المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكتاب: كنز الدرر وجامع الغرر ج7


AshganMohamed
10-15-2019, 11:21 AM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: كنز الدرر وجامع الغرر
المؤلف: أبو بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري
المحققون وعام النشر:
جـ 1/ بيرند راتكه، 1402 هـ - 1982 م
جـ 2/ إدوارد بدين، 1414 هـ - 1994 م
جـ 3/ محمد السعيد جمال الدين، 1402 هـ - 1981 م.
جـ 4/ جونهيلد جراف - اريكا جلاسِن، 1415 هـ - 1994 م.
جـ 5/ دوروتيا كرافولسكي، 1413 هـ - 1992 م.
جـ 6/ صلاح الدين المنجد، 1380 هـ - 1961 م.
جـ 7/ د سعيد عبد الفتاح عاشور، 1391 هـ - 1972 م
جـ 8/ أُولْرِخ هارمان، 1391 هـ - 1971 م
جـ 9/ هانس رُوبرت رويمر، 1960 م
الناشر: عيسى البابي الحلبي
عدد الأجزاء: 9
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ذكر خلافة الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم بأمر الله
وما لخّص من سيرته
هو أبو الحسن على بن منصور بن نزار بن معدّ، وباقى نسبه تقدّم. ولد ثالث ساعة من ليلة الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان سنة خمس وتسعين وثلاث مئة.
أمّه أم ولد. . .
بويع له يوم عيد الأضحى سنة إحدى عشرة وأربع مئة وهى هذه السنة.
استوزر جماعة منهم: عمار الخطير، وشمس الملك علىّ بن أحمد الجرجرائى وكان أقطع اليدين من المرافق، قطعهما الحاكم فى أيّام خلافته بسبب (ص 188) خيانة ظهرت عليه، وكان يتولّى بعض الدواوين، ثم ولى بعد ذلك ديوان النفقات سنة تسع وأربع مئة، ثم وزر للظاهر فى سنة ثمانى عشرة وأربع مئة.
وكان يكتب عنه العلاّمة القاضى أبو عبد الله القضاعى صاحب كتاب «الخطط المصرية» وكتاب «الشهاب». وكانت علامته:
«الحمد لله شكرا لنعمته». واستعمل الأمانة الزائدة التى لا نظير لها.
وفيه يقول جاسوس الفلك الشاعر:
(6/313)
________________________________________
يا أحمقا اسمع وقل … ودع الرقاعة والتحامق
أأقمت نفسك فى الثقاة … وهبك فيما قلت صادق
فمن الأمانة والتّقى … قطعت يداك من المرافق
ووزر له أيضا ابن أبى العوّام، والقاسم بن عبد العزيز، وعبد الحاكم ابن بقية.
وكان الظاهر ذو سيرة حميدة وأفعال مرضيّة، حسن المذهب، عفيفا تقيّا. وكان جميع ذلك بتدبير عمّته ست الملك له. وكان يجلس فى قصرها ويرجع فى سائر أموره إليها. وكانت من الخير إلى الغاية.
رحمهما الله تعالى.
(6/314)
________________________________________
ذكر سنة اثنتى عشرة وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وستة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر. وأخلع على خطير الملك للوزارة يوم السبت تاسع عشرين ربيع الأول. وقتل يوم السبت لعشر بقين من ذى القعدة.
ونظر أبو الفتوح موسى بن الحسن. وقتل عبد الرحيم بن إلياس نفسه، وكان (ص 189) ولىّ عهد الحاكم.
وفيها رسم لابن عمّار عن أمير المؤمنين أن يوقع علامته «الحمد لله ربّ العالمين»
وفيها كسر الحجر الأسود رجل عجمى، وقتل هو وجميع من كان معه، ثم طيّب الحجر الأسود وأعيد مكانه.
(6/315)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث عشرة وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر.
وفيها توفيت السيدة ستّ الملك رحمها الله تعالى.
وفيها نظر القائد عزّ الدولة فى العساكر. وقتل موسى بن الحسن، وولى الوساطة داود بن إسحاق.
