوله: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ؛ أي: لا يتجاوزها، ونصب متاع على أنه مصدر؛ أي: تتمتعون متاعا، وقال أبو علي: تبغون متاع الحياة الدنيا أو يكون متعلقا بقوله: بغيكم، وخبر بغيكم محذوف لطول الكلام.
747-
وَإِسْكَانُ قِطْعًا "دُ"ونَ "رَ"يْبٍ وُرُودُهُ ... وفِي بَاءِ تَبْلُو التَّاءُ "شَـ"ـاعَ تَنَزُّلا
القطع بسكون الطاء: الجزء من الليل الذي فيه ظلمة، قال الله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} 3.
وقال الشاعر:
افتحي الباب فانظري في النجوم ... كم علينا من قِطْع ليل بهيم
وبفتح الطاء: جمع قطعة، وكلتا القراءتين ظاهرة، وقوله: مظلما صفة قطعا على قراءة الإسكان، وعلى قراءة الفتح هو حال من الليل؛ وأما: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ} 4، فقرأها حمزة والكسائي بتاءين من التلاوة أو من التلو وهو: الإتباع، وقرأها الباقون بباء موحدة قبل اللام من الاختبار، وتنزلا: نصب على التمييز، ولم يقيد الناظم حرفي القراءة بما لا يحتمل التصحيف على عادته مثل شاع بالثا مثلثا، وغيرهما بالباء نقطة أسفلا، وهو مشكل؛ إذ من الجائز أن تقرأ: وفي تاء تبلوا الباء شاع، فيكون عكس مراده، فلو أنه قال في البيت الأول: متاع سوى حفص وقطعا رضى دلا:
بالِاسكان تبلو كل نفس من التلا ... وة والباقون تبلو من البلا
لاتضح المراد ويكون الإطلاق في متاع دالا على رفعه فلا يحتاج إلى قيد على ما عرف من اصطلاحه والله أعلم.
748-
وَيَا لا يَهدِّي اكْسِرْ "صَـ"ـفِيًّا وَهَاهُ "نَـ"ـلْ ... وَأَخْفَى "بَـ"ـنُو "حَـ"ـمْدٍ وَخُفِّفَ "شُـ"ـلْشُلا
__________
1 سورة الجمعة، آية: 10.
2 سورة القصص، آية: 60.
3 سورة الحجر، آية: 65.
4 سورة يونس، آيةك 30.
(1/507)
________________________________________
قصر يا وها ضرورة أراد: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} 1، قرأه حمزة والكسائي من "هدَى" "يهدِي" كـ "رمى يرمي"، وهو بمعنى يهتدى، أو على أنه على تقدير إلا بأن يُهدَى وحرف الجر يحذف مع "أن" كثيرا وقراءة الباقين أصلها يهتدى، فأريد إدغام التاء في الدال فألقيت حركتها على الهاء؛ لتدل على حركة المدغم كما قالوا: يعض ويرد ويفر والأصل يعضض ويردد ويفرر، وكسر عاصم الهاء؛ لالتقاء الساكنين، ولم ينبه على حركة المدغم؛ لأنه قد علم أن تاء الافتعال لا تكون إلا مفتوحة بخلاف عين الفعل المدغمة في يعضّ ويردّ ويفرّ؛ فإن حركتها اختلفت كما ترى، ولم يفعل ذلك عاصم في: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} 2، ففتح كغيره ولم يكسر؛ لأن الكسر في "لا يهِدّي" أنسب للياء قبلها، وكسر شعبة الياء إتباعا للهاء ولا يجوز كسر ياء المضارعة إلا في مثل هذا، وفي "ييجل"؛ لتنقلب الواو ياء، ومن أخفى حركة الهاء نبه بذلك على أن أصلها السكون، قال في التيسير: والنص عن قالون بالإسكان.
قلت: والكلام عليه كما سبق في "لا تعدو"، و"نعما"، وغيرهما؛ لأنه جمع بين الساكنين على غير حدهما فلا يستقيم وشلشلا: حال؛ لأنه كتب في المصحف بغير تاء، فخفف قراءة في حال كونها خفيفا في الرسم، ويجوز أن يكون شلشلا صفة قامت مقام المصدر وهي في معناه لا من لفظه، فكأنه قال: وخفف خفيفا؛ أي: تخفيفا كما قال: قم قائما؛ أي: قياما، وعنى بالتخفيف قراءةً ترك تشديد الدال، وبقي سكون الهاء لم ينبه عليه وهذا قد سبق له نظائر، ولكنه نطق فيها بالكلمات مخففة نحو: وفي الكل تلقف خف حفص، ولا يتبعوكم خف ويغشى سما خفا، وموهن بالتخفيف ذاع، ولو قال في موضع وخفف شلشلا: ويهدي شمردلا، لكان أبين؛ لكونه نص على لفظ القراءة كما نص على لفظ قراءة الباقين في قوله: ويا لا يهدي اكسر، فيكون المعنى: وقرئ يهدي في حال كونه شمردلا؛ أي: خفيفا.
749-
وَلكِنْ خَفِيفٌ وَارْفَعِ النَّاسَ عَنْهُمَا ... وَخَاطَبَ فِيهَا يَجْمَعُونَ "لَـ"ـهُ "مُـ"ـلا
أراد: "وَلَكِنِ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"3، الخلاف فيها كما سبق في: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 4، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} 5، {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 6.
وقوله: عنهما؛ أي: عن حمزة والكسائي، والغيبة والخطاب في قوله: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ظاهر أن
__________
1 سورة يونس، آية: 35.
2 سورة النساء، آية: 154.
3 سورة يونس، آية: 44.
4 سورة البقرة، آية: 102.
5 سورة البقرة، آية: 177.
6 سورة الأنفال، آية: 12.
(1/508)
________________________________________
الخطاب للكفار والغيب إخبار عنهم وقوله: فيها؛ أي: في هذه السورة وملا جمع ملاءة وهي الملحفة وقد ذكرنا المراد بها.
750-
وَيَعْزُبُ كَسْرُ الضَّمِّ مَعْ سَبَأٍ "رَ"سَا ... وَأَصْغَرَ فَارْفَعْهُ وَأَكْبَرَ "فَـ"ـيْصَلا
أي: مع حرف سبأ، والكسر والضم في زاي يعزب: لغتان ومعناه وما يبعد وما يغيب، ومعنى رسا: ثبت واستقر، ورفع "ولا أصغر" على الابتداء والفتح على أنه اسم "لا"، بُنِيَ معها كالوجهين في "لا حول ولا قوة إلا بالله" بفتحهما ورفعهما على ما ذكرناه، وقال كثير من الناس: إن الرفع عطف على موضع من مثقال، والفتح على لفظ مثقال أو على ذرة، ولكنه لا ينصرف، وهو مشكل من جهة المعنى، ويزيل الإشكال أن يقدر قبل قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} ليس شيء من ذلك إلا في كتاب مبين، وكذا يقدر في آية الأنعام: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} 1.
وأما الذي في سورة سبأ فلم يقرأ: {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} 2، إلا بالرفع فقط وهو يقوي قول من يقول: إنه معطوف وسببه أن "مثقال" فيها بالرفع؛ لأنه ليس قبله حرف جر وفيصلا حال من المرفوع، وكأنه أشار إلى الوجه المذكور أولا؛ أي: انفصل مما قبله في المعنى، فارتفع بالابتداء والخبر، وقال الشيخ: فيصلا حال من الفاعل في ارفعه؛ أي: حاكما في ذلك:
751-
مَعَ المدِّ قَطْعُ السِّحْرِ "حُـ"ـكْمٌ تَبَوَّءا ... بِيَا وَقْفِ حَفْصٍ لَمْ يَصِحَّ فَيُحْمَلا
أي: قطع همز السحر مع ما بعدما حكم من الأحكام المنقول في علم القراءات يريد قوله تعالى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} ؛ قرأه أبو عمرو بقطع الهمزة على أنها للاستفهام وبالمد بعدها بدلا من همزة الوصل فصار مثل: "آلذكرين"، وهو استفهام بمعنى التقرير والإنكار عليهم، و"ما" في: {مَا جِئْتُمْ بِهِ} استفهامية أيضا أي: أي شيء جئتم به ثم ابتدأ "آلسحر"؛ أي: أهو السحر؟ وقراءة الجماعة بهمزة وصل من غير مد، على أن ما موصولة بـ "جئتم به" وهي مبتدأ والسحر خبرها؛ أي: الذي جئتم به السحر حقيقة، وحكى أبو علي الأهوازي من طريق الأصمعي عن أبي عمرو مثل قراءة الجماعة وأما: {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا} 3، فروي عن حفص أنه إذا وقف عليه أبدل الهمزة ياء مفتوحة، وأنكر ذلك أبو العباس الأشناني فيما حكاه
__________
1 سورة الأنعام، آية: 59.
2 سورة يونس، آية: 61.
3 سورة يونس، آية: 87.
(1/509)
________________________________________
ابن أبي هاشم عنه ولم يعرفه، قال: وقال في الوقف مثل الوصل؛ يعني: بالهمز، قال الداني: وبذلك قرأت وبه آخذ.
قلت: وهو أيضا فاسد من جهة العربية فإنه ليس على قياس تسهيل الهمز، وقول الناظم: تبوءا مبتدأ ووقف حفص إن كان مرفوعا، فهو مبتدأ ثانٍ؛ أي: وقف حفص عليه بياء لم يصح وإن كان وقف مجرورًا بإضافة "يا" إليه فالخبر لم يصح؛ أي: تبوءا باليا لم يصح ونصب فيحملا في جواب النفي بالفاء.
752-
وَتَتَّبِعَانِ النُّونُ خَفَّ "مَـ"ـدًا وَمَا ... جَ بِالفَتْحِ وَالإِسْكَانِ قَبْلُ مُثَقَّلا
أي: خف مداه؛ لأن الناطق بالخفيفة أقصر مدا من الناطق بالشديدة وهي نون رفع الفعل على أن تكون لا للنفي لا للنهي والواو للحال؛ أي: فاستقيما غير متعبين أو تكون جملة خبرية معناها النهي كقوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} 1، أو يكون إخبارا محضا بجملة مستأنفة أي: ولستما تتبعان، وإن قلنا: إن لا: نهي كانت النون نون التأكيد الخفيفة على قول يونس والفراء، وكسرت؛ لالتقاء الساكنين وقيل: خففت الثقيلة للتضعيف كما تخفف رب وإن ثم إن الناظم ذكر رواية أخرى عن ابن ذكوان وليست في التيسير وهي بسكون التاء وفتح الباء وتشديد النون من تبع يتبع، والنون المشددة للتأكيد فهذا معنى قوله: وماج؛ أي: اضطرب بالفتح في الباء والإسكان في التاء قبل الباء، ومثقلا حال من فاعل ماج، وهو ضمير تتبعان، وهذه قراءة جيدة لا إشكال فيها، قال الداني في غير التيسير: وقد ظن عامة البغداديين أن ابن ذكوان أراد تخفيف التاء دون النون؛ لأنه قال في كتابه بالتخفيف، ولم يذكر حرفا بعينه، قال: وليس كما ظنوا؛ لأن الذين تلقوا ذلك أداء وأخذوه منه مشافهة أولى أن يصار إلى قولهم، ويعتمد على روايتهم، وإن لم يتفق ذلك في قياس العربية، ولم يذكر ابن مجاهد عن ابن ذكوان غير هذا الوجه، وذكر الأهوازي عن ابن عامر في هذه الكلمة أربع قراءات: تشديد التاء والنون كالجماعة، وتخفيفهما، وتشديد التاء وتخفيف النون، وعكسه تخفيف التاء وتشديد النون؛ وهما الوجهان المذكوران في القصيدة، وساق الأخير من طريق ابن ذكوان.
فإن قلتَ: هل يجوز أن تكون الميم في "وماج" رمزا نحو الكاف من وكم صحبة؛ لأنها قراءة، ولم يذكر لها قارئا.
قلتُ: لا يجوز؛ لأن الرمز الحرفي إذا تمحض يجب تأخيره عن القراءة، بل تكون هذه القراءة لمن رمز له في القراءة قبلها كقوله: وعم بلا واو الذين ... البيت، فالقراءتان متى اجتمعتا في بيت لقارئ متحد تارة يتقدم رمزه وتارة يتأخر مثل كفلا في البيت الذي أوله عليم، وقالوا: وقد رد القراءة في بيت لا رمز فيه على رمز في بيت قبله في قراءة، فتثبتوا في سورة النساء فما هنا أولى والله أعلم.
__________
1 سورة البقرة، آية: 83.
(1/510)
________________________________________
753-
وَفِي أَنَّهُ اكْسِرْ "شَـ"ـافِيًا وَبِنُونِهِ ... وَنَجْعَلُ "صِفْ" وَالخِفُّ نُنْجِ "رِ"ضىً "عَـ"ـلا
يريد قوله تعالى: {آمَنْتُ أَنَّهُ} 1، الكسر فيه للاستئناف أو على إضمار القول والقول هنا هو المعبر عنه بالإيمان أو ضمن "آمنت" معنى قلت، والفتح على حذف الباء؛ أي: آمنت بأنه كذا، نحو: يؤمنون بالغيب، وهو مفعوله من غير تقدير حرف جر؛ أي: صدقت أنه كذا، والخلف في قوله سبحانه: "ونجعل الرجس"2 بالنون والياء ظاهر النون للعظمة والياء؛ لأن قبله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، والهاء في قوله: وبنونه لقوله: ونجعل نحو في داره زيد؛ لأن الواو في "ونجعل" من التلاوة، فيكون "ونجعل" مبتدأ وبنونه خبر مقدم؛ أي: استقر بنونه، ويجوز أن تكون "ونجعل" مفعول صف؛ أي: صف بنونه، والخف مبتدأ، و"ننجي" مفعول به كما ذكرنا في قوله في الأعراف: والخف أبلغكم ورضى خبر المبتدأ وعلا تمييز أو خبر بعد خبر، و"ننجي" المختلف في تخفيفه وتشديده هو: {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وهما لغتان: "أنْجَى"، و"نَجَّى"، كأنزل ونزل، ولا خلاف في تشديد الذي قبله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} 4، ولا في تشديد: {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} في هذه الطريقة المنظومة، وقد ذكر أبو علي الأهوازي الخلاف فيهما أيضا، ونسب تخفيفهما إلى أبي عمرو والكسائي وكتبت: "ننجي المؤمنين" بلا ياء في المصاحف الأئمة فلهذا يقع في كتب مصنفي القراءات بلا ياء، قال الشيخ: والوقف عليه على رسمه بغير ياء.
قلت: ويقع في نسخ القصيدة "ننجِ" بلا ياء، والأصل الياء كتابة ولفظا.
فإن قلت: لعله ذكره بلا ياء؛ ليدل على موضع الخلاف؛ لأن الياء فيه محذوفة في الوصل؛ لالتقاء الساكنين، قلت: لو كان أراد ذلك لم يحتج إلى تقييده بما ذكره في البيت الآتي وهو:
754-
وَذَاكَ هُوَ الثَّانِي وَنَفْسِيَ يَاؤُهَا ... وَرَبِّيَ مَعْ أَجْرِي وَإِنِّي وَلِي حُلا
يعني: هو الثاني بعد كلمة "ونجعل الرجس" وإلا فهو الثالث لوعد "ننجيك" والكلام في هذا كما سبق
__________
1 سورة يونس، آية: 90.
2 سورة يونس، آية 100.
3 و4 سورة يونس، آية: 103.
(1/511)
________________________________________
في الأعراف في قوله: {لا يَعْلَمُونَ} قل لشعبة في الثاني؛ يعني: بعد خالصة وإلا فهو ثالث، ثم ذكر ياءات الإضافة وهي خمس، وأراد:
"مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِيَ إِنْ أَتَّبِعُ"1، "قُلْ إِي وَرَبِّيَ إِنَّهُ لَحَقٌّ"2، فتحها نافع وأبو عمرو.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} 3، فتحها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص.
"إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ"4، "لِيَ أَنْ أُبَدِّلَهُ"، فتحهما الحرميان وأبو عمرو.
وحلا ليس برمز، وكذا كل ما كان مثله مما مضى ومما يأتي من الأبيات المذكور فيها عدد ياءات الإضافة؛ لأنه لم يذكر أحكامها في أواخر السور كما سبق بيانه، والهاء في ياؤها للسورة، وليس فيها من الزوائد شيء والله أعلم.
__________
1 سورة يونس، آية: 15.
2 سورة يونس، آية: 53.
3 سورة يونس، آية: 72.
4 سورة يونس، آية: 15.
(1/512)
________________________________________
سورة هود:
755-
وَإِنِّي لَكُمْ بِالفَتْحِ "حَقُّ رُ"وَاتِهِ ... وَبَادِئَ بَعْدَ الدَّالِ بِالهَمْزِ "حُـ"ـلِّلا
يريد: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} في أول قصة نوح: الفتح على حذف الباء؛ أي: أرسلناه بهذا الكلام والكسر على: فقال: {إِنِّي لَكُمْ} ، أما بادئ الرأي، فذكر أن أبا عمرو قرأه بهمزة بعد الدال، وبدأ الشيء: أوله، ولم يبين قراءة الجماعة، وهي بياء مفتوحة إما من بدأ إذا ظهر أو يكون خفف الهمز الذي في قراءة أبي عمرو وقياس تخفيفه أنه يبدل ياء؛ لانفتاحه وكسر ما قبله فهو كما في ضياء في قراءة قنبل، ولو قال: وباديء همز الياء عن ولد العلا لكان أجلى وأحلى، وحلل من التحليل.
756-
وَمِنْ كُلِّ نُونٍ مَعْ قَدَ افْلَحَ عَالِمًا ... فَعُمِّيَتِ اضْمُمْهُ وَثَقِّلْ "شَـ"ـذًا "عَـ"ـلا
يريد: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} هنا، وفي سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} 1، التنوين في تقدير: من كل شيء زوجين، ويكون زوجين مفعولا، واثنين: تأكيدا، وعلى قراءة غير حفص يكون اثنين مفعول احمل وأما: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} 2، فاضمم عينه وشدد ميمه، فيكون معناه: أخفيت، وقراءة الباقين بالتخفيف على معنى: خفيت ووزنه، ولا خلاف في تخفيف: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} 3.
في سورة القصص وإعراضه عن ذكرها دليل على أن الخلف المذكور مختص بما في هذه السورة ألا ترى "أن من كل زوجين" لما كان في سورتين ذكرهما وهو: أول هذا البيت ويجوز في البيت ضم تاء فعميت وكسرها كما قرئ بهما قوله: تعالى: {قَالَتِ اخْرُجْ} 4.
__________
1 سورة المؤمنون، آية: 1.
2 سورة القصص، آية: 66.
3 سورة يوسف، آية: 31.
(1/513)
________________________________________
الكسر على التقاء الساكنين والضم للإتباع، وشذا حال من الفاعل أو المفعول في اضممه وثقل؛ أي: ذا شذا عالٍ، والله أعلم.
757-
وَفِي ضَمِّ مَجْرَاهَا سِوَاهُمْ وَفَتْحُ يَا ... بُنَيِّ هُنَا "نَـ"ـصٌّ وَفِي الكُلِّ "عُـ"ـوِّلا
أي: غير حمزة والكسائي وحفص ضم ميم "مجراها" على أنه مصدر أجرى وهؤلاء فتحوها على أنها مصدر جرى وفي في قوله: وفي ضم بمعنى على أي: على ضمها من عدا هؤلاء، أما يا بني بفتح الياء وكسرها فلغتان مثل ما تقدم في: "يا ابن أم" بفتح الميم وكسرها، ففتح حفص الجميع ووافقه أبو بكر هنا فعلى الكسر أصله يبنى، فحذفت الياء كما تقول: يا غلام، والأصل: يا غلامي، وعلى الفتح أبدلت الياء ألفا؛ لتوالي الياءات والكسرات، ثم حذفت الألف وبقيت الفتحة دالة عليها.
758-
وَآخِرَ لُقْمانٍ يُوَالِيهِ أَحْمَدُ ... وَسَكَّنَهُ "زَ"اكٍ وَشَيْخُهُ الَاوَّلا
في لقمان ثلاثة مواضع: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} 1، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ} 2، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} 3، فالوسطى على ما تقدم تفتح لحفص وتكسر لابن كثير وغيره. والأولى والأخيرة فتحهما حفص وكسرهما من عدا ابن كثير، أما ابن كثير فسكن الأولى وله في الأخيرة وجهان؛ فتحها البزي فوافق حفصا في ذلك وسكنها قنبل، ووجه الإسكان أن بعد حذف ياء الإضافة بقي ياء مشددة هي مجموع ياء التصغير وياء لام الفعل، فخفف ذلك التشديد بحذف الياء الأخيرة، وهي لام الفعل وبقيت ياء التصغير وهي ساكنة وكأنه عند التحقيق وصل بنية الوقف فإذا وقف على المشدد جاز تخفيفه، وفي قراءة ابن كثير جمع بين اللغات الثلاث ففتح وسكن وكسر الأكثر، ومعنى يواليه يتابعه وأحمد هو اسم البزي، وزاكٍ عبارة عن قنبل وشيخه هو ابن كثير.
759-
وَفِي عَمَلٌ فَتْحٌ وَرَفْعٌ وَنَوِّنُوا ... وَغَيْرَ ارْفَعُوا إِلا الكِسَائِيَّ ذَا المَلا
يريد: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ، فالفتح في الميم والرفع والتنوين في اللام فقراءة الكسائي واضحة؛ أي: إنه عمل عملا غير صالح، وقراءة الجماعة على تقدير إنه ذو عمل وإن كانت الهاء في "إنه" عائدة على النداء، فقراءتهم أيضا واضحة، والملا: الأشراف، ويريد: مشايخه أو أصحابه.
__________
1 و2 و3 سورة لقمان، الآيات: 13 و16 و17.
(1/514)
________________________________________
760-
وَتَسْئَلْنِ خِفُّ الكَهْفِ "ظِـ"ـلٌّ "حِـ"ـمًي وَهَا ... هُنَا "غُـ"ـصْنُهُ وَافْتَحْ هُنَا نُونَهُ دَلا
الذي في الكهف: "فلا تسألن عن شيء"، والذي هنا: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ} .
وأصله: فلا تسأل لحقته نون الوقاية بعدها ياء المفعول، وهي ثابتة في الكهف؛ لثبوتها في الرسم إلا في وجه عن ابن ذكوان تقدم ذكره في آخر باب الزوائد، أما هنا فحذفت الياء تخفيفا فهذه قراءة الجماعة المرموزين في هذا البيت والمراد بالتخفيف: تخفيف النون والباقون ألحقوا نون التأكيد الخفيفة في آخر الفعل فأدغمت في نون الوقاية ففتحت اللام وكانت ساكنة؛ لأجل التقاء الساكنين، فبقيت نون مشددة مكسورة، فبهذا قرأ نافع في الكهف مع إثبات الياء وكذا ابن عامر، وفي وجه حذف ابن ذكوان الياء، أما هنا فقرأ ابن عامر ونافع وابن كثير بالتشديد إلا أن نافعا وابن عامر كسرا النون من غير ياء وابن كثير فتح النون؛ لأنه ألحق الفعل نون التأكيد الثقيلة، ولم يأت بنون الوقاية ولا ياء المفعول، وإنما لم يفعل في الكهف مثل هذه؛ لأن الياء فيه ثابتة في الرسم ويلزم من إثبات الياء كسر النون، أما التي في هود فلم ترسم فيها ياء، فأمكن فيها القراءتان وقول الناظم: خف الكهف صفة "تسئلن"؛ أي: الخفيف في سورة الكهف، وظل حمى خبره، ولفظ بقوله: "تسئلن" بلا ياء؛ ليشمل لفظ ما في السورتين، وقوله: وههنا غصنه؛ أي: فرع ذلك؛ لأن من خففه أقل عددا من مخفف الكهف، وقد سبق معنى ولا وفاعله ضمير عائد على تسألن؛ أي: جمع وجوه القراءات فيه من فتح وكسر وتخفيف وتشديد في السورتين فهو كمن أخرج دلوه ملآنا.
761-
وَيَوْمَئِذٍ مَعْ سَالَ فَافْتَحْ "أَ"تَى "رِ"ضًا ... وَفِي النَّمْلِ "حِصْنٌ" قَبْلَهُ النُّونُ "ثُـ"ـمِّلا
يريد: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} ، وفي سورة: {سَأَلَ سَائِلٌ} : {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} 1، قرئ بفتح الميم وجرها، فأما جرها فظاهر؛ لأنه اسم أضيف إليه ما قبله فكان مجرورًا، أما وجه الفتح، فكونه أضيف إلى غير متمكن، وهو "إذ"، وهذه حالة كل ظرف لزم الإضافة إذا أضيف إلى غير متمكن، ويجوز أن لا يبنى وعليه القراءة الأخرى،، أما الذي في النمل وهو: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} 2، فزاد على فتح الميم عاصم وحمزة لكنِ الكوفيون نونوا قبله "من فزع" فهذا معنى قوله: قبله النون،
__________
1 سورة المعارج، آية: 11.
2 آية: 86.
(1/515)
________________________________________
أي: قبل يومئذ زاد الكوفيون نونا أو تنوينا، والباقون أضافوا: "من فزع" إلى: "يومئذٍ" فمن جر الميم مع الإضافة فقراءته واضحة كما سبق شرحه وهو ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على أصلهم ومن فتحها مع الإضافة وهو: نافع وحده فوجهه ما تقدم، فقراءته في السور الثلاث على طريقة واحدة، أما فتح الميم بعد التنوين فهو في قراءة عاصم وحمزة يكون حركة إعراب، وهو ظرف منصوب إما بفزع وإما بآمنون، وقراءة الكسائي تحتمل الأمرين؛ لأنه فتح الذي في هود وسأل لاعتقاده فيه البناء فكذا لو وجه هذا التنكير في فزع أنه أريد تهويله؛ أي: من فزع عظيم وهو الفزع الأكبر آمننا الله تعالى منه ومعنى ثمل أصلح؛ لأن التنوين جود الفتح على الظرفية ولم يخرج إلى وجه البناء والله أعلم.
762-
ثَمُودَ مَعَ الفُرْقَانِ وَالعَنْكَبُوتِ لَمْ ... يُنَوَّنْ "عَـ"ـلَى "فَـ"ـصْلٍ وَفِي النَّجْمِ "فُـ"ـصِّلا
أراد: {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} ، وفي الفرقان: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسّ} 1.
وفي العنكبوت: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} 2.
وفي النجم: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 3.
لم ينون الجميع حفص وحمزة، ووافقهما أبو بكر على عدم تنوين الذي في النجم، ورمزه في أول البيت الآتي نما؛ لأن النون لعاصم بكماله في اصطلاح هذه الطريقة عبارة عن أبي بكر وحفص معا، والباقون نونوا في الجميع، ووجه التنوين وعدمه مبني على صرف هذه الكلمة وعدم صرفها، وللعرب فيها مذهبان تارة تصرفها ذهابا إلى اسم الحي، وتارة تترك صرفها ذهابا إلى اسم القبيلة، وكذا الخلاف في سبأ لما سيأتي في سورة النمل، فإن قلت: أطلق قوله: ثمود هنا فما المانع أن يظن أنه أراد التي في أول القصة: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} وهو غير منصرف اتفاقا، قلت: منع منه أمران.
أحدهما أن هذا سابق على كلمة يومئذ فلو كان فيه خلاف لذكره قبل مسألة يومئذ لا يقال: إنه في بعض المواضع يقدم ما تأخر من الحروف، ويؤخر ما تقدم كقوله بعد هذا البيت: ويعقوب ثم قال هنا: قال سلم ومثله ودرى اكسر ثم قال: يسبح فتح الياء كذا صف، وتوقد البيت، ولفظ توقد قبل يسبح، وإنما ضرورة النظم تحوج إلى مثل هذا؛ فإن جوابه أنه لا ضرورة هنا؛ لأن مسألة يومئذ في بيت مستقل فكان يمكنه تأخيره.
__________
1 الآية: 38.
2 الآية: 38.
3 الآية: 51.
(1/516)
________________________________________
الأمر الثاني: أن جميع هذه المواضع الأربعة المختلف فيها منصوبة والخلاف واقع في إثبات التنوين وعدمه فقط، أما قوله: وإلى ثمود فمجرور فلا يكفي فيه ذكر التنوين بل لا بد من جره عند من صرفه كما ذكر بعد ذلك في "لثمود" فلم يدخل في مراده والله أعلم، قال سيبويه: وثمود وسبأ هما مرة للقبيلتين ومرة للحيين وكثرتهما سواء، قال أبو علي: فمن صرف في جميع المواضع كان حسنا، ومن لم يصرف في جميع المواضع فكذلك، وكذلك إن صرف في موضع ولم يصرف في موضع آخر إلا أنه لا ينبغي أن يخرج عما قرأت به القراء؛ لأن القراءة سنة فلا ينبغي أن نحمل على ما تجوزه العربية حتى ينضم إلى ذلك الأثر من قراءة القراء، وقول الناظم: على فصل؛ أي: على قول فصل والله أعلم.
واختار أبو عبيد قراءة التنوين في هذه المواضع الأربعة،؛ لأنها رسمت بألف بعد الدال وهو دليل الصرف.
763-
"نَـ"ـما لِثَمُودٍ نَوِّنُوا وَاخْفِضُوا "رِ"ضا ... وَيَعْقُوبُ نَصْبُ الرَّفْعِ "عَـ"ـنْ "فَـ"ـاضِلٍ "كَـ"ـلا
نما من تتمة رمز الذي في النجم، ثم ابتدأ لثمود أراد: "أَلا بُعْدًا لِثَمُودٍ"؛ صرفه الكسائي فخفضه ونونه موافقة لما قبله وهو: "ألا إن ثمودًا"، وفتحه الباقون غير منون؛ لأنه غير مصروف، وقوله: رضى؛ أي: ذوي رضى، وموضع لثمود نصب ما بعده، وقرئ يعقوب بالنصب والرفع، فالنصب على تقدير: ووهبنا لها يعقوب من وراء إسحاق، ودل عليه معنى قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} ؛ لأنه في معنى وهبنا، واختاره أبو علي، وذكر وجهين آخرين على ضعف فيهما؛ أحدهما: أن يكون مجرورًا عطفًا على إسحاق، والثاني أن يكون منصوبًا عطفًا على موضع بإسحاق؛ أي: فبشرناها "بإسحاق" ويعقوب من وراء إسحاق، وضعفهما من جهة الفصل بين واو العطف والمعطوف بالظرف فهو كالفصل بين الجار والمجرور، ولو قلت: مررت بزيد اليوم وأمس عمرو على تقدير وبعمر وأمس لم يحسن ولكن في الشعر يحتمل مثل ذلك كما جاء بكف -يوما- يهودي
ومثله في الفصل بين حرف العطف والمرفوع وآونة أثالي وفي المنصوب:
ويوما أديمها نغلا
في بيتين معروفين أنشدهما أبو علي وغيره الأول لابن أحمر والثاني للأعشى، وله نظير في إعراب بعضهم.
(1/517)
________________________________________
{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 1.
على أن هادٍ عطف على منذر؛ أي: أنت منذر وهادٍ لكل قوم، وقد مضى في هذه القصيدة وسيأتي نحو من ذلك في نظم الناظم، وذكر وجه العطف جماعة من أئمة العربية، أما قراءة يعقوب بالرفع فعلى الابتداء، وخبره ما قبله؛ أي: مولود لها من وراء إسحاق يعقوب أو يكون فاعل من وراء على قول الأخفش؛ أي: واستقر لها من وراء إسحاق يعقوب، قال أبو جعفر النحاس: وتكون الجملة في موضع الحال، وأظنه في البشارة أي: فبشرناها بإسحاق متصلا به يعقوب قال: ويجوز على إضمار فعل؛ أي: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب، وقوله: نصب الرفع؛ أي: نصب رفعه أو نصب الرفع فيه منقول عن فاضل كلأه؛ أي: حفظه.
764-
هُنا قَالَ سِلْمٌ كسْرُهُ وَسُكُونُهُ ... وَقَصْرٌ وَفَوْقَ الطُّورِ "شَـ"ـاعَ تَنَزُّلا
كسره: مبتدأ، وسكونه وقصر عطف عليه، وشاع خبر المبتدأ، وتنزلا تمييز، وفوق الطور: عطف على هنا؛ أي: قوله: "قال سلم" موضع: "قال سلام هنا وفي الذاريات وهما لغتان كحرم وحرام وحل وحلال، وقيل: سلم ضد حرب؛ وذلك لأنه نكرهم فقال: أنا مسالم لكم ورفعه على حكاية قوله؛ أي: سلام عليكم أوامري سلام، ونصب: {قَالُوا سَلامًا} ؛ أي: قولا ذا سلامة لم يقصد فيه حكاية قولهم، وكذا معنى قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 2.
وأما في كل موضع يقصد التسليم فلم يأت الأمر معرفا والأكثر تنكيره: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} 3،: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 4، {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} 5، {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} 6.
وجاء معرفا في: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} 7، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} 8.
وقيل: التقدير: سلمنا سلاما، وله نظائر والله أعلم.
765-
وَفَاسْرِ أَنِ اسْرِ الوَصْلُ "أَ"صْلٌ "دَ"نا وَهَا ... هُنَا حَقٌّ الا امْرَاتَكَ ارْفَعْ وَأَبْدِلا
يريد حيث جاء هذان اللفظان، وجاء فأسر في ثلاث سور هنا: د
__________
1 سورة الرعد، آية: 7.
2 سورة الفرقان، آية: 63.
3 سورة الرعد، آية: 24.
4 سورة يس، آية: 58.
5 سورة الصافات، آية: 79.
6 سورة مريم، آية: 16.
7 سورة مريم، آية: 32.
8 سورة طه، آية: 47.
(1/518)
________________________________________
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} 1، ومثله في الحجر والدخان: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} 2.
وأما: {أَنْ أَسْرِ} ؛ ففي طه والشعراء عنى بالوصل: همزة الوصل، ولا يظهر لفظها إلا على تقدير أن تقف على "أن"، فتبتدئ "إسر" بكسر الهمزة، أما إذا وصلت فلا يظهر إلا أثرها، وهو حذفها في الدرج وكسر النون من "أن"؛ لالتقاء الساكنين لورش وغيره، أما في كلمة "فأسر" فلا يظهر أثر إلا في حذفها، وقرأ الباقون بهمزة القطع المفتوحة، فالنون من أن ساكنة على أصلها، لكنها تفتح لحمزة إذا وقف على أن أسر على رواية نقل الحركة له في الوقف والقراءتان مبنيتان على الفعل الذي منه هذا الأمر، وفيه لغتان سرى وأسرى فعلى لغة سرى جاءت همزة الوصل في الأمر كقولك: ارم من رمى، وعلى لغة أسرى جاءت همزة القطع كقولك من أعطى: أعط، ويشهد لـ: "سرى" قوله سبحانه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 3.
ويشهد لأسرى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} 4.
ويتعلق بهما بحث كما ذكرناه في تفسير آية سبحان فأما قوله تعالى: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} .
فقرئ برفع امرأتك ونصبها، فقوله: ههنا احترازًا من الذي في العنكبوت: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ} ؛ فإنه منصوب باتفاق؛ لأنه مستثنى من موجب، أما هنا فمستثنى من غير موجب، فجرى فيه الوجهان النصب والرفع كما سبق في سورة النساء: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} ، و {إِلَّا قَلِيلًا} ، لكن لم يقرأ بالنصب ثَم إلا واحد، وههنا الأكثر على النصب، فلهذا قال جماعة من أئمة العربية: إنه مستثنى من قوله تعالى:
__________
1 سورة الحجر، آية: 65.
2 سورة الدخان، آية: 23.
3 سورة الفجر، آية: 4.
4 أول سورة الإسراء.
(1/519)
________________________________________
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ؛ ليكون مستثنى من موجب، وهذا فيه إشكال من جهة المعنى؛ إذ يلزم من استثنائه من: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} أن لا يكون أسرى بها وإذا لم يسر بها كيف يقال: "لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ" على قراءة الرفع، فكيف تؤمر بالالتفات، وقد أمر أن لا يسري بها فهي لما التفتت كانت قد سرت معهم قطعا فيجوز أن يكون هو لم يسر بها ولكنها تبعتهم والتفتت، فأصابها ما أصاب قومها، والذي يظهر لي أن الاستثناء على القراءتين منقطع لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها بمعنى لكن امرأتك يجري لها كيت وكيت، والدليل على صحة هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناء أصلا فقال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} 1.
فلم تقع العناية إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى، فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعا لا مقصودا بالإخراج مما تقدم، ونحو ذلك قوله تعالى في سورة الحجر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 2.
قال كثير من المفسرين: إنه استثناء متصل، وبنى قوم على ذلك جواب الاستثناء الأكثر من الأقل؛ لأن الغاوي أكثر من المهتدي، وعندي أنه منقطع بدليل أنه في سورة سبحان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} 3، فأطلق ولم يستثن الغاوين دل على أنه أراد بقوله تعالى: "عبادي": المخلصين المكلفين، وهم ليس للشيطان عليهم سلطان فلا حاجة إلى استثناء الغواة منهم فحيث جاء في الحجر استثناء الغواة كان على سبيل الانقطاع؛ أي: لكن من اتبعك من الغاوين لك عليهم سلطان فإذا اتضح هذا المعنى لك علمت أن القراءتين واردتان على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع؛ ففيه لغتان: النصب والرفع، فالنصب لغة أهل الحجاز وعليها الأكثر، والرفع لبني تميم وعليها اثنان من القراء، ولهذا قلت في المنظومة التي في النحو:
واحمل على المنقطع الا امرأتُك ... في هود مطلقا فتقوى حجتُك
وقول الناظم: ارفع وأبدلا يجوز بضم الهمزة وفتحها؛ فضمها على أنه فعل لم يسم فاعله وفتحها على الأمر والألف في آخره بدل من نون التأكيد الخفيفة، والمعنى: واحكم على المرفوع أنه بدل من أحد
__________
1 سورة الحجر، آية: 65.
2 سور الحجر، آية: 42.
3 سورة الإسراء، آية: 65.
(1/520)
________________________________________
قوله: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} هذا على قول الجماعة إنه مستثنى من ذلك، ولم يختلفوا فيه، وإنما الخلاف بينهم في قراءة النصب منهم من استثناها من ذلك ومنهم من استثناها من: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ، وقوله: "إِلَّا امْرَاتَكَ" أبدل فيه الهمزة ألفا؛ ليتزن له النظم، وقد سمع نحو ذلك من العرب يقولون: المراة والكماة، فيبدلونها ألفا، ولزم من هذه العبارة في نظمه إيهام، وذلك أنه قال: ارفع وأبدلا فيظن أنه أراد ما لفظ به من إبدال الهمزة ألفا وإنما أراد الإبدال من جهة الإعراب ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين، وكأنه قيل: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في قراءة ابن مسعود هكذا، وليس فيها: {ولا يلتفت منكم أحد} ، فهذا دليل على استثنائها من المسري بهم ثم كأنه سبحانه قال: فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فإنه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستلتفت ويصيبها ما أصاب قومها فكانت قراءة النصب دالة على ذلك المعنى المتقدم، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعها دال على جملة المعنى المشروح.
766-
وَفِي سَعِدُوا فَاضْمُمْ "صِحَابـ"ـًا وَسَلْ ... بِهِ وَخِفُّ وَإِنْ كُلًا "إِ"لَى "صَـ"ـفْوِهِ "دَ"لا
صحابا؛ أي: ذا صحاب ويقال: سال عنه وسال به بمعنى وعليه حمل قوله: تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} 1.
أي: عن عذاب ومنه:
"فسئل به خبيرا"2.
وقال علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
وقال الشيخ: سل به بمعنى اعتن به واشتغل به كما يقال: سل عنه بمعنى ابحث عنه وفتش عنه، وإنما قال ذلك؛ لصعوبة تخريج وجه الضم؛ لأنه يقتضي أن يكون سعد متعديا وهي لغة مجهولة ويدل على وجودها قولهم: مسعود والمعروف أسعده الله بالألف وقيل: إن سعد لغة هذيل يقال سعد كما يقال: جن، أما: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} ، فمعناها على القراءات من أشكل الآيات، وقد نظم في هذا البيت الخلاف في أن وفي البيت الآتي الخلاف في لما، والخلاف فيهما في التشديد والتخفيف فقوله: {وَإِنَّ كُلًّا} في موضع خفض بإضافة وخف إليه، واعلم أن "إن" يجوز تخفيفها وهي باقية على إعمالها؛ فقوله: كلا اسمها مخففة كانت أو مشددة، ولا يجوز أن يكون المخففة نافية؛ لأنها قد نصبت كلها، وقد دخلت اللام في الخبر إلا في قراءة من شدد كما يأتي فهي قراءة أبي بكر وحده، وقوله: إلى صفوه دلا خبر، وخف "وإن كلا"، والهاء في صفوه للخف، وفاعل دلا ضمير عائد إلى القارئ؛ أي: إلى صفو الخف أدلى القارئ دلوه ثم استخرجها؛ أي: وجد قراءة حلوة فقرأ بها، يقال: دلوت الدلو نزعتها وأدليتها أرسلتها في البئر، قال الله تعالى:
__________
1 سورة المعارج، آية: 1.
2 سورة الفرقان، آية: 59.
(1/521)
________________________________________
{فَأَدْلَى دَلْوَهُ} 1.
واجتزى الشاطبي بقوله: دلا عن أن يقول: أدلى فدلا؛ لأنه لا يوصف بأنه دلا إلا بعد أن يكون أدلى دلوه، وقال صاحب الصحاح: قد جاء في الشعر: الدالي بمعنى المدلى، فإذا كان الأمر كذلك ظهر قول الناظم: داي لا إلى صفوه بمعنى أدلى دلوه إليه، والله أعلم.
767-
وَفِيها وَفِي يس وَالطَّارِقِ العُلا ... يُشَدِّدُ لَمَّا كَامِلُ نَصَّ فَاعْتَلا
العلى: نعت للطارق، وفي جعله نعتا للسور الثلاث نظر من جهة أن بعضها معبر عنه بالضمير، والمضمر لا يوصف، فأشار إلى قوة قراءة من شدد لما بقوله: كامل نص فاعتلا، فالقراءات في هاتين الكلمتين: "أن"، و"لما"، أربع: تخفيفهما لنافع وابن كثير تشديدهما لابن عامر وحمزة، وحفص تخفيف "إن"، وتشديد "لما" لأبي بكر وحده تشديد "إن" وتخفيف "لما" لأبي عمرو والكسائي، فمن شدد "إن" وخفف "لما" فاللام في "لما" هي التي تدخل فيما كان في خبر "إن"، واللام في: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} جواب قسم محذوف، ومثله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} 2.
غير "أن" اللام في لمن داخلة على الاسم، وفي "لما" داخلة على موضع الخبر، وقام القسم وجوابه مقام الخبر و"ما" في "لما" زائدة؛ لتفرق بين اللامين؛ لام التوكيد ولام القسم، وقيل: بمعنى الذي وزاد بعضهم، فجعلها بمعنى "من"، وقيل: اللام في "لما" موطئة للقسم مثل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3.
والمعنى: وإن جميعهم والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبح وإيمان وجحود فهذا تعليل قراءة أبي عمرو والكسائي، قال الفراء: جعل ما اسما للناس كما جاز: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 4.
ثم جعل اللام التي فيها جوابا؛ لأن وجعل اللام التي في "ليوفينهم" لامًا دخلت على نية يمين فيما بين "ما" وصلتها كما تقول: هذا مَن ليذهبن وعندي: ما لغيره خير منه ومثله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} .
ثم قال بعد ذلك ما يدل على أن اللام مكررة فقال: إذا عجلت العرب باللام في غير موضعها أعادوها إليه نحو: إن زيدا لإليك لمحسن ومثله:
__________
1 سورة يوسف، آية: 19.
2 سورة النساء، آية: 73.
3 سورة الزمر، آية: 65.
4 سورة النساء آية: 3.
(1/522)
________________________________________
ولو أن قومي لم يكونوا عزة ... لبعد لقد لالقيت لابد مصرعا
قال: أدخلها في بعد وليس بموضعها، وسمعت أبا الجراح يقول: إني بحمد الله لصالح، وقال أبو علي: في قراءة من شدد إن وخفف لما: وجهها بيِّن؛ وهو أنه نصب "كُلًّا" بـ "أن"، وأدخل لام الابتداء على الخبر، وقد دخل في الخبر لام "ليوفي"، وهي التي يتلقى بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل، فلما اجتمع اللامان فصل بينهما كما فصل بين "أن" واللام، فدخلت "ما" وإن كانت زائدة؛ للفصل، ومثله في الكلام: إن زيدا لما لينطلقن، قال: هذا بين ويلي هذا الوجه في البيان قراءة من خفف: "إن" و"لما".
وهي قراءة ابن كثير، ونافع، قال سيبويه: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إن عمرا لمنطلق كما قالوا: كأنْ ثدييه حقان قال: ووجهه من القياس: "أن إن" مشبهة في نصبها بالفعل، والفعل يعمل محذوفا كما يعمل غير محذوف، نحو: لم يك زيد منطلقا، {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} ، وكذلك "لا أدر".
قلت: فتعليل هذه القراءة كالتي قبلها سواء واللام في "لما" هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية، وقال الفراء: أما الذين خففوا أن، فإنهم نصبوا، وهو وجه لا أشتهيه؛ لأن اللام لا يقع الفعل الذي بعدها على شيء قبله، فلو وقعت "كل" لصلح ذلك كما يصلح أن يقول: إن زيدا لقائم لا يصلح إن زيدًا لأضرب؛ لأن تأويلها كتأويل إلا.
قلت: واستشكل أبو علي وغيره قراءة من شدد لما هنا في سورة هود سواء شدد إن أو خففها؛ لأنه قد نصب بها "كلا"، وإذا نصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة فكما لا يحسن إن زيدا إلا منطلق؛ لأن "إلا" إيجاب بعد نفي، ولم يتقدم هذا إلا إيجاب مؤكد فكذا لا يحسن إن زيدا لما منطلق؛ لأنه بمعناه، وإنما شاع: نشدتك بالله إلا فعلت و"لما ... "؛ لأن معناه الطلب فكأنه قال: ما أطلب منك إلا فعلك، فحرف النفي مراد مثل: {تَاللَّهِ تَفْتَأ} 1، ومثل أبو علي بقولهم: شر أهر ذا ناب؛ أي: ما أهره إلا شر قال: وليس في الآية معنى النفي ولا الطلب، وحكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في لما، قال أبو علي: ولم يبعد فيما قال، قال أبو جعفر النحاس: القراءة بتشديدها عند أكثر النحويين لحن حكي عن محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز، ولا يقال: إن زيدا إلا لأضربنه ولا لما لأضربنه، قال: وقال الكسائي: الله -جل وعز- أعلم بهذه القراءة ما أعرف لها وجها، قال: وللنحويين بعد هذا فيها أربعة أقوال فذكرها مختصرة، وأنا أبسطها وأنبه على ما فيها، ثم أذكر وجها خامسا هو الحق إن شاء الله تعالى.
__________
1 سورة يوسف، آية: 85.
(1/523)
________________________________________
الأول: قاله الفراء وتبعه فيه جماعة، قال: أراد "لمن ما" فلما اجتمع ثلاث ميمات حذف واحدة فبقيت ثنتان، فأدغمت إحداهما في الأخرى كما قال الشاعر:
وإني لما أصدر الأمر وجهه ... إذا هو أعيا بالسبيل مصادر
قال نصر بن علي الشيرازي: وصل من الجارة بما فانقلبت النون أيضا ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أحداهن فبقي "لما" بالتشديد قال: وما ههنا بمعنى: من، وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ} ؛ أي: من طاب، والمعنى: وإن كلا من الذين ليوفينهم ربك أعمالهم، أو من جماعة ليوفينهم ربك أعمالهم، قال المهدوي: حذفت الميم المكسورة والتقدير: لمن خلق ليوفينهم، وجوز أن يكون تقدير هذا الوجه لمن ما بفتح الميم، وتكون اللام داخلة على من التي بمعنى الذي وما بعدها زائدة.
قال: فقلبت النون ميما وأدغمت في الميم التي بعدها، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت الوسطى منهن وهي المبدلة من النون، فقيل: لما قلت، فقد صار لهذا الوجه الذي استنبطه الفراء تقديران، وسبق المهدويَ إلى التقدير الثاني أبو محمد مكي، وقال: التقدير: وإن كلا لخلق ليوفينهم ربك قال: فيرجع إلى معنى القراءة الأولى التي بالتخفيف، وهذا هو الذي حكاه الزجاج فقال: زعم بعض النحويين أن معناه "لمن ما" ثم قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى، قال: وهذا القول ليس بشيء؛ لأن "من" لا يجوز حذفها؛ لأنها اسم على حرفين، وقال النحاس: قال أبو إسحاق: هذا خطأ؛ لأنه يحذف النون مِن "مِن" فيبقى حرف واحد، وقال أبو علي: إذا لم يقو الإدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو قوم مالك، فأن لا يجوز الحذف أجدر، قال علي: إن في هذه السورة ميمات اجتمعت في الإدغام أكثر مما كان يجتمع في "لمن ما"، ولم يحذف منها شيء، وذلك قوله: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} .
فإذا لم يحذف شيء من هذا فأن لا يحذف ثَم أجدر.
قلت: وما ذره الفراء استنباط حسن، وهو قريب من قولهم في: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} 1؛ أصله: لكن أنا ثم حذفت الهمزة وأدغمت النون في النون وكذا قولهم أما أنت منطلقا انطلقت قالوا: المعنى؛ لأن كنت منطلقًا، وما أحسن ما استخرج الشاهد من البيت الذي أنشده واجتمع في: {أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} ثماني ميمات؛ خمس ظاهرة والتنوين في أمم والنون من ممن كلاهما تقلب ميما وتدغم في الميم بعده على ما تمهد في بابهما في الأصول، ثم إن الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التخفيف والتشديد من لما في معنى واحد فقال: ثم يخفف كما قرأ بعض القراء: "وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ"
__________
1 سورة الكهف، الآية: 38.
(1/524)
________________________________________
بحذف الياء عند الياء، أنشدني الكسائي شعرا:
وأشمتّ العداة بنا فأضحوا ... لديّ تباشرون بما لقينا
معناه يتباشرون، فحذف ياؤه؛ لاجتماع الياءات قلت: الأولى أن يقال: حذفت ياء الإضافة من لدى، فبقيت الياء الساكنة قبلها المنقلبة عن ألف لدى، وهو مثل قراءة: "يا بني" بالإسكان على ما سبق، أما الياء من يتباشرون فثابتة؛ لدلالتها على المضارعة قال ومثله كأن من آخرها القادم يريد إلى القادم، فحذف عند اللام اللام الأولى، قلت: لأن آخر "إلى" حذف لالتقاء الساكنين، وهمزة الوصل من القادم تحذف في الدرج، فاتصلت لام "إلى" بلام التعريف في القادم، فحذفت الثانية على رأيه، والأولى أن يقال: حذفت الأولى؛ لأن الثانية دالة على التعريف، فلم يبق من حروف "إلى" غير الهمزة، فاتصلت بلام القادم، فبقيت الهمزة على كسرها وهذا قريب من قولهم: "ملكذب".
في "من الكذب"، "وبالعنبر"، في بني العنبر، و"عَلْمَاء" بنو فلان؛ أي: على الماء.
القول الثاني: قال الزجاج: زعم المازني أن أصلها "لما" بالتخفيف ثم شددت الميم قال: وهذا ليس بشيء؛ لأن الحروف نحو "رب"، وما أشبهها تخفف، ولسنا نثقل ما كان على حرفين.
الثالث: قال النحاس: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: الأصل: "وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" بالتنوين من لممته لما؛ أي: جمعته، ثم بني منه فعلى كما قرئ: "ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا" بغير تنوين وبتنوين.
قلت: الذي في كتاب القراءات لأبي عبيد: وروي عن بعض القراء: "وَإِنَّ كُلًّا لَمًّا" منونة، يريد: جميعا قال: وهي صحيحة المعنى، إلا أنها خارجة عن قراءة الناس، وقال الفراء: المعنى: {وَإِنَّ كُلًّا} شديدًا: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} ، وإن كلا حقا "ليوفينهم" وقال أبو علي: وقد روي أنه قرئ: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} منونا كما قال: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} ، فوصف بالمصدر وينبغي أن يقدر المضاف إليه كل نكرة؛ ليحسن وصفه بالنكرة، ولا يقدر إضافته إلى معرفة فيمتنع أن تكون لما وصفا له، ولا يجوز أن تكون حالا؛ لأنه لا شيء في الكلام عامل في الحال قال: فإن قال إن لما فيمن ثقل إنما هي لما هذه وقف عليها بالألف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فذلك مما يجوز في الشعر، قال ابن جني: معنى لما بالتنوين توفية جامعة لأعمالهم جمعا، ومحصلة لأعمالهم تحصيلا فهو كقولك: قياما لأقومن وقعودا لأقعدن، قال الشيخ أبو عمرو -رحمه الله: استعمال لما في هذا المعنى بعيد، وحذف التنوين من المنصرف في الوصل أبعد، قال: وقيل: لما فعْلَى من اللم ومنع الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل مضى لما المنصرف قال وهذا أبعد إذ لا تعرف لما فعلى بهذا
(1/525)
________________________________________
المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزم هؤلاء أن يميلوا لمن أمال وهو خلاف الإجماع، وأن يكتبوها بالياء وليس ذلك بمستقيم.
قلت: فهذه ثلاثة أوجه وهي خمسة في المعنى؛ لأن الأول اختلف في تقديره على وجهين: "لَِمن ما" بكسر الميم وفتحها، وهذا الثالث اختلف في ألفه على وجهين؛ أحدهما: أنها بدل من التنوين، والثاني أنها للتأنيث.
القول الرابع: قال الزجاج: وقال بعضهم قولا ولا يجوز غيره:
"إن لما" في معنى "إلا" مثل: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} 1، ثم أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصله: أن معنى: إن زيد لمنطلق: ما زيد إلا منطلق، فأجريت المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملها النصب في اسمها باقٍ بحاله مشددة ومخففة، والمعنى نفي بأن وإثبات باللام التي في معنى إلا ولما بمعنى إلا، قلت: قد تقدم إنكار أبي علي جواز إلا في مثل هذا الموضع فكيف يجوز لما التي بمعناها على أن من الأئمة من أنكر مجيء لما بمعنى إلا، قال أبو عبيد: أما من شدد لما يتأولها إلا فلم نجد هذا في كلام العرب ومن قال هذا لزمه أن يقول: رأيت القوم لما أخاك يريد إلا أخاك، وهو غير موجود، قال الفراء: أما من جعل لما بمنزلة إلا فإنه وجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين: بالله لما قمت عنا وإلا قمت عنا فأما في الاستثناء فلم تقله في شعر ولا غيره ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعت في الكلام: ذهب الناس لما زيدًا.
قلت: وقد ذكر ابن جني وغيره أن إلا تقع زائدة فلا بُعد في أن تقع لما التي بمعناها زائدة فهذا وجه آخر فصارت الوجوه سبعة والصحيح في معنى لما المشددة في هذه السورة ما قاله الشيخ أبو عمرو -رحمه الله- في أماليه المفرقة على مواضع من القرآن وغيره قال لما هذه هي لما الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم: خرجت ولما وسافرت ولما ونحوه وهو سائغ فصيح، فيكون المعنى: وإن كلا لما يهملوا ولما يتركوا لما قدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ، ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم ثم بين ذلك بقوله: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} قال: وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت الناس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن قال: والتحقيق يأبى استبعاد ذلك، قلت: هذا وجه مليح ومعنى صحيح والسكوت على "لما" دون فعلها قد نص عليه الزمخشري في مفصله، وأنشد ابن السكيت شاهدا على ذلك في كتاب معاني الشعر له:
فجئت قبورهم بدءا ولما ... فناديت القبور فلم يجبْنَهْ
وقال في معناه بدءا؛ أي: سيدا وبدؤ القوم؛ أي: سيدهم وبدء الجزو خبر أنصبائها قال: وقوله: ولما؛ أي: لم أكن سيدا إلا حين ماتوا فإني سدت بعدهم كما قال الآخر:
__________
1 سورة الطارق، آية: 4.
(1/526)
________________________________________
خلت الديار فسدت غير مدافع ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
قلت: ونظير السكوت على "لما" دون فعلها سكوت النابغة على قد دون فعلها في قوله:
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قدِ
أي: وكأن قد زالت قال الشيخ أبو عمرو، أما قراءة أبي بكر فلها وجهان أحدهما الوجوه المذكورة في قراءة ابن عامر وغيره فتكون أن مخففة من الثقيلة في قراءتهم والوجه الثاني: أن تكون أن نافية ويكون كلا منصوبا بفعل مضمر تقديره، وإن أرى كلا أو إن أعلم ونحوه ولما بمعنى "إلا" نحو: "إن كل نفس لما عليها حافظ" ومن ههنا كانت أقل إشكالا من قراءة ابن عامر؛ لقبولها هذا الوجه الذي هو غير مستبعد ذلك الاستبعاد وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف المنفي استبعاد ولذلك اختلف في مثل قوله: إلا رجلا جزاه الله خيرًا هل هو منصوب بفعل مقدر ونون ضرورة فاختار الخليل إضمار الفعل واختار يونس التنوين للضرورة قلت: فهذا ما يتعلق بتوجيه القرارات في تشديدان ولما في تخفيفها في هذه السورة وهو من المواضع المشكلة غاية الإشكال وقد اتضحت والحمد لله وإن كان قد طال الكلام فيها فلا بد في المواضع المشكلة من التطويل زيادة في البيان ولو كان الشرح الكبير بلغ هذا الموضع لم يحتج إلى هذا التطويل في هذا المختصر والله الموفق.
والذي في يس: {إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} 1.
وفي الطارق: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} 2.
إن في الموضعين للنفي؛ لأن كل مرفوع بعدها فلم يحتج أن تجعلها المخففة من الثقيلة على قراءة من شدد لما ولما بمعنى إلا وم خففها فهي لام الابتدا وما زائدة وإن هي المخففة من الثقيلة ولم تعمل والله أعلم.
768-
وَفي زُخْرُفٍ "فِـ"ـي "نَـ"ـصِّ "لُـ"ـسْنٍ بِخُلْفِهِ ... وَيَرْجِعُ فِيه الضَّمُّ وَالفَتْحُ "إِ"ذّ "عَـ"ـلا
يريد: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الكلام فيه كالكلام في الذي في يس والطارق، ولسن جمع لسن بكسر السين وهو الفصيح؛ لأن اللسن بفتح السين: الفصاحة، يقال: لسن الكسر فهو لسن ولسن وقوم لسن، لم يوافق ابن ذكوان على تشديد التي في الزخرف وعن هشام فيها خلاف وتقدير البيت: والتشديد في حرف الزخرف مستقر في نص قوم فصحاء نقلوه، أما: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} فالخلاف فيه ظاهر سبق له نظائر وهو إسناد الفعل إلى المفعول أو الفاعل.
__________
1 آية: 30.
2 آية: 4.
(1/527)
________________________________________
769-
وَخَاطَبَ عَمَّا يَعْمَلُونَ بِها وآ ... خِرَ النَّمْلِ "عِـ"ـلْمًا "عَمَّ" وَارْتَادَ مَنْزِلا
عما تعملون فاعل خاطب جعله مخاطبا لما كان الخطاب فيه، وعلما مفعول خاطب؛ أي: خاطب ذوي علم وفهم وهم بنو آدم، وقال الشيخ: هو مصدر أي: اعلم ذلك علما وآخر النمل يروي بجر الراء ونصبها فالجر عطفا على الضمير في بها مثل قراءة: {بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ، والنصب عطفا على موضع الجار والمجرور كأنه قال: هنا وآخر النمل وكلا الموضعين في آخر السورة: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1، فالخطاب هنا للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين والغيبة رد على قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 2.
والخطاب في آخر النمل رد على قوله: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} ، والغيبة إخبار عنهم وارتاد معناه: طلب والضمير في عم وارتاد للعلم؛ أي: علما عم العقلاء من بني آدم المخاطبين واختار موضعا لنزوله وحلوله فيهم والله أعلم، ثم ذكر ياءات الإضافة فقال:
770-
وَيَاءاتها عَنِّي وَإِنِّي ثَمَانِيا ... وَضَيْفِي وَلكِنِّي وَنُصْحِيَ فَاقْبَلا
أراد: "عَنِّيَ إِنه لفرح" فتحها نافع وأبو عمرو.
و"إني" في ثمانية مواضع: "إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ"، "إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ" في قصتي نوح وشعيب: "إِنِّيَ أَعِظُكَ"، "إِنِّيَ أَعُوذُ بِكَ"؛
"إنيَ أعوذ بك" فتح الخمس الحرميان وأبو عمرو.
"إِنِّيَ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ"3، فتحها نافع وأبو عمرو والبزي.
"إِنِّيَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ"4، فتحها نافع وأبو عمرو.
"إِنِّيَ أُشْهِدُ اللَّهَ"5، فتحها نافع، وقد ضبطت هذه الثمانية في بيت فقلت:
أراكم أعوذ أشهد الوعظ معْ إذا ... أخاف ثلاثا بعد أنّ تكملا
__________
1 سورة النمل: 93.
2 سورة هود، آية: 122.
3 سورة هود، آية: 84.
4 سورة هود، آية: 31.
5 سورة هود، آية: 54
(1/528)
________________________________________
أي: هذه الألفاظ بعد "إني" ونبهت بالوعظ على أعظكم.
و"ضَيْفِيَ أَلَيْسَ"، فتحها نافع وأبو عمرو.
"وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ"، فتحها البزي ونافع وأبو عمرو.
"ولا ينفعكم نصحيَ إن أردت"، فتحها نافع وأبو عمرو، فهذه اثنتا عشرة ياء، وقوله: ثمانيًا نصب على الحال من إني؛ أي: خذها ثمانيا أو فاقبلها ثمانيا، وثمانيا مصروف، قال الجوهري: لأنه ليس بجمع فيجري مجرى جوارٍ وسوارٍ في ترك الصرف، وما جاء في الشعر غير مصروف فهو على توهم أنه جمع، وأراد: "فاقبلن"، فأبدل من نون التأكيد ألفا وياءاتها مبتدأ، ويجوز نصبه بكسر التاء مفعولا لقوله: فاقبلا، وعنى وما بعده بدل منه وما أحلى ما اتفق له من اتصال هاتين اللفظتين ونصحيَ فاقبلا والله أعلم.
771-
شِقَاقِي وَتَوْفِيقِي وَرَهْطِيَ عُدَّها ... وَمَعْ فَطَرَنْ أَجْرِي مَعًا تُحْصِ مُكْمِلا
أراد: "شِقَاقِيَ أَنْ يُصِيبَكُمْ"، فتحها الحرميان وأبو عمرو.
"وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللَّهِ"، فتحها نافع وأبو عمرو وابن عامر.
"أَرَهْطِيَ أَعَزُّ"، فتحها الحرميان وأبو عمرو وابن ذكوان.
"فَطَرَنِيَ أَفَلا تَعْقِلُونَ"، فتحها نافع والبزي.
"إِنْ أَجْرِي إِلَّا"، موضعان في قصتي نوح وهود، فلهذا قال: أجري معا سكنهما ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر، ونصب معا كنصب ثمانيا فهذه ثماني عشرة ياء إضافة وقوله: تُحْصِ مجزوم؛ لأنه جواب قوله: عدها ومكملا حال من فاعل تحص، وفيها ثلاث زوائد:
"فلا تسئلني"، أثبتها في الوصل أبو عمرو وورش.
(1/529)
________________________________________
"وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي"، أثبتها في الوصل أبو عمرو وحده.
"يَوْمَ يَأْتِي لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ"، أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو والكسائي، وأثبتها ابن كثير في الحالين. وقلت في ذلك:
وزيدت فلا تسئلن ما يوم يأت لا ... تكلم لا تخزون في ضيفي العلا
(1/530)
________________________________________
سور يوسف
...
سورة يوسف:
772-
وَيَا أَبَتِ افْتَحْ حَيْثُ جَا لاِبْنِ عَامِر ... وَوُحِّدَ لِلْمَكِّي آيَاتٌ الوِلا
الخلاف في: "يا أبت" مثل ما سبق في يا ابن أم ويا بني بالفتح والكسر والتاء في يا أبت: تاء تأنيث عوضت عن ياء الإضافة في قراءة من كسرها؛ لأنه حركها بحركة ما قبل ياء الإضافة؛ لتدل على ذلك، وهي في قراءة من فتح عوض من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك: "يا أبا"، وفتحت تحريكا لها بحركة ما قبل الألف، وقيل: يجوز أن يكون الفتح على حد قولهم في الترخيم: "يا أميمة" بالفتح وقراءة ابن كثير: "آية للسائلين" بالإفراد؛ أي: آية عجيبة كما جاء في آخر السورة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} ، والباقون بالجمع كما جاء في مواضع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} ، ووجه القراءتين ظاهر، وكم من آية في ضمنها آيات، واختار أبو عبيد قراءة الجمع وقال: لأنها عبر كثيرة قد كانت فيهم، والولا: القرب وهو صفة لقوله: {آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} ؛ أي: ذات الولا؛ أي: القريبة من قوله: يا أبت ولا خلاف في إفراد التي في آخر السورة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
773-
غَيَابَاتِ فِي الحَرْفَيْنِ بِالجَمْعِ نَافِعٌ ... وَتَأْمَنُنا لِلْكُلِّ يُخْفَي مُفَصَّلا
يريد بالحرفين موضعين: وهما: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} ، {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} ، والغيابة ما يغيب فيه شيء، وغيابة البئر في جانبه فوق الماء فوجه الإفراد ظاهر، ووجه الجمع: أن يجعل كل موضع مما يغيب غيابة ثم يجمع، أو كان في الجب غيابات؛ أي: ألقوه في بعض غيابات الجب أو أريد بالجب الجنس؛ أي: ألقوه في بعض غيابات الأجبية.
وأما: {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} فأصله "لا تأمننا" بنونين على وزن: تعلمنا، وقد قرئ كذلك على الأصل وهي قراءة شاذة؛ لأنها على خلاف خط المصحف؛ لأنه رسم بنون واحدة فاختلفت عبارة المصنفين عن قراءة القراء المشهورين له.
(1/531)
________________________________________
وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه: إدغام إحدى النونين في الأخرى إدغاما محضا بغير إشمام، إدغام محض مع الإشمام، إخفاء لا إدغام؛ وهذه الوجوه الثلاثة هي المحكية عن أبي عمرو في باب الإدغام الكبير، فالإخفاء هو المعبر عنه بالروم، ولم يذكر الشاطبي في نظمه هنا غير وجهين: الإخفاء في هذا البيت والإدغام مع الإشمام في البيت الآتي، ومال صاحب التيسير إلى الإخفاء، وأكثرهم على نفيه، قال في التيسير: مالك لا تأمننا بإدغام النون الأولى في الثانية وإشمامها الضم، قال: وحقيقة الإشمام في ذلك أن يشار بالحركة إلى النون لا بالعضو إليها، فيكون ذلك إخفاء لا إدغاما صحيحا؛ لأن الحركة لا تسكن رأسا بل يضعف الصوت بها، فيفصل بين المدغم والمدغم فيه لذلك، وهذا قول عامة أئمتنا وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحته في القياس، فهذا معنى قول الناظم: "للكل يخفى مفصلا"؛ أي: نفصل إحدى النونين عن الآخر بخلاف حقيقة الإدغام، وقال أبو بكر ابن مهران في كتاب الإدغام: "مالك لا تأمننا" بالإشارة إلى الضمة وتركها قال: ولم يحك عن أحد منهم إلا الإدغام المحض من أشار منهم ومن ترك، ولو أراد من أشار الإخفاء دون الإدغام لفرقوا وبينوا، وقالوا: أدغم فلان وأخفى فلان فلما قالوا: أدغم فلان وأشار وأدغم فلان ولم يشر درينا أنهم أرادوا الإدغام دون الإخفاء، وأنه لا فرق عندهم بين الإشارة وتركها والله أعلم، وقال صاحب الروضة: لا خلاف بين جماعتهم في التشديد والله أعلم.
774-
وَأَدْغَمَ مَعْ إِشْمَامِهِ البَعْضُ عَنْهُمُ ... وَنَرْتَعْ وَنَلْعَبْ يَاءُ "حِصْنٍ" تَطَوَّلا
أي: فعل ذلك بعض المشايخ عن جميع القراء، وهذا الوجه ليس في التيسير وقد ذكره غير واحد من القراء والنحاة حتى قال بعضهم: أجمعوا على إدغام لا تأمننا، قال ابن مجاهد: كلهم قرأ "لا تأمَنّا" بفتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم اتفاقًا، قال أبو علي: وجهه أن الحرف المدغم بمنزلة الحرف الموقوف عليه من حيث جمعهما السكون، فمن حيث أشموا الحرف الموقوف عليه إذا كان مرفوعا في الإدراج أشموا النون المدغمة في "تأمنا" قال: وليس هذا بصوت خارج إلى ذلك اللفظ، إنما هو تهيئة العضو لإخراج ذلك الصوت به؛ ليعلم بالتهيئة أنه يريد ذلك المهيأ له قال: وقد يجوز في ذلك وجه آخر في العربية، وهو أن يتبين ولا يدغم، ولكنك تخفي الحركة؛ وإخفاؤها هو أن لا تشبعها بالتمطيط ولكنك تختلسها اختلاسا. قلت: وهذا هو الوجه المذكور في البيت الأول، وقال أبو الحسن الحوفي: جمهور القراء على الإشمام للإعلام بأن النون من "تأمن" كانت مرفوعة، وصفة ذلك أنك تشير إلى الضمة من غير صوت مع لفظك بالنون المدغمة، وهو شيء يحتاج إلى رياضة، قال مكي: "لا تأمنا" بإشمام النون الساكنة الضم بعد الإدغام وقبل استكمال التشديد هذه ترجمة القراء. قلت: ووجه الإشمام الفرق بين إدغام المتحرك وإدغام الساكن، قال الفراء: تشير إلى الرفعة وإن تركت فلا بأس كل قد قرئ به والياء في: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} .
ليوسف والنون لجميع الإخوة، ثم ذكر خلاف القراء في العين فقال:
775-
وَيَرْتَعْ سُكُونُ الكَسْرِ فِي العَيْنِ "ذُ"و "حِـ"ـمًا ... وَبُشْرَايَ حَذْفُ الْيَاءِ "ثَـ"ـبْتٌ وَمُيِّلا
(1/532)
________________________________________
من أسكن العين فللجزم، وقراءته من رتع يرتع؛ أي: يتسع في الخصب، ومن كسرها فهو من ارتعى يرتعي يفتعل من الرعي، فحذف الياء للجزم وأثبتها قنبل في وجه على ما تقدم في باب الزوائد فقرأه الكوفيون بالياء وسكون العين وقراءة نافع بالياء وكسر العين، وقراءة ابن عامر وأبي عمرو بالنون وسكون العين، وقراءة ابن كثير بالنون وكسر العين وبإشباع كسرتها في وجه، ففي "يرتع" خمس قراءات، وفي "يلعب" قراءتان الياء لحصن والنون للباقين وأما: "بشراي"، فمن حذف ياءه كأن قد نادى البشرى من غير إضافة أي: أقبلي فهذا وقتك، والباقون على إضافة البشرى إليه وكلاهما ظاهر وقوله: "ثبت"؛ أي: قراءة ثبت يقال: رجل ثبت؛ أي: ثابت القلب، ثم ذكر في البيت الآتي أن حمزة والكسائي أمالا الألف على أصلهما؛ لأنها ألف تأنيث لا سيما وقبلها راء فقال:
776-
"شِـ"ـفَاءً وَقَلِّلْ "جِـ"ـهْبِذَا وَكِلاهُمَا ... عَنِ ابْنِ العَلا وَالفَتْحُ عَنْهُ تَفَضَّلا
"شفاء" حال من الممال؛ أي: ذا شفاء، وقَلِّل؛ أي: أَمِلْ بين بين. وجهبذا:؛ أي: مشبها جهبذا وهو الناقد الحاذق في نقده وجمعه جهابذة كأنه أشار بذلك إلى التأنق في التلفظ بين بين فإنها صعبة على كثير ممن يتعاطى علم القراءة؛ أي: أمالها ورش بين اللفظين على أصله في إمالة ذوات الراء ثم قال: وكلاهما بمعنى الإمالة والتقليل رويا عن أبي عمرو، وروي عنه الفتح وهو الأشهر وعليه أكثر أهل الأداء وليس في التيسير غيره، واختاره أبو الطيب بن غلبون بين اللفظين. قال مكي: وقد ذكر عن أبي عمرو مثل ورش والفتح أشهر، وحكى أبو علي الأهوازي الإمالة عن أبي عمرو من طريق اليزيدي. قال مكي: أما الإمالة المحضة فهي قيس من الوجهين الأخيرين؛ لأنه أمال البشرى إمالة محضة وأمال "الرؤيا" بين اللفظين، فكما أمال "رؤياي" بين اللفظين كذلك يقتضي أن يميل "بشراي" على قياس أصله والفتح فيه وبين اللفظين خروج عن الأصل الذي طرده في إمالته. قلت: وعلل الداني الفتح بأن ألف التأنيث هنا رسمت ألفا ففتح؛ ليدل على ذلك، ويلزم على هذا القياس أن لا يميل رؤياي بين اللفظين كذلك والله أعلم.
777-
وَهَيْتَ بِكَسْرٍ "أَ"صْلُ "كُـ"ـفْؤٍ وَهَمْزُهُ ... "لِـ"ـسَانٌ وَضَمُّ التَّا "لِـ"ـوَى خُلْفُهُ "دُ"لا
أي: أصل عالم كفؤ وهمزه لسان؛ أي: لغة وقصر لفظ التاء ولوى ضرورة ولوى خلفه مبتدأ ودلا خبره وقد سبق معناه يقال هيت: كأين وهيت: كحيث وهيت: مثل غيظ قريء بهذه الثلاث اللغات وزاد هشام الهمز وهو من أهل كسر الهاء وضم التاء وفتحها وهو اسم فعل بمعنى هلم وأسرع ويقال أيضا هيت كجير ولم يقرأ بهذه اللغة وقيل: المهموز فعل من هاء يهييء كجاء يجيء إذا تهيأ فعلى الفتح وهو المشهور عن هشام يكون خطابا ليوسف على معنى حسنت هيئتك أو على معنى تهيأ أمرك الذي كنت أطلبه؛ لأنها ما كانت تقدر في كل وقت على الخلوة به، وتحتمل قراءة نافع
(1/533)
________________________________________
وابن ذكوان أن أصلها الهمز فخففت، وقال أبو علي: يشبه أن يكون "هيت" مهموزا بفتح التاء، وهما من الراوي؛ لأن الخطاب يكون من المرأة ليوسف، وهو لم يتهيأ لها، ولو كان لقالت له: هئت لي، وجوابه أن يقال: وقع قولها لك بيانا لا متعلقا بهيت، والمعنى لك أقول والخطاب لك، ومثله: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} 1، {بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} 2 والله أعلم.
778-
وَفِي كَافَ فَتْحُ الَّلامِ فِي مُخْلِصًا "ثَـ"ـوَى ... وَفِي المُخْلِصِينَ الكُلّ "حِصْنٌ" تَجَمَّلا
يريد: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} ، في سورة مريم1 وسماها "كاف"؛ لأنها استفتحت بهذه الحروف فصارت كصاد ونون وقاف، وفي قوله: وفي المخلصين الكل؛ أي: حيث جاء معرفا باللام فقوله: مخلصين له الدين لا خلاف في كسر لامه، ومعنى الكسر أنهم أخلصوا لله تعالى دينهم، ومعنى الفتح أخلصهم الله؛ أي: اجتباهم وأخلصهم من السوء والله أعلم.
779-
معًا وَصْلُ حَاشَا "حَـ"ـجَّ دَأْبًا لِحَفْصِهِمْ ... فَحَرِّكْ وَخَاطِبْ يَعْصِرُنَ "شَـ"ـمَرْدَلا
يريد أن لفظ: حاشا جاء في موضعين في هذه السورة: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} ،: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} .
أثبت أبو عمرو الألف بعد الشين في الموضعين إذا وصل الكلمة بما بعدها، فإن وقف عليها حذف الألف كسائر القراء وقفا ووصلا اتباعا للرسم، ولا يكاد يفهم هذا المجموع من هذا اللفظ اليسير، وهو قوله: معا وصل حاشا حج؛ فإنه إن أراد بوصل حاشا إثبات ألفها في الوصل دون الوقف على معنى وصل هذا اللفظ فيكون من باب قوله: وباللفظ أستغني عن القيد إن جلا، فكأنه قال: وصل حاشا بالمد لم يعلم؛ أي: المدين يريد: ففي هذه اللفظة ألفان: أحدهما بعد الحاء والأخرى بعد الشين وكل واحدة منهما قد قرئ بحذفها قرأ الأعمش: "حشا لله"، وأنشد ابن الأنباري على هذه القراءة:
حشا رهط النبي فإن منهم ... بحورا لا تكدرها الدلاء
وإن كان أراد بقوله: "وصل حاشا" وصل فتحة الشين بألف كما توصل الضمة بواو والكسرة بياء لم يكن مبينا لحذفها في الوقف، وتقدير البيت: وصل كلمتي حاشا معا حج؛ أي: غلب، وحاشا: حرف جر يفيد معنى البراءة، وبهذا المعنى استعمل في الاستثناء ثم وضع موضع البراءة فاستعمل كاستعمال المصادر فقيل: حاشا لله كما يقال براءة لله فلما تنزل منزلة الأسماء تصرفوا فيه بحذف الألف الأولى تارة وبحذف الثانية أخرى وتارة بتنوينه قرأ أبو السمال "حاشا لله" هذا معنى ما ذكره الزمخشري ومال أبو علي إلى أنه فعل فقال: هو على فاعل مأخوذ من الحشا الذي؛ يعني به الناحية، والمعنى أنه صار في حشا؛ أي: في ناحية مما قرن به؛ أي: لم يقترنه ولم يلابسه، وصار في عزل عنه وناحية وفاعله يوسف.
__________
1 سورة الصافات، آية: 102.
(1/534)
________________________________________
أي: بعد عن هذا الذي رمى به؛ لله أي: لخوفه ومراقبة أمره. "والدأْب والدأَب: لغتان كالمعز والمعز". والفاء في "فحرك" زائدة؛ أي: حرك دأبا لحفص، ويعصرون: بالخطاب والغيبة ظاهر وما فيه الخطاب تارة يجعله مفعولا بالخطاب كهذا وتارة فاعلا نحو: وخاطب عما يعملون؛ وكل ذلك لأن الخطاب فيه، وشمردلا حال من فاعل خاطب أو مفعوله ومعناه خفيفا والله أعلم.
780-
وَنَكْتَلْ بِيَا "شَـ"ـافٍ وَحَيْثُ يَشَاءُ نُو ... نُ "دَ"ارٍ وَحِفْظًا حَافِظًا "شَـ"ـاعَ عُقلا
يريد: "فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا يَكْتَلْ" الياء للأخ والنون لجماعة الأخوة، وقوله تعالى: "يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ نَشَاءُ"، الياء ليوسف والنون نون العظمة، ولا خلاف في قوله: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} أنه بالنون. ودار: اسم فاعل من دريت، والتقدير: ذو نون قارئ دارٍ وشافٍ كذلك؛ أي: بياء قارئ شافٍ، ويجوز أن يكون شافٍ صفة "يا" أو خبر نكتل، و"بيا" متعلق به؛ أي: ونكتل: شافٍ "بيا"، ووزن نكتل: نفتل والعين محذوفة والأصل نكتال حذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين في حال الجزم وأصل نكتال نكتيل على وزن نفتعل مثل نكتحل، ويتعلق بذلك حكاية ظريفة جرت بين أبي عثمان المازني وابن السكيت في مجلس المتوكل أو وزيره ابن الزيات قد ذكرتها في ترجمة يعقوب بن السكيت في مختصر تاريخ دمشق، وقوله: حفظا مبتدأ وخبره مضمر؛ أي: يقرأ حافظًا أو يكون خبره شاع عقلا، وعقلا تمييز وهو جمع عاقل؛ أي: شاع ذكر الذين عقلوه وحافظا حال؛ أي: شاع على هذه الحالة في القراءة، ويجوز أن يكون عقلا حال على معنى ذا عقل، وانتصب حفظا في الآية وحافظا على التمييز، وجوز الزمخشري أن يكون حافظا حالا، ومنعه أبو علي، والتمييز في حفظا ظاهر؛ أي: حفظ لله خير من حفظكم، ووجه حافظا أن لله تعالى حفظة كما له حفظ نحو قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} .
فالتقدير: حافظه خير من حافظكم كما كان حِفظه خيرا من حِفظكم، ويجوز أن يكون التمييز من باب قولهم: لله دره فارسًا؛ أي: در فروسيته، فيرجع المعنى إلى القراءة الأخرى، وهذا التمييز الذي هو حافظ يجوز إضافة خير إليه وقد قريء "خير حافظ"، ولا تجوز الإضافة إلى حفظ إلا على تقدير خير ذي حفظ والله أعلم.
(1/535)
________________________________________
وقدم ذكر الخلاف في "نكتل" على "حيث يشاء" ضرورة للنظم وإلا فالأمر بالعكس وقدمه.
781-
وَفِتْيَتِهِ فِتْيَانِهِ "عَـ"ـنْ "شَـ"ـذًا وَرُدْ ... بِالِاخْبَارِ فِي قَالُوا أَئِنَّكَ "دَ"غْفَلا
أي: يقرأ فتيانه أو التقدير: وقراءة فتيته بلفظ فتيانه لحفص وحمزة والكسائي، وهم الذين قرءوا "حافظا" فلو قال: عنهم موضع قوله: عن شذا لاستقام لفظا، ومعنى: وفتية وفتيان كلاهما جمع فتى كإخوة وإخوان الأول للقلة والثاني للكثرة، فكأن الخطاب كان لجميع الأتباع والذين باشروا الفعل قليل منهم، وقوله: ورد؛ أي: اطلب من راد وارتاد إذا طلب الكلأ، ودغفلا مفعول به وهو العيش الواسع؛ أي: اطلب عيشا واسعا بالقراءة بالأخبار في قوله: {إِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ} ؛ لأنها ظاهرة المعنى؛ وذلك أنهم جزموا بمعرفته لما اتضح لهم من قرائن دالة على ذلك، فهذه قراءة ابن كثير وقرأ الباقون بالاستفهام وهم على أصولهم في التحقيق والتسهيل والمد بين الهمزتين، ثم يحتمل أن يكون استفهاما على الحقيقة ولم يكن بعد قد تحقق عندهم وتكون قراءة ابن كثير على حذف همزة الاستفهام كما قيل: ذلك في قوله.
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عََيَّ} 1.
أي: وتلك نعمة وله نظائر، ويحتمل أن يكون استفهاما على سبيل الاستغراب والاستعظام وإن كانوا قد عرفوه حق المعرفة؛ أي: إنك لهو ونحن وأنت يعامل بعضنا بعضا معاملة الغرباء ولعل بعض الإخوة قالوه خبرا وبعضهم استفهاما، فجاءت القراءتان كذلك ومن عادة الناظم أن يجعل الاستفهام ضد الإخبار، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف وسيأتي مثله في الرعد، واتفق لي نظم أربعة أبيات عوض الثلاثة المتقدمة تبين فيها القراءتان في حاشا وصلا ووقفا، وذكر فيها الخبر والاستفهام في أئنك مع التنبيه على أنهم على أصولهم في ذلك تجديدًا للعهد بما تقدمت معرفته وتذكيرا بذلك خوفا من الذهول عنه، ولم يستقم لي إيضاح جميع ذلك إلا بزيادة بيت فقلت:
وفي الوصل حاشا حج بالمد آخرا ... معاد أبا حرك لحفص فتقبلا
أراد بالمد بعد الشين احترازا عن المد بعد الحاء ثم قال:
ونكتل بياء يعصرون الخطاب شذ ... وحيث يشاء النون دار وأقبلا
استغنى برمز واحد، وهو قوله: شذ لقراءتين في نكتل ويعصرون، ثم قال:
وفي حافظا حفظا صفا حق عمهم ... وفتيته عنهم لفتيانه انجلا
والِاخبار في قالوا أئنك دغفلا ... ويستفهم الباقي على ما تأصلا
782-
وَيَيْأَسْ مَعًا وَاسْتَيْأَسَ اسْتَيْأَسُوا وَتَيْـ ... ـأَسُوا اقْلِبْ عَنِ البَزِّي بِخُلْفٍ وَأَبْدِلا
__________
1 سورة الشعراء، آية: 22.
(1/536)
________________________________________
معا؛ يعني: هنا وفي الرعد: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} 1، {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} 2، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} 3، {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} 4، {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} 5؛ فهذه خمسة مواضع استفعل فيها بمعنى: فعل كاستعجب واستسخر بمعنى عجب وسخر وكلها من اليأس من الشيء وهو عدم توقعه لا التي في الرعد قيل: إنها بمعنى علم فقراءة الجماعة في هذه المواضع على الأصل الهمز فيها بين الياء والسين، وروي عن البزي أنه قرأها بألف مكان الياء، وبياء مكان الهمزة وكذلك رسمت في المصحف وحمل ذلك على القلب والإبدال قال أبو علي: قلبت العين إلى موضع الفاء فصار استفعل وأصله استيأس، ثم خفف الهمزة وأبدلها ألفا؛ لسكونها وانفتاح ما قبلها، فصار مثل راس وفاس فهذا معنى قول الناظم: اقلب وأبدلا، ولم يذكر ما هو المقلوب وما هو المبدل، وأراد بالقلب التقديم والتأخير، وعرَّفنا أن مراده تقديم الهمزة على الياء قولُه: وأبدلا؛ فإن الإبدال في الهمز ثم لم يبين أي شيء يبدل بل أحال ذلك على قياس تسهيلها؛ لأنها إذا جعلت في موضع الياء، وأعطيت حكمها بقيت ساكنة بعد فتح وبقيت الياء مفتوحة على ما كانت عليه الهمزة، ثم لما اتصفت الهمزة بالسكون جاز إبدالها ألفا، فقرأ البزي بذلك في وجه، وإن لم يكن من أصله إبدال الهمزة المنفردة كما أنه سهل همزة: "لاعْنَتَكُمْ" بين بين في وجه وإن لم يكن ذلك من أصله جمعا بين اللغات؛ القلب في هذه اللغة في الفعل الماضي يقال: "يئس" و"أيس" فيبنى المضارع على ذلك، فقراءة الجماعة من لغة "يئس" وهي الأصل عندهم، وقراءة البزي من لغة "أيس" فمضارعه ييأس، وأراد الناظم وأبدلن فأبدل النون ألفا.
783-
وَيُوحى إِلَيْهِمْ كَسْرُ حَاءِ جَمِيعِهَا ... وَنُونٌ علًا يُوحي إِلَيْهِ "شَـ"ـذًا "عَـ"ـلا
أي: وحيث أتى وعلا خبر:؛ أي: القراءة بالكسر وبالنون ذات علا؛ لإسناد الفعل فيها إلى الله تعالى والقراءة الأخرى بالياء وفتح الحاء على أنه فعل ما لم يسم فاعله وأراد بقوله: يوحي إليه قوله تعالى في سورة الأنبياء: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، فقرأ حفص الجميع بالنون وكسر الحاء، ووافقه حمزة والكسائي على الذي في الأنبياء، ولا خلاف في الذي في أول الشورى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ} .
__________
1سورة يوسف، آية: 87.
2 سورة الرعد، آية: 31.
3 سورة يوسف، آية: 110.
4 سورة يوسف، آية: 80.
5 سورة يوسف، آية: 87.
(1/537)
________________________________________
بالياء، واختلف في كسر الحاء وفتحها كما سيأتي، وتقدم معنى شذا علا:
784-
وَثَانِيَ نُنْجِ احْذِفْ وَشَدِّدْ وَحَرِّكَنْ ... "كَـ"ـذَا "نَـ"ـلْ وَخَفِّفْ "كُـ"ـذِّبُوا "ثَـ"ـابِتًا تَلا
يريد حذف النون الثانية وتشديد الجيم وتحريك الياء بالفتح فيصير فعلا ماضيا لم يسم فاعله من أنجى والقراءة الأخرى على أنه فعل مضارع من أنجى وهو قوله تعالى: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} ، فالنون الأولى حرف المضارعة، والثانية من أصل الفعل فالمحذوف في قراءة التشديد هي الأولى حقيقة؛ لأن الفعل فيها ماضٍ، ولكن الناظم أراد حذف الثاني صورة لا حقيقة وكانت هذه العبارة أخصر؛ لبقاء النون الأولى مضمومة، فلو كان نص على حذف الأولى لاحتاج إلى أن يقول: وضم الثانية، ولولا الاحتياج إلى هذا لأمكن أن يقال: أراد الثاني من "فننجي"؛ لأن لفظ القرآن كذلك، والثاني من "فننجي" هي النون الأولى، وكان يستقيم له أن يقول: وثاني فننجي احذف ولكنه عدل إلى تلك العبارة لما ذكرناه، والنون في قوله: وحركن نون التأكيد الخفيفة التي تبدل ألفا في الوقف، وقوله: كذا نل دعاء للمخاطب بالنجاة، وأما: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} .
فخفف الكوفيون الذال وثابتا: حال من التخفيف، وتلا بمعنى: تبع ما قبله: من القراءات الثابتة وقيل: أراد تلا بالمد؛ أي: ذمة فالتشديد وجهه ظاهر هو من التكذيب ويكون ظنوا بمعنى تيقنوا وجوز أبو علي أن يكون بمعنى حسبوا، والتكذيب من الكافر كان مقطوعا به فلا وجه للحسبان على هذا إلا ما سنذكره من تفسير صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أما قراءة التخفيف فمن قولهم: كذبته الحديث؛ أي: لم أصدقه فيه، ومنه: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
فالمفعول الثاني في الآيتين محذوف، ثم في تأويل هذه القراءة وجوه أربعة: اثنان على تقدير أن يكون الضمير في: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ} للرسل، واثنان على تقدير أن يكون الضمير للمرسل إليهم، وقد تقدم ذكرهم في قوله: {عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، ولفظ الرسل أيضا: دالّ على مرسل إليهم فإن عاد الضمير على المرسل وهو الظاهر لجري الضمير على الظاهر قبله، فله وجهان: أحدهما: وظن الرسل أن أنفسهم كذبتهم حين حدثتهم بالنصر أو كذبهم رجاؤهم كذلك وانتظارهم له من غير أن يكون الله تعالى وعدهم به، ولهذا يقال: رجا صادق ورجا كاذب وقوله: بعد ذلك جاءهم نصرنا؛ أي: جاءهم بغتة من غير موعد والوجه الثاني منقول عن ابن عباس قال: وظن من أعطاهم الرضى في العلانية وأن يكذبهم في السريرة؛ وذلك لطول البلاء عليهم؛ أي: على الأتباع، وقد قيل: في قراءة التشديد نحو من هذا، روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "لم يزل البلاء بالأنبياء صلوات الله
(1/538)
________________________________________
عليهم حتى خافوا أن يكون من معهم من المؤمنين كذبوهم"، وفي صحيح البخاري عن عائشة في قراءة التشديد: قالت: "هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوا، وطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر"، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك، فاتحد على ذلك معنى القراءتين، أما إن كان الضمير في: "وظنوا أنهم" للمرسَل إليهم فلتأويله وجهان؛ أحدهما: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من النصر، والثاني: وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل فيما أخبروا به من أنهم ينصرون عليهم، وهذا قول يحكى عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه- سئل عن ذلك، فقال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم، فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضرًا لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلًا، قال أبو علي: وإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه قد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد لله قال: وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا؛ لأن الله لا يخلف الميعاد ولا مبدل لكلمات الله قلت وإنما قال ابن عباس ما تقدم ذكره فخفي معناه على من عبر بهذه العبارة والله أعلم.
785-
وَأَنِّي وَإِنَّى الخَمْسُ رَبِّي بِأَرْبَعٍ ... أَرَانِي مَعًا نَفْسِي لَيُحْزِنُنِي حُلا
أني وما عطف عليه مبتدأ، وحلا: خبره والخمس: نعت؛ لأني المكسورة وحدها والمفتوحة واحدة وهي: "أني أوف الكيل" فتحها نافع وحده والخمس المكسورة "إنيَ أراني" مرتين فتحهما نافع وأبو عمرو، "إِنِّيَ أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ"، "إني أنا أخوك"، "إِنِّيَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ" فتحهن الحرميان وأبو عمرو، و"ربي" في أربعة مواضع و: "رَبِّيَ أَحْسَنَ مَثْوَايَ" فتحها أيضا الحرميان وأبو عمرو، "ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيَ إِنِّي تَرَكْتُ"، "إلا ما رحم ربيَ"، "سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ" فتحهن نافع وأبو عمرو، وأراني معا؛ يعني: "أرانيَ أعصر"، "أَرَانِي أَحْمِلُ" فتحهما الحرميان وأبو عمرو، "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِيَ إِنَّ" فتحها نافع وأبو عمرو، "قَالَ إِنِّيَ لَيَحْزُنُنِي" فتحها الحرميان فهذه أربع عشرة ياء من جملة اثنين وعشرين، ثم ذكر الثماني الباقية فقال:
786-
وَفِي إِخْوَتِي حُزْنِي سَبِيلِيَ بِي وَلِي ... لَعَلِّي آبَاءِي أَبِي فَاخْشَ مَوْحَلا
أراد: "وَبَيْنَ إِخْوَتِيَ إِنَّ" فتحها ورش وحده، "وَحُزْنِيَ إِلَى اللَّهِ" فتحها نافع وأبو عمرو وابن عامر، {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو} فتحها نافع وحده، "بِيَ إِذْ أَخْرَجَنِي"، "ليَ أبي" فتحهما نافع وأبو عمرو، "لَعَلِّيَ أَرْجِعُ" فتحها الحرميان وأبو عمرو وابن عامر "ملة آبائي إبراهيم" كذلك: "أبيَ أو يحكم" فتحها الحرميان وأبو عمرو، وقوله: وفي إخوتي تقديره: والياءات المختلف فيها أيضا في هذه الألفاظ "إخوتي" وما بعده، وقوله: فاخش موحلا؛ يعني: في عددها واستخراج مواضعها؛ فإنها ملبسة لا سيما قوله: الخمس فقد يظن أنه نعت؛ لأني المفتوحة وتقرأ الأولى بالكسر وإنما هو نعت للمكسورة والأولى مفتوحة وقد يظن أن الخمس نعت لهما، ومجموعهما خمسة مواضع؛ أحدهما اثنان والآخر ثلاثة كما قال: "وفي مريم والنحل خمسة أحرف"، وقال "تسؤ" و"نشأ"
(1/539)
________________________________________
ست؛ أي: مجموعهما ست؛ كل واحد ثلاثة، وقد تقدم بيان ذلك أو فاخش غلطا في استخراجها من السورة فلا تعد ما ليس منها نحو: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} ، {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، ونحو ذلك، ولا خلاف في تسكينه والموحل مصدر وحل الرجل بكسر الحاء إذا وقع في الوحل بفتح الحاء وهو الطين الرقيق، وقال الشيخ -رحمه الله: أي فاخش موحلا في إخوتي وما نسق عليه كما تقول: وفي دار عمرو فاجلس، وفيها ثلاث زوائد: "نرتع" أثبت ياءه قنبل بخلاف عنه في الحالين، "حتى تؤتوني موثقا" أثبتها ابن كثير في الحالين وأبو عمرو في الوصل، "من يتقي ويصبر" أثبتها قنبل وحده، وقلت في ذلك:
روائدها نرتع وتؤتون موثقا ... ومن يتقي أيضا ثلاث تجملا
(1/540)
________________________________________
سورة الرعد:
787-
وَزَرْعٌ نَخِيلٌ غَيْرُ صِنْوَانٍ أَوَّلا ... لَدى خَفْضِهَا رَفْعٌ "عَـ"ـلَى "حَقُّهُ" طَلا
يريد الخفض رفع في هذه الكلمات الأربع وهي قوله تعالى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وقوله: أولا قيد لصنوان ونصبه على الظرف بعامل مقدر؛ أي: الواقع أولا احترز بذلك من صنوان الذي بعد غير فإنه مخفوض اتفاقا؛ لأنه مضاف إليه ووجه الرفع في هذه الكلمات أنه عطف: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ} ؛ أي: فيها ذا وذا {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} ، وقوله: صنوان نعت لنخيل، وغير: عطف على صنوان، والصنوان جمع صنو وهو أن يكون الأصل واحدا، وفيه النخلتان والثلاث والأربع وصنو الشيء: مثله الذي أصلهما واحد، وفي الحديث: "عم الرجل صنو أبيه"، ويتعلق بهذه اللفظة بحث حسن يتعلق بصناعة النحو من جهة أن صنوان جمع تكسير، وقد سلم فيه لفظ المفرد كما يسلم في جمع السلامة وقد ذكرت ذلك في المجموع من نظم المفصل، ووجه قراءة الخفض في هذه الكلمات الأربع أنها عطفت على أعناب؛ أي: احتوت الجنات التي في الأرض على أعنابٍ وزرعٍ ونخيلٍ كما قال تعالى في موضع آخر: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ، وقال تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} ، وقال تعالى: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} ، وقال في سورة الأنعام: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} ، وذكر الزرع والنخل قبل ذلك، وقال في آخر السورة: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} ، فعطف النخل والزرع على جنات فهذا موافق لقراءة الرفع هنا وكل واحد من هذه الأنواع موجود، فجاءت الآيات والقراءات على وجوه ما الأمر عليه وقوله: طلا في موضع نصب على التمييز وهو جمع طلية وهو العن؛ أي: علت أعناق حقه ومنه: "المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة" إشارة إلى أمنهم وسرورهم ذلك اليوم الذي يحزن فيه الكافر، ويخجل فيه المقصرون، وهذا البيت أتى به الناظم
(1/541)
________________________________________
مقفى كما فعل في أول سورة الأنبياء وفي سأل، وباب التكبير كما يأتي وهو: أنه جعل لفظ عروضه موافقا للفظ ضربه على حد ما ابتدأ به القصيدة فقال:
وقل قال عن شهد وآخرها علا
إلى نُصُب فاضمم وحرك به علا
روى القلب ذكر الله فاستسق مقبلا
وذلك جائز في وسط القصيدة جوازه في أولها كما فعل امرء القيس في التفريع:
ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن من كان في الزمن الخالي
ثم قال بعد بيتين آخرين:
ديار لسلمى عافيات بذي الحال ... ألح عليها كل أسحم هطال
وقال في التقفية في أثناء قصيدته المشهورة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
788-
وذَكَّرَ تُسْقَى عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ ... وَقُلْ بَعْدَهُ بِاليَا يُفَضِّلُ "شُـ"ـلْشُلا
التذكير على تقدير: يُسقى المذكور والتأنيث على تسقى هذه الأشياء ويفضَّل بعضها بالياء والنون ظاهر أن النون للعظمة، والياء رد إلى اسم الله في قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ} ، وما بعده، وشلشلا: حال من فاعل قل؛ أي: خفيفا والله أعلم.
789-
وَمَا كُرِّرَ اسْتِفْهَامُهُ نَحْوُ آئِذَا ... أَئِنَّا فَذُو اسْتِفْهَامٍ الكُلُّ أَوَّلا
أي: كل موضع تكرر فيه لفظ الاستفهام على التعاقب في آية واحدة أكلام واحد نحو هذا الذي وقع في سورة الرعد وهو: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، وهذا قد جاء في القرآن في أحد عشر موضعا هذا أولها، وفي سبحان موضعان كلاهما: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} 1.
__________
1 آية: 49، 98.
(1/542)
________________________________________
وفي {قَدْ أَفْلَحَ} :
"قالوا أءذا كنا وترابا وعظاما أئنا لمبعوثون"1.
وفي النمل: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُون} 2.
وفي العنكبوت: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} 3.
وفي "الم" السجدة: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 4.
وفي الصافات موضعان: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 5.
والثاني مثله: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} 6.
وفي الواقعة: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 7.
وفي النازعات: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} 8.
وقد جمعت ذلك في بيتين وقلت:
بواقعة قد أفلح النازعات سجـ ... ـدة عنكبوت الرعد والنمل أولا
وسبحان فيها موضعان وفوق صا ... د أيضا فإحدى عشرة الكل مجتلا
ونظمته على بحر البسيط فقلت:
رعد قدَ افلح نمل عنكبوت وسجـ ... ـدة وواقعة والنازعات ولا
وموضعان بسبحان ومثلهما ... فويق صاد فإحدى عشرة النملا
__________
1 آية: 82.
2 آية: 17.
3 الآيتان: 28 و29.
4 آية: 10.
5 آية: 16.
6 آية: 53.
7 آية: 47.
8 آية: آية: 10.
(1/543)
________________________________________
فالجميع واقع في أنه واحد على لفظ واحد، وما نظمه صاحب القصيدة "أءذا" أءنا إلا في موضعين في النازعات، فإنه في آيتين متجاورتين، ولفظه على عكس ما ذكره وهو "أإنا"، و"أإذا" والذي في العنكبوت في آيتين، ولكنه بلفظ آخر متَّحِدٌ، وهو "أإنكم"، "أإنكم" فما أراد الناظم بقوله: نحو "أإذا" "أإنا" إلا تشبيه تعاقب الاستفهامين على ما بيناه، فإن قلتَ: قد تكرر في سورة والصافات يقول: {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} ، فيأخذ الوسط مع الذي قبله أم الذي بعده؟ قلتُ: بل مع الذي بعده؛ فإنهما اللفظان، ونص عليهما الناظم فلا معدل عنهما إلا إذا لم يجدهما كما في العنكبوت كيف وإن أتتك قد تقدم ذكرها في باب الهمزتين من كلمة فإن لم يذكر ثَم شيئا من الاستفهامين، وإن كان الجميع لا خلف عن هشام في مده، وضابطه أن يتكرر الاستفهام وفي كل واحد همزتان وإلا فقد يوجد أحد الشرطين ولا يكونا من هذا الباب، بيانه أن المتكرر يوجد وليس في كل واحد همزتان، كالذي في قصة لوط في سورة الأعراف: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ، {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} ، فهذا استفهام مكرر لكن الأول همزة واحد، ولثاني كذلك في قراءة نافع وحفص وفي قراءة غيرهما، ويوجد الهمزتان ولا يكرر وهذا كثير نحو: {أَإِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} ، {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} ، {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} .
كل ذلك يقرأ بالاستفهام والخبر، وليس من هذا الباب ومنه ما أجمع فيه على الاستفهام نحو: {أَإِذَا مَا مِتّ} ، {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} ، {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} ، {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} ، ولفظ الناظم بقوله: "أئذا"، "أئنا" مد الأول وقصر الثاني لأجل الوزن وكلاهما قرئ به كما بينه ولكن لم يخص أحد بالمد الأول دون الثاني بل منهم من مدهما ومنهم من قصرهما في جميع هذه المواضع ثم بين النظام اختلاف القراء في هذا الاستفهام المكرر على الصفة المذكورة فقال فذو استفهام الكل أولا؛ أي: كل القراء يقرأ أول بلفظ الاستفهام؛ أي: بهمزتين والتحقيق والتسهيل يوجدان من أصولهم في ذلك ونصب قوله: أولا على الظرف؛ أي: أول الاستفهامين يدل على ذلك أنه قال بعد ذلك: وهو في الثاني؛ أي: والإخبار في اللفظ الثاني على ما سنبينه، ولو كان قال الأول بالألف واللام، ولو نصبه على أنه مفعول بالاستفهام؛ لأنه مصدر لكان جائزا، ويكون معنى استفهموه جعلوه بلفظ الاستفهام، فقوله: الكل مبتدأ، وذو استفهام خبره مقدم عليه، والجملة خبر وما كرر استفهامه والعائد إليه محذوف؛ أي: الكل ذو استفهام فيه أولا ويجوز أن يكون المعنى كله ذو استفهام على أن يكون الكل عبارة عن المواضع لا عن القراء والمعنى الأول لقوله: بعده سوى نافع، وعلى المعنى الثاني: نحتاج أن يقدر للقراء سوى نافع والله أعلم.
790-
سِوَى نَافِعٍ فِي النَّمْلِ وَالشَّامِ مُخْبِرٌ ... سِوَى النَّازِعَاتِ مَعْ إِذَا وَقَعَتْ وِلا
أي: استثنى نافع وحده الذي في النمل، فقرأ الأول فيه بالإخبار؛ أي: بهمزة واحدة:
(1/544)
________________________________________
"أإذا كنا ترابا".
ووافق الجماعة كلهم في المواضع الباقية على الاستفهام في الأول، ثم ذكر قراء ابن عامر وهي أنه يقرأ بالإخبار في جميع المواضع ما عدا النمل واستثنى له أيضا من غير النمل الواقعة والنازعات، فلزم من ذلك أن الأول في النازعات والواقعة لم يقرأه أحد بالإخبار والذي في النمل الإخبار فيه لنافع وحده وما عدا ذلك الإخبار فيه لابن عامر وحده إلا الذي في العنكبوت فإنه وافقه على الإخبار في الأول جماعة كما يأتي في البيت الآتي فهذا معنى قوله: والشام مخبر؛ يعني: في غير النمل سوى كذا وكذا، وولا في آخر البيت بكسر الواو؛ أي: والشام مخبر متابعة فهو في موضع نصب على أنه مفعول من أجله، فكأن أصحاب الناظم -رحمه الله- قد استشكلوا استخراج ذلك؛ لأنهم قدروا قوله: فذوا استفهام الكل أولا سوى نافع فبذلك فسره الشيخ ونظم هذا المعنى في بيتين نذكرهما وإذا كان المعنى كذلك لزم أن يكون قد بين الخلاف في موضع واحد وليس هو في السورة التي النظم فيها ثم رام بيانه في جملة المواضع وعكس هذا أولى، فغير الشاطبي هذا البيت بما دل على أن مراده: فذو استفهام الكل في جميع المواضع فقال:
سوى الشام غير النازعات وواقعه ... له نافع في النمل أخبر فاعتلا
أي: نافع وحده قرأ في النمل بالإخبار، ودل على أنه منفرد بذلك أنه لم يُعِدْ ذكر ابن عامر معه، وذلك لازم كما بيناه قوله: رمى صحبة، وفي غير ذلك قال الشيخ -رحمه الله: ومعنى البيتين يعود إلى شيء واحد والأول أحسن وعليه أعول.
قلتُ: في البيت الثاني تنكير لفظ "واقعة" وإسكانها وذلك وإن كان جائز للضرورة فاجتنابه مهما أمكن أولى، وقوله: "له" زيادة لا حاجة إليها، قال: ولو قال الناظم -رحمه الله: فالاستفهام في النمل أولا:
"خـ"ـصوص وبالإخبار شام بغيرها ... سوى النازعات مع إذا وقعت ولا
لارتفع الإشكال وظهر المراد والخاء في خصوص رمز.
791-
وَ"دُ"ونَ "عِـ"ـنَادٍ "عَمَّ" فِي الْعَنْكَبُوتِ مُخْـ ... ـبِرًا وَهْوَ في الثَّانِي "أَ"تَى "رَ"اشِدًا وَلا
أي: تابع ابن كثير وحفص ونافع وابن عامر في الإخبار في أول الذي في العنكبوت فقرءوا "إنكم" بهمزة إن المكسورة، وهذا أحد المواضع التي رمز فيها بعد الواو الفاصلة في كلمة واحدة ومخبرا حال من الضمير في عم وهو عائد على الأول من الاستفهامين جعله مخبرا؛ لأن الإخبار فيه كما يجعل ما فيه الخطاب مخاطبا في نحو: وخاطب عما تعلمون.
ثم قال: وهو "يعني الإخبار" في الثاني؛ أي: في الاستفهام الثاني في كل المواضع الأحد عشر المذكورة إلا ما يأتي استثناؤه وكل ما تقدم ذكره كان مختصا بالاختلاف في الأول.
وقوله: "أتى راشدا" رمز لنافع والكسائي فهما المخبران في الثاني، فقرأ "إنا" بهمزة واحدة مكسورة، وراشدا حال أو مفعول به؛ أي: أتى الإخبار قارئا راشدا، ووَلا بفتح الواو في موضع نصب على التمييز أي
(1/545)
________________________________________
راشدًا ولاؤه، وهو وما قبله المكسور الواو ممدودان وإنما قصرا للوقف عن ما ذكرناه مرارا.
792-
سِوَى العَنْكَبُوتِ وَهْوَ فِي النَّمْلِ "كُـ"ـنْ "رِ"ضَا ... وَزَادَاهُ نُونًا إِنَّنَا عَنْهُمَا اعْتَلا
أي: لم يقرأ أحد في ثاني العنكبوت بالإخبار وهو؛ يعني: الإخبار في ثاني النمل لابن عامر والكسائي، أما نافع فاستفهم كالباقين؛ لأنه قرأ الأول بالخبر كما سبق وكذا فعل في العنكبوت لما أخبر في الأول استفهم في الثاني وابن عامر لما كان مستفهما في أول النمل على خلاف أصله أخبر في الثاني هنا على خلاف أصله أيضا ثم قال: وزاده نونا؛ أي: زاد ابن عامر والكسائي الثاني في النمل نونا فقراءة: "إئنا لمخرجون"، والباقون بنون واحدة والاستفهام "أئنا" ثم قال:
793-
وَ"عَمَّ" "رِ"ضًا فِي النَّازِعَاتِ وَهُمْ عَلَى ... أُصُولِهِمُ وَامْدُدْ "لِـ"ـوَى "حَـ"ـافِظٍ "بَـ"ـلا
رضى في موضع نصب على التمييز؛ أي: عم رضا الإخبار في ثاني النازعات فقرئ: "إذا كنا" بهمزة واحدة فوافق ابن عامر نافعا والكسائي في أصلهما الذي هو الإخبار في الثاني؛ لأنه يقرأ الأول بالاستفهام فهو كما قرأ في النمل، وكان القياس أن يفعل في الواقعة كذلك لكنه استفهم في الموضعين كما أن الكسائي استفهم في موضعي العنكبوت فخالفا أصلهما فيهما، والباقون على الاستفهام مطلقا وهم على أصولهم في ذلك؛ لأنه اجتمع في قراءتهم بالاستفهام همزتان في الأول وهمزتان في الثاني.
فمَن مذهبه تحقيق الهمزتين وهم الكوفيون وابن عامر: حقق.
ومَن مذهبه تسهيل الثانية سهل وهم الحرميان وأبو عمرو على ما تمهد في باب الهمزتين من كلمة.
ومَن مذهبه المد بين الهمزتين سواء كانت الثانية محققة أو مسهلة مدَّ هنا، وهم أبو عمرو وقالون وهشام، وقد رمزهم هنا بقوله: وامدد لوى حافظ بلا وإنما اعتنى ببيان ذلك، ولم يكتفِ بما تقدم في باب الهمزتين من كلمة إعلاما بأن هشاما يمد هنا بغير خلاف عنه بخلاف ما تقدم في الباب المذكور وقد ذكر لهشام فيه سبعة مواضع لا خلف عنه في مدها فهذا الباب كذلك، وقوله: "وامدد لوى" أراد "لوا" الممدود فقصره ضرورة وهو مفعول امدد، وإذا مد اللواء ظهر واشتهر أمره؛ لأن مده نشره بعد طيه، فكأنه يقول: انشر علم الحفظة القراء وأشهر قراءاتهم، ومعنى ابتلا اختبر وهو صفة لحافظ، وأشار الشيخ إلى أن لوى في موضع نصب على الحال؛ أي: في علو لواء الحافظ وشهرته واعلم أن القراءة بالاستفهام في هذه المواضع في الأصل وهو استفهام الإنكار والتعجب، ومن قرأ بالخبر في الأول أو الثاني استغنى بأحد الاستفهامين عن الآخر وهو مراد فيه، ومن جمع بينهما فهو أقوى تأكيدا، والعامل في إذا من قوله: "إذا كنا" في أول المواضع التسع،
(1/546)
________________________________________
وثاني النازعات فعل مضمر يدل عليه ما بعده في الأول وما قبله في الثاني، تقديره أنبعث إذا كنا ترابا أنرد إذا كنا عظاما نخرة، ومن قرأ بالإخبار في ثاني النازعات جاز أن يتعلق إذا بما قبله وهو: {لَمَرْدُودُونَ} ، أما الإخبار في باقي المواضع فلفظه إنا فلا يعمل ما بعد إن فيما قبلها كما لا يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله نص عليه أبو علي، أما الموضع الحادي عشر وهو الذي في العنكبوت فليس فيه لفظ إذا فالأمر فيه ظاهر.
794-
وَهَادٍ وَوَالٍ قِفْ وَوَاقٍ بِيَائِهِ ... وَبَاقٍ "دَ"نَا هَلْ يَسْتَوِي "صُحْبَةٌ" تَلا
يعني حيث وقعت هذه الكلم في هذه السورة أو غيرها نحو: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 1، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 2، {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} 3، {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} 4، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 5.
ابن كثير يقف بالياء على الأصل وأنما حذفت في الوصل؛ لاجتماعها مع سكون التنوين فإذا زال التنوين بالوقف رجعت الياء، والباقون يحذفونها بعا لحالة الوصل، وهما لغتان والحذف أكثر وفيه متابعة الرسم، أما ما يستوي المختلف فيه فهو قوله تعالى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} لما كان تأنيث الظلمات غير حقيقي جاز أن يأتي الفعل المسند إليها بالتذكير والتأنيث، فقراءة صحبة بالتذكير وإطلاق الناظم له دالٌّ على أنه ذلك، وقبل هذا: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} لا خلاف في تذكيره؛ إذ لا يتجه فيه التأنيث مع تذكير الفاعل فلم يحتج إلى أن يقيد موضع الخلاف بأن يقول: الثاني أو نحو ذلك، وقد سبق في الأصول أن هذا الموضع لا إدغام فيه لأحد من القراء؛ لأن من مذهبه إدغام لام هل عند التاء، وهما حمزة والكسائي قرآ هنا بالياء وهشام استثنى هذا الموضع من أصله، وفي تلا ضمير يعود على صحبه؛ لأن لفظه مفرد والله أعلم.
795-
وَبَعْدُ "صِحَابٌ" يُوْقِدُونَ وَضَمُّهُمْ ... وَصُدُّوا "ثَـ"ـوَى مَعْ صُدَّ فِي الطَّوْلِ وَانْجَلا
أي: وبعد يستوي قراءة صحاب يوقدون بالغيبة ردا إلى قوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ} ، وقراءة الباقين بالخطاب ظاهرة، وصدوا ثوى مع صدأى أقام الضم في: {وَصُدُّوا} مع الضم في: {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} في غافر للكوفيين والباقون بفتح الصاد، وتوجيه القراءتين ظاهر؛ لأن الله تعالى لما صدهم عن سبيله صدوهم لا رادَّ لحكمه والضمير في وضمهم للقراء أهل الأداء وهو يوهم أنه ضمير صحاب ولا يمكن ذلك لأجل أبي بكر ولأن ثوى حينئذ لا يبقى رمزا مع التصريح.
__________
1 سورة الرعد، آية: 7.
2 سورة الرعد، آية: 33.
3 سورة الرعد، آية: 11.
4 سورة الرعد، آية: 34.
5 سورة النحل، الآية: 96.
(1/547)
________________________________________
796-
وَيُثْبِتُ فِي تَخْفِيفِهِ "حَقُّ نَـ"ـاصِرٍ ... وَفِي الكَافِرِ الكُفَّارُ بِالجَمْعِ "ذُ"لِّلا
يريد "يمحو الله ما يشاء ويثبت".
التخفيف والتشديد لغتان من أثبت وثبت مثل أنزل ونزل والكافر في قوله: تعالى: "سيعلم الكافر" أريد به الجنس ووجه الجمع ظاهر، ولهذا قال ذللا؛ أي: سهل معناه حين جمع والله أعلم، وفيها زائدة واحدة: "الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي" أثبتها في الحالين ابن كثير وحده، وقلت في ذلك:
ولا ياء فيها للإضافة وارد ... وفي المتعالي زائد قد تحصلا
(1/548)
________________________________________
سورة إبراهيم:
797-
وَفِي الخَفْضِ فِي اللهِ الَّذِي الرَّفْعُ "عَمَّ" خَا ... لِقُ امْدُدْهُ وَاكْسِرْ وَارْفَعِ القَافَ "شُـ"ـلْشُلا
يريد اسم الله تعالى الذي في قوله: "إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، اللَّهُ الَّذِي لَهُ"، فرفعه على الابتداء، والخفض على البدل من: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أو هو عطف بيان، أما: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} فقرأه حمزة والكسائي "خالق" على أنه اسم فاعل، فمدَّا بعد الخاء وكسرا اللام ورفعا القاف؛ لأنه خبر "أن"، وقراءة الباقين خلق على أنه فعل ماضٍ ثم قال:
798-
وَفِي النُّورِ وَاخْفِضْ كُلَّ فِيهَا وَالَارْضَ هَا ... هُنَا مُصْرِخِيَّ اكْسِرْ لِحَمْزَةَ مُجْمِلا
أي: وافعل مثل ذلك في سورة النور في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} 1.
واخفض لفظ "كل" فيها بإضافة "خالق" إليه، والباقون نصبوا "كل"؛ لأنه مفعول خلق وقوله: "وَالْأَرْضِ" ههنا؛ أي: واخفض لفظ الأرض في سورة إبراهيم على قراءة حمزة والكسائي؛ لأنه معطوف على السموات والسموات في قراءتهما مخفوضة لإضافة خالق إليها والسموات في قراءة غيرهما مفعولة بقوله: خلق فهي منصوبة وإنما علامة نصبها الكسرة فلما اتحد لفظ النصب والجر لم يحتج إلى ذكر السموات، وذكر ما عطف عليها وهو الأرض؛ لأن فيها يبين النصب من الجر، فمن كانت السموات في قراءته منصوبة نصب الأرض بالعطف عليها، وقرأ حمزة: "وما أنتم بمصرخي" بكسر الياء المشددة وقرأ الباقون بفتحها وهو الوجه؛ لأن حركة ياء الإضافة الفتح مطلقا سكن ما قبلها أو تحرك وقوله: مجملا؛ يعني: في تعليل قراءة حمزة، وهو من قولهم: أحسن وأجمل في قوله أو فعله؛ أي: اكسر غير طاعن على هذه القراءة كما فعل من أنكرها من النحاة ثم ذكر وجهها فقال:
799-
كَهَا وَصْلٍ اوْ لِلسَّاكِنَينِ وَقُطْرُبٌ ... حَكَاهَا مَعَ الفَرَّاءِ مَعْ وَلَدِ العُلا
ذكر لها وجهين من القياس العربي مع كونها لغة محكية، وإنما تكلف ذلك؛ لأن جماعة من النحاة أنكروا هذه القراءة، ونسبوها إلى الوهم واللحن. قال الفراء: في كتاب المعاني: وقد خفض الياء من مصرخي: الأعمش
__________
1 سورة النور، الآية: 45.
(1/549)
________________________________________
ويحيى بن وثاب جميعا. حدثني بذلك القاسم بن معن عن الأعمش عن يحيى بن وثاب، ولعلها من وهم القراء طبقة يحيى؛ فإنه قل من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أن الياء في "مصرخي" حافظة للفظ كله والياء للمتكلم خارجة من ذلك قال: ومما نرى أنهم أوهموا فيه: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ} بالجزم ظنوا أن الجزم في الهاء، ثم ذكر غير ذلك مما لم يثبت قراءة، وقد تقدم وجه الإسكان في "نوله" ونحوه، وسنقرر كسر ياء "بمصرخي"، وقال أبو عبيد: أما الخفض فإنا نراه غلطا؛ لأنهم ظنوا أن الياء التي في قوله: "بمصرخي" تكسر كل ما بعدها قال: وقد كان في القراء من يجعله لحنا، ولا أحب أن أبلغ به هذا كله، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها، قال الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، ولا وجه لها إلا وجيه ضعيف ذكر وبعض النحويين يعني: القراءة، فذكر ما سنذكره في الحركة لالتقاء الساكنين.
وقال ابن النحاس: قال الأخفش سعيد: ما سمعت هذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين، قال أبو جعفر: قد صار هذا بإجماع لا يجوز، ولا ينبغي أن يحمل كتاب الله تعالى على الشذوذ، قال أبو نصر بن القشيري في تفسيره: ما ثبت بالتواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز أن يقال هو خطأ أو قبيح أو ردي بل في القرآن فصيح وفيه ما هو أفصح فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ حمزة أفصح.
قلت: يستفاد من كلام أهل اللغة في هذا ضعف هذه القراءة، وشذوذها على ما قررنا في ضبط القراءة القوية والشاذة، أما عدم الجواز فلا فقد نقل جماعة من أهل اللغة أن هذه لغة وإن شذت وقل استعمالها، قال أبو علي: قال الفراء في كتابه في التصريف: زعم القاسم بن معن أنه صواب قال: وكان ثقة بصيرا، وزعم قطرب أنه لغة في بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء وأنشد:
ماضٍ إذا ما هم بالمضيِّ ... قال لها هل لك يا تا فيِّ
قال: وقد أنشد الفراء ذلك أيضا.
قلت: فهذا معنى قول الناظم: وقطرب حكاها مع الفراء، فالهاء في حكاها: ضمير هذه اللغة ولم يتقدم ذكرها ولكنها مفهومة من سياق الخفض في تقرير هذه القراءة فهو مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} ؛ أي: عالي مدائن قوم لوط ولم يتقدم لها ذكر ولكن علم ذلك من سياق القصة، وقال الفراء في كتاب المعاني: وقد سمعت بعض العرب ينشد:
قال لها هل لك يا تا فيِّ ... قالت له ما أنت بالمرضيِّ
فخفض الياء من "في" فإن يكن ذلك صحيحا فهو مما يلتقي من الساكنين، وتمام كلام سننقله فيما بعد فانظر إلى الفراء كيف يتوقف في صحة ما أنشده ومعناه: يا هذه هل لك فيّ؟ قال الزجاج: هذا الشعر مما لا يلتفت إليه وعمل مثل هذا سهل، وليس يعرف قائل هذا الشعر من العرب ولا هو مما يحتج به في كتاب الله تعالى اسمه، وقال الزمخشري: هي قراءة ضعيفة واستشهدوا لها ببيت مجهول فذكره.
__________
1 سورة هود، آية: 82.
(1/550)
________________________________________
قلت: ليس بمجهول؛ فقد نسبه غيره إلى الأغلب العجلي الرجز، ورأيته أنا في أول ديوانه، وأول هذا الزجر:
أقبل في ثوبي معافريّ ... بين اختلاط الليل والعشيّ
وهذه اللغة باقية في أفواه الناس إلى اليوم، يقول القائل: ما فيّ أفعل كذا، وفي شرح الشيخ: قال حسين الجعفي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن كسر الياء فأجازه، وهذه الحكاية تروى على وجوه ذكرها ابن مجاهد في كتاب الياءات من طرق، قال خلاد المقرئ: حدثنا حسين الجعفي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء: إن أصحاب النحو يلحنوننا فيها فقال: هي جائزة أيضا؛ إنما أراد تحريك الياء فليس يبالي إذا حركتها، وفي رواية: لا تبالي إلى أسفل حركتها أو إلى فوق، وفي رواية: سألت أبا عمرو بن العلاء عنها فقال: من شاء فتح ومن شاء كسر، وقال خلف: سمعت حسين الجعفي يروي عن أبي عمرو بن العلاء فقال: إنها بالخفض حسنة، وقال محمد بن عمر الرومي: حدثني الثقة عن حسين الجعفي قال: قدم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألته عن القرآن فوجدته به عالما، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش واستشنعته: "وَمَا أَنْتُمْ بِمُْرِخِيِّ" بالجر فقال جائزة، قال: فلما أجازها أبو عمرو، وقرأ بها الأعمش أخذت بها قال: وهي عند أهل الأعراب ليست بذاك، فهذا معنى قول الناظم: مع ولد العلا؛ يعني: أن أبا عمرو حكى هذه اللغة ونقلها، وعلى ضعفها وشذوذها قد وجهها العلماء بوجهين أحدهما أن ياء الإضافة شبهت بهاء الضمير التي توصل بواو إذا كانت مضمومة وبياء إذا كانت مكسورة وتكسر بعد الكسر والياء الساكنة، ووجه المشابهة أن الياء ضمير كالهاء كلاهما على حرف واحد يشترك في لفظه النصب والجر، وقد وقع قبل الياء هنا ياء ساكنة فكسرت كما تكسر الهاء في عليه وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو عليه بياء، وحمزة كسر هذه الياء من غير صلة؛ لأن الصلة ليست من مذهبه، ومعنى المصرخ المغيث، وأصل "مصرخيّ": مصرخيني حذفت النون للإضافة فالتقت الياء التي هي علامة الجر مع ياء الإضافة فأدغمت فيها، وتوجيه هذه اللغة بهذا الوجه هو الذي اعتمد عليه أبو علي في كتاب الحجة فقال: وجه ذلك من القياس أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في: أكرمتك وهذا لك، فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة في هذا لهو وضربهو، ولحق الكاف أيضا الزيادة في قول من قال: أعطيتكاه وأعطيتكيه فيما حكاه سيبويه وهما أختا الياء ولحقت التاء الزيادة في نحو قول الشاعر:
رميتيه فأصميت ... وما أخطأت الرميهْ
كذلك ألحقوا الياء الزيادة من المد فقالوا في ثم حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال: له أرقان، وزعم أبو الحسن أنها لغة.
قلتُ: ليس التمثيل بقوله: له أرقان مطابقا لمقصوده؛ فإن الهاء ساكنة حذفت حركتها مع حذف صلتها، وليس مراده إلا حذف الصلة فقط فالأولى لو كان مثل بنحو: عليه وفيه، ثم قال أبو علي: وكما حذفت الزيادة من الكاف فقيل: أعطيتكه وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها وأقرت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسر قال: فإذا كانت هذه الكسرة في الياء على هذه اللغة وإن كان غيرها أفشى منها وعضده من القياس ما ذكرنا لم يجز لقائل أن يقول: إن القراءة
(1/551)
________________________________________
بذلك لحن؛ لاستقامة ذلك في السماع والقياس وما كان كذلك لا يكون لحنا. قلتُ: فهذا معنى قول الشاطبي -رحمه الله: كها وصل؛ أي: نزلت الياء في: "بِمُصْرِخِيّ" منزلة هاء الضمير الموصلة بحرف المد، فوصلت هذه الياء أيضا بما يليق بها وهو الياء ثم حذفت الصلة منها كما تحذف من الهاء، الوجه الثاني أشار إليه الناظم بقوله: أو للساكنين؛ أي: أو يكون الكسر في: "بِمُصْرِخِيَّ"؛ لأجل التقاء الساكنين، وذلك بأن تقدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء الإعراب ساكنة أيضا، ولم يمكن تحريكها؛ لأنها علامة الجر، ولأنها مدغمة في الثانية، فلزم تحريك ياء الإضافة، فكسرت تحريكا لها بما هو الأصل في التقاء الساكنين وهذا الوجه نبه عليه الفراء أولا، وتبعه فيه الناس، قال الزجاج: أجاز الفراء على وجه ضعيف الكسر؛ لأن أصل التقاء الساكنين الكسر قال الفراء: ألا ترى أنهم يقولون: لم أره منذ اليوم ومذ اليوم، والرفع في الذال هو الوجه؛ لأنه أصل حركة منذ، والخفض جائز، فكذلك الياء من: "بِمُصْرِخِيِّ" خفضت ولها أصل في النصب، قال الزمخشري: كأنه قدر ياء الإضافة ساكنة ولكنه غير فصيح؛ لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو: "عَصَايَ" فما بالها وقبلها ياء، وقال بعضهم: كسرها؛ إتباعا للكسرة التي بعدها كما قرأ بعضهم: "الحمدِ لله" بكسر الدال؛ إتباعا لكسر اللام بعدها فكما تقول العرب بعير وشعير ورحيم بكسر أوائلها إتباعا لما بعدها فهذا وجه ثالث، وكلها ضعيفة والله أعلم.
800-
وَضُمَّ "كِـ"ـفَا "حِصْنٍ" يَضِلُّوا يَضِلَّ عَنْ ... وَأَفْئِدَةً بِاليَا بِخُلْفٍ "لَـ"ـهُ وَلا
الكفا بكسر الكاف: النظير والمثل؛ أي: ضم مماثلا لحصن فهو في موضع نصب على الحال وهو ممدود قصره ضرورة كما قصر الهاء في قوله في البيت السابق: كـ "ها" وصل يريد ضموا الياء من: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} من: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} في الحج1 ولقمان2، و {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} في الزمر3، ووجه القراءتين ظاهر، وقال صاحب التيسير هشام: من قراءتي علي أبي الفتح: "أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ" بياء بعد الهمزة قال: وكذلك نص عليه الحلواني عنه، قال الشيخ: وذكر أبو الفتح في كتابه في قراءة السبعة، وروى هشام وحده عن ابن عامر: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً" بياء ساكنة بعد الهمزة قال: وهذه القراءة وجهها الإشباع؛ والإشباع أن تزيد في الحركة حتى تبلغ بها الحرف الذي أخذت منه، والغرض بذلك الفرق بين الهمزة والدال؛ لأنهما حرفان شديدان، والولاء مصدر ولى ولاء قلت الولاء النصر وهذه أيضا
__________
1 سورة الحج، الآية: 9.
2 سورة لقمان الآية: 6.
3 الآية: 8.
(1/552)
________________________________________
قراءة ضعيفة بعيدة عن فصاحة القرآن، وقل من ذكرها من مصنفي القراءات بل أعرض عنها جمهور الأكابر، ونعم ما فعلوا، فما كل ما يروى عن هؤلاء الأئمة يكون مختارا؛ بل قد روى عنهم وجوه ضعيفة، وعجيب من صاحب التيسير كيف ذكر هذه القراءة مع كونه أسقط وجوها كثيرة لم يذكرها نحو ما نبهنا عليه مما زاده ناظم هذه القصيدة، وههنا قراءة صحيحة تروى عن عاصم وأبي عمرو: "وإنما نؤخرهم ليوم" بالنون ذكرها ابن مجاهد وغيره من كبار أئمة القراءة، ولم يذكرها صاحب التيسير؛ لأنها ليست من طريق اليزيدي، وقد أشبعت الكلام في هذا في الشرح الكبير في آخر سورة أم القرآن، وما وزان هذه القراءة إلا أن يقال في أعمدة وأتجدة أعميدة وأتجيدة بزيادة ياء بعد الميم والجيم، وكان بعض شيوخنا يقول: يحتمل أن هشاما قرأها بإبدال الهمزة ياء أو بتسهيلها كالياء فعبر الراوي لها بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة وإنما كان المراد بياء عوضا من الهمزة، فيكون هذا التحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو: "بَارِئْكُمْ" و"يَأْمُرْكُمْ" ونحوه بإسكان حركة الإعراب وإنما كان ذلك اختلاسا، وفي هذه الكلمة قراءة أخرى ذكرها الزمخشري في تفسيره، وإن كان قد وَهِمَ في توجيهها وهي بكسر الفاء من غير همز، ووجهها أنها ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت فهذه قراءة جيدة وهي صورة ما يفعله حمزة في الوقف عليها، ولعل من روى قراءة الإشباع كان قد قرأها بلا همز، فرد هشام عليه متلفظا بالهمزة وأشبع كسرتها زيادة في التنبيه على الهمزة، فظن أن الإشباع مقصود فلزمه ورواه والله أعلم.
801-
وَفِي لِتَزُولَ الفَتْحُ وَارْفَعْهُ "رَ"اشِدًا ... وَمَا كَانَ لِي إِنِّي عِبَادِيَ خُذْ مُلا
يعني فتح اللام الأولى ورفع الثانية فالهاء في ارفعه لهذا اللفظ فـ "إن" على قراءة الكسائي مخففة من الثقيلة مبالغة في الإخبار بشدة مكرهم كقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} ؛ أي: قد كان مكرهم من كبره وعظمه يزيل ما هو مثل الجبال في الامتناع على من أراد إزالتها في ثباتها، وعلى قراءة الباقين تكون "إن" إما شرطية؛ أي: وإن كان مكرهم معادلا إزالة أشباه الجبال الرواسي وهي المعجزات والآيات فالله مجازيهم بمكر أعظم منه، وإما أن يكون "إن" نافية واللام في لتزول مؤكدة لها؛ أي: وما كان مكرهم بالذي يزيل ما هو بمنزلة الجبال وهي الشرائع ودين الله تعالى، فإن قلت على هذا: كيف يجمع بين القراءتين؟
فإن قراءة الكسائي أثبتت أن مكرهم تزول منه الجبال وقراءة غيره نفته؟
قلت: تكون الجبال في قراءة الكسائي إشارة إلى أمور عظيمة غير الإسلام ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها والجبال في قراءة الجماعة إشارة لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الدين الحق فلا تعارض حينئذ والله أعلم.
وأريد حقيقة الجبال قراءة الكسائي كما قال سبحانه في موضع آخر: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} 1.
__________
1 سورة مريم، آية: 90 و91.
(1/553)
________________________________________
وفي قراءة غيره أريد بالجبال ما سبق ذكره، ثم ذكر الناظم ياءات الإضافة وهي ثلاثة في هذه السورة: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} 1، فتحها حفص وحده، {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ} 2، فتحها الحرميان وأبو عمرو، {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} 3، فتحها هؤلاء وعاصم. وملا جمع ملاءة؛ أي: خذ ذا ملاءة؛ أي: ذا حجج ووجوه مستقيمة وفيها ثلاث زوائد: {وَخَافَ وَعِيدِ} ، أثبتها في الوصل ورش وحده: {بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أثبتها في الوصل أبو عمر وحده: "دُعَائي"، أثبتها في الوصل أبو عمرو وحمزة وورش، وأثبتها في الحالين البزي وحده، وقلت في ذلك:
دعائي بما أشركتمونِ وقوله ... وخاف وعيدي للزوائد أجملا
__________
1 سورة إبراهيم، آية: 22.
2 سورة إبراهيم، آية: 37.
3 سورة إبراهيم، آية: 31.
(1/554)
________________________________________
سورة الحجر:
802-
وَرُبَّ خَفِيفٌ "إِ"ذْ "نَـ"ـمَا سُكِّرَتْ "دَ"نَا ... تَنزَّلُ ضَمُّ التَّا لِشُعْبَةَ مُثِّلا
يريد: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، التخفيف والتشديد فيها لغتان، ومعنى نما بلغ من قول الشاعر:
من حديثٍ نَمَى إليَّ عَجِيبِ
أو من نمى المال إذا زاد؛ لأن لفظة "رب" فيه لغات كثيرة، وسكرت بالتخفيف؛ أي: حبست من قولهم: وسكرت النهر وبالتشديد يجوز أن يكون من هذا شدد للكثرة، وأن يكون بمعنى حيرت من السكر، ويجوز أن يقرأ في البيت مخففا ومشددا والتخفيف أولى؛ ليطابق الرمز بعده والتشديد قد يوهم من قلت معرفته بهذا النظم أنه من باب: وباللفظ أستغني عن القيد فيقرأ لابن كثير بالتشديد وإنما هو مقيد بما تقدمه من ذكر التخفيف كقوله: وفصل إذ ثنى، وفي أحصن عن نفر العلا، استغنى عن تقييدهما بالقيد المذكور قبل كل واحد منهما وكذا في هذه السورة "منجوك"، "وَقَدَّرْنَا"، وقوله: "ما تنزل الملائكة" بضم التاء ظاهر وبفتحها على حذف إحدى التاءين أصله تتنزل الملائكة والله أعلم.
803-
وَبِالنُّونِ فِيها وَاكْسِرِ الزَّايَ وَانُصِبِ الْـ ... ـمَلائِكَةَ المَرْفُوعَ عَنْ "شَـ"ـائِدٍ عُلا
أي: واقرأ بالنون في هذه الكلمة موضع التاء واكسر الزاي فيصير "ينزل" على وزن يحوِّل، ويلزم من ذلك نصب الملائكة؛ لأنه مفعول به، ومن قرأ بالتاء رفع الملائكة؛ لأنه فاعل على قراءة من فتح التاء، ومفعول ما لم يسم فاعله على قراءة من ضمها ولم ينبه على ضم النون، وكان الأولى أن يذكره فيقول: وبالنون ضما؛ أي: ضم ولا حاجة إلى قوله: فيها؛ لأنه معلوم، وقوله: المرفوع نعت الملائكة؛ لأنه لفظ، وقوله: عن شائد علا؛ أي: ناقلا له عن عالم هذه صفته؛ أي: عن من بنى المناقب العلا ورفعها وحصلها بعلمه ومعرفته، ولا خلاف في تشديد الزاي هنا وقد تقدم في البقرة.
804-
وَثُقِّلَ لِلْمَكِّيِّ نُونُ تُبَشِّرُو ... نَ وَاكْسِرْهُ "حِرْمِيَّا" وَمَا الحَذُفُ أَوَّلا
قراءة الجماعة ظاهرة النون مفتوحة؛ لأنها العلامة لرفع الفعل، ومن كسرها قدر أصل الكلمة تبشرنني بنونين وياء الضمير المفعولة فحذف نافع نون الوقاية كما حذفها في: "أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ"، وأدغم ابن كثير نون علامة الرفع فيها كقراءة الجماعة في: {أَتُحَاجُّونِّي} ، ثم حذف نافع وابن كثير الياء كما حذفت في نظائره من رءوس الآي نحو "عقاب" و"متاب"، وأبقيا كسرة النون دالة على الياء المحذوفة وقوله: "حرميا" حال من
(1/555)
________________________________________
فاعل "واكسره"؛ أي: قارئا يقرؤه الحرمي أو من مفعوله؛ لأنه فعل منسوب إلى الحرمي وقد سبق معنى وما الحذف أولا في سورة الأنعام؛ يعني: أن من قرأ بالتخفيف مع الكسرة وهو نافع حذف إحدى النونين وليس الحذف في الأولى منهما بل في الثانية توفيرا على الفعل علامة رفعه، والتقدير: وما وقع الحذف أولا، ولو قال: الأول على تقدير: وما المحذوف الأول من التنوين لكان جائزا.
805-
وَيَقْنَطُ مَعْهُ يَقْنَطُونَ وَتَقْنَطُوا ... وَهُنَّ بِكَسْرِ النُّونِ "رَ"افَقْنَ "حُـ"ـمِّلا
يريد: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} ، وفي الروم: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ، وفي الزمر: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} فتح النون فيها وكسرها لغتان، فماضي المفتوح قنط بالكسر وماضي المكسور قنط بالفتح، وهي أفصح اللغتين، وقد أجمعوا على الفتح في الماضي في قوله تعالى في الشورى: {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} ، وحملا جمع حامل وقوله: ويقنط مبتدأ ومعه يقنطون خبره؛ أي: هذه الكلمات اجتمعت، واتحد الحكم فيها، ثم ابتدأ مبينا حكمها، فقال: هن بكسر النون وفتحها، ولو قال موضع وهن جميعا لكان أحسن وأظهر معنى والله أعلم.
806-
وَمُنْجُوهُمُ خِفٌّ وَفِي العَنْكَبُوتِ تُنْـ ... ـجِيَنَّ "شَـ"ـفَا مُنْجُوكَ "صُحْبَتُـ"ـهُ "دَ"لا
أي: ذو خف؛ أي: خفيف أراد: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} ،: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} ،: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} التخفيف والتثقيل: فيها من أنْجَى ونجَّى كأنْزَل ونزَّل وهما لغتان خفف الثلاثة حمزة والكسائي، ووافقهما أبو بكر وابن كثير على تخفيف "منجوك"، ولو قال: "لمنجوهم" خفف باللام بدل الواو لكان أحسن؛ حكاية لما في الحجر ولا حاجة إلى واو فاصلة؛ لظهور الأمر كما قال بعد ذلك: قدرنا بها والنمل، وقد مضى معنى دلا في مواضع، وفيه ضمير راجع إلى لفظ صحبة؛ لأنه مفرد وهو كما سبق في الرعد صحبة تلا والله أعلم.
807-
قَدَرْنَا بِهَا وَالنَّمْلِ "صِـ"ـفْ وَعِبَادِ مَعْ ... بَناتِي وَأَنِّي ثُمَّ إِنِّيِ فَاعْقِلا
يريد: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا} ، وفي النمل التخفيف والتشديد فيهما أيضا لغتان، واستغنى بقيد التخفيف في "منجوهم" عن القيد فيهما كما سبق في"سكرت" وهو من التقدير: لا من القدرة، ومثل ذلك سيأتي في الواقعة والمرسلات والأعلى، ثم ذكر ياءات الإضافة وهي أربع: "بَنَاتِيَ إِنْ كُنْتُمْ" فتحها نافع وحده، "عِبَادِيَ أَنِّيَ أَنَا"، {وَقُلْ إِنِّيَ أَنَا النَّذِيرُ} فتح الثلاث الحرميان وأبو عمرو.
__________
1 آية: 36.
2 آية: 53.
(1/556)
________________________________________
سورة النحل:
808-
وَيُنْبِتُ نُونٌ "صَـ"ـحَّ يَدْعُونَ عَاصِمٌ ... وَفِي شُرَكَائِي الخُلْفُ فِي الهَمْزِ "هَـ"ـلْهَلا
أي: ذو نون يريد: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ} النون للعظمة والياء رد إلى اسم الله تعالى في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ، وما بعدها من ضمائر الغيبة إلى قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ، {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ} ، {يُنْبِتُ لَكُمْ} ، ثم قال الناظم: يدعون عاصم؛ أي: قرأه عاصم بالياء على الغيبة يريد: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ لأن قبله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} بالغيبة والباقون قرءوا بالتاء على الخطاب، ووجهه ما قبله من قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} .
فإن قلتُ: من أين علمت أن قراءة عاصم بالغيب؟
قلتُ: لعدم التقييد فهو أحد الأمور الثلاثة التي إطلاقه يغني عن قيدها وهي الرفع والتذكير والغيب.
فإن قلتَ: لِمَ لَمْ يحمل هذا الإطلاق على القيد السابق في "وتنبت" نون فيكون كما تقدم في "سكرت" و"قدرنا".
قلت: لا يستقيم لفظ النون في يدعون ولولا ذلك لاتجه هذا الاحتمال، وروى البزي ترك الهمز في قوله: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ} ، ولزم من ذلك عدم المد الزائد على الألف لأجل الهمزة، وهذا معنى قول بعض المصنفين بغير همز ولا مد قطعا لوهم من عداه أن يظن أن المد يبقى وإن سقطت الهمزة، وإنما قرأ كذلك قصرا للمدود ولم يفعل ذلك في الذي في القصص وغيرها، ولا يلزم الناظم الاحتراز عن ذلك؛ لما ذكرناه مرارا أن الإطلاق لا يتناول إلا ما في السورة التي هو فيها وما شذ عن ذلك كالتوراة و"كائن" فهو الذي يعتذر عنه وقصر الممدود ضعيف لا يجيزه النحويون إلا في ضرورة الشعر فهذه قراءة ضعيفة أيضًا، فلم يكن لصاحب التيسير حاجة إلى تضمين كتابه مثل هذه القراءات الضعاف، وعن قارئها فيها خلاف، وترك ذكر ما ذكره ابن مجاهد وغيره عن أبي بكر عن عاصم: "تنزل الملائكة بالروح من أمره" بالتاء المضمومة وفتح الزاي ورفع الملائكة على ما لم يسمَّ فاعله، فهذه قراءة واضحة من جهة العربية، وقد دونها الأئمة في كتبهم ولم يذكر قصر: "شُرَكَائِيَ" إلا قليل منهم، فترى من قلَّت معرفته ولم يطلع إلا على كتاب التيسير ونحوه يعقد أن قصر: {شُرَكَائِيَ} من القراءات السبع وتنزل الملائكة ليس منها وكذا: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} ، ذكر أبو علي الأهوازي وغيره عن أبي عمرو وابن عامر أنه بفتح الشين ولهذا نظائر كثيرة وقول الناظم هلهل من قولهم: هلهل النساج الثوب إذا خفف نسجه، وثوب هلهل وشعر هلهل من ذلك فإن كان فعلا فمعناه لم يتيقن الخلاف فيه وإن كان اسما وهو منصوب على الحال؛ أي: استقر الخلف فيه في الهمز "هلهلا" يشير إلى ضعف الرواية بترك الهمز وضعف القراءة.
فإن قلت: من أين تعلم قراءة الجماعة أنها بالهمز.
(1/557)
________________________________________
قلت: لأن تقدير كلامه الخلف في الهمز للبزي هلهلا قصده لا خلف في الهمز عن غير البزي وهو المراد والله أعلم.
809-
وَمِنْ قَبْلِ فِيهِمْ يَكْسِرُ النُّونَ نَافِعٌ ... مَعًا يَتَوَفَّاهُمْ لِحَمْزَةَ وُصِّلا
يعني نون: {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} ، وإنما لم يقله بهذه العبارة؛ لأنها لا تستقيم في النظم إلا مخففة القاف ولم يقرأ أحد بذلك، وكسر نافع وحده النون وفتحها الباقون، والكلام في ذلك كما سبق في: "تُبَشِّرُونَ" في الحجر، ولم يشدد أحد النون هنا، وقوله: معا هو حال من: "تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ"، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} قرأهما حمزة بالياء على التذكير وإطلاقه دل على ذلك، والباقون قرءوهما بالتأنيث، ووجههما ظاهر وفي وصلا ضمير تثنية.
810-
سَمَا "كـ"ـامِلًا يَهْدِي بِضَمٍّ وَفَتْحَةٍ ... وَخَاطِبْ تَرَوْا "شَـ"ـرْعًا وَالَاخِرُ "فِـ"ـي "كِـ"ـلا
يريد: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} كما قال في موضع آخر: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} ؛ أي: من يضلله فلا يُهدَى، فالفعل مبني لما لم يسم فاعله، فقوله: يهدي فاعل سما وكاملا حال منه، وقرأ الكوفيون بفتح الياء وكسر الدال على إسناد الفعل إلى الفاعل؛ أي: لا يهدي الله من يضله أو يكون يهدي بمعنى يهتدي كما تقدم في يونس ثم قال الناظم: وخاطب يروا، يريد: "أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ"؛ أي: اقرأه بالخطاب جعله مخاطبا لما كان الخطاب فيه، وشرعا مفعول مطلق؛ أي: شرع ذلك شرعا أو في موضع الحال؛ أي: ذا شرع فإن كان حالا من المفعول، فتقديره مشروعًا وإن كان من فاعل خاطب فتقدير ناطقا بما هو مشروع، ثم قال: والآخِر بكسر الخاء يريد: "ألم تروا إلى الطير مسخرات" الخطاب فيه لحمزة وابن عامر والأول لحمزة والكسائي، ولو فتحت الخاء من الآخر لم يتضح الأمر؛ لإبهامه فلم يعلم الذي قرأ الكسائي من الذي قرأه ابن عامر إلا بقرينة تقدم الذكر، وذلك قد يخفى، وقد ترك الناظم الترتيب في مواضع وقوله: في كلا؛ أي: في لفظ وحراسة وهو ممدود ووجه القراءتين في الموضعين ظاهر والله أعلم.
811-
وَرَا مُفْرَطُونَ اكْسِرْ "أَ"ضا يَتَفَيَّؤاُ الْ ... مُؤَنَّثُ لِلْبَصْرِيِّ قَبْلُ تُقُبِّلا
أي: ذا أضاء أو مشبها أضاء في الانتفاع بعلمك كما ينتفع بمائه والإضاء جمع أضاة بفتح الهمزة وهو الغدير والجمع بكسر الهمزة والمد كأكام وبفتحها والقصر كفتى ومفرطون بالكسر من أفرط في المعصية إذا تغلغل فيها، وبالفتح؛ أي: مقدمون إلى النار من أفرطته إذا قدمته في طلب الماء أو هم منسيون من رحمة الله من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسبته، أما يتفيؤ ظلاله فهو في التلاوة قبل مفرطون أخره ضرورة النظم فلهذا قال: قبل؛ أي: قبل مفرطون، ووجه التأنيث والتذكير فيه ظاهر؛ لأن تأنيث الظلال غير حقيقي والله أعلم.
(1/558)
________________________________________
812-
وَ"حَقُّ صِحَـ"ـاب ضَمَّ نَسْقِيكُمُو مَمَا ... لِشُعْبَةَ خَاطِبَ يَجْحَدُونَ مُعَلَّلا
معا؛ يعني: هنا وفي: {قَدْ أَفْلَحَ} ضم النون وفتحها لغتان فالضم من أسقى والفتح من سقى قال الشاعر فجمع بينهما:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرًا والقبائل من هلال
دعاء للجميع بما يخصب بلادهم، وفي التنزيل: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} 1.
{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} 2.
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} 3.
{وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} 4.
وقيل: الأصل في "أسقى": جعل له سقيا، وفي "سقى": رواه من العطش، ثم استعمل في المعنى الواحد لنقارب المعنيين وأجمعوا على الضم في الفرقان في قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ} 5.
وحكي فيه الفتح عن الأعمش وعاصم من رواية المفضل عنهما، ثم قال الناظم لشعبة خاطب يجحدون يريد: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وجه الخطاب أن قبله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} ووجه الغيب أن قبله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} ، وأجاز معللا بفتح اللام وكسرها، ووجه الجمع ظاهر.
813-
وَظَعْنِكُمْ إِسْكَانُهُ "ذَ"ائِعٌ وَنَجْ ... زِيَنَّ الَّذِينَ النُّونُ "دَ"اعِيهِ "نُـ"ـوِّلا
إسكان العين في ظعن وفتحها لغتان كمعز ومعز ونهر ونهر وشعر وشعر فلهذا قال: ذائع؛ أي: مشتهر مستفيض، والنون في: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} والياء ظاهران، ولا خلاف في التي بعدها: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} أنه بالنون فلهذا قيد موضع الخلاف بقوله: الذين، ويجوز النون بالرفع على أنه مبتدأ ثانٍ، وبالنصب على أنه مفعول نول؛ أي: داعي نجزين نول النون فيه:
814-
"مَـ"ـلَكْتُ وَعَنْهُ نَصَّ الَاخْفَشُ يَاءهُ ... وَعَنْهُ رَوَى النَّقَّاشُ نُونًا مُوَهَّلا
__________
1 سورة الإنسان، آية: 21.
2 سورة محمد، آية: 15.
3 سورة الحجر، آية: 22.
4 سورة المرسلات، آية: 27.
5 سورة الفرقان، آية: 49.
(1/559)
________________________________________
الميم في "ملكت" رمز ابن ذكوان؛ أي: أنه في جملة من روى عنه النون، ثم بين أن الصحيح عنه القراءة بالياء فقال عنه؛ يعني: عن ابن ذكوان نص الأخفش على الياء، وهو هارون بن موسى بن شريك الدمشقي تلميذ ابن ذكوان، وكان يعرف بأخفش باب الجابية والهاء في ياءه ترجع إلى لفظ "نجزين" المختلف فيه ثم قال وعنه؛ يعني: عن الأخفش روى النقاش وهو محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون بن جعفر ابن سند البغدادي المفسر وهو ضعيف عند أهل النقل، روي عن شيخه الأخفش في قراءة ابن ذكوان لهذا الحرف نونا، قال صاحب التيسير: ابن كثير وعاصم: {لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ} بالنون وكذلك روى النقاش عن الأخفش عن ابن ذكوان قال وهو عندي وهم؛ لأن الأخفش ذكر ذلك في كتابه عنه بالياء، وذكر الأهوازي في كتاب الإيضاح النون عن ابن ذكوان وعن هشام أيضا وعن ابن عامر وأبي عمرو من بعض الطرق، وقال: قال النقاش: أشك كيف قرأته على الأخفش عن ابن ذكوان، وقول الناظم موهلا هو حال من النقاش أو صفة للنون؛ أي: مغلطا، يقال: وهل في الشيء وعنه بكسر الهاء إذا غلط وسهى، وهل وهلا ووهلت إليه بالفتح أهل وهلا ساكن الهاء إذا ذهب وهمل إليه فأنت تريد غيره مثل وهمت هكذا في صحاح الجوهري، قال الشيخ: موهلا من قولهم وهله فتوهل؛ أي: وهمه فتوهم وهو منصوب على الحال من النقاش؛ أي: منسوبا إلى الوهم فيما نقل يريد ما قال صاحب التيسير هو عندي وهم وقد ذكرناه والله أعلم.
815-
سِوَى الشَّامِ ضُمُّوا وَاكْسِرُوا فَتَنُوا لَهُمْ ... وَيُكْسَرُ فِي ضَيْقٍ مَعَ النَّمْلِ "دُ"خُلُلا
لهم؛ أي: لجميع القراء السبعة سوى الشامي، فحذف ياء النسبة أو التقدير: سوى قارئ الشام فحذف المضاف يريد: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} ؛ أي: فتنهم الكافر بالإكراه على النطق بكلمة الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، وذلك نحو ما جرى لعمار بن ياسر وأصحابه بمكة -رضي الله عنهم- وهو موافق للآية الأولى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} لم يُختَلَف فيه أنه على ما لم يسم فاعله، وقرأ ابن عامر فتنوا بإسناد الفعل إلى الفاعل بفتح الفاء والتاء؛ لأن الفتح ضد الضم والكسر معا، ووجه هذه القراءة أن تكون الآية نزلت في الفاتنين الذين عذبوا المؤمنين على الكفر وأوقعوا الفتن في الذين أسلموا وهاجروا وجاهدوا وصبروا، وذلك نحو ما جرى لمن تأخر إسلامه كعكرمة بن أبي جهل وعمه الحارث وسهيل بن عمرو وأضرابهم -رضي الله عنهم- وتكون القراءتان في الطائفتين؛ الفاتنين والمفتونين وقيل: التقدير: فتنوا أنفسهم حين أظهروا ما أظهروا من كلمة الكفر، ومعنى القراءتين متحد، المراد بهما المفتونون، وقيل: معنى فتنوا افتتنوا، قال الشيخ: روى أبو عبيد عن أبي زيد: فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من الحال الصالحة إلى السيئة، وفتن إلى النساء أراد الفجور بهن، وقيل: الضمير في فتنوا يعود إلى "الخاسرون"، والمفعول محذوف؛ أي: من بعد ما فتنهم أولئك الخاسرون، أما: {فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} هنا وفي النمل ففتح الضاد وكسرها لغتان كالقول والقيل، وقيل: المفتوح تخفيف ضيق كهين وميت؛ أي: في أمر ضيق، وقوله: سوى الشامي استثنى من الضمير في لهم كما سبق، ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده الخبر، ويجوز أن يكون في موضع نصب بفعل مضمر كقولك: زيدا اكتب الكتاب له؛ أي: لابسه وخالطه بذلك ودخللا حال من قوله: في ضيق؛ أي: هو دخيل مع الذي في النمل مشابه له في الكسر والله أعلم.
(1/560)
________________________________________
سورة الإسراء:
816-
وَيَتَّخِذُوا غَيْبٌ "حَـ"ـلا لِيَسُوءَ نُو ... نُ "رَ"اوٍ وَضَمُّ الهَمْزِ وَالمَدِّ "عُـ"ـدِّلا
أي: ذو غيب حلو؛ لأن قبله: {لِبَنِي إِسْرائيلَ} ، والخطاب حكاية ما في الكتاب، وهما مثل ما في البقرة: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} كلاهما في بني إسرائيل والمعنى واحد، ولو دخلت أن في الذي في البقرة لكانت: {أَنْ لا تَعْبُدُوا} مثل أن لا تتخذوا سواء فاتحد اللفظ والمعنى، أما: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} فقراءة الكسائي بالنون ظاهرة؛ لكثرة ما قبله من نونات العظمة، وقرأ غيره بالياء، فمن فتح الهمزة وقصره كما فعل الكسائي، فالفاعل هو الله تعالى كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وبعده: {عَسَى رَبُّكُمْ} ، أو يكون الفاعل الوعد أو البعث، وهذه قراءة ابن عامر وحمزة وأبي بكر وضم الهمز ومده حفص وهو المرموز في قوله: عدلا، والحرميان وأبو عمرو رمز لهم في البيت الآتي بقوله: سما فالضمير المرفوع في: "لِيَسُوءُوا" للعباد الين هم "أولوا بأس شديد"، واللام في: "لِيَسُوءُوا" على القراءات الثلاث متعلقة بفعل مضمر؛ أي: بعثناهم؛ ليقع ذلك، وقول الناظم: والمد بالرفع عطف على ضم الهمز.
817-
"سَمَا" وَيُلَقَّاهُ يُضَمُّ مُشَدَّدًا ... "كَـ"ـفَى يَبْلُغَنَّ امْدُدْهُ وَاكْسِرْ "شَـ"ـمَرْدَلا
أراد كتابه يلقاه؛ أي: يستقبل به، وقرأ الباقون يلقاه بفتح الياء والتخفيف، وذلك ظاهر المعنى، والهاء للكتاب أو للإنسان؛ لأن ما لقيك فقد لقيته، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} فمد بعد الغين؛ أي: زد ألفا واكسر النون المشددة فيصير "يبلغان"، والضمير للوالدين وأحدهما بدل منه وهو فاعل على قراءة القصر والنون للتأكيد فيها والله أعلم.
818-
وَعَنْ كُلِّهِمْ شَدِّدْ وَفَا أُفِّ كُلِّها ... بِفَتْحٍ "دَ"نا "كُـ"ـفْؤًا وَنَوِّنْ "عَـ"ـلَى "ا"عْتَلا
يعني أجمعوا على تشديد النون، وهذا منه زيادة في البيان وإلا فهو معلوم مما تقدم؛ لأنه لفظ بقوله: يبلغن مشدد النون وأمر بكسرها ولم يتعرض للتشديد بنفي ولا إثبات فدل على أنه لا خلاف فيه، أما أف ففيها لغات كثيرة لم يقرأ فيها إلا بثلاث: الفتح والكسر والتنوين مع الكسر وهي قراءة نافع وحفص، وهو معنى قوله: على اعتلا؛ أي: معتمدا على اعتلا قوله: كلها بالجر تأكيد لأف؛ يعني: حيث جاء وهو هنا وفي الأنبياء والأحقاف والله أعلم.
819-
وَبِالفَتْحِ وَالتَّحْرِيكِ خِطْئاً "مُـ"ـصَوَّب ... وَحَرَّكَهُ المَكِّي وَمَدَّ وَجَمَّلا
يريد: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا} فلفظ بقراءة الجماعة، وذكر أن ابن ذكوان فتح الخاء والطاء وعبر عنه
(1/561)
________________________________________
بالتحريك المطلق وهو الفتح؛ ليؤخذ للباقين ضده وهو السكون، وعبر عن حركة الخاء بلفظ الفتح؛ ليؤخذ للباقين ضده وهو الكسر، فدخل ابن كثير مع الباقين في هذا ولم يخالفهم فيه، ولما خالفهم في إسكان الطاء تعرض له، فقال: وحركه المكي، وزاد مدا بعد الطاء فقراءة الجماعة خطأ بمعنى إنما يقال خَطِأَ خِطْأً كأَثِمَ إِثْمًا، وهو في قراءة ابن ذكوان ضد الصواب، وقيل: هما لغتان كالحَذَر والحِذْر والمَثَل والمِثْل.
قال الزجاج: وقد يكون من خطأ خطأ إذا لم يصب، وقراءة ابن كثير خاطأ خِطَاءً مثل خاطر خِطارا. قال أبو علي: وإن لم يسمع خاطأ، ولكن قد جاء ما يدل عليه وهو: تخاطأ؛ لأنه مطاوعه، قال: وقد قالوا: أخطى في معنى خطى كما أن خطى في معنى أخطى.
قلت: فإلى هذا أشار الناظم بقوله: مصوب؛ لأن قوما استبعدوا قراءة ابن ذكوان فقالوا الخطأ ما لم يتعمد، وجوابه أنه استعمل في التعمد أيضا، وقول الناظم: خطأ مصوب مبتدأ وخبر؛ أي: هو مصوب بالفتح والتحريك، فقابل بين لفظي الخطأ والتصويب، وإخباره عن الخطأ بالتصويب من عجائب هذا النظم ومحاسنه والله أعلم.
820-
وَخَاطَبَ فِي يُسْرِفْ "شُـ"ـهُود وَضَمُّنَا ... بِحَرْفَيْهِ بِالقِسْطَاسِ كَسْرُ "شَـ"ـذٍ "عَـ"ـلا
أي: قراءة شهود أراد: "فلا تسرف في القتل" الخطاب للولي أو الإنسان، والياء للولي، وضم القسطاس وكسره لغتان والهاء في بحرفيه للقسطاس، والباء في "بالقسطاس" من نفس التلاوة؛ أي: وضمنا هذا اللفظ بموضعيه؛ يعني: هنا وفي الشعراء فأخبر عن الضم بالكسر على تقدير وموضع ضمنا كسر هؤلاء؛ أي: كسر ذوى شذا عال؛ أي: ذوى بقية حسنة وطيب فائق والله أعلم.
821-
وَسَيِّئَةً فِي هَمْزِهِ اضْمُمْ وَهَائِهِ ... وَذَكِّرْ وَلا تَنْوِينَ "ذِ"كْرًا مُكَمَّلا
يريد: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} ، فقوله: ذلك إشارة إلى المنهي عنه، وإذا ضممت الهمز والهاء، وذكرت؛ أي: لم تجعل الهاء للتأنيث بل ضمير مذكر فلا تنوين حينئذ فيكون السيء مضافا إلى ما تقدم؛ أي: كان سيء المذكور مكروها فيكون ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم مما وصى به الإنسان وفيه حسن وهو المأمور به وسيء وهو المنهي عنه ومكروها على القراءة بالتأنيث خبر لكان بعد خبر وقوله: ذكرا مكملا مصدر مؤكد من لفظ ذكر وإن لم يكن مصدره أراد تذكيرا مكملا ويجوز أن يكون فعله مضمرا؛ أي: ذكرت ذلك ذكرا مكملا لجميع قيوده، وقال الشيخ: التقدير: أذكر ذكرا والله أعلم.
822-
وَخَفِّفْ مَعَ الفُرْقَانِ وَاضُمُمْ لِيَذْكُرُوا ... "شِـ"ـفَاءً وَفِي الفُرْقَانِ يَذْكُرُ فُصِّلا
(1/562)
________________________________________
أي: خفف لفظ: "ليذكروا" هنا وفي الفرقان، أراد: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} ، و {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} ، والتخفيف في هذين لحمزة والكسائي، أراد تخفيف الذال والكاف وهو حذف تشديدهما وهما مفتوحان، فنص على ضم الكاف، ولم ينص على إسكان الذال، لوضوحه وهو مضارع ذكر يذكر، والمشدد مضارع تذكر، والأصل: "ليتذكر"، فأدغمت التاء في الذال، وقوله: شفاء حال من "ليذكروا" أو من فاعل خفف واضمم؛ أي: ذا شفاء، ثم ذكر أن في الفرقان موضعا آخر اختص حمزة بتخفيفه وهو: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} .
823-
وَفِي مَرْيَمٍ بِالعَكْسِ "حَقٌّ شِـ"ـفَاؤُهُ ... يَقُولُونَ "عَـ"ـنْ "دَ"ارٍ وَفِي الثَّانِ "نُـ"ـزِّلا
بالعكس؛ أي: بالتشديد وفتح الكاف يريد أولا يذكر الإنسان، ولو كان جرى على سننه ورمز لمن خفف كان أحسن، وقلت أنا في ذلك:
وفي كاف نل إذ كم يقولون دم علا ... وفي الثانِ نل كفا سما وتبجلا
وأنث تسبح عن حمى شاع وصله ... وبعد اكسروا إسكان رَجْلك عملا
ولم يبقَ في البيت تضمين واجتمع الرمز المفرق، وهو قوله: هنا نزلا وفي البيت الآتي سما كفله، ويقولون في الموضعين بالغيب والخطاب ظاهر، أراد بالثاني: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} ، وقبله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} .
824-
"سَمَا كِـ"ـفْلُهُ أَنِّثْ يُسَبِّحُ "عَـ"ـنْ "حِـ"ـميً ... "شَـ"ـفَا وَاكْسِرُوا إِسْكَانَ رَجْلِكَ "عُـ"ـمَّلا
أراد تسبح له السموات السبع التأنيث والتذكير فيه ظاهران، ورجلك بإسكان الجيم اسم جمع للراجل كصحب ورجل وبكسر الجيم بمعنى راجل كتعب وتاعب وحذر حاذر وبمعنى رجل بضم الجيم الذي بمعنى راجل، فيكون كسر الجيم وضمها لغتين نحو ندس وندس، والمعنى: وجمعك الرجل، واستغنى بالفرد عن الجمع لدلالته عليه بالجنسية وقيل: يجوز أن تكون قراءة الإسكان من هذا سكنت الكسرة أو الضمة تخفيفا نحو فخذ وعضد وعملا جمع عامل هو حال من الضمير في اكسروا.
825-
وَيَخْسِفَ "حَقٌّ" نُونُهُ وَيُعِيدَكُمْ ... فَيُغْرِقَكُمْ وَاثْنَانِ يُرْسِلَ يُرْسِلا
الخلاف في هذه الخمسة دائر بين النون والباء فكلاهما ظاهر أراد: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ} "أم أمنتم أن يعيد فيه تارة أخرى" فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم وقوله: "نرسل نرسل" كلاهما بدل من اثنان ونصهما على الحكاية.
826-
خِلافَكَ فَافْتَحْ مَعْ سُكُونٍ وَقَصْرِهِ ... "سَمَا صِـ"ـفْ نَآى أَخِّرْ مَعًا هَمْزَهُ "مُـ"ـلا
(1/563)
________________________________________
أراد: {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} ؛ أي: افتح الخاء مع سكون اللام وحذف الألف وكلتا القراءتين بمعنى بعدك، و"نأ وناء" مثل؛ أي: وراء كلاهما على وزن رعى وراع: لغتان وتأخير الهمز من الفعلين على القلب، فيصبر وزنهما "فلع" قال الشاعر:
وَكُلُّ خَليلٍ راءَني فَهوَ قائِلٌ
ونقل الشارح في كتاب الغاية عن أبي بكر بن مقسم قال: نأى بوزن نعى لغة قريش وكثير من العرب، وناء بوزن باع لغة هوازن بن سعد بن بكر وبني كنانة وهزيل وكثير من الأنصار، قال شاعرهم:
نجالد عنه بأسيافنا ... وناءت معدُّ بأرض الحرم
وقول الآخر: وناء بكلكل
قلت: "ناء" في قول امرئ القيس: وأردف أعجازا وناء بكلكل ليس من هذا، وذاك معناه نهض ينهض نهوضا ثقيلا؛ لطول صدره وقوله: معا؛ يعني: هنا وفي سورة فصلت.
827-
تُفَجِّرَ فِي الأُولَى كَتَقْتُلَ "ثَـ"ـابِتٌ ... وَ"عَمَّ نَـ"ـدىً كسْفًا بِتَحْرِيكِهِ وَلا
أي: بالتخفيف على وزن تقتل والأولى قوله: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ} احترازا من الثانية: {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ} فلا خلاف في تشديدها؛ لقوله في مصدرها تفجيرا، وفجَر وفجُّر كسجَر وسجَّر يقال فجر الماء وفجره إذا فتح سكره وشقه وقوله تعالى: {انْفَجَرَتْ مِنْهُ} هو مطاوع فجر بالتخفيف وكسفا بإسكان السين وفتحها لغتان جمع كسفة وهو القطعة ومثلها سدرة وسدر ولقحة ولقح وندى تمييز وكسفا فاعل عم ولا مفعول له؛ أي: بتحريكه متابعة للنقل.
828-
وَفي سَبَأٍ حَفْصٌ مَعَ الشُّعَرَاءِ قُلْ ... وَفِي الرُّومِ سَكِّنْ "لَـ"ـيْسَ بِالخُلْفِ مُشْكِلا
أراد: {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا} ، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا} حركهما حفص وحده، وفي الروم: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} 1.
سكنه ابن عامر: ولم يختلف في إسكان الذي في الطور: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} والله أعلم.
829-
وَقُلْ قَالَ الُاولَى "كَـ"ـيْفَ "دَ"ارَ وَضُمَّ تَا ... عَلِمْتَ "رِ"ضىً وَالْيَاءُ فِي رَبِّيَ انْجَلا
__________
1 الآية: 48.
(1/564)
________________________________________
أراد: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} .
هذه هي الأولى، والثانية قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ} .
لا خلاف في قراءة هذه على الأمر، وقرأ الأولى بلفظ المضى ابن عامر وابن كثير وقول الناظم: الأولى هو نعت لقوله: قل لا لقوله: قال؛ أي: وقل الأولى تقرأ "قال" لمن رمز له ومثله قوله في أول الأنبياء: وقل قال عن شهد، وقوله: كيف دار؛ أي: كيف دار اللفظ، فإحدى القراءتين راجعة إلى معنى الأخرى؛ لأنه أمر بالقول فقال: وتا علمت بالضم لموسى وبالفتح لفرعون، ورضا حال من فاعل ضم أو مفعوله؛ أي: ذا رضى ثم ذكر ياء الإضافة في موضع واحد وهو: "رَبِّيَ إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ" فتحها نافع وأبو عمرو، وفيها زائدتان: "لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى" أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو وأثبتها ابن كثير في الحالين، "ومن يهد الله فهو المهتدي" أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو، وقلت في ذلك:
وفيها لئن أخرتني زيد ياؤه ... كذلك فهو المهتدي قد تكفلا
(1/565)
________________________________________
سورة الكهف:
830-
وَسَكْتَةُ حَفْصٍ دُونَ قَطْعٍ لَطِيفَةٌ ... عَلَى أَلِفِ التَّنْوِينِ فِي عِوَجًا بَلا
قال صاحب التيسير: قرأ حفص "عوجا" يسكت على الألف سكتة لطيفة من غير قطع ولا تنوين ثم يقول: "قَيِّمًا"، وقال مكي: كان حفص يقف على عوجا وقفة خفيفة في وصله.
قلتُ: فهذا معنى قوله: دون قطع؛ أي: دون قطع نفس؛ لأنه في وقفه واصل وغرضه من ذلك إيضاح المعنى؛ لئلا يُتوهم أن قيما نعت "عوجا"، وإنما "قيما" حال من الكتاب المنزل أو منصوب بفعل مضمر؛ أي: جعله قيما، ولما التزم صورة الوقف لأجل ذلك لزمه أن يبدل من التنوين ألفا يقف عليها؛ لأن التنوين لا يوقف عليه فهذا معنى قوله: على ألف التنوين؛ أي: على الألف المبدلة من التنوين وفي ذلك نظر فإنه لو وقف على التنوين لكان أدل على غرضه وهو أنه واقف بنية الوصل وكثير من المصنفين كالأهوازي وابن غلبون يقولون: نقف على عوجا، ولا يذكرون إبدال التنوين ألفا، وقال الأهوازي: ليس هو وقفا مختارًا؛ لأن في الكلام تقديما وتأخيرا معناه أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومعنى بلا: اختبر وفاعله ضمير عائد إلى حفص ثم قال:
831-
وَفِي نُونٍ مَنْ رَاق وَمَرْقَدِنا وَلا ... مِ بَلْ رَانَ وَالبَاقُونَ لا سَكْتَ مُوصَلا
أي: وسكت في هذه المواضع الثلاثة أيضا أحدها: النون من: {مَنْ رَاقٍ} في سورة القيامة لما اندغمت النون في الراء بغير غنة وقف على "من" ليعلم أنهما كلمتان وليست اللفظة على وزن فعال، وكذا الكلام في لام: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 1، أما: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ، فوقف على مرقدنا2؛ لئلا يتوهم أن هذا الذي بعده صفة للمرقد وإنما هو مبتدأ، قال مكي: ولو اختار متعقب الوقف على عوجا وعلى "مرقدنا" لجميع القراء لكان ذلك حسنًا؛ لأنه يفرق بين معنيين فهو تمام مختار الوقف عليه قال: وقرأ الباقون ذلك كله بغير وقف مروي عنهم؛ لأنه متَّصل في الخط والإدغام فرع ولا كراهة فيه، ولو لزم الوقف على اللام والنون؛ ليظهر للزم في كل مدغم، فهذا معنى قول الناظم: والباقون لا سكت، وموصلا نعت لسكت؛ أي: لا سكت لهم منقولا عنهم موصلا إلينا، وقال الشيخ: موصلا نصب على الحال؛ أي: في حال إيصال المذكور في المواضع المذكورة بما بعده، قال: المهدوي وكان يلزم حفصا مثل ذلك في ما شاكل هذه المواضع وهو لا يفعله، فليس لقراءته وجه من الاحتجاج يعتمد عليه إلا اتباع الرواية. قلت: أولى من هذه المواضع بمراعاة الوقف عليها: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} فينبغي الوقف على قولهم؛ لئلا يتوهم أن ما بعده هو المفعول، وكذا: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} ينبغي الاعتناء بالوقف على النار، ثم يبتدأ بما بعده؛ لئلا يوهم الصفة ولذلك نظائر والله أعلم.
__________
1 سورة المطففين، آية: 14.
2 سورة يس، آية: 52.
(1/566)
________________________________________
832-
وَمِنْ لَدْنِهِ في الضَّمِّ أَسْكِنْ مُشِمَّهُ ... وَمِنْ بَعْدِهِ كَسْرَانِ عَنْ شُعْبَةَ اعْتَلا
أي: أسكن ضم الدال في حال كونك "مشمه" فالهاء في "مشمه" للضم، والكسران في النون والهاء وهذا معنى قول صاحب التيسير: قرأ أبو بكر "من لدنه" بإسكان الدال وإشمامها شيئا من الضم وبكسر النون والهاء ويصل الهاء بياء، وكذا قال صاحب الروضة: إشمامها شيئا من الضم، وصرح الأهوازي فقال: باختلاس ضمة الدال، أما مكي فقال: الإشمام في هذا إنما هو بعد الدال؛ لأنها ساكنة فهي بمنزلة دال زيد المرفوع في الوقف، وليس بمنزلة الإشمام في "سيئت"، وقيل: لأن هذا متحرك، ولم يذكر الشيخ في شرحه غير هذا القول فقال: حقيقة هذا الإشمام أن يشير بالعضو إلى الضمة بعد إسكان الدال، ولا يدركه الأعمى؛ لكونه إشارة بالعضو من غير صوت، قال أبو علي: وهذا الإشمام ليس في حركة خرجت إلى اللفظ، وإنما هو تهيئة العضو لإخراج الضمة؛ ليعلم أن الأصل كان في الدال الضمة، فأسكنت كما أسكنت الباء في سبع والكسر من النون؛ لالتقاء الساكنين، وكسرت الهاء بعدها لأجل كسرة النون نحو: به ومن أجله.
833-
وَضُمَّ وَسَكِّنْ ثُمَّ ضُمَّ لِغَيْرِهِ ... وَكُلُّهُمُ فِي الْهَا عَلَى أَصْلِهِ تَلا
أي: ضم الدال وسكن النون ثم ضم الهاء لغير شعبة، أما حكم الهاء في الضم والكسر والصلة فعلى ما عرف من أصولهم في باب هاء الكناية، فتكسر الهاء، وتصلها بياء في قراءة شعبة لأجل كسر ما قبلها، وتضم الهاء في قراءة غيره؛ لعدم الكسر قبلها، وابن كثير وحده يصلها بواو كما يقرأ "منهو" و"عنهو"، والباقون يضمون ولا يصلون كما يقرءون: "منه" وعنه.
834-
وَقُلْ مِرْفَقًا فَتْحٌ مَعَ الكَسْرِ "عَمَّـ"ـهُ ... وَتَزْوَرُّ لِلشَّامِي كَتَحْمَرُّ وُصِّلا
أي: عم مرفقا فتح في الميم مع الكسر في الفاء والباقون بعكس ذلك: كسروا الميم وفتحوا الفاء، وهما لغتان في مرفق اليد وفيما يرتفق به وقيل: هما لغتان فيما يرتفق به، أما مرفق اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير، "وتزور" ظاهر.
835-
وَتَزَّاوَرُ التَّخْفِيفُ فِي الزَّايِ "ثَـ"ـاِبت ... "وَحِرْمِيُّـ"ـهُمْ مُلِّئْتَ فِي الَّلامِ ثَقِّلا
أصله تتزاور فمن شدد أدغم التاء الثانية في الزاي ومن خفف حذفها كما مضى في نحو: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} ، و"تَذَّكَّرُونَ" وهما وقراءة ابن عامر سواء؛ الكل بمعنى العدول والانحراف والتخفيف، والتشديد في "ملئت" لغتان ففي التشديد تكثير.
(1/567)
________________________________________
836-
بَوَرْقِكُمُ الإِسْكَانُ "فِـ"ـي "صَـ"ـفْوِ "حُـ"ـلْوِهِ ... وَفِيهِ عَنِ البَاقِينَ كَسْرٌ تَأَصَّلا
يعني: أن الأصل كسر التاء، والإسكان تخفيف نحو كبد وفخذ، والورِق: الفضة، ويقال له: الرقة أيضا.
837-
وَحَذْفُكَ لِلتَّنْوِينِ مِنْ مِائَةٍ شَفَا ... وَتُشْرِكْ خِطَابٌ وَهْوَ بِالْجَزْمِ "كُـ"ـمِّلا
يريد ثلاثمائة سنين من حذف التنوين من مائة أضافها إلى سنين كما يقال ثلاثمائة سنة، وإنما أوقع الجمع موقع المفرد كقوله تعالى: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} 1.
وقال الفرزدق:
ثلاث مئين للملوك وفابها داري
وقال آخر:
وخمس ميء منها قسي وزائف
ونحو ذلك نحو قول عنترة:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا ... ...
فلفظ الحلوبة يستعمل للواحد والجمع فلما وصفها هنا بالجمع في قوله: سود أشعر ذلك بأنه استعملها جمعا فيكون التمييز بالجمع في موضع المفرد وهو الأصل بدليل أن مميز العشرة فما دونها مجموع، وإنما أفرد فيما عدا ذلك اختصارا لما كثر المعدود قال الفراء: من العرب من يضع سنين في موضع سنة، أما من نون ثلاثمائة فسنين عنده إما تمييز منصوب كقوله:
إذا عاش الفتى مائتين عاما
ووجه جمعها ما سبق وإما أن يكون عطف بيان أو بدلا من ثلاث فهو على هذه الأوجه منصوب، وإما أن يكون عطف بيان أو بدلا من مائة فيكون مجرورا وقيل: البدل أجود من عطف البيان؛ لأن عطف البيان من النكرة غير سائغ عند البصريين؛ أي: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مائة، قال الزجاج: سنين عطف على ثلاث عطف البيان والتوكيد. قال: وجائز أن يكون سنين من نعت المائة وهو راجع في المعنى إلى ثلاث كما قال:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا.... ...
فجعل سودا نعتا لحلوبة وهو في المعنى نعت لجملة العدد وكذا قال أبو جعفر النحاس: الخفض رد على مائة؛ لأنها بمعنى مائتين، وقال الفراء: من نون وهو يريد الإضافة نصب سنين بالتفسير للعدد، ونقل الزمخشري في مفصله عن أبي إسحاق أنه قال: لو انتصب سنين على التمييز لوجب أن يكونوا قد لبثوا تسع مائة سنة فكأنه قصد بذلك الرد على الفراء وهو غير لازم؛ لأن قراءة الإضافة لا تشعر بذلك، وسنقرر ذلك في شرح النظم إن شاء الله وأما، ولا تشرك في حكمه أحدا، فقراءة ابن عامر بلفظ النهي وهو ظاهر، وقراءة الباقين على الإخبار على لفظ الغيبة؛ أي: ولا يشرك الله أحدا في حكمه، وقوله: خطاب؛ أي: ذو خطاب والله أعلم.
__________
1 سورة الكهف، آية: 104.
(1/568)
________________________________________
838-
وَفِي ثُمُر ضَمَّيْهِ يَفْتَحُ عَاصِمٌ ... بِحَرْفَيْهِ وَالإِسْكَانُ فِي الْمِيمِ حُصِّلا
معنى الكلام في "ثُمُر" بضم الثاء والميم وفتحهما في سورة الأنعام، وزاد هنا إسكان الميم تخفيفا وكل ذلك لغات، وقوله: بحرفيه بمعنى موضعيه في هذه السورة: "وكان له ثمر"، "وأحيط بثمره"، وقد تقدم ذكر الذي في يس في سورة الأنعام، فثمر بضمتين جمع ثمار، وثمار جمع ثمرة، وثمر بفتحتين جمع ثمرة كبقر في جمع بقرة، وثمر بسكون الميم جمع ثمرة أيضا كبدنة وبدن، ويجوز أن يكون مخففا من مضموم الميم الذي هو جمع ثمار، ويجوز أن يكون المضموم الميم مفردا كعنق وطنب، وقيل: الثمرة بالضم المال وبالفتح المأكول وقيل: يقال في المفرد ثمرة بضم الميم كسمرة والله أعلم.
839-
وَدَعْ مِيمَ خَيْرًا مِنْهُمَا "حُـ"ـكْمُ "ثَـ"ـابِتٍ ... وَفِي الوَصْلِ لكِنَّا فَمُدَّ "لَـ"ـهُ "مُـ"ـلا
يريد خيرًا منهما منقلبا؛ أي: من الجنتين ومنها على إسقاط الميم رد على قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} والميم ساقطة في الرسم من مصاحف العراق دون غيرها وعلى ذلك قراءة الفريقين، وحكم ثابت بالضم على تقدير هو حكم ثابت، ويجوز نصبه على أنه مصدر مؤكد نحو: {صِبْغَةَ اللَّهِ} و {صُنْعَ اللَّهِ} ، أما: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ} فأجمعوا على إثبات ألفه في الوقف واختلفوا في الوصل فأثبتها ابن عامر؛ إجراء للوصل مجرى الوقف وحذفها الباقون؛ لأن هذه الألف هي ألف أنا، وقد تقدم في سورة البقرة أنها تحذف في الوصل دون الوقف، ونافع أثبتها وصلا، وقيل: الهمزة خاصة قالوا: وأصل هذه الكلمة لكن أنا بإسكان النون من لكن وبعدها ضمير المتكلم منفصلا مرفوعا وهو أنا، فألقيت حركة همزة أنا على نون لكن فانفتحت وحذفت الهمزة فاتصلت النونان فأدغمت الأولى في الثانية وحذفت ألف أنا في الوصل على ما عرف من اللغة وثبت في الوقف، وخرجوا على هذا التقدير: قول الشاعر:
وتقلينني لكنّ إياكِ لا أقلي
أي: لكن أنا، قال الزجاج: إثبات ألف أنا في الوصل شاذ، ولكن من أثبت فعلى الوقف كما يثبت الهاء في قوله: "ماهيه" و"كتابيه".