وفيها قتل عزيز الدولة صاحب حلب، وتسلّمها سديد الدولة علىّ ابن أحمد، وحصل صفىّ الدولة فى البلد، ويمين الدولة فى القلعة واستقرّوا كذلك.
(6/316)
________________________________________
ذكر سنة أربع عشرة وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية أصابع
مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر.
وفيها نظر شمس الملك مسعود بن طاهر فى الوساطة ثانية. وتقلّد أبو القاسم بن عبد العزيز بن النعمان الدعوة. ونظر أبو عبد الله بن المدبّر فى ديوان الخراج.
قال ابن زولاق فى تاريخه: (ص 190) إن رجلا من أهل الجزيرة الخضرآء من أعمال الأندلس صاد جارية من بنات البحر لم يكن لها نظير فى الحسن، فكتفها وعاد ينكحها، فولدت منه ولدا لم ير أحسن منه، فوثق بها بعد ذلك، وفك كتافها لمحبّته لها وإشفاقا
(6/317)
________________________________________
عليها. ثم إنّه أراد سفرا فلما أراد أن يعدّى إلى مدينة سبتة والجارية بصحبته نشغفه بها، وولدها قد صار له من العمر أربع سنين، فلما توسّط البحر احتملت الجارية الولد وقذفت نفسها فيه. فكاد أن يرمى بنفسه ورآءها لو لم يمسكوه أهل المركب، وحزن عليها وعلى ولدها حزنا شديدا. فلما كان بعد ثلاثة أيام ظهرت له الجارية من من البحر، ورمت إليه عدة صدفا (كذا) فيه جوهر نفيس، وسلّمت عليه بإصبعه (كذا) وغطست، فكان آخر العهد بها وبولدها.
وفيها انقضّ كوكبا عظيما له دوىّ كالرعد العاصف، حتى وجلت منه القلوب.
(6/318)
________________________________________
ذكر سنة خمس عشر وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ذراعان وخمسة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا فقط.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر.
وفيها نهبت العرب مدينة الرملة وأكثر الشام. وكان ذلك فى شهر رجب من هذه السنة.
وفيها مات باسل ملك الروم.
وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الشيعة والسّنة، وقتل منهم؟ خلق كثير. ومنعوا السنة للشيعة من النوح على الحسين عليه السلام، كما كانت عادتهم، حسبما تقدّم من ذكر ذلك فى السنين المتقدّمة.
(6/319)
________________________________________
ذكر سنة ست عشرة وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين.
وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر. وولى عميد الدولة الحسن بن على الوساطة.
وفيها أخذ سديد الدولة قلعة حلب، وقتل عين الدولة الصقلى، واستقلّ سديد الدولة بملك حلب.
وفيها أكل الفار زرع مصر حتى أتى عليه.
(6/320)
________________________________________
ذكر سنة سبع عشرة وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين.
وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر. ووزر [أبو] الحسن <علىّ> بن صالح الروذبارى.
وحجّ بالناس فى هذه السنة ابن الجفّال بغير زيارة حصلت للناس.
وفيها حصل لأهل واحات جدرىّ عظيم، فمات به خلق كثير من أهلها.
(6/321)
________________________________________
ذكر سنة ثمانى عشرة وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم.
والظاهر (ص 192) خليفة مصر. ونظر صفىّ أمير المؤمنين، وقبض على حسنون بن صالح، ونظر داود بن إسحاق فى ديوان الخراج.
وتوفى قاضى القضاة أبو العباس بن العوّام، وتقلّد القضاء قاسم بن عبد العزيز بن النعمان مع الدعوة، وذلك فى جمادى الأولى.
وصرف أبو الحسن على بن صالح الروذبارى، وولى الأمر بالوزارة صفىّ أمير المؤمنين، وهو أبو القاسم علىّ بن أحمد الجرجرائى الأقطع من المرافق المقدم ذكره.