وأجاز أبو علي أن يكون الضمير المتصل بـ "لكن" مثل المنفصل الذي هو نحن نحو: لم يعننا فأدغمت نون لكن فيها فالألف ثابتة وقفا ووصلا؛ لأن ألف فعلنا لا تحذف، قال: وعاد الضمير على الضمير الذي دخلت عليه لكن على المعنى، ولو عاد على اللفظ لكان لكنا هو الله ربنا، قال الزجاج: فأما {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} فهو الجيد بإثبات الألف؛ لأن الهمزة قد حذفت من أنا وصار إثبات الألف عوضا من الهمزة، قال: وقرئ "لكن" بإسكان النون ولكنن بنونين بلا إدغام؛ لأن النونين من كلمتين، ولكننا بنونين وألف، قال: والجيد البالغ ما في مصحف أبي: "لكن أنا هو الله ربي"، فهذا هو الأصل، وجميع ما قرئ به جيد بالغ ولا أنكر القراءة بهذا، والأجود اتباع القراءة ولزوم الرواية؛ فإن القراءة سنة، وكلما كثرت الرواية في الحرف، وكثرت به القراءة فهو المتبع، وما جاز في العربية، ولم يقرأ به قارئ فلا نقر أن به فإن القراءة به بدعة وكل
(1/569)
________________________________________
ما قلت به الرواية وضعف عند أهل العربية فهو داخل في الشذوذ فلا ينبغي أن يقرأ به، قال أبو عبيد: وكتبت "لكنا"؛ يعني: بألف قال هكذا: ورأيتها في المصحف الذي يقال إنه الإمام مصحف عثمان، والفاء في قوله: فمد زائدة، وملا جمع ملاءة أشار إلى حججه وعلله، وقد سبق تفسيره.
840-
وذكر تَكُنْ "شَـ"ـافٍ وَفِي الْحَقِّ جَرُّهُ ... عَلَى رَفْعِهِ "حَـ"ـبْرٌ "سَـ"ـعِيد "تَـ"ـأَوَّلا
يريد: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} تذكير الفعل وتأنيثه ظاهران، أما: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} فجر الحق على أنه صفة لله، ورفعه على أنه صفة للولاية، والحق مصدر فالوصف به على تقدير: ذي الحق وذات الحق، ويشهد لقراءة الجر قراءة ابن مسعود -رضي الله عنه: "هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ وهُو الْحَق" وقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} ويشهد لقراءة الرفع قراءة أُبَي: "هنالك الولاية لحق لله"، وقوله سبحانه: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} قال الفراء: والولاية المُلْك ولو نصب الحق على معنى حقا كان صوابًا. قال أبو علي: ومعنى وصف الولاية بالحق أنه لا يشوبها غيره، ولا يخاف فيها ما في سائر الآيات من غير الحق، وقول الناظم: وفي الحق جره مبتدأ وخبره ثم استأنف على رفعه حبر؛ أي: عالم سعيد نعت حبر تأول للرفع ما ذكرناه والله أعلم.
841-
وَعُقْبًا سُكُونُ الضَّمِّ "نَـ"ـصُّ "فَـ"ـتىً وَيَا ... نُسَيِّرُ وَالَى فَتْحَهَا "نَفٌَ" مَلا
يريد: {وَخَيْرٌ عُقْبًا} ضم القاف وإسكانها لغتان وهي العاقبة والعقبى والعقبة، ومعناها الآخرة، أما: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} فقرأه على البناء للمفعول نفر ملا، وهو جمع ملى وهو الثقة، ثم ذكر تمام تقييد القراءة فقال:
842-
وَفِي النُّونِ أَنِّثْ وَالْجِبَالَ بِرَفْعِهِمْ ... وَيَوْمُ يقُولُ النُّونُ حَمْزَةُ فَضَّلا
أنث؛ أي: اجعل دلالة التأنيث موضع النون وهي التاء، وإنما نص على النون؛ لتعلم قراءة الباقين، ولو لم يذكر ذلك لأخذ التذكير ضدا للتأنيث ورفع الجبال؛ لأنه مفعول فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بالنون وكسر الياء ونصب الجبال؛ لأنه مفعول فعل مسند للفاعل وقد صرح بمعنى القراءة الأولى في: {سُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} 1، {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} 2، قد نسب السير إلى الجبال في: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا، وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} ، ويقوي النون في "نسير" قوله تعالى بعده: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ} والضمير في برفعهم عائد على نفر: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ} الياء فيه لله تعالى والنون للعظمة وفضلها حمزة فقرأ بها:
__________
1 سورة النبأ، آية: 20.
2 سورة التكوير، آية: 3.
(1/570)
________________________________________
843-
لِمَهْلَكِهِمْ ضَمُّوا وَمَهْلِكَ أَهْلِهِ ... سِوى عَاصِمٍ وَالكَسْرُ فِي اللامِ "عُـ"ـوِّلا
يريد ضم الميم في وجعلنا لمهلكهم موعدا: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} 1 في سورة النمل وكلهم سوى عاصم ضموا الميم وفتحوا اللام؛ لأنه؛ يعني: الإهلاك وفعله أهلك نحو: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2 وعاصم فتح الميم فيكون من الهلاك وفعله هلك، والمصدر مضاف إلى الفاعل وعلى قراءة الضم إلى المفعول، ويجوز أن يكون المفتوح الميم بمعنى المضموم، فقد قيل: إن هلك استعمل لازما ومتعديا نحو رجع ورجعته، وفتح اللام مع فتح الميم قراءة أبي بكر عن عاصم وهي أشيع اللغتين وكسر اللام رواية حفص عن عاصم، ونظيره مرجع ومحيض، والفتح هو الباب والقياس، ومعنى عول جوز؛ أي: عول عليه.
844-
وَهَا كَسْرِ أَنْسَانِيهِ ضُمَّ لِحَفْصِهِمْ ... وَمَعْهُ عَلَيْهِ اللهَ فِي الْفَتْحِ وَصَّلا
أضاف ها إلى الكسر لما كان الكسر فيها وقصرها ضرورة ويجوز أن يكون من باب القلب لأمن الإلباس أراد وكسر هاء: "أَنْسَانِيهُ" ضم والضم هو الأصل في هاء الضمير على ما سبق تقريره في باب هاء الكناية وهذا حكم من أحكام ذلك الباب، ومثله ما يأتي في أول طه: {لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} 3، ووجه الكسر فيهما مجاورة الهاء للياء الساكنة والكسرة: نحو "فيه"، و"به"، وقوله: في آخر البيت وصلا ذكره الشيخ بفتح الواو والصاد؛ أي: وصله حفص بما قبله وبضم الواو وكسر الصاد؛ أي: وصل ذلك ونقل له:
845-
لِتُغْرِق فَتْحُ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ َيْبَةً ... وَقُلْ أَهْلَهَا بِالرَّفْعِ "رَ"اوِيهِ "فَـ"ـصَّلا
يعني فتح ضم الياء وكسر الراء، وغيبة: حال؛ أي: ذا غيبة وفتح خبر: "لِتُغْرِقَ"؛ أي: هو مفتوح الضم والكسر في حال غيبته؛ أي: بالياء مكان التاء أسند الفعل إلى الأهل فارتفع الأهل بالفاعلية؛ أي: ليغرقوا، وفي القراءة الأخرى أسند الفعل إلى المخاطب فانتصب أهلها على أنه مفعول به واللام في "ليغرق" لام العاقبة على القراءتين ومعنى فصل بين والله أعلم.
846-
وَمُدَّ وَخَفِّفْ يَاءَ زَاكِيَةً "سَـ"ـمَا ... وَنُونَ لَدُنِّي خَفَّ "صَـ"ـاحِبُهُ إِلَى
__________
1 الآية: 49.
2 سورة يونس، آية: 13.
3 سورة الآية: 10.
(1/571)
________________________________________
أراد "نفسا زاكية"، وكلتا القراءتين ظاهرة، الزاكي والزكي واحد، ومثل هاتين القراءتين ما سبق في المائدة؛ "قاسية"، "وقسية"، وقوله: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} تشديد نونه من جهة أن نون "لدن" ساكنة ألحق بها نون الوقاية؛ لتقي نونها من الكسر الواجب قبل ياء المتكلم في الحروف الصحيحة كما فعل ذلك في "مِنْ" و"عَنْ"؛ محافظة على سكونها فاجتمع نونان، فأدغمت نون "لدن" في نون الوقاية، ونافع لم يلحق نون الوقاية، فانكسرت نون "لدن"، وإذا كان قد حذفها من: "أَتُحَاجُّونِي"، "وتبشرون" مع كونها قد اتصلت بنون رفع الفعل فحذفها من هذا أولى، وإلى في آخر البيت واحد الآلاء وهي النعم، قال الجوهري: واحدها ألى بالفتح وقد تكسر وتكتب بالياء مثاله معي وأمعاء، وإعراب صاحبه مبتدأ وإلى خبره؛ أي: ذو إلى؛ أي: ذو نعمة، ويجوز أن يكون صاحب فاعل خف وإلى حال؛ أي: ذا نعمة، ثم بين قراء أبي بكر فقال:
847-
وَسَكِّنْ وَأَشْمِمْ ضَمَّةَ الدَّالِ "صَـ"ـادِقًا ... تَخِذْتَ فَخَفِّفْ وَاكْسِرِ الْخَاءَ "دُ"مْ "حُـ"ـلا
أي: سكن الدال تخفيفا كما تسكن عضد وسبع، وأهل هذه اللغة يكسرون نون لدن؛ لالتقاء الساكنين فلم يحتج شعبة إلى إلحاق نون الوقاية؛ لأن نون لدن مكسورة فلهذا جاءت قراءته بتخفيف النون، أما إشمامه ضمة الدال فللدلالة على أن أصلها الضم، وفي حقيقة هذا الإشمام من الخلاف ما سبق في "من لدنه" في أول السورة، وصرح ابن مجاهد هنا بما صرح به صاحب التيسير ثَم فقال: يشم الدال شيئا من الضم، وقال هناك: بإشمام الدال الضمة، وفسره أبو علي بأنه تهيئة العضو لإخراج الضمة، وصاحب التيسير قال هنا: أبو بكر بإسكان الدال وإشمامها الضم وتخفيف النون، وقال هناك: وإشمامها شيئا في الضم، ونقل الشيخ في شرحه عنه أنه قال: يجوز أن يكون هنا الإشارة بالضمة إلى الدال، فيكون إخفاء لا سكونا، ويدرك ذلك بحاسة السمع، وقال الشيخ: يشمها الضم على ما تقدم في: {مِنْ لَدُنْهُ} من الإشارة بالعضو.
قلت: وجه اختلاس الضمة هنا أظهر منه هناك من جهة أن كسر النون هناك إنما كان؛ لالتقاء الساكنين فلو لم تكن الدال ساكنة سكونًا محضًا لم يحتج إلى كسر النون وبقيت على سكونها وهنا كسر النون؛ لأجل إيصالها بياء المتكلم كما أن نافعا يكسرها مع إشباعه لضمة الدال غير أن الظاهر أن قراءته في الموضعين واحدة، وقد بان أن الصواب ثم الإشارة بالعضو فكذا هنا والله أعلم.
وأما: "لتخذت عليه أجرا" فخفف التاء وكسر الخاء ابن كثير وأبو عمرو، فيكون الفعل تخذ مثل علم، قال أبو عبيد: هي مكتوبة هكذا وهي لغة هذيل، وقرأ الباقون بتشديد التاء وفتح الخاء، فيكون الفعل اتخذ نحو: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ، {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} ، وذلك كثير في القرآن ماضيه ومضارعه نحو: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ} ، وتلك اللغة لم يأتِ مضارعها في القرآن ولا ماضيها في غير هذا الموضع، وإعراب قوله: دم حلا كإعراب دم يدا؛ أي: ذا حلا أو يكون تمييزا نحو: طب نفسًا، والله أعلم.
848-
وَمِنْ بَعْدُ بِالتَّخْفِيفِ يُبْدِلَ هَهُنَا ... وَفَوْقَ وَتَحْتَ الْمُلْكِ "كَـ"ـافِيهِ "ظَـ"ـلَّلا
أي: من بعد "لتخذت": {أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} ، وفوق الملك وتحتها؛ يعني: سورتي التحريم، ونون: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا} .
(1/572)
________________________________________
{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا} 1.
فحذف الناظم المضاف إليه بعد فوق اكتفاء بذكره له بعد "تحت"، ومثله: بين ذراعي وجبهة الأسد، قال أبو علي: بدل وأبدل يتقاربان في المعنى كما أن نزّل وأنزل كذلك إلا أن بدل ينبغي أن يكون أرجح لما جاء في التنزيل من قوله: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} 2، ولم يجيء فيه الإبدال، وقال: وإذا بدلنا آية مكان آية: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 3، {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} 4.
وسيأتي ذكر الخلاف في الذي في سورة النور: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} 5.
قال الشيخ والهاء في كافيه عائدة على يبدل بالتخفيف في المواضع الثلاثة وإنما ظلل؛ لأنه بإجماع من أهل العربية لا مطعن فيه؛ لأنه في المواضع الثلاثة تبديل الجوهرة بأخرى، وإنما تكلم النحاة في قراءة التشديد؛ لأنهم زعموا أن التشديد إنما يستعمل في تغير الصفة دون الجوهر.
قلت: هذا قول بعضهم وليس بمطرد، وقد رده أبو علي، وقال المبرد: يستعمل كل واحد منهما في مكان الآخر والله أعلم.
849-
فَأَتْبَعَ خَفِّفْ فِي الثَّلاثَةِ "ذَ"اكِرًا ... وَحَامِيَةً بِالْمَدِّ "صُحْبَتُـ"ـهُ "كَـ"ـلا
أي: خفف الباء من: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} ، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} ، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} فهذا معنى قوله: في الثلاثة، والأولى أن يقرأ أول بيت الشاطبي: وأتبع خفف بالواو وتكون الواو للعطف أنث للفصل، ويقع في كثير من النسخ فأتبع بالفاء وليس جيدا؛ إذ ليس الجميع بلفظ فأتبع بالفاء إنما الأول وحده بالفاء والآخران خاليان منهما، ولم ينبه على قطع الهمزة ولا بد منه، فليته قال: وأتبع كل اقطع هنا خفف ذاكر؛ أي: كله وذهب التنوين؛ لالتقاء الساكنين والتخفيف والتشديد لغتان وهما بمعنى تبع كعلم قال الله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} 6.
في البقرة وقال في طه:
__________
1 سورة القلم، آية: 32.
2 سورة يونس، آية: 64.
3 سورة البقرة، آية: 59.
4 سورة سبأ، آية: 16.
5 سورة النور، آية: 55.
6 سورة البقرة، آية: 38.
(1/573)
________________________________________
{فَمَنِ اتَّبَعَ} وقال: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} 1، {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} 2، وهذه المواضع مجمع عليها، واختلف هنا وفي الذي في آخر الأعراف والشعراء، وقيل: "أتبَعَ" يتعدى إلى لمفعولين بدليل: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} 3.
فالتقدير: أتبع أمره سببا وقيل: اتبع الحق واتبع بمعنى، واختار أبو عبيد قراءة التشديد، قال: لأنها من المسير إنما هي افتعل من قولك: تبعت القوم، أما الإتباع بهمز الألف فإنما معناه اللحاق كقولك: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} ، {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} ، ونحوه، واختار الفراء قراءة التخفيف فقال: "أتبع" أحسن من "اتبع"؛ لأن اتبعت الرجل إذا كان يسير وأنت تسير وراءه فإذا قلت: أتبعته فكأنك قفوته، قال أبو جعفر النحاس: وغيره الحق أنهما لغتان بمعنى السير، فيجوز أن يكون معه اللحاق وأن لا يكون.
قلت: ومعنى الآية: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ؛ أي: من أسباب كل شيء أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه سببا طريقا موصلا إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة، وآلة: فأراد بلوغ المغرب، {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} يوصله إليه: "حتى بلغ"، وكذلك أراد بلوغ المشرق، {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} ، وأراد بلوغ السدين {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} .
هذه عبارة الزمخشري في ذلك، وقال أبو علي: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} بالخلق إليه حاجة سببا؛ أي: علما ومعونة له على ما مكناه فيه فاتجه في كل وجه وجهناه له، وأمرناه به للسبب الذي ينال به صلاح ما مكن منه وقوله:
__________
1 سورة الصافات، آية: 10.
2 سورة الشعراء، آية: 60.
3 سورة القصص، آية: 42.
(1/574)
________________________________________
"في عين حامية"، هذه القراءة بزيادة ألف بعد الحاء وبياء صريحة بعد الميم؛ أي: حارة من حميت تحمى فهي حامية، قال أبو علي: ويجوز أن تكون فاعلة من الحمأ، فخففت الهمزة بقلبها ياء محضة قلت: لأنها مفتوحة بعد مكسورة فإبدالها ياء وهو قياس تخفيفها على ما سبق في باب وقف حمزة، وفي هذا الوجه جمع بين معنى القراءتين كما يأتي ثم تمم الكلام في بيان هذه القراءة في البيت الآتي، وأخبر عن لفظ صحبة بقوله: كلا؛ أي: حفظ كما أخبر عنها فيما تقدم بقوله: تلا، وفي موضع آخر ولا؛ لأنه مفرد.
850-
وَفِي الْهَمْزِ يَاءٌ عَنْهُمُ وَ"صِحَابُـ"ـهُمْ ... جَزَاءُ فَنَوِّنْ وَانْصِبِ الرَّفْعَ وَأَقْبَلا
فالقراءة الأخرى بالقصر والهمز حمئة؛ أي: فيها الحمأة وهو الطين الأسود. وروي أن معاوية سأل كعبا: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال: في "ماء وطين"، وفي رواية: في "حمأة وطين"، وفي أخرى: في طينة سوداء، أخرجهن أبو عبيد في كتابه وروي في شعر تبع في ذي القرنين:
فرأى مغيب الشمس عند مآبها ... في غير ذي خلب دثاط حرمد
أي: في عين ماء ذي طين، وحمأ أسود، قال الزجاج: يقال حميت البئر فهي حمئة إذا صار فيها الحمأة، ومن قرأ حامية بغير همز أراد حارة، قال: وقد تكون حارة ذات حمأة؛ يعني: جمعا بين القراءتين، وقرأ مدلول صحاب: {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} أي: فله الحسنى جزاء فجزاء مصدر منصوب في موضع الحال. المعنى: فله الحسنى مجزية أو مجزيا بها. والمراد بالحسنى على هذه القراءة الجنة، وقرأ الباقون بإضافة جزاء إلى الحسنى، قال الفراء: الحسنى حسناته فله جزاؤها، وتكون الحسنى الجنة، ويضيف الجزاء إليها وهي هو، كما قال: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، و {وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ} ، وقال أبو علي: له جزاء الخصال الحسنة التي أتاها وعملها، واختار أبو عبيد قراءة النصب، وقال أبو علي: قال أبو الحسن: هذا لا تكاد العرب تتكلم مقدما إلا في الشعر وقول الناظم: وأقبلا أراد وأقبلن، فأبدل من نون التأكيد الخفيفة ألفا.
851-
"عَلَى حَـ"ـقٍّ السُّدَّيْنِ سُدًّا "صِحَابُ حَقٍْ" ... الضَّمُّ مَفْتُوحٌ وَيس "شِـ"ـدْ "عُـ"ـلا
رمز في المواضع الثلاثة لمن فتح السين فيها والفتح والضم لغتان فموضعان منها هنا: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} ، {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} والذي في يس موضعان: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} 1.
أي: الضم مفتوح فيهما وفي يس، ولولا أن الخلاف في السين واقع بين الضم والفتح دون الرفع والنصب لكان قوله: على حق السدين وهما أنه بالضم لإطلاقه ويكون قوله: الضم مفتوح مختصا بـ "سدّا"، ولكن ما ذكره في الخطبة من قوله: وفي الرفع والتذكير والغيب مختص بالرفع والرفع غير الضم
__________
1 سورة يس، آية: 9.
(1/575)
________________________________________
على ما سبق بيانه هنالك وشد علا من شاد البناء إذا رفعه وطلاه بالشيد وهو الجص: وعلا: جمع عليا أو مفرد.
852-
وَيَأْجُوجَ مَأْجُوجَ اهْمِزِ الكُلَّ "نَـ"ـاصِرًا ... وَفِي يَفْقَهُونَ الضَّمُّ وَالكَسْرُ "شـ"ـكِّلا
يعني بالكل: هنا وفي الأنبياء، وهما اسمان أعجميان لطائفتين عظيمتين قيل: لا يموت الواحد منهم حتى يخلف من صلبه ألفا، ومصداق هذا من الحديث الصحيح لما ذكر نعت النار قال: "إن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألفا"، وقيل: يأجوج اسم لذكرانهم ومأجوج اسم لإناثهم، وهما على أوزان كثير من أعلام العجمة، كطالوت وجالوت وداود وهاروت وماروت فالألف فيهما كالألف في هذه الأسماء، أما همز هذه الألف فلا وجه له عندي إلا اللغة المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العالم والخاتم، وقد حاول جماعة من أئمة العربية لهما اشتقاقًا كما يفعلون ذلك في نحو: آدم ومريم وعيسى على وجه الرياضة في علم التصريف وإلا فلا خفاء أنها كلها أعجمية، وهذه طريقة الزمخشري وغيره من المحققين، وأقرب ما قيل في اشتقاقها أن يأجوج من الأج وهو الاختلاط وسرع العدو أو من أجيج النار فوزن يأجوج يفعول ومأجوج مفعول فيكون الهمز فيهما هو الأصل وتركه من باب تخفيف الهمز، وقيل: مأجوج من ماج يموج إذا اضطرب، ويشهد لهذه المعاني ما وصفهم الله تعالى به فإفسادهم في الأرض على وجه القهر والغلبة يشبه تأجج النار والتهابها عاصية على موقدها وكونهم: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} يناسب سرعة العدو، وكون: "بعضهم يموج في بعض" هو الاختلاط فالمانع لهما من الصرف هو العجمة مع العلمية، وإن قيل: هما عربيان فالتأنيث عوض العجمة؛ لأنهما اسمان لقبيلتين ويفقهون بفتح الياء والقاف؛ أي: لا يفقهون؛ لجهلهم بلسان من يخاطبهم وبضم الياء وكسر القاف لا يفهمون غيرهم قولا لعجمة ألسنتهم فالمفعول الأول محذوف نحو: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} أو الألف في شكلا للضم والكسر أي: جعلا شكلا في يفقهون:
853-
وَحَرِّكْ بِها وَالمُؤْمِنينَ وَمُدَّهُ ... خَرَاجًا "شَـ"ـفَا وَاعْكِسْ فَخَرْجُ "لَـ"ـهُ "مُـ"ـلا
خراجًا مفعول حرك؛ أي: بهذه السورة وبسورة المؤمنين أراد فتح الراء ومد ذلك الفتح فيصير ألفا والقراءة الأخرى بإسكان الراء؛ لأنه ضد التحريك، وإذا بطلت الحركة بطل مدها، والخرج والخراج واحد كالنول والنوال؛ أي: جعلا يخرج من الأموال فالذي هنا: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} ، والذي في المؤمنين: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} 1، وقوله: واعكس فخرج؛ يعني: الثاني في سورة المؤمنين: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} 2؛ أي: اقرأه لابن عامر وحده بالإسكان والقصر،؛ أي: ما يعطيه الله سبحانه خير مما يعطيه هؤلاء، فقد صار في حرفي المؤمنين ثلاث قراءات مدهما لحمزة والكسائي وقصرهما لابن عامر ومد الأول وقصر الثاني للباقين، أما مد الأول وقصر الثاني فلا والله أعلم وقد مضى معنى ملا وأنه جمع ملاءة وهي الملحفة ويمكن به الحجة؛ لأنها جبة وسترة:
__________
1 و2 سورة المؤمنون، آية: 72.
(1/576)
________________________________________
854-
وَمَكَّنَنِي أَظْهِرْ "دَ"لِيلًا وَسَكَّنُوا ... مَعَ الضَّمِّ فِي الصُّدْفَيْنِ عَنْ شُعْبَةَ الْمَلا
دليلا حال من مكنني؛ أي: أظهره دليلا على أن القراءة الأخرى بالإدغام هذا أصلها النون الأولى من أصل الفعل والثانية نون الوقاية، فلما اجتمع المثلان ساغ الإدغام والإظهار، ورسم في مصحف أهل مكة بنونين وفي غيره بنون واحدة فكل قراءة على موافقة خط مصحف، وقال الشيخ: دليلا حال من الضمير في أظهر المرفوع أو المنصوب أو على أنه مفعول، وقوله: وسكنوا؛ يعني: المشايخ والرواة سكنوا الدال وضموا الصاد ناقلين ذلك عن شعبة، ووجه الإسكان التخفيف لاجتماع ضمتين كما في قراءة غيره كما يأتي وأضاف شعبة إلى الملا وهم الأشراف فلهذا جره وإلا فشعبة غير منصرف كذا ذكره الشيخ في شرحه، ويجوز أن يكون غير منصرف ولم يصفه إلى الملا، ويكون الملا فاعل وسكنوا على لغة أكلوني البراغيث، فيكون فيه من البحث ما في قوله تعالى: {عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} 1.
وقوله سبحانه: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} 2.
والملا ليس برمز مع شعبة؛ لأن الرمز لا يجتمع مع مصرح باسمه، ولكنه مشكل من جهة ما بعده فإن قوله: كما حقه رمز، ولا مانع من أن يكون الملا منضما إلى ذلك رمزا للقراءة الآتية إلا كونه أضاف شعبة إليه وفي ذلك نظر، وكان يمكنه أن يقول عن شعبة ولا والله أعلم.
855-
"كَمَا حَقُّـ"ـهُ ضمَّاه وَاهْمِزْ مُسَكِّنًا ... لَدَى رَدْمًا ائْتُونِي وَقَبْلَ اكْسِرِ الوِلا
الهاء في حقه وضماه للفظ الصدفين؛ أي: إنه يستحق في الأصل ضمين هذا معنى ظاهر اللفظ وباطنه أن ابن عامر وابن ثير وأبا عمرو قرءوا بضم الصاد والدال معا والكاف في كما نحو التي في قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ} 3.
فما بعدها علة لما قبلها في الموضعين والضمان علة الإسكان، وقرأ الباقون وهم نافع وحمزة والكسائي وحفص بفتحهما فالفتح فيهما والضم لغتان والإسكان لغة ثالثة، والمعنى بالصدفين ناحيتا الجبلين المرتفعين المتقابلين وقوله: واهمز مسكنا؛ أي: ائت بهمزة ساكنة في لفظ "ردما، ائتوني"، وقد لفظ في نظمه بصورة القراءة المقصودة وكسر التنوين قبلها وهو المراد بقوله: وقبل اكسر؛ أي: وقبل هذا الهمز الساكن اكسر ما وليه ودنا منه وهو التنوين، وإنما كسره؛ لأنه التقى مع الهمز الساكن؛ أي: اكسر ذا الولاء يقال: والى ولاء
__________
1 سورة المائدة، آية: 71.
2 سورة الأنبياء، آية: 21.
3 سورة الأنعام، آية: 110.
(1/577)
________________________________________
وفعلته على الولاء؛ أي: شيئا بعد شيء، ووالى هذا هذا؛ أي: اتصل به، ويقع في بعض النسخ اكسروا بضمير الجمع ولا حاجة إليه، والإفراد أولى لقوله قبله: واهمز ويأتي وابدأ وزد في البيتين الباقيين، ووجه هذه القراءة أنها من أتى يأتي؛ أي: جيئوني بزبر الحديد وحذفت الباء فتعدى الفعل فنصب، قال أبو علي: "ايتوني" أشبه بقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} ؛ لأنه كلفهم المعونة على عمل السد ولم يقبل الخراج الذي بذلوه له فقوله: "ائتوني" الذي معناه جيئوني إنما هو معونة على ما كلفهم من قوله: فأعينوني بقوة ثم ذكر من له هذه القراءة فقال:
856-
لِشُعْبَةَ وَالثَّانِي "فَـ"ـشَا "صِـ"ـفْ بِخُلْفِهِ ... وَلا كَسْرَ وَابْدَأْ فِيهِمَا اليَاءَ مُبْدِلا
الثاني قوله: {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ} ، سكن الهمزة حمزة وعن شعبة خلاف، فكأنه في أحد الوجهين جمع بين القراءتين في الموضعين، وهذا الموضع الثاني ليس قبله تنوين ولا ساكن غيره، فلهذا قال: ولا كسر إنما قبله فتحة لام قال: والمعنى في الموضع الثاني كما سبق في الأول، والياء محذوفة من قطرا إن كان مفعوله، وإن كان قطرا مفعول أفرغ، فالتقدير: ائتوني بقطر أفرغه عليه فحذف الأول؛ لدلالة الثاني عليه ولم يحتج قطرا المذكور إلى باء؛ لأنه مفعول أفرغ فهذا بيان هذه القراءة في الموضعين في حال الوصل ثم شرع يبين الابتداء بالكلمتين على تقدير الوقف قبلها فقال: وابدأ فيهما؛ أي: في الموضعين بإبدال الباء من الهمزتين؛ لأن في كل موضع همزة ساكنة بعد كسر همزة الوصل، فوجب قلبها ياء كما يفعل في ائت بقرآن فهذا معنى قوله:
857-
وَزِدْ قَبْلَ هَمْزِ الوَصْلِ وَالغَيْرُ فِيهِمَا ... بِقَطْعِهِمَا وَالْمِدِّ بَدْءًا وَمَوْصِلا
أي: قبل هذه الياء المبدلة من الهمزة الساكنة زد همزة الوصل المكسورة؛ ليمكن النطق بالياء الساكنة قال الفراء: قول حمزة صواب من وجهين يكون مثل أخذت الخطام وأخذت بالخطام ويكون على ترك الهمزة الأولى في أتوني، فإذا سقطت الأولى همزت الثانية قلت: لهذا وجه آخر؛ لأن المقتضى لإبدال الثانية ألفا اجتماعها مع الأولى فإذا حذفت الأولى انهمزت الثانية، وهو مثل ما قيل في قراءة قالون "عادا الُاولى" في أحد الوجهين وينبغي على هذا الوجه إذا ابتدأت أن تقيد الهمزة المفتوحة التي حذفت فهي أولى من اجتلاب همزة وصل والله أعلم، ثم بين قراءة باقي القراء فقال: والغير؛ يعني: غير حمزة وشعبة، فيهما؛ أي: في الموضعين بقطعهما؛ أي: بقطع الهمزتين ولم يبين فتحهما؛ لأن فعل الأمر لا يكون فيه همزة قطع إلا مفتوحة ثم قال: والمد أي
(1/578)
________________________________________
وبالمد بعد همزة القطع وبدأ وموصلا حالان؛ أي: هذه قراءة غيرهما بادئا وواصلا لا يختلف الحال في ذلك، ومعنى هذه القراءة من الإيتاء وهو الإعطاء فمعنى آتوني أعطوني وهو يحتمل المناولة والاتهاب، وقام الدليل على أنه لم يرد الاتهاب؛ لامتناعه عن أخذ الخرج فتعينت الإعانة بالمناولة وتحصيل الأدلة والله أعلم.
858-
وَطَاءَ فَمَا اسْطَاعُوا لِحَمْزَةَ شَدّدُوا ... وَأَنْ يَنْفَدَ التَّذْكِيرُ "شَـ"ـافٍ تَأَوَّلا
يريد: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} .
أي: طاء هذه اللفظة فقيده بالفاء؛ لأن الذي بعده بالواو وطاء منصوب؛ لأنه مفعول شددوا والأصل استطاعوا فقراءة الجماعة بحذف التاء، وروي عن حمزة إدغامها في الطاء. قال ابن مجاهد: هو رديء؛ لأنه جمع بين ساكنين، وقال الزجاج: من قرأ بإدغام التاء في الطاء فلاحن مخطئ، زعم ذلك النحويون الخليل ويونس وسيبويه وجميع من قال بقولهم؛ لأن السين ساكنة، فإذا أدغمت التاء صارت طاء ساكنة، ولا يجمع بين ساكنين فإن قال: اطرح حركة التاء على السين فخطأ أيضا؛ لأن سين استفعل لم تحرك قط.
قلت: إنما قال ذلك؛ لأنه لا يتحقق محض الإدغام إلا بتحريك السين. قال أبو جعفر النحاس: حكى أبو عبيد أن حمزة كان يدغم التاء في الطاء، ويشدد الطاء، قال أبو جعفر النحاس: ولا يقدر أحد أن ينطق به؛ لأن السين ساكنة والتاء المدغمة ساكنة، قال سيبويه: هذا محال، وقال الجوهري في باب روم: من جمع بين الساكنين في موضع لا يصح فيه اختلاس الحركة فهو مخطئ كقراءة حمزة فما اسطاعوا؛ لأن سين الاستفعال لا يجوز تحريكها بوجه من الوجوه وأما: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} فلم يختلفوا في إظهار التاء فيها، أما التذكير في أن تنفد كلمات ربي والتأنيث فظاهران وتأولا تمييز.
859-
ثَلاثٌ مَعي دُونِي وَرَبِّي بِأَرْبَعٍ ... وَمَا قيل: إِنْ شَاءَ الْمُضَافَاتُ تُجْتَلا
ثلاث مبتدأ وهو مضاف إلى كلمة معي، وما بعد ثلاث عطف عليه، والمضافات خبر المبتدأ أو هو مبتدأ وثلاث خبره مقدم عليه؛ أي: الياءات المضافة في هذه السورة تجتلى؛ أي: تكشف في هذه الكلمات وهي معي ثلاث مواضع يريد: {مَعِيَ صَبْرًا} فتحهن حفص وحده، "مِنْ دُونِيَ أَوْلِيَاءَ" فتحها نافع وأبو عمرو، "وربي" في أربع كلمات: "قُلْ رَبِّيَ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ"، "فَعَسَى رَبِّيَ أَنْ يُؤْتِيَنِ"، "بِرَبِّيَ أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ"، "بِرَبِّيَ أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ" فتح الأربع الحرميان وأبو عمرو، وقوله: وما قبل إن شاء؛ أي: والذي قبل قوله: إن شاء الله وهو: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} فتحها نافع وحده فهذه تسع ياءات إضافة وفيها سبع زوائد: "المهتدي" أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو: "أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ"، "فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي"، "على أن تعلمني" أثبتهن في الوصل أيضا نافع وأبو عمرو، وأثبتهن في الحالين ابن كثير، "إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلّ" أثبتها في الوصل أبو عمرو،
(1/579)
________________________________________
وقالون، وأثبتها في الحالين ابن كثير، {مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا} أثبتها في الحالين ابن كثير، وفي الوصل نافع وأبو عمرو والكسائي، {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} أثبتها الجميع في الحالين، واختلف عن ابن ذكوان في حذفها، وقلت في ذلك:
زوائدها سبع فلا تسئلنّ أن ... تعلمني نبغي وإن ترني تلا
ويهدِيَني ربي كذا المهتدي ومن ... ويؤتيَنِي خيرا فصادفت منهلا
(1/580)
________________________________________
سورة مريم:
860-
وَحَرْفًا يَرِثْ بِالْجَزْمِ "حُـ"ـلْوٌ "رِ"ضىً وَقُلْ ... خَلَقْتُ خَلَقْنَا "شَـ"ـاعَ وَجْهًا مُجَمَّلا
يريد: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} الجزم على جواب: {هَبَ لِي} والرفع على أن يكون صفة "لوليا"؛ أي: وليا وارثا للعلم والنبوة ومثله: "فأرسله معي ردأ يصدقْني" يقرأ أيضا بالجزم والرفع والأقل على الجزم في يرث، وعلى الرفع في يصدقني، وأجمعوا على رفع: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا} 1.
واستبعد أبو عبيد: قراءة الجزم: وقال: الذي يجزم يريد الشرط؛ أي: إنك إذا وهبت لي وليا ورثني، فكيف يخبر بهذا زكرياء ربه وهو أعلم به منه، وجوابه أن من يطلب من الأنبياء ولدًا من الله سبحانه لا يطلبه إلا صالحا فهذه الصفة مقدرة، فجزم بالوراثة بناء على ظاهر الحال نحو: {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} .
ثم وجه الجزم مراعاة لفظ الأمر، وإن لم تكن الوراثة لازمة من الهبة فهذا أقوى من الجزم في مثل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، ونحوه، وقال أبو علي: أوقع العام موقع الخاص، وأراد بالولي وليا وارثا، وقول الناظم: حلو رضى خبر قوله: وحرفا، فإن قلتَ: الخبر مفرد والمبتدأ مثنى فكيف يسوغ هذا؟، قلتُ: من وجوه؛ أحدها: أن التقدير: ولفظ حرفي يرث بالجزم حلو فحذف المضاف وأقيم مقامه، والثاني: التقدير: كل واحد منهما حلو"، والثالث: تنزيل لحرفين منزلة حرف واحد، فكأنه قال: ويرث في الموضعين حلو، وأنشد النحاة على ذلك:
وَكَأَنَّما في العَينِ حَبَّ قَرَنفُلٍ ... أَو سُنبُلاً كُحِلَت بِهِ فَاِنهَلَّتِ
والرابع: مجموع قوله: حلو رضى خبر عن الحرفين؛ أي: هذا حلو وهذا رضى. ويلزم من اتصاف أحدهما بأحد الوصفين اتصافه بالآخر من حيث المعنى: فإن الحلو مرضى والمرضى حلو، ويجوز وجه خامس أن يكون بالجزم خبر حرفا؛ أي: مستقران بالجزم كما تقول: الزيدان بالدار، ثم قال: حلو؛ أي: الجزم فيهما حلو رضى.
وأما: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} بالتاء وبنون العظمة فظاهر، ونصب وجها على التمييز مجملا نعته.
__________
1 سورة إبراهيم، آية: 44.
(1/581)
________________________________________
861-
وَضَمُّ بُكِيًّا كَسْرُهُ عَنْهُمَا وَقُلْ ... عِتيًّا صُلِيًّا مَعْ جُثِيًّا "شَـ"ـذَا "عَـ"ـلا
أي: عن حمزة والكسائي ووافقهما حفص على كسر: "عتيا"، و"صليا"، و"جثيا"؛ فبكيا وجثيا جمعا باكٍ وجاثٍ، وعتيا وصليا مصدرا عتى وصلى، وأصل الجمع فعول، وبكيا وصليا لامهما ياء، ويجب إدغام واو فعول فيها؛ لأن اجتماع واو وياء وقد سبقت إحدهما بالسكون موجب لذلك بعد قلب الواو ياء، كقولهم: طيا وليا، فإذا انقلبت واو فعول ياء وجب كسر ما قبلها؛ لأن ياء ساكنة قبلها ضمة غير موجود في اللغة، فصار بكيا وصليا على لفظ قراءة الجماعة ومن كسر الياء والصاد فللاتباع، أما عتيا وجثيا فلامهما واو وقد رفضوا أن توجد واو متطرفة بعد متحرك، ولم ينظروا إلى حجز واو فعول ففعلوا فيه ما فعلوا في نحو أدل؛ كسروا ما قبل واو فعول فانقلبت ياء فلزم قلب الواو الثانية ياء ثم الإدغام فصار عتيا وجثيا، ومن كسر العين والجيم فللاتباع، وهذا الصنيع في الغالب واجب فيما كان جمعا نحو جثيا وغير لازم في المصادر نحو عتيا، فيجوز عتوا كقوله تعالى: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} ، واختار أبو عبيد قراءة الضم وقال: هي أفصح اللغتين وأفخمها، وتقدير البيت كسر عتيا وما بعده على شذا؛ أي: ذو شذا عالٍ قال: وقد تقدم معنى شذا علا في مواضع وأن معنى الشذا الطيب أو نقية النفس.
862-
وَهَمْزُ أَهَبْ بِاليَا "جَـ"ـرى "حُـ"ـلْوَ "بَـ"ـحْرِهِ ... بِخُلْفٍ وَنِسْيًا فَتْحُهُ "فَـ"ـائِزٌ "عُـ" ـلا
يريد: {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} ؛ فالهمز للمتكلم، والياء للرب تعالى أو لرسوله، وإنما جاز نسبة الهبة إلى الرسول سواء كان بالهمزة والباء؛ لكونه أرسل لذلك، ويجوز أن تكون الباء بدلا من الهمزة؛ لأنها همزة مفتوحة بعد مكسور فقياس تخفيفها قلبها ياء نحو لئلا فيتفق معنى القراءتين ولفظهما؛ لأن الهمزة المخففة كالمحققة وقد كتبت في المصحف بالألف، وقوله: جرى حلو بحره عبارة حسنة والباء من أهب مفتوحة، ولكنه أدغمها في باء بالياء لما التقى المثلان كما يدغم أبو عمرو: "لذهب بسمعهم"، وهذا أولى من حمله على أنه أسكن المتحرك للضرورة، ونسيا بالفتح والكسر واحد، وهو الشيء الحقير ينسى، وقيل: ما أغفل من شيء حقير، وقيل: ما إذا ذكر لم يطلق والكل متقارب المعنى وعلا تمييز.
863-
وَمِنْ تَحْتَهَا اكْسِرْ وَاخْفِضِ "ا"لدَّهْرَ "عَـ"ـنْ "شَـ"ـذًا ... وَخَفَّ تَسَاقَطْ "فَـ"ـاصِلًا فَتُحُمِّلا
يريد: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} .
(1/582)
________________________________________
أي: اكسر الميم واخفض التاء؛ أي: ناداها المولود من تحتها، والقراءة الأخرى بالفتح والنصب؛ أي: ناداها الذي تحتها ونصب الدهر على الظرف كقوله:
إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ
وقوله: عن شذا؛ أي: عن ذي شذا، وفي لفظ "تساقط" قراءات كثيرة المشهور منها في طريقة الناظم ثلاث: "تسَّاقط" بتشديد السين والأصل يتساقط فأدغمت التاء الثانية في السين هذه قراءة الجميع غير حمزة وحفص، أما حمزة فحذف التاء فخففت السين، وقراءة حفص في البيت الآتي، وقول الناظم: وخف تساقط تساقط فاعل خف وفاصلا حال من تساقط؛ يعني: أنه فصل بين المفعول وهو "رطبا"، وبين العامل فيه وهو "هزي"، وهذا قول المبرد في ما حكاه الزجاج وغيره عنه، ولهذا قال فتحملا؛ أي: تحمله النحويون عنه أو تحملوا ذلك وجوزوه؛ لخفته في الفصل، وقال الزمخشري: "رطبا" تمييز أو مفعول على حسب القراءة؛ يعني: على قراءة حفص ونحوها،
ثم قال: وعن المبرد جواز انتصابه "بهزي" وليس بذاك، وقال أبو علي: فاعل تساقط النخلة أو جذعها ثم حذف المضاف فأسند الفعل إلى النخلة، ويكون سقوط الرطب من الجذع أنه لها، و"رطبا" منصوب على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون فاعل تساقط ثمرة النخلة، و"رطبا" حال وإن لم يجر للثمرة ذكر فلفظ النخلة يدل عليها، والباء في "بجذع" زائدة مثل ألقى بيده، قال: ويجوز أن يكون المعنى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ} بهز جذع النخلة رطبا؛ أي: إذا هززت الجذع هززت بهزه رطبا فإذا هززت الرطب سقط قلت: يعني: هزي إليك رطبا بسبب هزك للجذع، وهذا تقرير المعنى الذي ذهب إليه المبرد والله أعلم.
864-
وَبِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ وَالكَسْرِ حَفْصُهُمْ ... وَفِي رَفْعِ قَوْلِ الْحَقِّ نَصْبُ "نَـ"ـدٍ "كَـ"ـلا
أي: ضم الياء وخفف السين وكسر القاف؛ أي: "تُسَاقِط" النخلة رطبا فرطبا مفعول به، ونصب قول الحق لى أنه مصدر مؤكد لقوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ؛ أي: قلت قول الصدق؛ أي: قولا صدقا حقا، وقيل: هو نصب على المدح، والحق اسم الله تعالى، والرفع على تقدير هو قول الحق؛ أي: عيسى كلمة الله أو هذا الكلام قول الحق؛ أي: الصدق أو كلام الله الذي هو الحق المبين، وقوله: نصب ندٍ؛ أي: قارئ هذه صفته، يقال: فلان ند؛ أي: جواد، وكلا حفظ وحرث.
865-
وَكَسْرُ وَأَنَّ اللهَ "ذَ"اكٍ وأَخْبَروا ... بِخُلْفٍ إِذَا مَا مُتُّ "مُـ"ـوفِينَ وُصَّلا
الكسر على الاستئناف أو عطف على قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} ،
(1/583)
________________________________________
والفتح على تقدير: ولأن: {اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ، أو عطف على: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} ، وبأن: {اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ، وقوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إلى قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} كلام معترض، وقوله: ذاك من ذكا الطيب يذكو إذا فاحت ريحه؛ أي: وجه الكسر بيِّن ظاهر، وأخبروا؛ يعني: الرواة باختلاف بينهم عن ابن ذكوان وموفين جمع موفٍ، ووصلا جمع واصل هما حالان من فاعل أخبروا يريد قوله تعالى: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ} .
قراءة الجماعة بالاستفهام الذي يقال على وجه الإنكار، وهم على أصولهم في ذلك فيما يتعلق بتحقيق لهمزة الثانية، وتسهليها وإدخال الألف بين الهمزتين. وروي عن ابن ذكوان حذف همزة الإنكار، وهي مرادفة في المعنى وله نظائر، ومثل هذا يعبر عنه بالإخبار؛ لأنه على لفظ الخبر المحض، ويجوز أن يكون حكاية منه للفظ الذي قيل: له بعينه كما قال: لسوف، وليس بموضع تأكيد بالنسبة إلى حال هذا المنكر، وإنما كأنه قيل له: "لسوف تخرج حيا إذا ما مت"، فحكى هذا اللفظ منكرا له، وقد تقدم تقدير أن ضد الأخبار عند الناظم الاستفهام في سورة الأعراف والرعد والله أعلم.
866-
وَنُنْجِي خَفِيفًا "رُ"ضْ مَقَامًا بِضَمِّهِ ... "دَ"نَا رءيًا ابْدِلْ مُدْغِمًا "بَـ"ـاسِطًا "مُـ"ـلا
ذكر في هذا البيت ثلاثة أحرف "ننجي"، "مقاما"، "رئيا"، وننجي مفعول رض وخفيفا حال منه، ومقاما: مبتدأ، ورئيا: مفعول أبدل وفتح التنوين من رئيا بإلقاء حركة همزة أبدل عليه، ومدغما باسطا حالان من فاعل أبدل، وملا مفعول باسطا، وسبق تفسير ملا، والتخفيف والتشديد في: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} لغتان، وقد سبق ذكر ذلك في مواضع، والمقام بالضم الإقامة وموضعها وبالفتح القيام أو موضعه، والخلاف في هذه السورة في قوله تعالى: {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} ، وسيأتي الخلاف في الذي بالأحزاب والدخان، ولا خلاف في ضم الذي في آخر الفرقان، أما رئيا في قوله: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} ، فأبدل قالون وابن ذكوان همزه ياء؛ لسكونه وكسر ما قبله كما يفعل حمزة في الوقف، فالتقى ياءان
(1/584)
________________________________________
فأدغم الأولى في الثانية وهو أحد الوجهين لحمزة وقد سبق توجيههما في باب وقف حمزة، وضعف مكي وجه الإدغام نظرا إلى أن أصل الباء الهمزة، وكما أن حمزة لا يدغم "رئيا" إذا خفف همزها في الوقف، وواجب في غير ذلك إدغام الواو الساكنة قبل الياء، ويمكن الفرق بأن التقاء المثلين أثقل من التقاء واو وياء على أنه قد قيل في قراءة من لم يهمز وأدغم: إنها من الري، وهو يستعار لمن ظهر عليه أثر النعمة فلا يكون في الكلمة إبدال، ولذلك امتنع السوسي من إبدال همزها، وقد تقدم والله أعلم.
867-
وَوُلْدَا بِها وَالزُّخْرُفِ اضْمُمْ وَسَكِّنَنْ ... "شِـ"ـفاءً وَفِي نُوحٍ "شَـ"ـفا حَقُّهُ وَلا
هنا أربعة مواضع: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} ، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} ، {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} ، {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} ، وفي الزخرف: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} 1.
أي: ضم الواو وسكن اللام لحمزة والكسائي، والباقون بفتحهما وهما لغتان نحو: العرب والعرب والعجم والعجم، وقيل: ولدا بالضم جمع ولد بالفتح كأسد وأسد، ووافق ابن كثير وأبو عمرو لحمزة والكسائي على ضم الذي في نوح وهو: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} 2.
وقوله: وسكنا أدخل نون التأكيد الخفيفة في فعل الأمر، ويجوز كتابتها بالألف اعتبارا بحالة الوقف عليها؛ فإنها بالألف، وشفا حال؛ أي: ذا شفاء، وولا في آخر البيت بالفتح وهو تمييز أو حال؛ أي: ذا ولاء، أو هو مفعول شفا، كما تقول: شفى الله فلانا؛ أي: شفى الحق ولاء، وذكر الشيخ أن ولا ههنا بالفتح والكسر.
قلت: الكسر بعيد؛ فإنه سيأتي بعد بيت واحد "حلا صفوه"، ولا بالكسر فلا حاجة إلى تكرار القافية على قرب من غير ضرورة.
868-
وَفِيها وَفِي الشُّورى يَكَادُ "أَ"تَى "رِ"ضا ... وَطَا يَتَفَطَّرْنَ اكْسِرُوا غَيْرَ أَثْقَلا
التذكير والتأنيث في: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} في السورتين أمرهما ظاهر سبقت أمثاله، ورضا حال؛ أي: أتى التذكير ذا رضى؛ أي: مرضيا،؛ لأن تأنيث السموات غير حقيقي وطا يتفطرن مفعول اكسروا، وقصره ضرورة، وقوله: غير أثقلا حال من الطاء؛ أي: غير مشدد أثقل بمعنى ثقيلا، ثم ذكر تمام تقييد القراءة فقال:
__________
1 آية: 81.
2 سورة نوح، آية: 21.
(1/585)
________________________________________
869-
وَفي التَّاءِ نُون سَاكِنٌ "حَـ"ـجَّ "فِـ"ـي صَفـ"ـا" ... "كَـ"ـمَالٍ وَفِي الشُّورى "حَـ"ـلا "صَـ"ـفْوُهُ وَلا
أي: وفي موضع التاء نون ساكن، فيصير ينفطرن مضارع انفطر، والقراءة الأخرى مضارع تفطر وانفطر وتفطر مطاوعا فطرته فطّرته وكلاهما بمعنى شققته، وفي التشديد معنى التكرير والتكثير والمبالغة، وأكثر ما جاء في القرآن مخففا نحو: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} 1، {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} 2، {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 3، ولكن هنا المقصود تعظيم أمر قولهم وتهويله، فناسب التشديد، والأكثر على التشديد في الشورى، لم يخفف غير أبي بكر وأبي عمرو، وولا في آخر البيت بالكسر ومعناه المتابعة وهو تمييز أو حال كما سبق في قوله: شفا حقه ولا، لكن لا يستقيم هنا أن يكون مفعولا به؛ لأن حلا فعل لازم بخلاف شفا في ذلك البيت، وصفا في قوله: صفا كمال ممدود وقصره الناظم ضرورة والله أعلم.
870-
وَرَاءِيَ وَاجْعَلْ لِي وَإِنِّي كِلاهُما ... وَرَبِّي وَآتَانِي مُضَافَاتُهَا الوُلا
فيها ست ياءات إضافة:
"مِنْ وَرَائيَ وَكَانَتِ"
فتحها ابن كثير وحده.
"اجْعَلْ لِيَ آيَةً" فتحها نافع وأبو عمرو.
"إِنِّيَ أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ"، "إِنِّيَ أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ"
فتحهما الحرميان وأبو عمر.
"سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيَ إِنَّهُ" فتحها نافع، وأبو عمرو.
"آتَانِيَ الْكِتَابَ" سكنها حمزة وحده.
وقوله: مضافاتها خبر قوله: "وراءي" وما بعده، والولاء جمع الولياء والولياء تأنيث الأولى؛ أي: الولا بالضبط والحفظ، ومعرفة الخلف فيها والله أعلم.
__________
1 سورة الانفطار، آية: 1.
2 سورة المزمل، آية: 18.
3 سورة الشورى، آية: 11.
(1/586)
________________________________________
سورة طه:
871-
لِحَمْزَةَ فَاضْمُمْ كَسْرَها أَهْلِهِ امْكُثُوا ... مَعًا وَافْتَحُوا إِنِّي أَنَا "دَ"ائِمًا "حُـ"ـلا
قصر لفظ "ها" ضرورة، وقوله: معا؛ أي: هنا وفي القصص، وقد تقدم أن الضم هو الأصل في هاء الكناية، وإنما الكسر لأجل كسر ما قبلها، أما فتح: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} .
فعلى تقدير: "نودي موسى" بكذا والكسر هنا أولى: وعليه الأكثر لقوله: يا موسى فصرح بلفظ النداء فكان الكسر بعده واضحا نحو: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ} 1، {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} 2، وليس مثل الذي في آل عمران: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} ، {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} ، فليس ثَم لفظ النداء، فأمكن تقدير فنادته بكذا، قال أبو علي: من كسر فلان الكلام حكاية كأنه نودي فقيل: "يا موسى إني أنا ربك"، فالكسر أشبه بما بعده مما هو حكاية، وذلك قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} ، وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} ، فهذه كلها حكاية فالأشبه أن يكون قوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} كذلك أيضا، وقول الناظم: دائما حال من مفعول افتحوا، وحلا تمييز؛ أي: دائما حلاه أو حال من فاعل دائما؛ أي: دائما ذا حلا، ويجوز أن يكون دائما نعت مصدر؛ أي: فتحا دائما والله أعلم.
__________
1 سورة مريم، آية: 7.
2 سورة آل عمران، آية: 42.
(1/587)
________________________________________
872-
وَنُوِّنْ بِها وَالنَّازِعَاتِ طُوًى "ذَ"كَا ... وَفِي اخْتَرْتُكَ اخْتَرْناكَ "فَـ"ـازَ وَثَقَّلا
طوى مفعول نون، ووجه تنوينه ظاهر؛ لأنه اسم وادٍ وهو مذكر مصروف، ومن لم ينونه لم يصرفه جعله اسما لبقعة أو لأرض أو هو معدول عن طاو تقديرا كعمر عن عامر. واختار أبو عبيد صرفه وقال: عجبت ممن أجرى سبا وترك إجراء طوى وذلك أثقل من هذا، وقرأ حمزة وحده: "وأنا اخترناك" بضمير الجمع في الكلمتين للتعظيم، والباقون: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} بضمير المتكلم المفرد، ومفعول قوله: وثقلا أول البيت الآتي؛ أي: شدد لفظ: "وأنا".
873-
وَأَنَا وَشَامٍ قَطْعُ أَشْدُدْ وَضُمَّ فِي ابْـ ... ـتِدَا غَيْرِهِ واضْمُمْ وَأَشْرِكْهُ "كَـ"ـلْكَلا
أي: وقراءة ابن عامر قطع همزة: "أشدد به أزري" قرأه بهمزة مفتوحة جعله فعلا مضارعا مجزوما على جواب الدعاء في قوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} .
أي: أَشدُدُ أنا، ولزم فتح الهمزة؛ لأنها همزة متكلم من فعل ثلاثي كقولك: أضرب أنا وأخرج وأذهب، وقراءة الباقين على الدعاء، وهمزته همزة وصل مضمومة إذا ابتدئ بالكلمة ضمت وإذا وصلت الكلمة بما قبلها سقطت؛ لأنه أمر من فعل ثلاثي كما تقول: يا زيد اخرج وادخل، فهذا معنى قوله: وضم في ابتداء غيره؛ أي: ضم الهمزة وابن عامر يفتحها وصلا ووقفا؛ لأنها همزة قطع، أما: "وأشركه في أمري" فالقراءة فيه كما مضى من حيث المعنى بالعطف عليه فالهمزة في قراءة ابن عامر للمتكلم إلا أن فعلها رباعي فلزم ضم الهمزة كما لزم وأحسن؛ أي: أَشدُد أنا به أزري وأُشرِكه أنا أيضا في أمري، وقراءة الجماعة على أنه دعاء معطوف على "اشدد" طلب من الله سبحانه أن يشد به أزره وأن يشركه في أمره، ولفظ الأمر من الرباعي بفتح الهمزة وقطعها نحو: أكرم زيدا وأحسن إليه، قال أبو علي: الوجه الدعاء دون الإخبار؛ لأن لك معطوف على ما تقدمه من قوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} ، فكما أن ذلك كله دعاء فكذلك ما عطف عليه، فأما الإشراك فيبعد فيه الحمل على غير الدعاء؛ لأن الإشراك في النبوة لا يكون إلا من الله تعالى اللهم إلا أن يجعل أمره شأنه الذي هو غير النبوة، وإنما ينبغي أن تكون النبوة؛ لقوله: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} 1.
وقوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ}
__________
1 سورة القصص، آية: 34.
(1/588)
________________________________________
كالجواب بعد هذه الأشياء التي سألها فأما أشدد به أزري فحمله على الإخبار أسهل، وقول الناظم كلكلا بدل من قوله: وأشركه بدل البعض من الكل والكلكل الصدر؛ أي: اضمم صدره وهو الهمزة.
874-
معَ الزُّخْرُفِ اقْصُرْ بَعْدَ فَتْحٍ وَسَاكِنٍ ... مِهَادًا "ثَـ"ـوى واضْمُمْ سِوىً "فِـ"ـي "نَـ"ـدٍ "كَـ"ـلا
أي: اقصر مهادا بعد فتح ميمه وإسكان هائه، فيصير مهدا هنا وفي سورة الزخرف:
"الذي جعل لكم الأرض مهادا"1. ولا خلاف في التي في عم يتساءلون: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} 2؛ لتشاكل الفواصل. والمهد والمهاد: الشيء الممهد سموا المفعول بالمصدر كقوله في الدرهم: ضرب الأمير؛ أي: مضروبه، ومنه تسمية المكتوب كتابا، وفَعْل وفِعَال كلاهما مصدر ومنه مهد الصبي والفراش والبساط، قال أبو علي: المهد مصدر كالفرش والمهاد كالفراش في قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} 3، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} 4، وهما اسم ما يفرش ويبسط قال: ويجوز أن يكون المهد استعمل استعمال الأسماء: فجمع كما يجمع فعل على فعال، ويجوز أن يكون المعنى ذا مهد فيكون في المعنى كقول من قال مبادا، ثم قال الناظم: واضمم سوى؛ يعني: "مكانا سوى"؛ أي: عدلا لا يكون أحد الفريقين فيه أرجح حالا من الآخر، قال أبو عبيد: يضم أوله ويكسر مثل طُوى وطِوى، قال أبو علي: سوى فعل من التسوية فكأن المعنى مكانا تستوي مسافته على الفريقين، وهذا بناء يقل في الصفات ومثله قوم عِدى، فأما فعل فهو في الصفات أكثر، وقوله: في ند كلا؛ أي: في قراءة جواد حفظه وحرسه من الطعن أو في مكان ند ذي كلاء؛ أي: كائنا في خصب يشير إلى ما قاله أبو علي: إن الضم أكثر في مثل هذا الوزن في الصفات من الكسر، واختار أبو عبيد قراءة الكسر قال: لأنها أفشى اللغتين، ثم بين قراءة الباقين؛ لأن الكسر ليس ضدا للضم، فقال:
875-
وَيَكْسِرُ بَاقِيهِمْ وَفِيهِ وَفِي سُدىً ... مُمَالُ وُقُوفٍ فِي الأَصُولِ تَأَصَّلا
ممال بمعنى إمالة، في هذين اللفظين: "سوى وسدى" إمالة في الوقف؛ لزوال التنوين المانع من إمالتهما وصلا، ثم قال: في الأصول تأصل؛ أي: تأصل ذلك وتبين في باب الإمالة من أبواب الأصول المقدمة قبل السور في قوله: "سوى وسدى" في الوقف عنهم؛ أي: عن صحبة أمالوهما إمالة محضة، وأبو عمرو وورش يقرآنهما بين اللفظين
__________
1 آية: 10.
2 آية: 6.
3 سورة البقرة، آية: 22.
4 سورة نوح، آية: 19.
(1/589)
________________________________________
كغيرهما من رءوس الآي، وإنما ذكر ذلك هنا تجديدا للعهد بما تقدم وزيادة بيان، وتأكيدا لذلك؛ لئلا يظن أن ضم السين مانع من الإمالة لحمزة وأبي بكر فقال أمر الإمالة على ما سبق سواء في ذلك من كسر السين وهو الكسائي ومن ضمها وهو حمزة وأبو بكر والله أعلم.
876-
فَيُسْحِتَكمْ ضَمٌّ وَكَسْرٌ "صِحَابُـ"ـهُمْ ... وَتَخْفِيفُ قَالوا إِنَّ "عَـ"ـالِمُهُ "دَ"لا
أي: ذو ضم في الياء وكسر في الحاء وصحابهم فاعل المصدر كأنه قال ضمه وكسره صحابهم: فقراءتهم من أسحت وفتح غيرهم الياء والحاء فقراءتهم من سحت وهما لغتان يقال سحته وأسحته إذا استأصله وخفف حفص وابن كثير إن من قوله سبحانه: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ، وهذه قراءة واضحة جيدة غير محوجة إلى تكلف في تأويل رفع هذان بعدها؛ لأن إن إذا خففت جاز أن لا تعمل النصب في الاسم نحو: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ} 1، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا} 2، ويرتفع ما بعدها على الابتداء والخبر، واللام في الخبر هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة وبين النافية؛ هذه عبارة البصريين في كل ما جاء من هذا القبيل نحو: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 3، {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 4. والكوفيون يقولون: إن نافية واللام بمعنى إلا؛ أي: ما هذان إلا ساحران، وكذلك البواقي فعالم هذه القراءة دلا؛ أي: أخرج دلوه ملأى، فاستراح خاطره لحصول غرضه وتمام أمره، قال الزجاج: روي عن الخليل: "إن هذان لساحران" بالتخفيف، قال: والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بالتخفيف قال: والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل.
877-
وَهذَيْنِ فِي هذَانِ "حَـ"ـجَّ وَثِقْلُهُ ... "دَ"نا فَاجْمَعُوا صِلْ وَافْتَحِ الْميمَ "حُـ"ـوَّلا
أي: وقرأ أبو عمرو "إن هذين" بنصب "هذين"؛ لأنه اسم "إن" فهذه قراءة جلية أيضا فلهذا قال: حج؛ أي: غلب في حجته لذلك ثم قال: وثقله دنا أي: أن ابن كثير شدد النون من هذان، وهذا قد تقدم ذكره في النساء، وإنما أعاد ذكره؛ تجديدا للعهد به وتذكيرا بما لعله نسي كما قلنا في "سوى وسدى"، أما قراءة
__________
1 سورة يس، آية: 32.
2 سورة الطارق، آية: 4.
3 سورة الأعراف، آية: 66.
4 سورة يوسف، آية: 3.
(1/590)
________________________________________
غير أبي عمرو وابن كثير وحفص فبتشديد إن وهذان بألف، قال أبو عبيد: ورأيتها أنا في الذي يقال إنه الإمام مصحف عثمان بن عفان بهذا الخط "هذان" ليس فيها ألف، وهكذا رأيت رفع الاثنين في جميع ذلك المصحف بإسقاط الألف، فإذا كتبوا النصب والخفض كتبوهما بالياء ولا يسقطونها.
قلت: فلهذا قرئت بالألف؛ إتباعا للرسم، واختارها أبو عبيد وقال: لا يجوز لأحد مفارقة الكتاب وما اجتمعت عليه الأمة، وقال الزجاج: أما قراءة أبي عمرو فلا أجيزها؛ لأنها خلاف المصحف، وكلما وجدت إلى موافقة المصحف سبيلا لم أجز مخالفته؛ لأن اتباعه سنة وما عليه أكثر القراء، ولكني أستحسن إن هذان بتخفيف إن وفيه إمامان: عاصم والخليل، وموافقة أُبَيٍّ في المعنى، وإن خالفه اللفظ، يروى عنه أنه قرأ: "ما هذان إلا ساحران"، وفي رواية: "إن ذان إلا ساحران" قال ويستحسن أيضا: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ؛ لأنه مذهب أكثر القراء وبه يقرأ، قال: وهذا حرف مشكل على أهل اللغة، وقد كثر اختلافهم في تفسيره.
قلتُ: مدار الأقوال المنقولة عنهم في ذلك على وجهين؛ أحدهما: أن يكون هذان اسما؛ لأن، والآخر: أن يكون مبتدأ فإن كان اسما لـ "أن" فلا يتوجه إلا على أنه لغة لبعض العرب يقولون هذان في الرفع والنصب والجر كما يلفظون لسائر الأسماء المقصورة، كعصى وموسى، وكذا ما معناه التثنية نحو كلا إذا أضيف إلى الظاهر اتفاقا من الفصحاء وإلى الضمير في بعض اللغات، قال الزجاج: حكى أبو عبيد عن أبي الخطاب -وهو رأس من رؤساء الرواة- أنها لغة كانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: آتاني الزيدانُ ورأيت الزيدانَ ومررت بالزيدانِ، ويقولون: ضربته من أذناه، ومن يشتري مني الحقان، قال: وكذلك روى أهل الكوفة أنها لغة بني الحارث بن كعب، وقال أبو عبيد: كان الكسائي يحكي هذه اللغة عن بني الحارث بن كعب وخيثم وزبيد وأهل تلك الناحية، وقال الفراء: أنشدني رجل من الأسد عن بعض بني الحارث:
فأطرق إطراق الشجاع ولو ترى ... مساغًا لناباه الشجاع لصمما
قال: وحكي عنه أيضا: هذا خط يدا أخي أعرفه. قال أبو جعفر النحاس: هذا الوجه من أحسن ما حملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة قد حكاها من يُرتضى علمه وصدقه وأمانته منهم: أبو زيد الأنصاري وهو الذي يقال إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيه، وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء أهل اللغة روى عنه سيبويه وغيره، وقال غيره هي لغة بني العنبر وبني الهجيم، ومراد وعذرة، وبعضهم يفر من الياء مطلقا في التثنية والأسماء الستة وعلى وإلى، قال الراجز:
أي قلوص راكب تراها ... طاروا على هن فَطِرْ علاها
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
قال هوبز الحارثي أنشده الكسائي:
تزود منا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التراب عقيم
(1/591)
________________________________________
معناه وإلى موضع هابئ التراب؛ أي: ترابه مثل الهباء يريد به القبر ثم وصفه بأنه عقيم؛ أي: لا مسكن له بعده وأنشد غيره:
كأن صريف ناباهُ إذا ما ... أمرَّهما ترنَّم أخطبان
وقال أبو حاتم: قال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا فيقول: جئت إلاك وسلمت علاك، قلت: فإذا ثبتت هذه اللغة فقد وجهها النحاة بوجوه منها: ما يشمل جميع مواضع التثنية، ومنها ما يختص باسم الإشارة قيل: شبهت ألف التثنية بألف يفعلان فلم تغير، وقيل؛ لأن الألف حرف الإعراب عند سيبويه، وحرف الإعراب لا يتغير وقيل: الألف في هذان هي ألف هذا، وألف التثنية حذفت؛ لالتقاء الساكنين، وقيل: جعلوا هذان لفظا موضوعا للتثنية مبنيا على هذه الصفة كما قالوا في المضمر: أنتما وهما؛ لأن أسماء الإشارة أسماء مبنيات كالمضمرات فلم تعرب تثنيتهما، وقيل: فروا من ثقل الياء إلى خفة الألف لما لم يكن هنا على حقيقة التثنية بدليل أنه لم يقل ذيان كما يقال: رحيان وحبليان، وقال الفراء: الألف من هذا دعامة وليست بلام فعل، فلما ثنيته زدت عليها نونا ثم تركت الألف ثابتة على حالها لا تزول في كل حال كما قالت العرب الذي ثم زادوا نونا تدل على الجمع فقالوا الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم كذا تركوا هذان في رفعه ونصبه وخفضه، قلت: وإنما اكتفوا بالنون في هذين الضربين؛ لأنها لا تحذف لإضافة، ولما كانت النون تحذف من غيرهما للإضافة احتاجوا إلى ألف تبقى دلالة على التثنية، قال: وكنانة تقول ألذون، وقال النحاس: سألت أبا الحسن بن كيسان عنها فقال: سألني عنها إسماعيل بن إسحاق فقلت: لما كان يقال هذا في موضع النصب والخفض والرفع على حال واحد وكانت التثنية يجب أن لا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد. قلت: هذه سبع أوجه صالحة لتعليل لغة من لا يقلب ألف هذا وهي مفرقة في كتب جماعة من المصنفين يوردونها على أنها وجوه في الاحتجاج لهذه القراءة وليست الحجة إلا في كونها لغة لبعض العرب؛ إذ لو لم يثبت كونها لغة لما ساغ لأحد برأيه أن يفعل ذلك لأجل هذه المعاني أو بعضها، فترى بعضهم يقول في تعليل هذه القراءة خمسة أقوال وبعضهم يقول ستة وبعضهم بلغ بها تسعة وليس لها عندي إلا ثلاثة أقوال ذكرنا منها قولا واحدا وهو أنها على لغة هؤلاء القوم ووجهنا هذه اللغة بوجوه سبعة وهذان فيها كلها اسم؛ لأن القول الثاني أن تكون أن بمعنى نعم، وقد ثبت ذلك في اللغة كأنهم لما: {تَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أفضى بعضهم إلى بعض ذلك فقال المخاطبون: نعم، هو كما تقولون أو قال لهم فرعون وملؤه: {هَذَانِ لَسَاحِرَان} .
فانظروا كيف تصنعون في إبطال ما جاءا به فقالوا: نعم ثم استأنفوا جملة ابتدائية فقالوا:
"هذان إن لساحران" وهذا القول محكي عن جماعة من النحاة المتقدمين، قال النحاس: وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل
(1/592)
________________________________________
ابن إسحاق يذهبان، قال: ورأيت أبا إسحاق وأبا الحسن علي بن سليمان يذهبان إليه. قلت: وهذا القول يضعفه دخول اللام في خبر المبتدأ فأنشدوا على ذلك أبياتا وقع فيها مثل ذلك، واستنبط الزجاج لها تقديرا آخر وهو: "لهما ساحران" فتكون داخلة على مبتدأ ثم حذف للعلم به، واتصلت اللام بالخبر دلالة على ذلك قال: وكنت عرضته على عالمنا محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن يزيد؛ يعني: القاضي فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا، وقال أبو علي: هذا تأويل غير مرتضًى عندي؛ إذ يقبح أن يذكر التأكيد ويحذف تفسير المؤكد، أو شيء من المؤكد. القول الثالث: قال الزجاج: النحويون القدماء، الهاء ههنا مضمرة، المعنى: "إنه هذان لساحران"؛ يعني "إنه" ضمير الشأن والجملة بعده مبتدأ وخبر وفيه بعد من جهة اللام كما سبق ومن جهة أخرى، وهي حذف ضمير الشأن فذلك ما يجيء إلا في الشعر، ومنهم من قال ضمير الشأن والقصة موجود وهو أنها ذان فيكون اسم الإشارة خاليا من حرف التنبيه ولكن هذا يضعفه مخالفة خط المصحف، فبان لمجموع ذلك ضعف هذه القراءة؛ فإنها إن حملت على تلك اللغة فهي لغة مهجورة غير فصيحة، ولأن لغة القرآن خلافها بدليل قوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} ، وجميع ما فيه من ألفاظ التثنية؛ فإنها إنما جاءت على اللغة الفصيحة التي في الرفع بالألف وبالياء في النصب والجر، وإن حملت على "أن"، "إن": بمعنى نعم فهي أيضا لغة قليلة الاستعمال ويلزم منه شذوذ إدخال لام التوكيد في الخبر كما سبق، وإن حملت على حذف ضمير الشأن فهو أيضا ضعيف ويضعفه أيضا اللام في الخبر وقراءة هذين بالياء ووجهها ظاهر من جهة اللغة الفصيحة لكنها على مخالفة ظاهر الرسم، فليس الأقوى من جهة الرسم واللغة معا إلا القراءة بتخفيف إن ورفع هذان، والله المستعان، وقول الناظم: فأجمعوا صل؛ أي: ائت بهمزة الوصل في قوله تعالى: "فاجمعوا كيدهم" وافتح الميم فهو موافق لقوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} المتفق عليه، وقراءة الباقين بهمزة قطع وكسر الميم من أجمع أمره إذا أحكم وعزم عليه وكلاهما متقارب، والذي في يونس بالقطع: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ، وحولا حال وهو العارف بنحو الأمور والله أعلم.
878-
وَقُلْ سَاحِرٍ سِحْرٍ "شَـ"ـفَا وَتَلَقَّفُ ارْ ... فَعِ الْجَزْمَ مَعْ أُنْثى يُخَيَّلُ "مُـ"ـقْبِلا
(1/593)
________________________________________
يريد: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} ؛ أي: الذي صنعوه كيد من صانعة السحر، وقرأ حمزة والكسائي "كيد سحر" على تقدير "كيد من سحر"، أو "كيد لسحر" نحو باب ساج وضرب زيد، والتقدير: "كيد ذي سحر" أو عبر عن الساحر بالسحر مبالغة، فيتحد معنى القراءتين: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} .
الرفع على الاستئناف أو في موضع الحال المقدرة من فاعل ألقى أو مفعوله، فالتاء للخطاب على الأول، وللتأنيث على الثاني، وإنما أنث والمفعول هو ما بمعنى الذي اعتبارا بالمدلول وهو العصا، وجزم تلقف على جواب الأمر وهي قراءة الجماعة، ولم يرفع غير ابن ذكوان وحده وهو الذي قرأ تخيل إليه بالتأنيث، فقول الناظم: "مقبلا" رمز للحرفين تلقف وتخيل، ومقبلا حال من فاعل ارفع، وأقام قوله: أنثى مقام تأنيثًا إقامة للاسم مقام المصدر، وهو استعمال بعيد في مثل هذا أو أراد مع كلمة أنثى؛ أي: مؤنثة، ثم بينها بقوله: تخيل؛ أي: هي تخيل، وجعلها أنثى لما كان التأنيث فيها، ووجه التأنيث أن يكون الضمير في "تخيل" للحبال والعصى، ويكون قوله: {أَنَّهَا تَسْعَى} بدل اشتمال منه وعلى قراءة التذكير يكون قوله: {أَنَّهَا تَسْعَى} ، وهو مرفوع تخيل؛ أي: تخيل إليه سعيها:
879-
وَأَنْجَيْتُكُمْ وَاعَدْتُكُمْ مَا رَزَقْتُكُمْ ... "شَـ"ـفَا لا تَخَفْ بِالْقَصْرِ وَالْجَزْمِ "فُـ"ـصِّلا
يريد: {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ} ، {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} ، {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الكل بنون العظمة في قراءة الجماعة، وقرأ الثلاثة؛ حمزة والكسائي بتاء المتكلم على ما لفظ به الناظم، ولم يبين القراءة الأخرى لظهور أمرها، وأجمعوا على النون في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ، وهو متوسط بين هذه الكلم وبه احتج أبو عمرو في اختيار قراءته، ووافقه أبو عبيد على صحة الاحتجاج، ووجه قراءة التاء قوله بعد ذلك: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} ، ولم يقل غضبنا، وكل ذلك من باب الالتفات وتلوين الخطاب، وهو باب من أبواب الفصاحة معروف في علم البيان، وقرأ حمزة وحه: {لا تَخَافُ دَرَكًا} بالجزم على جواب الأمر، وهو قوله:
(1/594)
________________________________________
{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا} 1.
أي: إن تضرب لا تخف، ويجوز أن يكون استئناف نهيٍ، ولما سكنت الفاء للجزم سقطت الألف من "تخاف"؛ لالتقاء الساكنين فعبر الناظم بالقصر عن حذف الألف وبالجزم عن سكون الفاء، وقرأ غير حمزة لا تخاف بإثبات الألف ورفع الفاء وهو في موضع الحال؛ أي: اضرب غير خائف ولا خاشٍ أو يكون مستأنفًا؛ أي: لست تخاف ولا تخشى، وعلى قراءة الجزم يكون "ولا تخشى" بعده منقطعا أو مشيع الفتحة لأجل الفاصلة والله أعلم.
880-
وَحا فَيَحِلَّ الضَّمُّ فِي كَسْرِهِ "رِ"ضًا ... وَفِي لامِ يَحْلِلْ عَنْهُ وَافَى مُحَلَّلا
يريد: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ} 2 قرأهما الكسائي بضم الحاء من حل يحل إذا نزل وغيره بالكسر من حل يحل إذا وجب من حل الدين يحل، وقد أجمعوا على كسر: {أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} 3، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} 4.
وعلى ضم: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} 5.
وأشار بقوله: "وافى محللا" إلى جوازه وفاعل وافى ضمير عائد على الضم في كسره؛ أي: وافى ذلك في لام يحلل أيضا.
881-
وَفي مُلكِنا ضَمٌّ "شَـ"ـفَا وَافْتَحُوا "أُ"ولِي ... "نُـ"ـهَى وَحَمَلْنا ضُمَّ وَاكْسِرْ مُثَقِّلا
يريد: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} ضم الميم حمزة والكسائي وفتحها نافع وعاصم وكسرها الباقون فالملك بالضم السلطان وبالفتح مصدر ملك وبالكسر ما حازته اليد،؛ أي: بسلطاننا أو بأن ملكنا أمرنا أو باختيارنا، واختار أبو عبيد قراءة الكسر واستبعد الضمة وقال:؛ أي: ملك كان لبني إسرائيل يومئذ وقوله: "أولي نهى"؛ أي: أصحاب عقول وهو حال من فاعل افتحوا أو منادى على حذف حرف النداء، وحملنا وحملنا بضم الحاء وكسر الميم وتشديدها ظاهران والله أعلم:
882-
"كَـ"ـمَا "عِـ"ـنْدَ "حِرْمِيٍّ" وَخَاطَبَ تَبصِرُوا ... "شَـ"ـذَّا وَبِكَسْرِ اللامِ تُخْلِفَهُ "حَـ"ـلا
__________
1 سورة طه، آية: 77.
2 سورة طه، آية: 81.
3 سورة الزمر، آية: 40.
4 سورة الرعد، آية: 31.
(1/595)
________________________________________
هؤلاء هم الذين قرءوا حملنا بالضم والتشديد:؛ أي: افعل كما في مذهب هؤلاء في هذا الحرف، والغيبة في يبصروا به لبني إسرائيل والخطاب لأجل قوله: فما خطبك وتبصروا فاعل خاطب لما كان الخطاب فيه وشذا حال،؛ أي: ذا شذا، ثم قال وتخلفه حلا بكسر اللام؛ أي: لا يقدر على إخلافه وبفتح اللام؛ أي: لا يخلفك الله إياه ثم قال:
883-
دُرَاكِ وَمَعْ يَاءِ بِنَنْفُخُ ضَمُّهُ ... وَفي ضَمِّهِ افْتَحْ عَنْ سِوى وَلَدِ الْعُلاِ
دراك؛ أي: أدرك، ومراده لحق بمن سبق وهو رمز لابن كثير على كسر لام لن تخلفه ثم ذكر: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} ، قرأه أبو عمرو بالنون على إسناد الفعل إلى الله تعالى بنون العظمة؛ أي: نأمر بالنفخ فيه فهو موافق لقوله: بعده وعشر وقرأ الباقون بياء مضمومة، وفتح الفاء على أنه فعل ما لم يسم فاعله، والهاء في ضمه الأولى للياء وهو مبتدأ وما قبله خبره كما تقول: مع زيد بالدار غلامه، والهاء في ضمه الثانية للفظ بنفخ يريد ضم الفاء والله أعلم.
884-
وَبِالْقَصْرِ لِلْمَكِّي وَاجْزِمْ فَلا يَخَفْ ... وَأَنَّكَ لا فِي كَسْرِهِ "صَـ"ـفْوَةُ "ا"لْعُلا
يريد: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} الجزم على نهي الغائب والرفع على الإخبار ولا خلاف في الذي في سورة الجن: {فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} 1 أنه مرفوع: "وإنك لا تظمؤ" بالكسر عطف على: "إن لك أن لا تجوع"، وإن لك أن لا تظمأ ... وبالفتح عطف على أن لا تجوع، ولا يلزم من ذلك إدخال إن المكسورة على المفتوحة؛ لأن هذا هنا تقدير، ولأن لك قد فصل بينهما والله أعلم.
885-
وَبِالضَّمِّ تُرْضَى "صِـ"ـفْ "رِ"ضًا يَأْتِهِمْ مُؤَ ... نَّثٌ "عَـ"ـنْ "أُ"ولِي "حِـ"ـفْظٍ لَعَلِّي أَخِي حُلا
ييد "لعلك" بضم التاء وفتحها ظاهر وكذا: "أولم يأتهم بينة" بالتاء والياء؛ لأن تأنيث بينة غير حقيقي،؛ أي: صف ترضى بالضم إذا رضي ويأتهم مؤنث عن أصحاب حفظ؛ أي: منقول عن العلماء الحفاظ، ثم ذكر ياءات الإضافة وهي ثلاث عشرة في هذه السورة لعلي آتيكم فتحها الحرميان وأبو عمرو وابن عامر: "أخيَ، اشدد" فتحها ابن كثير وأبو عمرو، وقوله: حلا؛ أي: ذو حلا أو يكون أخبر بلفظ الجمع عن الاثنين؛ لأنهما أقل الجمع على الرأي المختار.
__________
1 آية: 13.
(1/596)
________________________________________
886-
وذكري مَعًا إِنِّي مَعًا لِي مَعًا حَشَرْ ... تَنِي عَيْنِ نَفْسِي إِنَّنِي رَاسِيَ انْجَلا
يعني: "وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِيَ، إِنَّ السَّاعَةَ" فتحها نافع وأبو عمرو. "في ذكريَ اذهبا"، إنيَ آنست نار"، "إنيَ أنا ربك"، "ليَ أمري"، "لنفسيَ اذهب"، "إننيَ أنا الله" فتح الستة هذه الحرميان وأبو عمرو. {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ} فتحها ورش وحفص، "حَشَرْتَنِيَ أَعْمَى" فتحها الحرميان. "على عينيَ، إذ تمشي"، "ولا برأسي إنيَ خشيت" فتحهما نافع وأبو عمرو، وحذف الياء من عيني ضرورة، وفيها زائدة واحدة: "أن لا تتبعني أفعصيت" أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو وفي الحالين ابن كثير. وقلت في ذلك:
فتلك ثلاث بعد عشر وزائد ... بتتبعني الآت من بعد لفظ لا
أي: الذي أتى من بعد لفظ لا
(1/597)
________________________________________
سورة الأنبياء:
887-
وَقُلْ قال "عَـ"ـنْ "شُـ"ـهْدٍ وَآخِرُهَا "عَـ"ـلا ... وَقُلْ أَوَلَمْ لا وَاوَ "د"ارِيهِ وَصَّلا
أي: مقروء قال: يريد: "قل ربي يعلم القول" قرأه حمزة والكسائي وحفص على رسمها في مصاحف الكوفة دون غيرهم وفي آخر السورة: "قل رب احكم بالحق"، قرأه حفص وحده قال؛ أي: قال الرسول وقل أمر له بذلك، ولما أمر به قاله، والواو في أولم ير الذين كفروا لم تكتب في مصاحف أهل مكة فلم تثبت في قراءة ابن كثير وفائدتها العطف، ومعنى داريه وصلا؛ أي: عالمه وصله؛ أي: نقله وعلمه والله أعلم.
888-
وَتُسْمِعُ فَتْحُ الضَّمِّ وَالكَسْرِ غَيْبَةً ... سِوَى اليَحْصَبِي وَالصُّمَّ بِالرَّفْعِ وُكِّلا
يريد: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} قراءة ابن عامر على الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلزم أن تكون التاء مضمومة والميم مكسورة؛ لأنه مضارع اسمع، ونصب لفظ الصم؛ لأنه مفعول به وغيره جعل الصم فاعلا فرفعه وأسند نفي السماع إليه، فلزم فتح ضم الياء وكسر الميم؛ لأنه مضارع سمع، ولزم أن يكون أوله ياء على الغيبة فقوله: غيبة؛ أي: ذا غيبة.
889-
وَقَالَ بِهِ فِي النَّمْلِ وَالرُّومِ "دَ"ارِمٌ ... وَمِثْقَالُ مَعْ لُقْمَانَ بِالرَّفْعِ "أَ"كْمِلا
به؛ أي: بما ذكرناه دارم؛ أي: شيخ معمر، وقد سبق معناه في سورة النساء؛ يعني: أن ابن كثير وحده قرأ في مثل هذا في النمل والروم بما قرأ به الجماعة هنا ووافق الباقون لابن عامر على ما قرأ به وحده هنا، أما: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} وفي لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} 1، فرفعه نافع وحده في الموضعين على أن "كان" تامة كما قرأ هو وابن كثير في سورة النساء: "وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا"2، وكما أجمعوا على: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} ، والنصب على أنه خبر كان، والتقدير: وإن كان الشيء مثقال حبة وفي لقمان: تك المظلمة مثقال، وعلى قراءة نافع يكون تأنيث الفعل على المعنى؛ لأن المثقال سيئة أو حسنة كما قال: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 3. بقوله: بالرفع أكملا إلى أن الجملة على قراءة الرفع لا تحتاج إلى تقدير اسم لكان والله أعلم.
__________
1 آية: 16.
2 آية: 40.
3 سورة الأنعام، آية: 160.
(1/598)
________________________________________
890-
جُذَاذًا بِكَسْرِ الضَّمِّ "رَ"اوٍ وَنُونُهْ ... لِيُحْصِنَكُمْ "صَـ"ـافي وَأُنِّثَ "عَـ"ـنْ "كِـ"ـلا
أي: قرأه راوٍ فالمكسور جمع جذيذ بمعنى مجذوذ كخفاف وكرام في جمع خفيف وكريم والمضموم جمع جذاذة كزجاجة وزجاج، وقيل: الضم واحد في معنى الجمع كالرفاة والفتاة، وهذا بناء ما كسر وفرقت أجزاؤه وقيل: هما لغتان، قال أبو علي: جذاذ الشيء إذا قطعته ومثل الجذاذ الحطام والرفات والضم في هذا النحو أكثر والكسر فيما زعموا لغة وهي قراءة الأعمش، وقرأ أبو بكر وحده: "لنحصنكم من بأسكم" بالنون لقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} ، فهي نون العظمة، وقرأه حفص وابن عامر بالتاء تأنيثا للفعل على الحمل على المعنى؛ أي: ليحصنكم اللبوس؛ لأن المراد بها الدروع، أو التقدير: لتحصنكم الصنعة، وقرأ الباقون بالياء على التذكير؛ أي: ليحصنكم الله تعالى أو داود أبو اللبوس؛ لأنه بمعنى ملبوس أو التعليم الذي دل عليه "وعلمناه"؛ كل ذلك قد قيل، وهو صحيح، واختار أبو عبيد قراءة الياء، قال: لأن اللبوس أقرب إلى الفعل وهو ذكر فكان أولى به، وقول الناظم: ونونه على تقدير ولنحصنكم نونه صافي على التقديم والتأخير ومثله ما سبق في يونس وبنونه ونجعل صف؛ أي: ونجعل صف بنونه، ويجوز أن يكون لنحصنكم ونجعل كلاهما بدلا من الهاء كما تقول: ضربته زيدا، واضمر ذلك على شريطة التفسير تفخيما له وصافا فعل من المصافاة، وقراءة الجماعة بالياء يجوز أن نأخذها من كونها تذكيرا فهو ضد للتأنيث إن عادت على اللبوس، ويجوز أن نأخذها من الضد للنون إن عادت على الله سبحانه أو على داود -عليه السلام- أو على التعليم، وإنما لم يقل: وبالتاء عن كلا؛ لئلا يشتبه بلفظ الياء.
891-
وَسَكَّنَ بَيْنَ الكَسْرِ وَالقَصْرِ "صُحْبَةٌ" ... وَحِرْمٌ وَنُنْجِي احْذِفْ وَثَقِّلْ "كَـ"ـذِي "صِـ"ـلا
وحرم مفعول وسكن؛ أي: صحبة راء هذا اللفظ وقبله كسر الحاء وبعده حذف الألف، وهو المعبر عنه بالقصر وقراءة الباقين وحرام بفتح الحاء والراء وإثبات الألف "وحرم" وحرام لغتان كحل وحلال يريد قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ، أما: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} ، فكتبت في المصحف بنون واحدة، فقرأه ابن عامر وأبو بكر كذلك، فهذا معنى قوله: احذف؛ أي: احذف نونه الثانية كما قال في سورة يوسف: وثانٍ نُنَجِّ احذف وكلا الموضعين كتب بنون واحدة، وقوله: وثقل؛ يعني: شدد الجيم وباقي القراء بنونين وتخفيف الجيم من أنجى ينجي وقراءة ابن عامر وأبي بكر من نجى ينجي كما قال قبله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} ، واختار أبو عبيد هذه القراءة، وضعفها النحاة وعسر تخريج وجهها على معظم المصنفين، قال أبو عبيد: هذه القراءة أحب إلي؛ لأنا لا نعلم المصاحف في الأمصار كلها كتبت إلا بنون واحدة، ثم رأيتها في الذي يسمى للإمام مصحف عثمان بن عفان أيضا بنون واحد، وقال: إنما قرأها عاصم كذلك اتباعا للخط، وقد كان بعضهم يحمله من عاصم على اللحن.
قال ابن مجاهد: قرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر "نجى" بنون واحد مشدد الجيم على ما لم يسم فاعله قال: وروي عن أبي عمرو "نجى" مدغمة قال: وهذا وهم لا يجوز ههنا الإدغام؛ لأن النون الأولى متحركة والثانية
(1/599)
________________________________________
ساكنة والنون لا تدغم في الجيم وإنما خفيت النون؛ لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب، وهي في اللفظ ثابتة ومن قال إنها مدغمة فقد غلط، قال الزجاج: أما ما روي عن عاصم بنون واحدة فلحن لا وجه له؛ لأن ما لم يسم فاعله لا يكون بغير فاعل، قال: وقد قال بعضهم: المعنى نجى النجاء المؤمنين وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم لا يجوز ضرب زيدا يريد ضرب الضرب زيدا؛ لأنك إذا قلت ضرب زيد فقد علم أن الذي ضربه ضرب فلا فائدة في إضماره وإقامته مقام الفاعل وإنما قال الزجاج: ذلك لأن الفراء وأبا عبيد تحيلا في تخريج وجه هذه القراءة على هذا قال الفراء: القراء يقرءونها بنونين وكتابتها بنون واحدة؛ وذلك لأن النون الثانية ساكنة ولا تظهر الساكنة على اللسان فلما خفيت حذفت، وقد قرأها عاصم فيما أعلم بنون واحدة ونصب المؤمنين كأنه احتمل اللحن لا يعرف لها جهة إلا تلك؛ لأن ما لم يسم فاعله إذا خلا باسم رفعه إلا أن يكون أضمر المصدر في نجى، فنوي به الرفع ونصب المؤمنين فيكون كقوله: ضرب الضرب زيدا ثم يكنى عن الضرب فتقول ضرب زيدا وكذلك نجى النجاء المؤمنين، وقال أبو عبيد: الذي عند نافيه أنه ليس بلحن وله مخرجان في العربية؛ أحدهما: أن يريد ننجي مشددة؛ لقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} ثم تدغم الثانية في الجيم.