وقيل فى هذه السنة كان دخول أبو طاهر جلال الدولة بن بويه
(6/322)
________________________________________
بغداد وتغلّبه على الأمر بعد وفاة شرف الدولة. وكان حكم جلال الدولة فى بغداد خاصة، و <فى> باقى الأعمال أبا كاليجار بن سلطان الدولة ابن عضد الدولة بن بويه.
وفيها توفى أبو القاسم المغربى صاحب الرسائل، وتلك الخطبة، المقدم ذكره فى خلافة الحاكم رحمه الله تعالى.
(6/323)
________________________________________
ذكر سنة تسع عشرة وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر.
وكان قد ولّى حلب مرتضى الدولة لؤلؤ الجراحى غلام أبى الفضائل الحمدانى نيابة من قبل الظاهر بن الحاكم. فغلب عليه فى هذه السنة صالح بن مرداس الكلابى وانتزع حلب من يده، وهو أول ملوك بنى مرداس.
وتغلّب أيضا حسّان بن مفرّج بن دغفل البدوى، وهو يومئذ صاحب الرملة، على أكثر بلاد الشام، وتضعضعت دولة الظاهر، وجرت أمور يطول شرحها.
(6/324)
________________________________________
وفيها ولد المستنصر (ص 193) بن الظاهر.
وفيها مات عيسى بن علىّ النحوىّ.
وفيها صرف قاسم بن عبد العزيز بن النعمان عن القضاء، ووليه أبو الفتح عبد الحاكم بن سعيد الفارقى، وهو أخو مالك بن سعيد الذى قتله الحاكم فى أيام خلافته.
وفيها خرج قائد الجيوش لطرد العرب عن الشام وصحبته أبو نصر الفلاحى ناظر الأموال.
(6/325)
________________________________________
ذكر سنة عشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا.
ملبغ الزيادة ستة عشر ذراعا فقط.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر.
وفيها غرق جماعة من أهل مصر على الجسر ليلة الغطاس.
وفيها وصل أسارى من صيدا، فقتل منهم أربعة نفر وصلبوا.
وفيها قتل صالح بن مرداس الكلابى ووصلت رأسه إلى القاهرة وطيف بها على عود.
وفيها زلزلت دمشق زلزالا شديدا حتى خرب ما يزيد على نصفها، وهلك تحت الردم خلق كثير.
وقيل فى هذه ولد المستنصر بن الظاهر. والله أعلم.
(6/326)
________________________________________
ذكر سنة إحدى وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة وأصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين.
وبنو بويه بحالهم.
والظاهر (ص 194) خليفة مصر. ومدبرى دولته على ما تقدم من ذكرهم.
وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الشيعة والسنة. وسبب ذلك أنّ الشيعة أرادوا يوم عاشوراء قيام النوح على الحسين عليه السّلام، كجارى عادتهم، فمنعوهم السنّة. فوقعت الفتنة بينهم. وكذلك بين الهاشمين والأتراك، ورفعوا الهاشمين المصاحف على رؤس الرماح،
(6/327)
________________________________________
ورفعوا الأتراك الصلبان على الرماح. وكانت الفتنة أوّلا بين أهل باب الكرخ وباب البصرة، وانتصرت الأتراك لأهل باب البصرة وانتصرت الهاشمين لأهل باب الكرخ، وقتل بينهم جماعة، وجرح خلق كثير من الفئتين.
وقال صاحب «تاريخ بغداد»: إن فى هذه السنة بنى عين الدولة السلطان محمود ابن سبتكين قنطرة على جيحون أصرف عليها ألفى ألف دينار، فكانت من عجائب الدنيا.
(6/328)
________________________________________
ذكر سنة اثنين وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرين إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. إلى أن توفى فى هذه السنة <فى> الحادى عشر من ذى الحجّة من هذه السنة. وله ست وثمانون سنة وأشهر. وكانت خلافته إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر.
صفته: ربعة، حسن الوجه، قصير العنق، أسمر اللون، شجاعا مقداما ناهظا.