والمخرج الآخر أن يريد نجى فعل، فيكون معناه نجى النجاء المؤمنين فيكون نصب المؤمنين على هذا، ثم ترسل الياء فلا ينصبها.
قلت: الوجه للثاني قد أبطله الزجاج على ما سبق والأول فاسد؛ لأنه قدر الكلمة مشددة الجيم، ثم جوز أن تدغم النون الثانية في الجيم ولا يتصور الإدغام في حرف مشدد، ولم يكن له حاجة إلى تقدير الكلمة مشددة الجيم بل لو ادعى أن الأصل ما قرأ به الجماعة بتخفيف الجيم، ثم زعم الإدغام لكان أقرب على أنه أيضا ممتنع، قال النحاس: هذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد النون من الجيم فلا تدغم فيها فلا يجوز في: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} مجاء بالحسنة، وقال الزمخشري: النون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله فعل، وقال: نجى النجاء المؤمنين فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره فمتعسف بارد التعسف.
قلت: ومعنى قولهم أرسل الياء؛ أي: أسكنها وقال مكي: فيه بعد من وجهين؛ أحدهما: أن الأصل أن يقوم المفعول مقام الفاعل دون المصدر.
والثاني: أنه كان يجب فتح الياء من نجى؛ لأنه فعل ماضٍ قال: وقيل: إن هذه القراءة على طريق إخفاء النون في الجيم قلت: وهذا تأويل أبي علي في الحجة، قال مكي: وهذا أيضا بعيد،؛ لأن الرواية بتشديد الجيم والإخفاء لا يكون معه تشديد، قال: وقيل: أدغم النون في الجيم وهذا أيضا لا نظير له لا يدغم النون في الجيم في شيء من كلام العرب؛ لبعد ما بينهما وإنما تعلق من قرأ هذه القراءة بأن هذه اللفظة في المصاحف بنون واحدة، قال: فهذه القراءة إذا قرئت بتشديد الجيم وضم النون وإسكان الياء غير ممكنة في العربية قال أبو علي: فأما قول من قال إنه يسند الفعل إلى المصدر ويضمر؛ لأن الفعل دل عليه، فذلك مما لا يجوز في ضرورة الشعر والبيت الذي أنشده ابن قتيبة:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
لا يكون حجة في هذه القراءة وإنما وجهها ما ذكرنا؛ لأن الراوي حسب الإخفاء إدغاما.
قال الشيخ: واحتجوا لإسكان الياء بقراءة الحسن:
(1/600)
________________________________________
{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1.
ويقول النابغة: "ردت عليه أقاضيه وليده" قال: وقد قرأ أبو جعفر ليجزي قوما؛ أي: ليجزي الجزاء قوما، قلت: وكل هذا استدلال بقراءات ضعيفة شاذة وبضرورات شعر وكل ذلك مما يشهد بضعف هذه القراءة وعجبت ممن يذكرها ويترك غيرها مما هو شائع لغة نقلا وموافق خطا، نحو: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ذكر ابن مجاهد رواية عن أبي عمرو بياء مضمومة، ورواية عن ابن عامر بتاء مفتوحة مع كسر الجيم وأجود ما وقفت عليه في توجيه هذه القراءة ما نقله أبو جعفر النحاس قال لم أسمع في هذا بأحسن من شيء سمعته من علي ابن سليمان قال الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين لاجتماعهما نحو قوله تعالى: {لا تَفَرَّقُوا} الأصل تتفرقوا، قال: والدليل على صحة ما قال: أن عاصما يقرأ نجى بإسكان الياء، ولو كان على ما تأوله من ذكرنا لكان مفتوحًا، وقال أبو الفتح ابن جني في كتاب الخصائص في باب امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس: أجاز أبو الحسن ضرب الضرب الشديد زيدا وقتل يوم أخاك، قال: هو جائز في القياس وإن لم يرد به الاستعمال، ثم أنشد ابن جني: لسب بذلك الجرو الكلابا قال: هذا من أقبح الضرورة ومثله لا يعتد به أصلا بل لا يثبت إلا محتقرا شاذا، قال: أما قراءة من قرأ: "وكذلك نجى المؤمنين" فليس على إقامة المصدر مقام الفاعل؛ لأنه عندنا على حذف إحدى نوني ننجي كما حذف ما بعد حرف المضارعة في قوله تعالى: "تَذَكَّرُونَ"؛ أي: تتذكرون، ويشهد لذلك أيضا سكون لام نجى ولو كان ماضيا؛ لانفتحت اللام إلا في الضرورة، وقال في كتاب المحتسب: روى عن ابن كثير وأهل مكة: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا} ؛ يعني: في سورة الفرقان قال: وكذلك روى خارجة عن أبي عمرو قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون محمولا على أنه أراد: {نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} إلا أنه حذف النون الثانية التي هي فاء فعل؛ لالتقاء النونين استخفافا، وشبهها بما حذف من أحد المثلين الزائدين في نحو قولك: أنتم تفكرون وتظهرون وأنت تريد: تتفكرون وتتظهرون، قال: ونحوه قراءة من قرأ: "وكذلك نجى المؤمنين" ألا تراه يريد ننجي فحذف النون الثانية وإن كانت أصلا؛ لما ذكرنا، قلت: ونقل هذه القراءة وتعليلها المذكور الزمخشري في تفسيره، وذكره المهدوي في قراءة: "ننجي المؤمنين" وهو وجه سديد غريب لا تعسف فيه، ويشهد له أيضا حذف إحدى النونين من أتحاجوني وتبشروني وتأمروني وتأمروني أعبد وعجبت من شيخنا أبي الحسن -رحمه الله- كيف لم ينقل هذا التعليل في شرحه مع كونه في إعراب النحاس وهو كثير الأخذ منه وقراءة الجماعة ننجي بنونين الثانية ساكنة وبتخفيف الجيم من الإنجاء وقبله ونجيناه من الغم بالتشديد جمعا بين اللغتين كما جمع بينهما في كثير من القرآن نحو: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} 2، {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} 3.
__________
1 سورة البقرة، آية: 228.
2 سور الطارق، آية: 17.
3 سورة محمد -صلى الله عليه وسلم، آية: 20.
(1/601)
________________________________________
وقول الناظم: كذى صلا إشارة إلى النظر والفكرة في وجه هذه القراءة؛ أي: كن في الذكاء والبحث كذى صلا وقد سبق تفسيره ويقال بكسر الصاد وفتحها والله أعلم.
892-
وَلِلْكُتُبِ اجْمَعْ "عَـ"ـنْ "شَـ"ـذًا وَمُضَافُهَا ... مَعِي مَسَّنِي إِنِّي عِبَادِيَ مُجْتَلا
أي: عن ذي شذا يريد: "كطي السجل للكتاب"، فالقراءة دائرة بين الجمع والإفراد قد سبق لهما نظائر، فالكتب جمع كتاب والكتاب في الأصل مصدر كتب كتابا مثل بنى بناء ثم قيل للمكتوب: كتاب، وقد اختلف في معنى السجل فقيل: هو ملك يطوى صحائف بني آدم وقيل: كاتب كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فالمعنى على هذين القولين ظاهر؛ أي: كما يطوى السجل الكتاب أو الكتب، فالمفرد اسم جنس يغني عن الجمع فهو واحد يراد به الكثرة واللام في الكتب أو للكتاب زائدة وحسنها اتصالها بمعمول المصدر تقوية لتعديته نحو عرفت ضرب زيد لعمرو والأصل ضرب زيد عمرا فكهذا هنا كطي السجل للكتاب فإضافة طي إلى السجل من باب إضافة المصدر إلى فاعله، وقيل: إن السجل هو اسم الصحيفة فيكون المصدر مضافا إلى مفعوله نحو: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} 1.
والمعنى كطي الصحيفة للكتابة فيها أو لأجل المكتوب فيها قال قتادة: كطي الصحيفة فيها الكتب، قال أبو علي: كطي الصحيفة مدرجا فيه الكتب؛ أي: لدرج الكتب فيها فإن كان الجمع للمكتوب فظاهر، وإن كان للمصدر فلأجل اختلاف أنواعه وقول الناظم: مجتلا خبر قوله: ومضافها ومع وما بعده عطف بيان لمضافها أو صفة له على تقدير: الذي هو كذا وكذا، وأراد: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} فتحها حفص وحده. "إِنِّيَ إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ" فتحها نافع وأبو عمرو. "مَسَّنِي الضُّرُّ"، "عبادي الصالحون" سكنهما حمزة والله أعلم.
__________
1 سورة ص، آية: 24.
(1/602)
________________________________________
سورة الحج:
893-
سُكَارى مَعا سَكْرى "شَـ"ـفا وَمُحَرِّكٌ ... لِيَقْطَعْ بِكَسْرِ الَّلامِ "كَـ"ـمْ "جِـ"ـيدُهُ "حَـ"ـلا
يريد: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} 1.
قرأهما حمزة والكسائي "سكرى" كلاهما جمع سكران، وأجمعوا على: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ، ونظير القراءتين: "أسارى"، و"أسرى" كما سبق في الأنفال والبقرة، وجمع سكران على سكارى بضم السين، وبالألف بعد الكاف هو القياس كعجلان وعجالى وكسلان وكسالى، وإنما جمع على سكرى بفتح السين والقصر حملا له على فعيل بمعنى مفعول إذا كان ذا آفة وبلية فحمل سكران عليه؛ لملاقاته إياه في المعنى كجرحى وقتلى، ونظيره قولهم: روبان وروبى، وهو الذي سكر من شرب اللبن الرائب والمختلط من كثرة السير والتعب قال الشاعر:
فأما تميم تميم بن مر ... فألقاهم القوم روبى نياما
قال سيبويه: قالوا: رجل سكران وقوم سكرى؛ وذلك لأنهم جعلوه كالمرضى. قال: وقالوا رجال روبى جعلوه بمنزلة سكرى، والروبى الذين قد استثقلوا نوما فشبهوه بالسكران، قال أبو علي: ويجوز أن يجمع سكران على سكرى من وجه آخر، وهو أن سيبويه حكى رجل سكر، وقد جمعوا هذا البناء على فعالى، فقالوا هرم وهرمى وزمن وزمنى وضمن وضمنى؛ لأنه من باب الأدواء والأمراض التي يصاب بها، أما كسر اللام في ثم ليقطع فهو الأصل؛ لأنها لا أمر، فهي مكسورة بدليل أنها إذا لم يدخل عليها أحد الحروف الثلاثة الفاء والواو، وثم لا تكون إلا مكسورة، وهذه الحروف إذ اتصلت بها فمنه من سكنها تخفيفا لتوسطها باتصال حرف العطف بها، واتصال الفاء والواو بها أشد من اتصال ثم؛ لأن ثم كلمة مستقلة بخلافهما، فإنهما يصيران إذا اتصلا بكلمة كأنهما بعض حروفها، فلهذا يسكن مع الفاء والواو من لا يسكن مع ثم، وذلك نظير ما سبق في أول البقرة في إسكان "فهو، وهو" ثم هو والفاء أشد اتصالا من الواو؛ لأنها متصلة لفظا وخطا، والواو منفصلة خطًّا؛ فلهذا اتفق القراء على إسكان اللام مع الفاء نحو "فليمدد، فلينظر" واختلفوا مع الواو، وثم كما يأتي فإسكانها مع الفاء أحسن، ومع ثم أبعد ومع الواو متوسط، فإن قلت فلم اختلف القراء في ترك الإسكان مع الفاء في فهو وفهي، وأجمعوا على إسكان اللام مع الفاء قلت لخفة الكلمتين لقلة حروفهما بخلاف ما دخل عليه لام الأمر، فإنها أكثر حروفا، فناسبت التخفيف ولهذا كان الأكثر على الإسكان هنا مع الواو، ومع ثم وفي وهو وفهو الأكثر على التحريك، وتقدير البيت؛ وليقطع محرك بكسر اللام وميزكم محذوف؛ أي: كم مرة "حلا جيده" والجيد العنق.
__________
1 سورة النساء، آية: 43.
(1/603)
________________________________________
894-
لِيُوفُوا ابْنُ ذَكْوَانٍ لِيَطَّوَّفُوا لَهُ ... لِيَقْضُوا سِوى بَزِّيِّهِمْ "نَفَرٌ جَـ"ـلا
أراد {لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} لم يكسرهما سوى ابن ذكوان، وأجمعوا على إسكان: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} 1 في البقرة وفي النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} 2.
وأما {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم} فهو بعد ثم فكسر اللام أبو عمرو وابن عامر وقنبل وورش؛ لأنه استثنى البزي من نفر، ومدلول نفر ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، ورمز مع نفر لورش بقوله: "جلا" فكسر قنبل "ليقضوا" ولم يكسر "ليقطع" جمعا بين اللغتين إعلاما بجوازهما.
895-
وَمَعْ فَاطِرَ انْصِبْ لُؤْلُؤًا "نَـ"ـظْمُ "إِ"لْفَةٍ ... وَرَفْعَ سَوَاءَ غَيْرُ حَفْصٍ تَنَخَّلا
أي: انصب لؤلؤا هنا مع حرف فاطر يريد: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} 3، فوجه الخفض العطف على: {أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} ووجه النصب العطف على موضع من "أساور" أو على تقدير "ويحلون لؤلؤا" ورسم بالألف في الحج خاصة دون فاطر والقراءة نقل فما وافق منها ظاهر الخط كان أقوى، وليس اتباع الخط بمجرده واجبا ما لم يعضده نقل، فإن وافق فبها ونعمت ذلك نور على نور، قال الشيخ: وهذا الموضع أدل دليل على اتباع النقل في القراءة؛ لأنهم لو اتبعوا الخط وكانت القراءة إنما هي مستندة إليه لقرءوا هنا بألف، وفي الملائكة بالخفض، قال أبو عبيد: ولولا الكراهة لخلاف الناس لكان اتباع الخط أحب إلي فيكون هذا بالنصب، والآخر بالخفض وقول الناظم نظم إلفة مصدر وقع وصفا للؤلؤ، وحسن ذكر النظم مع ذكر اللؤلؤ، وهو إشارة إلى الائتلاف الواقع للمؤمنين في الجنة كقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} 4 ... الآية جعلنا الله تعالى بكرمه منهم، وقوله: ورفع سواء مفعول قوله: "تنخلا"؛ أي: غير حفص تنخل؛ أي: اختار رفع "سواءٌ العاكفُ فيه" وحفص وحده نصبه، فوجه رفعه أنه خبر، والعاكف مبتدأ والجملة ثاني مفعولي جعلناه، ونصبه على أن يكون هو المفعول الثاني، فالعاكف فاعل؛ لأنه مصدر؛ أي: مستويا فيه العاكف والبادي ويجوز أن يكون حالا من الهاء في جعلناه، وللناس هو المفعول الثاني؛ أي: جعلناه لهم في حال استواء العاكف فيه، والبادي فيه، وعند هذا يجوز أن يكون حالا من الذكر في المستقر.
__________
1 الآية: 186.
2 آية: 31.
3 آية: 33.
4 سورة الأعراف، آية: 43.
(1/604)
________________________________________
896-
وَغَيْرُ "صِحَابٍ" فِي الشَّرِيَعةِ ثُمَّ وَلْـ ... ـيُوَفُّوا فَحَرِّكْهُ لِشُعْبَةَ أَثْقَلا
أي: وغير صحاب اختاروا رفع الذي في الشريعة؛ يعني: في سورة الجاثية وهو: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} فنصبه مع حفص حمزة والكسائي على الحال، و"محياهم" فاعله ورفع الباقون على أنه خبر مقدم، والجملة بدل من الكاف في {كَالَّذِينَ آمَنُوا} فهي في موضع نصب على المفعولية، وقرأ شعبة: "وَلْيُوَفُّوا نُذُورَهُمْ" بفتح الواو وتشديد الفاء من "وفَّى" والباقون من: "أوفى" وهما لغتان، وهذا كالخلاف في: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} في البقرة1، فقرأ شعبة هنا كما قرأ ثَمَّ، ونبه الناظم هنا على فتح ما قبل المشدد، ولم ينبه ثمَّ على ما سبق ذكره "وأثقلا" حال من الهاء في فحركه؛ أي: ثقيلا، وقوله: ثم لإقامة الوزن وأجمعوا على: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بالألف، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} بالتشديد و {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالألف.
897-
فَتَخْطَفُهُ عَنْ نَافِعٍ مِثْلُهُ وَقُلْ ... معًا مُنْسَكًا بالكَسْرِ فِي السِّينِ "شُـ"ـلْشُلا
أي: وليوفوا في تحريك الخاء بالفتح، وتشديد الطاء والأصل "فتتخطفه الطير" حذفت إحدى التاءين قال الجوهري: اختطفه وتخطفه بمعنى، وقراءة الباقين من خطف يخطف وتعسف بعضهم في توجيه قراءة نافع وجها ذكره الشيخ في شرحه لا حاجة إليه والنسك بالفتح يقال في المصدر واسم الزمان والمكان، وهو جار على القياس والكسر لغة فيه، وتقدير البيت: وقل مسرعا منسكا مستقر بالكسر في السين معا؛ يعني: في موضعين: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} ، {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} .
898-
وَيُدْفَعُ "حَـ"ـقٌّ بَيْنَ فَتْحَيْهِ سَاكِنٌ ... يُدَافِعُ وَالْمَضْمُومُ فِي أَذِنَ "ا"عْتَلا
يريد: "إن الله يدفع" فقوله: ويدفع حق جملة من مبتدأ وخبر؛ أي: قراءة "يدفع حق"، ثم قيد هذه القراءة بقوله: بين فتحيه ساكن؛ يعني: سكون الدال بين فتح الياء والفاء؛ لأن القراءة الأخرى لا تعلم من ضد هذا القيد، فاحتاج إلى بيانها بقوله: يدافع فحذف المضاف للعلم به ولم تكن له حاجة إلى تقييد قراءة يدفع؛ لأنه قد لفظ بالقراءتين وكان له أن يقول:
ويدفع حق في يدافع وارد ... وفي إذن اضمم ناصرا أنه حلا
ومن بعد هذا الفتح في نا يقاتلون فيتصل رمز أذن في بيت واحد، وقد مضى الكلام في سورة البقرة في مصدر هذين الفعلين: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} ، و"دفاع لله"، ومثله هنا أيضا فقراءة نافع يدافع موافقة لقراءة دفاع،
__________
1 الآية: 185.
2 سورة المائدة، آية: 3.
(1/605)
________________________________________
وقراءة ابن كثير وأبي عمرو يدفع لقراءتهما: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} والباقون جمعوا بينهما فقرءوا: "يدافع": {وَلَوْلا دَفْعُ} إشعارا بتقاربهما في المعنى فإن المراد من يدافع يدفع فهو من باب طارقت النعل وعاقبت اللص وعافاه الله ثم تمم الكلام في أذن فقال:
899-
"نَـ"ـعَمْ "حَـ"ـفِظُوا وَالفَتْحُ فِي تَا يُقَاتِلُو ... نَ "عَمَّ عُـ"ـلاهُ هُدِّمَتْ خَفَّ "إِ"ذْ "دُ"لا
أي: ضم: {أَذِنَ لِلَّذِينَ} نافع وعاصم وأبو عمر وعلى ما لم يسم فاعله وفتح الباقون على تقدير: "أذن الله لهم"، يقاتَلون بفتح التاء على بناء الفعل للمفعول أيضا، وبكسرها على بنائه للفاعل والتخفيف والتشديد في هذين ظاهران وسبق معنى دلا.
900-
وَبَصْرِيٌّ أَهْلَكْنَا بِتَاءٍ وَضَمِّهَا ... يَعُدُّونَ فِيهِ الغَيْبُ "شَـ"ـايَعَ "دُ"خْلُلا
يريد فكأين من قرية أهلكناها بنون العظمة، قرأه أبو عمرو بتاء مضمومة "أهلكتها"، والغيب في: {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ؛ لقوله قبله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} ، وهذا هو الدخلل الذي شايعه؛ أي: المداخل؛ أي: المناسب، والخطاب ظاهر:
901-
وَفِي سَبَإِ حَرْفَانِ مَعْهَا مُعَاجِزِي ... نَ "حَـ"ـقٌّ بِلا مَدٍّ وَفِي الْجِيمِ ثُقِّلا
يريد: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} ، {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} ، هذان في سبأ1، 2 وقوله: معها أي: مع حرف هذه السورة، وهو: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ، فمعنى معجزين ينسبون من تبع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى العجز، وقيل: مثبطين الناس عنه وقيل: معناه يطلبون تعجيزنا، وفي المد معنى أنهم يسابق بعضهم بعضا في التعجيز، واختار أبو عبيد قراءة المد ورواها عن ابن عباس، وقال: معناها مشاقين، وقال أبو علي: معاجزين ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا؛ لأنهم ظنوا أن لا بعث ولا نشور، فيكون ثواب وعقاب، وقال الشيخ: سعوا معجزين ومعاجزين؛ أي: بالطعن فينا وقولهم سحر وشعر وغم ذلك من البهتان.
902-
وَالَاوَّلُ مَعْ لُقْمانَ يَدْعُونَ غَلَّبُوا ... سِوى شُعْبَةٍ وَاليَاءُ بَيْتِيَ جَمَّلا
__________
1 آية: 5.
2 آية: 38.
(1/606)
________________________________________
يريد بالأول: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} ومثله في لقمان، واحترز بقوله: الأول من الذي بعده، وهو: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} ، وأراد يدعون الأول، فلما قدم الصفة أتبعها الموصوف بيانا فهو من باب قول النابغة: والمؤمن العائدات الطير أي: قرأ يدعون في الموضعين بالغيبة أبو عمرو وصحاب، والباقون بالخطاب ووجههما ظاهر، وفي هذه السورة ياء واحدة للإضافة: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} فتحها نافع وهشام وحفص، وفيها زائدتان: و"الباد" أثبتها في الحالين ابن كثير وفي الوصل ورش وأبو عمرو، "نكير" أثبتها في الوصل ورش وحده، وقلت في ذلك:
زوائدها ياءان والباد بعده ... نكير وما شيء إلى النمل أنزلا
أي: وما شيء من الزوائد فيما بعد الحج من السور إلى سورة النمل والله أعلم.
(1/607)
________________________________________
سورة المؤمنون:
903-
أَمَانَاتِهِمْ وَحِّدْ وَفِي سَالَ "دَ"ارِيًا ... صَلاتِهِمُ "شَـ"ـافٍ وَعَظْمًا "كَـ"ـذِي "صِـ"ـلا
يريد: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} هنا وفي سورة سأل، وحَّدهما ابن كثير وحده. "وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ" وحده هنا حمزة والكسائي، ولا خلاف في إفراد الذي في سورة سأل ولا في الأول هنا وهو قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، وعلم أن موضع الخلاف هو الثاني؛ لذكره إياه بعد أماناتهم، فالتوحيد يدل على الجنس والجمع لاختلاف الأنواع، وقد اتفق على الجمع في: {أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} وعلى الأفراد في: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} 1، وعلى جمع: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} 2، وعلى الإفراد في: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} . قوله: وعظْما؛ أي: ووحد عظْما؛ يعني: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} ، وقد ذكره في البيت الآتي في قوله: مع العظم، وحدهما ابن عامر وأبو بكر، كما قال الراجز: في خلقكم عظم وقد شجيناه أي: في حلوقكم عظام والعظام بالجمع، وموضع "كذي صلا" نصب على الحال من فاعل وحد وقد سبق تفسيره.
904-
مَعَ العَظْمِ وَاضْمُمْ وَاكْسِرِ الضَّمَّ "حَقُّـ"ـهُ ... بِتَنْبُتُ وَالمَفْتُوحُ سِيناءِ "ذُ"لِّلا
يريد: "تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ" اضمم التاء واكسر الباء فيصير من أنبت وهو بمعنى نبت فيتحد معنى القراءتين؛ أي: تنبت ومعها الدهن، وقيل: المفعول محذوف؛ أي: ينبت زيتونها وبالدهن في موضع الحال من الشجرة على الوجه الأول؛ أي: ملتبسة بالدهن، وعلى الوجه الثاني يكون حالا إما من الشجرة أو من المفعول المحذوف وقيل: الياء زائدة والمعنى تنبت الدهن كقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} ، ومن قرأه من نبت فالباء للتعدية أو مع مجرورها للحال وقوله: "حقه"؛ أي: هو حقه: "تَنْبُتُ" متعلق باضمم أو باكسر أو بالضم، وقوله: والمفتوح "سيناء"؛ أي: وسيناء المفتوح فقدم الصفة ضرورة وأتى بما بعدها بيانا كـ: العائدات الطير ومعنى ذلك قرب وسهل أراد بفتح السين والباقون بكسرها وهو اسم أعجمي تكلمت به العرب مفتوحا ومكسورا، وقالوا أيضا "سنين" والمانع له من الصرف مع العلمية العجمة وقيل: "طور سينا" مركب كحضرموت على لغة الإضافة.
__________
1 سورة الأحزاب، آية: 72.
2 سورة البقرة، آية: 228.
(1/608)
________________________________________
905-
وَضَمٌّ وَفَتْحٌ مَنْزِلًا غَيْرَ شُعْبَةٍ ... وَنَوَّنَ تَتْرًا "حَقُّـ"ـهُ وَاكْسِرِ الوِلا
التقدير: غير شعبة "ذو ضم وفتح" لفظ "منزلا" فمنزلا مفعول بأحد المصدرين قبله يريد: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا} فضم الميم وفتح الزاي يجعله مصدرا أو اسم مكان من أنزل، وقرأه شعبة بفتح الميم وكسر الزاي على أنه كذلك من نزل، ونظير القراءتين ما تقدم في "مدخلا"، و"تترى" مصدر من المواترة فمن نونه جعل وزنه فعلا كضربا ومن لم ينون جعله فعلى كدعوى من المصادر التي لحقتها ألف التأنيث المقصورة وقد سبق ما يتعلق بإمالتها في باب الإمالة، ثم قال "واكسر الولا"؛ أي: ذا الولا؛ يعني: الموالي لتترى؛ أي: الذي هو قريب منه بعده ثم بينه فقال:
906-
وَأَنَّ "ثَـ"ـوى وَالنُّونَ خَفِّفْ "كَـ"ـفَى وَتَهْـ ... ـجُرُونَ بِضَمٍّ وَاكْسِرِ الضَّمَّ "أَ"جْمَلا
يريد: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} الكسر على الاستئناف، والفتح على تقدير: ولأن هذه على ما تقدم في الأنعام في قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} 1.
وخفف ابن عامر النون في الموضعين كما قال سبحانه: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2، وقرأ نافع وحده: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} بضم التاء وكسر الجيم من أهجر في منطقه إذا أفحش فيه، وقرأ غيره بفتح التاء وضم الجيم من هجر إذا هذى، وقال أبو علي: تهجرون آياتي مما يتلى عليكم من كتابي فلا تنقادون له وتهجرون تأتون بالهجر وهو الهذيان وما لا خير فيه من الكلام، وفي الحديث في زيارة القبور ولا تقولوا هجرا، وقال أبو عبيد: القراءة الأولى أحب إلينا ليكون من الصدود والهجران كقوله: {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} 3.
هذا يشبه الهجران ومن قرأها تهجرون أراد الإفحاش في المنطق، وقد فسرها بعضهم على الشرك، وقول الناظم: "أجملا" هو حال من فاعل اكسر أو مفعول أو نعت مصدر محذوف؛ أي: كسرا جميلا.
907-
وَفِي لامِ لِلهِ الأَخِيرَيْنِ حَذْفُها ... وَفِي الْهَاءِ رَفْعُ الْجَرِّ عَنْ وَلَدِ العَلا
في هذه السورة: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} في ثلاثة مواضع؛ الأول: لا خلاف فيه أنه لله بإثبات لام الجر، وهو جواب قوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} ، والخلاف في الثاني والثالث وهما جواب قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} ، {قُلْ مَنْ
__________
1 آية: 153.
2 سورة يونس، آية: 10.
3 سورة المؤمنون، آية: 66.
(1/609)
________________________________________
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، فقرأهما أبو عمرو بحذف حرف الجر، فارتفع الاسم الجليل على أنه خبر مبتدأ؛ أي: هو الله فهو جواب مطابق للفظ السؤال، وكذلك كتب في مصاحف البصرة، وقرأهما غيره كالأول بإثبات لام الجر، وكذلك كتب في مصاحفهم، وهو جواب من حيث المعنى؛ لأن قولك: من مالك هذه الدار؟ ولمن هذه الدار؟ معناهما واحد، قال أبو عبيدة: كان الكسائي يحكي عن العرب أنه يقال للرجل: من رب هذه الدار؟ فيقول: لفلان بمعنى هي لفلان، وقول الناظم الأخيرين هو مضاف إليه؛ أي: وفي لام هذا اللفظ الذي في الموضعين الأخيرين كما تقدم في قوله: "وأخرتني" الإسراء وحذفها مبتدأ فهو كقولك: في صدر سيد الرجلين علم والله أعلم.
908-
وَعَالِمُ خَفْضُ الرَّفْعِ "عَـ"ـنْ "نَفَرٍ" وَفَتْـ ... ـحُ شِقْوَتُنَا وَامْدُدْ وَحَرِّكُهُ "شُـ"ـلْشُلا
يريد: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ} فبالخفض هو نعت لاسم الله تعالى، وبالرفع على تقدير هو عالم، والشقاوة على لفظ السعادة والشقوة كالردة والفطنة لغتان؛ أي: افتح الشين وحرك القاف بالفتح ومدها وقدم ذكر المد على التحريك؛ لضرورة الوزن ولتعين القاف لذلك فليس في حرف شقوتنا ما يقبل التحريك غير القاف؛ لأنها ساكنة والبواقي متحرك، وقوله: "عن نفر"؛ أي: منقول عن نفر وفتح شقوتنا كذلك من حيث المعنى؛ أي: عن جماعة قرءوا به والله أعلم.
909-
وَكَسْرُكَ سُخْرِيًّا بِها وَبِصَادِها ... عَلَى ضَمِّهِ "أَ"عْطَى "شِـ"ـفَاءً وَأَكْمَلا
يريد: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} ، وفي ص: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} من سخرت إذا ضحكت منه، وقيل: الكسر في سين ذلك وضمها لغتان، وقيل: الضم من السخرة والعبودية والكسر من الهزؤ واللعب، وأجمعوا على ضم الذي في الزخرف: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} 1؛ لأن المراد المعنى الأول؛ لينتظم قوام العالم والهاء في قوله: وبصادها تعود على سور القرآن؛ للعلم بذلك كما أنه إذا قال: حفصهم يعلم أنه أراد حفص القراء والهاء في على ضمه للكسر، وقوله: بها معمول وكسرك وعلى ضمه خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون بها خبر قوله: وكسرك؛ أي: اختص ذلك بهذه السورة: وبسورة ص ثم استأنف فقال: على ضمه أعطى سخريا شفاء، وفاعل أعطى ضمير عائد على سخريا لا على كسرك ولو عاد على كسرك لكان هو خبر المبتدأ ولزم أن يكون الرمز للكسر وليس للرمز إلا للضم، وأشار بقوله: وأكملا إلى إكمال الضم في مواضع سخريا الثلاثة والله أعلم، قال أبو عبيد: وكذلك هي عندنا؛ لأنهن إنما يرجعن إلى معنى واحد، وهما لغتان: "سخرى وسخرى"، وقد رأيناهم أجمعوا على ضم التي في الزخرف فكذلك الأخريان:
__________
1 الآية: 32.
(1/610)
________________________________________
910-
وَفِي أَنَّهُمْ كَسْرٌ "شَـ"ـرِيفٌ وَتُرْجَعُو ... نَ في الضَّمِّ فَتْحٌ وَاكْسِرِ الْجيمَ وَاكْمُلا
يريد: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} الكسر على الاستئناف والفتح على تقدير؛ لأنهم أو بأنهم أو هو مفعول جزيتهم؛ أي: جزيتهم الفوز، فحمزة والكسائي قرءا بالكسر وهما قرءا: "وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تَرْجِعُونَ" بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، ووجه القراءتين ظاهر: وقد سبق له نظائر، ويأتي الخلاف في حرف القصص في موضعه وحمزة والكسائي قرءا ذلك الموضع أيضا كهذا على إسناد الفعل إلى الفاعل، ولعله أشار بقوله: واكملا إلى هذا؛ أي: كملت قراءتهما في الموضعين فلم تختلف؛ أي: وأكمل أيها المخاطب في قراءتك لهما لما كان الكمال في قراءته جعله فيه مجازا وأراد وأكملن فأبدل من النون ألفا:
911-
وَفي قَالَ كَمْ قُلْ دُونَ "شَـ"ـكٍّ وَبَعْدَهُ ... "شَـ"ـفَا وَبِها يَاءٌ لَعَلِّيَ عُلِّلا
يريد: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} قرأها ابن كثير وحمزة والكسائي: "قل" على الأمر والذي بعد هذا قال: {إِنْ لَبِثْتُمْ} لم يقرأه على الأمر إلا حمزة والكسائي فجريا على الأمر في الموضعين، وهو أمر لمن عينه الله سبحانه للسؤال، وقرأ الباقون بالخبر في الموضعين؛ أي: قال الله، أو الملك، وقرأ ابن كثير الأولى بالأمر والثانية بالخبر فكأنه مردود على المأمور أولا؛ أي: قل ذلك المأمور قال أبو علي: وزعموا أن في مصحف الكوفة قل في الوضعين، قال أبو عبيد: والقراءة عندنا على الخبر كلاهما؛ لأن عليها مصاحف أهل الحجاز وأهل البصرة وأهل الشام، ولا أعلم مصاحف مكة أيضا إلا عليها وإنما انفردت مصاحف أهل الكوفة بالأخرى، قال أبو عمرو الداني: وينبغي أن يكون الحرف الأول بغير ألف في مصاحف أهل مكة، والثاني بالألف؛ لأن قراءتهم كذلك ولا خبر عندنا في ذلك عن مصاحفهم إلا ما رويناه عن أبي عبيد، ثم قال: وبها ياء؛ أي: ياء إضافة واحدة ثم بينها بقوله: لعلى أراد: "لعليَ أعمل صالحا" فتحها الحرميان وأبو عمرو وابن عامر، وقوله: "عللا"؛ أي: علل قائل هذا الكلام نفسه عند الموت بذلك، فقال: علله بالشيء؛ أي: ألهاه به والله أعلم.
(1/611)
________________________________________
سورة النور:
912-
وَ"حَقٌّ" وَفَرَّضْنا ثَقِيلًا وَرَأْفَةٌ ... يُحَرِّكُهُ الْمَكي وَأَرْبَعُ أَوَّلا
يريد: "وَفَرَّضْنَاهَا"؛ أي: فرضنا أحكامها وفي التثقيل: إشعار بكثرة ما فيها من الأحكام المختصة بها لا توجد في غيرها من السور كالزنا والقذف واللعان والاستئذان وغض الطرف والكتابة وغير ذلك، فسَّرها أبو عمرو: فصّلنا، ومعناها بالتخفيف: أوجبنا حدودها جعلناها فرضا، وقول الناظم: "وحق" هو خبر مقدم، وثقيلا حال من المنوي فيه؛ أي: وفرضنا حق ثقيلا، أما: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} بإسكان الهمزة ففتحها ابن كثير وكلاهما لغة، ولا خلاف في إسكان التي في الحديد، {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً} قال ابن مجاهد: قال لي قنبل: كان ابن أبي بزة قد أوهم وقرأهما جميعا بالتحريك، فلما أخبرته إنما هي هذه وحدها رجع، قلت: وهذا مما جمع فيه بين اللغتين واختير الإسكان في التي في الحديد؛ لتجانس لفظ رحمة التي بعدها، ونظير هاتين القراءتين: "دأبا"، و"دآبا" والمعز وظعنكم من باب الإسكان لأجل حرف الحلق مثل شعرة وشعرة، ثم قال: "وأربع أولا"؛ أي: الواقع أولا يريد، فشهادة أحدهم أربع شهادات اختلف في رفعه ونصبه، وخبر قوله: وأربع في أول البيت الآتي وهو صحاب؛ أي: وأربع بالرفع قراءة صحاب، ودلنا على الرفع إطلاقه، ووجه الرفع أنه خبر: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ، ونصبه على المصدر كما تقول: شهدت أربع شهادات والخبر محذوف؛ أي: فواجب شهادة أحدهم أو المحذوف المبتدأ وهو: فالواجب شهادة أحدهم نحو: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، والجملة خبر "والذين" ولا خلاف في نصب الثاني وهو أن تشهد أربع شهادات؛ لأنه مصدر لا غير للتصريح بالفعل قبله وهو قوله: أن تشهد.
913-
صِحَابٌ وَغَيْرُ الْحَفْصِ خَامِسَةُ الأَخِيـ ... ـرُ أَنْ غَضِبَ التَّخْفِيفُ وَالكَسْرُ أُدْخِلا
أي: وكل القراء غير حفص رفعوا: "والخامسةُ أن غضب الله" وهو الأخير ولا خلاف في رفع الأول: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ} فالرفع فيها على الابتداء وما بعده خبره؛ أي: والشهادة الخامسة هي لفظ كذا: ونصب الثاني على وتشهد الخامسة؛ لأن قبله: {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} ، ثم أبدل: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} منه، قال أبو علي: ويجوز في القياس النصب في الخامسة الأولى رفع أربع شهادات أو نصب، وقول الناظم الأخير هو نعت خامسة ولا نظر إلى التأنيث فيها؛ لأن المراد هذا اللفظ الأخير، وأسقط الألف واللام من الخامسة ضرورة وزن النظم، وأدخلها في حفص كذلك أيضا فكأنه عوض ما حذف وهما زائدتان في الحفص كقول الشاعر:
والزيد زيد المعارك
وقد وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده قال: أذن بلال حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ أبو القاسم: حفص هو ابن عمر بن سعد القرظ، ولغرابة هذه العبارة بَهِمَ كثير فيها، ويسبق لسان القارئ لها إلى لفظ الخفض بالخاء والضاد المعجمتين الذي هو أخو الكسر
(1/612)
________________________________________
لشهرة هذه اللفظة وكثرة دورها في القصيدة، كقوله: "وَالْأَرْحَامِ" بالخفض جملا، والنون بالخفض شكلا. فإن قيل: لو أنه قال: صحاب وحفص نصب خامسة الأخير لحصل الغرض ولم يبق لفظ موهم.
قلت: لكن تخيل عليه قراءة الباقين؛ فإنها بالرفع وليس ضد النصب إلا الخفض فاقتحم حزونة هذه العبارة؛ لكونها وافية بغرضه والألف في قوله: أدخلا ضمير تثنية يرجع إلى التخفيف والكسر؛ أي: أدخلا في لفظ أن غضب فالتخفيف في أن والكسر في ضاد غضب؛ أي: قرأ نافع وحده ذلك، فيكون أن مخففة من الثقيلة، وغضب فعل ماض فاعله اسم الله فيجب رفعه فهو معنى قوله: في البيت الآتي، ويرفع بعد الجر؛ أي: بعد أن غضب يجعل الرفع موضع الجر في الكلمة المتصلة به، وقراءة الجماعة واضحة يكون الغضب اسما مضافا إلى الله تعالى، وهو اسم "أن" المشددة مثل: {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} والنحويون يقولون: إن ضمير الشأن مقدر؛ أي: أنه لعنة الله وأن غضب الله ولو أن قراءة نافع بفتح ضاد "غضب"، كقراءة الجماعة فكانت على وزن "لعنة الله"، فيكون قد خفف أن فيها فقط لكانت أوجه عندهم؛ لأنهم يستقبحون أن يلي الفعل أن المخففة حتى يفصل بينهما بأحد الحروف الأربعة بحرف النفي إن كان الكلام نفيا نحو: {لَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} ، وإن كان إيجابا فبحرف قد في الماضي وبالسين أو سوف في المضارع نحو: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} ، وكان القياس عندهم أن يقال أن قد غضب الله، قال أبو علي: فإن قيل: فقد جاء: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ} فليس يجري مجرى "ما" ونحوها مما ليس بفعل، وقوله: بورك على الدعاء قلت فكذا هنا يحمل "غضب الله" على الدعاء فلا يحتاج إلى حرف قد.
914-
وَيَرْفَعُ بَعْدَ الْجَرِّ يَشْهَدُ "شَـ"ـائِعٌ ... وَغَيْرُ أُولِي بِالنَّصْبِ "صَـ"ـاحِبُهُ "كَـ"ـلا
قد سبق شرح قوله: ويرفع بعد الجر فالجر منصوب؛ لأنه مفعول يرفع وليس مضافا إلى بعد؛ لأن بعد مبني على الضم بحذف ما أضيف إليه؛ أي: بعد قوله: "أن غضب"، أما: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} ، فيقرأ يشهد بالتذكير حمزة والكسائي، والباقون بالتأنيث،؛ لأن تأنيث الألسنة غير حقيقي، فجاز فيه الوجهان، قال أبو علي: كلاهما حسن، وقد مر نحوه، أما: "غَيْرَ أُولِي الإِرْبَةِ" فنصبه على الحال أو على الاستثناء، وخفضه على أنه صفة للتابعين؛ أي: الذين لا إربة لهم في النساء والإربة الحاجة، ومعنى صاحبه كلا؛ أي: حفظ ذلك ونقله أو حرسه.
915-
وَدُرِّيٌّ اكْسِرْ ضَمَّهُ "حُـ"ـجَّةً "رِ"ضى ... وَفِي مَدِّهِ وَالْهَمْزِ "صُحْبَتُـ"ـهُ "حَـ"ـلا
أي: ضم الدال وحجة حال من فاعل اكسر أو مفعوله؛ أي: اقرأه ذا حجة مرضية، وأخبر عن صحبته بلفظ: حلا كما سبق في صحبة كلا والهمز مجرور عطفا على: وفي مده ولو رفع لكان له وجه حسن،؛ أي: وجلا درى في مده والهمز مصاحب له ولا يمنع كون صحبته رمزا من تقدير هذا المعنى كما لم يمنع في قوله: كما حقه ضماه؛ أي: حق أن يضم صاد "الصدفين" وداله على ما سبق شرحه، فحصل من مجموع ما في البيت أن أبا عمرو والكسائي قرءا درى على وزن شريب وسكيت بكسر الدال والمد والهمز وحمزة وأبا بكر بضم الدال والمد، والهمز على وزن مريق، قال الجرمي: زعم أبو الخطاب أنهم يقولون مريق للعصفر وقرأ الباقون وهم
(1/613)
________________________________________
حفص وابن عامر والحرميان بضم الدال وتشديد الياء فلا مد ولا همز، وهذه أجود القراءات عندهم جعلوها نسبة إلى الدر في الصفا والإضاءة، وإنما نسب الكوكب مع عظم ضوئه إلى الدر باعتبار أن فضل ضوء ذلك الكوكب على غيره من الكواكب كفضل الدر على غيره من الحب، قال أبو عبيد: القراءة التي نختارها "دري وهو في التفسير المنسوب إلى الدر في إضاءته وحسنه، وفي الحديث المرفوع: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل عليين كما تراءون الكوكب الدري في أفق السماء" هكذا نقلته العلماء إلينا بهذا اللفظ، قال أبو علي: ويجوز أن يكون فعيلا من الدرء فخفف الهمز فانقلبت ياء كما تنقلب من النسي والنبي إذا خففت ياء، قلت؛ يعني: أنها تكون مخففة من القراءة الأخرى المنسوبة إلى حمزة وأبي بكر، قال أبو علي: هو فعيل من الدرء الذي هو الدفع، قال ومما يمكن أن يكون من هذا البناء قولهم: العلية ألا تراه من علا، فهو فعيل وقال الزجاج: النحويون أجمعون لا يعرفون الوجه فيه؛ لأنه ليس في الكلام شيء على فعيل، قال أبو علي: هذا غلط، قال سيبويه: ويكون على فعيل وهو قليل في الكلام المرتق، حدثنا أبو الخطاب عن العرب، وقالوا: "كوكب دري" وهو صفة هكذا قرأنه على أبي بكر بالهمز في درئ، قال أبو عبيد: كان بعض أهل العربية يراه لحنا لا يجوز والأصل فيها عندنا فعول، مثل شيوخ، ثم تستثقل الضمات المجتمعة فيه لو قال: دروء، فترد بعض تلك الضمات إلى الكسرة فيقال: درى، قال وقد وجدنا العرب تفعل هذا في فقول وهو أخف من الأول، وذلك كقولهم "عتوا وعتيا"، وكلتا اللغتين في التنزيل، أما قراءة أبي عمرو والكسائي بكسر الدال والهمزة، فقال الزجاج: الكسر جيد بالهمز يكون على وزن فعيل ويكون من النجوم الدراري التي تدرأ؛ أي: تنحط وتسير متدافعة، يقال درأ الكوكب يدرأ إذا تدافع منقضا فتضاعف ضوءه يقال: تدارأ الرجلان إذا تدافعا، قال الفراء: الدري من الكواكب الناصعة وهو من درأ الكوكب إذا انحط كأنه رجم به الشيطان، قالوا: والعرب تسمي الكواكب العظام التي لا تعرف أسماؤها الدراري، قال ومن العرب من يقول كوكب دري ينسبه إلى الدر فيكسر أوله ولا يهمز كما يقال: "سُخري وسِخري"، "وبحر لُجي ولِجي" قال النحاس: ومن قرأ دري بالفتح وتشديد الياء أبدل من الضمة فتحة؛ لأن النسب باب تغيير.
قلت: وهي قراءة شاذة حكيت عن قتادة وغيره، قال: وضعف أبو عبيد قراءة أبي عمرو والكسائي؛ لأنه تأولها من درأت؛ أي: وقعت؛ أي: كوكب يجري من الأفق، وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب، قال: وروي عن محمد بن يزيد أن المعنى كوكب يندفع بالنور كما يقال اندرأ الحريق،؛ أي: اندفع، وحكى سعيد بن مسعدة درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوؤه وعلا قيل: هو من قولهم درأ علينا فلان إذا طلع مفاجأة وكذلك طلوع الكوكب حكاه الجوهري، وقال: قال أبو عمرو بن العلاء: سألت رجلا من سعد بن بكر من أهل ذات عرف وكان من أفصح الناس: ما تسمون الكوكب الضخم فقال الدري، وحكى أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس قال: أخبرني أبو عثمان عن الأصمعي عن أبي عمرو قال: قد خرجت من الخندق لم أسمع أعرابيا يقول إلا كأنه كوكب دري بكسر الدال، قال الأصمعي: فقلت: أفيهمزون؟، قال إذا كسروا فبحسبك، قال: أمحذوة من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت، وهذا فعيل منه؟ قال أبو علي: يعني: أنهم إذا كسروا أوله دل الكسر على إرادتهم الهمز وتخفيفهم، قال صاحب المحكم: درأه دفعه ودرأ عليهم خرج فجأة وادرأ الحريق انتشر وكوكب
(1/614)
________________________________________
دري مندفع في مضيه من المشرق إلى ذلك والجمع درائي على وزن دراعيع، قلت وكونه من درأ إذا دفع أحسن؛ لأنه يدفع الظلام بنوره والله أعلم.
916-
يُسَبِّحُ فَتْحُ البَا "كَـ"ـذَا "صِـ"ـفْ وَيوقَدُ الْـ ... ـمُؤَنَّثُ "صِـ"ـفْ "شَـ"ـرْعًا وَ"حَقٌّ" تَفَعَّلا
يعني: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} بفتح الباء على ما لم يسم فاعله وكسرها على تسمية الفاعل وهو رجال، وعلى قراءة الفتح يكون رجال فاعل فعل مضمر؛ أي: يسبحه رجال أو مبتدأ خبره مقدم عليه وهو في بيوت، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي توقد بالتأنيث؛ أي: توقد الزجاجة أو المشكاة كما تقول: أوقدت البيت وقرأ نافع وابن عامر وحفص يوقد بالتذكير؛ أي: يوقد المصباح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "تَوَقَّدَ" بفتح التاء والواو وتشديد القاف وفتح الدال على أنه فعل ماضٍ؛ أي: توقد المصباح وهو معنى قوله: "وحق تفعلا"؛ أي: قرءا على وزن تفعل مثل تكرم وتبصر والألف للإطلاق لا ضمير تثنية وأعرابه أن يقال حق خبر مقدم وتفعل مبتدأ مؤخر أراد، والقراءة على وزن تفل حق، وحكى ابن مجاهد رواية عن عاصم وأهل الكوفة توقد على وزن قراءة أبي عمرو إلا أن الدال مرفوعة فيكون مضارع قراءة أبي عمرو والأصل تتوقد، فحذفت التاء الثانية نحو "لا تكلم نفس"، وحكى أبو عبيد هذه القراءة عن ابن محيصن والضمير فيها للزجاجة كما سبق في القراءة الأولى، فهذه أربع قراءات الأولى والأخيرة راجعة إلى الزجاجة والثانية والثالثة إلى المصباح، قال أبو علي: توقد على أن فاعل توقد المصباح هو الين؛ لأن المصباح هو الذي يتوقد قال:
سموت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشبه لقفال
أي: ويوقد مثله؛ يعني: بالتذكير والله أعلم.
917-
وَمَا نَوَّنَ البَزِّي سَحابٌ وَرَفْعُهُمْ ... لَدى ظُلُمَاتٍ جَرَّ "دَ"ارٍ وَأَوْصَلا
يريد: {سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، فقرأه البزي على إضافة سحاب إلى ظلمات؛ أي: سحاب ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض وهي ما تقدم تفصيله في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} قال أبو علي: أضاف السحاب إلى الظلمات لاستقلال السحاب وارتفاعه في وقت هذه الظلمات كما تقول سحاب رحمة وسحاب مطر إذا ارتفع في الوقت الذي يكون فيه المطر، ومن نون سحاب ورفع ظلمات وهي قراءة غير ابن كثير كان ظلمات خبر مبتدأ محذوف؛ أي: تلك ظلمات مجتمعة وقرأ قنبل بالتنوين وجر ظلمات على أنها وردت تكريرا وبدلا من ظلمات الأولى وقوله: ورفعهم لدى ظلمات؛ أي: ورفع القراء في ظلمات جره من دري ذلك فقوله: جر فعل ماضٍ ودار فاعله وأوصل عطف على جر؛ أي: قرأ ذلك، وأوصله إلينا، ويجوز في قوله: ورفعهم بالنصب؛ لأنه مفعول جر والرفع على الابتداء نحو: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ} والنصب أقوى عند أهل العربية والله أعلم.
918-
كَمَا اسْتُخْلِفَ اضْمُمْهُ مَعَ الكَسْرِ "صَـ"ـادِقًا ... وَفِي يُبْدِلَنَّ الْخِفُّ "صَـ"ـاحِبُهُ "دَ"لا
(1/615)
________________________________________
أي: اضمم التاء مع أنك تكسر اللام فيصير فعل ما لم يسم فاعله، وقراءة الباقين على إسناد الفعل للفاعل وهو الله تعالى فهو موافق لقراءة "ليستخلفنهم"، والخلاف في "وليبدلنهم" بالتخفيف والتشديد سبق في الكهف أنهما لغتان وسبق معنى دلا.
919-
وَثَانِيَ ثَلاثَ ارْفَعْ سِوى "صُحْبَةٍ" وَقَفْ ... وَلا وَقِفَ قَبْلَ النَّصْبِ إِنْ قُلْتَ أُبْدِلا
يعني: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} فهذا الثاني والأول لا خلاف في نصبه وهو ثلاث مرات؛ لأنه ظرف، فرفع الثاني على معنى هذه الأوقات أوقات ثلاث عورات، فيجوز لك أن تقف على ما قبلها وهو صلاة العشاء، ثم تبتدئ ثلاث عورات، أما قراءة النصب فتحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون بدلا من ثلاث مرات فلا وقف على هذا التقدير؛ لأن الكلام لم يتم وليس برأس آية فيغتفر ذلك لأجله نحو: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 1، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} 3.
فهذا قوله: ولا وقف قبل النصب إن قلت أبدلا؛ أي: إن قلت هو بدل من الأول، وإن قدرت ثلاث عورات منصوبا بفعل مضمر جاز الوقف مثل قراءة الرفع، والتقدير: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} ؛ أي: احفظوها وراعوها والله أعلم.
__________
1 سورة الفاتحة، آية: 6.
2 سورة الشورى، آية: 52.
3 سورة اقرأ، آية: 15.
(1/616)
________________________________________
سورة الفرقان:
920-
وَيَأْكُل مِنْهَا النونُ "شَـ"ـاعَ وَجَزْمُنَا ... وَيَجْعَلْ بِرَفْعٍ "دَ"لَّ "صَـ"ـافِيهِ "كُـ"ـمَّلا
يريد: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} الياء في يأكل والنون ظاهران، أما: "ونجعل لك قصورا" فرفعه على الاستئناف، وجزمه على العطف على موضع جواب الشرط الذي هو جعل "لك" على لغة من يجزم جواب الشرط إذا كان فعل الشرط ماضيا، وهو اللغة الفصيحة، ويجوز أن تكون هذه القراءة بالرفع، وإنما أدغم اللام من يجعل في لام لك كما يفعل أبو عمرو في غير هذا الموضع، فيتحد تقدير القراءتين، وكملا جمع كامل وهو مفعول دل؛ أي: دل حسن هذا اللفظ وصفاؤه رجالا كاملين عقلا ومعرفة، فقرءوا به وإن كانت القراءة الأخرى كذلك والله أعلم.
921-
وَنَحْشُرُ يَا "دَ"ارٍ "عَـ"ـلا فَيَقُولُ نُو ... نُ شَامٍ وَخَاطِبْ تَسْتَطِيعُونَ "عُـ"ـمَّلا
يريد: "ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله"؛ الياء فيه والنون أيضا ظاهران، وأراد ذو يا قارئ دار؛ أي: عارف وعملا صفة دار أو صفة يا، والخلاف أيضا في: "فيقول" بالياء والنون ظاهر، فابن عامر قرأ بالنون فيهما وابن كثير وحفص بالياء فيهما، والباقون بالنون في نحشرهم والياء في: "فيقول"؛ لقوله بعد: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} ، وكل ذلك من تلوين الخطاب كما في أول سورة الإسراء والياء في يستطيعون للآلهة والخطاب لعبادها، وتستطيعون في البيت مفعول خاطب جعله مخاطبا لما كان الخطاب فيه ومثله ف النمل: وتخفون خاطب، وتقدم في الأنعام: وخاطب شام، ويجوز أن يكون في كل هذه المواضع على حذف حرف الجر؛ أي: خاطب بهذا اللفظ، وعملا جمع عامل وهو حال من فاعل خاطب، وهو وإن كان لفظه أمر المفرد فالمراد به الجمع كأنه قال: وخاطب أيها الرهط والقوم أو الفريق القراءة، وقال الشيخ: يستطيعون بدل من قوله: وخاطب أو عطف بيان وعملا مفعول خاطب.
قلت: لا يبين لي وجه ما ذكر في "تستطيعون"، أما جعل عملا مفعول خاطب فيجوز على أن يكون يستطيعون مفعولا بعامل مقدر؛ أي: قارئا يستطيعون، وأراد بالعمل المخاطبين يستطيعون؛ لأنهم كما قال الله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} 1، وإن كان مراد الشيخ بما ذكره أن المأمور بالخطاب هو لفظ تستطيعون جعله مخاطبا لهم لما كان الخطاب فيه كقولك: قم زيد، فهذا على حذف النداء؛ أي: قم يا زيد، فكذا التقدير: وخاطب يا يستطيعون؛ أي: يا هذا اللفظ ولا يبعد في التجوز تمثيل ذلك كما تخاطب الديار والآثار، ويطرد هذا الوجه في نحو: وخاطب تعصرون وما أشبهه.
__________
1 سورة الغاشية، آية: 3.
(1/617)
________________________________________
922-
وَنُزِّلَ زِدْهُ النُّونَ وَارْفَعْ وَخِفَّ وَالْـ ... ـمَلائِكَةُ المَرْفُوعُ يُنْصَبُ دُخْلُلا
لفظ بقراءة ابن كثير، وبيَّن ما فعل فيها فقال: زده النون؛ أي: زده النون الساكنة؛ لأن النون المضمومة موجودة في قراءة الباقين وارفع؛ يعني: اللام؛ لأنه صار فعلا مضارعا فوجب رفعه وخف؛ يعني: تخفيف الزاي؛ لأن قراءة الباقين بتشديدها على أنه فعل ماضٍ لما لم يسم فاعله وهو مطابق للمصدر الذي ختمت به الآية وهو تنزيلا، ومصدر قراءة ابن كثير إنزالا إلا أن كل واحد منهما يوضع موضع الآخر أنشد أبو علي:
وقد تطويت انطواء الخصب
وقال: حيث كان تطويت وانطويت يتقاربان حمل مصدر ذا على مصدر ذا، ولا حاجة إلى أن يقال الناظم: لم ينبه على إسكان النون ذهابا إلى أن المزيدة هي الأولى بل تجعل المزيدة هي الثانية وتخلص من الاعتراض ومن الجواب بأن خف ينبئ عن ذلك وبأن الزاي إذا خففت لم يكن بد من إسكان النون، فهب أن الأمر كذلك فمن أين تعلم قراءة الباقين أنها بالضم، وهو لم يلفظ بها.
فإن قلت: في التحقيق الزائدة هي الأولى؛ لأنها حرف المضارعة والثانية هي أول الفعل الماضي.
قلت: صحيح إلا أن الناظم لا يعتبر في تعريفه إلا صورة اللفظ ألا تراه كيف قال في يوسف: وثانٍ ننج احذف، فأورد الحذف على الثانية؛ ليصير الفعل ماضيا وإنما المحذوف حرف المضارعة فكذا هنا، ونصب ابن كثير الملائكة؛ لأنه مفعول وننزل ورفعه الباقون؛ لأنه مفعول ونزل ودخللا حال؛ لأن قبله: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} 1 فهو مداخله ومرافقه في اللفظ والمعنى.
923-
تَشَقَّقُ خِفُّ الشِّينِ مَعْ قَافَ "غَـ"ـالِبٌ ... وَيَأْمُرُ "شَـ"ـافٍ وَاجْمَعُوا سُرُجًا وِلا
يريد: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ، وفي سورة ق: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} 2 الأصل فيها تتشقق، فمن خفف حذف إحدى التاءين ومن شدد أدغم الثانية في الشين، قال أبو علي: قال أبو الحسن: الخفيفة أكثر في الكلام؛ لأنهم أرادوا الخفة فكان الحذف أخف عليهم من الإدغام فهذا معنى قوله: غالب؛ أي: تخفيف الشين فيه مع حرف قاف أكثر من تشديدها في اللغة، ثم قال: "ويأمر شاف" أراد: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} ؛ أي: بالغيب لإطلاقه والباقون بالخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- والياء إخبار عنه قال ذلك بعضهم لبعض وخاطبه بعضهم به، وقيل: {لِمَا تَأْمُرُنَا} المسمى بالرحمن وإن كنا لا نعرفه ثم قال: وأجمعوا سرجا؛ يعني: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} يقرؤه حمزة والكسائي بالجمع على إرادة الشمس والنجوم العظام، وقال الزجاج: أراد الشمس والقمر والكواكب العظام معهما،
__________
1 سورة الفرقان، آية: 25.
2 آية: 44.
(1/618)
________________________________________
قلت: فعلى هذا يكون قوله: بعد ذلك: {وَقَمَرًا مُنِيرًا} من باب قوله: {وَمَلائِكَتِِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} ، والإفراد للشمس كما جاء في سورة النبأ: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} ، وفي سورة نوح: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} 1.
وقيل: المراد بالسرج النجوم دون الشمس وهي المصابيح المذكورة في الآية الأخرى، فكأنه سبحانه أشار إلى ما يظهر في السماء ليلا، وهو القمر والنجوم، والقراءة بالإفراد تحتمل ذلك على إرادة الجنس كما في نظائره أو أراد به الشمس فيكون مجموع القراءتين الصحيحتين قد أفاد مجموع النجوم والقمرين "وولا" بالكسر وهو مفعول له أو حال؛ أي: لأجل المتابعة أو ذوي متابعة.
924-
وَلَمْ يَقْتِرُوا اضْمُمْ "عَمَّ" وَالكَسْرَ ضُمَّ "ثِـ"ـقْ ... يُضَاعَفْ وَيَخْلُدْ رَفْعُ جَزْمٍ "كَـ"ـذِي "صِـ"ـلا
أي: اضمم أوله وضم أيضا كسره وهو في الثاني، وإنما قال: في الثاني ضم الكسر، ولم يقل في الأول ضم الفتح؛ لأن الكسر ليس ضدًّا للضم والفتح ضده فالذين ضموا الثاني فتحوا الأول والذين ضموا الأول كسروا الثاني والباقن فتحوا الأول وكسروا الثاني وهم ابن كثير وأبو عمرو، قرءا من قتر يقتِر مثل ضرب، والكوفيون من قتر يقتُر مثل يقتل، ونافع وابن عامر من أقتر يُقتِر مثل أكرم يكرم، وكل ذلك لغات في تضييق النفقة، وقيل: أقتر خلاف أيسر يدل عليه على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وقال في معنى التضييق: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} فهذا من قتر وفي مضارعه لغتان؛ الكسر والضم مثل يعكفون ويعرشون، وقال أبو حاتم: لا وجه للإقتار ههنا، إلا أن يذهب به إلى أن المسرف يفتقر سريعًا، قال أبو جعفر النحاس: تعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، وتأول لهم أن المسرف يفتقر سريعا، قال: وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل لهم أن أبا عمرو الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق قتر يقتر ويقتر وقتر يقتر وأقتر يقتر، قال: فعلى هذا تتضح القراءة، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب متأولا وأشهر وأعرف، ومن أحسن ما قيل في معناه: قول أبي عبد الرحمن الجبلي من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. أما: "يضاعفُ له العذاب يوم القيامة ويخلدُ"، فالرفع فيهما على الاستئناف، والجزم على البدل مِن "يلق أثاما"؛ لأنهما في معنى واحد، وقوله: رفع جزم؛ أي: ذو رفع جزم فيهما، وقوله: "كذى صلا" في موضع الحال؛ أي: مشتهرا اشتهار ذي الصلاء؛ أي: موقد النار لقصد جمع الأصناف، أو يكون التقدير: كن كذي صلا؛ أي: تقرأ العلم لأضيافك وهم المستفيدون المستحقون لذاك.
925-
وَوَحَّدَ ذُرِّيَّاتِنَا "حِـ"ـفْظُ "صُحْبَةٍ" ... وَيَلْقَوْنَ فَاضْمُمْهُ وَحَرِّكْ مُثَقِّلا
يريد: "ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا" إفراد الذرية وجمعها ظاهران، وقد سبق مثلهما في الأعراف،
__________
1 آية: 16.
(1/619)
________________________________________
وأما: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً} فاضمم ياءه وافتح لامه وثقل قافه لغير صحبة من قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} وهو موافق لقوله: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} ، وقرأه صحبة من لَقِي يلقَى نحو: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} ، وقال في ضدهم: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} ، وهما ظاهران أيضًا، والله أعلم.
926-
سِوى "صُحْبَةٍ" وَاليَاءُ قَوْمِي وَلَيْتَنِي ... وَكَمْ لَوْ وَلَيْتٍ تُورِثُ الْقَلْبَ أَنْصُلا
سوى صحبة خبر قوله: ويلقون؛ أي: هو قراءة سوى صحبة، فحذف المضاف واعترض بين المبتدأ وخبره بقوله: فاضممه، وحرك مثقلا وحقه أن يتأخر وفيها من ياءات الإضافة ياءان: "إِنَّ قَوْمِيَ اتَّخَذُوا" فتحها نافع وأبو عمرو والبزي، "يَا لَيْتَنِيَ اتَّخَذْتُ" فتحها أبو عمرو وحده، ثم أن لفظ ليتني أذكر الناظم -رحمه الله- قصة الظالم الذي يعض على يديه يوم القيامة ويقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ} ، فيندم ويتأسف ويتمنى في وقت لا ينفعه ذلك، فتمم الناظم البيت بما بينه العقلاء على الاستعداد خوفا من وقوع مثل ذلك، وأنصلا جمع نصل؛ أي: تورث القلب ألما كألم وقوع النصول في القلب، فيقول المتندم المتأسف: لو أني فعلت كذا ولو أني ما فعلت، وهذه كلمة قد نهى الشرع عنها، ففي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أصابك شيء فلا تقل: لولا أني فعلت، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان"، وأضاف الناظم "كم" إلى حرفي: "لو" "وليت"، والمراد المرات المقولة بهذين اللفظين حكى لو بلفظها وأعرب ليت فخفضها ونونها؛ لأنه أجراهما ههنا مجرى الأسماء في الإخبار عنها، وقد استعمل الفصحاء ذلك فتارة حكوا وتارة أعربوا، قال أبو زيد الطائي:
ليت شعري وأين مني ليتٌ ... إن ليتًا وإن لوًّا عناءُ
وقال أبو تمام:
قولي نعم ونعم إن قلت واجبة ... قالت عسى وعسى جسرٌ إلى نعم
وأدخل بعضهم الألف واللام فقال:
والمرء مرتهن بسوف وليتني ... وهلاكه في السوف ثم الليت
وأفرد تورث وهو خبر عن اثنين اختصارا واستغناء بالخبر عن أحدهما نحو: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وأنث لفظ تورث باعتبار الكلمة ويجوز تذكيره باعتبار اللفظ والحرف.
(1/620)
________________________________________
سورة الشعراء:
927-
وَفِي حَاذِرُونَ الْمدُّ "مَـ"ـا"ثُـ"ـلَّ فَارِهِيـ ... ـنَ "ذَ"اعَ وَخَلْقُ اضْمُمْ وَحَرِّكْ بِهِ الـ"ـعُـ"ـلا
يريد: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} قيل: الحذِر والحاذر سواء، وقيل: الحذِر من طُبع على الحذر وقيل: المتيقظ، والحاذر الذي يحذر ما حدث أو المستعد كأنه أخذ حذره، ومعنى قوله: ما ثُلّ؛ أي: ما زال، من قولهم: ثللت الحائط إذا هدمته ويقال للقوم إذا ذهب عزهم: قد ثل عرشهم ثم قال: فارهين ذاع؛ أي: قرأه بالمد من قرأ "حاذرون"، وزاد معهم هشام يريد: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} ، وقيل: أيضا فارهين وفرهين سواء وقيل: فارهين حاذقين وفرهين أشرين أو كيسين أو فرحين، ثم قال: وخلق اضمم يريد: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} اضمم خاءه وحرك به؛ أي: حرك اللام بالضم وإنما احتاج إلى قوله: به؛ لأن مطلق التحريك هو الفتح فيصير خلق؛ أي: إن هذا إلا عادة الأولين يشيرون إلى الحياة والموت أو إلى دينهم أو إلى ما جاء به، كما قالوا عنه: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، وخَلْق بفتح الخاء وسكون اللام بمعنى كذب الأولين أو يكون إشارة إلى خلقهم،؛ أي: ما نحن إلا كالأولين في الحياة والموت، ثم رمز لمن ضم الخاء واللام، فقال العلا كما في ند في البيت الآتي، فالعلا مبتدأ وما بعده الخبر،؛ أي: ذو العلا كالذي في مكان ند أو كالذي في كرم أو أراد أنه خبر مبتدأ محذوف ذاك هو العلا والله أعلم.
928-
"كَـ"ـمَا "فِـ"ـي "نَـ"ـدٍ وَالأيْكَةِ اللامُ سَاكِنٌ ... مَعَ الْهَمْزِ وَاخْفِضْهُ وَفِي صَادَ "غَـ"ـيْطَلا
يريد: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} هنا وفي صاد قرأهما الحرميان وابن عامر "لَيْكة" بفتح اللام من غير همز وفتح التاء، وأجمعوا على الذي في الحجر والذي في ق أنها الأيكة بإسكان اللام وبعده همزة وبخفض التاء، وإنما خص ما في الشعراء وص بتلك القراءة،؛ لأن صورته في الرسم كذلك، واختارها أبو عبيد، وضعفها علماء العربية، قال أبو عبيد: لا أحب مفارقة الخط في شيء من القرآن إلا ما تخرج من كلام العرب وهما ليس بخارج من كلامها مع صحة المعنى في هذه الحروف، وذاك أنا وجدنا في بعض التفسير الفرق بين الأيكة وليكة، فقيل: ليكة هي اسم القرية التي كانوا فيها والأيكة البلاد كلها فصار الفرق فيما بينهما شبيها بفرق ما بين بكة ومكة، ورأيتهن مع هذا في الذي يقال له: الإمام مصحف عثمان مفترقات، فوجدت التي في الحجر والتي في ق: "الأيكة"، ووجدت التي في الشعراء والتي في صاد: "ليكة"، ثم أجمعت عليها مصاحف الأمصار كلها بعد فلا نعلمها إذا اختلفت فيها وقرأها أهل المدينة على هذا اللفظ الذي قصصنا؛ يعني: بغير ألف ولام ولا إجراء، هذه عبارته وليست سديدة؛ فإن اللام موجودة في "ليكة"، وصوابه بغير ألف وهمزة قال: فأي حجة تلتمس أكثر من هذا فبهذه نقرأ على ما وجدناه مخطوطا بين اللوحين.
قال أبو العباس المبرد في كتاب الخط: كتبوا في بعض المواضع: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} بغير ألف؛ لأن الألف تذهب في الوصل، ولذلك غلط القارئ بالفتح فتوهم أن "ليكة" اسم شيء وأن اللام أصل.
(1/621)
________________________________________
فقرأ "أصحاب لَيكة المرسلين" قال الفراء: نرى والله أعلم أنها كتبت في هذين الموضعين على ترك الهمزة فسقطت الألف؛ لتحريك اللام، قال مكي: تعقب ابن قتيبة على أبي عبيد فاختار الأيكة بالألف والهمزة والخفض، وقال: إنما كتبت بغير ألف على تخفيف الهمزة، قال: وقد أجمع الناس على ذلك؛ يعني: في الحجر وق، فوجب أن يلحق ما في الشعراء وص بما أجمع عليه فما أجمعوا عليه شاهد لما اختلفوا فيه، قال الزجاج: القراءة بجر "ليكة"، وأنت تريد الأيكة أجود من أن تجعلها ليكة وتفتحها؛ لأنها لا تنصرف؛ لأن "ليكة" لا تعرف، وإنما هو أيكة للواحد وأيك للجمع مثل أجمة وأجم والأيكة الشجر الملتف فأجود القراءات فيها الكسر وإسقاط الهمز؛ لموافقة المصحف ولا أعلمه إلا قد قرئ به قال النحاس: أجمع القراء على خفض التي في الحجر والتي في سورة ق فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذا كان المعنى واحدا، فأما ما حكاه أبو عبيد من أن "ليكة" اسم القرية التي كانوا فيها، وأن الأيكة اسم البلد كله فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر،؛ لأن أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه لا نعلم بين اللغة اختلافا أن الأيكة الشجر الملتف فما احتجاج بعض من احتج لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد "ليكة" فلا حجة له فيه، والقول فيه أن أصله الأيكة، ثم خففت الهمزة، فألقيت حركتها على اللام فسقطت فاستغنت عن ألف الوصل؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إلا الخفض كما تقول: مررت بالأحمر على تحقيق الهمزة ثم تخففها فتقول: بلحمر فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف ولم يجز إلا الخفض فكذلك لا يجوز في الأيكة إلا الخفض، قال سيبويه: واعلم أن كل ما لا ينصرف إذا أدخلته الألف واللام أو أضفته انصرف، قال: ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا، وقال أبو علي: قول من قال "ليكة"، ففتح التاء مشكل؛ لأنه فتح مع لحاق اللام الكلمة، وهذا في الامتناع كقول من قال: مررت بلحمر فيفتح الآخر مع لحاق لام المعرفة الكلمة، وقال: إنما كتبت "ليكة" على تخفيف الهمز والفتح لا يصح في العربية؛ لأنه فتح حرف الإعراب في موضع الجر مع لام المعرفة فهو على قياس من قال: "مررت بلحمر"، قال: ويبعد أن يفتح نافع ذلك مع ما قاله ورش.
قلت: يعني: أن ورشا مذهبه عنه نقل الحركة، وقد فعل ذلك في الحجر وق مع الخفض فكذا في الشعراء وص، وقال الزمخشري: قرئ أصحاب الأيكة بالهمز وتخفيفها، وبالجر على الإضافة وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب، وزعم أن "ليكة" بوزن ليلة اسم بلد فوهم قاد إليه خط المصحف، وإنما كتبت على حكم لفظ اللافظ كما تكتب أصحاب النحو؛ لأن "ولُولَى" على هذه الصورة؛ لبيان لفظ المخفف، وقد كتب في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة على أن "ليكة" اسم لا يعرف، وروي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتفٍّ وكان شجرهم الدوم قلت: يعني: فهذا اللفظ مطابق لحالهم، أما لفظ "ليكة" على أن تكون اللام فاء الكلمة وهي مركبة من لام وياء وكاف، فهذا شيء غير موجود في لسان العرب بل هذا التركيب مما أهملته، فلم يتلفظ به فهو مشبه بالحاء والدال المعجمتين مع الجيم فإنه مما نص عليه أهل اللغة أنه أهمل فلم تنطق به العرب ولكن لا وجه لهذه القراءة غير ذلك، قال الزجاج: أهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير أن اسم المدينة التي كان فيها شعيب "ليكة" قال ابن القشيري: قال أبو علي: لو صح هذا فلِمَ أجمع القراء على الهمز في قوله: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} في سورة الحجر؟ والأيكة التي ذكرت
(1/622)
________________________________________
ههنا هي التي ذكرت هناك، وقد قال ابن عباس: الأيكة الغيضة ولم يعبرها بالمدينة والبلد قال: وهذا الاعتراض مردود إذا ثبتت هذه القراءة، ولا يبعد أن تسمى بقعة ليكة ثم يعبر عن ذلك البقعة بالغيضة والأيكة؛ لكثرة أشجارها، وقال الخليل: الأيكة غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر، وقيل: الأيك شجر الدوم وهو المقل وهو أكثر شجر مدين، وقيل: بعث شعيب إلى مدين والأيكة وهما قريتان، قال صاحب الصحاح: من قرأ أصحاب الأيكة فهي الغيضة، ومن قرأ: "ليكة" فهي اسم القرية، ويقال: هما مثل بكة ومكة.
قلت: إنما قال ذلك تقليدا لما ذكره أبو عبيد، وإلا فلم يذكر في حرف الكاف فصلا للام ولا ذكره غيره فيما علمت، وقول الناظم: غيطلا منصوب على الحال من مفعول أخفضه؛ أي: مفسرا بذلك؛ لأن الغيطل جمع غيطلة وهي الشجر الكبير، وجعله الشيخ حالا من الفاعل فقال: اخفضه مفسرا أو متأولا ذلك بالغيطل،؛ أي: أنك في القراءة الأخرى إنما تتأوله بالبقعة، فقد صار للأيكة حالان حال هو فيها بقعة وحال هو فيها غيطلة فافعل ذلك به غيطلا.
929-
وَفِي نَزَّلَ التَّخْفِيفُ وَالرُّوحُ وَالأَمِيـ ... ـنُ رَفْعُهُما "عُـ"ـلْوٌ "سَمَا" وَتَبَجَّلا
يريد نزل به الروح الأمين فمع التخفيف رفع الروح؛ لأنه فاعل والأمين صفته ومع التشديد نصبهما على المفعولية، ويناسب التشديد ما قبله من قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وعلو بضم العين وكسرها: نقي السفل بضم السين وكسرها.
930-
وَأَنَثْ يَكُنْ لِلْيَحْصَبِي وَارْفَعَ ايَةً ... وَفَا فَتَوَكَّلْ وَاوُ "ظَـ"ـمْئانِهِ "حَـ"ـلا
يريد: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً} قرأ الجماعة بتذكير يكن ونصب آية على أنها خبر كان، واسمها أن يعلمه علماء بني إسرائيل؛ أي: أو لم يكن علم العلماء آية لهم على صدقك، وعلى قراءة ابن عامر قال الزمخشري: جعلت آية اسما وأن يعلمه خبرا، قال: وليست كالأولى؛ لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا، وقد خرج لها وجه آخر؛ ليتخلص من ذلك فقيل: في يكن ضمير القصة وآية أن يعلمه جملة واقعة موقع الخبر.
قال: ويجوز على هذا أن يكون لهم آية هي جملة لشأن وأن يعلمه بدل عن آية، ويجوز مع نصب الآية تأنيث يكن كقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} . قلت: ولكن لم يقرأ به، أما: "فتوكل على العزيز الرحيم" فرسم بالفاء في المدني والشامي، وبالواو في غيرهما، قال أبو علي: الوجهان حسنان، قال الشيخ: الواو عطف جملة على جملة، والفاء على أنه كالجزاء لما قبله، وقال الزمخشري: له محملان؛ في العطف أن يعطف على فقل أو فلا تدع، قلت: لا حاجة إلى جعلها عاطفة بل لها حكم قوله: فلا تدع فإن عصوك فهي في الجميع تفيد استئناف أمر غير ما تقدم والهاء في قول الناظم ظمآنه تعود إلى الفاء؛ لأن الفاء لما جعلت الواو مكانها هنا ظمئ المكان إليها، فقال: الواو أيضا خلت هنا والله أعلم.
(1/623)
________________________________________
931-
وَيَا خَمْسِ أَجْرِي مَعْ عِبَادِي وَلِي مَعِي ... مَعًا مَعْ أَبِي إِنِّي مَعًا رَبِّيَ انْجَلا
أضاف لفظ: "يا" إلى خمس وقصره ضرورة كما قصر لفظ: "فا" في البيت السابق في قوله: "وفا فتوكل" يريد: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا} في خمسة مواضع في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام فتحهن نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص، وأراد: "بعباديَ إنكم متبعون" فتحها نافع وحده. {مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فتحها حفص وحده. {وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فتحها حفص وورش. "عدو ليَ إلا"، "اغفر لأبيَ إنه" فتحهما نافع وأبو عمرو. "إنيَ أخاف" موضعان في قصة موسى وهود عليهما السلام، "ربيَ أعلم" في قصة شعيب -عليه السلام- فتح الثلاث الحرميان وأبو عمرو فتلك ثلاث عشرة ياء إضافة.
(1/624)
________________________________________
سورة النمل:
932-
شِهَابٍ بِنُونٍ "ثِـ"ـقْ وَقُلْ يَأْتِيَنَّنِي ... "دَ"نَا مَكُثَ افْتَحْ ضَمَّةَ الكَافِ "نَـ"ـوْفَلا
أراد: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} وقوله: بنون:؛ أي: بزيادة تنوين للكوفيين فيكون قبس صفة لشهاب؛ أي: مقبوس يقال: قبست نارا، وقيل: هو بدل ومن أضاف فهو من باب ثوب خز؛ لأن القبس الشعلة من النار، وكذلك الشهاب لكن الشهاب يطلق أيضا على الكوكب، وعلى كل أبيض ذي نور، فأضيف للبيان، وحكى أبو علي عن أبي الحسن أن الإضافة أكثر وأجود في القراءة كما تقول دار آجر وسوار ذهب قال: ولو قلت: سوار ذهب ودار آجر لكان عربيا إلا أن الأكثر في كلام العرب الإضافة، ثم قال: وقل: يأتينني دنا؛ أي: بزيادة نون أيضا فاستغني بقيد شهاب عن تقييده كما استغني في التخفيف والتثقيل بقيد المسألة الأولى عن الثانية نحو سكرت فاسعرت عن أولى ملاد وفي اللفظ ما ينبيء عن ذلك فهو فيهما من باب الإثبات والحذف، أراد: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} زاده ابن كثير نونا وهو نون الوقاية وقبلها نون التأكيد الشديدة، وقراءة الجماعة إما على إسقاط نون الوقاية أو على أن الفعل مؤكد بالنون الخفيفة ثم أدغمت في نون الوقاية، أما "مكث" ففتح الكاف منه وضمها لغتان، ويقوى الفتح أنكم ماكثون ماكثين فيه أبدا، ونوفلا حال من فاعل افتح وقد تقدم.
933-
مَعًا سَبَأَ افْتَحْ دُونَ نُونٍ "حِـ"ـمًى "هُـ"ـدًى ... وَسَكِّنْهُ وَانْوِ الْوَقْفَ "زُ"هْرًا وَمَنْدَلا
يريد: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأ} : {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ} 1، فهذا معنى قوله: "معا"؛ أي: هنا وفي سورة سبأ افتح الهمز من لفظ سبأ دون نون؛ أي: من غير تنوين؛ لأنه لا ينصرف، وحمى هدى حال وقراءة الباقين بالصرف كسروا الهمزة ونونوا وهما لغتان في لفظ سبأ وثمود الصرف وتركه نص سيبويه وغيره عليهما بناء على أنه يقصد بهما الحي أو القبيلة، وحسن لفظ الصرف هنا؛ ليناسب الكلمة التي بعده وهي قوله: "بنبأ" فهو أولى من صرف سلاسلا وقواريرا للتناسب على ما يأتي في موضعه، وروى قنبل إسكان الهمزة، وقرأ به ابن مجاهد عليه وقال: هو وهم وبين الناظم علته بقوله: وانو الوقف؛ أي: تكون واصلا بنية الوقف وهذا باب لو فتح لذهب الإعراب من كلام العرب واستوى الوقف والوصل ولكن يقع مثل هذا نادرا في ضرورة الشعر، قال مكي، الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي، وقوله: زهرا ومندلا حالان من فاعل سكنه أو مفعوله؛ أي: ذا زهر ومندل؛ أي: ذا طيب بمعنى طيبا؛ أي: خذه بقبول غير متكره له:
__________
1 سورة سبأ، آية: 15.
(1/625)
________________________________________
934-
أَلا يَسْجُدُوا رَاوٍ وَقِفْ مُبْتَلىً أَلا ... وَيا وَاسْجُدُوا وَأبْدَأْهُ بِالضَّمِّ مُوصِلا
أي: قراءة الكسائي بتخفيف "ألا" جعله حرف تنبيه نحو: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} 1، {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} 2. وتقدير البيتين: ألا يسجدوا قراءة راوٍ فيكون "يسجدوا" بعده كلمتين تقريرهما: يا اسجدوا بحرف النداء وفعل الأمر والمنادى محذوف؛ أي: يا قوم اسجدوا وهذه لغة فصيحة مشهورة كثيرة ومنها قول الشماخ:
ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجال
أي: يا صحابي اصبحاني إلا أنه لم يكتب في المصحف إلا على هذه الصورة بحذف ألا يا وحذف ألف الوصل من اسجدوا وحذف الألف من "يا" مطرد في رسم المصاحف نحو: "ينوح"، "يقوم" في يا نوح يا قوم، وحذفت ألف الوصل أيضا في نحو: "بسم الله" فلما اجتمعا في هذه الكلمة حذفا، ونظيرها في الرسم "يبنؤم" في يا ابن أم حذفت الألف من يا وألف الوصل من ابن فحصل من هذا أن الرسم احتمل ما قرأه الكسائي وما قرأ به غيره، واختار أبو عبيد قراءة الجماعة وقال؛ لأنها في بعض التفاسير: وزين لهم اشيطان أن لا يسجدوا قال: ومن قرأها بالتخفيف جعلها أمرا مستأنفا بمعنى: ألا يا أيها اسجدوا وهذا وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الجزء الذي كان من أمر ملكة سبأ وقومها ثم رجع بعد إلى ذكرهم والقراءة الأولى خبر يتبع بعضه بعضًا لا انقطاع فيه قال أبو علي: وهذا هو الوجه ولتجري القصة على سننها ولا يفصل بين بعضها وبعض بما ليس منها وإن كان الفصل بهذا النحو غير ممتنع؛ لأنه يجري مجرى الاعتراض وما يساد القصة، وكأنه لما قيل: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الآية قد دل هذا الكلام على أنهم لا يسجدون لله تعالى ولا يتدينون بدين فقال: ألا يا قوم أو يا مسلمون اسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض خلافا عليهم وحمدا لله مكان ما هداهم لتوحيده فلم يكونوا مثلهم في الطغيان والكفر قال الفراء: قرأها أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وحميد الأعرج مخففة على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فيضمر هؤلاء ويكتفي بقوله: يا وسمع بعض العرب يقول: ألا يا ارحمونا، ألا يا تصدقوا علينا، وحدثني الكسائي أن عيسى الهمداني قال: ما كنت أسمع الشيخة يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر وهي في قراءة عبد الله: "هلا تسجدوا" بالتاء فهذه حجة لمن خفف؛ لأن قولك: ألا تقوم بمنزلة قولك: قم، وفي قراءة أبي: "ألا يسجدون لله الذي يعلم سركم وما تعلنون"، قال: وهو وجه الكلام؛ لأنها سجدة ومن قرأ: "أن لا يسجدوا"، فشدد، فلا ينبغي لها أن تكون سجدة؛ لأن المعنى زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا، وقول الناظم: وقف مبتلا ألا يا أراد أن يبين هذه الكلمات المتصلة؛ لينفصل بعضها من بعض لفظًا كما هي منفصلة تقديرًا فقال: إذا ابتليت بالوقف؛ أي: اختبرت وسئلت عن ذلك على وجه الامتحان أو أراد بالابتلا الاضطرار؛ أي: إذا اضطررت إلى ذلك؛ لانقطاع نفس أو نسيان فلك أن تقف على ألا؛ لأنه عرف مستقل لا اتصال له بما بعده بخلافها إذا شددت في قراءة الجماعة على ما يأتي، ولك أن تقف على يا؛ لأنها حرف النداء والمنادى بها محذوف فهذا موضع الاختبار؛ لأن الياء متصلة بالفعل
__________
1 سورة يونس، آية: 62.
2 سور هود، آية: 54.
(1/626)
________________________________________
لفظًا وخطًّا، أما الوقف على ألا فلا يحتاج إلى الاختبار؛ إذ لا يخفى أنه كلمة وكذا الوقف على اسجدوا بل الوقف عليهما من باب الاضطرار لا الاختبار فلما كان قوله: مبتلا يحتمل الأمرين ذكر موجبهما على كل واحد من التقديرين، ونصب مبتلا على الحال وكذا ما بعده؛ لأن التقدير: قائلا: ألا ويا واسجدوا، ثم قال: وابدأه بالضم؛ أي: ابدأ اسجدوا بضم همزة الوصل؛ لأنه فعل أمر من المضارع المضموم الوسط كاخرج وادخل، فكما تضم الهمزة إذا ابتدأت: {ادْخُلُوا مِصْرَ} كذلك تضم في: "اسْجُدُوا" إذا ابتدأت بها، وغير الناظم من المصنفين لا يذكرون الوقف إلا على "ألا يا"؛ لأنه موضع الاختبار وفي شرح الغاية لابن مهران، روي عن الكسائي أنه وقف: "ألا يا"، وابتدأ اسجدوا قال: فإن صح ذلك فعلى طريق إظهار الأصل لا على طريق الاختبار في الوقف، كأنه قيل: له فعلا أثبت النون كما في: {أَلا يَتَّقُونَ} ، {أَلا تُقَاتِلُونَ} ، "ألا تجدون" فأخبرهم بأصل الكلمة، وقوله: موصلا حال من أوصلته؛ أي: بلغته؛ أي: مبلغا علم ذلك إلى من لا يعرفه، وذكر الشيخ فيه وجهين أحدهما أن معنى موصلا ناطقا بهمزة الوصل والثاني في حال وصلك؛ أي: إنه ليس بابتداء تستمر عليه إنما أنت تبتدي للضم للاختبار، ثم تصله بما قبله تاليا، قلت: فهي على هذا المعنى حال مقدرة إلا أن في استعمال موصلا بهذا المعنى نظرًا، وقد سبق التنبيه عليه في باب الهمزتين من كلمة وفي سورة البقرة؛ لأنه بمعنى واصلا ثَم.
935-
أَرَادَ أَلا يَا هؤُلاءِ اسْجُدُوا وَقِفْ ... لَهُ قَبْلَهُ وَالغَيْرُ أَدْرَجَ مُبْدِلا
أي: أراد الكسائي هذا التقدير: وقد سبق شرحه، ثم قال: وقف له؛ أي: للكسائي قبله؛ أي: قبل ألا يسجدوا؛ أي: يجوز لك الوقف على: {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} ؛ إذ لا تعلق لما بعده به، ثم قال: والغير أدرج؛ أي: غير الكسائي أدرج "يهتدون" مع "ألا يسجدوا"، ولم يقف قبله، وجعله بدلا من أعمالهم أو من السبيل على زيادة لا فقوله: مبدلا بفتح الدال مفعول أدرج؛ أي: أدرج لفظا مبدلا أو حال من المفعول؛ أي: أدرجه في حال كونه مبدلا مما قبله ثم ذكر وجها آخر فقال:
936-
وَقَدْ قيل: مَفْعُولًا وَإِنْ أَدْغَمُوا بِلا ... وَلَبْسَ بِمَقْطُوعٍ فَقِفْ يَسْجُدُوا وَلا
أي: أدرج مفعولا وفي نصب مفعول الوجهان المقدمان؛ إما مفعول به وإما حال؛ أي: أعرب: {أَلَّا يَسْجُدُوا} بأنه مفعول، واختلفت في ذلك فقيل: هو مفعول به؛ أي: فهم لا يهتدون أن يسجدوا ولا زائدة، وقيل: هو مفعول له؛ أي: زين لهم لئلا يسجدوا أو قصدهم لئلا يسجدوا، وهذا الوجه والأول الذي هو بدل من أعمالهم يكون فيه لا غير زائدة بخلاف البدل من السبيل والنصب بيهتدون، فهي فيهما زائدة فلا يجوز في قراءة الجماعة الوقف على يهتدون؛ لأجل هذا التعلق على الوجوه الأربعة بخلاف قراءة الكسائي فلا تعلق لها بما قبلها، وهذا كله يقال؛ إظهارًا لمعاني الكلام وتعريفا بتعلق بعضه ببعض؛ ليتدرب فيه الطالب وإلا فالمختار عندنا جواز الوقف على رءوس الآي مطلقة.
قال: وإن أدغموا بلا؛ يعني: أن ألا أصلها أن لا فأدغمت النون في اللام إدغاما واجبا؛ لسكونها على ما عرف
(1/627)
________________________________________
في باب النون الساكنة فمن ثم جاء التشديد.
ثم قال: وليس بمقطوع؛ يعني: لم يفصل بين الحرفين في الرسم فلم يكتب أن لا بل لم تكتب النون صورة أصلا بل كتبت على لفظ الإدغام فلأجل ذلك احتمل الرسم قراءة الكسائي وقراءة الجماعة، وهي "أن" الناصبة للفعل ولا بعدها للنفي أو زائدة على ما تقرر من المعاني.
ثم قال: فقف يسجدوا؛ يعني: أنه ليس لك أن تقف في الابتلاء ثلاث وقفات كما ذكرنا للكسائي؛ لأن تلك المواضع كل كلمة مستقلة بمقصودها؛ لأن إلا أفادت الاستفتاح ويا مع المنادى المحذوف أفادت الندا.
ثم قال: اسجدوا وهو أمر تام، وههنا إن وقفت على "ألا" كنت قد وقفت على أن الناصبة دون منصوبها، فلا يتم الكلام إلا بقوله: يسجدوا وههنا إشكالان: الأول أن ظاهر قوله: أن لا وقف للجماعة إلا على يسجدوا فإن أراد وقف الاختيار فذاك في آخر الآية، وإن أراد وقف الاضطرار جاز على ألا، وهذا هو المنقول قد صرح به جماعة من المصنفين.
قال ابن الأنباري: من قرأ بالتثقيل: وقف على "ألا"، وابتدأ "يسجدوا" وهو ظاهر كلام صاحب التيسير؛ فإنه قال: الكسائي "ألا يسجدوا" بتخفيف اللام ويقف "ألا يا" ويبتدئ "اسجدوا" على الأمر؛ أي: ألا يا أيها الناس اسجدوا والباقون يشددون اللام؛ لاندغام النون فيها ويقفون على الكلمة بأسرها.
وقال شيخه أبو الحسن ابن غلبون: لا ينبغي أن يتعمد الوقف والابتداء ههنا؛ لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض من حيث الندا وخطابه، فلا يفصل بعضه من بعض.
قال: ولا يجوز الوقف للباقين إلا على آخر الآية وإن انقطع نفس القارئ لهم على "ألا" رجع إلى أول الكلام فإن لم يفعل ابتدأ يسجدوا بالياء مفتوحة قال الأهوازي: يقفون عليه ألا ويبتدئون يسجدوا كما في الكتاب.
وقال صاحب الروضة: الوقف عليه قبيح، فإن وقف واقف عليه مضطرًا ابتدأ بـ "يسجدوا" كما يصل.
وقال ابن الفحام: يبتدئ بياء معجمة الأسفل في أول الفعل.
وجواب هذا الإشكال أن الناظم استغنى عن ذكر الوقف على "ألا"؛ لظهور الأمر فيه فلم يكن لهم عنده إلا منع الوقوف على "أن" من "ألا"، فمنع ذلك بقوله: وليس بمقطوع ثم اهتم بمنع فصل الياء من "يسجدوا" كما فعل الكسائي فقال فقف: يسجدوا وضاق عليه البي فلم يتمكن من التنصيص على التفاصيل كلها، ويجوز أن يكون الناظم ما أراد بقوله: وليس بمقطوع إلا أن هذا اللفظ متصل في قراءة الجماعة الياء مع السين؛ لأنها حرف المضارعة بخلافها في قراءة الكسائي؛ فإنها مفصولة منها تقديرًا؛ لأنها من حرف النداء من الفعل.
الإشكال الثاني: لم كان حذف النون من أن في الخط مانعا من الوقوف على هذه الكلمة للجماعة ورد النون في الوقف.
فإن قلتَ: لأنها لم ترسم فالألف من يا لم ترسم في "يسجدوا"، وقد وقف الكسائي عليها، وجوابه: أن النون من "أن" صارت لامًا للإدغام والألف من يا حذفت، ولم تتعوض لفظا آخر فعادت في الوقف.
فإن قلتَ: وقف حفص على اللام من:
(1/628)
________________________________________
{بَلْ رَانَ} 1، وهي اللفظ راء؛ لإدغامها في الراء، وكذا النون في: {مَنْ رَاقٍ} 2.
قلتُ: سببه أن اللام والنون رسمتا ولو رسمت هنا لفعل مثل ذلك والله أعلم.
وقول الناظم في آخر البيت: وَلا؛ هو بفتح الواو؛ أي: ذا ولاء؛ أي: نصر؛ أي: ناصرا للقراءة أن منصورا بها؛ لوضوحها وعدم الكلفة في تقريرها؛ لأن ما يضاف إلى المصدر يكون تارة في المعنى فاعلا وتارة مفعولا كما أن المصدر يضاف مرة إلى فاعله وتارة إلى مفعوله.
937-
وَيُخْفُونَ خَاطِبْ يُعْلِنُونَ "عَـ"ـلَى "رِ"ضًا ... تَمِدُّونَنِي الإِدْغامُ "فَـ"ـازَ فَثَقَّلا
يريد: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قرأهما الكسائي بالخطاب بناء على قراءته بالأمر بالسجود على من قص عليه حكايتهم، وقراءة حفص على ابتداء المخاطبة كما ابتدأها الكسائي في ألا يا اسجدوا، وقراءة الباقين بالغيب فيهما ظاهرة، وقوله: على رضا؛ أي: كائنا على رضا من ناقليه له وإن كان علا فعلا فرِضى تمييز أو حال؛ أي: علا رضاه أو على ذا رضى، أما: {أَتُمِدُّونَن بِمَالٍ} ففيه نونان، فجاز الإدغام كما في: "أتحاجوني" والإظهار الأصل وعليه الرسم، قال أبو عبيد: إنما هو نونان في كل المصاحف، وقوله: الإدغام؛ أي: ذو الإدغام فيه؛ أي: قارئه فاز فثقلا:
938-
مَعَ السُّوقِ سَاقَيها وَسُوقِ اهْمِزُوا "زَ"كا ... وَوَجْهٌ بِهَمْزٍ بَعْدَهُ الوَاوُ وُكِّلا
يريد: {بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} ، و {كَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} : {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} 3، وسوق في الموضعين جمع ساق، فوجه الهمز في الجميع إن الواحد مهموز وإن لم يكن الواحد مهموزا فوجهه إن كان على وزن فعل ضمة الواو كما قالوا: أقتت في: وقتت ثم أسكن تخفيفا، وإن كان على وزن فعل فوجهه مجاورة الضمة للواو كما تقدم في عادا لولى، أما الهمز في المفرد فقيل: هو لغة كهمز رأس وكأس وقيل: أجري على الجمع تابعًا له، وقيل: من العرب من يقلب حرف المد همزة كما يقلب الهمزة حرف مد ومن ذلك همز العجاج والعالم والخاتم ومنه همز: {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} كما سبق فاعلم أن وجه همز الجمع أقوى من همز المفرد، قال أبو علي: أما الهمز في ساق فلا وجه له، أما على سوقه وبالسوق فهمز ما كان من الواوات الساكنة إذا كان قبلها ضمة قد جاء في كلامهم وإن لم يكن بالفا شيء زعم أبو عثمان أن أبا الحسن أخبره: قال أبو حية النميري بهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة، وينشد:
لحب المؤقدان إليّ مؤسى
قال ابن مجاهد: همز ابن كثير وحده: {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} في رواية أبي الإخريط ولم يهمز غيره، وكذلك بالسوق وسوقه وهكذا قرأت على قنبل عن النبال، وحدثني مضر بن محمد عن ابن أبي بزة قال: كان
__________
1 سورة المطففين، آية: 14.
2 سورة القيامة، آية: 27.
3 سورة الفتح، آية: 29.
(1/629)
________________________________________
وهب بن واضح يهمز ذلك وأنا لا أهمز من ذلك شيئا، وكذلك ابن فليح لا يهمز من هذا شيئا قال: ولم يهمز أحد: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ، ولا وجه للهمز في ذلك، والصواب بلا همز، ثم زاد الناظم ذكر وجه ليس في التيسير يختص بالجمع وهو بواو بعد همز سؤوق على وزن فعول ويهمز الواو الأولى؛ لانضمامها في نفسها، قال ابن مجاهد: وقال علي بن نصر عن أبي عمرو: سمعت ابن كثير يقرأ: "بالسؤوق" بواو بعد الهمز، قال أبو بكر: رواية أبي عمرو عن ابن كثير هذه هي الصواب من قبل أن الواو انضمت فهمزت؛ لانضمامها، والأول لا وجه له لم يذكر ابن مجاهد هذا الوجه إلا في حرف ص، ولم ينقله في حرف الفتح، ونقله صاحب الروضة في ص على وجه آخر فقال: روى بكار عن ابن مجاهد عن قنبل بالسؤق بضم الهمزة، وروى نظيف عن قنبل بهمزة ساكنة، وكذا قال ابن الفحام، رواه الفارسي عن ابن مجاهد من طريق ابن بكار عن قنبل بهمزة مضمومة، وقال ابن رضوان في كتاب الموضح روى بكار عن ابن مجاهد ضم الهمز، وإثبات واو بعدها من قوله تعالى: "بِالسُّوقِ" فيصير اللفظ فيها مثل بالسعوق، وكذا قال صاحب "الشمس المنيرة" والشيخ أبو محمد وقالا في قوله: بالسوق خاصة: يعني: في ص دون التي في الفتح وأظن من عبر بهمزة مضمومة، ولم يذكر الواو أراد مع الواو؛ لأن مرجع الجميع إلى نقل ابن مجاهد وابن مجاهد صرح في كتاب السبعة له في سورة ص بأنه بواو بعد الهمزة ولم يخصص الناظم بهذا الوجه حرف ص ولكن لم أر من ذكره في حرف الفتح والله أعلم ولا بعد في ذلك؛ فإنه قد خصص ساقيها بالهمز دون: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} 1، {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} 2.
وأما قراءة الجماعة من غير همز فواضحة؛ لأن وزن ساق فعل بفتح العين فجمع على فعل بإسكانها كأسد وأسد:
939-
نَقُولَنَّ فَاضْمُمْ رَابِعًا وَنُبَيِّتَنْـ ... ـنَهُ وَمَعًا فِي النُّونِ خَاطِبْ "شَـ"ـمَرْدَلا
أراد: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ} فالنون عبارة عنهم، والتاء خطاب بعضهم لبعض، وقوله: اضمم رابعا؛ أي: الحرف الرابع في الكلمتين وهو اللام والتاء وإنما وجب ضمه؛ لأن كل واحد من الفعلين خطاب لجماعة، والأصل "تقولون"، "وتبيتون" بضم اللام والتاء فلما لحقت الفعل نون التأكيد حذفت الواو؛ لالتقاء الساكنين، ومثله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ، وعلى القراءة بالنون الفعلان لا واو فيهما؛ لأنهما نقول ونبيت فلما اتصلت بها دون التأكيد بنى أحدهما على الفتح نحو: "لنصدقن"، و"لنخرجن معكم"، والفاء في: فاضمم زائدة، رابعا مفعول لاضمم إن كان تقولن مبتدأ وإن كان تقولن مفعول اضمم فرابعا تمييز؛ لأنه تبيين لأي الحروف بضم أو بدل البعض نحو اضرب زيدا ظهرا؛ أي: اضرب ظهره ونبيتنه عطف على نقولن، ومعا حال فيهما؛ أي: وخاطب فيهما معًا في موضع النون؛ أي: ائت بتاء الخطاب عوضا عن نون المتكلمين وحركتهما حركة النون فهي في "نقولن" مفتوحة؛ لأنه مضارع فعل ثلاثي وهو قال، وفي نبيتنه مضمومة؛ لأنه مضارع فعل رباعي وهو نبيت، وشمردلا حال من فاعل خاطب أو مفعول به؛ أي: خاطب من يسرع إلى إجابتك ويخف في قضاء حاجتك، وحصل في ضمن ذلك المقصود من تقييد القراءة والتعريف بها والله أعلم.
__________
1 سورة القيامة، آية: 29.
2 سورة القلم، آية: 42.
(1/630)
________________________________________
940-
وَمَعْ فَتْحِ أَنَّ النَّاسِ مَا بَعْدَ مَكْرِهِمْ ... لِكُوفٍ، أما يُشْرِكُونَ "نَـ"ـدٍ "حَـ"ـلا
يريد: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} والذي بعد مكرهم: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} ؛ أي: ومع فتح هذا الذي بعد مكرهم؛ أي: فتحهما الكوفيون أما: "أن الناس" فعلى تقدير: تكلمهم بأن الناس؛ أي: بهذا الكلام والكسر حكاية قول الدابة، ويجوز أن يكون على القراءتين من كلام الله تعالى مستأنفا على الكسر وتعليلا على الفتح؛ أي: لكونهم كانوا لا يوقنون بالآيات أخرجنا لهم هذه الآية العظيمة الهائلة تخاطبهم بأن هذا مؤمن وهذا كافر ونحو ذلك، أما كسر أنا دمرناهم فعلى الاستئناف والفتح على تقدير؛ لأنا أو هو خبر كان أو بدل من عاقبة أو خبر مبتدأ؛ أي: هي أنا والخلاف في أما يشركون بالغيب والخطاب ظاهر والرمز لقراءة الغيب لأنه أطلقها كأنه قال والغيب فيه تدخلوا والله أعلم.
941-
وَشَدِّدْ وَصِلْ وَامْدُدْ بَلِ ادَّارَكَ "ا"لَّذِي ... "ذَ"كا قَبْلَهُ يَذَّكَّرُونَ "لَـ"ـهُ "حُـ"ـلا
أي: شدد الدال وصل الهمزة؛ أي: اجعلها همزة وصل وامدد بعد الدال ثم لفظ بالقراءة التي قيدها فالقراءة الأخرى بقطع الهمزة وقد سبق أن همزة القطع في الماضي لا تكون إلا مفتوحة وبتخفيف الدال وهو هنا سكونها، ولا يلزم من التخفيف السكون ولكن لظهوره تسامح بعدم ذكره وبترك المد فيبقى أدرك مثل أدغم ولو أنه لفظ بالقراءتين كان أسهل فيقول: وبل أدرك اجعله بل ادَّارك الذي، ومعنى أدرك بلغ وانتهى وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وقراءة الباقين أصلها: تدارك؛ أي: تتابع فأدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل؛ لأن الأول صار ساكنا، ومثله: "اثاقلتم"، "اطيرنا بك"، وحكم همزة الوصل كسرها في الابتداء بها وحذفها في الوصل فتكسر اللام من بل؛ لالتقاء الساكنين ولام بل ساكنة في قراءة أدرك إذ لم يلقها ساكن، وفي هذه الكلمة أيضا عشر قراءات غير هاتين القراءتين ذكرها أبو القاسم الزمخشري في تفسيره ثم قال قبله يذكرون أن قبل: {بَلِ ادَّارَكَ} "قليلا ما يذكرون" قرأه بالغيب أبو عمرو وهشام وفهم ذلك من الإطلاق والباقون بالخطاب ووجههما ظاهر والله أعلم.
942-
بِهَادِي مَعًا تَهْدِي "فَـ"ـشَا العُمْيِ نَاصِبًا ... وَبِاليَا لِكُلٍّ قِفْ وَفِي الرُّومِ "شَـ"ـمْلَلا
يريد: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} هنا وفي آخر الروم يقرؤه حمزة "تهدي" فيلزم نصب العمي؛ لأنه مفعوله وهو مجرور في قراءة غيره؛ لأنه مضاف إليه وتقدير البيت فشا تهدي في موضع بهادي في حال كونه ناصبا للعمى والقراءتان ظاهرتان.
وقال الشيخ: صاحب الحال: فشا؛ لأنه يريد به حمزة ثم قال: وبالياء لكل قف؛ أي: في حرف النمل سواء في ذلك من قرأ بهادي ومن قرأ تهدي؛ لأنها رسمت بالياء.
ثم قال: وفي الروم شمللا؛ أي: ووقف بالياء في حرف الروم حمزة والكسائي على الأصل وحذفها الباقون؛ لأنها لم ترسم، وهذا الموضع مما يشكل على المتبدئ، فيظن أن الوقوف بالياء في الموضعين للكل وأن قوله: وفي الروم
(1/631)
________________________________________
شملل؛ أي: قرأ الكسائي وحمزة في الروم بما قرأ به حمزة وحده في النمل وهو: {تَهْدِي الْعُمْي} وليس كذلك لقوله في أول البيت: معا قال ابن مجاهد: كتب بهادي العمي بياء في هذه السورة على الوقف، وكتب الذي في الروم بغير ياء على الوصل، وقال خلف: كان الكسائي يقف عليهما بالياء.
وقال مكي: هذا الحرف في المصاحف بالياء، والذي في الروم بغير ياء، ووقف عليهما حمزة والكسائي بالياء وهو مذهب شيخنا؛ يعني: أبا الطيب ابن غلبون، قال وقد روي عن الكسائي أنه وقف عليهما بغير ياء ووقف الباقون ههنا بالياء وفي الروم بغير ياء اتباعا للمصحف ولا ينبغي أن يتعمد الوقف عليهما؛ لأنه ليس بتمام ولا قطع كاف لا سيما الذي في الروم؛ لأنه كتب بغير ياء على نية الوصل فإن وقفت بياء خالفت السواد وإنما ذكرنا مذاهب القراء في الوقف عند الضرورة فأما على الاختيار فلا وكذلك ما شابه هذا فاعلمه.
943-
وَآتُوهُ فَاقْصُرْ وَافْتَحِ الضَّمَّ "عِـ"ـلْمُهُ ... فَشا تَفْعَلُونَ الْغَيْبُ "حَقٌّ لَـ"ـهُ وَلا
يريد: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} هو بالمد جمع آت مضاف إلى الهاء كما في سورة مريم: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 1.
وهو كقولك:عابدوه وداعوه وأتوه بالقصر وفتح التاء فعل وفاعل ومفعول نحو رموه وقضوه، والغيب والخطاب في "بما يفعلون" ظاهران.
944-
وَمَا لِي وَأَوْزِعْنِي وَإِنِّي كِلاهُما ... لِيَبْلُوَنِي اليَاءَاتُ فِي قَوْلِ مَنْ بَلا
الياءات خبر قوله: "وما لي" وما بعده؛ أي: هذه ياءات الإضافة التي في هذه السورة، وبلا بمعنى اختبر؛ أي: قل ذلك في جواب من اختبرك وسألك عنها، فالقول مصدر أضيف إلى المقول له وهو المفعول، والمصدر كما يضاف إلى فاعله يضاف إلى مفعوله، ويجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل؛ أي: عرفت هذا من يريد أن يختبر غيره بها وهي خمس ياءات: {مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ} فتحها ابن كثير وعاصم والكسائي وهشام. "أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ" فتحها ورش والبزي. "إِنِّيَ آنَسْتُ" فتحها الحرميان وأبو عمرو. "إنيَ ألقي"، "ليبلونيَ أأشكر" فتحهما نافع وحده، وفيها زائدتان: "أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ" أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو وفي الحالين ابن كثير وحمزة، وقد سبق أن حمزة يدغم النون الأولى في الثانية: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} أثبتها مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف قالون وحفص وأبو عمرو بخلاف عنهم في الوقف وفتحها في الوصل وحذفها في الوقف ورش. وقلت في ذلك:
وفيها فما آتاني الله قبله ... تمدونني زيدًا فلا تك مغفلا
__________
1 آية: 95.
(1/632)
________________________________________
سورة القصص:
945-
وَفِي نُرِي الفَتْحَانِ مَعْ أَلِفٍ وَيَا ... ئِهِ وَثَلاثٌ رَفْعُهَا بَعْدَ "شُـ"ـكِّلا
الفتحان في الراء والحرف الذي قبلها والألف بعد الراء والياء مكان النون وهي الحرف الذي قبل الراء فيصير اللفظ: ويرى، ويلزم من ذلك رفع الكلم الثلاث التي بعدها على الفاعلية وهي: "فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَجُنُودُهُمَا"، وفي القراءة الأخرى الثلاث منصوبة على المفعولية، ويجوز في ويائه الجر عطفا على ألف، ويجوز وياؤه بالرفع عطفًا على الفتحان، ومعنى شكل صور والقراءة بالنون المضمومة وكسر الراء وفتح الياء توجد من تلفظ الناظم بها لا من ضد ما ذكره ووجه القراءتين ظاهر.
946-
وَحُزْنًا بِضَمِّ مَعْ سُكُونٍ "شَـ"ـفَا وَيَصْـ ... ـدُرَ اضْمُمْ وَكَسْرُ الضَّمِّ "ظَـ"ـامِيهِ "أَ"نْهَلا
قيد في حزنا ما لفظ به ليأخذ ضده للقراءة الأخرى وضد الضم والسكون معا الفتح فيهما فالحُزْن والحَزَن لغتان مثل العُجْم والعَجَم والعُرْب والعَرَب والبُخْل والبَخَل قرئ بهما ههنا في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ، وأجمعوا على الفتح في: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} 1، وفي: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} 2، وعلى الضم في: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} 3، {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} 4. وادعى بعضهم أن الضم يكون في المرفوع والمجرور والفتح في الذي ظهر فيه النصب، أما: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} فأراد ضم يائه وكسر داله فيكون مضارع أصدر والمفعول محذوف؛ أي: يصدر الرعاء مواشيهم ويصدر بفتح الياء وضم الدال من صدر وهو فعل لازم، والصدر الانصراف وأصدرت الماشية صرفتها، وإنما يصدرونها بعد ريها فلهذا قال ظاميه أنهلا ويعني بالظامئ الذي ظمئت ماشيته؛ أي: عطشت أو يكون إشارة إلى حال موسى -عليه السلام- فإنه كان حينئذ ظمآن ذا تعب وجوع وقد سقى المواشي وهو ظمآن منهل؛ أي: ساق النهل وهو الشرب الأول.
__________
1 سورة فاطر، آية: 34.
2 سورة التوبة، 82.
3 سورة يوسف، آية: 84.
4 سورة يوسف، آية: 86.
(1/633)
________________________________________
947-
وَجِذْوَةٍ اضْمُمْ "فُـ"ـزْتَ وَالْفَتْحُ "نَـ"ـلْ وَ"صُحْـ ... ـبَةٌ كَـ"ـهْفُ ضَمِّ الرَّهْبِ وَاسْكِنْهُ "ذُ"بَّلا
جميع ما في هذا البيت من القراءات لغات، والأكثر على كسر الجيم وضمها حمزة وفتحها عاصم، وأخذت قراءتهم من ضد الفتح ويقال أيضا جذيه بالياء وفي الجيم الحركات الثلاث، وقال أبو عبيد: القطعة الغليظة من الخشب كأن في طرفها نارا، ولم تكن، والرهب: الخوف قرأه حفص بفتح الراء وإسكان الهاء وأبو بكر وحمزة والكسائي وابن عامر بضم الراء وإسكان الهاء، والباقون بفتحهما؛ لأن الفتح ضد الضم والإسكان المطلق، ويجوز ضمهما لغة، ووصل الناظم همزه وأسكنه ضرورة وذلك جائز؛ أنشد أبو علي:
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا ... يابا المغيرة رب أمر مفصلِ
قال: وهذا النحو في الشعر غير ضيق، وذبل جمع ذابل وهي الرماح، ونصبه على الحال؛ أي: ذا ذبل يشير إلى الحجج والأدلة والله أعلم.
948-
يُصَدِّقُنِي ارْفَعْ جَزْمَهُ "فِـ"ـي "نُـ"ـصُوصِهِ ... وَقُلْ قَالَ مُوسَى وَاحْذِفِ الوَاوَ "دُ"خْلُلا
الجزم على جواب "أرسله معي" والرفع على أنها جملة في موضع الحال؛ أي: أرسله مصدقا وإنما قال ارفع جزمه؛ لأن الجزم ليس ضدا للرفع وإن كان الرفع ضدا للجزم ومثله ما سبق في الفرقان: "يضاعف"، و"يخلد" رفع جزم والواو من: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ} محذوفة من المصحف المكي دون غيره، فلهذا أسقطها ابن كثير وأثبتها غيره، ودخللا حال من: قال موسى؛ أي: هي بحذف الواو مداخل لما قبله وهو: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا} ، ولو قال الناظم موضع دخللا: دم ولا؛ أي: ذا ولا لكان أولى؛ لأنه لم يأتِ بواو فاصلة بين هذه المسألة والتي بعدها، وقد افتتح البيت الآتي بالرمز في كلمتين فالكلمة الأولى وهي نما مترددة بين أن تكون تابعة لما في هذا البيت أو لما بعدها بل نما نفر بجملته يجوز أن يكون من تتمة رمز قال موسى، ويكون رمز يرجعون ما بعده وهو ثق الذي هو رمز سحران فيكون للكوفيين الحرفان كنظائر له سبقت والله أعلم.
949-
"نَـ"ـمَا "نَفَرٌ" بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ يَرْجِعُو ... نَ سِحْرَانِ "ثِـ"ـقْ فِي سَاحِرَانِ فَتُقْبَلا
نما؛ أي: نقل فالمعنى: نقل جماعة يرجعون بضم الياء وفتح الجيم على بناء الفعل للمفعول، والباقون بفتح الياء وكسر الجيم على بناء الفعل للفاعل وقد سبق نظيرهما، يريد: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} ، وقرأ الكوفيون: "قالوا سحران تظاهرا"، والباقون ساحران يعنون موسى وهارون وقيل: ومحمدا صلوات الله عليهم أجمعين وسحران كذلك على حذف مضاف؛ أي: كل واحد منهما ذو سحر، وقيل: عنى بذلك التوراة والقرآن، ونصب فتقبلا على جواب الأمر بقوله: ثق والله أعلم.
950-
وَيَجْبَى خَلِيطٌ يَعْقِلُونَ "حَـ"ـفِظْتُهُ ... وَفِي خُسِفَ الفَتْحَيْنِ حَفْصٌ تَنَخَّلا
(1/634)
________________________________________
الخلاف في: {يُجْبَى إِلَيْهِ} بالتذكير والتأنيث ظاهر؛ لأن تأنيث الثمرات غير حقيقي، ومعنى قوله: خليط؛ أي: مألوف معروف ليس بغريب؛ أي: تذكير يجبى خليط لم يؤنثه سوى نافع، أما: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، فقرأه أبو عمرو وحده بالغيب وغيره بالخطاب وهما أيضا ظاهران، أما لخسف بنا فقرأه على بناء الفعل للفاعل حفص على معنى لخسف الله بنا وقرأ غيره على بناء الفعل للمفعول بضم الخاء وكسر السين، ومعنى تنخلا اختار حفص في خسف الفتحين؛ يعني: فتح الخاء والسين ولم يذكر قراءة الباقين ولا يؤخذ من الضد إلا كسر السين، أما ضم الخاء فإن الضم ضد الجزم، ونظير القراءتين هنا: {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} 1 في المائدة وعبارته هناك جيدة وم استحق افتح لحفص وكسره وكأنه أشار هنا بالفتحين إلى قراءته هناك، أو إلى قوله في أول السورة وفي "نرى" الفتحان فإنهما فتحا ضم وكسر فكذا في خسف والله أعلم.
951-
وَعِنْدِي وَذُو الثُّنْيا وَإِنِّي أَرْبَعٌ ... لَعَلِّي معًا رَبِّي ثَلاثٌ مَعِي اعْتَلا
فيها اثنتا عشرة ياء إضافة: "عنديَ أولم يعلم" فتحها نافع وأبو عمرو، واختلف فيها عن ابن كثير: "سَتَجِدُنِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ" فتحها نافع وحده وهي التي عبر عنها بقوله: وذو الثنيا؛ أي: واللفظ المصاحب للثنيا والثنيا الاسم من الاستثناء وإنما عبر عنها بذلك؛ لأن بعدها إن شاء الله وهذا اللفظ يطلق عليه علماء الشريعة وغيرهم لفظ الاستثناء باعتبار أصل اللغة؛ لأنها ثبت اللفظ المعلق بها عن القطع بوقوع موجبه وفي الحديث: "إذا حلف الرجل فقال: إن شاء الله فقد استثنى"، وقد تقدم في باب ياءات الإضافة التعبير عنها بقوله: وما بعده إن شاء، وإنما لم ينص عليها بلفظها كما فعل في أخواتها؛ لأنها لفظة لا يمكن أن تدخل في وزن الشعر أصلا؛ لاجتماع خمس حركات فيها متوالية، ثم قال: وإني أربع؛ أي: أربع كلمات فتارة يؤنث هذه الألفاظ باعتبار الكلمات كقوله: بعده ربي ثلاث، وتارة يذكر باعتبار اللفظ كقوله: وذو الثنا وذلك على حسب ما يؤاتيه نظمه أراد: "إِنِّيَ آنَسْتُ"، "إِنِّيَ أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"، "إِنِّيَ أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ" فتح الثلاث الحرميان وأبو عمرو. "إِنِّيَ أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ"، فتحها نافع وحده. "لعليَ آتيكم"، "لعليَ أطلع" فتحهما الحرميان وأبو عمرو وابن عامر. "عَسَى رَبِّيَ أَنْ يَهْدِيَنِي"، "ربيَ أعلم بمن"، "ربيَ أعلم من" فتح الثلاث الحرميان وأبو عمرو. {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} فتحها حفص وحده، وقوله في آخر البيت: اعتلا هو خبر، وعندي وما بعده أي: اعتلا المذكور في تبين ياءات الإضافة في هذه السورة، وكان الواجب على هذا التقدير: نصب أربعًا وثلاثًا على الحال؛ أي: اعتلا هذا وذا في حال كونهما على هذا العدد كما قال في آخر سورة هود: "وياءاتها عني وإني ثمانيا"، وإن جعل إني أربع مبتدأ وخبر وكذا ربي ثلاث احتاج كل واحد من هذه الألفاظ إلى خبر فَيَرِكّ الكلام، ويكثر الإضمار فلا حاجة إلى ذلك، وفيها زائدة واحدة: "يُكَذِّبُونِ" قال: "سنشد" أثبتها في الوصل ورش وحده، وقلت في ذلك:
وواحدة فيها تزاد يكذبو ... ن قال وما شيء إلى سبأ تلا
أي: لم يبق شيء من الزوائد إلى سورة سبأ، وتلا بمعنى تبع ما تقدم من ياءات الزوائد، والله أعلم.
__________
1 آية: 16.
(1/635)
________________________________________
سورة العنكبوت:
952-
يَرَوْا "صُحْبَةٌ" خَاطِبْ وَحَرِّكْ وَمُدَّ فِي النْـ ... ـنَشَاءة "حَقًا" وَهْوَ حَيْثُ تَنَزَّلا
أي: تروا قراءة صحبة، فحذف المضاف للعلم به، ثم بيَّن القراءة ما هي فقال: خاطب؛ أي: بالخطاب ولو لم يبينها لما حملت إلا على ضد الخطاب وهو الغيب؛ لإطلاقه، يريد: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} وجه الخطاب أن قبله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} ، ووجه الغيبة: {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} والنشأة بإسكان الشين والقصر على وزان الرأفة والرحمة والنشاءة بفتح الشين والمد على وزان الكآبة كلاهما لغة، وقد حُكي فتح همزة الرأفة، ومدها أيضا ولغة القصر أقوى، قال أبو عبيد: هي اللغة السائرة والقراءة المعروفة، قال أبو علي: حكى أبو عبيد النشأة لم يذكر الممدود، قال: وهو في القياس كالرأفة والرآفة والكأبة والكآبة، قال مكي: وهو مصدر من غير لفظ "ينشئ"، والتقدير: ثم الله ينشئ الأموات فينشئون النشأة الآخرة، وقوله: وهو حيث تنزلا؛ يعني: هنا وفي سورتي النجم والواقعة: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ} ، {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} 1.
قال صاحب التيسير: ووقف حمزة على وجهين في ذلك؛ أحدهما: أن يلقي حركة الهمزة على الشين ثم يسقطها طردًا للقياس والثاني أن يفتح الشين، ويبدل الهمزة ألفا اتباعا للخط قال: ومثله قد سمع من العرب والله أعلم.
953-
مَوَدَّةً المَرْفُوعُ "حَـ"ـقُّ "رُ"وَاتِهِ ... وَنَوِّنْهُ وَانْصبْ بَيْنَكُمْ "عَمَّ صَـ"ـنْدَلا
رفع مودة على أنها خبر "إن" إن كانت ما موصولة؛ أي: إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا ذو مودة بينكم وإن كانت "ما" كافة فمودة خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي مودة بينكم أو مبتدأ والخبر "في الحياة الدنيا"، ومن نصب مودة فلا يكون "ما" في "إنما" إلا كافة ونصبها على أنها مفعول من أجله، ويكون اتخذ على هذا الوجه وعلى قراءة الرفع متعديا إلى مفعول واحد نحو: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ} 2.
ويجوز أن يكون مودة ثاني مفعولي: "اتخذوا أيمانهم جنة"، و"بينكم" بالنصب ظرف منصوب بالمصدر الذي هو مودة، ويجوز أن يكون صفة له؛ أي: مودة كائنة بينكم، وخفض "بينكم" بالإضافة إلى مودة المنصوبة والمرفوعة على وجه الاتساع في الظروف نحو: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} 3.
__________
1 سورة الواقعة، آية: 62.
2 سور البقرة، آية: 81.
3 سورة المائدة، آية: 11.
(1/636)
________________________________________
والمعنى على ما تعطيه قراءة النصب ولم يقرأ أحد برفع مودة ونصب بينكم ولو قرئ لجاز وإنما كل من رفع مودة خفض بينكم وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ومن نصب مودة اختلفوا فمنهم من خفض بينكم أيضا وهم حمزة وحفص ومنهم من نصبهما معا وهو نافع وابن عامر وأبو بكر ولا يستقيم النصب إلا بتنوين مودة وكل من خفض بينكم أسقط التنوين من مودة لأجل الإضافة سواء في ذلك من رفع ومن نصب، وقد سبق معنى صندلا في سورة الأنعام، ونصبه هنا على التمييز أو الحال على تقدير ذا صندل يشير إلى حسنه وطيبه والله أعلم.
954-
وَيَدْعُونَ "نَـ"ـجْمٌ "حَـ"ـافِظٌ وَمُوَحِّدٌ ... هُنَا آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ "صُحْبَةٌ دَ"لا
أي: قراءة نجم حافظ والعالم يعبر عنه بالنجم للاهتداء به أراد: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} ، فالغيب فيه والخطاب ظاهران، فالغيبة تعود إلى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا} والخطاب لهم، أما التوحيد والجمع في: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} فقد تقدم مثلهما مرارًا، وموحد خبر مقدم، و"آية من ربه" مفعول به، وصحبة مبتدأ وقد سبق معنى دلا، وذكر الخبر ولفظ دلا مفرد باعتبار لفظ صحة؛ لأنه مفرد ويجوز أن يكون موحد مبتدأ وصحبة فاعله على رأي من يقول اسم الفاعل غير معتمد والله أعلم.
955-
وَفِي وَنَقُولُ اليَاءُ "حِصْنٌ" وَيُرْجَعُ ... نَ "صَـ"ـفْوٌ وَحَرْفُ الرُّومِ "صَـ"ـافِيهِ "حُـ"ـلِّلا
يرد: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، التاء والنون فيه ظاهرتان، وقد سبق لهما نظائر، والغيب في قوله: "ثم إلينا يرجعون"؛ لأن قبله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} ، والخطاب لقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} والذي في الروم: {ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1.
وقيد الناظم بقوله: الياء؛ لأن ضده النون، وأطلق يرجعون؛ لأن ضده الخطاب، ولا يجوز أن يكون استغنى عن تقييد يرجعون بالياء بتقييد يقول كما قال في سورة النساء ويا سوف يؤتيهم عزيز وحمزة سنؤتيهم؛ لأن الضد ثم في القراءتين متحد وهو النون وهنا اختلف الضد فالقراءة بالغيب لا يقيدها بالياء أبدا إنما بطلقها ويقول بالغيب، وهذا من دقاق ما اشتمل عليه هذا النظم فاعرفه وما أحسن قوله: صافيه حللا؛ أي: كثير الحلول فيه لأجل صفائه.
956-
وَذَاتُ ثَلاثٍ سُكَّنَتْ بَا نُبُوِّئَنْـ ... ـنَ مَعْ خِفِّهِ وَالْهَمْزُ بِاليَاءِ "شَـ"ـمْلَلا
أي: باء قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} فقصر لفظ "با" ضرورة وهو مبتدأ وذات ثلاث خبره مقدم عليه أي
__________
1 آية: 11.
(1/637)
________________________________________
صارت ذات ثلاث نقط وإذا نقطت صورة الباء بثلاث صارت ثاء وقوله: سكنت صفة لذات ثلاث كما تقول: هند امرأة حسنة؛ أي: هذه الباء ثاء ساكنة والهاء في خفة تعود على لفظ نبوئن أراد تخفيف الواو وهو مشكل فإن في لفظ نبوئن حرفين مشددين؛ الواو والنون وليس في تشديد النون خلاف والواو في قوله: والهمز واو الحال؛ أي: صار ثاء ساكنة مع خفة الواو في حال كون الهمزة أسرع بالياء؛ أي: أتى بالياء في مكانه؛ أي: أبدل الهمز ياء فصارت القراءة؛ لنثوينهم من الثواء وهو الإقامة قال الزجاج: يقال ثوى الرجل إذا أقام وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه، قال الفراء: وكل حسن بوأته وأثويته منزلا سواء معناه أنزلته، قال الزمخشري: ثوى غير متعدٍّ فإذا تعدى بزيادة همزة النقل لم يتجاوز مفعولا واحدًا نحو ذهب وأذهبته، والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين، وإلى الغرف إما إجراؤه مجرى لننزلهم ونبوئنهم أو حذف الجار واتصال الفعل أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم:
قلت: فهذا جواب ما روي عن اليزيدي أنه قال: لو كان لنثوينهم لكان في غرف، واختار أبو عبيد القراءة الأخرى لإجماعهم على التي في النحل: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} 1.
قال: لا نعلم الناس يختلفون فيه فهذا مثله وإن كان ذاك في الدنيا وهذا في الآخرة، فالمعنى فيهما واحد، قال: ورأيت هذا الحرف الذي هو في العنكبوت في الذي يقال له الإمام مصحف عثمان بالياء معجمة.
قلت: وهذا بعد ما نقطت المصاحف، وكثر هذا اللفظ في القرآن نحو: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} 2، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} 3، وقال: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} 4، وقال: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} 5، وقال: {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} 6.
وقيل: لفظ الثواء لائق بأهل الآخرة هي دار القرار وروي عن الربيع بن خيثم أنه قرأها كذلك، وقال: الثواء في الآخرة والتبوة في الدنيا، وقد قال الله تعالى في حق الكفرة: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} 7، وهو في آخر هذه السورة فناسب أن يقال للمؤمنين نحو ذلك في الجنة وقال سبحانه وتعالى:
__________
1 آية: 41.
2 سورة يونس، آية: 93.
3 سورة الحج، آية: 26.
4 سورة يوسف، آية: 56.
5 سورة الزمر، آية: 74.
6 سورة يونس، آية: 87.
7 سورة العنكبوت، آية: 68.
(1/638)
________________________________________
{وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} 1.
أي: مقيما عندهم مستمرا بين أظهرهم والله أعلم.
957-
وَإِسْكَانُ وَلْ فَاكْسِرْ "كَـ"ـمَا "حَـ"ـجَّ "جَـ"ـا "نَـ"ـدىً ... وَرَبِّي عِبَادِي أَرْضِيَ أَلْبَابِهَا انْجَلا
يعني كسر لام "وليتمتعوا"، وقد تقدم في الحج أن لام الأمر يجوز كسرها وإسكانها وهي معطوفة على "ليكفروا" وهي أيضا لام الأمر بدليل إسكان ما عطف عليها وهو أمر تهديد نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، وقيل: الأولى لام كي والثانية لام الأمر، ونظير ذلك قوله تعالى في النحل: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا} 2.
قال أبو عبيد: إنما يجوز هذا لو كانت فليتمتعوا بالفاء؛ لأن الفاء قد يستأنف بها الخبر، وإنما معنى الواو والعطف فكيف يترك العطف، ويرجع إلى الأمر والفاء في قوله: فاكسر زائدة وفيها ثلاث ياءات إضافة: "مهاجر إلى ربيَ إنه" فتحها نافع وأبو عمرو. "يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا" أسكنها حمزة والكسائي وأبو عمرو. "إِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ" فتحها ابن عامر وحده.
__________
1 سورة القصص، آية: 45.
2 سورة النحل آية: 55.
(1/639)
________________________________________
من سورة الروم إلى سورة سبأ:
إنما ذكر هذا الترجمة على هذه الصورة؛ لأنه لم يتمحض بيت لآخر سورة من هذه السور الأربع، فإن آخر ما يتعلق بالروم قوله: وينفع كوفي فتمم البيت بذكر رحمة التي من لقمان، ثم ذكر البحر من لقمان مع أخفى من سورة السجدة، ثم ذكر لما صبروا من سورة السجدة مع يعملون من سورة الأحزاب، في بيت وكل موضع جمع فيه سورا في ترجمة فهذا سببه، وسيأتي إن شاء الله تعالى:
958-
وَعَاقِبَةُ الثَّانِي "سَمَا" وَبِنُونِهِ ... نُذِيقُ "زَ"كَا لِلْعَالَمِينَ اكْسِرُوا "عُـ"ـلا
يريد: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} هذا هو الثاني المختلف في رفعه ونصبه، والأول لا خلاف في رفعه وهو: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، فوصف عاقبة وهو مؤنث بالثاني على تأويل وهذا اللفظ الثاني وإنما لم ينونه؛ لأنه حكى لفظه في القرآن وهو غير منون؛ لأنه مضاف إلى الذين، واعتذر الشيخ عن كونه لم ينونه بأنه حذف التنوين؛ لالتقاء الساكنين أو أراد "وعاقبة" الموضع الثاني ولا حاجة إلى هذا الاعتذار فالكلمة نفي القرآن لا تنوين فيها، وقد قال بعد هذا يذيق ذكا بالنصب فأي عذر لنصبه، لولا أنه حكى لفظه في القرآن، وهو لنذيقهم بعض الذي عملوا وهو ملبس بقوله تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} ، ولم يقيد القراءة في عاقبة، وكان ذلك إشارة إلى رفعها لمدلول سما والباقون بنصبها فهي إن رفعت اسم كان وإن نصبت خبرها، والسوأى بعد ذلك هو الخبر أو الاسم وهو كناية عن العذاب وهو تأنيث الأسوأ، وإن كذبوا على تقدير: لأن كذبوا، ويجوز أن يكون السوأى مصدر كالرجعى والبشرى؛ أي: أساءوا الإساءة الشنيعة وهي الكفر أو نعتا لموصوف محذوف؛ أي: أساء والخلال السوأى والخبر أو الاسم قوله: أن كذبوا، ومعنى الذين أساءوا؛ أي: أشركوا، والتقدير: ثم كان عاقبة المسيء التكذيب بآيات الله تعالى؛ أي: لم يظفر في كفره وشركه بشيء إلا بالتكذيب بآيات الله، ويجوز أن يكون السوأى هو الخبر أو الاسم لا على المعنى المتقدم بل على تقدير الفعلة السوأى ثم بينها بقوله: أن كذبوا فيكون أن كذبوا عطف بيان أو بدلا، ويجوز على هذا التقدير: على قراءة الرفع أن لا يكون للسوأى خبرا بل معنى أساءوا السوأى؛ أي: فعلوا الخطيئة السوأى وخبر كان محذوف إرادة الإبهام؛ ليذهب الوهم إلى كل مكروه كل هذه الأوجه منقولة وهي حسنة وقيل: يجوز أن تكون إن في قوله: أن كذبوا مفسرة بمعنى؛ أي: كذبوا، وهذا فيه نظر فإن من شرط أن المفسرة أن يأتي بعدها فعل في معنى القول ثم قال، وبنونه نذيق؛ أي: ونذيق زكا وهي نون العظمة وقراءة الباقين بالياء؛ أي: ليذيقهم الله وكسر حفص اللام من قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} جعله جمع عالم واحد العلماء وكما قال تعالى في آية أخرى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} 1.
وفي موضع آخر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2.
__________
1 سورة العنكبوت، آية: 43.
2 سورة النمل، آية: 52.
(1/640)
________________________________________
وفتح الباقون اللام جعلوها جمع عالم؛ أي: لكافة الناس وعلا حال؛ أي: ذو علا:
959-
لِيَرْبُوا خِطَابٌ ضُمَّ وَالوَاوُ سَاكِنٌ ... "أَ"تَى وَاجْمَعُوا آثَارِ"كُمْ" "شَـ"ـرَفًا "عَـ"ـلا
أي: ذو خطاب مضموم؛ يعني: تاء مضمومة.
وقال الشيخ: يجوز أن يكون ضم أمرا.
قلت: خطاب على هذا التقدير: يكون حالا؛ أي: ضم لتربوا ذا خطاب فكان الواجب نصبه؛ أي: "وما أتيتم من ربا لتربوا" أنتم سكنت الواو؛ لأنها واو الضمير في تربون وحذفت النون للنصب وهذه قراءة نافع وحده، وقراءة الباقين على الغيب بياء مفتوحة وواو منصوبة؛ لأنه فعل مضارع خال من ضمير بارز مرفوع، فظهر النصب في آخره والتقدير: ليربوا ذلك الربا.
وأما: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} فالإفراد فيه والجمع سبق لهما نظائر مثل: رسالته ورسالاته وكلمة وكلمات وذرية وذريات الإفراد يراد به الجنس ووجه الجمع ظاهر ومعنى كم شرفا علا كم علا شرفا والمميز محذوف؛ أي: كم مرة وقع ذلك والله أعلم.
960-
وَيَنْفَعُ كُوفِيٌّ وَفِي الطُّولِ "حِصْنُهُ" ... وَرَحْمَةً ارْفَعْ "فَـ"ـائِزًا وَمُحَصِّلا
يريد: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} وفي غافر: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} 1.
تذكير الفعل في ذلك وتأنيثه ظاهران من قبل أن لفظ معذرة مؤنث ولكنه تأنيث غير حقيقي ونافع أنث هنا، وذكر في سورة الطور جمعا بين اللغتين، أما "ورحمة" في أول لقمان فهي معطوفة على هدى وهدى في موضع نصب على الحال أو المدح أو في موضع رفع على تقدير هو هدى ورحمة أو خبر بعد خبر؛ أي: تلك هدى ورحمة أو يكون هدى منصوبا ورحمة مرفوعا؛ أي: وهو رحمة والله أعلم.
961-
وَيَتَّخِذَ المَرْفُوعُ غَيْرُ "صِحَابِهِـ"ـمْ ... تُصَعِّرْ بِمدٍّ خَفَّ "إِ"ذْ "شَـ"ـرْعُهُ "حَـ"ـلا
يريد: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} النصب عطف على ليضل والرفع على يشتري أو على الاستئناف والهاء في يتخذها لآيات الكتاب أو للسبيل وتقدير البيت قراءة غير صحابهم على حذف مضاف وصاعر خده وصعره واحد كضاعف وضعف ومعناهما الإعراض عن الناس تكبرا والصعر الميل في الخد خاصة وقوله: خف ليس صفة للمد ولكنه خبر بعد خبر؛ لأن الخف في العين؛ أي: تصاعر ممدود خفيف.
__________
1 آية: 52.
(1/641)
________________________________________
963-
وفي نعمة حرك وذكر هاؤها ... وَضُمَّ وَلا تَنْوِينَ "عَـ"ـنْ "حُـ"ـسْنٍ "ا"عْتَلا
يريد: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} حرك؛ أي: افتح العين، وذكر هاؤها؛ أي: جعلت هاء الضمير التي للمذكر المفرد في مثل: {أَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} 1، وليست هاء تأنيث ثم قال: وضم؛ أي: وضم ذلك الهاء ولا تنوين؛ لتأخذ بضد ذلك للقراءة الأخرى وهي التي لفظ بها فحاصل الخلاف أن هذا الحرف يقرأ بالإفراد والجمع كنظائر له سلفت وقوله: {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} صفة لنعمة في قراءة الإفراد، وحال في قراءة الجمع، وقد قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 2 لم يختلف في افراده.
963-
سِوَى ابْنِ العَلا وَالبَحْرُ أُخْفِى سُكُونُهُ ... "فَـ"ـشا خَلْقَهُ التَّحْرِيكُ "حِصْنٌ" تَطَوَّلا
والبحر مبتدأ خبره سوى ابن العلا على تقدير قراءة غير أبي عمرو؛ فأبو عمرو وحده نصبه عطفا على اسم "أن"؛ أي: ولو أن البحر يمده والرفع على وجهين منقولين ذكرهما الزجاج والزمخشري وغيرهما.
أحدهما: أنه مبتدأ ويمده الخبر والجملة في موضع الحال.
والثاني: أن يكون عطفا على موضع "إن" واسمها وخبرها؛ لأن الجميع في موضع رفع؛ لأنه فاعل فعل مضمر؛ أي: ولو وقع ذلك والبحر ممدودا بسبعة أبحر فيمده على هذا الوجه حال من البحر، وهذا العطف جائز بلا خلاف، وإنما الممتنع العطف محل على اسم أن المفتوحة فقط دون محل المجموع منها ومن اسمها وخبرها، وإنما يجوز العطف بالرفع على محل الاسم فقط مع "إن" المكسورة والفرق أن اسم المفتوحة بعض كلمة في التقدير: بخلاف اسم المكسورة، فمهما وقعت المفتوحة في موضع رفع جاز العطف بالرفع على محل المجموع منها ومن اسمها وخبرها كما أن العطف على محل المكسورة إنما كان من أجل ذلك، وعليه يحمل قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 3؛ لأن أن وما بعدها مبتدأ ورسوله عطف عليه، {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ} خبر مقدم عليه، وقد سبق تقرير هذا الفصل في سورة المائدة، ولذلك قال أبو عبيد: الرفع هنا حجة لمن قرأ التي في المائدة: "العينُ بالعينُ" رفعا فكذلك كان يلزم أهل هذه القراءة أن يرفعوا تلك، أما: "فلا تعلم نفس ما أخفى" بفتح الياء فعلى أنه فعل ماضٍ
__________
1 سورة الفجر، آية: 15.
2 سورة سيدنا إبراهيم، آية: 34.
3 سورة التوبة، آية: 3.
(1/642)
________________________________________
وبسكونها هو فعل مضارع مسند إلى المتكلم سبحانه. وأما: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} بفتح اللام فعل أن يكون جملة واقعة صفة لشيء قبله، فيكون في موضع خبر، ويجوز أن يكون صفة لقوله: {كُلِّ شَيْءٍ} فتكون في موضع نصب وإذا سكنت اللام بقي لفظه مصدرًا ونصبه على البدل من كل شيء أو هو منصوب على أنه مصدر دل عليه ما تقدم من قوله: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فكأنه قال: خلق كل شيء، فهو من باب اقتران المصدر بغير فعله اللفظي ولكن بما هو في معناه، والهاء في خلقه على هذا تعود إلى الله تعالى.
964-
لَمَا صَبَرُوا فَاكْسِرْ وَخَفِّفْ "شَـ"ـذًا وَقُلْ ... بِما يَعْمَلُونَ اثْنانِ عَنْ وَلَدِ العَلا
أي: اكسر اللام وخفف الميم فالمعنى لصبرهم كما قال في الأعراف: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 1؛ أي: بصبرهم والقراءة الأخرى "لَمَّا" بفتح اللام وتشديد الميم؛ أي: حين صبروا، وقوله: شذا؛ أي: ذا شذاء، وقرأ أبو عمرو: {بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2 في أول الأحزاب، وبعده: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، إِذْ جَاءُوكُمْ} 3 بالغيب فيهما، والباقون بالخطاب، ووجههما ظاهر فهذا معنى قوله: بما يعملون اثنان، وفي سورة الفتح أيضا اثنان: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، بَلْ ظَنَنْتُمْ} 4، {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 5.
والخلاف في الثاني كما يأتي في موضعه، والأول بتاء الخطاب أجماعا والله أعلم.
965-
وَبِالْهَمْزِ كُلُّ الَّلاءِ وَالياءِ بَعْدَهُ ... "ذَ"كَا وَبِياءٍ سَاكِنٍ "حَـ"ـجَّ "هُـ"ـمَّلا
أي: حيث جاء: هنا: "وما جعل أزواجكم اللاءِ" وفي المجادلة: {إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} 6.
__________
1 سورة الأعراف، آية: 137.
2 سورة الأحزاب، آية: 2.
3 سورة الأحزاب، آية: 9 و10.
4 آية: 11 و12.
5 آية: 24 و25.
6 آية: 2.
(1/643)
________________________________________
وفي الطلاق: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} ، {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} 1.
قرأ الجميع الكوفيون وابن عامر بهمزة بعدها ياء ساكنة اللائي على وزن القاضي والداعي فهذا هو أصل الكلمة؛ أي: كل اللاء بالهمز والياء بعده، ويجوز والياء بالرفع على الابتداء، ثم ذكر أن أبا عمرو والبزي قرأ بياء ساكنة من غير همز فكأنهما حذفا الهمز، وبقيت الياء الساكنة إلا أنهم لا يوجهون هذه القراءة بهذا إنما يقولون: حذفت الياء؛ لتطرفها كما تحذف من القاضي ونحوه ثم أبدل من الهمزة ياء ساكنة، وهذه القراءة على هذا الوجه ضعيفة؛ لأن فيها جمعا بين ساكنين فالكلام فيها كما سبق في: "مَحْيَايَ" في قراءة من سكن ياء وشبهه جوز ذلك ما في الألف من المد، ولكن شرط جواز مثل هذا عند أئمة اللغة المعتبرين أن يكون الساكن الثاني مدغما، ولا يرد على هذا: "ص"، "ن"، "ق"؛ لأن أسماء حروف التهجي موضوعة على الوقف والوقف يحتمل اجتماع الساكنين، فإن وقف على: "مَحْيَايَ" أو اللائي فهو مثله وإنما الكلام في الوصل، أما إجازة بعضهم اضربان واضربنان بإسكان النون والتقت حلقتا البطنان بإثبات الألف فشاذ ضعيف عندهم والله أعلم، وقوله: حج هملا؛ أي: غلبهم في الحجة، وقد تقدم شرح هملا في باب ياءات الإضافة في قوله: إلا مواضع هملا وهو جمع هامل، والهامل البعير المتروك بلا راعٍ؛ أي: غلب في الحجة قوما غير محتفل بهم يشير إلى تقوية الإسكان وأنه له ضعف.
966-
وَكَاليَاءِ مَكْسُورًا لِوَرْشٍ وَعَنْهُمَا ... وَقِفْ مُسْكِنًا وَالْهَمْزُ "زَ"اكِيهِ "بُـ"ـجِّلا
أي: وسهل ورش الهمزة بين بين، وهو المراد بقوله: كالياء مكسورا؛ لأنها صارت بين الهمزة والياء المكسورة وهذا قياس تخفيفها؛ لأنها همزة مكسورة بعد ألف، وهذه القراءة مروية عنهما؛ أي: عن أبي عمرو والبزي وهو وجه قوي لا كلام فيه ذكره جماعة من الأئمة المصنفين كصاحب الروضة قال قرأ أبو عمرو وورش والبزي، وذكر غيرهم بتليين الهمزة من غير ياء بعدها، وهو ظاهر كلام ابن مجاهد؛ فإنه قال: قرأ ابن كثير ونافع "اللاء" ليس بعد الهمزة ياء، وقرأ أبو عمرو شبيها بذلك غير أنه لا يهمز، وكذا قال أبو عبيد: قرأ نافع وأبو عمرو "اللاء" مخفوضة غير مهموزة ولا ممدودة، ونص مكي على الإسكان ولم يذكر صاحب التيسير غيره لهما، وقال في غيره: قرأت على فارس بن أحمد بكسر الياء كسرة مختلسة من غير سكون، وبذلك كان يأخذ أبو الحسين بن المنادي وغيره وهو قياس تسهيل الهمز قال الشيخ، وقد قيل: إن الفراء عبروا عن التليين لهؤلاء بالإسكان.
قالوا: وإظهار أبي عمرو في: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} مما يدل على أنه تليين وليس بإسكان.
قلتُ: قد سبق في باب الإدغام الكبير تقرير هذا، وذكر أبو علي الأهوازي الوجهين عنهما.
قوله: وقف مسكنا؛ أي: مسكنا للياء لهؤلاء؛ لأن الوقف يحتمل اجتماع الساكنين، قال في التيسير: وإذا وقف؛ يعني: ورشا صيرها ياء ساكنة قال وحمزة إذا وقف جعل الهمزة بين بين على
__________
1 آية: 4.
(1/644)
________________________________________
أصله: ومن همز منهم ومن لم يهمز أشبع التمكين للألف في الحالين إلا ورشا؛ فإن المد والقصر جائزان في مذهبه لما ذكرناه في باب الهمزتين.
قلت: هو ما نظمه الشاطبي -رحمه الله- بقوله:
وإن حرف مد قبل همز مغير ... ...................
ثم ذكر أن قنبلا وقالون قرأ بالهمز من غير ياء بعده، فإذا وقفا أسكنا الهمز وفي قراءة أبي عمرو والبزي من المد والقصر مثل ما في قراءة ورش والله أعلم.
967-
وَتَظَّاهَرُونَ اضْمُمْهُ وَاكْسِرْ لِعاصِمٍ ... وَفِي الْهَاءِ خَفِّفْ وَامْدُدِ الظَّاءَ "ذُ"بَّلا
أي: اضمم التاء واكسر الهاء لعاصم، وهو داخل أيضا في رمز من خفف الهاء ومد الظاء وخففها كما في البيت الآتي فقراءة عاصم: "تُظاهرون" مضارع ظاهر مثل قاتل، وقرأ ابن عامر: "تَظاهرون" على اللفظ الذي في بيت الناظم وهو مضارع تظاهر مثل تقاتل، والأصل تتظاهرون، فأدغم التاء في الظاء وقرأ حمزة والكسائي مثله إلا أنهما خففا الظاء؛ لأنهما حذفا الياء التي أدغمها ابن عامر، وقرأ الباقون: {تُظْهِرُونَ} بتشديد الظاء والهاء من تظهر مثل تكلم وأدغموا التاء في الظاء.
968-
وَخَفَّفَهُ "ثَـ"ـبْتٌ وَفِي قَدْ سَمِعْ كَمَا ... هُنَا وَهُناكَ الظَّاءُ خُفِّفَ "نَـ"ـوْفَلا
أي: خفف الظاء قارئ ثبت وهم الكوفيون وفي قد سمع الله موضعان حكمهما ما ذكر هنا إلا أن الظاء تم لم يخففه إلا عاصم وحده؛ لأنه يقرأ يظاهرون من ظاهر ولم يخفف الظاء حمزة والكسائي؛ لأنه لم يجتمع تاءان فتحذف الثانية منهما؛ لأن موضعي سورة قد سمع فعلهما للغيبة لا للخطاب الذين يظهرون منكم والذي يظاهرون من نسائهم، ولكن أدغما التاء في الظاء كما يقرأ ابن عامر والنوفل: السيد المعطاء ونصبه على الحال؛ أي: ذا نوفل؛ أي: قارئ سيد.
969-
وَ"حَقُّ صِحَابٍ" قَصْرُ وَصْلِ الظَّنُونِ وَالرَ ... سُولَ السَّبِيَلا وَهْوَ فِي الوقَفْ "فِـ"ـي "حُـ"ـلا
أي: قصروا هذه الكلمات الثلاث في الوصل وهي: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} ، وبعده: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} رسمت هذه الثلاثة بالألف هنا، ولم ترسم في قوله: {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} ، وإثبات الألف في تلك المواضع؛ لتشاكل الفواصل وهو مطلوب مراعًى في أكثر القرآن، وقد يندر في بعض السور ما لا يشاكل ومنه: {أَنْ لَنْ يَحُورَ} 1.
__________
1 سورة الانشقاق، آية: 14.
(1/645)
________________________________________
في سورة الانشقاق فإنه بغير ألف بعد الراء: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 1 بالهمز وكذا: "بِالْخَاطِئَةِ"2 في الحاقة، و"خاطئة"3 في اقرأ كلتاهما مهموز، وأنا أختار ترك الهمز في هذه الثلاثة على قراءة حمزة في الوقف؛ لتشاكل الفواصل، ثم قال: وهو في الوقف -أي: والقصر في الوقف- لحمزة وأبي عمرو فهما يقصران وقفا ووصلا على الأصل، ومد نافع وابن عامر وشعبة في الحالين تبعًا لخط المصحف وابن كثير والكسائي وحفص جمعوا بين الخط والأصل في الحالين فمدوا في الوقف؛ لأنه يحتمل ذلك كما في القوافي كقوله:
وولى الملامة الرجلا
وقصروا في الوصل ونحوا بذلك منحى هاء السكت وهذه القراءة هي المختارة، قال أبو عبيد: والذي أحب فيه هذه الحروف أن يتعمد الوقف عليهن تعمدا؛ وذلك لأن في إسقاط الألفات منهن مفارقة الخط وقد رأيتهن في الذي يقال له الإمام مصحف عثمان مثبتات كلهن ثم أجمعت عليها مصاحف الأمصار فلا نعلمها اختلفت، فكيف يمكن التقدم على حذفها؟ وأكره أيضا أن أثبتهن مع إدماج القراءة؛ لأنه خروج من العربية لم نجد هذا عندهم جائزا في اضطرار ولا غيره، فإذا صرت إلى الوقف عليها فأثبت الألفات كنت متبعا للكتاب، ويكون "مع" هنا فيها موافقة لبعض مذاهب العرب؛ وذلك أنهم يثبتون مثل هذه الألفات في قوافي أشعارهم ومصاريعها؛ لأنها مواضع قطع وسكت فأما في حشو الأبيات فمعدوم غير موجود على حال من الحالات، وقال الزجاج: الذي عليه حذاق النحويين والمتبعون السنة من حذاقهم أن يقرءوا "الظنونا" ويقفوا على الألف ولا يصلوا، وإنما فعلوا ذلك؛ لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يثبتون في آخرها في الوقف ما يحذف مثله في الوصل فهؤلاء لا يتبعون المصحف ويكرهون أن يصلوا فيثبتوا الألف؛ لأن الآخر لم يقفوا عليه فيجروه مجرى الفواصل ومثل هذا في كلام العرب في القوافي نحو قوله:
أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابنْ
فأثبت الألف؛ لأنها في موضع فاصلة وهي القافية، وأنشد أبو عمرو الداني في كتاب الإيجاز:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا
ومن ذلك قول الأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبالـ ... ـعدل وولى الملامة الرجلا
وقال أبو علي: وجه من أثبت في الوصل أنها في المصحف كذلك وهي رأس آية، ورءوس الآى تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع، فكما شبه: "أَكْرَمَنِ"، "أَهَانَنِ" بالقوافي في حذف الياء منهن نحو:
من حذر الموت أن يأتين ... وإذا ما انتسبت له أتكون
كذلك يشبه هذا في إثبات الألف بالقوافي، أما في الوصل فلا ينون، ويحمل على لغة من لا ينون ذلك إذا وصل في الشعر؛ لأن من لا ينون أكثر، قال أبو الحسن: وهي لغة أهل الحجاز فأما من طرح الألف في الوصل فإنهم ذهبوا إلى أن ذلك في القوافي وليس رءوس الآي بقوافٍ، فيحذف في الوصل كما يحذف غيرها فما يثبت في الوقف نحو التشديد الذي يلحق الحرف الموقوف عليه.
__________
1 سورة الرحمن، آية: 29.
2 آية: 9.
3 الآية: 16.
(1/646)
________________________________________
قال: وهذا إذا أثبت في الخط فينبغي أن لا تحذف هاء الوقف من: "حِسَابِيَهْ" و"كِتَابِيَهْ"، وأن يجري مجرى الموقوف عليه فهو وجه، وإذا ثبت ذلك في القوافي في الوصل فشأنه في الفواصل حسن.
قال غيره: أما من قرأ بغير ألف فهو الأصل المشتهر في كلامهم تقول: رأيت الرجل بإسكان اللام، ومن العرب من يجري القوافي في الإنشاد مجرى الكلام الموزون، فيقول:
أقلي اللوم عاذل والعتابا ... واسئل بمصقلة البكري ما فعل
فإذا كانوا يجرون القوافي مجرى الكلام غير الموزون فلأن يتركوا الكلام غير الموزون على حالته ولم يشبهوه بالموزون أولى والله أعلم.
970-
مَقَامَ لِحَفْصٍ ضُمَّ وَالثانِ "عَمَّ" فِي الدْ ... دُخَانِ وَآتَوْهَا عَلَى الْمَدِّ "ذُ"و "حُـ"ـلا
يريد: {لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} والثاني في الدخان: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} 1، والأول فيها لا خلاف في فتحه وهو: {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} 2.
كما أجمعوا على فتح: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} ، وقد سبق في مريم الكلام على القراءتين وإن المفتوح موضع القيام والمضموم بمعنى الإقامة وأراد ضم الميم الأولى ولا جائز أن تحمل على الميم الثانية لوجهين؛ أحدهما: أن ذلك في الميم الثانية لو كان لعبر عنه بالرفع لا بالضم؛ لأنها حركة إعراب:
والثاني: لو أريد ذلك لذكر معه التنوين؛ لأنه من باب: وبالرفع نونه: {فَلا رَفَثَ} ، {وَلا بَيْعٌ} نونه: {وَلا خُلَّةٌ} ، {وَلا شَفَاعَةٌ} وارفعهن،، أما "لآتوها" بالمد فإنه بمعنى أعطوها؛ أي: أجابوا إلى ما سئلوه، و"أتوها" بالقصر بمعنى فعلوها وجاءوها يقال أثبت الخبر إذا فعلته، والمعنى ثم سئلوا فعل الفتنة لفعلوها، واختار أبو عبيد قراءة المد، وقال: قد جاءت الآثار في الذين كانوا يفتنون بالتعذيب في الله أنهم أعطوا ما سألهم المشركون غير بلال، وليس في شيء من الحديث أنهم جاءوا ما سألهم المشركون ففي هذا اعتبار للمد في قوله: "لَآتَوْهَا" بمعنى أعطوها.
قال أبو علي: ومما يحسن المد قوله: "سُئِلُوا" والإعطاء مع السؤال حسن، والمعنى: لو قيل لهم: كونوا على المسلمين مع المشركين لفعلوا ذلك وحلا في آخر البيت مصدر مفتوح الحاء وليس بفعل ماضٍ.
حكى الشيخ في شرحه عن الناظم -رحمهما الله: يقال ذو حلا؛ أي: ذو حسن من حلى في عينه وصده يحلى، قال: ويقال أيضا: حلى بالشيء؛ أي: ظفر به يحلى، وقد قال ابن ولاد: إن حلا لا يعرف؛ يعني: أن المصدر المعروف من هذين الفعلين إنما هو حلاوة.
__________
1 آية: 51.
2 سورة الدخان آية: 26.
(1/647)
________________________________________
قال الشيخ: ويجوز أن يكون ذو بمعنى الذي؛ أي: على المد الذي حلا كقول الطائي:
وبئري ذو حفرت وذو طويت
قلت: وكأنه أشار بقوله: حلا إلى ما ذكره أبو عبيد وأبو علي:
971-
وَفِي الكُلِّ ضَمُّ الكَسْرِ فِي أُسْوَةٍ "نَـ"ـدىً ... وَقَصْرُ "كِـ"ـفًا "حَـ"ـقٍّ يُضَاعَفْ مُثَقَّلا
الضم والكسر في أسوة لغتان، ومثله قدوة وعدوة بضم القاف والعين وكسرهما وقوله: في الكل؛ يعني: هنا وفي الممتحنة موضعان، ويجوز ضم الكسر على الأمر وضم الكسر على الابتداء ويضاعف مبتدأ وقصر كِفًا حقّ خبره، ومثقلا حال منه؛ أي: يضعف لها العذاب بالقصر مع تشديد العين، وقد تقدم في سورة البقرة أن ضاعف وضعف لغتان، فابن كثير وابن عامر قرأ من لغة ضعف هناك وهنا وأبو عمرو شدد هنا دون ثَم والباقون قرأوا من لغة ضاعف في الموضعين والله أعلم.
قال أبو عبيد: كان أبو عمرو يقرأ هذه وحدها يضعف مشددة بغير ألف لقوله: "ضِعْفَيْنِ"، وقال ما كان أضعافا كثيرة فإنه يضاعف وما كان ضعفين فإنه يضعف.
قال أبو عبيد: لا نعلم بين ما فرق أبو عمرو فرقًا.
972-
وَبِاليَا وَفَتْحِ العَيْنِ رَفْعُ العَذَابِ "حِصْـ ... ـنُ" حُسْنٍ وَتَعْمَلْ نُؤْتِ بِاليَاءِ "شَـ"ـمْلَلا
الواو في وبالياء فاصلة؛ لأن هذه مسألة غير المتقدمة وإن كان الجميع متعلقا بكلام واحد فالذي تقدم بيان الخلاف في القصر والتشدي، وهذا بيان قراءة من يقرأ بالياء وفتح العين، ورفع العذاب وضدها وهي القراءة بالنون وكسر العين ونصب العذاب، فكأنه قال: ويضاعف بالياء وفتح العين على ما لم يسمَّ فاعله، ورفع العذاب؛ لأنه مفعول ما لم يسم فاعله، فأسقط حرف العطف من "ورفع العذاب" ضرورة للعلم به، وقوله: حصن حسن؛ أي: رمز ذلك وهو خبر المبتدأ المقدر، وهو يضاعف وما عطف عليه وهو رفع العذاب؛ أي: المجموع حصن حسن، فاجتمع أبو عمرو مع حصن في الياء وفتح العين وخالفهم في المد فقرءوا: "يضاعف"، وقرأ هو وحده: "يضعف"، وكلا الفعلين لما لم يسم فاعله فاتفق معهم على رفع العذاب فبقي ابن كثير وابن عامر على النون وكسر العين على بناء الفعل للفاعل فلزم نصب العذاب؛ لأنه مفعوله والنون للعظمة هما من أهل القصر والتشديد، فقرآ: "نضعف لها العذاب" والقراءات ههنا ثلاث، ووجوهها ظاهرة إنما كان مشكلا استخراجها من هذا النظم وقد سهله الله تعالى فاتضح ولله الحمد.
قوله: ويعمل يؤت أراد: "ويعمل صالحا يؤتها" قرأهما حمزة والكسائي بالياء أما الياء في يعمل "فعطف على "يقنت" وأجمعوا في يقنت على لفظ التذكير ردا على لفظ من فكذا ما عطف عليه وهو "يعمل" وقرأ الباقون بالتاء على التأنيث ردا على معنى من؛ لأنها عبارة عن النساء ولهذا رجعت الضمائر بلفظ التأنيث في "نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها"، أما الياء في "يؤتها" فلله تعالى، وقرأ الباقون بالنون للعظمة فقول الناظم: بالياء تقييد لقوله: "يؤت"؛ ليكون النون للباقين؛ لأنها أخت الياء في اصطلاحه ولا تكون تقييد ليعمل أيضا وإن
(1/648)
________________________________________
كان صحيحا من حيث المعنى واللفظ فإنها بالياء أيضا ولكن امتنع ذلك خوفا من اختلال القراءة الأخرى فإنها ليست بالنون فلا يكون هذا إلى من باب التذكير والتأنيث فيكون قوله: ويعطل مطلقا من غير تقييد؛ ليدل إطلاقه له على أنه أراد به التذكير فيأخذ للباقين ضده وهو التأنيث، وشمللا خبر عن يعمل ويؤتِ على حذف حرف العطف.
973-
وَقَرْنَ افْتَحِ "ا"ذْ نَصُّوا يَكُونَ "لَـ"ـهُ "ثَـ"ـوى ... يَحِلُّ سِوَى البَصْرِي وَخَاتِمَ وُكِّلا
يريد افتح القاف من: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ، والباقون بكسرها وكلاهما فعل أمر لجماعة النساء فالمفتوح من قررت بالمكان أقر بكسر الراء في الماضي وفتحها في المضارع في قول من أجاز ذلك ونظيره عض من عضضت وقيل: من قار يقار إذا اجتمع فيكون مثل خفن الله؛ أي: اجتمعن في بيوتكن، والمكسور من قررت بالمكان أقر بفتح الراء في الماضي وكسرها في المضارع وهي اللغة المعروفة في قررت بالمكان فيكون مثل جدن في الأمر من جددت فيه أو من وقر يقر فيكون مثل عدن من وعد، فإن أخذنا ذلك من قررت بفتح فاء وكسرها فتكون عين الفعل حذفت؛ لأنه ألقيت حركتها على الفاء، فحذفت؛ لالتقاء الساكنين هي ولام الفعل، وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بتحريك الفاء، والأصل أقررن بفتح الراء الأولى وكسرها وإن قلنا: إن قرن بالكسر من وقر يقر فالمحذوف فاء الفعل وهي الواو، وإن قلنا: إن قرن بالفتح من قار يقار فالمحذوف عين الفعل وهي واو أيضا وهذا الوجه حكاه الزمخشري عن أبي الفتح الهمداني.
وقال أبو علي: الوجه في "وقرن" بالكسر؛ لأنه يجوز من وجهين لا إشكال في جوازه منهما وهما من القرار والوقار وفتح القاف على ما ذكرت من الخلاف، زعم أبو عثمان أن قررت في المكان لا يجوز، وقد حكى ذلك بعض البغداديين فيجوز الفتح في القاف على هذه اللغة إذا ثبتت، وقال أبو عبيد: والقراءة التي نختارها بكسر القاف فيكون مأخوذا من الوقار، فأما الفتح فإن أشياخنا من أهل العربية كانوا ينكرونه، ويقولون إن كان من الوقار فهو بالكسر على قراءتنا وإن كان من القرار فينبغي أن يكون من أقررنا أو أقررنا قال: وقد وجدناها تخرج في العربية من وجه فيه بعد وهو شبيه بقوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} 1.
وأصلها من المضاعف ظللت قال مكي: وقيل: إن هذه القراءة مشتقة من قررت
به عينا أقر، قال: وليس المعنى على هذا لم يؤمرن أن تقر أعينهن في بيوتهن إنما أمرن بالقرار أو بالوقار في بيوتهن قال: والاختيار كسر القاف؛ لأن عليه المعنى الصحيح.
وأما: {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} فالتذكير فيهما والتأنيث ظاهران، وأبو عبيد يختار التذكير في هذا ونحوه والثرى بالقصر التراب الندي وبالمد المال الكثير فيجوز أن يكون قصره ضرورة، وقد تقدم أن الناظم يستعير هذه الأشياء ونحوها كناية عن وضوح القراءة وكثرة الحجج لها، وردا لكلام من
__________
1 سورة الواقعة، آية: 65.
(1/649)
________________________________________
من سورة الروم إلى سورة سبأ
...
تكلم فيها، أما وخاتم النبيين فوجه الفتح فيه أن الذي يختم به يقال بفتح التاء وكسرها فكأنه -صلى الله عليه وسلم- جُعل كخاتم لما ختم به الأنبياء، قال أبو عبيد: وبالكسر نقرأ؛ لأن التأويل أنه -صلى الله عليه وسلم- ختمهم فهو خاتمهم، وكذلك رويت الآثار عنه في صفة نفسه أنه قال: "أنا خاتم النبيين" لم نسمع واحدا من فقهائنا يروي هذا الحرف في حديثه إلا بكسر التاء قال الزجاج: من كسر فمعناه ختم النبيين ومن فتح فمعناه آخر النبيين لا نبي بعده، والواو في قول الناظم: وقرن وخاتم ليست فاصلة بل هي من نفس الكلمة في القرآن كالياء في يكون ويحل، أما الواو في "وكلا" فليست فاصلة أيضا ولا معنى لها هنا فلو أتى بكلمة أولها نون رمزا لقراء الفتح لكان أولى فيقول نولا أو نحو ذلك، ويستغنى عن الرمز بعد قوله: في البيت الآتي ويأتي بالواو الفاصلة ثم يقول وخاتم نزلا بفتح وقل ساداتنا اجمع إلى آخره.
فإن قلتَ: لو قال كذلك لكان قد رمز قبل تقييد القراءة، وهو قد قال: ومن بعد ذكرى الحرف أسمى رجاله، قلت: الذي التزمه أن لا يتقدم الرمز على الحرف المختلف فيه أما تقدمه على التقييد فلا كقوله: سما العلا شذا الجزم.
974-
بِفَتْحٍ "نَـ"ـمَا سَادَاتِنَا اجْمَعْ بِكَسْرَةٍ ... "كَـ"ـفَى وَكَثِيرًا نُقْطَةٌ تَحْتُ "نُـ"ـفِّلا
يريد: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} هو جمع سيد وسادات جمع هذا الجمع وكسر تائه علامة النصب؛ لأنه جمع سلامة وفتح تاء سادة علامة نصبه؛ لأنه جمع تكسير ومثله كتبة وفجرة، أما: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} فقراءة عاصم وحده بالباء الموحدة والقراءتان وجههما كما سبق في البقرة في: {إِثْمٌ كَبِيرٌ} قال أبو علي: الكير مثل العظم والكثرة أشبه بالمعنى؛ لأنهم يلعنون مرة بعد مرة وقوله: نفل معناه أعطى نقطة من تحته والتنفيل الإعطاء فقوله: نقطة بالنصب ثاني مفعول نفلا وجعل النقطة نفلا؛ لأنها دون الثلاث التي للثاء فتلك بمنزلة النفل في قسم الغنيمة؛ لأنها دون سهم الغانم والله أعلم.
(1/250)
________________________________________
لأن الكسرة كأنها وليت الراء من جهة أن المدغم فيه كالحرف الواحد فالمدغم كالذاهب، ورقق أبو الحسن ابن غلبون جميع الباب إلا: "مِصْرًا"، و"إِصْرًا"، و"قِطْرًا"؛ من أجل حرف الاستعلاء فألزمه الداني: "وَقْرًا".
ومنهم من لم يرقق إلا "صهرا"؛ لخفاء الهاء وفخم أبو طاهر بن أبي هاشم وعبد المنعم بن غلبون وغيرهما أيضا من المنون نحو: "خَبِيرًا"، و"بَصِيرًا"، و"مُدْبِرًا"، و"شاكرا"، مما قبل الراء فيه ياء ساكنة أو كسرة فكأنه قياس على: "ذِكْرًا"، و"سِتْرًا".
قال الداني: وكان عامة أهل الأداء من المصريين يميلونها في حال الوقف؛ لوجود الجالب؛ لإمالتها في الحالين، وهو الياء والكسرة وهو الصواب وبه قرأت وبه آخذ، وقال في: "ذِكْرًا" و"سِتْرًا". أقرأني ذلك غير أبي الحسن بن غلبون بالفتح وعليه عامة أهل الأداء من المصريين وغيرهم، وذلك على مراد الجمع بين اللغتين. قلت: فحصل من هذا أن المنصوب المنون الذي قبل رائه ما يسوغ ترقيقها على ثلاثة أقسام:
ما يرقق بلا خلاف، وهو نحو: "سرا" و"مستقرا".
وما يرقق عند الأكثرين وهو نحو: "خَبِيرًا"، و"شَاكِرًا".
وما يفخم عند الأكثر وهو نحو: "ذِكْرًا"، و"سِتْرًا".
وقلت في ذلك بيتا جمع الأنواع الثلاثة على هذا الترتيب وهو:
وسرا رقيق قل خبيرا وشاكرا
للَاكثر ذكرا فخم الجلة العلا
وكأنهم اختاروا تفخيم هذا النوع؛ لأنه على وزن ما لا يمال نحو:
(1/251)
________________________________________
"عِلْمًا"، و"حِمْلًا".
والخلاف في ذلك إنما هو في الأصل ولهذا عد التنوين مانعا، أما في الوقف فعند بعضهم لا خلاف في الترقيق؛ لزوال المانع، وقال أبو الطيب ابن غلبون: اختُلِف عن ورش في الوقف، فطائفة يقفون بين اللفظين، وطائفة يقفون بالفتح من أجل الألف التي هي عوض من التنوين والله أعلم.
والجلة: جمع جليل وأرحلا جمع رحل، ونصبه على التمييز وتفخيمه مبتدأ، وأعمر أرحلا خبره، وعمارة الرحل توزن بالعناية والتعاهد له، فكأنه أشار بهذه العبارة إلى اختيار التفخيم عند جلة الأصحاب من مشايخ القراء، وبابه النصب عطف على مفعول تفخيم:
347-
وَفي شَرَرٍ عَنْهُ يُرَقِّقُ كُلُّهُمْ ... وَحَيْرَانَ بِالتَّفْخِيمِ بَعْضُ تَقَبَّلا
أراد قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} 1، رقق كل الأصحاب عن ورش راءه الأولى؛ لأجل كسر الثانية، وهذا خارج عن الأصل المقدم وهو ترقيق الراء لأجل كسر قبلها، وهذا لأجل كسر بعدها وكسرة الراء تعد بكسرتين لأجل أنها حرف تكرير. قال الداني: لا خلاف عن ورش في إمالتها وإن وقف عليها قال: وقياس ذلك عند قوله في النساء: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 2. غير أن أصحابنا يمنعون من إمالة الراء فيه من أجل وقوع الصاد وهي حرف استعلاء قبلها، قال: وليس ذلك مما يمنع من الإمالة ههنا؛ لقوة جرة الراء كما لم يمنع منها لذلك في نحو: "الْغَارِ"، و"أَنْصَارَ"، و"كَالْفَخَّارِ"، و"بِقِنْطَارٍ"، وشبهه مع أن سيبويه قد حكى إمالة راء الضرر سماعا وعليه أهل الأداء، غير أني بالفتح قرأت ذلك، وبها آخذ. قال: وأجمعوا عنه على تفخيمها في قوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ} حيث وقع، قال: وقياس ما أجمعوا عليه عنه من ترقيقها في قوله: "بِشَرَرٍ"؛ لأجل جرة الراء بعدها يوجب ترقيقها هنا، قال: وزادني ابن خاقان في الاستثناء إخلاص الفتح للراء في قوله: {حَيْرَانَ} في الأنعام3، قال: وقرأت على غيره بالترقيق قال: وهو القياس من أجل الياء، وقد ذهب إلى التفخيم جماعة من أهل الأداء، وقال: قرأت بالوجهين في:
__________
1 سورة المرسلات، آية: 22.
2 آية: 95.
3 الآية: 71.
(1/252)
________________________________________
{حَيْرَانَ} و {إِجْرَامِي} و {عَشِيرَتُكُمْ} في سورة براءة خاصة1. قلت: وعلل بعضهم تفخيم حيران بالألف والنون فيه في مقابلة ألف التأنيث في حيرى وإذا وقعت الراء قبل ألف حيرى رققت لأجل الألف الممالة لا لأجل الياء، فكما لم يكن للحاء حكم مع وجود الألف في حيرى لم يكن لها حكم مع وجود الألف والنون في حيران، قلت: وهذا كلام ضعيف لمن تأمله، ثم قال: ونظير ارتفاع حكم الياء مع الألف الممالة ارتفاع حكم الكسرة معها في نحو: {ذِكْرَى الدَّارِ} ؛ ألا ترى أنك إذا وقفت رققت، وإذا وصلت فخمت. قلت: وهذا ممنوع بل إذا وصل رقق لأجل الكسرة وإذا وقف أمال تبعا للألف، وقد سبق التنبيه على هذا في باب الإمالة والله أعلم.
347-
وَفي الرَّاءِ عَنْ وَرْشٍ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ ... مَذَاهِبُ شَذَّتْ فِي الأَدَاءِ تَوَقُّلا
توقلا: تمييز يقال: توقل في الجبل إذا صعد فيه أي شذ ارتفاعها في طرق الأداء، ولفظة الأداء كثيرة الاستعمال بين القراء، ويعنون بها تأدية القراء القراءة إلينا بالنقل عمن قبلهم، كأنه لما ذكر هذه المواضع المستثناة من الأصل المتقدم قال: وثم غير ذلك من المواضع المستثناة اشتمل عليها كتب المصنفين، فمن تلك المذاهب ما حكاه الداني عن شيخه أبي الحسن بن غلبون: أنه استثنى تفخيم كل راء بعدها ألف تثنية نحو: "طَهِّرَا"، و"سَاحِرَانِ". أو ألف بعدها همزة نحو: "افْتِرَاءً عَلَيْهِ".
أو بعدها عين نحو: "سِرَاعًا"، و"ذِرَاعًا"، و"ذِرَاعَيْهِ". وفخم قوم إذا كان بين الراء وبين الكسر ساكن نحو: "حِذْرَكُمْ"، و"ذِكْرُكُمْ"، "لَعِبْرَةً" مطلقا. ومنهم من اقتصر على تفخيم: "وَزَرَ" حيث وقع، ومنهم من اقتصر على: "وِزْرَكَ"، "ذِكْرَكَ".
ومنهم من فخم في موضعين وهما عشرون: "كِبْرَهُ"، و"مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ".
__________
1 الآية: 24.
(1/253)
________________________________________
348-
وَلاَ بُدَّ مِنْ تَرْقِيِقِهاَ بَعْدَ كَسْرَةٍ ... إِذَا سَكَنَتْ ياَ صَاحِ لِلسَّبْعَةِ المَلا
أي إذا سكنت الراء وقبلها كسرة رققت لجميع القراء نحو: "مِرْيَةٍ"، و"شِرْذِمَةٌ"، و"اصْبِرْ"، و"يَغْفِرُ"، و"فِرْعَوْنَ".
قالوا: لأن الحركة مقدرة بين يدي الحرف وكأن الراء هنا مكسورة ولو كانت مكسورة لوجب ترقيقها على ما يأتي ومن ثم امتنع ترقيق نحو: "مَرْجِعُ"؛ لأن الكسرة تبعد عنها إذا كانت بعدها، وتقرب منها إذا كانت قبلها بهذا الاعتبار. قال: ومن ثم همزت العرب نحو: مؤسى والسؤق لما كانت الضمة كأنها على الواو والواو المضمومة يجوز إبدالها همزة فأجروا الساكنة المضموم ما قبلها مجرى المضمومة لهذه العلة وكثر في نظم العرب ومن بعدهم قوله: يا صاح، ومعناه: يا صاحب، ثم رخم كما قرأ بعضهم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} .
قال: إلا أن ترخيم صاحب من الشذوذ المستعمل؛ لأنه غير علم بخلاف مالك ونحوه، والملأ: الأشراف.
349-
وَمَا حَرْفُ الِاسْتِعْلاَءِ بَعْدُ فَراؤُهُ ... لِكُلِّهِمُ التَّفْخِيمُ فِيهاَ تَذَلَّلا
أي: واللفظ الذي وقع فيه حرف الاستعلاء بعد رائه فـ "راء" ذلك اللفظ تذلل التفخيم فيها لكلهم أي انقاد بسهولة؛ لأن التفخيم أليق بحروف الاستعلاء من الترقيق لما يلزم المرقق من الصعود بعد النزول، وذلك شاقٌّ مستثقلٌ، وحرف الاستعلاء إذا تأخر منع الإمالة مطلقا بخلافه إذا تقدم فإنه لا يمنع إلا إذا لم يكن مكسورًا أو ساكنا بعد مكسور، وهذا البيت مشكل النظم في موضعين أحدهما أن ما في أوله عبارة عن ماذا؟ والثاني الهاء في راؤه إلى ماذا تعود؟ والذي قدمته من المعنى هو الصواب إن شاء الله تعالى، وهو أن ما عبارة عن اللفظ الذي فيه الراء بعد كسر والهاء في راؤه تعود على ذلك اللفظ، وقال الشيخ في شرحه: يعني والذي بعده من الراءات حرف الاستعلاء فراؤه إن شئت رددت الضمير إلى "ما"، وإن شئت أعدته على حرف الاستعلاء. قلت: كلاهما مشكل فإن "ما" مبتدأ، وقد جعلها عبارة عن الراء فإذا عادت الهاء إلى ما يصير التقدير: فـ "راء الراء"، وذلك فاسد؛ لأنه من باب إضافة الشيء إلى نفسه وذلك لا يجوز، وإن عادت إلى حرف الاستعلاء بقي المبتدأ بلا عائد يعود إليه، ثم جمع حروف الاستعلاء فقال:
351-
وَيَجْمَعُهاَ قِظْ خُصَّ ضَغْطٍ وَخُلْفُهُمْ ... بِفِرْقٍ جَرى بَيْنَ المَشَايِخِ سَلْسَلا
أي يجمعها هذه الكلمات فهي سبعة أحرف وربما ظن السامع أن جميعها يأتي بعد الراء فيطلب أمثلة ذلك فلا يجد بعضه إنما أراد الناظم أي شيء وجد منها بعد الراء منع، والواقع منها في القرآن في هذا الغرض أربعة الصاد والضاد والطاء والقاف، ولم يقع الخاء والظاء والغين ولو أنه قال:
__________
1 سورة الزخرف، آية: 77.
(1/254)
________________________________________
وما بعده صاد وضاد وطا وقا ... ففخِّم لكل خلف فرق تسلسلا
لبان أمر البيتين في بيت واحد، وخلصنا من إشكال العبارتين فيهما والله أعلم.
أما الصاد فوقعت بعد الراء الساكنة بعد كسر وهي المرققة لجميع القراء فمنعت الترقيق حيث وقعت نحو: "إِرْصَادًا"، و"لَبِالْمِرْصَادِ".
وأما الضاد فوقعت في مذهب ورش في نحو: "إِعْرَاضًا"، و"إِعْرَاضُهُمْ".
وأما الطاء والقاف فوقعا في الأمرين نحو: "قِرْطَاسٍ"، و"فِرْقَةٍ"، و"صِرَاطٍ"، و"فِرَاقُ".
وليس من شرط منع حرف الاستعلاء أن يلي الراء بل يمنع وإن فصل بينهما الألف ولا يقع في مذهب ورش إلا كذلك غالبا نحو: "صِرَاطٌ"، و"فِرَاقُ"، و"إِعْرَاض". حتى نص مكي في التبصرة على أن: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} لا ترقق في الوصل لأجل صاد: "صُدُورِهِمْ". فإن رققت على: "حَصِرَتْ" رققت لزوال المانع. قلت": وتفخيم راء: "حَصِرَتْ" لأجل صاد: "صُدُورُهُمْ" بعيد؛ لقوة الفاصل وهو التاء بخلاف فصل الألف، ولأن حرف الاستعلاء منفصل من الكلمة التي فيها الراء فلا ينبغي أن يعتبر ذلك إلا في كلمة واحدة وعلى قياس ما ذكروه يجب التفخيم فيما إذا كانت الراء آخر كلمة وحرف الاستعلاء أول كلمة بعدها نحو: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} ، {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} ، {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ} ، {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} . والتفخيم في هذا يكون أولى من التفخيم في: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ؛ لوجود الفاصل في حصرت دون ما ذكرناه ولا أثر للصاد في حصرت فإنها مكسورة فلا تمنع؛ لأنها مثل:
(1/255)
________________________________________
"تُبْصِرُونَ".
والأظهر الترقيق في الجميع قياسا للمانع على المقتضى، وسيأتي في البيت بعد هذا أن ما جاء بعد الكسر المفصل فلا ترقيق فيه فلم ينظر إلى المفصل ترقيقا فلا ينظر أيضا إلى المفصل تفخيما فيعطي كل كلمة حكمها والله أعلم.
ومعنى قوله: قظ خص ضغط أي أقم في القيظ في خص ذي ضغط أي خص ضيق أي اقنع من الدنيا بمثل ذلك وما قاربه واسلك طريقة السلف الصالح، فقد جاء عن أبي وائل شقيق بن سلمة -رحمة الله عليهما- وهو من المخضرمين وأكابر التابعين من أصحاب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- ما نحو من ذلك، قال عبد الله بن عمير: كان لأبي وائل خص من قصب يكون فيه هو ودابته فإذا غزا نقضه، وإذا رجع بناه.
وأما قوله في الشعراء: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} 1، فالراء فيه رقيقة؛ لوقوعها بين كسرتين وضعف منع حرف الاستعلاء بسبب كسره، ونقل الاتفاق على ترقيق هذا الحرف مكي وابن شريح وابن الفحام.
قال الشيخ رحمه الله: وفخمها بعضهم لمكان حرف الاستعلاء، قال الحافظ أبو عمرو: والوجهان جيدان. قال: وإلى هذا أشار بقوله: جرى بين المشايخ سلسلا. قلت: وقال الداني في كتاب الإمالة: كان شيخنا أبو الحسن يرى إمالة الراء في قوله: {وَالْإِشْرَاقِ} ؛ لكون حرف الاستعلاء فيه مكسورا قال فعارضته بقوله: {إِلَى صِرَاطٍ} ، وألزمته الإمالة فيه، قال: ولا أعلم خلافا بين أهل الأداء لقراءة ورش عن نافع من المصريين وغيرهم في إخلاص فتح الراء في ذلك، وإنما قال ذلك شيخنا -رحمه الله- فيما أحسبه قياسا دون أداء؛ لاجتماع الكل على خلاف ما قاله والله أعلم.