وزراؤه:
محمد بن أحمد الشيرازى، ثم سعيد بن نصر، ثم أبو العلاء سعيد النصرانى (ص 195)، ثم على بن عبد العزير بن حاجب النعمان، ثم ابنه أبو الفضل محمد، ثم أبو طالب محمد بن أيوب.
نقش خاتمه: الحمد لله على كلّ حال.
(6/329)
________________________________________
ذكر خلافة القائم بأمر الله بن القادر بالله
وما لخّص من سيرته
هو أبو جعفر عبد الله القائم بالله ابن أبى العباس أحمد القادر بالله ابن إسحاق المقتدر بالله. وباقى نسبه قد تقدّم.
أمّه أمّ ولد تسمى بدر الدّجى.
بويع له فى ذى الحجّة عند وفاة أبيه رحمه الله.
والملك يومئذ ببغداد جلال الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة ابن بويه الديلمى.
ولم يزل القائم بالله خليفة أربعة وأربعين سنة، وثمانية أشهر، وتوفى فى تاريخ ما يأتى من ذكره فى تاريخه.
وهو الذى أخرجه البساسيرى حسبما يأتى من ذكره ملخّصا إن شاء الله تعالى.
وكان للقادر ولد يسمّى ذخيرة الدين أبو العباس محمد، وقيل أبى القاسم محمد، وهو الصحيح. وكان يدعى له مع أبيه على المنابر. فتوفى فى حياة أبيه، فدعى لأبى جعفر عبد الله. وكان
(6/330)
________________________________________
حسن السيرة، جميل الأوصاف، مجتهدا فى إصلاح الدين، وكان فاضلا عالما أديبا شاعرا، فمن شعره ما ذكره صاحب كتاب دمية القصر»:
القلب من خمر التصابى منتشى … من ذا عذيرى من شراب معطش
والنفس من أسر الغرام قتيلة … ولكم قتيل فى الهوى لم ينعش
جمعت علىّ من الغرام عجايب … خلّفن قلبى فى إسار موحش
خلّ يصدّ وعاذل متنصّح … ومنازع فدم ونمّام يشى
ودعى له بأفريقية، أقام بدعوته بها المعزّ بن باديس الصنهاجى.
وكان المعزّ أبو تميم لما توجّه إلى الديار المصريّة، استخلف على أفريقية والقيروان باديس بن يعقوب الصنهاجى. فأقام باديس بدعوة المعزّ أبى تميم طول حياته. ثم توفى وولّى ولده المعزّ بن باديس، فرفض دعوة الفاطميّين، وأقام الدعوة للعباسيّين، وخطب ودعا للإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين أبى جعفر عبد الله بن أحمد القادر بالله خليفة بغداد. وكتب القائم بالله إلى المعزّ بن باديس من مدينة السلام يأمره بذلك. فكان يدعى بأفريقية للقائم بالله أمير المؤمنين، ثم يدعى للمعزّ بن باديس بعده. واستقرّت الدعوة لبنى العباس بأفريقية كما كانت أوّلا، ولم تزل كذلك حتى خرج بالمغرب محمد بن تومرت الملّقب بالمهدى، فقطع الدعوة عن بنى العباس. ثم استخلف بعده
(6/331)
________________________________________
عبد المؤمن الآتى ذكره فى تاريخه إن شاء الله تعالى. وكان فى خلافة المقتفى لأمر الله بن المسترشد بالله، فقطع الدعوة البتّة عن بنى العبّاس ودعا لنفسه، وتسمّى بأمير المؤمنين، واستقرّ عبد المؤمن المذكور خمسين سنة إلى سنة تسع وخمسين وخمس مئة؛ حسبما يأتى من ذكره إن شاء الله تعالى.
(6/332)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه على ما هم عليه.
والظاهر خليفة مصر.
وفيها كان النوح على الحسين عليه السّلام على عادة أهل باب الكرخ.
وفيها تسلّمت الروم الرّها.
وفيها توفى على بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب الذى لم يأت الزمان بمثله رحمه الله تعالى.
وكانت سنة شديدة على الناس من الغلاء والقحط.