351-
وَمَا بَعْدَ كَسْرٍ عَارِضٍ أَوْ مُفَصَّلٍ ... فَفَخِّمْ فَهذاَ حُكْمُهُ مُتَبَذِّلا
أي والذي يوجد من الراءات بعد كسر عارض وهو كسر ما حقه السكون ككسر همزة الوصل نحو: {امْرَأَةٌ} ، و {ارْجِعُوا} ، إذا ابتدأت وكسرة التقاء الساكنين نحو: {وَإِنِ امْرَأَةٌ} {أَمِ ارْتَابُوا} {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ} .
__________
1 آية: 63.
(1/256)
________________________________________
إذا وصلت، أو بعد كسر مفصل أي يكون الكسر في حرف مفصل من الكلمة التي فيها الراء لفظا أو تقديرا نحو ما سبق من كسرة التقاء الساكنين نحو: {لِحُكْمِ رَبِّكَ} ، {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ، و {بِرَسُولٍ} ، و {لَرَسُولُ} ؛ لأن حروف الجر في حكم المنفصل من الكلمة الداخلة هي عليها؛ لأن الجار مع مجروره كلمتان حرف واسم، فلعروض الكسرة في القسم الأول وتقدير انفصال الراء عن الكسرة في الثاني فخمها ورش في المتحركة وجميع القراء في الساكنة، قال ابن الفحام: لم يعتد أحد بالكسرة في قوله: {بِرَبِّهِمْ} ، ولا {بِرُوحِ الْقُدُسِ} ، ولا في {ارْجِعُوا} .
قال: وأما المبتدأة فلا خلاف في تفخيمها نحو: {أَرَأَيْتَ} .
قلت: فيعلم من هذا أن نحو قوله تعالى: {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} ، {الَّذِي رُزِقْنَا} لا ترقق وإن كان قبل الراء ياء ساكنة؛ لأنها منفصلة عنها ولم ينبه الناظم على الياء المنفصلة كما نبه على الكسر المنفصل، وقد نبه عليه غيره والله أعلم، وقوله: متبذلا حال يشير إلى أن التفخيم مشهور عند القراء مبذول بينهم.
352-
وَمَا بَعْدَهُ كَسْرٌ أَوِ اليَا فَمَا لَهُمْ ... بِتَرْقِيقِهِ نَصٌّ وَثِيقٌ فَيَمْثُلا
أي: وما وقع من الراءات بعده كسرة أو ياء على ضد ما سبق؛ لأن الذي تقدم الكلام فيه أن تكون الراء بعد كسر أو ياء، وليس هذا على عمومه؛ بل مراده أن ما حكوا ترقيقه مما بعده كسر أو ياء لا نص لهم فيه والذي حكوا ترقيقه من ذلك نحو: "مَرْيَمَ"، ولفظ "لمرء".
وعموم ما ذكره في هذا البيت يجيء في الراء الساكنة نحو: "مَرْيَمَ"، و"يَرْجِعُونَ".
ولا تكون الياء بعدها إلا متحركة نحو: "لِبَشَرَيْنِ"، و"الْبَحْرَيْنِ"، و"إِلَى رَبِّهِمْ".
وكان القياس يقتضي أن هذا كله يرقق كما لو تقدمت الياء أو الكسر؛ فإن الترقيق إمالة وأسباب إمالة الألف تكون تارة بعدها وهو الأكثر وتارة قبلها، فينبغي أن تكون الراء كذلك ولكن عدم النص في ترقيق مثل ذلك، ونقل مكي الترقيق في نحو: "مَرْيَمَ"، و"قَرْيَةٍ".
(1/257)
________________________________________
فقال: أما الراء الساكنة فلا اختلاف فيها أنها غير مغلظة إذا كان قبلها كسرة لازمة أو بعدها ياء نحو: "مَرْيَمَ"، و"فِرْعَوْنَ"، قال: ونقلت: {بَيْنَ الْمَرْءِ} بالتغليظ وتركه لورش وللجماعة بالتغليظ، قال الداني: على الترقيق عامة أهل الأداء من المصريين القدماء، قال: والقياس إخلاص فتحها لفتحة الميم قبلها، قوله: فيمثلا أي فيظهر ثم قال:
353-
وَمَا لِقِيَاسٍ فِي القِرَاءة مَدْخَلٌ ... فَدُونَكَ مَا فِيهِ الرِّضَا مُتَكَفِّلا
أي لو فتح قياس ما بعد الراء على ما قبلها لاتسع الأمر في ذلك فيقال: يلزم من إمالة: "مَرْيَمَ" إمالة نحو "يَرْتَعْ"، فلا فرق بين أن تكون الياء المفتوحة بعد الراء وقبلها بل مراعاة ما قبلها أولى بدليل أن الياء الساكنة اعتبرت قبل الراء ولم تعتبر بعدها نحو: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} .
وقد اعتذر قوم عن ذلك بما فيه تكلف ولو رققت الراء من: "يَرْتَعْ" لرققت لورش في نحو: "يَرَوْنَ".
فدونك ما فيه الرضى أي ما نقل ترقيقه، وارتضاه الأئمة متكفلا بتقديره وإظهاره للطلبة أي خذه والزمه متكفلا به ويجوز أن يكون "متكفلا" حالا من ما وهو المفعول أي خذ الذي تكفل بالرضى للقراء، والمعنى أنهم يرضون هذا المذهب دون غيره، وأما نفي أصل القياس في علم القراءة مطلقا فلا سبيل إليه، وقد أطلق ذلك أبو عمرو الداني في مواضع، وقد سبقت عبارته في: {بَيْنَ الْمَرْءِ} بأن القياس إخلاص فتحها وقال في آخر باب الراءات من كتاب الإمالة: فهذه أحكام الوقف على الراءات على ما أخذناه عن أهل الأداء وقسناه على الأصول؛ إذ عدمنا النص في أكثر ذلك، واستعمل ذلك أيضا في بيان إمالة ورش الألف بين اللفظين في مواضع كثيرة في كتاب الإمالة وغيره.
354-
وَتَرْقِيقُهاَ مَكْسُورَةً عِنْدَ وَصْلِهِمْ ... وَتَفْخِيمُهاَ في الوَقْفِ أَجْمَعُ أَشْمُلا
يعني إذا كانت الراء مكسورة فكلهم يرققها إذا وقعت وسطا مطلقا نحو: "قَادِرِينَ"، و"الصَّابِرِينَ".
أو أولا نحو: "رِيحٍ"، و"رِجَالٌ".
(1/258)
________________________________________
وإن وقعت الراء المكسورة آخر كلمة رققت للجميع في الوصل، سواء كان الكسر أصلا أو عارضا نحو: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} و {أَنْذِرِ النَّاسَ} .
فإن وقفت زالت كسرة الراء الموجبة لترقيقها فتفخم حينئذ، وفيه إشكال؛ فإن السكون عارض، وقد تقدم في باب الإمالة أن السكون العارض في الوقف لا يمنع الإمالة فيتجه مثل ذلك هنا، وقد أشار إليه مكي فقال: أكثر هذا الباب إنما هو قياس على الأصول وبعضه أخذ سماعا، ولو قال قائل: إنني أقف في جميع الباب كما أصل سواء سكنت أو رمت لكان لقوله وجه؛ لأن الوقف عارض والحركة حذفها عارض وفي كثير من أصول القراءات لا يعتدون بالعارض قال: فهذا وجه من القياس مستتب والأول أحسن. قلت: وقد ذكر الحصري الترقيق في قصيدته فقال:
وما أنت بالترقيق واصله فقف ... عليه به إذ لست فيه بمضطرِّ
ويمكن الفرق بين إمالة الألف وترقيق الراء بأن إمالة الألف أقوى وأقيس وأفشى في اللغة من ترقيق الراء؛ بدليل أن الألف تمال ولا كسر يجاورها كذوات الياء ويمال أيضا نحو: "خَاف"؛ لأن الخاء قد تكسر إذا قيل: خفت فاتسع في إمالة الألف كثيرًا فجاز أن يمنع الأضعف ما يمنع الأقوى لكن يضعف هذا الفرق نصهم على ترقيق الراء الأولى من: "شَرَرٍ" في الوقف، فهذا دليل على اعتبار الكسر فيها بعد ذهابه بسكون الوقف قالوا وترقيق الثانية لأجل إمالة الأولى، وهذا دليل على عدم اعتبار الكسر فيها وإلا لآثر في نفسها الترقيق، ولم يعتبر بإمالة ما قبلها، ووجه ذلك أن ترقيق الأولى أشبه إمالة الألف في نحو: "النَّارِ".
وكلاهما رقق لكسرة بعده فبقي الترقيق بعد زوال الكسرة في الوقف كما تقدم في الألف وقوله: وترقيقها مبتدأ وخبره قوله: عند وصلهم وأجمع أشملا: خبر قوله: وتفخيمها، وأشملا تمييز وهو جمع شمل والمعنى هو أجمع أشملا من ترقيقها إشارة إلى كثرة القائلين به، وقلة من نبه على جواز الترقيق فيه كما نبه عليه مكي والحصري، فإن قلت: ما تقول في قوله تعالى: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} ؛ هل تمنع القاف من ترقيق الراء المكسورة؟ قلت: لا؛ لقوة مقتضى الترقيق وهو الكسر في نفس الراء، وإنما يمنع حرف الاستعلاء ترقيق غير المكسورة؛ لأن مقتضى ترقيقها في غيرها فضعف فقوي حرف الاستعلاء على منع مقتضاه، قال الداني: أما الراء المكسورة فلا خلاف في ترقيقها بأي حركة تحرك ما قبلها ولا يجوز غير ذلك والله أعلم.
(1/259)
________________________________________
355-
وَلكِنَّهَا في وَقْفِهِمْ مَعْ غَيْرِهاَ ... تُرَقِّقُ بَعْدَ الكَسْرِ أَوْ مَا تَمَيَّلا
الضمير في "ولكنها" للمكسورة أي مع غيرها من الراءات المفتوحة والمضمومة والساكنة ترقق في الوقف إذا كان قبلها أحد أسباب ثلاثة ذكر منها في هذا البيت اثنين الكسر والإمالة، والثالث يأتي في البيت الآتي وهو الياء الساكنة.
فمثال ذلك بعد الكسر:
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} ، {فَانْتَصِرْ} .
ومن ذلك ما كان بين الراء وبين الكسر فيه ساكن نحو: "الذِّكْرُ"، و"السِّحْرَ"، و"الشعر".
نص عليه الداني في كتاب الإمالة، فكأن الشاطبي أراد بعد الكسر المؤثر في مذهب ورش وقد علم ذلك من أول الباب ومثال ذلك بعد الإمالة: {عَذَابَ النَّارِ} في مذهب الدوري وأبي عمرو و: {بِشَرَرٍ} في مذهب ورش نص عليه الداني وغيره، وهو مشكل من وجه أن الراء الأولى إنما أميلت لكسرة الثانية فإذا اعتبرت الكسرة بعد سكون الوقف؛ لأجل إمالة الأولى فلم لا تعتبر لأجل ترقيقها في نفسها، ولا يقع هذا المثال إلا في المكسورة، وعلى مذهب بعض القراء بخلاف المثال بعد الكسر؛ فإنه وقع في أنواع الراء الأربعة وفي مذهب جميع القراء، وسبب الترقيق سكون الراء بعد الكسر أو ما يناسبه وهو الإمالة، وقد سبق قوله: ولا بد من ترقيقها بعد كسرة، وهذا الاستدراك المفهوم من قوله: ولكنها؛ لأجل قوله في البيت السابق: وتفخيمها في الوقف أجمع أشملا، فكأنه استثنى من هذا فقال: إلا أن تكون بعد كسر أو حرف تميل ثم ذكر الياء الساكنة فقال:
356-
أَوِ اليَاء تَأْتِي بِالسُّكُونِ وَرَوْمُهُمْ ... كَمَا وَصْلِهِمْ فَابْلُ الذَّكَاءَ مُصَقَّلا
لا تقع الراء الساكنة بعد الياء الساكنة وإنما تقع بعدها الراء المتحركة بالحركات الثلاث في قراءة جميع القراء نحو: {ذَلِكَ خَيْرٌ} ، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} ، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ، ولا يستقيم التمثيل بالمنصوب المنون، فإن الوقف لا يكون فيه على الراء بل على الألف المبدلة من التنوين فيبقى الترقيق فيه لورش وحده بشرطه هذا كله إذا وقفت على الراء بالسكون، فإن وقفت بالروم على ما سيأتي شرحه كان حكم الوقف حكم الوصل؛ لأنه قد نطق ببعض الحركة فترقق المكسورة للجميع وغيرها لورش بشرطه ويفخم الباقي للجميع، وما في قوله: كما زائدة أي رومهم كوصلهم، و"فابل" بمعنى اختبر ومصقلا نعت مصدر محذوف أي بلاء مصقلا أي مصقولا يشير إلى صحة الاختبار ونقائه مما يكدره ويشوبه من التخاليط، فبذلك يتم الغرض في تحرير هذه المسألة؛ لأنها مسائل متعددة عبر عنها بهذه العبارة الوجيزة، وبسط هذا أن نقول لا تخلو الياء إما أن تكون مكسورة أو غير مكسورة فإن كانت مكسورة رققت وصلا
(1/260)
________________________________________
وروما، وفخمت إن وقفت بالسكون إلا في ثلاث صور؛ وهي أن يكون قبلها كسر أو ياء ساكنة فترقق لجميع القراء في هاتين الصورتين الصورة الثالثة أن يكون قبلها إمالة فترقق لأصحاب الإمالة دون غيرهم وإن كانت غير مكسورة فهي مفخمة لجميع القراء وقفا بالسكون إلا أن يكون قبلها أحد الثلاثة فالحكم ما تقدم في الوصل والروم مفخمة لغير ورش مرققة لورش بعد الكسر والياء الساكنة على ما في أول الباب، ولا يقع الروم في المنصوبة فاعتبر ذلك وقس عليه.
ثم أشار إلى أن الأصل التفخيم بقوله:
357-
وَفِيماَ عَدَا هذَا الَّذِي قَدْ وَصَفْتُهُ ... عَلَى الأَصْلِ بِالتَّفْخِيمِ كُنْ مُتَعَمِّلا
أي كن متعملا بالتفخيم على الأصل ومتعملا بمعنى عاملا، وفي الصحاح تعمل فلان لكذا، وقال غيره: سوف أتعمل في حاجتك أي أقضي، فيجوز في موضع بالتفخيم بالباء للتفخيم باللام على ما نقله الجوهري والله أعلم.
(1/261)
________________________________________
سورة سبأ وفاطر:
975-
وَعَالِمٍ قُلْ عَلامِ "شَـ"ـاعَ وَرَفْعُ خَفْ ... ضِهِ "عَمَّ" مِنْ رِجْزٍ أِلِيمٍ مَعًا وِلا
أي: قرأه علام وعالم وعلام كلاهما من الصفات كضارب وضراب وفي التشديد مبالغة وفي القرآن "عالم الغيب" في مواضع مجمع عليها، و {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 1 في المائدة وفي آخر هذه السورة ولم يجئ "علام الغيب" إلا في قراءة حمزة والكسائي ههنا والخفض في عالم وعلام على اتباع "وربي" أو "لله" في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ورفع عالم على المدح؛ أي: هو عالم الغيب أو مبتدأ وخبره: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} ، و {مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} موضعان هنا وفي الجاثية، والرجز أشد العذاب وسيئه، وقيل: إنه كالرجس بمعنى القذر فهذا فائدة جعل العذاب فيه باعتبار صفته والواو في قوله: ولا ليست فاصلة كالواو في وكلا التي سبق ذكرها، أما أقل ما اتفق له في هذه القصيدة من أمثال هذا نحو وخاتم وكلا وإلياسين بالكسر وصلا فإن الواوات في أوائل هذه الكلم توهم الفصل؛ لأنها كلمات لم تسبق تقييدا بخلاف الواو في قوله:
وبالضم واقصر واكسر التاء فاتلوا
فهذه الكلمات كلها تقييد فلم تضر الواوات في أوائلها ومعنى ولا بكسر الواو متابعة وهو مفعول من أجله من الكلام الذي يأتي بعده؛ أي: رفع متابعة ومن رجز أليم مبتدأ وخبره أول البيت الآتي وهو:
976-
عَلَى رَفْعِ خَفْضِ الْمِيمِ "دَ"لَّ "عَـ"ـلِيمُهُ ... وَنَخْسِفْ نَشَأْ نُسْقِطْ بِها اليَاءُ "شُـ"ـمْلَلا
خفض الميم من: "أَلِيمٌ" على أنه صفة لرجز، ورفعها على أنه نعت لعذاب؛ أي: لهم عذاب أليم من رجز والياء والنون في قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ} ظاهران، معنى شمللا؛ أي: حكم على الياء بالشمول لهذه الثلاثة.
977-
وَفِي الرِّيحُ رَفْعٌ "صَـ"ـحَّ مِنْسَأَتَهْ سُكُو ... نُ هَمْزَتِهِ "مَـ"ـاضٍ وَأَبْدِلْهُ "إِ"ذْ "حَـ"ـلا
يريد: "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ" رفع الريح على الابتداء ولسليمان خبره كما يقول لزيد المال والنصب على إضمار: "وسخرنا لسليمان الريح" عطفا على معنى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} ؛ لأن ذلك تسخير لداود -عليه السلام- والمنسأة العصا العظيمة التي تكون مع الراعي على وزن محبرة وأصلها الهمز؛ لأنها من نسأت البعير زجرته وسقته وطردته فهي اسم آلة من ذلك كالمقدحة والمجرفة فقرأتها الجماعة كذلك على الأصل
__________
1 آية: 116.
(1/651)
________________________________________
وأبدل الهمزة ألفا نافع وأبو عمرو والهمز المتحرك لا يبدل حرف مد إلا سماعا وهذا مسموع قال الشاعر:
إذا دليت على المنساة من كبر
وأسكن ابن ذكوان الهمز تخفيفا وهو عند النحاة ضعيف: فإنه يلزم منه أن يوجد ساكن غير الألف قبل هاء التأنيث وهذا لا يوجد، وقال بعضهم: يمكن أن تكون القراءة بها بين بين وهو القياس في تخفيف هذه الهمزة، لكن الراوي لم يضبط، وقال صاحب التيسير: ابن ذكوان بهمزة ساكنة، ومثله قد يجيء في الشعر لإقامة الوزن، وأنشد الأخفش الدمشقي زاد الشيخ لبعض الأعراب:
صريع خمر قام من وكاته ... كقومة الشيخ إلى منساته
فقوله: ماضٍ إشارة إلى جوازه؛ أي: قد مضى حكمه والهاء في أبدله للهمز؛ أي: أبدل ذلك الهمز الساكن إذ خلا إبداله والله أعلم.
978-
مَسَاكِنِهِمْ سَكِّنْهُ وَاقْصُرْ عَلَى "شَـ"ـذًا ... وَفِي الكَافِ فَافْتَحْ "عَـ"ـالِمًا "فَـ"ـتُبَجَّلا
يريد: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} هذه قراءة الجماعة بالجمع، وأفرده حمزة والكسائي وحفص فقرءوا: {مَسْكَنِهِمْ} إلا أن الكسائي كسر الكاف وفتحها حمزة وحفص وكلاهما لغة والفتح أقيس، والجمع يجوز أن يكون لكل واحد منهما والله أعلم.
979-
نُجَازِي بِيَاءٍ وَافْتَحِ الزَّايَ وَالكَفُو ... رَ رَفْعٌ "سَمَا كَـ"ـمْ "صَـ"ـابَ أُكْلٍ أَضِفْ "حُـ"ـلا
"يُجازَى إلا الكفورُ" على بناء الفعل للمفعول، و"نجازي" بالنون؛ ليكون الفعل مسندا للفاعل، والكفور منصوب؛ لأنه مفعول وهو موافق لما قبله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} وصاب؛ أي: نزل؛ يعني: قد نزل نظائر في القرآن فيها الفعل مبني لما لم يسم فاعله نحو: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا} ، وقوله: سما هو خبر نجازي والكفور رفع جملة حالية، وكم صاب جملة أخرى خبرية عنه؛ أي: كم مرة ورد، وسيأتي في فاطر: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} 1.
ثم قال: أكل أضف حلا،؛ أي: ذا حلا يريد ذواتي أكل خمط، أضاف أبو عمرو "أكل" إلى "خمط" فانحذف التنوين من أكل، والباقون لم يضيفوا فبقي منونا، أما الخلاف في إسكان الكاف وضمها فقد سبق في سورة البقرة، واختار أبو عمرو التنوين قال؛ لأن الأكل ههنا هو الخمط في التفسير فالتنوين أولى به من الإضافة مع أن أهل هذه القراءة أكثر.
قلت: الأكل المأكول وهو الجنا كما قال:
__________
1 الآية: 36.
(1/652)
________________________________________
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} 1.
وثمر كل شيء يطلق عليه اسم شجرته وعلى الشجرة اسم ثمرها، فكما تقول عندي ثمرتان وعنب ورمان برفع الجميع وتنوينه فكذا تقول: هذا أكل خمط وأثل وسدر والإضافة على تقدير ثمرة هذا النوع من الشجر، وإنما ذكر سبحانه الأكل تصريحا بأن هذا صار مأكولهم بعد ما كانوا مخولين في ما شاءوا من ثمار الجنتين المقدم ذكرهما: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} ، قال أبو عبيد: الخمط كل شجرة مرة ذات شوك، وقال الزجاج: كل نبت أخذ طعما من مرارة فلم يمكن أكله خمط، وقيل في كتاب الخليل: الخمط شجرة الأراك وقال الجوهري: هو ضرب من الأراك له حمل يؤكل، والأثل شجر يشبه الطرفاء أعظم منه، قال الزمخشري: وجه من نون أن أصله ذواتي أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل: ذواتي أكل شفيع.
قلتُ: هو نحو قولهم: مررت بقاع عرفج كله أو على تقدير ذي خمط كما قيل ذلك في قوله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} 2.
أي: ذي صديد، وأجاز جماعة أن يكون بدلا، ومنعه أبو علي، فاختار أن يكون عطف بيان، ورجح قراءة الإضافة فقال: ما ذهب إليه أبو عمرو في قراءته بالإضافة حسن؛ فإن الأكل إذا كان الجناء فإن جناء كل شجرة منه قال: وخير الإضافة ليس في حسن الإضافة؛ وذلك لأن الخمط إنما هو اسم شجرة وليس بوصف وإذا لم يكن وصفا ولم يجر على ما قبله كما يجري الوصف على الموصوف والبدل ليس بالسهل أيضا؛ لأنه ليس هو هو ولا بعضه؛ لأن الجناء من الشجرة وليس الشجرة من الجناء قال: فيكون إجراؤه عليه على وجه عطف البيان كأنه بين أن الجناء لهذا الشجر ومنه وكان الذي حسن ذلك أنهم قد استعملوا هذه الكلمة استعمال الصفة، قال الشاعر في صفته:
القفار ليست بخطمه
قال أبو الحسن: الأحسن في كلام العرب أن يضيفوا ما كان من نحو هذا مثل دار آجر وثوب خز قال: وأكل خمط قراءة كثيرة وليست بالجيدة في العربية وقال الفراء: الخمط في التفسير هو الأراك وهو البربر، قال النحاس: قال محمد بن يزيد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا تشتهي، واللبن خمط إذا حمض والأولى عنده في القراءة: "ذواتي أكل خمط" بالتنوين على أنه نعت لأكل أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة وأكل مرارة والله أعلم.
980-
وَ"حَقُّ" لِوَا بَاعِدْ بِقَصْرٍ مُشَدَّدًا ... وَصَدَّقَ لِلْكُوفِيِّ جَاءَ مُثَقَّلا
باعد مبتدأ وخبره: حق لوا ويقصر مشددا حالان من باعد عاملهما: حق؛ لأنه مصدر وقصر لفظ اللواء ضرورة وكنى بذلك عن شهرة القراءة وكلتاهما واضحة: باعد وبعد مثل ضاعف وضعف
__________
1 و2 سورة إبراهيم -عليه السلام- الآيتان: 26 و16.
(1/653)
________________________________________
يريد قوله سبحانه: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} و {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} بالتخفيف والتشديد، قيل: هما سواء "وظنه" مفعول به يقال: وعد مصدوق ومكذوب، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} 1.
ومن أبيات الحماسة:
فوارس صدقوا فيهم ظنوني
أي: كان منهم ما ظننت فيهم وكذا إبليس ظن أنه يقويهم إلا قليلا فوقع ذلك وقيل: التقدير: في قراءة التخفيف في ظنه فحذف الجار متعدي الفعل فنصب وقبل التقدير: ظن ظنه نحو فعلته جهدك وقيل: في التشديد حق عليهم ظنه أو وجده صادقًا، وروى ظنه بالرفع على تخفيف صدق فيكون ظنه بدلا من إبليس وقيل: أيضا بجواز نصب إبليس، ورفع ظنه فكما صدق إبليس ظنه فكذا صدق ظنه وظنه هو قوله: لأغوينهم أجمعين قال ذلك ظنا.
981-
وَفُزِّعَ فَتْحُ الضَّمِّ وَالكَسْرِ "كَـ"ـامِلٌ ... وَمَنْ أَذِنَ اضْمُمْ "حُـ"ـلْوَ "شَـ"ـرْعٍ تَسَلْسَلا
الخلف في هذين الفعلين في إسناد الفعل إلى الفاعل وهو الله -عز وجل- أو لما لم يسم فاعله وكلاهما ظاهر فإن أسند فزع إلى الفاعل فالفاعل هو الله تعالى أو ما هناك من الحال قال ابن جني: إضمار الفاعل؛ لدلالة الحال عليه كثير منه ما حكاه سيبويه من قولهم: إذا كان غدًا فائتني، وكذلك قول الشاعر:
فإن كان لا يرضيك حتى تردني ... إلى قطري لا أخالك راضيا
أي: إن كان لا يرضيك ما جرى أو ما الحال عليه:
قلت: وقرئ شاذًّا فزع بتخفيف الزاي مع البناء للمفعول وقرئ أيضا بالراء المهملة والعين المعجمة مع البناء للفاعل أو المفعول والراء مشددة ومخففة فهذه ست قراءات مع البناء للمفعول واثنان مع البناء للفاعل ومفعول ما لم يسم فاعله قوله: {عَنْ قُلُوبِهِمْ} نحو سير عن البلد.
قال ابن جني: المعنى في جميع ذلك إذا كشف عن قلوبهم، وقوله: "حلو شرع" حال من مفعول اضمم.
982-
وَفِي الغُرْفَةِ التَّوْحِيدُ "فَـ"ـازَ وَيُهْمَزُ التْـ ... ـتَنَاوُشُ "حُـ"ـلْوًا "صُحْبَةً" وَتَوَصُّلا
يريد: {وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ} ، ووجه الجمع ظاهر كما جاء في موضع آخر: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} 1، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} 2.
ووجه الإفراد قوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} فهو اسم جنس يراد به الجمع والكثرة والتناوش
__________
1 سورة هود، آية: 65.
2 سورة الزمر، آية: 20.
3 سورة سبأ، آية: 37.
(1/654)
________________________________________
التناول بغير همز، ووجه الهمز ضم الواو مثل: أقتت وأدؤر وأجوه، وقيل: هو من ناشت إذا تأخرت وأبطأت وإذا وقف حمزة جعل الهمزة بين بين على أصله، وذكر صاحب التيسير له وجها آخر هنا: أنه يقف بضم الواو على تعليل الهمز بأن سببه ضمة الواو فقال: فعلى هذا يقف بضم الواو، ويرد ذلك إلى أصله، ولم يتعرض الناظم -رحمه الله- لهذا الوجه في نظمه هنا، واعتذر عن ذلك فيما وجدته في حاشية النسخة المقروة عليه، فقال: تركه لضعف هذا التأويل قال: ثم لو صح كيف يرد الوقف الشيء إلى أصله وهو عارض وأين له نظير حتى يبني عليه، ويلزمه ذلك في عطاء وجزاء.
قلتُ: وهذا الوجه صحيح لحمزة، ولكن مأخذه اتباع الرسم كما سبق في بابه واستغنى الناظم بذلك عن ذكره هنا والله أعلم.
وقوله: "حلوا" حال من التناوش وصحبة وتوصلا تمييزان من الحال؛ أي: حلوا صحبته وتوصله.
983-
وَأَجْرِي عِبَادِي رَبِّيَ اليَا مُضَافُها ... وَقُلْ رَفْعُ غَيْرُ اللهِ بِالْخَفْضِ "شُـ"ـكِّلا
يريد: الياء في هذه الكلمات الثلاث هي مضافها؛ أي: الذي يجري عليه أحكام ياءات الإضافة بالفتح والإسكان فقوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلّ} فتحها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص. {عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فتحها كلهم غير حمزة. "رَبِّيَ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ" فتحها نافع وأبو عمرو، وفي سبأ زائدتان كالجواري أثبتها أبو عمرو وورش في الوصل وابن كثير في الحالين. "فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ" أثبتها في الوصل ورش وحده. وأما: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 1 في سورة فاطر، فالخفض صفة الخالق على اللفظ والرفع صفة على المعنى؛ لأن التقدير: هل خالق غير الله ومعنى شكل صدر والله أعلم.
984-
وَنَجْزِي بِياءٍ ضُمَّ مَعْ فَتْحِ زَايِهِ ... وَكُلَّ بِهِ ارْفَعْ وَهْوَ عَنْ وَلَدِ العَلا
يريد: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} قرأه أبو عمرو بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأه الباقون بفتح النون على بنائه للفاعل والهاء في "به" تعود على يجزي؛ لأن كل مرفوع به؛ لأنه مفعوله الذي أقيم مقام فاعله ونصبه الباقون على المفعولية:
985-
وَفِي السَّيِّئِ المَخْفُوضِ هَمْزًا سُكُونُهُ ... "فَـ"ـشا بَيِّناتٍ قَصْرُ "حَقٍّ فَـ"ـتًى "عَـ"ـلا
همزا منصوب على التمييز؛ أي: المخفوض همزه، يريد: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} احترازا من المرفوع بعده وهو
__________
1 الآية: 3.
(1/655)
________________________________________
{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} فإنه لا خلاف في تحريك همزه، أما ذلك المخفوض فروي عن حمزة سكون همزه تخفيفا؛ لأجل كثرة الحركات وقد سبق ما في هذا في قراءة: "بارئكم" و"يأمركم"، ونحوه، وقيل: إنه وصل بنية الوقف، وعندي أنه أسكنه وقفا فظن الراوي أنه يفعل ذلك وصلا، وسبب كونه أسكن هذه الهمزة وقفا أن من مذهبه تخفيف الهمز في الوقف على الطريقة المذكورة في بابه، وقياسها أن تبدل هذه الهمزة ياء؛ لأنها تسكن للوقف وقبلها مكسور فيجب قلبها ياء إذا خففت فكأنه استثقل اجتماع ثلاث ياءات؛ الوسطى مكسورة فترك الهمز ساكنا على حاله فهو أخف من إبداله فهو نظير ما فعله أبو عمرو في "تؤوي" وتؤويه حين لم يبدل همزه استثقالا للإبدال وهو معنى قول الناظم فيما سبق أخف بهمزة، وقال الزمخشري: لعله اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ: "ولا يحيق"، قال أبو جعفر النحاس: قال الأعمش وحمزة: "وَمَكْرَ السَّيِّئ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ" فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني، قال أبو إسحاق: وهو لحن، قال أبو جعفر: وإنما صار لحنا؛ لأنه حذف الإعراب منه، وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر؛ لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها لأنها دخلت للفرق بين المعاني، وقد عظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا وال: إنما كان يقف عليه فغلط من أدى عنه، قال: والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وأن الثاني لما لم يكن الكلام أعربه، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول؛ لأنها ضمة بين كسرتين قال: واحتج بعض النحويين لحمزة في هذا بأن سيبويه أنشد:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم ... فاليوم أشرب غير مستحقب
قال: وهذا لا حجة فيه؛ لأن سيبويه لم يجزه وإنما حكاه على الشذوذ وضرورة الشعر، وقد خولف فيه وقيل: إنما هو: صاح قوم: وفاليوم فاشرب:
قال الزجاج: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} موقوفًا، وهذا عند النحويين من الحذاق بالنحو، وإنما يجوز في الشعر في الاضطرار وأنشدوا: "قلت: صاحب قوم ... "، "اليوم اشرب غير ... " قال: وهذان البيتان قد أنشدهما جميع النحويين المذكورين وزعموا كلهم أن هذا من الاضطرار في الشعر، ولا يجوز مثله في كتاب الله تعالى، أنشدناهما أبو العباس محمد بن يزيد -رحمه الله- تعالى:
إذا اعوجحن قلت صالح قوم
وهذا جيد بالغ، وأنشدنا:
فاليوم فاشرب غير مستحقب
فأما ما يروى عن أبي عمرو بن العلا: {إِلَى بَارِئِكُمْ} فإنما هو أن يختلس الكسر اختلاسا ولا يجزم بارئكم قال: وهذا إنما رواه عن أبي عمرو من لا يضبط النحو كضبط سيبويه والخليل، ورواه سيبويه باختلاس الكسر كأنه يقلل صوته عند الكسر وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد والاحتجاج للإسكان لأجل توالي الكسرات والاضطرار: وللوصل بنية الوقف ثم قال: وإذا ساغ ما ذكرنا في هذه القراءة من التأويل لم يسغ لقائل أن يقول: إنه لحن ألا ترى أن العرب قد استعملوا ما في قياس ذلك.
ثم قال: وهذه القراءة وإن كان لها مخلص من الطعن، فالوجه قراءة الحرف على ما عليه الجمهور
(1/656)
________________________________________
في الدرج وقال ابن القشيري: ما ثبت بالاستفاضة والتواتر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأه فلا بد من جوازه ولا يجوز أن يقال إنه لحن ولعل مراد من صار إلى التخطئة أن غيره أفصح منه وإن كان هو فصيحًا.
قلتُ: وعلى الجملة فإسكان السيئ أهون من إسكان بارئكم؛ لإمكان حمل ذلك على الوقف كما سبق ولا يمكن تقدير ذلك في "بارئكم"، و"يأمركم" والله أعلم. وقال مكي: لو نوى الوقف لخفف الهمزة على أصله وهذا قد سبق الاعتذار عنه.
وقوله: بينات قصر حق فتى بإضافة حق إلى فتى علا يريد قوله تعالى: {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} فالإفراد فيه والجمع قد سبق لهما نظائر وليس في سورة فاطر ياء إضافة، وفيها زائدة واحدة: "فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِي" أثبتها في الوصل ورش وحده.
وقلت في ذلك مع الياءين اللتين ذكرناهما في سورة سبأ:
وزاد نكيري والجواري لذي سبأْ ... وفي فاطر أيضا نكيري تقبلا
(1/657)
________________________________________
سورة يس:
986-
وَتَنْزِيلُ نَصْبُ الرَّفْعِ "كَـ"ـهْفُ "صِـ"ـحابِهِ ... وَخَفِّفْ فَعَزَّزْنا لِشُعْبَةَ مُجْملا
النصب على المصدر؛ أي: نزل الله ذلك تنزيلا؛ يعني: الرسالة إليه التي دل عليها قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أو يكون تفسيرا للصراط المستقيم، وجعله الزمخشري منصوبا بإضمار أعني، وهو نصب على المدح، ووجه الرفع أنه خبر مبتدأ محذوف الخبر، قدر أبو علي الأمرين فقال: من رفع فعلى: هو تنزيل العزيز الرحيم، أو: تنزيل العزيز الرحيم هذا، وقال الفراء: القراءة بالنصب يريد: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} تنزيلًا حقا، ومن رفع جعله خبر "إنك" لتنزيل العزيز أو على الاستئناف؛ أي: ذلك تنزيل، وقال أبو عبيد: هي مثل: "صنع الله"، و"صبغة الله"، والرافعون يريدون هنا: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ومن خفف "فعززنا" فمعناه غلبنا، وهو مطاوع عازني فعززته؛ أي: غالبني فغلبته، ومعناه بالتشديد قوينا، قال أبو عبيد: وهذا أشبه بالمعنى. وقول الناظم محملا؛ أي: معينا على الحمل يقال أحملته؛ أي: أعنته على الحمل فمعناه مكثرا حملة هذه القراءة والله أعلم.
987-
وَمَا عَمِلَتْهُ يَحْذِفُ الْهاءَ "صُحْبَةٌ" ... وَوَالقَمَرَ ارْفَعْهُ "سَما" وَلَقَدْ حَلا
اختلفت المصاحف في إثبات الهاء وحذفها، وهي ضمير راجع إلى "ما" إن كانت بمعنى الذي، وقد أجمع في القرآن على إثبات الهاء في: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} 1، وعلى حذفها في مواضع: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} 2، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطَفَى} 3، {لَّا مَنْ رَحِمَ} 4.
ويجوز على حذف الهاء أن تكون "ما" مصدرية؛ أي: ومن عمل أيديهم، ويجوز على إثبات الهاء أن تكون "ما" نافية؛ أي: وما عملت أيديهم ذلك، ورفع والقمر ونصبه من باب زيد ضربته وفيه اللغتان وحسن للنصب ما قبله من الجملة الفعلية من قوله: {أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} ، {وَجَعَلْنَا} ، و {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ، فهو مثل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} .
__________
1 سورة البقرة، آية: 225.
2 سورة الفرقان، آية: 41.
3 سورة النمل، آية: 59
4 سورة هود، آية: 43.
(1/658)
________________________________________
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} 1، {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} 2.
أجمعوا على نصب كل ذلك وحسن الرفع أن المعنى: وآية لهم القمر كما قال تعالى قبله: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ} ، و: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} فكذا التقدير: وآية لهم الشمس وآية لهم القمر، فيكون مبتدءا وخبره ما بعده أو ما قبله على اختلاف في ذلك لاحتمال المعنى كلا منه ونستقصي إن شاء الله توجيه ذلك في شرح نظم المفصل في النحو وإلى هذا أشار الناظم بقوله: ولقد حلا، وكذا قال الفراء: الرفع أحب إلي من النصب؛ لأنه قال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} ، ثم جعل الشمس والقمر متبعين الليل فهما في مذهبه آيات مثله.
988-
وَخَا يَخْصِمُونَ افْتَحْ "سَمَا لُـ"ـذْ وَأَخْفِ "حُـ"ـلْـ ... ـوَ بَرٍّ وَسَكِّنْهُ وَخَفِّفْ "فَـ"ـتُكْمِلا
قرأ حمزة ما لفظ به الناظم سكن الخاء وخفف الضاد فهي من خصم يخصم إذا غلب في الخصومة؛ أي: يخصم بعضهم بعضا، وقيل: يجوز أن يكون الأصل يختصمون كما هو أصل قراءة غيره فحذف هو التاء وغيره أدغمها في الصاد، فلهذا شددت الصاد ثم لما أدغمت التاء في الصاد اجتمع ساكنان التاء المدغمة والخاء فمنهم من كسر الخاء؛ لالتقاء الساكنين وهم عاصم والكسائي وابن ذكوان، ومنهم من فتح الخاء بنقل حركة التاء المدغمة إليها مثل هذا الاختلاف ما سبق في سورة يونس في قوله تعالى: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي} 3، فعاصم طرد مذهبه في كسر ما قبل التاء المدغمة وزعم الفراء أن الكسر أكثر وأجود وخالفه غيره، وحكى ابن مجاهد وغيره عن أبي بكر كسر التاء في: "يِخِصِّمُونَ" تبعا للخاء كما كسر ياء يهدي وأبو عمرو وقالون أخفيا فتحة الخاء كما أخفيا فتحة الياء في يهدي، ووجه الدلالة على أنه أصل هذا الحرف السكون، وقال صاحب التيسير النص عن قالون الإسكان فيهما، وكذا ذكر ابن مجاهد وغيره وضعف ذلك الحذاق؛ لما فيه من الجمع بين الساكنين، قال الزجاج: هي ردية وكان بعض من روى قراءة أهل المدينة يذهب إلى أن هذا لم يضبط عن أهل المدينة كما لم يضبط عن أبي عمرو: {إِلَى بَارِئِكُمْ} 4.
وإنما زعم أن هذا يختلس فيه الحركة اختلاسا وهي فتحة الخاء والقول كما قال: والقراءة الجيدة بفتح الخاء وكسرها جيد أيضا وقال النحاس: إسكان الخاء لا يجوز؛ لأنه جمع بين الساكنين، وليس الأول حرف مد ولين، وإنما يجوز في هذا إخفاء الحركة فلم يضبط الراوي كما لم يضبط عن أبي عمرو: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} 5.
إلا من رواية من يضبط اللغة كما روى سيبويه عنه أنه كان يختلس الحركة.
__________
1 سورة الذاريات، الآيتان: 47 و48.
2 سورة النازعات، آية: 30.
3 آية: 35.
4 سورة البقرة، آية: 54.
5 سورة البقرة، آية: 54.
(1/659)
________________________________________
وقال بعض المتأخرين: ليس هذا بمنكر؛ لأن الساكن الثاني مدغم في حرف آخر والحرفان اللذان أُدغم أحدهما في الآخر يرتفع اللسان عنهما ارتفاعة واحدة فيصيران كحرف واحد متحرك فكأنه لم يلتق ههنا ساكنان.
قلت: هذا خلاف ما يشهد به الخبر لفظا ووزنا في الشعر بل الحرف المشدد حرفان حقيقة ولا يمكن الجمع بين الأول منهما وساكن قبله غير حرف مد، أما قول أبي علي من زعم أن ذلك ليس في طاقة اللسان يعلم فساده بغير استدلال فمقابل بمثله وقوله: حلو بر منصوب على الحال من فاعل أخف أو مفعوله؛ أي: أخف الفتحة في حال حلاوتها وبر يجوز بفتح الباء وكسرها وكلاهما له حلاوة شبه بها حلاوة الإخفاء، ولكونه بين المنزلتين دال على كل واحد من الأمرين الحركة والسكون.
989-
وَسَاكِنَ شُغْلٍ ضُمَّ "ذِ"كْرًا وَكَسْرُ فِي ... ظِلالٍ بِضَمٍّ وَاقْصُرِ اللامَ "شُـ"ـلْشُلا
أي: ضم الغين ذا ذكر وضمها وإسكانها لغتان وإذا ضم الكسر من قوله: في ظلال وهو كسر الظاء وقصر اللام؛ أي: لم تشبع فتحها فتصير ألفا وصارت الكلمة في ظلل جمع ظلة كحلة وحلل وظلال جمع ظل كقدح وقداح أو يكون أيضا جمع ظلة كبرمة وبرام، وأجمعوا على أن: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} 1 بالضم والقصر، وعلى: {يَتَفَيَّؤُا ظِلَالُهُ} بالكسر والمد وشلشلا حال من فاعل اقصر؛ أي: خفيفا.
990-
وَقُلْ جُبُلًا مَعْ كَسْرِ ضَمَّيْهِ ثِقْلُهُ ... "أَ"خُو "نُـ"ـصْرَةٍ وَاضْمُمْ وَسَكِّنْ "كَـ"ـذِي "حَـ"ـلا
أي: مع كسر الجيم والباء ثقل اللام؛ أي: ثقلها، يقال: ثِقَل وثِقْل بسكون القاف وفتحها، وتقدير النظم: ثقله مع كسر ضميه أخو نصرة فهذه قراءة نافع وعاصم جمع جبلة، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بضم الجيم وسكون الباء وهو تخفيف قراءة الباقين بضمهما قال الجوهري: جميع ذلك لغات وهو الجماعة من الناس قيل: جبلا جمع جبيل كرغف ورغيف والجبل الخلق وحلا في آخر البيت بفتح الحاء ومعناه الظفر وهو منصوب، وقد سبق في سورة الأحزاب مثله فمعنى كذى حلا؛ أي: كذي ظفر وهو في موضع الحال من فاعل وسكن.
991-
وَتَنْكُسْهُ فَاضْمُمْهُ وَحَرِّكْ لِعَاصِمٍ ... وَحَمْزَةَ وَاكْسِرْ عَنْهُمَا الضَّمَّ أَثْقَلا
أي: ضم نونه الأولى وافتح الثانية واكسر الكاف وشددها، فيصير "ننكسه" من نكسه مثله كسله وهو
__________
1 سورة البقرة، آية: 210.
(1/660)
________________________________________
مبالغة في نكسه بالتخفيف وقيل: المخفف أكثر استعمالا وفي المشدد موافقة "نعمره" في اللفظ، وأرادوا كسر ذا الضم وهو الكاف، وأثقلا حال منه بمعنى ثقيلا.
992-
لِيُنْذِرَ "دُ"مْ "غُـ"ـصْنًا وَالَاحْقَافُ هُمْ بِهَا ... بِخُلْفٍ "هَـ"ـدى مَا لِي وَإِنِّي مَعًا حُلا
أي: مشبها غصنا في حملك للعلم المشفع به كما يحمل الغصن الثمر يريد: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} الغيب للقرآن والخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفي الأحقاف: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 1.
وقوله: هم بها؛ أي: قرءوا فيها بما قرءوا به هنا وهو الغيب الذي دل عليه إطلاقه للحرف وعدم تقييده، واختلف عن البزي في الأحقاف فقط، ثم ذكر ياءات لإضافة في يس وهي ثلاث: "وَمَا لِي لا أَعْبُدُ" سكنها حمزة وحده. "إِنِّيَ إِذًا لَفِي ضَلالٍ" فتحها نافع وأبو عمرو. و"إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ" فتحها الحرميان وأبو عمرو. وفيها زائدة واحدة: "وَلا يُنْقِذُونِي" أثبتها في الوصل ورش وحده. وقلت في ذلك:
ويس زد فيها ولا ينقذون مع ... لتردين فيما فوق صاد تنزلا
__________
1 آية: 12.
(1/661)
________________________________________
سورة الصافات
...
سورة والصافات:
993-
وَصَفًّا وَزَجْرًا ذِكْرًا ادْغَمَ حَمْزَةٌ ... وَذَرْوًا بِلا رَوْمٍ بِها التَّا فَثَقَّلا
أي: وذكرا فحذف حرف العطف، وذروا عطف عليها أيضا فصل بينهما بقوله: أدغم حمزة وقوله: بلا روم؛ أي: إدغاما محضا بخلاف ما سبق ذكره في مذهب أبي عمرو في الإدغام في شرح قوله: واشمم ورم في غير باء وميمها، وقوله: بها؛ أي: في أوائل هذه الكلمات الأربع التاء مفعول أدغم؛ أي: أدغم حمزة التاء الموجودة قبل كل واحد من هذه الألفاظ في هذه الألفاظ في أوائلها فثقل؛ أي: فشدد؛ لأن الإدغام يوجب ذلك أراد إدغام: "وَالصَّافَّاتِ صَفًّا"، "فَالزَّاجِرَات زَّجْرًا"، "فَالتَّالِيَات ذِّكْرًا" هذه الثلاثة هنا، والرابعة: "وَالذَّارِيَات ذَّرْوًا"1.
فإن قلتَ: ما للناظم لم يذكر أبا عمرو مع حمزة في إدغام هذه المواضع وهو مشاركه في هذا المذهب وتقدم ذكر باب الإدغام لأبي عمرو وغير مانع له من ذلك كما ذكره معه في قوله: إدغام بيت في حلا وقد تقدم في سورة النساء؟
قلتُ: مذهب أبي عمرو في الإدغام غير مذهب حمزة، وذلك أن المنقول عن أبي عمرو أنه كان يفعل ذلك عند الإدراج والتخفيف وترك الهمز الساكن فإذا همز أو حقق لم يدغم من الحروف المتحركة شيئا إلا: "بَيَّت طَّائِفَةٌ"2، فلما كان يدغم: بَيَّت طَّائِفَةٌ" مطلقا أشبه ذلك مذهب حمزة فذكره معه فيها ولما كان أمره في: "وَالصَّافَّاتِ صَفًّا" على خلاف ذلك لم يذكره معه، ولهذا قال ابن مجاهد: قرأ أبو عمرو، وإذا أدغم وحمزة على كل حال: "وَالصَّافَّاتِ صَفًّا" فقيد ذكر أبي عمرو بقوله: إذا أدغم، وقال في حمزة على كل حال وترك الإدغام هو المختار في ذلك قال الفراء: كان ابن مسعود يدغم التاء من: "والصافات"، "فالزاجرات"، "فالتاليات"، والتبيان أجود؛ لأن القراءة ثبتت على التمكين والتفصيل والبيان، وقال أبو عبيد: وكان الأعمش يدغمهن والقراءة التي نختارها هي الأولى بالتحقيق والبيان على ما ذكرنا من مذهبنا في جميع القرآن إلا ما ان يخالف الخط ويخرج من لغات العرب، وقال النحاس: وهذه القراءة التي نَفِر منها أحمد بن حنبل لما سمعها؛ يعني: الإدغام والله أعلم.
994-
وَخَلادُهُمْ بِالْخُلْفِ فَالْمُلْقِياتِ فَالْـ ... ـمُغِيرَاتِ فِي ذِكْرًا وَصُبْحًا فَحَصِّلا
أي: وأدغم خلاد بخلاف عنه: "فَالْمُلْقِيَاتِ" في سورة: "وَالْمُرْسَلاتِ" في ذال ذكر وتاء: "فَالْمُغِيرَاتِ" في
__________
1 سورة الذاريات، آية: 1.
2 سورة النساء، آية: 81.
(1/662)
________________________________________
سورة: "وَالْعَادِيَاتِ" في صاد: "صُبْحًا"، وزاد أبو عمرو في مذهب الإدغام على ذلك إدغام: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ، وإدغام: "وَالسَّابِحَات سَبْحًا، فَالسَّابِقَات سَبْقًا" في سورة والنازعات، وابن مجاهد وغيره من أكابر المصنفين لم يذكروا لحمزة إدغاما إلا في الكلمات الأربع المتقدمة، ولم يذكر أبو عبيد سوى الثلاث التي في الصافات، أما هذا المذكور عن خلاد في إدغام هذين الموضعين فقريب، وعنى به قول صاحب التيسير: واقرأني أبو الفتح في رواية خلاد: "فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا"، "فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا" بالإدغام أيضا من غير إشارة، وذكر في غير التيسير أن حمزة لم يدغم إلا الأربعة الأول.
قال الشيخ: وكذا ذكر ابن غلبون وغيره، ولم يذكر أبو الفتح في كتابه إلا المواضع الأربعة عن حمزة والفاء في فحصلا ليست برمز؛ لأنه قصد صرح أولا بالقارئ وهو خلاد.
فإن قلت: يحتمل أنه أراد الخلف عن خلاد في المواضع المتقدمة كما قال في آخر يس: بخلف هدى، ويكون إدغام هذين الموضعين لحمزة.
قلت: يمنع من ذلك أن الواو في: وخلادهم فاصلة.
فإن قلت: قد جاء أشياء على هذه الصورة والخلف لما مضى نحو: وقالون ذو خلف، ووجهان فيه لابن ذكوان ههنا وخلف فيهما مع مضمر مصيب.
قلت: قوله: فيه وفيهما بيان لموضع الخلاف والواو بعد ذلك فاصلة أيضا في المواضع الثلاثة المذكورة.
995-
بِزِينَةِ نَوِّنْ "فِـ"ـى "نَـ"ـدٍ وَالْكَوَاكِبِ انْـ ... ـصِبُوا "صَـ"ـفْوَةً يَسَّمَّعُونَ "شَـ"ـذًا "عَـ"ـلا
أي: كائنا في مكان ندٍ، وفي بعض النسخ: في ندا بزيادة ألف؛ أي: كائنا في ندا وهو الكرم، وأشار بذلك إلى وجوه هذه القراءة، وصفوة: حال من الكواكب أو من المخاطبين وهو جمع صفي مثل صبي وصبية شذا حال من فاعل علا أو هو مفعول به؛ أي: علاه نحو: علا زيدنا يوم النقا زيدكم.
وهو تمييز مقدم على عامله على رأي من جوز ذلك؛ أي: على شذاه؛ أي: طيبه والقراءات في: "بزينة الكواكب" ثلاث؛ قرأ حمزة وحفص بتنوين زينة وخفض الكواكب، وأبو بكر بتنوين زينة ونصب الكواكب والباقون بإضافة زينة إلى الكواكب والزينة مصدر كالنسبة واسم لما يتزين به كما قوله سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1، ويحتمل الأمرين: قراءة الإضافة فإن فسر بالمصدر كان مضافا إلى فاعله، أو مفعوله؛ أي: بأن زانتها الكواكب أو بأن زان الله الكواكب وحسنها؛ لأنها إنما زينت السماء؛ لحسنها هي في أنفسها وإن فسر الزينة بالاسم فالإضافة للبيان نحو خاتم حديد؛ لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها فما يزان به أو يراد بما زينت به الكواكب؛ أي: بحليتها، وهو ضوءها وأشكالها المختلفة كالثريا والجوزاء وبنات نعش وأما
__________
1 سورة الكهف، آية: 46.
(1/663)
________________________________________
قراءة التنوين وجر الكواكب، فالكواكب عطف بيان أو بدل، والزينة فيها اسم لما يتزين به ونكر للتعظيم؛ أي: بزينة لها شأن عظيم ثم بينها بما هو مشاهد معلوم حسنه وزينه فقال: الكواكب، وقيل: يجوز على هذه القراءة أن تكون الزينة مصدرا وتجعل الكواكب بزينة مبالغة أو على تقدير زينة الكواكب فحذف المضاف، أما القراءة بنصب الكواكب مع التنوين فالزينة فيها مصدر، والكواكب مفعول به، وجوز الزجاج وغيره أن يكون بدلا من موضع بزينة وقيل: هو منصوب بإضمار أعني بعد التنكير المشعر بالتعظيم، فعلى هذين القولين يجوز أن تكون الزينة اسما لا مصدرا، ويجوز أن تكون مصدرا على المبالغة إن قلنا الكواكب بدلا من الموضع، وعلى تقدير: أعني زينة الكواكب إن قلنا: هو منصوب بإضمار أعني، وجوز الشيخ أبو عمرو أن تكون الكواكب بدلا من السماء بدل الاشتمال قال كأنه قيل: إنا زينا الكواكب في السماء الدنيا بزينة فيكون الزينة مصدرا، قال الزجاج: بزينة الكواكب؛ يعني: بتنوين زينة ورفع الكواكب قال: ولا أعلم أحدا قرأ بها فلا تقرأن بها إلا أن تثبت رواية صحيحة؛ لأن القراءة سنة، والرفع في الكواكب على معنى: إنا زينا السماء الدنيا بأن زينتها الكواكب أو بأن زينت الكواكب.
قال النحاس: هو على ما حكى النحويون: عجبت من قراءة في الحمامِ القرآنَ بمعنى: إن قرئ، أما: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} فنشرحها في البيت الآتي، وهو:
996-
بِثِقْلَيْهِ وَاضْمُمْ تَا عَجِبْتَ "شَـ"ـذًا وَسَا ... كِنٌ مَعًا اوْ آبَاؤُنَا "كَـ"ـيْفَ "بَـ"ـلَّلا
أي: على بثقليه أراد تشديد السين والميم على ما لفظ به وأصله يتسمعون فأدغمت التاء في السين وقراءة الباقين: "لا يَسْمَعُونَ" من سمع إليه إذا أصغى مع الإدراك ولم ينبه على إسكان السين؛ لظهوره وإلا فلا يلزم من ضد النقل الإسكان بل يكفي ترك النقل، وذلك يكون تارة مع حركة كما في الميم وتارة مع سكون، واختار أبو عبيد قراءة التشديد؛ لأجل تعدية الفعل بإلى، وإنما عُدِّيَ بها على قراءة التخفيف؛ لتضمين الفعل معنى الإصغاء. قوله: واضمم تاء عجبت شذا؛ أي: ذا شذا فهو حال من الفاعل أو المفعول، وإضافة العجب إلى الله تعالى، وكذا سائر ما أضيف إليه مما لا يصح إنصافه بأعيانه المراد منه لوازمه وثمراته، فالمعنى هنا أن حال هؤلاء انتهت في القبح إلى حد يتعجب منه تعجب الإفكار والذم، وذكر أبو عبيد أنها قراءة ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن مقفل وإبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش -رضي الله عنهم- ويشهد لها: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ} ، فأخبر الله جل جلاله أنه عجب، والحديث المرفوع: "لقد عجب الله البارحة من فلان".
قلت: وفي حديث آخر: "يعجب ربكم من إلكم 1 وقنوطكم".
واختار أبو عبيد قراءة الرفع، وقال الفراء: الرفع أحب إلينا؛ لأنها قراءة علي وعبد الله وابن عباس -رضي الله عنهم- قال: والعجب وإن أسند إلى الله تعالى فليس معناه منه كمعناه من العباد كما أنه قال:
__________
1 قوله: إلكم؛ الإل: أشد القنوط، وقيل: هو الصوت بالبكاء. اهـ خطيب.
(1/664)
________________________________________
{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} 1. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 2.
وعجبت بالفتح خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقيل: التقدير في الضم: قل يا محمد: بل عجبت، أما: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} هنا وفي الواقعة وإلى ذلك الإشارة بقوله: معا فإسكان الواو وفتحها كما مضى في: {أَوَأَمِنَ} 3 في سورة الأعراف، وتقدير النظم: أوآباؤنا ساكن معا فالواو للعطف نحو: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ} 4.
قال الشيخ: ومعنى كيف بللا؛ أي: على تبليله وقلته؛ أي: لم يقرأ به سوى ابن عامر وقالون.
997-
وَفِي يُنْزَفُونَ الزَّايَ فَاكْسِرْ "شَـ"ـذًا وَقُلْ ... في الُاخْرى "ثَـ"ـوى وَاضْمُمْ يَزِفُّونَ "فَـ"ـاكْمُلا
هو بكسر الزاي من أنزف إذا سكر وذهب عقله. كما قال: لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم، أو من أنزف إذا نفد شرابه وبفتح الزاي بني الفعل لما لم يسم فاعله وليس هو الفعل المذكور فإنه لازم ولكن يقال نزف فهو منزوف ونزيف إذا سكر، وعنى بالأخرى التي في الواقعة ثم قال: واضمم يزفون؛ يعني: ضم الياء لحمزة وافتحها لغيره ولا خلاف في كسر الزاي والخلاف الذي مضى في ينزفون في الزاي فتحا وكسرا ولا خلاف في ضم الياء أراد: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} ، ومعناه بفتح الياء يسرعون من زف الظليم والبعير يزف زفيفا، ويزفون بالضم يصيرون إلى الزفيف أو من أزف غيره إذا حمله على الزفيف، والألف في قوله: فأكملا كالألف السابقة في فحصلا كلاهما بدل من نون التأكيد الخفيفة، وقد سبق مثله مرارا.
998-
وَمَاذَا تُرِى بِالضَّمِّ وَالكَسْر "شَـ"ـائِعٌ ... وَإِلْيَاسَ حَذْفُ الْهَمْزِ بِالْخُلْفِ "مُـ"ثِّلا
أي: قرأ حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء من غير لفظ إمالة على وزن رمى ودعى لفظا، ومعناه ماذا تظهر من الإذعان والانقياد لأمر الله تعالى، وقراءة الباقين بفتح التاء والراء وهو من الرأي اختبروا رأيه في ذلك، فوجد كما يحب -صلى الله عليه وسلم- وأمال الراء أبو عمرو على أصله وورش بين اللفظين، وإلياس سريانيّ تكلمت به العرب على وجوه كما فعلوا في جبريل وميكال فقالوا إلياسين كجبرائيل وإلياس كإسحاق، ووصلوا همزته كأنه في الأصل ياس دخلته آلة التعريف وموضع هذا الخلاف: "وَإِنَّ الْيَاسَ" وصل همزته ابن ذكوان وقطعها غيره.
__________
1 سورة التوبة، آية: 79.
2 سورة البقرة، آية: 15.
3 سورة الأعراف، آية: 98.
4 سورة الأعراف، آية: 63، 69.
(1/665)
________________________________________
999-
وَغَيْرُ "صِحَابٍ" رَفْعُهُ اللهَ رَبَّكُمْ ... وَرَبَّ وَإِلْياسِينَ بِالكَسْرِ وُصِّلا
الهاء في رفعه لغير صحاب؛ أي: مرفوعه؛ أي: الذي رفعه غير صحاب هو قوله: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ} 1 جعلوه مبتدأ وخبرًا، ولو قال برفع: {اللَّهُ رَبُّكُمْ} لحصل الغرض وكان أبين لفظا، ونصب الثلاث صحاب جعلوا ذلك بدلا من: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، أو عطف بيان، أما: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} فكسر همزتها وقصرها وأسكن كسر لامها من ذكره في قوله:
1000-
مَعَ الْقَصْرِ مَعْ إِسْكَانِ كَسْرٍ "دَ"نَا "غِـ"ـنًى ... وَإِنِّي وَذُو الثُّنْيَا وَأَنِّيَ أُجْمِلا
عنى بالقصر حذف المد بين الهمزة المفتوحة واللام المكسورة فقرأ مدلول قوله: دنا غنا على ما لفظ به في البيت السابق، وغنا في موضع نصب على التمييز أو الحال؛ أي: دنا غناه أو ذا غناء؛ لأن هذه القراءة استغنت بوضوحها عن تأويل القراءة الأخرى؛ لأن هذا لغة في اسم إلياس على ما سبق، وقرأه نافع وابن عامر "آل ياسين" كما جاء "آل عمران"، وكتبت كذا مفصولة في المصحف كأن اسمه يس على وزن ميكال، فيكون اسمه جاء في القرآن بأربع لغات، وكذا سبق في قراءة اسم جبريل وهي إلياس بقطع الهمزة ووصلها وياسين وإلياسين، وتكون القراءتان قد تضمنتا التسليم عليه وعلى آله، وقيل: أريد بآله نفسه، وقيل: سلم عليهم من أجله تنبيها على استحقاقهم لذلك؛ لعدم شهرتهم بخلاف آل باقي الأنبياء المسلم عليهم في هذه السورة، وقيل: المراد بالقراءتين آله وإلياسين جمع فهو من باب قول الراجز:
قدني من نصر الخبيس قدني
ورد هذا بأنه لو أريد لكان الوجه تعريفه فيقال الإلياسين كقوله: الخبييين، وقرئ على إلياسين بوصل الهمزة فهذا يمكن فيه ذلك؛ لأن فيه "أل" التعريف، وقيل: ياسين اسم أبي إلياس أضيف الآل إليه فدخل إلياس فيهم، ثم ذكر ياءات الإضافة في هذه السورة وهي ثلاث: "إنيَ أرى من المنام أنيَ أذبحك" فتحهما الحرميان وأبو عمرو. "سَتَجِدُنِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ" فتحهما نافع وحده، وهي المراد بقوله: وذو الثنيا وقد سبق معنى ذلك في آخر سورة القصص، وفيها زائدة واحدة: "لَتُرْدِينِي" أثبتها ورش وحده في الوصل، وقد سبق نظمها مع زائدة: "وَلا يُنْقِذُونِي" في آخر سورة يس1 والألف في قوله: أجملا للإطلاق لا للتثنية؛ لأن المذكور ثلاث ياءات نبهت على المذكور على وجه الإجمال دون التفصيل كما قال في باب ياءات الإضافة: أحكيه مجملا، ويجوز أن تكون الألف للتثنية ويكون الضمير "لأني"، و"إني" فهما المجملان بين ألفاظ السورة أما: "سَتَجِدُنِي" فلا؛ فإنها بقوله: وذو الثنيا متميزة فكأنها مذكورة بعينها.
__________
1 آية: 23.
(1/666)
________________________________________
سورة ص:
1001-
وَضَمُّ فَوَاقٍ "شَـ"ـاعَ خَالِصَةٍ أَضِفْ ... لَهُ "ا"لرَّحْبُ وَحِّدْ عَبْدَنا قَبْلُ "دُ"خْلُلا
فَواق بضم الفاء وفتحها لغتان، وقيل: الفتح بمعنى الإفاقة والضم ما بين شخب الحلبتين؛ أي: ما لها من رجوع أو ما يمهلهم ولا مقدار فواق. {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} بالإضافة؛ أي: بما خلص من ذكراها؛ أي: لا يخلطون ذكر الآخرة بالدنيا، وتقدير قراءة التنوين يخلصه خالصة، ثم بينها فقال: هي ذكرى الدار، وقوله: وحد عبدنا قبل؛ أي: الذي قبل خالصة؛ احترازًا من توحيد غيره فإنه مجمع عليه، وعبادنا بالجمع ظاهر؛ لأن بعده إبراهيم وإسحق ويعقوب ووجه الإفراد تمييز إبراهيم -عليه السلام- على ولده بتشريفه بوصفه بالعبودية كما ميز بالخلة وعطف عليه ما بعده ولهذا قال: دخللا؛ أي: هو خاص دخللا لإبراهيم ودخيل الرجل ودخلله الذي يداخله في أموره ويختص به، ويجوز أن يكون المراد به أنه مداخل لما قبله في الإفراد، وهو قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} {نِعْمَ الْعَبْدُ} ، وقبل ذلك: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} فصرح لهؤلاء بوصف العبودية لفظا وهي مراده للكل تقديرا؛ لأنهم جميعهم من الطبقة العليا المصطفين من الخلق.
فإن قلتَ: مفهوم قوله: أضف أن قراءة الباقين بترك الإضافة وترك الإضافة تارة يكون لأجل التنوين وتارة لأجل الألف واللام فمن أين تعين التنوين لقراءة الباقين؟
قلتُ: من وجهين أحدهما أنه لفظ بها منونة في نظمه فكأنه قال: أضف هذا اللفظ فضده ل تضف هذا اللفظ والثاني أن الألف واللام زيادة على رسم الكلمة فلا يذهب وهم إليها.
1002-
وَفي يُوعَدُونَ "د"مُ "حُـ"ـلًا وَبِقَافِ "دُ"مْ ... وَثَقَّلَ غَسَّاقًا مَعًا "شَـ"ـائِدٌ "عُـ"ـلا
يريد: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} وجه الغيب أن قبله: "وَعِنْدَهُمُ" والخطاب للمؤمنين وفي ق: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} 1.
لم يقرأه بالغيب إلا ابن كثير وحده؛ لأن قبله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} 2.
وقوله: دم حلا؛ أي: ذا حلا أو دامت حلاك نحو: طب نفسا فهو حال أو تمييز والجملة دعا له بذلك، والغساق بتخفيف السين وتشديدها واحد وهو ما يسيل من صديد أهل النار: أعاذنا الله بكرمه منها، وقوله: شائد علا فاعل ثقل؛ أي: قارئ هذه صفته شاد العلا: فيما حصل من العلم والمعرفة، وقوله: معا؛ يعني: هنا: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} ، وفي سورة النبأ: {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} 3.
__________
1 آية: 32.
2 آية: 31.
3 آية: 35.
(1/667)
________________________________________
1003-
وَآخَرُ لِلْبَصْرِي بَضَمٍّ وَقَصْرِهِ ... وَوَصْلُ اتَّخَذْناهُمْ "حَـ"ـلًا "شَـ"ـرْعُهُ وِلا
يريد: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ} ؛ أي: وعذاب آخر، وقرأه أبو عمرو وأُخر بضم الهمزة ولا مد بعدها فصار على وزن كُبر جمع أخرى؛ أي: وعقوبات أخر وقوله بعد ذلك: أزواج خبر وأخر على القراءتين وجاز أن يكون لفظ المبتدأ واحدا والخبر جمعا؛ لأن العذاب يشتمل على ضروب كما تقول عذاب فلان أنواع شتى وقرئ: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} بوصل الهمزة، فتذهب في الدرج وتكسر إذا ابتدئ بها، وقرئت بالقطع فتفتح مطلقا.
فإن قلتَ: من أين علم أن همزة القطع هنا مفتوحة؟
قلتُ: من جهة أنها همزة في أول فعل ماض فلا تكون إذا كانت للقطع إلا مفتوحة؛ لأنها همزة استفهام هنا وتقع في غير الاستفهام في نحو أكرم لا تخرج همزة الفعل الماضي المقطوعة عن ذلك و {أَتَّخَذْنَاهُم} بالوصل جملة صفة واقعة لرجالا بعد صفة وبالقطع على أنه استفهام إنكار على أنفسهم وأم بعد الاستفهام متصلة وبعد الخبر منقطعة، وولا بالكسر حال؛ أي: ذا ولاء؛ أي: متابعة أو يكون مفعولا من أجله؛ أي: حلا شرعه من أجل ما لزمه من المتابعة ويجوز أن يكون تمييزا؛ أي: حلت متابعة شرعه.
1004-
وَفَالْحَقُّ "فِـ"ـى "نَـ"ـصْرٍ وَخُذْ يَاءَ لِي مَعًا ... وَإِنِّي وَبَعْدِي مَسَّنِي لَعْنَتِى إلى
أي: فالحق أنا أو فالحق مني، والنصب على الأخرى؛ أي: فالتزموا الحق أو على حذف حرفي القسم نحو: والله لأفعلن، ولا خلاف في نصب والحق أقول وفيها ست ياءات إضافة: {وَلِيَ نَعْجَةٌ} ، {مَا كَانَ لِيَ مِنْ} ثم فتحهما حفص وحيث: "إنيَ أحببت" وفتحها، وكان أبو عمر وجدتان وأبو عمر. "لأحد من بعديَ إنك" فتحها نافع وأبو عمرو. "مسنى الضر" سكنها حمزة وحده. "لَعْنَتِيَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ"، وفتحها نافع وحده.
(1/668)
________________________________________
سورة الزمر:
1005-
أَمَنْ خَفَّ "حِرْمِيٌّ فَـ"ـشَا مَدَّ سَالِمًا ... مَعَ الكَسْرِ "حَقٌّ" عَبْدَهُ اجْمَعْ "شَـ"ـمَرْدَلا
يريد: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} من خفف جعل الهمزة للنداء أو الاستفهام والخبر محذوف؛ أي: كغيره كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} فهي أم دخلت على من فأدغمت الميم في مثلها والمعادل؛ لأن محذوف تقديره الكافر المتخذ من دون الله أندادًا خير أم من هو قانت ومثلها: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ} على قراءة الوصل معناه مفقودون هم أم زاغت الأبصار عنهم ونحوه: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} ؛ أي: أحاضر هو أم غائب، ويجوز أن تكون "أم" منقطعة في جميع ذلك، وتقدير موضعها بل وهمزة الاستفهام، فيتحد تقدير المحذوف في القراءتين هنا وهو الخبر، وعلى التقدير الأول يكون المحذوف هو المبتدأ ونظيره قوله تعالى في سورة محمد -صلى الله عليه وسلم: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} ؛ أي: أهؤلاء كمن هو خالد في النار، ومن الاتفاق العجيب أنه لو جمع بين اللفظين في السورتين؛ لانتظم مضى ما قدر في كل واحد منهما، وهو: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} كمن هو خالد، وقول الناظم: أمن مبتدأ خبره حرمى فشا، وخف في موضع الحال من أمن؛ أي: أمن لفظ حرمي فشا خفيفا، ثم استأنف جملة أخرى فعلية أو اسمية فقوله: مد إما فعل ماضٍ فاعله حق وإما مبتدأ خبره حق أراد، و {رَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} فقوله: سلما مصدر سلم ذا سلامة يقال سلم سلما وسلما وسلامة، ومن قرأ بالمد وكسر اللام فظاهر، و {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الإفراد للجنس، ووجه الجمع ظاهر وشمردلا؛ أي: خفيفا وهو حال من الفاعل أو المفعول.
1006-
وَقُلْ كَاشِفاتٌ مُمْسِكَاتٌ مُنَوِّنًا ... وَرَحْمَتِهِ مَعْ ضُرِّهِ النَّصْبُ "حُمِّلا"
يريد: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} ، و {مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} قراءة أبي عمرو على الأصل بالتنوين ونصب ضره ورحمته؛ لأنهما مفعولا كاشفات ممسكات وقراءة الباقين على الإضافة فهما مثل زيد ضارب عمرا وضارب عمرو وفي قوله: حملا ضمير تثنية وهو الألف يرجع إلى رحمته وضره والنصب مفعول ثانٍ لحملا؛ أي: حملا النصب ومنونا حال من فاعل قال:
1007-
وَضُمَّ قَضى وَاكْسِرْ وَحَرِّكْ وَبَعْدَ رَفْـ ... ـعُ "شَـ"ـافٍ مَفَازَاتٍ اجْمَعُوا "شَـ"ـاعَ "صَـ"ـنْدَلا
أي: ضم القاف واكسر الضاد وافتح الياء وارفع ما بعد ذلك وهو الموت؛ لأنه مفعول قضى المبني لما لم يسم فاعله وقراءة الباقين على بناء الفعل للفاعل والموت مفعول به منصوب وقوله: رفع شافٍ؛ أي: رفع قارئ شافٍ، أما بمفازاتهم فالجمع والإفراد فيه ظاهران مثل مكاناتكم ومكانتكم وصندلا حال أو تمييز؛ أي: ذا صندل أو شاع صندله؛ أي: طيبه.
(1/669)
________________________________________
1008-
وَزِدْ تَأْمُرونِي النُّونَ "كَـ"ـهْفًا وَ"عَمَّ" خِفْـ ... فُهُ فُتِّحَتْ خَفِّفْ وَفِي النَّبأِ العلا
يريد: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي} ، قرأه بنونين ابن عامر على الأصل وهما نون رفع الفعل ونون الوقاية، وحذف نون الوقاية نافع وحده، وأدغم الباقون نون الرفع في نون الوقاية، ولما أظهر ابن عامر النون زال الإدغام فزال التشديد في قراءته، فلهذا ذكره مع نافع في تخفيف النون ولو لم يقل ذلك لزيدت نون مع بقاء الأخرى على تشديدها، أما: {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} في الموضعين فخفف الكوفيون تاءه، وشددها غيرهم، وكذا في سورة النبأ: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} 1.
وقد سبق في الأنعام والأعراف نظير ذلك، والعلا نعت لسورة النبأ وليس برمز؛ لأنه قد صرح بصاحب هذه القراءة في البيت الآتي وهو:
1009-
لِكُوفٍ وَخُذْ يَا تَأْمُرُونِي أَرَادَنِي ... وَإِنِّي مَعًا مَعْ يَا عِبَادِي فَحَصِّلا
محصلا حال من فاعل خذ ياء هذه الكلمات محصلا لها فهي التي اختلف في إسكانها وفتحها أراد: "تَأْمُرُونِّيَ أَعْبُدُ" فتحها الحرميان. "أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ" أسكنها حمزة وحده ولا خلاف في إسكان: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} ، وقوله: وإني معا أراد: {إِنِّي أُمِرْتُ} فتحها نافع وحده: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ} فتحها الحرميان وأبو عمرو: "يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا" أسكنها أبو عمرو وحمزة والكسائي، وفيها زائدة واحدة: "فَبَشِّرْ عِبَادِي، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ" أثبتها السوسي وقفا ووصلا، وفتحها في الوصل هذا على رأي صاحب القصيدة، أما صاحب التيسير فعدها في ياءات الإضافة، فلهذا قال الناظم مع يا عبادي فزاد حرف الندا وهو "يا"؛ ليميز بينهما. وقلت في ذلك:
فبشر عبادي زائد في نظومنا ... مضاف لذي التيسير والكل قد جلا
أي: ولكل قول من ذلك وجه صحيح.
(1/670)
________________________________________
سورة غافر:
1010-
وَيَدْعُونَ خَاطِبْ "إِ"ذْ "لَـ"ـوى هَاءُ مِنْهُمْ ... بِكَافٍ "كَـ"ـفَى زِدِ الْهَمْزَ "ثُـ"ـمَّلا
أراد: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} الخلاف فيه في الغيب والخطاب ظاهر، وقوله: إذ لوى؛ أي: أعرض؛ لأنه عدل إلى الخطاب فأعرض عن إجراء الكلام على الغائبين في قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ} ، أما: {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، فكتب في مصاحف الشام موضع منهم بالهاء منكم بالكاف فكل قرأ بما في مصحفه والكلام فيه كما في يدعون؛ لأنه خطاب وغيب، أما: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وَأَنْ" فقراءة الجماعة بواو العطف وزاد الكوفيون قبل الواو همزة وأسكنوا الواو فصارت أو أن بحرف أو وهو للعطف أيضا إلا أنه للترديد بين أمرين والواو للجمع بينهما وكذلك هي في مضاعف الكوفة بزيادة همزة وكل واحد من الأمرين مخوف عنده فوجه الجمع ظاهر، ووجه الترديد أن كل واحد منهما كان في التحذير فكيف إذا اجتمعا، وقوله: ثملا هو جمع ثامل وهو المصلح والمقيم، وقد سبق شرحه في المائدة ونصبه هنا على أنه ثاني مفعولي زد، كما تقول: زد الدراهم قوما صالحين، ويجوز أن يكون حالا من الهمزة على تقدير ذا ثمل؛ أي: جماعة مصلحين للمعنى مقيمين على الراءة به، ويجوز أن يكون حالا من فاعل زد؛ لأنه لم يرد به واحدا وإنما هو خطاب لكل قارئ فهو كما تقدم في الفرقان وخاطب يستطيعون عملا والله أعلم.
1011-
وَسَكِّنْ لَهُمْ وَاضْمُمْ بِيَظْهَرَ وَاكْسِرَنْ ... وَرَفْعَ الْفَسَادَ انْصِبُ "إِ"لَى "عَـ"ـاقِلٍ "حَـ"ـلا
أي: سكن الواو للكوفيين كما تقدم ثم تكلم في خلاف كلمة يظهر فقال: ضم تاء واكسر هاءه فيصير يظهر من أظهر فهو فعل متعدٍّ، فلزم نصب الفساد؛ لأنه مفعوله وفاعله ضمير يرجع إلى موسى -عليه السلام- وقراءة الباقين بفتح الياء والهاء، ورفع الفساد على أنه فاعل يظهر، فقوله: واضمم بيظهر؛ أي: بهذا اللفظ والنون في واكسرن للتأكيد وإلى عاقل متعلق بحال محذوف؛ أي: وانصب رفع الفساد مضيفا ما ذكرت إلى قارئ عاقل حلا:
1012-
فَأَطَّلِعَ ارْفَعْ غَيْرَ حَفْصٍ وَقَلْبِ نَو ... وِنُوا "مِـ"ـنْ "حَـ"ـمِيدٍ ادْخِلُوا "نَفَرٌ صِـ"ـلا
"فاطلع" بالرفع: عطف على أبلغ، وبالنصب: لأنه في جواب الترجي ونظيره ما يأتي في سورة عبس، أما: {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} فمن نون قلب فمتكبر صفة له؛ لأنه محل الكبر، ومن أضاف كان متكبرٌ صفةً للجملة والتقدير: على قلب لمتكبر، وقدر أبو علي: على كل قلب كل متكبر، فحذفت كل الثانية وقدر الزمخشري على قراءة التنوين على كل ذي قلب، ولا حاجة إلى شيء من ذلك فالمعنى في القراءتين أوضح من أن تحتاج إلى حذف، وإنما قدر أبو علي كل الثانية؛ لتقيد العموم في أصحاب القلوب؛ لأنه ظن أن ظاهر
(1/671)
________________________________________
الآية لا تفيد إلا الطبع على جملة القلب، وجوابه أن عموم كل المضاف إلى القلب للقلوب وأصحابها؛ لأنه شامل لقلوب المتكبرين فاسترسل العموم على الكلمتين؛ لأن المضاف إلى المضاف إلى كل كالمضاف إليها نفسها، والدليل عليه أن ما من قلب لمتكبر إلا وهو داخل في هذا اللفظ وذلك هو المقصود، فلا فرق بين أن تقول كل قلب متكبر أو قلب كل متكبر، وروي أن ابن مسعود قرأها كذلك فهو شاهد لقراءة الإضافة، قال أبو عبيد: معنى على قلب متكبر وعلى قلب كل متكبر يرجعان إلى معنى واحد، وقال الفراء: المعنى في تقدم القلب وتأخره واحد؛ سمعت بعض العرب يقول: يرجل شعره يوم كل جمعة يريد كل جمعة والمعنى واحد، وقوله: غير حفص يحتمل أمرين أحدهما أن يكون على حذف حرف النداء؛ أي: يا غير حفص كأنه نادى القارئين لذلك، والثاني أن يكون حالا؛ أي: غير قارئ لحفص؛ أي: إذا قرأت لغيره فارفع وقوله: من حميد؛ أي: هو تنزيل من حميد؛ يعني: الله تعالى كما قال: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، ويجوز أن يقدر آخذين للتنوين من قارئ حميد؛ أي: محمود الطريقة في الثقة والعلم ثم قال: ادخلوا؛ أي: ادخلوا آل فرعون نفر صلا؛ أي: ذو صلا يريد الذكاء على ما سبق تفسيره في سورة الأنعام وغيرها وهو خبرا ادخلوا، ثم ذكر ما يفعل فيه هؤلاء فقال:
1013-
عَلَى الوَصْلِ وَاضْمُمْ كَسْرَهُ يَتَذَكَّرُو ... نَ "كَهْفٌ سَما" وَاحْفَظْ مُضافَاتِها الْعُلا
أي: على وصل همزته وضم خاءه المكسورة فيكون فعل أمر من دخل وقرأ الباقون بقطع الهمزة وفتحها على ما سبق في نظائره، وبكسر الخاء فيكون فعل أمر من دخل فعلى الأول هو أمر لهم؛ أي: ادخلوا يا آل فرعون، وعلى الثاني هو أمر للملائكة وآل فرعون مفعول به، والغيب والخطاب في: "قليلا ما يتذكرون" ظاهران ثم ذكر الياءات.
1014-
ذَرُونِيَ وَادْعُونِي وَإِنِّي ثَلاثَةٌ ... لَعَلِيِّ وَفِي مَا لِي وَأَمْرِيَ مَعْ إِلى
يريد: "ذَرُونِيَ أَقْتُلْ مُوسَى"، "ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ" فتحهما ابن كثير وحده. "إِنِّيَ أَخَافُ" ثلاثة مواضع واحد من قول فرعون: "إِنِّيَ أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ"، واثنان من قول مؤمن آل فرعون: "إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ"، "إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ" فتحهن الحرميان وأبو عمرو. "لَعَلِّيَ أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ" فتحها الحرميان وأبو عمرو وابن عامر. "مَا لِيَ أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ" كذلك إلا ابن ذكوان. "وأفوض أمريَ إلى الله" فتحها نافع وأبو عمرو، وهذا معنى قوله: مع إلى، وموضع هذه الكلمات رفع؛ أي: هي ذروني وكذا وكذا أو نصب على البدل من مضافاتها في البيت السابق، وقوله: وإني ثلاثة ينبغي أن يكون ثلاثة منصوبا على الحال وهو كما سبق تقريره في سورة القصص وأنث العدد هناك، وذكره هنا باعتبار الكلمات والألفاظ، وقوله: لعلي على حذف حرف العطف وفي ما لي؛ أي: وياء الإضافة في مالي أيضا وهو عطف على المعنى؛ لأن ما تقدم فيه كذلك ياءات الإضافة فهو قريب من قوله تعالى:
(1/672)
________________________________________
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} 1 ... إلى أن قال: {وَفِي الرِّقَابِ} ؛ أي: وتدفع أيضا في فك الرقاب وفي الإنفاق في سبيل الله تعالى، وموضع قوله: مع إلى نصب على الحال؛ أي: مصاحبا للفظ إلى والله أعلم.
وفيها ثلاث زوائد: "يوم التلاقي"، "يوم التنادي" أثبتهما نافع في الوصل وابن كثير في الحالين. "اتبعوني أهدكم" أثبتها في الوصل أبو عمرو وقالون وفي الحالين ابن كثير. وقلت في ذلك:
ويا اتبعوني أهدكم والتلاق والتـ ... ـتناد ثلاث في الزوائد تجتلا
__________
1 سورة التوبة، آية: 60.
(1/673)
________________________________________
سورة فصلت:
1015-
وَإِسْكَانُ نَحْسَاتٍ بِهِ كَسْرُهُ "ذَ"كا ... وَقَوْلُ مُمِيلِ السِّينِ لِلَّيْثِ أُخْمِلا
النحس بالإسكان مصدر نحس نحسا نقيض سعد سعدا واسم الفاعل نَحِس بكسر الحاء والقراءة بالكسرة ظاهرة؛ لأنها نعت لأيام، أما القراءة بالإسكان فإما مخففة منه أو صفة على فعل نحو صعب وسهل، أو وصف بالمصدر نحو عدل، وقوله سبحانه: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} لا دلالة فيه على قراءة الإسكان؛ لأنه مضاف إلى المصدر، قال أبو علي: قال المفسرون في "نحسات" قولين؛ أحدهما: الشديدات البرد والآخر أنها المشؤومات عليهم، فتقدير قوله: في يوم نحس مستمر في يوم شؤم قال صاحب التيسير: وروي للفارسي عن أبي طاهر عن أصحابه عن أبي الحارث إمالة فتحة السين قال: ولم أقرأ بذلك وأحسبه وهما، فهذا معنى قول الناظم أخمل؛ أي: ترك قول من نقل ذلك عن الليث وهو أبو الحارث راوي الكسائي، وإنما أضاف الإمالة إلى السين وهي للألف في التحقيق أميلت للكسرة بعدها لما تقدم من أنه يلزم من إمالة كل ألف إمالة الآخر إذ يلزم في إمالة الفتحة إمالة فتحة الحرف الذي قبلها، وإذا كان كذلك فيجوز الاقتصار على ذكر أحدهما؛ لدلالته على الألف، وقد ذكرنا في شرح قوله: وراء تراء فاز، وفي إمالة "رأى" في سورة الأنعام.
1016-
وَنَحْشُرُ يَاءٌ ضُمَّ مَعْ فَتْحِ ضَمِّهِ ... وَأَعْدَاءُ "خُـ"ـذْ وَالْجَمْعُ "عَمَّ عَـ"ـقَنْقَلا
أي: ذو ياء وأعداء بالرفع؛ لأنه مفعول ما لم يسم فاعله وهو يحشر بضم الياء وفتح الشين، أما نافع وحده فقرأ بفتح النون وضم الشين؛ أي: نحشر نحن أعداء الله بالنصب؛ لأنه مفعول به، أما: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} فقرئ بالإفراد وبالجمع ووجههما ظاهر.
قال الجوهري: العقنقل الكثيب العظيم المتداخل الرمل، وقال غيره في قول امريء القيس: بنا بطن غبت ذي حقاف عقنقل يروي: بنا بطن حقف ذي قفاف عقنقل أي: رمل منعقد داخل بعضه في بعض، وقال ابن سيدة: العقنقل من الأودية ما عظم واتسع ونصبه الناظم على الحال؛ أي: عم الجميع مشبها عقنقلا في الكثرة والاجتماع والعظمة والسعة بخلاف الأفراد، ثم ذكر الكلمة المختلف في جمعها فقال:
1017-
لَدى ثَمَرَاتٍ ثُمَّ يَا شُرَكَائِىَ الْـ ... ـمُضَافُ وَيَا رَبِّي بِهِ الْخُلْفُ "بُـ"ـجِّلا
أي: المضاف في هذه السورة من الياءات "يا شركائي"، و"يا ربي"، فقصر لفظ "يا" في الموضعين ضرورة أراد: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ قَالُوا} فتحها ابن كثير وحده. "وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّيَ" فتحها نافع وأبو عمرو، ثم قال به؛ أي: بـ "يا ربي" الخلف عن قالون في فتحه وهذا لم يذكر في ياءات الإضافة؛ لأن صاحب التيسير ذكر هنا، وقال في غير التيسير: بالوجهين أقرأنبها فارس بن أحمد.
(1/674)
________________________________________
سورة الشورى والزخرف والدخان:
1018-
وَيُوحى بِفَتْحِ الْحَاءِ "دَ"انَ وَيَفْعَلُو ... نَ غَيْرُ "صِحَابٍ" يَعْلَمَ ارْفَعْ "كَـ"ـما "ا"عْتَلا
يريد: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ} ، ومن فتح الحاء بني الفعل لما لم يسم فاعله، ورفع اسم الله تعالى على الابتداء أو بفعل مضمر كما تقدم في: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ، رِجَالٌ} في سورة النور1 ومعنى دان: انقاد وأطاع، وقيل: يقال دان الرجل إذا عز ويفعلون بالغيب؛ لأن قبله: {يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وبالخطاب ظاهر، وتقدير النظم: وغيب يفعلون قراءة غير صحاب فحذف المضاف من المبتدأ والخبر للعلم بهما.
وأما يعلم المختلف في رفع ميمه ونصبه فهو: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} ، ولا خلاف في رفع: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} ؛ لأنه عطف على: {يَقْبَلُ التَّوبَةَ} ويعفو ويعلم، أما المختلف فيه فرفعه على الاستئناف والذي بعده فاعل أو مفعول فهذه قراءة ظاهرة فلهذا قال: فيها كما اعتلا وقراءة النصب مشكلة أجود ما تحمل علي ما قاله أبو عبيد قال: وكذلك نقرؤها بالنصب على الصرف كالتي في آل عمران: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .
قلت: معنى الصرف أن المعنى كان على جهة فصرف إلى غيرها فتغير الإعراب لأجل الصرف وتقديره أن يقال: كان العطف يقتضي جزم "ويعلم" في الآيتين لو قصد مجرد العطف، وقد قرئ به فيهما شاذًّا لكن قصد معنى آخر فتعين له النصب وهو معنى الاجتماع؛ أي: يعلم المجاهدين والصابرين معا؛ أي: يقع الأمران مقترنا أحدهما بالآخر ومجرد العطف لا يتعين له هذا المعنى بل يحتمله ويحتمل الافتراق في الوجود كقولك جاء زيد وعمرو يحتمل أنهما جاءا معا ويحتمل تقدم كل منهما على الآخر، وإذا ذكر بلفظ المفعول معه كان وقوع الفعل منهما معا في حالة واحدة فكذا النصب في قوله: ويعلم أفاد الاجتماع فلهذا أجمع على النصب في آية آل عمران، قال الزمخشري فيها: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
قلت: والعبارة عن هذا بالصرف هو تعبير الكوفيين ومثله لا يسعني شيء ويضيق عنك؛ أي: لا يجتمع الأمران ولو رفعت الواو للعطف تغير المعنى فهذا الجمع معنى مقصود وضع النصب دليلا عليه فكذا النصب في: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} ؛ أي: يقع إهلاكهم والعلم معا مقترنين، واعتراض النحاس على أبي عبيد في تسويته بين الآيتين وقال: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} جواب لما فيه النفي فالأولى به النصب وهذا وهم ليس هو بجواب للنفي بل المعنى على ما ذكرناه ولو كان جوابًا لما ساغت قراءة الحسن بالجزم.
__________
1 آية: 36 و37.
(1/675)
________________________________________
وقال الزجاج: النصب على إضمار أن؛ لأن قبلها جزاء تقول: ما تصنع أصنع مثله: وأكرمك على معنى وأن أكرمك وإن شئت وأكرمك بالرفع على معنى: وأنا أكرمك ويجوز وأكرمك جزما.
قلت: النصب في هذا المثال على ما قررناه من معنى الجمعية؛ أي: أصنعه مكرما لك فالنصب يفيد هذا المعنى نصا والرفع يحتمله على أن تكون الواو للحال ويحتمل الاستئناف.
وقال الزمخشري: ما قاله الزجاج فيه نظر؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله:
وألحق بالحجاز فأستريحا
فهذا يجوز وليس بحد للكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا؛ لأنه ليس بواجب أن يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه، قال: ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة.
قلت: النصب بالواو في هذا المعنى ليس بضعيف بل هو قوي بدليل الإجماع على نصب ما في آل عمران، أما بالفاء ضعيف؛ لأن الفاء لا تفيد ما تفيده الواو من معنى الجمعية فلهذا كانت قراءة من قرأ في آخر البقرة يحاسبكم به الله فيغفر بالنصب شاذة وقد أنشد الأعشى في بيتين نصب ما عطف بالواو لهذا المعنى:
ومن يغترب عن أهله لا يزل يرى
وتدفن منه الصالحات ... ...
مع أنه لا ضرورة إلى النصب فالرفع كان ممكنا له فما عدل إلى النصب إلا لإرادة هذا المعنى، وهذا النصب بالواو لهذا المعنى كما يقع في العطف على جواب الشرط يقع أيضا في العطف على فعل الشرط نحو: إن تأتني وتعطيني أكرمك، قال أبو علي: فينصب تعطيني، وتقديره: إن يكن إتيان منك وإعطاء أكرمك.
قلتُ: مراده أن يجتمعا مقترنين ولو أراد مجرد وقوع الأمرين معرضًا عن صفة الجمعية لكان الجزم يفيد هذا المعنى، فقد اتضحت -ولله الحمد- قراءة النصب على هذا المعنى من العطف: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} ، فتقف السفن أو إن يشأ يعصف الريح فيغرقها وينج قوما بطريق العفو عنهم ويحذر آخرين بعلمهم ما لهم من محيد، فإن قلت كيف يوقف العفو على الشرط، وهذا الكلام خارج مخرج الامتنان، ولهذا قيده بقوله: عن كثير، ولو كان معلقا على المشيئة لأطلق العفو عن الكل نحو: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} .
قلتُ: إنما علقه على الشرط؛ ليتبين أنه إنما يفعل ذلك بمشيئته وإرادته لا بالاستحقاق عليه، أما: ويعلم فإن جعلنا الذين بعده فاعلا سهل دخوله في حيز الشرط، وإن جعلناه مفعولا فالمعنى يعلمه واقعا نحو: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} ؛ أي: نبقيهم على الكفر ولا يسهل لهم الإيمان، "حتى يؤتوا"، ولهذا للإشكال قال ابن القشيري -رحمهما الله- في تفسيره: "ويعف" معطوف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى قال: وقرئ: "ويعفو" بالرفع.
قلتُ: فيكون مستأنفًا ويعلم عطف عليه إن كان مرفوعا ونظيره في هذه السور: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} ، ثم استأنف فقال: "يمحو الله الباطل ويحق الحق"، وبعضهم جعل يمح مجزوما عطفا على يختم، واستدل بأنه كتب في المصحف بغير واو فيكون الاستئناف بقوله: ويحق كقوله في براءة: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} ، ويجوز أن تكون قراءة القراء: "ويعف" بغير واو لمعنى الأخبار المستأنف وحذف الواو ليس للجزم بل للتخفيف كما
(1/676)
________________________________________
تحذف الألف والياء لذلك فالجميع حرف علة والواو أثقلها فالحذف لها أقيس وأولى، قال الفراء: كل ياء أو واو تسكنان وما قبل الياء مكسور وما قبل الواو مضموم فإن العرب تحذفها وتجتزئ بالضمة من الواو وبالكسرة من الياء، قال أبو علي: حذفت الألف كما حذفت الياء وإن كان حذفهم لها أقل منه في الياء؛ لاستحقاقهم لها وذلك في نحو قولهم: أصاب الناس جهد ولوتر ما أهل مكة عليه، وقولهم: حاش لله، ورهط ابن المعلى فحذفها في الوقف للقافية كما حذفت الياء وقد حذفوا من "لم يك"، و"لا أدر". قلت: وفي القرآن: "يَوْمَ يَأْتِي"، و"ما كنا نبغي"، وإذا كان الأمر كذلك فحذف الواو من يعفو أولى؛ لأنها أثقل، وليشاكل ما قبله من المجزوم فهو كما قالوا في صرف "سلاسلا وقواريرا" كما يأتي، وكما رووا: "ارجعن مأزورات غير مأجورات"، ولما لم يمكن صورة الجزم في ميم "ويعلم" حركت بالحركات الثلاث، وذكر الزمخشري لقراءة النصب وجها آخر فقال: هو عطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون، ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن منه قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} وقوله: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} . قلت: ومثله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ} ، {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} ، ولكن كل هذه المواضع ذكر فيها حرف التعليل بعد الواو ولم يذكر في: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ} .
وقال ابن القشيري في تفسيره: في بعض المصاحف "وليعلم" باللام فهذا يقوي قراءة النصب ويؤيد الوجه الذي ذهب إليه الزمخشري.
1019-
بِمَا كَسَبَتْ لا فَاءَ "عَمَّ" كَبِيرَ في ... كَبَائِرَ فِيها ثُمَّ فِي النَّجْمِ "شَـ"ـمْلَلا
سقطت الفاء من فيها في المصحف المدني والشامي، وثبتت في مصاحف العراق ووجه دخولها تضمين ما في قوله: وما أصابكم من مصيبة معنى الشرط وهي بمعنى الذي وإذا تضمن الذي معنى الشرط جاز دخول الفاء في حيزه وجاز حذفها، أما كبائر الإثم بالجمع فظاهر وقراءة الإفراد تقدم لها نظائر فهو في اللفظ إفراد يراد به الجمع؛ لأنه للجنس، واختار أبو عبيد الجمع فإن الآثار التي تواترت كلها بذكر الكبائر لم نسمع لشيء منها بالتوحيد ومعنى شملل: أسرع.
1020-
وَيُرْسِلَ فَارْفَعْ مَعْ فَيُوحِي مُسَكِّنًا ... "أَ"تَانَا وَأَنْ كُنْتُمْ بِكَسْرٍ "شَـ"ـذَا العُلا
أي: فارفع الفعلين ألا أن "فيوحي" لما كان لا تظهر فيه علامة الرفع ألحق ذلك قوله: مسكنا وهو حال من فاعل ارفع؛ أي: ارفعه مسكنا له فهو مثل قوله: ناصبا كلماته بكسر لما كان المعلوم من النصب أن علامته الفتح بين هناك أن علامته الكسر ورفع يرسل على تقدير أو هو يرسل والنصب بإضمار أن فيكون عطفا على وحيا عطف مصدر على مثله من جهة المعنى، وقوله: فيوحي عطف على يرسل رفعا ونصبا وانتهى الخلاف في حروف "عسق"، وليس فيها من ياءات الإضافة شيء، وإنما فيها زائدة واحدة وهي: "وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي" أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو وفي الحالين ابن كثير، ثم تمم البيت بذكر حرف من سورة الزخرف وهو:
(1/677)
________________________________________
{أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} 1.
تقرأ أن بالفتح والكسر فالفتح ظاهر على التعليل أي؛ لأن كنتم والكسر على لفظ الشرط قال الزمخشري هو من الشرط الذي يصدر عن المستدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما يقول الأجير إن كنت عملت فوفني حقي وهو عالم بذلك ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له قال الفراء: تقول أسبك أن حرمتني تريد إذ حرمتني وتكسر إذا أردت إن تحرمني ومثله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} 2.
بكسر أن وبفتح ومثله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا} و"إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا"3.
والعرب تنشد قول الفرزدق.
أتجزع أن أذنا قبيبة جزتا
وأنشدوني:
أنجزع أن بان الخليط المودع
وفي كل واحد من البيتين ما في صاحبه من الكسر والفتح، وقول الناظم: وإن كنتم مبتدأ وشذا العلا خبره وبكسر في موضع الحال من المبتدأ وإن كان منونا وإن كان مضافا إلى مثله فهو الخبر.
1021-
وَيَنْشَأُ فِي ضَمٍّ وَثِقْلٍ "صِحابُهُ" ... عِبَادُ بِرَفْعِ الدَّالِ فِي عِنْدَ "غَـ"ـلْغَلا
أي: ضم الياء وشدد الشين ويلزم من ذلك فتح النون ومعنى ينشأ بالفتح والتخفيف: يربى ويُنَشَّأ يربى كلاهما ظاهر، ولفظ بالقراءتين في: "عِبَادُ الرَّحْمَنِ" و"عند الرحمن"، ونص على حركة الدال؛ لأن اللفظ لا ينبئ عنها؛ أي: عباد مرفوع الدال يقرأ في موضع عند والتعبير عن الملائكة بأنهم عباد الرحمن ظاهر، أما عبارة عند فأشار إلى شرف منزلتهم، وقد جاء في القرآن التعبير عنهم بكل واحد من اللفظين: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} ، و {مَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} ، وغلغل من قولهم تغلغل الماء في النبات إذا تخلله وقد غلغلته أنا، والمعنى أن عباد تخلل معناه معنى عند فكان له كالماء للشجر لا بد للشجر منه فكذا صفة العبودية لا بد منها لكل مخلوق وإن اتصف بإطلاق ما يشعر برفع المنزلة كلفظ عند وما أشبهها.
1022-
وَسَكِّنْ وَزِدْ هَمْزًا كَوَاوٍ أَؤُشْهِدوا ... "أَ"مِينًا وَفِيهِ الْمَدُّ بِالْخُلْفِ "بَـ"ـلَّلا
__________
1 آية: 5.
2 سورة المائدة، آية: 2.
3 سورة الكهف، آية: 6.
(1/678)
________________________________________
أشهدوا مفعول وسكن؛ يعني: سكن الشين المفتوحة من قوله: تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، وزد بعد همزة الاستفهام همزة مسهلة كالواو؛ أي: همزة مضمومة مسهلة بين بين كما يقرأ: "أَؤُنَبِّئُكُمْ" فيكون أصله: أشهدوا؛ أي: حضروا ثم دخلت عليه همزة الاستفهام التي بمعنى الإنكار فهو من معنى قوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ... الآية، وعن قالون خلاف في المد بين هاتين الهمزتين وهو يمد بلا خلاف بين الهمزتين من كلمة مطلقا، ومعنى بلل قلل وقراءة الباقين من شهدوا بمعنى حضروا ثم دخلت على الفعل همزة الإنكار، وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه في سورة والصافات منكرا عليهم: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} 1.
1023-
وَقُلْ قَالَ "عَـ"ـنْ "كُـ"ـفْؤٍ وَسَقْفًا بِضَمِّهِ ... وَتَحْرِيكِهِ بِالضَّمِّ "ذَ"كَّرَ "أَ"نْبَلا
يعني: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} قرأه حفص وابن عامر قال: على الخبر؛ أي: قال النذير، وقراءة الباقين على حكاية ما أمر به النذير؛ أي: قلنا له إذ ذاك قل لهم هذا الكلام، وتقدير البيت: وقل يقرأ ثم قال: وسقفا بضمه؛ أي: بضم السين وتحريك القاف جمعا، قال أبو علي: سُقُف جمع سَقْف كرُهُن ورَهْن قال: وسقْف واحد يدل على الجمع ألا ترى أنه قد علم بقوله: "لِبُيُوتِهِمْ" أن لكل بيت سقفا، قال أبو عبيد: ولم تجد مثال فعل بجمع على فعل غير حرفين سقُف وسقْف ورهُن ورهْن.
قلتُ: وأجمعوا على إفراد التي في النحل: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2، {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} 3.
وقوله: ذكر أنبلا؛ أي: نبيلا؛ أي: ذكر هذا اللفظ في حال نبله أو ذكر شخصًا نبيلا؛ أي: أفهمه أنه أحد الحرفين المجموعين على هذا الوزن.
1024-
وَ"حُـ"ـكْمُ "صِحَـ"ـابٍ قَصْرُ هَمْزَةِ جَاءَنَا ... وَأَسْوِرَةً سَكِّنْ وَبِالقَصْرِ عُدِّلا
الحاء من: "وحكم" رمز أبي عمرو، وقد سبق استشكاله والتنبيه عليه في مواضع يريد: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ} ، فقراءة القصر على أن الجائي واحد وهو الذي عشى عن ذكر الرحمن -عز وجل- وقراءة المد على أن الجائي اثنان هو وقرينه وهو القائل لقرينه: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} الآية وأسورة جمع سوار كأخمرة في جمع خمار وأساورة جمع الجمع وأجمع أساور وهو لغة في السور وهو موافق لقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} فهو بالهاء وبغير الهاء واحد والله أعلم.
__________
1 آية: 150.
2 آية: 26.
3 سورة الأنبياء، آية: 32.
(1/679)
________________________________________
1025-
وَفِي سَلَفًا ضَمًّا "شَـ"ـرِيفٍ وَصَادُهُ ... يَصُدُّونَ كَسْرُ الضَّمِّ "فِـ"ـى "حَـ"ـقِّ "نَـ"ـهْشَلا
أي: ضما قارئ شريف يريد ضم السين واللام قالوا هو جمع سليف كرغف في جمع رغيف، وبفتح السين واللام جمع سالف كخدم في جمع خادم وكلاهما بمعنى واحد، وقال أبو علي: سلف جمع سلف مثل أسد وأسد ووثن ووثن وسلف اسم من أسماء الجمع كخدم وطلب وحرس وكذلك المثل يراد به الجمع فمن ثم عطف على سلف في قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا} ، واختار أبو عبيد قراءة الفتح وقال: هي التي لا تكاد العامة تعرف غيرها؛ لأن الآثار التي نقلتها الفقهاء إلينا إنما يقفا فيها كلها السلف كذلك ذكرهم معاد ويبدأ ولم يسمع فى شيء منها السلف، وقوله: وصاد يصدون قال الشيخ: الهاء في وصاده إضمار على شربطة التفسير قلت: يكون قوله: يصدون بدلا من الضمير كما تقول: ضرب زيدا ومررت به زيد، ويجوز أن يكون على التقديم وللتأخير؛ أي: ويصدون صاده كما قيل: نحو ذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاق يَعْقُوبَ} على قراءة من رفع يعقوب أن التقدير: ويعقوب من وراء إسحاق، وقوله: كسر إما مبتدأ ثانٍ أو بدل اشتمال والعائد على يصدون محذوف؛ أي: كسر الضم منه أو كسر ضمه على قيام الألف واللام مقام الضمير نحو: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} ؛ أي: أبوابها وقد سبق معنى في حق نهشلا في سورة النساء وكسر الصاد وضمها في يصدون هنا لغتان مثل الخلاف في كاف يعكفون وراء يعرشون وهو من الصديد الذي هو الجلبة والصياح والضجيج وقيل: الضم من الصدود الذي هو الإعراض، قال أبو علي: لو كانت من هذا لكان إذا قومك عنه يصدون ولم يكن منه وجوابه أن المعنى من أجل هذا المثل صدوا عن الحق وأعرضوا عنه وقرأت بخط ابن مجاهد في معاني القرآن يصدون منه وعنه سواء، وقال الفراء: العرب تقول يصد ويصد مثل يشد ويشد وينم وينم لغتان:
1026-
ءَآلِهةٌ كُوفٍ يُحَقِّقُ ثَانِيًا ... وَقُلْ أَلِفًا لِلْكُلِّ ثَالِثًا ابْدِلا
يريد: "آلهتنا خير أم هو" فيها ثلاث همزات ثنتان مفتوحتان والثالثة ساكنة فأجمع على إبدالها ألفا؛ لسكونها وفتح ما قبلها، واختلف في الثانية فحققها الكوفيون على أصلهم في باب الهمزتين من كلمة، وسهلها الباقون بين بين على أصولهم في قراءة "آمنتم"، وحفص يسقط الأولى من "آمنتم" وأثبتها هنا والكلام في التحقيق والتسهيل والإبدال وعدم المد بين الهمزتين كما سبق في مسألة: "ءآمنتم" في الأصول وقوله: ءآلهة مبتدأ وكوف خبره؛ أي: قراءة كوف ثم بينها بقوله: يحقق ثانيا؛ أي: ثاني حروفه، وإنما قال ذلك؛ لأنه يمكن اتزان البيت بقراءة آلهة على لفظ التسهيل وهذا مما استدل به على أن الهمزة المسهلة برنة المحققة، ويجوز أن يكون كوف مبتدأ ثانيًا وما بعده خبره والجملة خبر الأول، وقوله: ألفًا ثاني مفعولي أبدل، والمفعول الأول هو مرفوع أبدل العائد على ءآلهة وثالثا نصب على التمييز من ذلك الضمير على قول من أجاز تقديم التمييز على عاملة؛ أي: أبدل هذا اللفظ ثالثا؛ أي: ثالث حروفه أبدل ألفًا، فيكون تقدير هذا النظم أبدل ثالثا ألفا كما لو قلت: زيد كسى رأسا قلنسوة ولو قال ثالثة أبدلا لكان أظهر ووصل همزة
(1/680)
________________________________________
القطع جائز للضرورة وفي عبارة الناظم نقل حركة همزة أبدل إلى التنوين فانضم وانحذف الهمزة كما يقرأ ورش: {غُرُورًا، أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ} ، وقد سبق شرح مثل هذا البيت في باب الهمزتين من كلمة.
1027-
وَفِي تَشْتَهِيهِ تَشْتَهِي "حَقُّ صُحْبَةٍ" ... وَفِي تُرْجَعُونَ الْغَيْبُ "شَـ"ـايَعَ "دُ"خْلُلا
اختلف المصاحف الأئمة في هذه الكلمة فكتبت الهاء في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها ووجه القراءتين ظاهر؛ لأن الجملة صلة "ما" وحذف العائد من الصلة إلى الموصول جائز والغيب في قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} شايع دخللا قبله وهو: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} والخطاب على الالتفات واختار أبو عبيد الغب
1028-
وَفِي قِيلَهُ اكْسِرْ وَاكْسِرِ الضَّمَّ بَعْدُ "فِـ"ـي ... "نَـ"ـصِيرٍ وَخَاطِبْ تَعْلَمُونَ "كَـ"ـمَا "ا"نْجَلا
هكذا وقع في الرواية في جميع النسخ وفي "قيله" اكسر اللام وهو سهو والصواب على ما مهده في خطبته أن تكون اخفض؛ لأنها حركة إعراب ثم قال واكسر الضم؛ يعني: في الهاء وهذا على بابه؛ لأنه حركة بناء، وإنما قال في الثانية اكسر الضم وقال في الأولى اكسر، ولم يقل اكسر الفتح؛ لأن الفتح ضد الكسر، فكفى الإطلاق والضم ليس ضدا للكسر فاحتاج إلى بيان القراءة الأخرى، وقوله: بعد؛ أي: بعد ذلك الكسر، وقوله: في نصير في موضع الحال؛ أي: كائنا في رهط نصير؛ أي: في جملة قوم ينتصرون لتوجيه القراءتين، فوجه الجر العطف على لفظ الساعة في قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، "وَقِيلِهِ"؛ أي: وعلم قيله، وقيل: الواو في وقيله للقسم وجوابه: "إِن هَؤُلاءِ"، أما النصب فعطف على موضع الساعة فإنه في موضع نصب؛ أي: يعلم الساعة ويعلم قيله وقيل: عطف على: {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} ، وقيل: هو نصب على المصدر؛ أي: وقال قيله؛ أي: شكا شكواه والقيل: والقول واحد ومنه قول كعب بن زهير:
يسعى الوشاة جنابتها وقيلهم ... إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
ذكر الوجهين الأخيرين الأخفش والفراء، وذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو علي، وسبقه إليها الزجاج، واختار العطف على موضع الساعة وصدق؛ لأن الجر عطف على لفظها، فيتحد معنى القراءتين، وذكر النحاس وجهين آخرين أن يكون عطفا على مفعول محذوف؛ أي: ورسلنا يكتبون ذلك وقيله أو وهم يعلمون الحق وقيله، واختار أبو عبيد قراءة النصب قال: لكثرة من قرأ بها ولصحة معناها إنما هي في التفسير: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} ، ونسمع: {قِيلِهِ يَا رَبِّ} ، وقال النحاس: القراءة البينة بالنصب من جهتين إحداهما أن المعطوف على المنصوب يحسن أن يفرق بينهما وإن تباعد ذلك؛ لانفصال العامل والمعمول فيه مع المنصوب، وذلك في المخفوض إذا فرقت بينهما قبيح والجهة الأخرى أن أهل التأويل يفسرون الآية على معنى النصب، قال: والهاء في قيله تعود إلى النبي محمد أو إلى عيسى ابن مريم -عليهما السلام.
قلت: وإذا كان المعنى يصح على عطف وقيله المنصوب على مفعول: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} المحذوف؛ أي: إلا من
(1/681)
________________________________________
شهد بالحق وهم يعلمونه ويعلمون قيله فيجوز أن يقال إن القراءتين عطف على بالحق النصب على الموضع والجر على اللفظ، والذي شهد بالحق ذكر في التفسير أنهم الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام، وقال الزمخشري بعد حكايته للوجوه الثلاثة المتقدمة: والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر اللفظ وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه.
قلت: أما على قراءة الجر فواضح جوازه وقد تقدم ذكرنا له، أما على قراءة النصب فغلط؛ لأن حرف القسم موجود وهو الواو فلا نصب مع وجودها والله أعلم.
ثم قال: وخاطب: تعلمون؛ يعني: الذي هو آخر السورة ووجه الخطاب فيه والغيب ظاهر وقد سبقت نظائرهما والله أعلم.
1029-
بِتَحْتِي عِبَادِي اليَا وَيَغْلِي "دَ"نا "عُـ"ـلًا ... وَرَبُّ السَّموَاتِ اخْفِضُوا الرَّفْعَ "ثُـ"ـمَّلا
أي: هاتين الكلمتين في سورة الزخرف الياء؛ يعني: ياء الإضافة المختلف في فتحها وإسكانها؛ الأولى: مِنْ تَحْتِيَ أَفَلا تُبْصِرُونَ" فتحها نافع والبري وأبو عمرو، والثانية: "يَا عِبَادِي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ" فتحها في الوصل أبو بكر وسكنها في الحالين نافع وأبو عمرو وابن عامر وحذفها الباقون في الحالين، وفيها زائدة واحدة: "واتبعوني هذا صراط" أثبتها في الوصل أبو عمرو وحده.
ثم ذكر الخلاف في آخر سورة الدخان فقال: ويغلي؛ يعني: كالمهل تغلي في البطون قرأه بالتذكير ابن كثير وحفص؛ أي: يغلي الطعام والباقون بالتأنيث؛ أي: تغلي الشجرة، وعلا حال أو تمييز؛ أي: دنا ذا علاء أو دنا علاه، والخفض في: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} في أول السورة على البدل من قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ، والرفع على الابتداء وخبره: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أو يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو رب السموات وثملا حال من فاعل اخفضوا؛ أي: مصلحين وقد تقدم.
1030-
وَضَمَّ اعْتِلُوهُ اكْسِرْ "غِـ"ـنىً إِنَّكَ افْتَحُوا ... "رَ"بِيعًا وَقُلْ إِنِّي وَلِي اليَاءُ حُمِّلا
أي: ذا غنى والضم والكسر في تا: "فَاعْتلُوهُ" لغتان وهو القود بعنف والفتح في: "ذُقْ أَنَّكَ" أي؛ لأنك أنت والكسر ظاهر وهما على وجه التهكم والاستهزاء، وربيعا حال؛ أي: ذوي ربيع أو ذا ربيع على أن يكون حالا من الفاعل أو المفعول والربيع النهر الصغير، فحسن من جهة اللفظ قوله: افتحوا ربيعا، والألف في آخر حملا ضمير يرجع إلى إني، ولي والياء بالنصب مفعول ثانٍ لجملا؛ أي: أتت ياء الإضافة المختلف فيها فيهما أراد: "إِنِّيَ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ" فتحها الحرميان وأبو عمرو. "وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِيَ" فتحها ورش وحده. وفيها زائدتان: "أَنْ تَرْجُمُونِ"، "وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي" أثبتهما في الوصل ورش وحده. وقلت فيهما مع: "الجوار" في الشورى، "واتبعوني" في الزخرف:
وواتبعوني والجوار وترجمو ... ن فاعتزلون زائدات لدى العلا
(1/682)
________________________________________
سورة الشريعة والأحقاف
...
سورة الجاثية والأحقاف:
1031-
مَعًا رَفْعُ آيَاتٍ عَلَى كَسْرِهِ "شَـ"ـفا ... وَإِنَّ وَفِي أَضْمِرْ بِتَوْكِيدٍ أَوَّلا
يعني: {آياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، {آياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قرءا بالرفع والنصب وعلامة النصب الكسر ولا خلاف في الأول وهو: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} أنه منصوب بالكسر؛ لأنه اسم إن، أما: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فرفعها ونصبها أيضا ظاهران كقولك: إن في الدار زيد وفي السوق عمرو وعمرا فهذا جائز باتفاق فالنصب على تقدير: وإن في السوق عمرا فحرف إن مقدر قبل في والرفع عطف على موضع اسم إن أو على استئناف جملة ابتدائية أو يكون عمرو فاعل في السوق على رأي من يجوز ذلك فكذا قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ} ؛ وذلك لظهور حرف في من قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} ، أما قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فلم يأت فيه حرف إن ولا حرف في فهنا اختلف النحاة فقيل: إن الواو نائبة عنهما وإن اختلف عملهما لفظا ومعنى وهذا هو الذي يسمى عندهم العطف على عاملين؛ أي: على عمل عاملين أو معمولي عاملين نحو: إن في الدار زيدا والحجرة عمرا؛ أي: وإن في الحجرة عمرا؛ أي: وإن في اختلاف الليل والنهار آيات، وعلى قراءة الرفع تكون الواو نائبة عن حرف في؛ أي: وفي اختلاف الليل والنهار آيات؛ عطفا على قوله: "وفي خلقكم آيات" فمنهم من يقول هو على هذه القراءة أيضا عطف على عاملين وهما حرف في والابتداء المقتضي للرفع ومنهم من لا يطلق هذه العبارة في هذه القراءة؛ لأن الابتداء ليس بعامل لفظي، وقد استدل أبو الحسن الأخفش بهذه الآية على جواز العطف على عاملين، وصوبه أبو العباس في استدلاله بهذه دون غيرها، وقال أبو بكر بن السراج العطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموع من العرب، ثم حمل ما في هذه الآية على التكرار للتأكيد قال أبو الحسن الرماني: هو كقولك: إن في الدار زيدًا والبيت زيدا فهذا جائز بالإجماع؛ لأنه بمنزلة إن زيدًا في الدار والبيت فهما قال فتدبر هذا الوجه الذي ذكره ابن السراج فإنه حسن جدًّا لا يجوز حمل كتاب الله تعالى إلا عليه، وقد يثبت القراءة بالكسر ولا عيب في القرآن على وجه وللعطف على عاملين عند من أجازه عيب ومن لم يجزه فقد تناهى في العيب فلا يجوز حمل هذه الآية إلا على ما ذكره ابن السراج دون ما ذهب إليه غيره.
قلتُ: ولا ضرر فيما ذهب إليه من ذهب من العطف على عاملين وسنتكلم إن شاء الله تعالى عليه في شرح النظم من النحو ونبين وجهه من القياس وقد استدل على ذلك بأبيات تكلف المانعون له تأويلها قال الزجاج: ومثله في الشعر:
أكل امرئ تحسبين امرءًا ... ونار توقد بالليل نارا
أهل قال عطف على ما عملت فيه كل وما عملت فيه تحسبين وأنشد أبو علي الفرزدق:
وباشر راعيها العلا بلسانه ... وجنبيه حر النار ما يتحرفُ
قال: فهذا عطف على الفعل والهاء، وأنشد أيضا:
أوصيت من سره قلبا حرا ... بالكلب خيرا والحماة شرا
(1/683)
________________________________________
واختار أبو عبيد قراءة الكسر اعتبارًا بقراءة أبي بن كعب لآيات في المواضع كلها قال: لأنها دالة على أن الكلام نسق على الحرف الأول.
وقول الناظم: وإن وفي أضمر قال الشيخ: قال -رحمه الله: لم أرد بقولي: أضمر الإضمار الذي هو كالمعطوف به وإنما أردت أن حرف العطف ناب في قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} عن أن وفي قوله: واختلاف عن أن وفي وإذا كانت الآيات توكيدا خرج عن العطف على عاملين الذي يأباه أكثر البصريين، وخرج عن إضمار حرف الجر الذي هو قليل في الكلام.
قلتُ: فهذا معنى قوله بعد ذلك: بتوكيد أولا وكأنه جمع بين القولين فإن من يرى العطف على عاملين أضمر أن وفي بخلاف من أكد، وقال الزمخشري هو من العطف على عاملين سواء نصبت أو رفعت فالعاملان إذا نصبت هما أن وفي أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في: "وَاخْتِلافِ"، والنصب في "آيات" إذا رفعت فالعاملان الابتداء وفي وهو على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه وقد أباه سيبويه فهو على مذهبه على إضمار في والذي حسنه تقدم ذكره في الآيتين قبلها أو ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفا على ما قبله أو على التكير، ورفعها بإضمار هي:
قلتُ: التكرير هو التوكيد الذي ذكره ابن السراج وإضمار في هو قول أبي علي في الحجة وقد بسطه وتكلف بيانه، وحاصله أنه أعمل حرف الجر مضمرا وذلك قليل في كلامهم مستضعف، وليس القول بالعطف على عاملين بأضعف من هذا، أما النصب على الاختصاص والرفع بإضمار هي فوجه آخر زاده من تصرفه وتقدير الكلام على العطف على عاملين: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وإن في خلقكم آيات وإن في اختلاف الليل والنهار آيات، وعلى قول التأكيد: إن في السموات والأرض وفي خلقكم واختلاف الليل لآيات آيات آيات، وتفرقت كما تفرق بين الفواصل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} في سورة الروم؛ أي: إن في كل واحد من هذه المذكورات آيات وتارة تقصد الجملة كما في آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ} ، وفي البقرة زاد على ذلك: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، والتقدير: في قراءة الرفع على قول التأكيد: وفي خلقكم وما يبث من دابة واختلاف الليل إلى آخره آيات آيات.
1032-
لِنَجْزِي يَا نَصٍّ "سَمَا" وَغِشَاوَةً ... بِهِ الفَتْحُ وَالإِسْكَانُ وَالْقَصْرُ "شُـ"ـمِّلا
أي: ذو ياء نص سما؛ أي: منصوص على الباء نصا رفيعا؛ لأن الضمير في الفعل يرجع إلى اسم الله تعالى قبله من قوله: "أَيَّام اللَّهِ"، وقراءة الباقين بنون العظمة وغشوة وغشاوة واحد وهو ما يغطي العين عن الأبصار وفيها لغات أخر ولم يختلفوا في التي في البقرة أنها غشاوة وقول الناظم: غشاوة مبتدأ، وحكي لفظ القرآن، فأتى به منصوبا وشملا به خبر؛ أي: شمل بهذا اللفظ الفتح في الغين والإسكان في الشين والقصر وهو حذف الألف وفي شرح الشيخ في شمل ضمير يرجع إلى غشاوة، ولو أراد ذلك لم يحتج إلى قوله: به والله أعلم.
(1/684)
________________________________________
1033-
وَوَالسَّاعَةَ ارْفَعْ غَيْرَ حَمْزَةَ حُسْنًا الْـ ... ـمُحَسِّنُ إِحْسَانًا لِكُوفٍ تَحَوَّلا
إعراب غير حمزة كما سبق في قوله: فأطلع ادفع غير حفص يريد: {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} نصبها عطف على لفظ: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ورفعها عطف على موضع اسم إن أو على الابتداء قال أبو الحسن الأخفش الرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب إذا جاء بعد خبر إن اسم معطوف أو صفة أن يرفع قال أبو علي: يقوي ما ذهب إليه أبو الحسن قوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} لم تقرأ العاقبة فيما علمت إلا مرفوعة.
قلت: والأولى في تقدير قراءة الرفع العطف على موضع اسم إن؛ ليتحد معنى القراءتين ويكون قوله: لا ريب فيها جملة مستقلة فهي على وزان الآية التي في سورة الحج: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيَْ فِيهَا} ، والمعنى: وإذا قيل: إن وعد الله حق وإن الساعة حق وذلك على وفق ما في الصحيحين من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام يتهجد: "أنت الحق ووعدك حق والساعة حق".
وأما: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} فهذه قراءة الجماعة كالتي في العنكبوت سواء وقراءة الكوفيين هنا: {إِحْسَانًا} اعتبارا بالتي في سورة البقرة والأنعام وسبحان، وذكر أبو عبيد أنها في المصاحف مختلفة أيضا فكلٌّ قرأ بما في مصحفه ومعنى إحسانا؛ أي: تحسن إليهما إحسانا ومعنى حسنا؛ أي: وصية ذات حسن؛ أي: تفعل بهما فعلا ذا حسن ولم يقرأ هنا بفتح الحاء والسين كما قرأ في البقرة: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} إلا في قراءة شاذة ووجهها ظاهر؛ أي: يفعل بهما فعلا حسنا، وقول الناظم: تحولا هو خبر حسنا؛ أي: تحولا حسنا إحسانا في قراءة الكوفيين وقوله: المحسن كلمة حشو لا تعلق لها بالقراء لا رمزا ولا تقييدا وهي صفة حسنا؛ أي: المحسن شرعا وعقلا، وإنه ليوهم أنه رمز لنافع وتكون قراءة غيره وغير الكوفيين حسنا بفتح الحاء والسين كما قرأ به في البقرة وترك قيدها؛ لظهورها فليس بأبعد من قوله في سورة طه: "وأنجيتكم"، "واعدتكم" ولو أنه قال: حسنا الذي بعد إحسانا لم يوهم شيئا من ذلك؛ لأنه كالتقييد للحرف.
1034-
وَغَيْرُ "صِحَابٍ" أَحْسَنَ ارْفَعْ وَقَبْلَهُ ... وَبَعْدُ بِياء ضُمَّ فِعْلانِ وُصِّلا
أي: وقراءة غير صحاب أحسن ثم بينها بقوله: ارفع؛ أي: بالرفع وقال الشيخ: التقدير: أحسن ارفع لهم قال: ويجوز نصب غير على إسقاط الخافض وتقديرا حسن ارفع لغير صحاب.
فإن قلت: لو أراد ذلك لقال لغير صحاب.
قلت: إنما عدل إلى الواو؛ لأنها تفصل بين المسألتين، يريد: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} وقبل أحسن وبعده فعلان وصلا بياء ضمت هذا تقدير النظم ومعناه أن الجماعة قرءوا يتقبل ويتجاوز على بناء الفعلين لما لم يسم فاعله فأولهما ياء مضمومة وأحسن مرفوع؛ لأنه مفعول ما لم يسم فاعله وقراءة صحاب بنون العظمة المفتوحة على بناء الفعلين للفاعل وأحسن منصوب؛ لأنه مفعول يتقبل الذي قبله ومفعول يتجاوز قوله: عن سيئاتهم.
(1/685)
________________________________________
1035-
وَقَلْ عَنْ هِشامٍ أَدْغَمُوا تَعِدَانِنِي ... نُوَفِّيَهُمْ بِالْيَا "لَـ"ـهُ "حَقُّ نَـ"ـهْشَلا
القراءة بنونين مكسورتين هو الأصل؛ لأن الأولى علامة رفع الفعل بعد ضمير التثنية مثل تضربان والثانية نون الوقاية وهشام أدغم الأولى في الثانية كما أدغم في: {أَتُحَاجُّونِّي} ؛ لوجود المثلين، ورويت أيضا عن ابن ذكوان مع أنهما قرءا في الزمر: "تأمرونني" بنونين فأظهرا ما أدغم غيرهما وكثير من المصنفين لم يذكروا هذا الإدغام في: "أَتَعِدَانِنِي"، ولم يقرأ أحد بحذف إحدى النونين كما في "تأمرونني" و"تحاجوني"، وحكى الأهوازي رواية أخرى بفتح النون الأولى وهي غلط فلهذا يقال في ضبط قراءة الجماعة بنونين مكسورتين وأما: {لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} فقراءته بالياء والنون ظاهرة وقد سبق معنى نهشلا.
1036-
وَقُلْ لا تَرَى بِالغَيْبِ وَاضْمُمْ وَبَعْدَهُ ... مَسَاكِنَهُمْ بِالرَّفْعِ "فَـ"ـاشِيهِ "نُـ"ـوِّلا
قوله: بالغيب؛ أي: بسورة الغيب وإنما هو من باب التذكير لأجل الاستثناء المفرغ نحو ما يقوم إلا هند ولا يجوز في هذا التأنيث إلا في شذوذ وضرورة وإنما ذكر لفظ الغيب دون التذكير؛ لأن القراءة الأخرى بالخطاب لا بالتأنيث ولهذا فتحت التاء؛ أي: لا نرى أيها المخاطب لا مساكنهم بالنصب؛ لأنه مفعول ترى المبني للفاعل، ومن قرأ "يرى" بضم الياء رفع مساكنهم؛ لأنه مفعول ما لم يسمَّ فاعله، ثم ذكر ياءات الإضافة فقال:
1037-
وَيَاءُ وَلكِنِّي وَيَا تَعِدَانِنِي ... وَإِنِّي وَأَوْزِعْنِي بِها خُلْفُ مَنْ بَلا
أي: بهذه الأربعة خلاف القراء في الفتح والإسكان أراد: "وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ" فتحها نافع وأبو عمرو والبزي. "أَتَعِدَانِنِيَ أَنْ أُخْرَجَ" فتحها الحرميان. "إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ" فتحها الحرميان، وأبو عمرو. "أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ" فتحها ورش والبزي.
(1/686)
________________________________________
من سورة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى سورة الرحمن -عز وجل:
لم تكن له ضرورة تلجئه إلى جمع هذه الترجمة، فلم يتصل نظم ما في هذه السورة بما في الفتح ولا ما في الفتح بما في الحجرات ولا ما في الذاريات بما في الطور، ومهما أمكن الفصل كان أبين، فكان ينبغي إفراد هذه السورة والفتح، ثم يقول: سورة الحجرات، وق، والذاريات، ثم يقول: سورة الطور، والنجم، والقمر، ويكون لهذه السورة وسورة الفتح أسرة بإفراده سورة فصلت مما قبلها وبعدها، فكل واحدة ثلاثة أبياتن والله أعلم.
1038-
وَبِالضَّمِّ وَاقْصُرْ وَاكْسِرِ التَّاءَ قَاتَلُوا ... "عَـ"ـلَى "حُـ"ـجَّةٍ وَالْقَصْرُ فِي آسِنٍ "دَ"لا
يريد: "والذين قاتلوا في سبيل الله" قرأها حفص وأبو عمرو "قتلوا"، وكلاهما ظاهر فصفة المجموع أنهم قاتلوا وقتلوا؛ أي: قتل منهم والماء الآسن هو المتغير فمن قصر فهو من أسن بكسر السين يأسن يفتحها فهو أسن كحذر، ومن مد فهو من أسن بفتح السين يأسن بكسر السين وضمها فهو آسن على وزن فاعل كضارب وقاتل وكل ذلك لغات وقد سبق معنى دلا.
1039-
وَفِي آنِفًا خُلْفٌ "هَـ"ـدى وَبِضَمِّهِمْ ... وَكَسْرٍ وَتَحْرِيكٍ وَأُمْلِيَ "حُـ"ـصِّلا
أي: والقصر في آنفاذ وخلف عن البري يريد قوله تعالى: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} ؛ أي: الساعة، قال أبو علي: يجوز أن يكون توهمه مثل حاذر وحذر وفاكه وفكه والوجه المد، أما: {وَأُمْلِي لَهُمْ} على بناء الفعل للفاعل فالضمير فيه لله تعالى كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} وقيل: يجوز أن يعود على ما قبله مجازا؛ أي: الشيطان سول لهم وأملي وقراءة أبي عمرو على بناء الفعل لما لم يسم فاعله وهو يحتمل الأمرين فضم الهمز وكسر اللام وحرك الياء بالفتح فقوله: وبضمهم وما بعده متعلق بقوله: حصلا وأملي مبتدءا وحصلا خبره؛ أي: حصل بالضم والكسر والتحريك والله أعلم.
1040-
وَأَسْرَارَهُمْ فَاكْسِرْ "صِحَابًا" وَنَبْلُوَنْ ... نَكُمْ نَعْلَمُ اليَا "صِـ"ـفْ وَنَبْلُوَ وَاقْبَلا
صحابا حال من فاعل اكسرا ومفعوله؛ أي: ذا صحاب ويجوز أن يكون على تقدير: اكسروا صحابا فهو أمر لمفرد لفظا وهو لجماعة تقديرا وهذا كما سبق في قوله: زد الهمز ثملا، وخاطب يستطيعون عملا. وأسرار بفتح الهمزة جمع سر وبالكسر مصدر أسر، أما الياء والنون في هذه الكلمات الثلاث هي: "وليبلونكم حتى يعلم" "ويبلو" فالنون للعظمة والياء؛ لأن قبله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} ، وأراد الناظم ويبلونكم ويعلم ويبلو الياء صف فيها فقدم وأخر للضرورة، أو يكون أراد: ويبلو كذلك؛ أي: بالياء وأراد وأقبلن فأبدل من نون التأكيد ألفا؛ أي: صف وأقبل، وفرغ الكلام في سورة القتال.
(1/687)
________________________________________
1041-
وَفِي يُؤْمِنُوا "حَقٌّ" وَبَعْدُ ثَلاثَةٌ ... وَفي ياءٍ يُؤْتيِهِ "غَـ"ـدِيرٌ تَسَلْسَلا
يريد: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وبعدها ثلاثة ألفاظ أيضا وهي: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} ، قرأ الأربعة بالغيب حق؛ أي: ليؤمن المرسل إليهم ويفعلوا كيت وكيت، وقرأ الباقون بالخطاب وهو ظاهر، أما: {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فالياء فيه والنون كما سبق في "ولنبلونكم"، وقوله: غدير تسلسلا عبارة حسنة حلوة، وأشار إلى كثرة أمثال ذلك وقد تقدم والله أعلم.
1042-
وَبِالضَّمِّ ضُرًا "شَـ"ـاعَ وَالكَسْرُ عَنْهُما ... بِلامِ كلامَ اللهِ وَالقَصْرُ وُكِّلا
يريد: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} قال أبو علي: الضر بالفتح خلاف النفع وفي التنزيل: {مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} 1، والضُّرُّ بالضم سوء الحال وفي التنزيل: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} ، والأبين في هذا الفتح عندي، ويجوز أن يكونا لغتين في معنى كالفَقْر والفُقْر والضَّعْف والضُّعْف، وقوله: عنهما؛ أي: عن حمزة والكسائي المدلول عليهما بالشين شاع وكلام إذا كسرت لامه وقصر؛ أي: حذفت ألفه صار كلم وهو بمعنى كلام كقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} ، والأكثر في المضاف إلى الله استعمال الكلام نحو: {بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} ، {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، وقوله: والقصر عطف على والكسر وقوله: وكلا خبر عنهما فالألف فيه ضمير التثنية؛ أي: وكل الكسر والقصر بلام كلام فكسرت ولم تمد الفتحة فيها فقصرت كما قال وفي يتناجون اقصر النون مكانات مد النون.
1043-
بِمَا يَعْمَلُونَ "حَـ"ـجَّ حَرَّكَ شَطْأَهُ ... "دُ"عَا "مَـ"ـاجِدٍ فَآزَرَهُ "مُـ"ـلا
يريد: {بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأه أبو عمرو وحده بالغيب والباقون بالخطاب ولا خلاف في الذي: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، بَلْ ظَنَنْتُمْ} أنه بتاء الخطاب والخلاف في الحرفين في الأحزاب وشطأه بسكون الطاء وفتحها لغتان وهو فراخ الزرع وآزره وأزره بالمد والقصر؛ أي: قواه وأعانه، وقيل: المد بمعنى ساواه؛ أي: ساواه الشطء والزرع، وعلى الأول يجوز أن تكون الهاء في "فآزره" للشطأ أو للزرع؛ لأن كل واحد منهما مقوٍّ للآخر، وملا جمع ملاء وهو الملحفة وقد سبق ذكرها في مواضع، وهي هنا حسنة المعنى على تقدير ذا ملأ؛ لأن تقويت طافات الزرع والتفافها يشبه الاشتمال بالملا والله أعلم.
وانتهى إلى هنا ذكر الخلاف في سورة الفتح، ثم ذكر ما في الحجرات وما بعدها فقال:
1044-
وَفِي يَعْمَلُونَ "دُ"مْ يَقُولُ بِياءِ "إ"ذْ ... "صَـ"ـفَا وَاكْسِرُوا أَدْبَارَ "إ"ذ "فَـ"ـازَ "دُ"خْلُلا
يريد آخر الحجرات: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأه ابن كثير وحده بالغيب والباقون بالخطاب وكلاهما
__________
1 سورة المائدة، آية: 76.
2 سورة الأنبياء، آية: 84.
(1/688)
________________________________________
ظاهر، أما: "يوم يقول لجهنم" فالخلاف فيه بالياء والنون ظاهر، أما: {أَدْبَارَ السُّجُودِ} فهو بالكسر مصدر أدبر وبالفتح جمع دبر؛ أي: وقت أدبار السجود وإنما قال في الكسر فاز دخلل؛ لموافقته الذي في آخر الطور فهو مجمع على كسره.
1045-
وَبِاليَا يُنَادِى قِفْ "دَ"لِيلا بِخُلْفِهِ ... وَقُلْ مِثْلُ مَا بِالرَّفْعِ "شَـ"ـمَّمَ "صَـ"ـنْدَلا
يريد: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} ياء ينادي محذوفة في الرسم؛ لأنها محذوفة في الوصل؛ لالتقاء الساكنين فإذا وقف عليها فكلهم يحذفها؛ اتباعا للوصل والرسم، وابن كثير أثبتها في أحد الوجهين عنه على الأصل، وليست هذه معدودة من الياءات الزوائد وإن كانت محذوفة في الرسم؛ لأن تلك شرطها أن يكون مختلفا في إثباتها وصلا ووقفا، وهذه وإن اختلف في إثباتها وقفا فلم يختلف في حذفها وصلا، وإنما عد من الزوائد: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} ، {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ} ؛ لأن من فتحهما أثبتهما وصلا وهي ياء إضافة قابلة للفتح وهذه ياء ينادي لام الفعل فهي ساكنة في حال الرفع ولكن في قاف ثلاثة زوائد: "المنادي" بعد ينادي أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو، وفي الحالين ابن كثير. "فَحَقَّ وَعِيدِي"، "مَنْ يَخَافُ وَعِيدِي" أثبتهما في الوصل ورش وحده، أما: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 1 في سورة والذاريات فشمم صندلا؛ أي: شمم قارئه وسامعه طيبا؛ لظهور الوجه فيه؛ لأنه صفة لحق؛ أي: إنه لحق مثل نطقكم وما زائدة ووجه الفتح أنه في موضع رفع ولكنه فتح فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن كقوله:
وتداعا منخراه بدم ... مثل ما أثمر حماض الخيل
هكذا أنشده أبو عثمان وأبو عمرو بالفتح وهو نعت مجرور ومنه قوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت
بفتح غير فهو فاعل يمنع، وقيل: هو نعت مصدر محذوف؛ أي: لحق حقا مثل ما وقيل: حال من الضمير في لحق؛ لأنه مصدر وصف به، وأجاز الجرمي أن يكون حالا من لحق نفسه وإن كان بكسرة، وأجاز هذا رجل مقبلا؛ أي: لحق كأنها مثل نطقكم، وقال أبو عبيد: وقال بعض العرب بجعل مثل نصبا أبدا، فيقولون: هذا رجل مثلك، وقال الفراء: العرب تنصبها إذا رفع بها الاسم؛ يعني: المبتدأ فيقولون: مثل من عبد الله ويقولون: عبد الله مثلك وأنت مثله؛ لأن الكاف قد تكون داخلة عليها، فتنصب إذا لقيت الكاف. قلت: وهذه لغة غريبة وفيها نظر.
1046-
وَفي الصَّعْقَةِ اقْصُرْ مُسْكِنَ العَيْنِ "رَ"اوِيا ... وَقَوْمَ بِخَفْضِ الْمِيمِ "شَـ"ـرَّفَ "حُـ"ـمَّلا
هذا تقييد لما لفظ به فالقصر حذف الألف من الصاعقة، وفي قوله: مسكن العين نظر وصوابه مسكن الكسر فإن الإسكان المطلق ضده الفتح على ما تقرر في الخطبة وغيرها فما وقع ذلك إلا سهوا عما التزمه
__________
1 آية: 23.
(1/689)
________________________________________
باصطلاحه فإن قيل: الصعقة لا كسر فيها فكيف يقول: مسكن الكسر؟ قلت: وكذلك لا بد فيها فكيف قال: اقصر إنما ذلك باعتبار القراءة الأخرى؛ أي: أسكن في موضع الكسر ولم يتعرض الشيخ لهذا في شرحه أولا، ثم في آخر عمره زاد في شرحه نكتا في مواضع هذا منها، فقال: قوله: مسكن العين أراد به عين الفعل كما قال: لا عين راجع، وهذا زيادة إغراب في البيت وغير مخلص من الإشكال، والصاعقة اسم النازلة، والصعقة مصدر صعقتهم، فقوله: فأخذتهم الصعقة كما قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} ، قال أبو علي: قيل: إن الصعقة مثل الزجرة وهو الصوت الذي يكون عن الصاعقة، قوله: وقوم يريد وقوم نوح بالخفض عطف على: {وَفِي مُوسَى} ، وقوله: {وَفِي مُوسَى} عطف على: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} ؛ أي: وفي موسى وفي عاد وفي ثمود وقوم نوح آيات، والنصب على: وأهلكنا قوم نوح أو واذكر قوم نوح، وانقضى النظم لما في الذاريات، ثم شرع في حروف والطور فقال:
1047-
وَبَصْرٍ وَأَتْبَعا بِوَاتَّبَعَتْ وَمَا ... أَلَتْنَا اكْسِرُوا "دِ"نْيا وَإِنَّ افْتَحُوا "ا"لْجَلا
أي: قرأ أبو عمرو: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ} موضع قراءة غيره: "واتبعتهم" وكلاهما واضح، وقد مضى ذكر الخلاف في "ذرياتهم" الذي بعد "اتبعناهم" والذي بعد: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} في سورة الأعراف، أما: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} فكسر اللام ابن كثير وحده وفتحها غيره وهما لغتان وفيها لغات أخر ذكرها الشيخ في شرحه والكل بمعنى النقصان، وقوله: دنيا من قولهم هو ابن عمي دنيا ودنيا وإذا كسرت الدال نونت وإذا ضممتها لم تنون؛ أي: قريبا يشير إلى أنه قريب من الحرف المذكور قبله وهو "واتبعناهم" وقال الشيخ؛ يعني: إن ألتنا بالكسر قريب من ألتنا بالفتح كابني العم ثم قال وأن افتحوا الجلا بفتح الجيم وقصر الممدود؛ أي: ذا الجلا؛ يعني: الجلى، ورضى في أول البيت الآتي متصل به معنى ورمزا فهو في موضع نصب على التمييز؛ أي: الجلى رضاه، ويجمعهم أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو رضى وموضع الخلاف هو قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} وهو مشكل فإن قبله موضعين لا خلاف في كسرهما وهما: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} إنه ولا يليق الفتح لا بقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ} على تقدير: لأنه أو ندعوه بأنه؛ أي: نصفه بهاتين الصفتين فالذي فتحه نافع والكسائي وكسره الباقون على الابتداء فلهذا قال: الجلا رضاه؛ أي: الواضح أمره بجواز ذلك فيه وكأنه قيده بذلك والله أعلم.
1048-
رِضًا يَصْعَقُونَ اضُمُمْهُ "كَـ"ـمْ "نَـ"ـصَّ وَالْمُسَيْـ ... ـطِرُونَ "لِـ"ـسانٌ "عَـ"ـابَ بِالْخُلْفِ "زُ"مَّلا
أي: اضمم ياءه فيبقى فعلا لم يسم فاعله من أصعقهم فيكون مثل يكرمون، وقيل: يقال صعقهم فيكون مثل يضربون ومن فتح الياء فهو مضارع صعق اللازم لقوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} ، وكلتا الآيتين إشارة إلى صعقة تقع يوم القيامة شاهد ذلك ما في صحيح البخاري من قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "فإن الناس يوم القيامة يصعقون"، وقد بينا ذلك في مسألة مفردة مذكورة في الكراسة الجامعة، وقوله: كم نص؛ أي: كم قارئ نص عليه أو كم مرة وقع من قارئه وناقله، وقوله: لسان؛ أي: لغة والزمل الضعيف؛ أي: قرأه بالسين هشام وقنبل وحفص بخلاف عنه، ثم بين قراءة غيرهم فقال:
(1/690)
________________________________________
1049-
وَصَاد كَزَايٍ "قَـ"ـامَ بِالْخُلْفِ "ضَـ"ـبْعُهُ ... وَكَذَّبَ يَرْوِيهِ هِشَامٌ مُثَقَّلا
أي: قرأه الباقون بالصاد، وأشم الصاد زايا خلف وخلاد بخلاف عنه والكلام في هذا كما سبق في الصراط تعليلا وشرحا لعبارة الناظم فإنه استغنى باللفظ عن القيد وفيه نظر نبهنا عليه هنا والضبع العضد؛ أي: أشد وأقوى وانتهى ذكر ما في الطور من الحروف ثم انتقل إلى سورة والنجم فقال وكذب؛ يعني: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} شدده هشام؛ أي: لم يكذب ما رآه بعينه، قال أبو علي: كذب يتعدى إلى مفعول بدله قوله:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
ومعنى كذبتك؛ أي: أرتك ما لا حقيقة له فمعنى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ؛ أي: لم يكذب فؤاد ما أدركه بصره؛ أي: كانت رؤية صحيحة غير كاذبة وإدراكا على الحقيقة قال ويشبه أن يكون الذي شدد أكد هذا المعنى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} ؛ أي: أترومون إزالته عن حقيقة ما أدركه وعلمه قال الزمخشري، ما كذب فؤاد محمد -صلى الله عليه وسلم- ما رآه ببصره من صورة جبراءيل -عليه السلام- أي: ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا؛ لأنه عرفه؛ يعني: أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أن ما رآه حق وقريء ما كذب؛ أي: صدقه ولم يشك أنه جبريل بصورته وقال أبو عبيد: وبالتخفيف نقرأ وهي في التفسير ما كذب في رؤيته يقول إن رؤيته قد صدقت.
قلت: قد سبق في قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ؛ أي: في ظنه فكذا هنا ما كذب فيما رأى؛ أي: في رؤيته؛ أي: صدق فيها.
1050-
تُمَارُونَهُ تَمْرُونَهُ وَافْتَحُوا "شَـ"ـذًا ... مَناءةَ لِلْمَكِّي زِدِ الْهَمْزَ وَأَحْفِلا
هذا مثل قوله: سكارى معا سكرى؛ أي: قراءة حمزة والكسائي اللفظ الثاني وهو تمرونه وسكرى وقوله: وافتحوا زيادة بيان هنا؛ أي: افتحوا التاء وكان له أن لا يذكره كما لم يذكر فتحه السين في سكرى وشذا حال من الفاتحين أو من المفتوح؛ أي: ذوى شذا أو ذا شذا ومعنى: {أَفَتُمَارُونَهُ} أفتجادلونه وبخهم سبحانه في مجادلتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكره لهم -صلى الله عليه وسلم- من الإسراء به وتمرونه بمعنى تجحدونه قال الزمخشري أفتمارونه من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مري الناقة كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه وقرئ أفتمرونه؛ أي: أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ولما فيه من معنى الغلبة عدي بعلى كما يقول غلبته على كذا وقيل: أفتمرونه أفتجحدونه وأنشدوا:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا
وقال: يقال مريته حقه؛ أي: جحدته وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين وقال النحاس: قال محمد بن زيد: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه وعلى بمعنى "عن" قال بنو كعب
(1/691)
________________________________________
ابن ربيعة يقولون: رضي الله عليك؛ أي: عنك، ومناة على وزن نجاة ومناءة بزيادة همزة بعد الألف على وزن مجاعة لغتان قال جرير:
أزيد مناة توعدنا ابن تيم
وأنشد الكسائي:
ألا هل أتى التيم ابن عبد مناءة
وقوله: واحفلا أراد: واحفلن فأبدل من نون التوكيد الخفيفة ألفا للوقف؛ أي: احتفل بهذه القراءة فاحتج لها؛ لأن من الناس من أنكر المد قال أبو علي: قال أبو عبيد: اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة ولعل مناءة بالمد لغة لم أسمع بها عن أحد من رواة اللغة وقد سمع زيد مناة عبد مناة ولم أسمع بالمد.
قال الزمخشري في اشتقاق اللفظين على القراءتين: كأنها سميت مناءة؛ لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها؛ أي: كانت تراق ومناة مفعلة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها.
قلت: ومن الأول تسمية منى لكثرة ما يراق فيها من دماء الأضاحي والنسك في الحج، وقال الجوهري: عبد مناة بن أد بن طابخة وزيد مناة بن تميم بن مرة يمد ويقصر قال: هو ابن الحارثي:
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة
1051-
ويَهْمِزُ ضِيزَى خُشَّعًا خَاشِعًا "شَـ"ـفا ... "حَـ"ـمِيدًا وَخَاطِبْ تَعْلَمُونَ "فـ"ـطِبْ "كَـ"ـلا
أي: ويهمز المكي ياء ضيزى والهمز في ذلك وتركه لغتان يقال ضازه حقه يضازه؛ أي: إذا نقصه وجار فيه على وزن حساه يحساه ويقال ضازه يضيزه مثل باعه يبيعه فوزن ضئزى بالهمز فعلى بكسر الفاء قالوا هي مصدر وصف به كالذكرى وإذا لم تهمز فوزنها عندي كذلك وهي مصدر أيضا والتقدير: قسمة ذات ضيزى، وقال النحاة: وزنها فعلى بضم الفاء وإن كانت في لفظ ضيزى مكسورة اعتبارا بالأصل كما يقال في وزن يبض فعل وفي وزن بيوت فعول قال أبو علي؛ لأنهم لم يجدوا في الصفات شيئا على فعلى؛ يعني: بكسر الفاء مع ألف التأنيث قلت: لا نجعلها صفة بل مصدرا كالمهموز، قال أبو علي: حكى التوزى الهمز في هذه ضأزه يضأزه إذا ظلمه وأنشد:
إذا ضأزانا حقنا في غنيمة
قلت: وانتهى الكلام في حروف سورة النجم، ثم قال الناظم: خشعا خاشعا مثل سكارى معا سكرى؛ أي: قوله تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} يقرأه شفا حميدا خاشعا وهما لغتان في اسم الفاعل إذا وقع فاعلا مجموعا هل يفرد في نفسه أو يجمع جمع تكسير تقول: مررت بزيد قاعدا غلمانه وقعودا غلمانه سواء في ذلك الحال والصفة نحو: مررت برجل قاعد غلمانه وقعود غلمانه، وسنوضح ذلك في شرح الناظم إن شاء الله تعالى. قال الزمخشري: وفي خشعا بالجمع هو لغة تقول: أكلوني البراغيث وليس كذلك؛ فإن أكلوني لغة ضعيفة وتلك فصيحة، قال أبو علي: يرجح: مررت برجل حسان قومه على حسن قومه، قال الزمخشري: ويجوز أن يكون في خشعا ضميرهم ويقع أبصارهم بدلا عنه.
قلت: يعني: يخرجون من الأجداث خشعا فهو حال، وقيل: يجوز أن يكون مفعول: {يَدْعُ الدَّاعِ} أي
(1/692)
________________________________________
يدعو قوما خشعا أبصارهم، ثم قال: وخاطب يعلمون بمعنى قوله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ} الخطاب فيه والغيب ظاهران وكلا تمييز وهو المرعي وأبدل الهمزة ألفا لما سكنت للوقف وكنى به عن العلم المقتبس من المخاطب، ويجوز أن يكون كلا مصدر كلأه؛ أي: حرسه وحفظه كَلْأً كضرب ضربا ثم نقل حركة الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة، ثم يكون هذا المصدر تمييزا أو في موضع الحال؛ ليطيب حفظك أو طب واحفظ، وفي هذه السورة ثماني زوائد: "يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي" أثبتها في الوصل ورش وأبو عمرو وفي الحالين البزي. "مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي" أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو وفي الحالين ابن كثير، ونذر في ستة مواضع واحد في قصة نوح واثنان في قصة عاد وواحد في قصة ثمود واثنان في قصة لوط أثبت الستة في الوصل ورش وحده، وتقدم ثلاث زوائد في سورة ق فقلت فيه:
وزد نذري ستا كذا الداع فيهما ... بقاف المنادي مع وعيدي معا علا
(1/693)
________________________________________
سورة الرحمن -عز وجل:
1052-
وَوَالْحَبُّ ذُو الرَّيْحانِ رَفْعُ ثَلاثِها ... بِنَصْبٍ "كَـ"ـفَى وَالنُّونُ بِالْخَفْضِ "شُـ"ـكِّلا
ثلاثها بمنزلة كلها في صحة الإضافة وأنث العدد قصدا إلى الكلمات وأطلق الرفع والنصب في الثلاث على حسب ما يليق بكل منها فرفع الحب والريحان بالضمة فيهما ونصبهما بالفتحة فيهما ورفع ذو بالواو ونصبها بالألف.
وفي قوله: في البقرة: ناصبا كلماته بكسر لم يجتز بلفظ النصب حتى يبين أنه بالكسر؛ لتيسر ذلك عليه ثَم وتعسره هنا، وإلا فالمعهود في عبارته بالنصب إنما هو الفتحة ورفع الثلاثة بالعطف على فاكهة؛ أي: فيها فاكهة والحب والريحان وذو: صفة للحب ونصبها بفعل مضمر؛ أي: وخلق الحب ذا العصف والريحان ورسمت ذا بالألف في المصحف الشامي وخفض حمزة والكسائي النون من الريحان على تقديمه ذو العصف وذو الريحان والريحان الورق الذي يشم والعصف ورق الزرع ولا خلاف في جره؛ لأنه مضاف إليه صريحا وقوله: شكل من شكلت الكتاب إذا قيدته بالضبط بما يدل على الحركات مأخوذ من شكال الدابة؛ لأن اللفظ قبل شكله متردد من جهات يتعين بالشكل بعضها.
1053-
وَيَخْرُجُ فَاضْمُمْ وَافْتَحِ الضَّمَّ "إِ"ذْ حَمَى ... وَفِى الْمُنْشَآتُ الشِّينُ بِالكَسْرِ "فَـ"ـاحْمِا
يريد: {مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ} قرأه الجماعة على إسناد الفعل إلى الفاعل وقرأه نافع وأبو عمرو على أنه فعل ما لم يسمَّ فاعله فضما الياء وفتحا الراء، "المنشآت" بكسر الشين وفتحها نعت للجوار وهي السفن فقراءة الفتح ظاهرة؛ لأنها أنشئت وأجريت وقيل: المرفوعات الشرع وقيل: في معنى الكسر إنها تنشيء الموج بجريها أو ترفع الشرع أو تنشيء السير على طريق المجاز نحو: مات زيد ومرض فمات يضاف الفعل إليه إذا وجد فيه وهو في الحقيقة لغيره والفاء في فاحملا زائدة وهي رمز، والشين مفعول به؛ أي: احمل الشين بالكسر؛ أي: انقلها كذلك، وأراد احملن بنون التأكيد فأبدلها ألفا كما سبق في نظائر له ثم تمم الرمز فقال:
1054-
"صَـ"ـحِيحًا بِخُلْفٍ نَفْرُغُ الْياءَ "شَـ"ـائِعٌ ... شُوَاظٌ بِكَسْرِ الضَّمِّ مَكِّيُّهُمْ جَلا
أي: كسر الشين حمزة وأبو بكر بخلاف عنه، أما: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} فالخلاف فيه بالياء والنون ظاهر، قال أبو علي: وليس الفراغ هنا فراغا من شغل ولكن تأويله القصد كما قال جرير:
الآن قد فرغت إلي تميم
وقال الزمخشري: المراد التوفر على النكاية؛ أي: لا يكون له شغل سواه ستنقضي شئون الدنيا فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم، والشواظ بكسر الشين وضمها: لغتان وهو اللهب وقوله: جلا ليس برمز؛ لأنه قد صرح بالقارئ وهو مكيهم فلا رمز معه والله أعلم.
(1/694)
________________________________________
1055-
وَرَفْعَ نُحَاسٌ جَرَّ "حَقٌّ" وَكَسْرَ مِي ... مِ يَطْمِثْ فِي الأُولَى ضُمَّ "تُـ"ـهْدى وَتُقْبَلا
رفع مفعول جر وحق فاعله، ورأيت في بعض النسخ رفع بالضم على الابتداء وجر بالرفع خبره، وحق مجرور بالإضافة كلا اللفظين صواب ووجهه ظاهر ووجه رفع نحاس العطف على شواظ وجره عطف على نار؛ أي: الشواظ من نار ونحاس وفي النحاس قولان؛ أحدهما: أنه الدخان، والثاني: أنه الصفر المذاب وفي الشواظ أيضا قولان لأهل اللغة؛ قال أبو عبيد: هو اللهب لا دخان فيه وقال بعضهم لا يكون الشواظ إلا من النار والدخان جميعا فإن قلنا: النحاس بمعنى الدخان والشواظ ما لا دخان فيه ظهرت قراءة الرفع، وعلى القول الآخر تظهر قراءة الجر، وإن قلنا: النحاس هو الصفر المذاب ظهرت أيضا قراءة الرفع واستخرج أبو علي وجها لقراءة الجر على قولنا الشواظ ما لا دخان فيه وهو أن التقدير: وشيء من نحاس فيحذف الموصوف وتقام الصفة مقامه ثم حذفت من من قوله: ومن نحاس؛ لأن ذكره قد سبق في من نار ويقال طمث البكر يطمثها ويطمثها بفتح الميم في الماضي وبكسرها وبضمها في المضارع إذا دماها بالجماع وعني بالأولى التي بعدها: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ} ضم الميم الدوري عن الكسائي، وإعراب قوله: نهدي وتقبلا سبق في شرح قوله: في باب الإمالة أمل تدعي حميدا وتقبلا.
1056-
وَقَالَ بِهِ للَّيْثِ فِي الثَّانِ وَحْدَهُ ... شُيُوخٌ وَنَصُّ اللَّيْثِ بِالضَّمِّ الَاوَّلا
به؛ أي: بالضم، والثاني: هو الذي قبله: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ} وإلا ولا نصب بالضم كقوله:
عن الضرب مسمعا
قال صاحب التيسير: أبو عمر عن الكسائي: "لَمْ يَطْمِثْهُنَّ" في الأول بضم الميم وأبو الحارث عنه في الثاني كذلك هذه قراءتي والذي نص عليه أبو الحارث كرواية الدوري وقال في غيره: قرأت على فارس بن أحمد في رواية أبي الحارث كرواية الدوري وقال طاهر بن غلبون إن الضم في الأول للدوري وعكس ذلك لأبي الحارث اختيار من أهل الأداء.
1057-
وَقَوْلُ الْكِسَائِي ضُمَّ أَيُّهُمَا تَشَا ... وَجِيهٌ وَبَعْضُ الْمُقْرِئِينَ بِهِ تَلا
قال الداني في غير التيسير: على أن الكسائي خير فيهما فقال: ما أبالي أيهما قرأت بالضم أو الكسر بعد أن لا أجمع بينهما قال أبو عبيد: كان الكسائي يروي فيهما الضم والكسر وربما كسر إحداهما وضم الأخرى فقول الكسائي: هذا وجيه؛ أي: له وجاهة؛ لأن فيه الجمع بين اللغتين وبعض المقرئين به تلا؛ يعني: بهذا التخيير كابن أشتة وغيره ممن لم يذكر غير التخيير.
1058-
وَآخِرُهَا يَا ذِي الْجَلالِ ابْنُ عَامِرٍ ... بِوَاو وَرَسْمُ الشَّامِ فِيهِ تَمَثَّلا
(1/695)
________________________________________
أي: يا ذو الجلال آخر السورة قرأها ابن عامر بواو؛ أي: جعل مكانها واوا ولزم من ذلك ضم الذال قبلها فلهذا لم ينبه عليه، وقصر لفظ يا ضرورة؛ يعني: قوله سبحانه: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ} فهو بالياء نعت للرب وبالواو نعت للاسم؛ لأن المراد بالاسم هنا لمسمى؛ لأنه إشارة إلى الأوصاف الذاتية وهي المراد تسبيحها وتنزيهها والثناء عليها بقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وقد استقصينا بيان ذلك وتحقيقه في آخر كتاب البسملة الأكبر، وقوله: تمثل؛ أي: تشخص الواو في رسم المصحف الشامي وقد أجمعوا على الأول أنه بالواو وهو: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} .
(1/696)
________________________________________
سورة الواقعة والحديد:
1059-
وَحُورٌ وَعِينٌ خَفْضُ رَفْعِهِمَا "شَـ"ـفا ... وَعُرْبًا سُكُونُ الضَّمِّ "صُـ"ـحِّحَ "فَـ"ـعْتَلَى
الخفض عطف على: "فاكهة"، "ولحم طير" من باب تقلدت بالسيف والرمح؛ أي: إنهم جامعون بين هذه الأشياء، وفاكهة ولحم طير معطوفان إما على أكواب وإما على جنات النعيم، فإن كانا على أكواب فالمعنى أنه ينعمون بحور عين كما نعموا بما قبله وإن كانا على جنات فالمعنى أنهم في مقارنة بحور عين أو معاشرة حور عين، أما وجه الرفع فعلى تقدير ولهم حور عين أو وفيها حور عين أو عطف على ولدان، وجوز أبو علي أن تكون عطفا على الضمير في متقابلين ولم يؤكد لطول الفصل، وجوز أيضا أن تكون على تقدير وعلى سرر موضونة حور عين، أما عربا فضم الراء وإسكانها لغتان، وسبق لها نظائر مثل نذرا ونذرا وهو جمع عروب وهي المرأة المتحببة إلى زوجها.
1060-
وَخِفُّ قَدَرْنا "دَ"ارَ وَانْضَمَّ شُرْبَ "فِـ"ـى ... نَدَى الصَّفْوِ وَاسْتِفْهَامُ إِنَّا "صَـ"ـفَا وِلا
يعني: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} التخفيف والتشديد في قدرنا لغتان وقد سبق ذلك في سورة الحجرات وشرب الهيم بضم الشين وفتحها مصدر شربت الإبل، وقيل: الضم الاسم كالشغل والفتح المصدر وجاء المفتوح جمع شارب كركب وصحب في غير هذا الموضع وقوله تعالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} على الخبر قرأه شعبة بزيادة مزة الاستفهام الذي بمعنى التقدير: وقوله: صفا ولا؛ أي: شديد متابعة أوصاف متابعته أو هو صفا ذا ولاء؛ أي: متابعة فنصبه على الحال، وعلى الأول تمييز وصفا بمعنى شديد مقصور والذي بمعنى صاف ممدود فقصر، ضرورة فإن كان من الصفاء الممدود فالتقدير: الاستفهام ذو صفا وإن كان مقصورا فالتقدير: مشبه صفا في قوته.
1061-
بِمَوْقِعِ بِالإِسْكانِ وَالقَصْرِ "شَـ"ـائِعٌ ... وَقَدْ أَخَذَ اضْمُمْ وَاكْسِرِ الْخَاءَ "حُـ"ـوَّلا
يعني إسكان الواو وحذف الألف بعدها من قوله سبحانه: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} فهو من باب الإفراد والجمع وقد سبق لهما نظائر، وتم الكلام في حروف سورة الواقعة ثم شرع في سورة الحديد قرأ أبو عمرو وحده: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} على بناء الفعل للمفعول والباقون بفتح الهمزة والخاء على بنائه للفاعل وهو الله تعالى، وحولا حال وهو العالم بتحول الأمور.
1062-
ومِيثَاقُكُمْ عَنْهُ وَكُلٌّ "كَـ"ـفَى وَأَنْـ ... ـظِرُونا بِقَطْعٍ وَاكْسِرِ الضَّمَّ "فَـ"ـيْصَلا
(1/697)
________________________________________
عنه؛ أي: عن أبي عمرو ورفع القاف من ميثاقكم؛ لأنه مفعول أخذ الذي لم يسم فاعله ونصبه غيره؛ لأنه مفعول أخذ المسمى للفاعل، أما: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فرفعه على الابتداء كبيت الكتاب كله لم أصنع، وكتب كذلك في مصحف الشام وهو في الأصل مفعول وعد ولكن إذا تقدم المفعول على الفعل ضعف عمله فيه فيجوز رفعه وقراءة الجماعة بالنصب على الأصل وقد أجمعوا على نصب الذي في سورة النساء، أما: "أَنْظِرُونَا نَقْتَبِسْ" بقطع الهمزة المفتوحة وكسر الظاء قراءة حمزة وحده فبمعنى أمهلونا؛ أي: ارفقوا بنا كي ندرككم، وقراءة الباقين بوصل الهمزة وضم الظاء بمعنى انتظرونا أو التفتوا إلينا يقال: نظرته إذا نتظرته وأنظرته إذا أخرته وأمهلته، وفيصلا حال بمعنى حاكما.
1063-
وَيؤْخَذُ غَيْرُ الشَّامِ مَا نَزَلَ الْخَفِيـ ... ـفُ "إِ"ذْ "عَـ"ـزّ وَالصَّادَانِ مِنْ بَعْدُ "دُ"مْ "صِـ"ـلا
يريد: {لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} قراءة الجماعة بالتذكير؛ لأن تأنيث الفدية غير حقيقي، وأنث ابن عامر على اللفظ: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} بالتخفيف والتشديد ظاهران؛ لأن ما نزله الله فقد نزل هو ومعنى إذا عز؛ أي: هذا قليل في الكتاب العزيز نحو: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} والأكثر ذكر التنزيل والإنزال مسند إلى اسم الله تعالى وقوله: ما نزل مبتدأ والخفيف خبره، وقوله: ويؤخذ غير الشام على تقدير تذكير يؤخذ قراءة غير أهل الشام فحذفت هذه المضافات للعلم بها، ثم قال: والصادان من بعد؛ أي: من بعد ما نزل يريد الصادين من قوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} ؛ أي: والصادان كذلك يريد بالتخفيف لابن كثير وأبي بكر وهما بالتخفيف بمعنى الذين صدقوا الله ورسوله والتشديد بمعنى المتصدقين فأدغمت التاء في الصاد فهو مثل المزمل والمدثر وروى عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- إظهار التاء فيهما، وقوله: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} عطف على الفعل المفهوم من هذا اللفظ تقديره إن الذين صدقوا أو اصدقوا وأقرضوا فمعناه على التخفيف إن الذين آمنوا وعملوا هذا النوع من الخير وهو الإقراض الحسن ومعناه على التشديد إن الذين تصدقوا، وكان إقراضهم لله تعالى على الوجه الأحسن وهو من أطيب الكسب صادرا عن نية خالصة ومقصد صالح وقوله: دم صلا؛ أي: ذا صلاء والصلاء عبر به عن الذكاء وعن القرى بالعلم وقد سبق تحقيق المعنيين من هذا اللفظ.
1064-
وَآتَاكُمْ فَاقْصُرْ "حَـ"ـفِيظًا وَقُلْ هُوَ الْـ ... ـغَنِيُّ هُوَ احْذِفْ "عَمَّ" وَصْلًا مُوَصَّلا
يريد: {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} القصر بمعنى جاءكم والمد بمعنى أعطاكم الله، واختار أبو عبيد قراءة أبي عمرو؛ لموافقته لقوله: فاتكم ولم يقل أفاتكم ووجه المد إضافة الخبر إليه دون ضده كما قال: {بِيَدِهِ الْخَيْرُ} وقوله: ولا تفرحوا استئناف نهي وقيل: عطف على: {لِكَيْلا تَأْسَوْا} والأول أجود أما: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} فاحذف لفظ هو في قراءة نافع وابن عامر كما هو محذوف في مصاحف المدينة والشام وأثبته غيرهما كما هو ثابت في مصاحفهم ولا خلاف في إثبات الذي في سورة الممتحنة وهو مثل هذا وهو في هذين الموضعين للفصل فحذفه غير مخل بأصل المعنى وقوله: وصلا نصب على التمييز وموصلا نعته؛ أي: عم وصله الموصل إلينا؛ أي: عم نقله وخبره، فذكره الأئمة في كتبهم.
(1/698)
________________________________________
من سورة المجادلة إلى سورة ن:
كان ينبغي أن يقول: سورة المجادلة والحشر، ثم يقول: ومن سورة الممتحنة إلى سورة الطلاق، ثم يقول: سورة الطلاق والتحريم والملك، فكانت تنقسم الجملة التي ذكرها ثلاثة أقسام؛ لأنها منفصلة في المواضع التي ذكرتها على ما نظمه، والله أعلم.
1065-
وَفي يَتَنَاجَوْنَ اقْصُرِ النُّونَ سَاكِنًا ... وَقَدِّمْهُ وَاضْمُمْ جِيمَهُ "فَـ"ـتُكَمِّلا
أراد بقصر النون حذف الألف التي بعدها في حال سكونه النون وتقديمه على التاء فإذا فصلت ذلك وضممت الجيم صار ينتجون على وزن يذهبون، هذه قراءة حمزة، وقراءة الباقين ما لفظ به، وأصلهما يفتعلون ويتفاعلون على وزن يختصمون ويتخاصمون فحذفت لام الكلمة منهما؛ لأنها في يتناجون ياء تحركت وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ثم حذفت للساكن بعدها وفعل في يتناجون ما فعل في قاضون فقيل: ينتجون كما قيل: قاضون ومعنى القراءتين واحد إلا أن يتناجون موافق لقوله تعالى: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا} و {تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} قال أبو علي: يفتعلون ويتفاعلون يجريان مجرى واحدًا.
1066-
وَكَسْرُ انْشِزُوا فَاضْمُمْ مَعًا "صَـ"ـفْوَ خُلْفِهِ ... "عُـ"ـلًا "عَـ"ـمَّ وَامْدُدْ فِي المَجَالِسِ "نَـ"ـوْفَلا
يريد: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} كسر الشين فيهما وضمها لغتان يقال نشز ينشز؛ أي: انهضوا وهمزة انشزوا همزة وصل إذا ابتدئ بها حركت بحركة الشين وصفو خلفه مبتدأ وخبره علا عم والتوحيد والجمع في المجالس والمجلس ظاهران والنوفل الكثير العطا.
1067-
وَفي رُسُلِي اليَا يُخْرِبُونَ الثَّقيل "حُـ"ـزْ ... وَمَعْ دُوَلَةً أَنِّث يَكُونُ بِخُلْفِ "لَـ"ـا
يريد ياء الإضافة في قوله تعالى: "وَرُسُلِيَ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" فتحها نافع وابن عامر وانتهى الكلام في سورة المجادلة.
أما: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} فالتخفيف فيها والتشديد لغتان من أخرب وخرب مثل أنزل ونزل، وقيل: الإخراب أن تترك الموضع ربا والتخريب الهدم، وقيل: معنى التخفيف أنهم يعطلونها ويعرضونها للخراب بخروجه منها ويخربون مفعول خرب الثقيل: نعته ثم قال ومع دولة؛ أي: ومع رفع دولة أنث تكون التي قبله بخلف عن هشام يريد: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} ، والذي في كتابي التيسير والتبصرة لمكي أن هشاما رفع دولة، واختلف عنه في تأنيث يكون وتذكيره والذي ذكره أبو الفتح فارس أن الخلاف في الموضعين أحد الوجهين مثل قراءة الجماعة بتذكير يكون ونصب دولة، وهو قول صاحب الروضة، والثاني تأنيث تكون ورفع دولة وهو الذي ذكره طاهر بن غلبون وأبوه ولم يذكر المهدوي وابن شريح لهشام إلا رفع دولة ولم يتعرضا للخلاف في يكون وابن مجاهد وغيره لم يذكروا الخلاف في الكلمتين أصلا وتوجيه هذه القراءات ظاهر
(1/699)
________________________________________
من رفع دولة جعل كان تامة ومن نصب قدر كيلا يكون الفيء دولة؛ أي: يتداوله الأغنياء بينهم مختصين به دون الفقراء، وتأنيث دولة ليس بحقيقي فجاز تذكير يكون المسند إليها، وذكر الأهوازي في بعض الروايات فتح الدال والمشهور ضمها بلا خلاف، وحكى أبو عبيد فتح الدال عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ولا نعلم أحدا فتحها، قال: والفرق بين الضم والفتح أن الدولة بالضم اسم الشيء الذي يتداول بعينه والدولة بالفتح الفعل، وقرأت في حاشية النسخة المقروءة على الناظم -رحمه الله- قوله: بخلف لا أراد لائيا؛ أي: مبطئا وجاء هذا من اللأى قال الشيخ: وسألته عن قوله: بخلف لا، فقال: إن شئت قلت سمي بلا النافية؛ لأنه قد أثبت التأنيث ونافية يثبت التذكير وإن شئت قلت بخلف لاء اسم فاعل من لاء إذا أبطأ؛ لأن التذكير عن هشام أقل من الرواية من التأنيث، ولأنه لا فصل هنا فيحسن من جهة العربية، قلت: يقال: لأى لأيا مثل رمى رميا؛ أي: أبطأ واللأي مثله فاسم الفاعل من لأى لاءٍ مثل رامٍ وقاضٍ والوقف عليه كالوقف على ماء والله أعلم.
1068-
وَكَسْرَ جِدَارٍ ضُمَّ وَالفَتْحَ وَاقْصُرُوا ... "ذَ"وِي "أُ"سْوَةٍ إِنِّي بَياءِ تَوَصَّلا
يجوز في وكسر الرفع على الابتداء وخبره ضم إن كان فعل ما لم يسم فاعله، وإن كان فعل أمر فالنصب في وكسر؛ لأنه مفعول والفتح عطف عليه رفعا ونصبا؛ أي: ضم الجيم والدال واحذف الألف فيصير جدر وهو جمع جدار وهو كما سبق في المواضع المختلف فيها في إفرادها وجمعها وذوي أسوة حال من فاعل اقصروا؛ أي: متأسين بمن سبق من القراء، ثم ذكر ياء الإضافة في الحشر وهي: "إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ" فتحها الحرميان وأبو عمرو.
ثم ذكر حروف سورة الممتحنة فقال:
1069-
وَيُفْصَلُ فَتْحُ الضَّمِّ "نَـ"ـصٌّ وَصَادُهُ ... بِكَسْرٍ "ثَـ"ـوى وَالثِّقْلُ شَافِيهِ كُمِّلا
يعني: {يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} قرأ عاصم بفصل مضارع فصل بالتخفيف على بناء الفعل للفاعل، ومثله قراءة حمزة والكسائي إلا أنه مضارع فصل بالتشديد، وقرأ الباقون على بناء الفعل للمفعول وخففوا الصاد المفتوحة سوى ابن عامر فإنه شددها ولم ينبه الناظم على فتح الفاء لمن قرأ بالتشديد؛ لأن التشديد يرشد إليه ووجه هذه القراءات ظاهر.
1070-
وَفى تُمْسِكُوا ثِقْلٌ "حَـ"ـلا وَمُتِمُّ لا ... تُنَوِّنْهُ وَاخْفِضْ نُورَهُ "عَـ"ـنْ "شَـ"ـذًا "دَ"لا
أمسك ومسك من باب أنزل ونزل، ويشهد لقراءة أبي عمرو: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} شددها الأكثر ومتم نوره في سورة الصف من نون ونصب نوره فهو الأصل مثل زيد مكرم عمرا، ومن أضاف فحذف التنوين وخفض المفعول فللتخفيف وقوله: عن شذا؛ أي: شذا دلا وقد سبق معناهما.
(1/700)
________________________________________
1071-
وَلِله زِد لامًا وَأَنْصَارَ نَوِّنًا ... "سَما" وَتُنَجِّيكُمْ عَنِ الشَّامِ ثُقِّلا
يعني قوله تعالى: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} زد لام الجر على اسم الله ونون أنصار فيصير أنصارا لله وقراءة الباقين على الإضافة كما أجمعوا على الإضافة في الحرف الثاني وهو: {قال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} لم يقرأ أحد منهم أنصارا لله؛ لأنهم أخبروا عن تحقق ذلك فيهم واتصافهم بصحة الإضافة والنسبة، فإن قلتَ: فمن أين يعلم أن الخلاف في الأول دون الثاني؟ قلتُ: هو غير مشكل على من تدبر صورة الخط؛ فإن الثاني لو نون لسقطت الألف من اسم الله وهي ثابتة في الرسم، أما الأول فأمكن جعل الألف صورة التنوين المنصوب فلم تخرج القراءتان عن صورة الرسم، والنون في قوله: نونن للتأكيد، وأنجى ونجى كأمسك ومسك وقوله: عن الشام؛ أي: عن قارئ الشام.
1072-
وَبَعْدِي وَأَنْصَارِي بِيَاء إِضافَةٍ ... وَخُشْبٌ سُكُونُ الضَّمِّ "زَ"ادَ "رِ"ضًا "حَـ"ـلا
أي: في الصف لفظان كل واحد منهما ياء إضافة مختلف في إسكانها وفتحها؛ الأول: "مِنْ بَعْدِيَ اسْمُهُ" فتحها الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر، والثاني: "مَنْ أَنْصَارِيَ إِلَى اللَّهِ" فتحها نافع وحده وليس في سورة الجمعة شيء من الحروف التي لم تذكر بعد، ولكن فيها أشياء مما يتعلق بما سبق كلفظ هو والإمالة وصلة ميم الجمع وهذا قد علم مما تقدم فيها وخشب بإسكان الشين وضمها لغتان كثمر وثمر؛ أي: سكون الضم فيه زاد حلاه رضى أو هو ذو حلا.
1073-
وَخَفَّ لَوَوْا "إِ"لْفًا بِمَا يَعْمَلُونَ "صِـ"ـفْ ... أَكُونَ بِوَاوٍ وَانْصِبُوا الْجَزْمَ "حُـ"ـفَّلا
يريد "لووا رؤوسهم" لوى رأسه ولواه إذا عطفه وأماله؛ أي: أعرض معناهما واحد وفي التشديد زيادة تكثير قال أبو علي: التخفيف يصلح للقليل والكثير والتكثير يختص بالكثرة وإلفا حال من لووا أو هو أليف للمشدد؛ لأن معناهما واحد يعملون في آخر السورة الغيب فيه والخطاب ظاهران وقرأ أبو عمرو: "وأكون من الصالحين" عطفا على "فأصدق" لفظا وهي قراءة واضحة، وقرأ غيره بإسكان النون وحذف الواو؛ لالتقاء الساكنين، ووجه ذلك أنه مجزوم عطفا على موضع فأصدق؛ لأن الفاء لو لم تدخل لكان أصدق مجزوما؛ لأنه جواب التحضيض الذي هو في معنى التمني والعرض والكل فيه معنى الأمر وما كان كذلك ينجزم جوابه على قاعدة في علم العربية مقررة وإن كان فيه فاء انتصب قال أبو علي: أعني السؤال عن ذكر الشرط، والتقدير: أخرني فإن تؤخرني أصدق فلما كان الفعل المنتصب بعد الفاء في موضع فعل مجزوم كأنه جزاء الشرط حمل قوله: وأكن عليه، مثل ذلك قراءة من قرأ: "مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرْهُم"، وأنشد:
أيا سلكت فإنني لك كاشح ... وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
قال: حمل أزدد على موضع الفاء وما بعدها،
(1/701)
________________________________________
ومثله:
فأبلوني بليتكمُ لعلي ... أصالحكم وأستدرجْ نويا
قال: حمل واستدرج على موضع الفاء المحذوفة وما بعدها من "لعلى"، واختار أبو عبيد هذه القراءة؛ لاتفاق المصاحف على كتابة هذا الحرف بحذف الواو قال: وفي القرآن ما لا يحصى من تكون ويكون في موضع الرفع والنصب لم تحذف الواو في شيء منها إنما حذفوا في موضع الجزم خاصة قال: وكان من حجة أبي عمرو فيها أن قال إنما حذفت الواو اختصار في الخط كما حذفوها في كلمن وكان أصلها أن تكون بالواو.
قلت: وكذلك كان يقول في: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} إن الياء حذفت في الرسم فلهذا يحكي عنه أنه قال: ما وجدت في القرآن لحنا غير: {إِنْ هَذَانِ} و {أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} ؛ يعني: في كتابة القرآن، ووجه حذفهما على قراءته أنهما من حروف المد فكما تحذف الألف كثيرا اختصارا فكذا أختاها، وقد قال الفراء: العرب قد تسقط الواو في بعض الهجاء كما أسقطوا الألف من سليمان وأشباهه قال: ورأيت في مصاحف عبد الله: "فقولا" فقلا بغير واو "ف ق ل ا".
قلت: والاعتماد في القراءتين على صحة النقل فيهما وإنما هذا اعتذار عن الخط، وقوله: حفلا جميع حافل، وهو حال من فاعل وانصبوا؛ أي: متمكنين بكثرة العلم وسعته من توجيه القراءتين.
1074-
وَبَالِغُ لا تَنْوِينَ مَعْ خَفْضِ أَمْرِهِ ... لِحَفْصٍ وَبِالتَّخَّفِيفِ "عَـ"ـرَّفَ "رُ"فِّلا
أي: لا تنوين فيه؛ لأنه مضاف إلى ما بعده، والكلام في: {بَالِغُ أَمْرِهِ} كما سبق في متم نوره والتشديد في: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} 1 سورة التحريم بمعنى أعلم إعلام متابعة فأعرض عن بعض أو أغضا عنه إحسانا وتكرما، ولهذا قيل: ما زال التثاقل من شأن الكرام.
ومعنى عرف بالتخفيف جازى وهو إشارة إلى ذلك القدر من المعاتبة أو إلى غيره، ومنه: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} 2.
ويطلق هذا اللفظ أيضا مشعرا بالوعد والوعيد فيقال عرفت ما صنع فلان ومنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} 3.
قال الفراء: عرف بالتخفيف؛ أي: غضب من ذلك، وجازى عليه كما تقول للرجل يسيء إليك: لأعرفن لك ذلك وهو وجه حسن وتقدير النظم وعرف: رفل بالتخفيف؛ أي: عظم.
1075-
وَضُمَّ نَصُوحًا شُعْبَةٌ مِنْ تَفَوُّتٍ ... عَلَى القَصْرِ وَالتَّشْدِيدِ "شَـ"ـقَّ تَهَلُّلا
قال أبو الحسن والأخفش: نصحته في معنى صدقته، توبة نصوحا؛ أي: صادقة، وقال: الفتح كلام العرب
__________
1 آية: 3.
2 سورة البقرة، آية: 197.
3 سورة النساء، آية: 63.
(1/702)
________________________________________
وقراءة الناس ولا أعرف الضم، قال أبو علي: يشبه أن يكون مصدرا قال الفراء: كأن الذين قرءوا نُصُوحا أرادوا المصدر مثل قعودا والذين قالوا نصوحا جعلوه من صفة التوبة ومعناها أن يحدث نفسه إذا تاب من ذنب أن لا يعود إليه أبدا، وذكر الزمخشري في تفسيره وجوها حسنة في ذلك وقال: النصوح مصدر نصح كالنصح مثل الشكور والشكر؛ أي: ذات نصوح أو انتصح نصوحا. ثم شرع الناظم في سورة الملك فقال: من تفوت يريد: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ؛ أي: تباين واختلاف فإذا حذفت الألف وشددت الواو صار تفوت وهو بمعناه تفاوت وتفوت مثل تظاهر وتظهر، والقراءتان مصدرا هذين الفعلين، وقوله: تفاوت مبتدأ وشق تهللا خبره، وقوله: على القصر والتشديد شق في موضع الحال؛ أي: مقصورا مشددا؛ أي: هذا اللفظ على ما فيه من القصر والتشديد شق تهلله وهو من قولهم شق ناب البعير إذا طلع والمعنى طلع تهلله؛ أي: لاح وظهر أو يكون من شق البرق إذا سطع من خلال السحاب ومعنى تهلل تلألأ وأضاء، ويجوز أن يكون تهللا حال؛ أي: ذا تهلل: والله أعلم.
1076-
وَآمَنْتمُوا فِي الْهَمْزَتَيْنِ أُصُولُهُ ... وَفي الوَصْلِ الُاولَى قُنْبُلٌ وَاوًا ابْدَلا
يريد: {أَأَمِنْتُمْ مَن فِي السَّمَاءِ} حكمه مذكور في باب الهمزتين من كلمة فهو مثل: "أَأَنْذَرْتَهُمْ" داخل في عموم قوله: وتسهيل أخرى همزتين بكلمة البيت فقد عرف حكم هذه الكلمة من هناك، ومعنى أصوله؛ أي: أصول حكمه، وسبق أيضا في الباب المذكور أن قنبلا أبدل الهمزة الأولى واوا؛ لانفتاحها وانضمام ما قبلها في قوله: "النُّشُورُ"، ويسهل الثانية على أصله وهذا لإبدال إنما يكون عند اتصال هذه الكلمة بالنشور فإذا وقف على النشور حقق الهمزة إذا ابتدأ كغيره فهذا معنى قوله: وفي الوصل؛ أي: إبدال قنبل الهمزة الأولى واوا في حالة الوصل دون الوقف.
فإن قلتَ: لهذا البيت فائدة غير الإذكار بما تقدم بيانه والمتقدمات كثيرة فلم خصص الناظم الإذكار بهذا دون غيره؟
قلت: له فائدتان غير الإذكار: إحداهما لما ذكر مذهب قنبل هذا في باب الهمزتين لم يبين أنه يفعل ذلك في الوصل بل أطلق فنص على الوصل هنا ليفهم أنه لا يفعل ذلك في الوقف على ما قبل: "أَأَمِنْتُمْ"؛ لزوال المقتضي لقلب الهمزة واوا وهو الضمة ولم يقنع بقوله: ثم موصلا فإن استعمال موصل بمعنى واصل غريب على ما نبهنا عليه هناك، والفائدة الأخرى النصوصية على الكلمة فإنه لما ذكر الحكم هناك كان كلامه في: "أَأَمِنْتُمْ" بزيادة ألف بعد الهمزتين وفتح الميم وهذه الكلمة لفظها غير ذلك فإن بعد الهمزتين فيها ميما مكسورة.
1077-
فَسُحْقًا سُكُونًا ضُمَّ مَعْ غَيْبِ يَعْلَمُو ... نَ مَنْ "رُ"ضْ مَعِي بِالْيَا وَأَهْلَكَنِي انْجَلا
يعني أن الكسائي وحده ضم حاء: "فَسُحُقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ"، وقرأ: "فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ" بالياء على الغيبة وإنما قال من؛ احترازا من الذي قبله: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} فإنه بالخطاب بغير خلاف وقرأ
(1/703)
________________________________________
غير الكسائي بإسكان حاء: {فَسُحْقًا} وخطاب: {فَسَتَعْلَمُونَ} من وجه القراءتين في الموضعين ظاهر، وسكونا في البيت بدل من فسحقا بدل اشتمال؛ أي: ضم فسحقا سكونه، ويجوز أن يكون سكونا مفعول ضم، وقوله: فسحقا مبتدأ أو مفعول فعل مضمر فهو من باب زيدا اضرب رأسه يجوز فيه الرفع والنصب والنصب أقوى في العربية والعائد محذوف على التقديرين؛ أي: سكونا فيه أو سكونه، وقوله: رض فعل أمر من راض الأمر رياضة؛ أي: رض نفسك في قبول دقائق العلم واستخرج المعاني ثم ذكر ما في سورة الملك من ياءات الإضافة فقال: معي انجلا باليا، وكذا "أهلكني" يريد: {مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} سكنها حمزة والكسائي وأبو بكر: {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} سكنها حمزة وحده، وفيها زائدتان: "نذيري"، و"نكيري" أثبتهما معا في الوصل ورش وحده ولم يبق من ياءات الزوائد إلا أربع في سورة الفجر وسيأتي بيانها في موضعها، وقد نظمت الجميع في بيت هنا فقلت:
نذيري نكيري الملك في الفجر أكرمنْ ... أهاننِ بالوادي ويسري تكملا
أضاف الكلمتين إلى الملك؛ أي: حرفا هذه السورة، واكتفى بذكر الملك بعد نكيري عن ذكره بعد نذيري فهو كقوله:
بين ذراعي وجبهة الأسد
وهما مبتدأ والخبر محذوف؛ أي: زائدتان ثم قال في الفجر زوائد وهي كيت وكيت، ويجوز أن يكون الملك مرفوعا على أنه خبر المبتدأ على حذف المضاف؛ أي: زائدا الملك والله أعلم.
(1/704)
________________________________________
من سورة "ن" إلى سورة القيامة:
1078-
وَضَمُّهُمْ فِي يَزْلِقُونَكَ "خَـ"ـالِدٌ ... وَمَنْ قَبْلَهُ فَاكْسِرْ وَحَرِّكْ "رِ"وًى "حَـ"ـلا
أي: ضمهم في ياء: {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} خالد؛ أي: مقيم، ونافع وحده فتح الياء يقال إذا أزال قدمه، ويقال: زلقه أيضا فزلق هو والمعنى إنهم؛ لعدوانهم له ينظرون إليه نظرا يكاد يهلكه.
وأما: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} بفتح القاف وسكون الياء فمعناه: والطغاة الذين قبله ومعناه بكسر القاف وفتح الباء، والذين معه من أشياعه وأتباعه وقوله: ومن قبله مفعول فاكسروا الفاء زائدة وروى حال منه أو من الفاعل؛ أي: ذا روى حلو؛ أي: اكسر من قبله وحركه مرويا له بالحركات التي يستحقها وبالاحتجاج له بما يوافقه.
1079-
وَيَخْفَى "شِـ"ـفَاءً مَالِيَهْ مَاهِيَهْ فَصِلْ ... وَسُلْطَانِيَهْ مِنْ دُونِ هَاءٍ "فَـ"ـتُوصلا
يعني: {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} تذكير تخفى وتأنيثه ظاهران وحذف حمزة هاء السكت من قوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ، خُذُوهُ} إذا وصل الكلام بعض ببعض وكذلك: {مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ} في سورة القارعة وهذا نظير ما فعل هو والكسائي في: {يَتَسَنَّهْ} واقتده أو أثبتها الباقون لثباتها في خط المصحف فهو وصل بنية الوقف وكلهم أثبتها وقفا وفي سورة الحاقة أربع أخر كتابيه مرتين وحسابيه مرتين أثبت حمزة هاء هن كالجماعة جمعا بين الأمرين ويعقوب الحضرمي حذف الجميع وصلا وحذف الكسائي في يتسنه واقتده لخفاء هاء السكت فيهما؛ لأنهما فعلا جزم وقد قيل: ليسا للسكت وترك الحذف هنا لوضوح الأمر.
1080-
وَيَذَّكَّرُونَ يُؤْمِنُونَ "مَـ"ـقالُهُ ... بِخُلْفٍ "لَـ"ـهُ "دَ"اعٍ وَيَعْرُجُ "رُ"تِّلا
يعني: {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} الغيب فيهما لمن رمز له والخطاب للباقين ويعرج الملائكة بالتذكير للكسائي والباقون بالتأنيث ووجه القراءتين في الحرفين ظاهر وقد سبق لهن نظائر.
1081-
وَسَالَ بِهَمْزٍ "غُـ"ـصْنُ "دَ"انٍ وَغَيْرُهُمْ ... مِنَ الْهَمْزِ أَوْ مِنْ وَاوٍ اوْ يَاءٍ ابْدَلا
أي: غصن ثمر دان؛ يعني: همز: {سَأَلَ سَائِلٌ} جعله لظهور أمره كغصن ثمر داني من يد من يجنيه ونافع وابن عامر قرءا بالألف من غير همز وتلك الألف تحتمل ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون بدلا من الهمز وهو الظاهر وهو من البدل السماعي قال حسان:
(1/705)
________________________________________
سألت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
فيكون بمعنى قراءة الهمز، الوجه الثاني: أن تكون الألف منقلبة عن واو فيكون من سأل يسأل وأصله سول كخول قال أبو زيد: سمعت من يقول: هما يتساولان، وقال المبرد: يقال: سلت أسأل مثل خفت أخاف وهما يتساولان وقال الزجاج: يقال سألت أسأل وسلت أسال والرجلان يتساولان ويتساءلان بمعنى واحد.
والوجه الثالث: أن تكون الألف منقلبة عن ياء من سال يسيل؛ أي: سال عليهم واد يهلكهم روى ذلك عن ابن عباس فهو من باب باع يبيع فتقدير البيت سال همز ألفها غصن دان وغيرهم أبدل هذه الألف من الهمز الذي قرأ به غصن دانٍ أبو أبدلها من واو أو من ياء، وقد تبين كل ذلك.
1082-
وَنَزَّاعَةً فَارْفعْ سِوى حَفْصِهِمْ وَقُلْ ... شَهَادَاتِهِمْ بِالْجَمْعِ حَفْصٌ تَقَبَّلا
ذكر الزجاج في توجيه كل قراءة من الرفع والنصب ثلاثة أوجه:
أما الرفع فعلى أن "نزاعة" خبر؛ لأن بعد خبر أو هي خبر لظى والضمير في أنها ضمير القصة أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي نزاعة، أما النصب فعلى الاختصاص أو على تقدير تتلظى نزاعة أو على الحال المؤكدة قال: يكون نزاعة منصوبا مؤكدا لأمر النار، وجوز الزمخشري أن تكون نزاعة بالرفع صفة لظى أن أريد به اللهب ولم يكن علما على النار إلا أن هذا القول باطل بدليل أنه لم يصرف، أما: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} فالإفراد فيه والجمع كما سبق في نظائره والإفراد أنسب لقوله: بعده: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وهو مجمع عليه.
1083-
إِلى نُصُبٍ فَاضُمُمْ وَحَرِّكْ بِهِ "عُـ"ـلا ... "كِـ"ـرَامٍ وَقُلْ وُدًّا بِهِ الضَّمُّ "أُ"عْمِلا
أي: اضمم النون وحرك بالضم الصاد وهو اسم مفرد وجمعه أنصاب وكذلك النصب بفتح النون وسكون الصاد وهو قراءة الباقين وهو ما نصب؛ ليعبد من دون الله تعالى وقيل: نصب جمع نصب مثل سقف في جمع سقف، وقيل: هو جمع نصاب، وقيل: النصب العلم وقيل: الغاية وقيل: شبكة الصائد.
وقال أبو علي: يمكن أن يكون النُّصْب والنُّصُب لغتين كالضعف والضعف ويكون التثقيل: كشغل وشغل وطنب وطنب، ودًّا اسم الصنم بفتح الواو وضمها لغتان، واختار أبو عبيد الفتح وقال: كانوا يتسمون بعبد ود، أما الود فالغالب عليه المودة.
1084-
دُعَائِي وَإِنِّي ثُمَّ بَيْتِي مُضَافُها ... مَعَ الْوَاوِ فَافْتَحْ إِنْ "كَـ"ـمْ "شَـ"ـرَفًا "عـ"ـلا
يريد: {دُعَائي إِلَّا فِرَارًا} أسكنها الكوفيون: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} فتحها الحرميان وأبو عمرو و {بَيْنِيَ مُؤْمِنًا} فتحها
(1/706)
________________________________________
حفص وهشام.
ثم شرع في سورة الجن فقال افتح إن مع الواو؛ يعني: مهما جاء وإن فالخلاف في فتحها وكسرها احترز بذلك عن أن يأتي مع الفاء نحو: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} فهو متفق على كسره، وعن أن المجردة عن الواو نحو: "أنه استمع" فهو متفق على فتحه: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا} متفق على كسره فإن كانت مع الواو ليست مشددة فمتفق أيضا على فتحها نحو: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا} فضابط مواضع الخلاف أن تكون أن مشددة بعد واو وذلك في اثنى عشر حرفا متوالية أوائل الآي جميعها لا يخرج عن أنه إنا أنهم، وهي: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} ، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} ، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ} ، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} ، {وَأَنَّا لَمَسْنَا} ، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} ، {وَأَنَّا لا نَدْرِي} ، {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} ، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ} ، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} ، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} ، أما: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} ، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ} فسيأتي ذكرهما فهذه الاثنا عشر فتحها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وهم نصف القراء وكسرها الباقون، ومضى معنى قوله: كم شرفا علا في أول سورة الأعراف فوجه الكسر العطف على: {إِنَّا سَمِعْنَا} فالكل في حيز القول أي: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} وقالوا: وَإِنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا" "وإنه كان يقول" "وإنا ظننا" إلى آخر ذلك، وقيل: إن قوله: "وَإِنَّهُ كَانَ رِجَالٌ"، "وَإنَّهُمْ ظَنُّوا" آيتان معترضتان في كلام الله تعالى في أثناء الكلام المحكي عن الجن، وقيل: بل هما أيضا من كلامهم يقوله بعضهم لبعض، أما الفتح فقيل: عطف على أنه استمع فيلزم من ذلك أن يكون الجميع داخلا في حيز أوحي؛ أي: {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} ، {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} فهذا وإن استقام معناه في هذا فلا يستقيم في: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} ، {وَأَنَّا لَمَسْنَا} ، {وَأَنَّا كُنَّا} ؛ إذ قياسه سفيههم ولمسوا وكانوا.
وقال الزجاج: ذكر بعض النحويين أنه معطوف على الهاء المعنى عنده فآمنا به وبأنه تعالى جد ربنا وكذلك ما بعدها.
قال: وهذا رديء في القياس؛ لا يعطف على الهاء المكنية المخفوضة إلا بإظهار الخافض.
قال مكي: وهو في أن أجود منه مع غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن.
ثم قال الزجاج: لكن وجهه أن يكون محمولا على معنى آمنا به؛ لأن معنى آمنا به صدقناه وعلمناه فيكون المعنى وصدقنا أنه تعالى جد ربنا قال الفراء: فتحت أن؛ لوقوع الإيمان عليها وأنت مع ذلك تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح فإنه يحسن منه فعل مضارع الإيمان، فوجب فتح أن نحو صدقنا وألهمنا وشهدنا كما قالت العرب: وزججن الحواجب والعيونا فنصب العيون لاتباعها والحواجب وهي لا تزجج إنما تكحل فأضمر لها الكحل.
1085-
وَعَنْ كُلِّهِمْ أَنَّ المَسَاجِدَ فَتْحُهُ ... وَفِي أَنّهُ لَمَّا بِكَسْرٍ "صُـ"ـوَى "ا"لعُلا
فتحه بدل من المساجد نحو: أعجبني زيد حسنه وعن كل القراء افتح: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} ؛ لأنه معطوف على: أنه استمع، وكذا: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا} ، وقيل: تقديره ولأن المساجد لله فلا تدعوا كما سبق: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} ، {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} ، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} ، وإنما نص الناظم على هذا المجمع عليه؛ لئلا يظن أن فيه خلافا؛ لأنه يشمله قوله: مع الواو فافتح أن.
(1/707)
________________________________________
وأما قوله: "وأنه لما قام عبد الله" فلم يكسره إلا أبو بكر ونافع على الاستئناف، والباقون فتحوا عطفا على: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} ، وهذا مما يقوي أن فتح: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} على ذلك وقيل: إن فتح: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ} ، وكسره على ما سبق في الاثني عشر وأنه من تمام كلام الجن المحكي، ويشكل عليه: {كَادُوا يَكُونُونَ} ؛ لأن قياسه كدنا نكون إلا أن يقال أخبر بعضهم عن فعل بعض، وقوله: صوى العلا مبتدأ تقدم عليه خبره؛ أي: وصوى العلا في: {أَنَّهُ لَمَّا} ؛ أي: في هذا اللفظ المكسور والصوى العلا بالصاد المهملة المضمومة وفتح الواو الربى ونحوها وهي أيضا أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي المجهولة يستدل بها على الطريق الواحدة صوة مثل قوة وقوى؛ أي: أعلام العلا في هذا.
قال الشيخ: وفي قراءة الكسر ارتفاع كارتفاع الصوى ودلالة كدلالتها لظهور المعنى فيها والله أعلم، وقرأت في حاشية النسخة المقروءة على الناظم -رحمه الله- قال نبه بهذا على أن الكسر فصيح بالغ لقوة دلالته على الاستئناف قال وانظر فصاحة القراءة واهتمامهم في نقلهم حين أجمعوا على فتح: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} ليبينوا أنه غير معطوف وأن معناه واعلموا أو نحوه من الإضمار لما دل عليه: {فَلا تَدْعُو} فيكون: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ} معطوفا عليه قال: ويكاد الفتح والكسر يتقابلان في الحسن.
1086-
وَنَسْلُكْهُ يَا كُوفٍ وَفِي قَالَ إِنَّما ... هُنَا قُلْ "فَـ"ـشا "نَـ"ـصًّا وَطَابَ تَقَبُّلا
الياء والنون في نسلكه ظاهران، وقال: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} ؛ يعني: عبد الله قراءة حمزة وعاصم قل على الأمر مثل الذي بعده: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ} ، وقوله: نصا وتقبلا منصوبان على التمييز.
1087-
وَقُلْ لِبَدًا فِي كَسْرِهِ الضَّمُّ "لَـ"ـازِمٌ ... بِخُلْفٍ وَيا رَبِّي مُضَافٌ تَجَمَّلا
لم يذكر في التيسير عن هشام سوى الضم وقال في غيره: وروي عنه كسرها وبالضم آخذ.
قال الفراء: المعنى فيها واحد لبدة ولبدة؛ أي: كادوا يركبون النبي -صلى الله عليه وسلم- رغبة في القرآن وشهوة له؛ يعني: الجن.
وقال الزجاج: المعنى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى الصبح ببطن نخلة كاد الجن لما سمعوا القرآن وتعجبوا منه أن يسقطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقيل: "كادوا"؛ يعني: به جميع الملل تظاهرات على النبي -صلى الله عليه وسلم، قال ومعنى لبدا يركب بعضهم بعضا وكل شيء ألصقته لشيء إلصاقا شديدا فقد لبدته، ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش، ثم ذكر أن كسر اللام وضمها في معنى واحد، وكذا قال الزمخشري: وقال هو ما يلبد بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد، وحكى أبو علي عن أبي عبيد لبدا بالكسر؛ أي: جماعات واحدها لبدة قال قتادة: تلبد الجن والإنس على هذا الأمر؛ ليطفئوه فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه قال: واللبد بالضم الكثير من قوله: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} وكأنه قيل: له لبد؛ لركوب بعضه على بعض، ولصوق بعضه ببعض؛ لكثرته، فكأنه أراد كادوا يلصقون به من شدة دنوهم للاستماع مع كثرتهم فيكون على هذا
(1/708)
________________________________________
قريب المعنى من قوله: لبدا إلا أن لبدا أعرف بهذا المعنى وأكثر، ثم قال: "ويا ربي؛ أي: وياء ربي فقصره" ضرورة؛ أي: هذه ياء الإضافة في سورة الجن يريد: {رَبِّي أَمَدًا} فتحها الحرميان وأبو عمرو.
1088-
وَوَطْئًا وِطَاءً فَاكْسِرُوهُ "كَـ"ـمَا "حَـ"ـكَوْا ... وَرَبُّ بِخَفْضِ الرَّفْعِ "صُحْبَتُـ"ـهُ "كَـ"ـلا
لم تكن له حاجة إلى قوله: فاكسروه فإنه قد لفظ بالقراءتين فهو مثل خشعا خاشعا، وقل: قال: وما أشبه ذلك فالرمز فيه للفظ الثاني ولكنه قال: فاكسروه زيادة في البيان مثل ما ذكرناه في قوله: تمارونه تمرونه وافتحوا، ولو قال هنا واكسروه بالواو كان أولى من الفاء كما قال ثَم: وافتحوا.
وسببه أن الفاء تشعر بأن هذه مواضع الخلاف وليس ذلك كله بل هو جزء منه فإن لفظ وطاء يشتمل على كسر الواو وفتح الطاء والمد بعدها وإذا قاله بالواو بعد الإشعار بذلك وصار من باب التخصيص بعد التعميم للاهتمام بالمخصص نحو وجبرئيل وميكائيل ونخل ورمان.
بيانه أن لفظ وطاء يغني عن قيوده؛ لأنه كالمصرح بالقيود الثلاثة فإذا نص بعد ذلك على قيد منها كان من ذلك الباب ولو قال موضع فاكسروه: فاقرءوه لكان رمزا لحمزة فعدل إلى لفظ يفهم قيدا من قيود القراءة وكان له أن يقول: ووطأ كضرب قل وطاء كما حكوا كقوله: إذا قل إذ، ويحصل له تقييد القراءة الأولى ومعنى القراءة بالكسر والمد أن عمل "ناشئة الليل أشد" مواطأة؛ أي: موافقة؛ لأنه يواطأ فيها السمع القلب للفراغ من الأشغال بخلاف أوقات النهار، وقوله: "وطأ" بفتح الواو وسكون الطاء والقصر بمعنى الشغل؛ أي: هو أشق على الإنسان من القيام بالنهار وفي الحديث: "اللهم اشدد وطئتك على مضر".
وهو أقوم قيلا؛ أي: أشد استقامة وصوابا لفراغ البال، والمعنى: أشد ثبات قدم في العبادة من قولهم: وطأ على الأرض وطاء، والناشئة القيام بعد النوم فهو مصدر بمعنى النشأة وقيل: هي الجماعة الناشئة؛ أي: القائمون بالليل؛ لأنها تنشأ من مضجعها إلى العبادة؛ أي: تنهض وترتفع وقيل: هي ساعات الليل والكلام في خفض: {رَبُّ الْمَشْرِقِ} ورفعه كما سبق في سورة الدخان الخفض على البدل من ربك في قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} ، والرفع على أنه خبر؛ أي: هو رب المشرق وكلأ بمعنى حفظ وحرس وأفرده على لفظ صحبة وسبق مثله.
1089-
وَثَا ثُلْثِهْ فَانْصِبْ وَفَا نِصْفِهِ "ظُـ"ـبىً ... وَثُلْثَيْ سُكُونُ الضَّمِّ "لَـ"ـاحَ وَجَمَّلا
يجوز وثا ثلثه بإسكان اللام وصلة الهاء، ويجوز ثلثه بضم اللام وسكون الهاء؛ وكلاهما لضرورة الوزن وفي كل وجه منها إخلال بلفظ الكلمة في القرآن من جهة إسكان اللام في الأول وإسكان الهاء في الثاني؛ إلا أن الوجه الثاني أقرب؛ فإنه لفظ الوقف على هذه الكلمة فهو واصل بنية الوقف.
وأما إسكان اللام من ثلثه فلم ينقل في هذه القراءات المشهورة، وقد حكاه أبو عبيد، ثُم الأهوازي بعده عن ابن كثير ووجهه ظاهر كما قرأ هشام بإسكان اللام من ثلثي الليل؛ للتخفيف، فكلاهما سواء، فلو كانت هذه القراءة مما ذكر في هذه القصيدة لكان الاختيار وثا ثلثه بإسكان اللام وقصر لفظ "ثا" ضرورة،
(1/709)
________________________________________
وكذا لفظ فانصفه وظبى جمع ظبة السيف وهو حده؛ أي: ذا ظبا؛ أي: صاحب حجج تحميه عن الطعن والاختيان عليه، فإن أبا عبيد قال: قراءتنا التي نختار الخفضُ كقوله سبحانه: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} فكيف يقدرون على أن يعرفوا نصفه وثلثه وهم لا يحصونه، ووجه النصب في ونصفه وثلثه العطف على محل أدنى؛ أي: تقوم أقل من الثلثين وتقول نصفه وتقوم ثلثه والخفض عطف على ثلثي الليل؛ أي: وأقل من نصفه وثلثه ومجموع القراءتين محمول على اختلاف الأحوال؛ لتكرر الليالي واختلافها فمرة يقوم نصف الليل محررا ومرة أقل منه وكذلك الثلث وتارة أقل من الثلثين؛ أي: إن ربك يعلم أنكم تأتون بالواجب مرة وبدونه أخرى، لكن الثلثين ما تكملون؛ لطوله فيقع منكم الغلط فيه، وجعل الفراء والزجاج قوله: {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} على قراءة النصب؛ تفسيرا للأدنى المذكور وهو مشكل من جهة أن واو العطف تمنع من ذلك وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مخيرين بين هذه التقديرات الثلاثة في قيام الليل على اختلاف مراتبها في الأجر وأقرب شيء لهذا الحكم التخيير بين خصال كفارة اليمين على تفاوت مراتبها والتخيير بين نفرى الحجج وقيل: إنما وقع التخيير بين هذه الثلاثة باعتبار تفاوت الأزمان فالنصف عند الاعتدال وما قاربه وقيام الثلثين أو الأدنى من ثلثي الليل عند الطول وقيام الثلث عند قصر الليل والدليل على التخيير قوله تعالى في أول السورة: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} وللعلماء في إعراب نصفه قولان مشكلان:
أحدهما: أنه بدل من الليل ويلزم منه التكرير فإن قوله: قم نصف الليل إلا قليلا هو الثلث فأي حاجة إلى قوله: {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} وإن كان البدل بعد الاستثناء كأنه قال قم أكثر الليل نصفه؛ أي: نصف أكثر الليل أو انقص منه كان ذلك ردا إلى تنصيف مجهول فقوله: قم ثلث الليل كان أخصر فأولى.
الوجه الثاني: أن نصف بدل من قليلا وهو مشكل من جهة استثناء النصف، وتسميته قليلا فكيف يكون نصف الشيء قليلا بالنسبة إلى الباقي وهما متساويان فإن كان الباقي كثيرا فالآخر مثله، وإن كان المستثنى قليلا فالآخر مثله فلا يستقيم في إعراب نصفه إلا أن يكون مفعول فعل مضمر دل عليه ما تقدم؛ أي: قم نصفه أو انقص أو زد.
ويكون في فائدة الآية التي قبلها وجهان:
أحدهما: أنه إرشاد إلى المرتبة العليا وهي قيام أكثر الليل ثم خير بينه وبين ما دونه تخفيفا؛ لأنه تكليف في ابتداء أمر لم يعتادوه، ومنه ما جاء في صفة عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- لما سمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حقه:
"نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل". قال نافع: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا، وهذا موافق لما دلت عليه آية أخرى في سورة "والذاريات" في صفة المؤمنين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ؛ وذلك أن الموفقين إذا أخذوا أنفسهم بقيام الليل واعتادوه صار أشهى إليهم من راحة النوم لولا حظ الطباع البشرية من ذلك القدر القليل.
الوجه الثاني: أن يكون المراد من الليل جنس الليالي لا كل ليلة بانفرادها على الصفة التي بينت في الآية الأخرى، وهذا كما يوصى بعض المسافرين؛ لخوف الحر فيقال سر الليل ثم يبين له فيقال ارحل من نصف الليل أو ثلثه أو أوله ويكون قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا} استثناء لليالي؛ لأعذار من مرض أو غلبة نوم أو نحو من ذلك. ثم انتقل إلى سورة المدثر فقال:
(1/710)
________________________________________
1090-
وَوالرِّجْزَ ضَمَّ الكَسْرَ حَفْصٌ إِذَا قُلِ إذْ ... وَأَدْبَرَ فَاهْمِزْهُ وَسَكِّنْ "عَـ"ـنِ "ا"جْتِلا
يعني راء: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وفسر المضموم بالأوثان والمكسور بالعذاب، وقال الفراء: إنهما لغتان وإن المعنى فيهما واحد، وقال أبو عبيد: الكسر أفشى اللغتين وأكثرهما، وقال الزجاج: معناهما واحد وتأويلهما اهجر عبادة الأوثان، والرجز في اللغة العذاب قال لله تعالى: "فلما وقع عليهم الرجز" فالمعنى: ما يؤدي إلى عذاب الله فاهجر، قال أبو علي: المعنى: وذا العذاب فاهجر، وقوله: إذا قل إذ؛ يعني: اجعل موضع إذا بالألف إذ بغير ألف واهمز أدبر وسكن الدال لحفص ونافع وحمزة ورمزه في أول البيت الآتي؛ يعني: "والليل إذ أدبر" كتب في المصحف بألف واحدة بين الذال والدال فجعلها هؤلاء صورة الهمزة من أدبر وجعلوا إذ ظرفا لما مضى وجعل باقي القراء الألف من تمام كلمة إذ وهي ظرف لما يستقبل وقرءوا دبر بفتح الدال على وزن رفع.
قال الفراء: هما لغتان يقال أدبر النهار ودبر ودبر الصيف وأدبر وكذلك قبل وأقبل فإذا قالوا: أقبل الراكب أو أدبر لم يقولوه إلا بألف.
قال: وإنهما عندي في المعنى لواحد لا أبعد أن يأتي في الرجال ما يأتي في الأزمنة.
وقال الزجاج: كلاهما جيد في العربية يقال: دبر الليل وأدبر.
وفي كتاب أبي علي عن يونس دبر انقضى، وأدبر: تولى، وقالوا كأمس الدابر وكأمس المدبر قال: والوجهان حسنان.
وقال أبو عبيد: كان أبو عمرو يقول: هي لغة قريش: قد دبر الليل، حدثنا حجاج عن هارون أخبرني حنظلة السدوسي ع شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأها: "والليل إذا دبر" بجعل الألف مع إذا.
قال حنظلة: وسألت الحسن عنها فقال: إذا أدبر فقلت: يا أبا سعيد إنما هي ألف واحدة فقال: فهي إذا "والليل إذا دبر".
قال أبو عبيد: جعل الألف مع أدبر، وبالقراءة الأولى نأخذ إذا بالألف دبر بغير ألف؛ لكثرة قرائها، ولأنها أشد موافقة للحرف الذي يليه؛ ألا تراه قال "والصبح إذا أسفر" فكيف يكون في أحدهما إذا وفي الآخر إذ.
قال: وفي حرف عبد الله وأبي: حجة لمن جعلها إذا ولمن جعلها أدبر جميعا: حدثنا حجاج عن هارون قال في حرف أبيّ وابن مسعود: "إذا أدبر" قال أبو عبيد: بألفين.
قلت: هذه القراءة هي الموافقة لقوله: {إِذَا أَسْفَرَ} موافقة تامة بلفظ إذا والإتيان بالفعل بعدها على وزن أفعل، أما كل واحدة من القراءتين المشهورتين فموافقة له من وجه دون وجه والموافقة بلفظ إذا أولى من الموافقة بلفظ أفعل فإن أفعل وفعل قد ثبت أنهما لغتان بمعنى واحد فكانا سواء، أما إذ وإذا فمتغايران ولا يعرف بعد القسم في القرآن إلا مجيء إذا دون إذ نحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} وإذ وإذا في كل ذلك لمجرد الزمان مع قطع النظر عن مضى واستقبال فهو مثل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ} ، {فَسَوْفَ
(1/711)
________________________________________
يَعْلَمُونَ، إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} ، وقد حكى الأهوازي عن عاصم وأبي عمرو رواية: {إِذَا أَدْبَرَ} بألفين والله أعلم.
وقول الناظم: قل إذ بكسر اللام على إلقاء حركة همزة إذ عليها بخلاف كسرة النون في قوله: عن اجتلا؛ فإنها كسرت لأجل الساكن بعدها، والمعنى: عن اجتلاء؛ أي: عن كشف وظهور من توجيهه وهو ممدود، فلما وقف عليه سكنت الهمزة، فأبدلت ألفا، فاجتمع ألفان فحذفت إحداهما، وقد سبق ذكر ذلك في شرح أول الخطبة في قوله: أجذم العلا، والفاء في قوله: فاهمز زائدة.
1091-
فَبَادِرْ وَفَا مُسْتَنْفِرَه "عَمَّ" فَتْحُهُ ... وَمَا يَذْكُرُونَ الغَيْبَ "خُـ"ـصَّ وَخُلِّلا
فبادر من تتمة رمز القراءة السابقة؛ أي: فبادر إليه وقصر لفظ وفا ضرورة: {مُسْتَنْفِرَةٌ} بكسر الفاء بمعنى نافرة وبالفتح نفرها غيرها.
قال أبو علي: قال أبو الحسن الكسر في مستنفرة أولى ألا ترى أنه قال: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} فهذا يدل على أنها هي استنفرت ويقال: نفر واستنفر مثل سخر واستسخر وعجب واستعجب، ومن قال: مستنفرة فكأن القسورة استنفرها أو الرامي، قال أبو عبيد: مستنفِرة ومستنفَرة مذعورة قال: والقسورة الأسد، وقالوا: الرماة.
قال ابن سلام: سألت أبا سوار العنبري وكان أعرابيا فصيحا قارئا للقرآن فقلت: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} ماذا؟ فقال: كأنهم حمر مستنفرة طردها قسورة، فقلت: إنما هو {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} فقال: أفرَّت؟ فقلت: نعم، قال: فمستنفرة.
والخلاف في: {وَمَا يَذْكُرُونَ} بالياء والتاء ظاهر، وقد سبق في أول آل عمران معنى قوله: خص وخللا يقال عم بدعوته وخلل؛ أي: خص فجمع الناظم بينهما؛ لاختلاف اللفظين.
(1/712)
________________________________________
من سورة القيامة إلى سورة النبأ:
لا تعلُّق لسورة القيامة بما بعدها، فكان ينبغي إفرادها، ثم يقول: هل أتى، والمرسلات؛ لاتصالهما في نظمه والله أعلم.
1092-
وَرَا بَرَق افْتَحْ "آ"مِنًا يَذَرُونَ مَعْ ... يُحِبُّونَ "حَقٌّ كَـ"ـفَّ يُمْنَى "عَـ"ـلا عَلا
يريد: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} ؛ أي: شخص وتحير قال الأخفش: المكسورة في كلام العرب أكثر والمفتوحة لغة، قال أبو عبيدة: القراءة عندنا بالكسر؛ لأنها اللغة السائرة المتعالية، والغيبة في: "يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَيَذَرُونَ الْآخِرَةَ"، والخطاب فيهما ظاهران، ومعنى "آمنا"؛ أي: آمنا من البرق يوم القيامة أو آمنا من النازع فيه، وقوله: "حق" كف؛ لأن الحق أبدا يدفع الباطل؛ لأن في أول الجملة حرف الردع وهو "كلا" ومعناه الزجر والكف، أما تمنى فالضمير فيه للمنى إن قرئ بالياء على التذكير وإن قريء بالتأنيث فالضمير للنطفة كما أنه في سورة النجم كذلك، وهو: {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} ، ومعناه تُصب وتُراق في الرحم وعلا بالضم مفعول علا مقدم عليه أو هو خبره، "يُمْنَى"؛ أي: ذو علا؛ أي: عالٍ بالتذكير.
1093-
سَلاسِلَ نَوِّنْ "إِ"ذْ رَوَوَا "صَـ"ـرْفَهُ "لَـ"ـنا ... وَبَالقَصْرِ قِفْ "مِـ"ـنْ "عَـ"ـنْ "هُـ"ـدىً خُلْفُهُمْ "فَـ"ـلا
سلاسل على وزن دراهم وهو ممنوع من الصرف على اللغة المشهورة، ولكنه كتب في المصاحف بألف بعد اللام كما كتب في الأحزاب: "الظُّنُونَا"، و"الرَّسُولا"، و"السَّبِيلا" فالمتابعة لخط المصحف اقتضت إثبات تلك الألف في الأحزاب في الوصل، ولم يمكن تنوينها؛ لأجل أن كل كلمة منها فيها الألف واللام فالتنوين لا يجتمع معها، أما في: "سَلاسِلا" فأمكن قبوله للتنوين على لغة من يصرف ذلك.
قال أبو علي: قال أبو الحسن: "سَلاسِلا" منونة في الوصل والسكت على لغة من يصرف نحو ذا من العرب قال: وسمعنا من العرب من يصرف هذا ويصرف جميع ما لا ينصرف، وقال: هذا لغة الشعراء؛ لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك، وقال مكي: حكى الكسائي أن بعض العرب يصرفون كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك، قال ابن القشيري: صرف ما لا ينصرف سهل عند العرب، قال الكسائي: هو لغة من يجري الأسماء كلها إلا قولهم: هو أظرف منك؛ فإنهم لا يجرونه.
قلت: القرآن العربي فيه من جميع لغات العرب؛ لأنه أنزل عليهم كافة وأبيح لهم أن يقرءوه على لغاتهم المختلفة فاختلفت القراءات فيه لذلك، فلما كتبت المصاحف هجرت تلك القراءات كلها إلا ما كان منها موافقا لخط المصحف؛ فإنه بقي كقراءة: {إِنْ هَذَانِ} كما سبق ومثل هذا التنوين فإن كتابة الألف في آخر الاسم المنصوب يشعر بالتنوين وقد بينا هذه القاعدة وقررناها في كتاب الأحرف السبعة الملقب بالمرشد الوجيز، وقد وجهت هذه اللغة بأنه أصل الكلام وعلة الجمع ضعيفة في اقتضاء منع الصرف بدليل صرف باقي أبنية الجموع،
(1/713)
________________________________________
وكونه لا نظير له في الآحاد غير مقتضٍ لمنع الصرف بدليل العلم المرتجل الذي لا نظير له في أسماء الأجناس يقاس عليه لا بمنع الصرف وفيه علتان؛ العلمية وكونه لا نظير له، وهذا كان أولى بالمانعية؛ لأن العلمية مانعة في مواضع بشرطها والجمع غير معروف منه منع الصرف إلا في هذا الموضع المتنازع فيه فهذا الوجه من القياس مقوٍّ لهذه اللغة المسموعة.
ووجه آخر: قال أبو علي: إن هذه الجموع أشبهت الآحاد؛ لأنهم قد قالوا صواحبات يوسف فلما جمع جمع الآحاد المنصرفة جعلوه في حكمها فصرفوها فهذا معنى قوله: إذ رووا صرفه لنا، وقال الزجاج: الأجود في العربية أن لا يصرف سلاسل ولكن لما جعلت رأس آية صرفت؛ ليكون آخر الآي على لفظ واحد.
قلت: ادعاء أن سلاسل رأس آية بعيد، ولكن الممكن أن يقال: المعرف به في القرآن هو اللغة الفصيحة وهو منع صرف هذا الوزن من المجموع بدليل صوامع ومساجد، وإنما عدل عن اللغة المشهورة في سلاسل إرادة التناسب لما ذكر معها من قوله: {وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا} .
فإن قلتَ: فكان ينبغي على هذا صرف "صوامع"، و"مساجد"؛ ليشاكلا لفظ {وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} من قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} قلتُ: إنما فعل ذلك في المنصوب خاصة؛ لأن المناسبة تحصل فيه وقفا ووصلا فإن المنون يوقف عليه بالألف، فكان الرسم الألف دالا على الأمرين، أما غر المنصوب فإنه يوقف عليه بالسكون منونا كان أو غير منون فلا حاجة تدعو إلى صرفه لأجل المناسبة وصلا، والمناسبة في الوقف مهمة بل هي العمدة في ذلك بدليل أن جماعة ممن لم ينون في الوصل يثبت الألف في الوقف، ونظير هذا الموضع قراءة من قرأ في سورة نوح: "ولا يغوثًا ويعوقًا" بالتنوين؛ لأجل أن قبله: {وَدًّا وَلا سُوَاعًا} ، وبعده: "وَنَسْرًا"، وهذا تعليل الزمخشري في ذلك فإنه قال لعله قصد الازدواج فصرفهما؛ لمصادفته أخواتهما منصرفات كما قرئ: {وَضُحَاهَا} بالإمالة؛ لوقوعه مع الممالات للازدواج هذا قوله: هنا ويجيء مثل ذلك في: "سَلاسِلا" وهو وجه سائغ فعدل عن ذلك لما وصل إليه، وقال: فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون هذه النون بدلا من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف.
والثاني: أن يكون صاحب هذه القراءة ممن درى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف.
قال الشيخ: هذا كلام صدر عن سوء الظن بالقراءة، وعدم معرفته بطريقتهم في اتباع النقل.
قلتُ: هذا جواب الوجه الثاني.
وأما الوجه الأول: فالتنوين الذي حمله عليه يسمى بتنوين الترنم النائب مناب حرف الإطلاق ولا يستقيم ذلك هنا فإن ذلك التنوين ثابت وقفا وهذا مبدل منه ألف في الوقف وكل تنوين أبدل منه ألف في الوقف فهو تنوين الصرف ولو كان هذا التنوين في كلمات الأحزاب: "الظُّنُونَا"، و"الرَّسُولا"، و"السَّبِيلا" لكان تنوين الترنم فإن الألف في الوقف ألف الإطلاق فلتكن النون القائمة مقامه كذلك ولو كان هذا التنوين ثابتا في سلاسل وقفا كما هو ثابت وصلا لأمكن فيه ذلك على أنه لغة ضعيفة أيضا قال أبو الحسن الأخفش: لا يجوز في: "الظُّنُونَا" وشبهه تنوين الأعلى لغة من ينون في القوافي قال: ولا تعجبني تلك اللغة؛ لأنها ليست لغة أهل الحجاز.
(1/714)
________________________________________
قلت: فكل من نون: "سَلاسِلا" في الوصل وقف عليه بالألف ومن لم ينون وصلا اختلفوا؛ فمنهم من وقف على اللام ساكنة وهو الذي عبر عنه بالقصر، وهذا قياس قراءتهم في الوصل وهم حمزة وقنبل بلا خلاف والبزي وحفص وابن ذكوان بخلاف عنهم ومنهم من وقف بألف؛ اتباعا للرسم وهم أبو عمرو، وهؤلاء الرواة الثلاثة في وجههم الثاني، وتكون ألف الوقف عند هؤلاء ألف الإطلاق كالتي في "الظنونا" وشبهه، وعن في قول الناظم من عن اسم كالتي في قول القطامي:
من عن يمين الجبيا
أي: نشأ للواقف بالقصر القصر من جانب هدى خلفهم وفلا من قولهم: فلوته؛ أي: ربيته أو بمعنى فصل من فلوته عن أمه؛ أي: فصلته وفطمته أو بمعنى تدبر من فليت الشعر إذا تدبرته واستخرجت معناه، قال الفراء: كتبت: "سَلاسِلا" بالألف فأجراها بعض القراء لمكان الألف التي في آخرها ولم يجرها بعضهم، وقال الذي لم يجرها: العرب تثبت فيما لا يجري الألف في النصب، فإذا وصلوا حذفوا الألف قال: وكلٌّ صواب.
1094-
"زَ"كا وَقَوَارِيرًا فَنَوِّنْهُ "إِ"ذْ "دَ"نَا ... "رِ"ضَا "صَـ"ـرْفِهِ وَاقْصُرْهُ فِي الوَقْفِ "فَـ"ـيْصَلا
زكا من تتمة رمز الواقفين بالقصر في "سلاسل"، والكلام في تنوين: {كَانَتْ قَوَارِيرَا} والوقف عليها بالألف وبالقصر كما سبق في "سلاسلا"، وزاد الوقف بالألف هنا حسنا كونه رأس آية فلهذا لم يقصره في الوقف إلا حمزة وحده، وأجمعوا على ترك صرف الذي في النمل: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} .
1095-
وَفِي الثَّانِ نَوِّنْ "إِ"ذْ "رَ"وَوْا "صَـ"ـرْفَهُ وَقُلْ ... يَمُدُّ هِشَامٌ وَاقِفًا مَعْهُمُ وِلا
يعني: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} ، ولكونه ليس برأس آية لم يقف عليه بالألف ممن لم ينون في الوصل إلا هشام، أما من نونه فوقف عليه بالألف المبدلة من التنوين فلهذا قال: واقفا معهم؛ أي: مع المنونين، وولا بالكسر؛ أي: متابعة للرسم فإنه بالألف في أكثر المصاحف كالذي قبله، قال الفراء: ثبتت الألف في الأولى؛ لأنها رأس آية، والأخرى ليس برأس آية فكان ثبات الألف في الأولى أقوى وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله بن مسعود، وقرأ بها أهل البصرة وكتبوها في مصاحفهم كذلك، وأهل الكوفة وأهل المدينة يثبتون الألف فيها جميعا وكأنهم استوحشوا أن يكتب حرف واحد في معنى نصب بكتابتين مختلفتين قال: وإن شئت أجريتهما جميعا وإن شئت لم تجرهما وإن شئت أجريت الأولى لمكان الألف في كتاب أهل البصرة ولم تجر الثانية؛ إذ لم تكن فيها الألف، واختار أبو عبيد: "سَلاسِلا"، و"قواريرًا قواريرًا" كلهن بإثبات الألف والتنوين قال: وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والكوفة بالألف، ورأيتها في الذي يقال إنه الإمام مصحف عثمان بن عفان: "قَوَارِيرَا" الأولى مثبتة والثانية كانت بالألف فحُكَّت ورأيت أثرها بيِّنًا هناك، وقال الزجاج: قرئت "قوارير" غير مصروفة، وهذا الاختيار عند النحويين، ومن قرأ بصرف الأول فلأنه رأس آية وترك صرف الثاني؛ لأنه ليس بآخر آية، ومن صرف الثاني أتبع اللفظ اللفظ؛ لأن العرب ربما قلبت إعراب الشيء؛ ليتبع اللفظ اللفظ،
(1/715)
________________________________________
فيقولون: جحرُ ضبٍّ خربٍ، وإنما الخرب من نعت الجحر فكيف بما يترك صرفه وجميع ما يترك صرفه يجوز صرفه في الشعر؛ يعني: فأمره في المتابعة أخف من غيره، وقال الزمخشري: هذا التنوين بدلا من ألف الإطلاق؛ لأنه فاصلة، وقد سبق بيان فساد هذا القول، ثم قال: وفي الثاني لاتِّباعه الأول، وذكر أبو عبيد وغيره أن في مصاحف البصرة الأول بألف والثاني بغير ألف، وبعضهم ذكر أن الأول أيضا بغير ألف في بعض المصاحف وهذا هو الظاهر.
1096-
وَعَالِيهِمُ اسْكِنْ وَاكْسِرِ الضَّمَّ "إِ"ذْ "فَـ"ـشَا ... وَخُضْرٌ بِرَفْعِ الْخَفْضِ "عَـ"ـمَّ "حُـ"ـلًا "عُـ"ـلا
يجوز أن يحرك الميم من عاليهم في البيت بالحركات الثلاثة؛ لضرورة الوزن وإلا فهي ساكنة في لفظ القرآن أو موصولة بواو عند من مذهبه ذلك، وإنما لفظ به الناظم على قراءة من أسكن الياء وكسر الهاء وليست الصلة من مذهب من قرأ كذلك فلم يبق أن يكون لفظ به إلا على قراءة إسكان الميم، وحينئذ يجوز فتحها بنقل حركة همزة أسكن إليها وكسرها؛ لالتقاء الساكنين على تقدير أن يكون وصل همزة القطع وضها؛ لأنها حركتها الأصلية عند الصلة فهي أولى من حركة مستعارة يريد: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ} ؛ أي: الذي يعلوهم ثياب من سندس فهو مبتدأ وخبر، وقراءة الباقين بنصب الياء وضم الهاء وهو حال من قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} ، ومن: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} هذا قول أبي علي، وأجاز الزجاج أن يكون حالا من الضمير في عليهم أو من الولدان وتبعه الزمخشري في ذلك وزاد وجها آخر وهو: أن يكون التقدير: رأيت أهل نعيم عاليهم وثياب سندس مرفوع به، وقد أجيز أن يكون عاليهم ظرفا كأنه لما كان عالٍ بمعنى فوق أجرى مجراه فهو كقولك: فوقهم ثياب وخضر بالرفع صفة لثياب وبالجر صفة لسندس، وجاز ذلك وإن كان سندس مفردا وخضر جمعا لما كان السندس راجعا إلى جمع وهو الثياب والمفرد إذا أريد به الجمع جاز وصفه بالجمع نحو: {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} ومن هذا الإخبار عن المفرد والجمع نحو ما سبق في قراءة نافع وحمزة: "عاليهم ثياب" وعكسه قول الشاعر:
ألا إن جيران العشية رابح
وحلا البيت تمييز أو حال؛ أي: عمت حلاة أو عم ذا حلاه أخبر عن خضر بأنه عم حلاه وبأنه علا فهما جملتان، وقوله: برفع الخفض متعلق بأحدهما والله أعلم.
1097-
وَإِسْتَبْرَقَ "حِرْمِيُّ نَـ"ـصْرٍ وَخَاطَبُوا ... تَشَاءُونَ "حِصْنٌ" وُقِّتَتْ وَاوُهُ "حَـ"ـلا
أي: ورفع خفض إستبرق لهؤلاء ووجه الرفع العطف على ثياب؛ أي: وثياب استبرق فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقرأ الباقون بالجر عطفا على سندس؛ أي: ثياب هذين النوعين فصار في هاتين الكلمتين خضر وإستبرق أربع قراءات رفعهما لنافع، وحفص خفضهما لحمزة والكسائي خفض خضر ورفع استبرق لابن كثير وأبي بكر عكسه رفع خضر وجر إستبرق لأبي عمرو وابن عامر وهو أجود هذه القراءات الأربع واختاره أبو عبيد، قال أبو علي: هو أوجه هذه الوجوه؛ لأن خضر صفة مجموعة لموصوف،
(1/716)
________________________________________
مجموع واستبرق جنس أضيف إليه الشاب كما أضيف إلى سندس كما تقول ثيابا خز وكتان، ودل على ذلك قوله تعالى في سورة الكهف: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} 1.
وأما: {وَمَا تَشَاءُونَ} بالغيب والخطاب فظاهر، وحصنا حال من فاعل خاطبوا أو مفعوله، وهو تشاءون جعله مخاطبا لما كان الخطاب فيه؛ أي: ذوي حصن أو ذا حصن، وقرأ أبو عمرو وحده: "وإذا الرسل وقتت" بالواو وهو أصل الكلمة؛ لأنها من الوقت قال الفراء: أي: جمعت لوقتها يوم القيامة، وقال الزجاج: جُعِلَ لها وقت وأجل للفصل والقضاء بين الأمم، وقال أبو علي: جعل يوم الدين والفصل لها وقتا كما قال: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} 2.
وقال الزمخشري: معنى توقيت الرسل؛ أي: تبيين وقتهم الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم.
قلت: كأنه -والله أعلم- بعد الوقوف من طول ذلك اليوم ومعاينة ما فيه من الأهوال الواقعة بالسماء والكواكب والجبال وغيرها، ووقوع الخلائق في ذلك الكرب العظيم الذي يطلبون الخلاص منه لسرعة الفصل بينهم، فيقصدون الرسل لذلك على ما جاء في حديث الشفاعة، فحينئذ والله أعلم يبين لهم وقت الفصل بينهم، وقوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} تعظيم للوقت الذي يقع فيه الفصل والجزاء والمراد باليوم الحين والزمان ولطول يوم القيامة يعبر عن الوقت فيه ثم بين الناظم قراءة الباقين فقال:
1098-
وَبِالْهَمْزِ بَاقِيهِمْ قَدَرْنَا ثَقِيلًا "ا"ذْ ... "رَ"سا وَجِمالاتٌ فَوَحِّدْ "شَـ"ـذًا "عَـ"ـلا
أي: همزوا الواو من وقتت فصارت همزة مضمومة وتلك لغة في كل واو مضمومة قالوا في وجوه: أجوه وفي وعد أعد، واختار هذه القراءة أبو عبيد؛ لموافقة الكتاب مع كثرة قرائها وهي أيضا موافقة لقوله: أجلت وثقل نافع والكسائي "فقدرنا"، وخفف الباقون لقوله: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} ، ووجه التثقيل: قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أجمع على تشديده؛ أي: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} نحن عل تقديره وقيل: المخفف والمشدد بمعنى واحد وجمالات جمع جمالة وجمالة جمع جمل كجارة في جمع حجر، وقيل: جمالات جمع جمال كرجالات في جمع رجال، ووجه القراءتين ظاهر ومضى معنى شذا علا:
__________
1 آية: 31.
2 سورة الدخان، آية: 40.
(1/717)
________________________________________
من سورة النبأ إلى سورة العلق:
لا تعلق لما نظمه في سورة النبأ بما بعدهما، والنازعات وعبس متصلتان. وكذا التكوير والانفطار، وسورة المطففين منفردة، وكذا الانشقاق، ومن سورة البروج إلى العلق متصل، وفيها سور لم يذكر لها خلفا متجددا، كما سبق التنبيه عليه في سورة الجمعة، وهي: والطارق، والليل، والضحى، وألم نشرح، والتين، ولكنها لا تخلو من خلاف مر ذكره في الأصول وغيرها، والله أعلم.
1099-
وَقُلْ لابِثِينَ القَصْرُ "فَـ"ـاشٍ وقُلْ وَلا ... كِذَابًا بِتَخْفِيفِ الكِسَائِيِّ أَقْبَلا
أي: القصر فيه يريد: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} فلابثٌ ولبِثٌ من باب حاذر حذر وفارهٌ وفرِهٌ، وقد مضيا في سورة الشعراء، ومنه طامعٌ وطمِعٌ، وقال الزمخشري: اللبث أقوى؛ لأن اللابث من وجد منه اللبث ولا يقال لبث إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفك منه، وقال الفراء: أجود الوجهين بالألف؛ يعني: لأجل نصب ما بعده؛ لأن إعمال ما كان على وزن فاعل أكثر من إعمال فعل، أما "كذابا" بالتخفيف فمصدر كذب مثل كتب كتابا وبالتشديد مصدر كذب مثل كلم كلاما وفسر فسارا، وموضع الخلاف قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} ؛ يعني: أهل الجنة جعلنا الله منهم لا يسمعون فيها كذبا ولا تكذيبا، وقيده الناظم بقوله: ولا؛ احترازا من النهي قبله: {وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّابًا} فهو مجم على تشديده؛ لأن فعله معه وقال الزمخشري: فعال في باب فعل كله فاشٍ في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال: لقد فسرتها فِسارا ما سُمع بمثله.
1100-
وَفي رَفْعِ يَا رَبُّ السَّموَاتِ خَفْضُهُ ... "ذَ"لُولٌ وَفِى الرَّحْمنِ "نَا"مِيهِ "كَـ"ـمَّلا
أي: خفض الباء من "رب السموات" للكوفيين وابن عامر وحفص النون من "الرحمن" لعاصم وابن عامر فخفضهما على البدل من ربك، ويجوز في "الرحمن" أن يكون صفة أو عطف بيان ومن رفعهما كان على تقدير هو رب السموات الرحمن أو يكون "رب" مبتدأ "والرحمن" خبره أو "الرحمن" نعته أو عطف بيان له "ولا يملكون" خبره، ومن غاير بينهما وهو حمزة والكسائي خفضا باء "رب" على البدل ورفع "الرحمن" على الابتداء "ولا يملكون" خبره أو على تقدير هو الرحمن واستئناف لا يملكون وتقدير البيت وخفض الرفع في الرحمن ناقله كملا؛ لأنه كمل الخفض في الحرفين معا يقال نميت الحديث إذا بلغته والله أعلم.
1101-
وَنَاخِرَةً بِالْمَدِّ "صُحْبَتُـ"ـهُمْ وَفي ... تَزَكَّى تَصَدَّى الثَّانِ "حِرْمِيٌّ" اثْقَلا
نخزة وناخزة واحد؛ أي: بالية وفي قراءة القصر زيادة مبالغة وفي قراءة المد مؤاخاة رءوس الآي قبلها
(1/718)
________________________________________
وبعدها، أما: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ، وفي سورة عبس: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} ، فثقل الحرميان الحرف الثاني من الكلمتين وهما الزاي والصاد فهذا معنى قوله: الثاني؛ أي: ثاني حروفهما، والأصل تتزكى وتتصدى بتاءين فمن ثقل أدغم، ومن خفف حذف على ما سبق في: "تظاهرون" وتقدير حرمي أثقل الحرف الثاني في تزكى وتصدى فقوله: الثاني مفعول أثقلا والألف في أثقل يجوز أن تكون للإطلاق وأن تكون ضمير التثنية حملا على لفظ حرمي؛ فإنه مفرد، وعلى معناه لأن مدلوله اثنان، وألقى حركة همزة أثقلا على تنوين حرمي وحذف الياء من الثانِ ولم يفتحها وهو مفعول به ضرورة، وجاء لفظ الثاني منها ملبسا على المبتدئ يظن أن تصدى موضعان الخلاف في الثاني فيهما وإنما ذكر الثاني هنا كقوله: ءآلهة كوف يحقق ثانيا؛ أي: ثاني حروفه، ولأجل أن مراده أثقلا الحرف الثاني في هاتين الكلمتين عدل إلى حرف في عن أن يقول وأن تزكي على لفظ التلاوة والله أعلم.
1102-
فَتَنْفَعُهُ فِي رَفْعِهِ نَصْبُ عَاصِمٍ ... وَأَنَّا صَبَبْنا فَتْحُهُ "ثَـ"ـبْتُهُ تَلا
الرفع عطف على يذكروا والنصب على أنه جواب الترجي من: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} كما تقدم من: {فَاطَّلَعَ} 1في سورة غافر. {أَنَّا صَبَبْنَا} 2 كسرة على الابتداء وفتحه على أنه بدل من طعامه؛ أي: فلينظر إلى أصل طعامه قال أبو علي: هو بدل اشتمال؛ لأن هذه الأشياء تشتمل على كون الطعام وحدوثه فهو على نحو: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 3.
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} 4 بالنار.
{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} 5؛ لأن الذاكرة كالمشتمل على المذكور وقال: {إِلَى طَعَامِهِ} ، والمعنى إلى كونه وحدوثه وهو موضع الاعتبار، وأنا صببنا في البيت مبتدأ وثبته مبتدأ ثانٍ وفتحه مفعول تلا ومعنى ثبته؛ أي: ناقله وقارئه الثبت يقال: رجل ثبت بسكون الباء؛ أي: ثابت القلب ويقال هذا شيء ليس بثبت بفتح الباء؛ أي: ليس بحجة والله أعلم.
__________
1 آية: 6.
2 آية: 37.
3 سورة البقرة، آية: 217.
4 سورة البروج، آية: 4.
5 سورة الكهف، آية: 63.
(1/719)
________________________________________
1103-
وَخَفَّفَ "حَقٌّ" سُجِّرَتْ ثِقْلُ نُشِّرْتْ ... "شَـ"ـرِيعَةُ "حَقٍّ" سُعِّرَتْ "عَـ"ـنْ "أُ"ولِى "مَـ"ـلا
التخفيف في هذه الكلمات الثلاثة والتشديد سبق لها نظائر، ولم يبين القراءة المرموزة في "سعرت" إحالة على ما نص عليه في الحرف قبلها وهو الثقل فهو مثل ما أحال: "سكرت" في أول الحجر على ما قبله وهو ورب خفيف، والملأ الأشراف والرؤساء يشير إلى أن هذه القراءة مأخوذة عن جماعة أصحاب شيوخ أكابر أخذوها عنهم.
1104-
وَظَا بِضَنِينٍ "حَـ"ـقُّ "رَ"اوٍ وَخَفَّ فِي ... فَعَدَّلَكَ للْكُوفِي وَ"حَقُّـ"ـكَ يَوْمُ لا
الأولى أن نكتب بضنين بالضاد لوجهين:
أحدهما: أنها هكذا كتبت في المصاحف الأئمة قال الشاطبي -رحمه الله- في قصيدة الرسم:
والضاد في بضنين تجمع البشر
والثاني: أن يكون قد لفظ بالقراءة الأخرى فإن الضاد والظاء ليسا في اصطلاحه ضدين.
فإن قلت: فكيف تصح حينئذ إضافة الظاء إلى هذا اللفظ وليس فيه ظاء؟
قلت: يصح ذلك من جهة أن هذا اللفظ يستحق هذا الحرف باعتبار القراءة الأخرى، ولهذا يجوز لك أن تقرأ قوله: في سورة النساء: "ويا سوف تؤتيهم" عزير بالنون ومعنى بظنين بالظاء من الظنة وهي التهمة؛ أي: ما هو بمتهم على ما لديه من علم الغيب الذي يأتيه من قبل الله تعالى ومعناه بالضاد ببخيل؛ أي: لا يبخل بشيء منه بل يبلغه كما أمر به؛ امتثالا لأمر الله تعالى وحرصا على نصح الأمة وعلى هذه القراءة بمعنى الباء وذلك ثابت لغة، وقد سبق في شرح قول: وليس على قرانه متأكلا، ويكون سبب العدول عن الباء إليها استقامة معناها على القراءتين أو كراهة؛ لتكرار الباء لو قيل: "بالغيب بضنين" وقال الفراء في تفسير بضنين: يقول يأتيه غيب السماء وهو منقوش فيه فلا يبخل به عليكم ولا يضن به عنكم، وقيل: المعنى إنه جامع لوصفين جليلين وهما الاطلاع على علم الغيب وعدم البخل كما تقول: هو على علمه شجاع؛ أي: جامع للوصفين، واختار أبو عبيد القراءة بالظاء وقال: إنهم لم يبخلوه فيحتاج إلى أنه ينفي عنه ذلك البخل إنما كان المشركون يكذبون به فأخبرهم الله تعالى أنه ليس بمتهم على الغيب، وجواب هذا أن يقال: وصفه الله تعالى بذلك؛ لحرصه على التبليغ وقيامه لما أمر به ولا يتوقف نفي البخل عنه على رميهم إياه به.
فإن قلت: إذا كانت الكتابة بالضاد فكيف ساغ مخالفتها إلى الظاء.
قلت: باعتبار النقل الصحيح كما قرأ أبو عمرو: "وقتت" بالواو مع أن أبا عبيد قد أجاب عن هذا فقال: ليس هذا بخلاف الكتاب؛ لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى قال فهذا قد يتشابه في خط المصحف ويتدانى، قال الشيخ: صدق أبو عبيد؛ فإن الخط القديم على ما وصف، وقال الزمخشري: هو في مصحف عبد الله بالطاء وفي مصحف أبي بالضاد وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بهما وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب ومعرفة مخرجيهما مما لا بد
(1/720)
________________________________________
منه للقارئ فإن أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين فإن فرقوا ففرقا غير صواب وبينهما بون بعيد ثم ذكر مخرجيهما على ما سيأتي بيانه في باب مخارج الحروف، ثم قال: ولو استوى الحرفان لما ثبت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان ولا اختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب قلت: وقد صنفت مصنفات في الفرق بين الضاد والظاء مطلقا وحصرت كلمات الحرفين، ونظم جماعة من شيوخ القراءة ما في القرآن العظيم من الظاءات فيعلم بذلك أن ما عدا ما نظموه يكون بالضاد وقد ذكرت في ذلك فصلا بديعا في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبد الرزاق بن علي في حرف العين وقوله: فعدلك بالتخفيف؛ أي: عدل بعضك ببعض فكنت معتدل الخلقة متناسبها فلا تفاوت فيها، قال عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه:
وعدلنا ميل بدر فاعتدلْ
وبالتشديد معناه قومك وحسنك وجعلك معتدلا فهما متقاربان ومعنى البيت خف الكوفي في قراءة فعدلك بالتخفيف ثم قال وحقك: "يوم لا"؛ يعني: رفع: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ} ؛ لأنه بدل من يوم الذي قبله أو على تقدير هو يوم لا تملك والنصب على تقدير تدانون؛ أي: تجازون يوم كذا؛ لأن لفظ الدين بدل عليه أو بإضمار أعني أو على تقدير اذكر وقيل: بدل من: {يَوْمِ الدِّينِ} الذي بعد: {يَْلَوْنَهَا} وقيل: ومبنى لإضافته إلى "لا" كما تقدم في مثل ما فيجوز على هذا أن تكون على ما تقدم من وجهي الرفع ووجوه النصب قال الشيخ وقوله: وحقك يوم لا أضاف يوم إلى لا؛ لأن اليوم مصاحب لها.
قلت لا حاجة إلى هذا الاعتذار فإنه حكاية لفظ القرآن وقيدها بذلك؛ احترازا من ثلاثة قبلها مضافة إلى الدين
1105-
وَفِي فَاكهِينَ اقْصُرْ "عُـ"ـلًا وَخِتامُهُ ... بِفَتْحٍ وَقَدِّمْ مَدَّهُ "رَ"اشِدًا وَلا
فاكهين وفكهين واحد المد والقصر كما سبق في لابثين ولبثين وفارهين وفرهين؛ أي: انقلبوا معجبين متنعمين متلذذين فرحين.
وأما: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} فقرأه الكسائي بفتح الخاء وقدم الألف على التاء فصار خاتمه كما قرأ عاصم {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} قال الفراء: الخاتمة والختام متقاربان في المعنى إلا أن الخاتم الاسم والختام المصدر قال أبو علي: خاتمه آخره وختامه عاقبته والمراد لذاذة المقطع وذكاء الرائحة وأرجها مع طيب الطعم وعن سعيد بن جبير ختامه آخر طعمه، وقوله: ولا بفتح الواو؛ أي: ذا ولاء؛ أي: نصر لهذه القراءة؛ لأن أبا عبيد كرهها، وقال: حجة الكسائي فيها حديث كان يرويه عن علي ولو ثبت عن علي لكان فيها حجة، ولكنه عندنا لا يصح عنه قلت: قد أسند الفراء في كتاب المعاني عن علي وعلقمة فقال: حدثني محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه قرأ: "خاتمه مسك"، قال: وحدثنا أبو الأحوص عن أشهب بن أبي الشعثاء المحاربي قال: قرأ علقمة بن قيس: "خاتمه مسك"، وقال: أما رأيت المرأة تقول للعطار اجعل لي خاتمه مسكا تريد آخره وتفسيره أن الشارب يجد آخر كأسه ريح المسك والله أعلم.
(1/721)
________________________________________
1106-
يُصَلَّى ثَقِيلًا ضمَّ "عَمَّ رِ"ضًا "دَ"نَا ... وَبَا تَرْكَبَنَّ اضْمُمْ "حَـ"ـيًّا "عَمَّ نُـ"ـهَّلا
ضم فعل ما لم يسمَّ فاعله في موضع الحال أيضا؛ أي: مضموم الياء، وعم: خبر يصلى؛ أي: عم رضاه أو ذا رضى، وقراءة الباقين: {يَصْلَى سَعِيرًا} مضارع صلى كما قال تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا} ، ثم قال: اضمم باء: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا} ذا حيا ولحيا بالقصر الغيث ونهلا جمع ناهل وهو الشارب؛ أي: مشبها حيا عام النفع وهو خطاب للإنسان فهو يفتح الباء على اللفظ وبضمها؛ لأن المراد بالإنسان المخاطب الجنس، ومعنى: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} ؛ أي: حالا بعد حال من شدائد أحوال القيامة وأهوال مواقفها، قيل: هي خمسون موقفا كل حالة منها مطابقة للأخرى في الشدة والهول وقيل: غير ذلك والله أعلم.
وفي نظم هذا البيت نظر في موضعين: أحدهما "يصلى" فإنه لم ينص عى فتح الصاد ولا سكونها، والثاني قوله: وبا "تَرْكَبُنَّ" ولم يقيد لفظ الباء بما تتميز به من التاء وكلمة تركبن فيها الحرفان وكل واحد منهما قابل للخلاف المذكور وكان يمكنه أن يقول:
يصلى بيصلى عم دم رم وتركبن ... بالضم قبل النون حز عم نهلا
1107-
وَمَحْفُوظٌ اخْفِضْ رَفْعَهُ "خُـ"ـصَّ وَهْوَ فِي الْـ ... ـمَجِيدِ "شَـ"ـفَا وَالْخِفُّ قَدَّرَ "رُ"تِّلا
الخفض نعت للوح وهو موافق لما يطلقه الناس من قولهم: اللوح المحفوظ قرأه نافع بالرفع جعله صفة لقرآن في قوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} ؛ أي: هو قرآن مجيد محفوظ في لوح، والضمير في قوله: هو للخفض؛ أي: اخفض رفع: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} فيكون نعتا للعرش، ورفعه على أنه خبر بعد ثلاثة أخبار لقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ} ، والتخفيف والتشديد في: {قَدَّرَ فَهَدَى} سبق مثله في "والمرسلات" قوله: والخف على تقدير وذو الخف وقدر عطف بيان له أو يكون قدر مفعول والخف نحو الضرب زيدا والله أعلم.
1108-
وَبَلْ يُؤْثِرُونَ "حُـ"ـزْ وَتَصْلى يُضَمُّ "حُـ"ـزْ ... "صَـ"ـفَا يُسْمَعُ التَّذْكِيرُ "حَقٌّ" وَذُو جِلا
الغيب والخطاب في تؤثرون ظاهران وكذلك: {تَصْلَى نَارًا} بضم التاء وفتحها وتأنيث: "لاغِيَة" غير حقيقي فجاز تذكير الفعل المسند إليها وهو يسمع هذا على قراءة من رفعها، أما من نصبها على المفعولية ففتح التاء من تسمع على ما يأتي وقوله: وذو جلا؛ أي: جلاء بالمد بمعنى انكشاف وظهور، وهو تتمة للبيت والرمز حق وحده.
1109-
وَضَمَّ "أَ"ولُوا "حَقٍّ" وَلاغِيَةٌ لَهُمْ ... مُسَيْطِر اشْمِمْ "ضَـ"ـاعَ وَالْخُلْفُ "قُـ"ـلِّلا
يعني ضم التاء من تسمع نافع وضم الياء ابن كثير وأبو عمرو فالمجموع ضم أول يسمع ولاغية لهم بالرفع،
(1/722)
________________________________________
لأن "تسمع" على قراءة الثلاثة فعل ما لم يسم فاعله وإن كان أوله مختلفا فيه بينهم دائرا بين التاء والياء وقراءة الباقين بتاء الخطاب؛ أي: لا تسمع أنت وأيها السامع فيها لاغية فإن قلتَ: من أين علم ذلك وهو إنما ذكر التذكير فضده التأنيث وهو حاصل في قراءة نافع أما قراءة غيره فبالخطاب؟
قلتُ: لما اشتركوا مع نافع في القراءة بالتاء وإن اختلف مدلولها تأنيثا وخطابا تجوز في أن جعل قراءتهم ضدا للتذكير فهو كما سبق في: {وَلِتَسْتَبِينَ} في سورة الأنعام، ويجوز أن تكون التاء في قراءة الجماعة للتأنيث أيضا على أن يكون فاعلها ضميرا عائدا على الوجوه في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} ؛ أي: لا تسمع تلك الوجوه فيها لاغية، وقوله: أولو حق؛ أي: أصحاب حق، أما: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} فأشم الصاد زايا خلف كما فعل في الصراط وفي المصيطرون في الطور، وعن خلاد في ذلك خلاف ولكون هذه القراءة قد عرفت لخلف وخلاد من سورتي الفاتحة والطور أطلق الإشمام، ولم يبين أنه بالزاي فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد ومعنى ضاع فاح وانتشر، والخلف قللا؛ لأن من المصنفين من لم يذكر لخلاد إلا أحد الوجهين إما الصاد الخالصة كالجماعة وإما الإشمام مثل خلف فذكر الخلاف قليل.
1110-
وَبِالسِّينِ "لُـ"ـذْ وَالوَتْرِ بِالكَسْرِ "شَـ"ـائِعٌ ... فَقَدَّرَ يَرْوِي اليَحْصَبْيُّ مُثَقَّلا
أي: وقرأ بمصيطر بالسين هشام وحده على أصل الكلمة والباقون بالصاد، وتعليل هذه القراءات كما سبق في الصراط والوتر بكسر الواو وفتحها لغتان، قال أبو عبيد: وبكسر الواو نقرؤها؛ لأنها أكثر في العامة وأفشى ومع هذا إنا تدبرنا الآثار التي جاء فيها ذكر وتر الصلاة فوجدناها كلها بهذه اللغة لم نسمع في شيء منها الوَتر؛ "يعني: بالفتح"، قال: والمعنى فيهما واحد إنما تأويله الفرد الذي هو ضد الشفع، وقال مكي وغيره: الفتح لغة أهل الحجاز والكسر لغة بني تميم.
وأما: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} فالتخفيف والتشديد فيه لغتان وهو بمعنى ضيق والتخفيف أكثر في القرآن
1111-
وَأَرْبَعُ غَيْبٍ بَعْدَ بَلْ لا "حُـ"ـصُولُها ... يَحُضُّونَ فَتْحُ الضَّمِّ بِالْمَدِّ "ثُـ"ـمِّلا
أي: وأربع كلمات تقرأ بالغيبة ثم بيَّن مواضعها، فقال: حصولها بعد لفظ "بل لا" يريد: {كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلَا تَحَاضُّونَ} ، و"تأكلون"، "وتحبون" انفرد أبو عمرو بقراءة الغيب والباقون بالخطاب ووجهها ظاهر، وقرأ الكوفيون "تحاضون" من المحاضة؛ أي: يحض بعضكم بعضا وأصلها تتحاضون فحذفت التاء الثانية كما في نظائره ومعنى ثملا؛ أي: أصلح؛ أي: فتح ضمه أصلح بالمد؛ لأنه لا يستقيم إلا به ويعني بفتح الضم فتح الحاء المضمومة من تحضون في قراءة الباقين.
1112-
يُعَذِّبُ فَافْتَحْهُ وَيُوثِقُ "رَ"اوِيًا ... وَيَاءان فِي رَبِّي وَفُكَّ ارْفَعَنْ وِلا
يعني فتح ذال يعذب وثاء يوثق على بناء الفعلين للمفعول والهاء في عذابه للإنسان على قراءة الكسائي
(1/723)
________________________________________
هذه وقراءة الباقين بكسرهما على بناء الفعلين للفاعل وهو أحد، والهاء في عذابه عائدة على الله تعالى؛ أي: هو متولي الأمور كلها لا معذب سواه؛ أي: إن عذاب من يعذب في الدنيا ليس كعذاب الله، ويجوز أن تكون الهاء عائدة على الإنسان أيضا واختاره الشيخ أبو عمرو؛ ليفيد المعنى زيادة عذاب هذا الإنسان على غيره، وإذا عاد الضمير إلى الله تعالى لم يفد هذا المعنى بخلاف قراءة الفتح فإن على كلا التقديرين يحصل هذا المعنى فإن الهاء إن عادت على الإنسان فظاهر على ما سبق، وإن عادت على الله تعالى كان المعنى لا يعذب أحد مثل تعذيب الله تعالى لهذا الإنسان، واختار أبو عبيد قراءة الفتح وأسند فيها حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مع صحة المعنى فيها؛ لأن تفسيرها لا يعذب عذاب الكافر أحد ومن قرأ بالكر فإنه يريد لا يعذب عذاب الله -عز وجل- أحد، قال: وقد علم المسلمون أنه ليس يوم القيامة معذِّب سوى الله تعالى فكيف يكون لا يعذب أحد مثل عذابه؟ وأراد بقوله: وياءان في ربي أن هذا اللفظ الذي هو ربي تكرر في هذه السورة في موضعين ففيه ياءان من ياءات الإضافة يريد: "رَبِّي أَكْرَمَنِ"، و"رَبِّي أَهَانَنِي" فتحهما الحرميان وأبو عمرو وفيها أربع زوائد تقدم نظمها في آخر سورة تبارك: "يسري" أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو وفي الحالين ابن كثير. "بالوادي" أثبتها في الوصل ورش وفي الوقف ابن كثير على اختلاف عن قنبل. "أكرمني"، و"أهانني" أثبتهما في الوصل نافع وأبو عمرو على اختلاف عنه وفي الوقف البزي والنون في قوله: ارفعن نون التوكيد الخفيفة التي تبدل ألفا في الوقف ومثلها في القرآن "لنسفعن بالناصية" و {لِيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} وولا بالكسر؛ أي: متابعا فهو مفعول من أجله أو التقدير: ذو ولاء فيكون حالا وليست الواو فاصلة فإن المسألة لم تتم بعد؛ أي: ارفع الكاف من قوله تعالى في سورة البلد: {فَكُّ رَقَبَةٍ} لمن يأتي ذكره، ثم ذكر ما يفعله هذا الرافع في رقبة فقال:
1113-
وَبَعْدَ اخْفِضَنْ وَاكْسِرْ وَمُدَّ مُنَوِّنًا ... مَعَ الرَّفْعِ إِطْعَامٌ "نَـ"ـدًا "عَمَّ فَـ"ـانْهَلا
النون في اخفضن للتوكيد أيضا يريد اخفض الكلمة التي بعد فك وهي رقبة فهي مخفوضة بإضافة فك إليها؛ لأن فك بعد أن كان فعلا ماضيا في القراءة بفتح الكاف صار برفعها اسما مضافا إلى رقبة، وقوله: واكسر؛ يعني: همزة إطعام والمد زيادة ألف بعد العين، والتنوين مع الرفع في الميم فيبقى إطعام معطوفا على فك فهما اسمان في هذه وفي الأخرى هما فعلان ماضيان فقوله: إطعام مفعول اكسر ومد؛ أي: افعل فيه الكسر والمد والتنوين والرفع وقوله: ندا؛ أي: ذا نداء، وقوله: عم فانهلا أراد فانهلن فأبدل من النون ألفا؛ أي: فاشرب يقال منه نهل بكسر الهاء ينهل فوجه هذه القراءة أنها تفسير للعقبة والتقدير: هي فك رقبة أو إطعام، وعلى قراءة الباقين يكون فك رقبة بدلا من: {فَلا اقْتَحَمَ} وما بينهما اعتراض كما قيل: في يوم لا تملك المنصوب أنه بدل من يوم الدين وقد اعترض بينهما جمل في ثلاث آيات:
1114-
وَمُؤْصَدَةٌ فَاهْمِزْ مَعًا "عَـ"ـنْ "فَـ"ـتىً "حِـ"ـمىً ... وَلا "عَمَّ" فِي وَالشَّمْسِ بِالْفاءِ وَانْجَلا
معا؛ يعني: في سورتي البلد والهمز والهمز في مؤصدة وتركه لغتان وقد تقدم الكلام فيها في باب الهمز المفرد ومعنى مؤصدة مطبقة، وقوله: عن فتى؛ أي: ناقلا له عن فتى حماه، أما: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} في سورة والشمس فقرأها
(1/724)
________________________________________
نافع وابن عامر بفاء موضع الواو على ما في المصحف المدني والشامي وهو عطف على ما قبله من الجمل المعطوفات بالفاء فقال لهم: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ، وقرأ الباقون بالواو على ما في مصاحفهم وهي واو الحال؛ أي: فسواها غير خايف والضمير في ولا يخاف يرجع إلى من رجع إليه الضمير في فسواها وقيل: يرجع إلى الرسول وقيل: يرجع إلى العاقل وقراءة الفاء ترد هذه القول، ومعنى فدمدم عليهم أرجف بهم وقيل: أطبق العذاب عليهم والضمير في فسوها للدمدمة أو لآية ثمود؛ أي: فسوى الدمدمة بينهم أو فسواهم في ذلك لم يفلت منهم أحدا، فقول الناظم: ولا مبتدأ وعم خبره؛ أي: ولا في والشمس عم بالفاء وأنجلا؛ أي: كفا.
(1/725)
________________________________________
من سورة العلق إلى آخر القرآن:
لا تعلُّقَ لسورة العلق بما بعدها في نظمه، وسورة القدر ولم يكن متصلتان، وكذا التكاثر والهمزة ولإيلاف والكافرون متصلا في نظمه ثم سورة تبت وما بين ذلك قبله من السور لا خلف فيها إلا ما سبق ذكره في الأصول وغيرها وكذا ما بعد تبَّت.
1115-
وَعَنْ قُنْبُلٍ قَصْرًا رَوَى ابْنُ مُجاهِدِ ... رَآهُ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ مُتَعَمِّلا
قصرا مفعول روى، ورآه مفعول قصرا؛ لأنه مصدر؛ أي: روى ابن مجاهد عن قنبل قصرا في هذه الكلمة وهي: "أن رأه استغنى" فحذف الألف بين الهمزة والهاء وابن مجاهد هذا هو الإمام أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد شيخ القراء بالعراق في وقته وهو أول من صنف في القراءات السبع على ما سبق بيانه في خطبة هذا الكتاب وأوضحناه في كتاب الأحرف السبعة وقد ذكرت من أخباره في ترجمته في مختصر تاريخ بغداد ومات -رحمه الله- سنة أربع وعشرين وثلاث مائة وقد ضعف بعضهم قراءته على قنبل، وقال: إنما أخذ عنه وهو مختلط؛ لكبر سنه على ما ذكرناه في ترجمة قنبل في الشرح الكبير لهذه القصيدة، وقال ابن مجاهد في كتاب السبعة له: قرأت على قنبل أن "رآه" قصرا بغير ألف بعد الهمزة في وزن "رعه" قال وهو غلط لا يجوز إلا "رآه" في وزن رعاه ممالا وغير ممال، فهذا معنى قول الناظم ولم يأخذ به؛ لأنه جعله غلطا ومعنى متعملا؛ أي: عاملا يقال عمل واعتمل وتعمل فيجوز أن يكون حالا من ابن مجاهد وهو ظاهر، ويجوز أن يكون مفعولا به؛ أي: م يأخذ به على أحد قرأ عليه والمتعمل طالب العلم الآخذ نفسه به يقال: تعمل فلان لكذا وسوف أتعمل في حاجتك؛ أي: أتعنى وهذا كالمتفقه والمتنسك؛ أي: لم يطالب أحدا من تلامذته بالقراءة به وهذه العبارة غالبة في ألفاظ شيوخ القراء يقول قائلهم: به قرأت وبه آخذ؛ أي: وبه أقرئ غيري.
وقال الشيخ الشاطبي -رحمه الله- فيما قرأته بخط شيخنا أبي الحسن -رحمه الله- رأيت أشياخنا يأخذون فيه بما ثبت عن قنبل من القصر خلاف ما اختاره ابن مجاهد.
وقرأت في حاشية النسخة المقروءة على الناظم -رحمه الله: زعم ابن مجاهد أنه قرأ بهذا عليه؛ أي: على قنبل ورده ورآه غلطا هكذا في السبعة ولم يتعرض في الكتاب له لما علم من صحة الرواية فيه قال وإذا صح تصرف العرب في رأيا لقلب ويحفظ الهمزة فكيف ينكر قصر الهمزة إذا صحت به الرواية.
وقال الشيخ في شرحه وكذلك رواه أبو عون؛ يعني: محمد بن عمر الواسطي عن قنبل والرواية عنه صحيحة وقد أخذ له الأئمة بالوجهين وعول صاحب التيسير على القصر يعني؛ لأنه لم يذكر فيه غير فإنه قال قرأ قنبل "أن رآه" بقصر الهمزة والباقون بمدها وقال في غيره وبه قرأت وأثبت بن غلبون وأبوه الوجهين واختار إثبات الألف قال الشيخ وهي لغة في رآه ومثله في الحذف، قول رؤبة:
وصاني العجاج فيما وصَّنِي
قال: وما كان ينبغي لابن مجاهد إذا جاءت القراءات ثابتة عن إمام من طريق لا يشك فيه أن يردها؛ لأن وجهها لم يظهر له وقد سبق في "حاشا" ذكر هذا الحذف ونحوه وإذا كانوا يقولون لا أدر من المستقبل الذي يلبس الحذف فيه قراءة أولى،
(1/726)
________________________________________
قلت: وأنشدني الشيخ أبو الحسن -رحمه الله- لنفسه بيتين بعد هذا البيت حالة قراءتي لشرحه عليه في الكرة الأخيرة التي لم نقرأ عليه بعدها:
ونحن أخذنا قصره عن شيوخنا ... بنص صحيح صح عنه فبجلا
ومن ترك المروي من بعد صحة ... فقد زل في رأي رآى متخيلا
قلت: لعل ابن مجاهد -رحمه الله- إنما نسب هذا إلى الغلط؛ لأخذه إياه عن قنبل في زمن اختلاطه مع ما رأى من ضعف هذا الحذف في العربية؛ لأنه وإن جاء نحوه ففي ضرورة شعر أو ما يجري مجرى ذلك من كلمة كثر دورها على ألسنتهم فلا يجوز القياس على ذلك، وقد صرح بتضعيف هذه القراءة جماعة من الأئمة، قال أبو علي: إن الألف حذفت من مضارع رأى في قولهم: أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة، فهلا جاز حذفها أيضا من الماضي، قيل: إن الحذف لا يقاس عليه لا سيما في نحو هذا إن كان على غير قياس، فإن قلتَ: فقد جاء-حاشا لله- يكون إلا فعلا؛ لأن الحرف لا يحذف منه، وقال رؤبة: "فيما وصني" قيل: إن ذلك في القلة بحيث لا يصار يسوغ القياس عليه، ومما يضعفه أن الألف ثبتت حيث تحذف الياء والواو، ألا ترى أن من قال: {إِذَا يَسْرِ} فحذف الياء في الفاصلة لم يحذف من نحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ، وقال مكي: هو بعيد في القياس والنظر والاستعمال هذا مع كونه علل هذه القراءة بخمس علل كلها ضعيفة ومن أغربها أن الألف حذفت لأجل
الساكن بعد الهاء ولم يعتد بالهاء حاجزا ولو كان ذلك مسوغا هذا لكان في قراءة الجماعة أولى؛ فإنهم لم يعتدوا بالهاء حاجزا في امتناعهم في صلة هاء الكتابة؛ لأجل الساكن قبلها على ما سبق في بابه والله أعلم.
1116-
وَمَطلَعِ كَسْرُ اللامِ "رَ"حْبٌ وَحَرْفَيِ الْـ ... ـبَرِيَّة فَاهْمِزْ "آ"هِلًا "مُـ"ـتَأَهِّلا
يريد: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} كسر لامه رحب؛ أي: واسع؛ أي: لم تضق وجوه الفربية عن توجيهه خلافا لمن استبعده ووجهه أنه قد جاء في أسماء الزمان والمكان مفعل بكسر العين فما مضارعه يفعل بضمها أسماء محصورة وهذا منها نحو المشرق والمغرب والمسجد ومنها ما جاء فيه الوجهان نحو المنسك والمسكن والمطلع وقد قرئ بهما في هذه الثلاثة فالمفتوح والمكسور المراد بهما زمن الطلوع ومنهم من جعلهما مصدرين فاحتاج إلى تقدير؛ أي: حذف مضاف إلى زمن طلوع الفجر إذا قدرنا هما اسمي زمان لم تحتج إلى هذا، والزجاج جعل المفتوح مصدرا والمكسور اسم زمان وهمز البرية هو الأصل؛ لأنها من برأ الله الخلق ومن لم يهمزها، فإما أن يكون خفف الهمز كما تقدم في النبيء وهو الأولى أو يكون مأخوذا من البرأ وهو التراب فلا همز فيه، ولكن قراءة الهمز ترد هذا الوجه قال أبو علي: البرية من برأ الله الخلق فالقياس فيه الهمز إلا أنه مما ترك همزه كقولهم النبي والذرية والخابية في أنه ترك الهمز فالهمز فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال كما أن من همز النبي كان كذلك وترك الهمز فيها أجود وإن كان الأصل الهمز؛ لأنه لما ترك فيه الهمز صار كرده إلى الأصول المرفوضة مثل ضننوا وما أشبه ذلك من الأصول التي لا تستعمل قال: وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال إنه من البراء الذي هو التراب ألا ترى أنه لو كان كذلك لم يجز همز من همز على حال إلى على وجه الغلط كما حكوا امتلئت الحجر ونحو
(1/727)
________________________________________
ذلك من الغلط الذي لا وجه له في الهمز والفاء في قوله: فاهمزه زائدة وحرفي البرية مفعول باهمز واهلا متأهلا حالان من فاعل اهمز ومعنى آهلا ذا أهل من قولهم: أهل المكان إذا كان له أهل، ومكان مأهول فيه أهله وقد أهل فلان بفتح الهاء يأهل بضمها وكسرها أهولا؛ أي: تزوج وكذا تأهل فيكون دعاء له؛ أي: اهمزه مزوجا إن شاء الله تعالى في الجنة نحو اذهب راشدا أو اهمزه كائنا في جماعة يريدونه وينصرونه؛ أي: لست منفردا بذلك، وإنما قال ذلك إشارة إلى خلاف من يرد الهمز في هذا، ومعنى متأهلا؛ أي: متصديا للقيام بحجته محصلا لها؛ أي: لك أهلية ذلك، وقال الشيخ: آهلا حال من مفعول اهمز ويشكل عليه أن مفعول اهمز مثنى والحال مفردة ونافع مذهبه همز النبي والبرية معا، ووافقه ابن ذكوان على همز البرية فقط فقد صار همز البرية له أهل أكثر من أهل الهمز في النبي وبابه والله أعلم.
1117-
وَتَا تَرَوُنَّ اضْمُمْ في الُاولَى "كَـ"ـمَا "رَ"سَا ... وَجَمَّعَ بِالتَّشْدِيدِ "شَـ"ـافِيهِ "كَـ"ـللا
يعني لترون الجحيم فالضم من أرى والفتح من رأى ولا خلاف في فتح الثاني وهو لترونها وجمع مالا بالتخفيف والتشديد واحد وفي لفظ التشديد موافقة لقوله وعدده، وقيل: التشديد لما يكون شيئا بعد شيء، والتخفيف لما يجمع في قرب وسرعة كقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} ، وقد جاء التخفيف بمعنى التشديد وهو لما يجمع شيئا بعد شيء كقوله:
وَلَها بِالماطِرونَ إِذا ... أَكَلَ النَملُ الَّذِي جَمَعا
والنمل لا يجمع ما يدخره في وقت واحد، وكذلك الظاهر من أداء الحرب في قول الأعشى:
لِاِمرِئٍ يَجمَعُ الأَداةَ لِرَيبِ الـ ... ـدَهرِ لا مُسنَدٍ وَلا زُمّالِ
ذكر ذلك أبو علي المسند بفتح النون الدعي والزمال الجبان، وقوله: في أولى؛ أي: في الكلمة الأولى ورسا بمعنى ثبت واستقر.
1118-
"وَصُحْبَةٌ" الضَّمَّيْنِ فِي عَمَدٍ وَعَوْا ... لإِيلافِ بِاليَا غَيْرُ شَامِّيهِمْ تَلا
وعوا؛ أي: حفظوا الضمين في هذه العلة وهما ضم العين والميم والباقون بفتحهما وكلاهما جمع عمود وقد أجمعوا على الفتح في: {بِغَيْرِ عَمَدٍ} في الرعد ولقمان، أما: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} فقراءة ابن عامر بحذف الياء وكلتا القراءتين مصدر وهما لغتان يقال آلف إيلافا وألف إلافا فمن الأول قول ذي الرمة: مِن المُؤَلِفاتِ الرَملِ أَدماءُ حُرَّةٌ ومن الثاني ما أنشده أبو علي:
زعم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف
قراءة ابن عامر حسنة فإن فيها جمعا بين اللغتين باعتبار الحرفين فإن الثاني بالياء بغير خلاف وهو معنى قوله:
1119-
وَإِيلافِ كُلٌّ وَهْوَ في الْخَطِّ سَاقِطٌ ... وَلِى دِينِ قُلْ في الْكَافِرِينَ تَحَصَّلا
(1/728)
________________________________________