(6/333)
________________________________________
ذكر سنة أربع وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر.
وفيها ظهرت الدرزيّة بجبل السمّاق، الذين أصلهم ذلك الرجل المراوحى الذى كان يقف عنده الحاكم المقدّم ذكره فى هذا الجزء.
وكان قد جهزه الحاكم فى آخر أيّامه بالأموال والخزائن ونفذه إلى الجبال يدعو للحاكم ويفسد عقول هؤلاء الأقوام من أهل الجبال، كونهم ضعيفين العقول، بعيدين عن العلوم، أولى طباع قاسية لسكنهم الجبال <ك‍> قساوة الأحجار، فتمكّن من عقولهم الفاسدة، ولم يزل يدعوهم وهم ينجلبون إليه إلى هذه السنة فكان ظهورهم.
(6/334)
________________________________________
ذكر سنة خمس وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وواحد وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر.
وفيها خرج سلجوق إلى ماوراء النهر وإلى بخارى.
(6/335)
________________________________________
ذكر بنو سلجوق ونسبهم وبدو شأنهم
(ص 198) قال صاحب «تاريخ بغداد»: إنّ آل سلجوق تركمان ينزلون الخراكى والبرارى من وراء النهر. فتزوج سلجوق ابنة رجل من ملوك التركمان يقال له يكرخان وقيل طقزدكين وهو الصحيح فى اسمه. وكان الملك يومئذ ملك البلاد محمود بن سبكتكين فأفسد عليه سلجوق نظام ملكه لما قوى أمره فى تلك الأراضى بمصاهرة طقزدكين، وعاد فى عالم كثير من التركمان شجعان أبطال. وإنّ سلجوق يرجع فى أصله إلى بيت ملك يقال إنّه من نسل الملوك الساسانيّة ملوك فارس.
هذا ما ذكره صاحب «تاريخ بغداد» ولم يبرهن على الأصل أكثر من هذا الكلام، وسيأتى بيان صحة أنّ سلجوق من آل ساسان من وجه آخر.
قال صاحب «تاريخ بغداد»: فلما قوى عزم سلجوق على أخذ البلاد وحرّكته الهمّة الملوكيّة وأفسد نظام الملك على ابن سبكتكين محمود، قصده محمود بن سبكتكين فتوفى، وأدركته المنية قبل أن يلقى سلجوق بحرب، ورجع الملك إلى مسعود بن محمود، وكان صبىّ
(6/336)
________________________________________
السنّ والرأى، وكان ذلك كلّه لما يريده الله عزّ وجلّ من سعادة آل سلجوق، وكانوا ينزلون فى أربعة آلاف خركاه، وانتشا طغريل بك وهو <ابن> ميكائيل بن سلجوق والتزق إليه عالم عظيم من التركمان وغيرهم، فنزل نيسابور وهو قاصد مسعود، وتفلّلت جموع مسعود لما عظم سلطان طغريل بك. فهرب مسعود وأخلى البلاد، فتسلّمها طغريل بك من غير حرب ولا قتال، وملك خراسان، وجلس على سرير الملك، وذلك فى سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة حسبما يأتى من ذكرهم فى تاريخه إن شاء الله تعالى. فهذا طرفا كافيا من بدوّ شأن هؤلآء القوم، وسيأتى من ذكرهم فصلا جيدا من وجه آخر إن شاء الله تعالى. (ص 199)
وفيها كانت وقعة سلجوق مع جيوش محمود، وهى وقعة داغان المعروفة، وانكسرت جيوش محمود بن سبكتكين، ثم تجهّز بنفسه فأدركته منيّته حسبما ذكرناه، وقوى سلطان سلجوق.
وفيها كان بالشام زلازل، وانحطّ البحر ثلاث فراسخ، فنزل الناس يلتقطون السمك فعاد البحر عليهم فغرّقهم، وعاد لما كان عليه.
(6/337)
________________________________________
ذكر سنة ست وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر، وولاة أموره على ما تقدّم من أمرهم.
وفيها توفى محمود بن سبكتكين، وجلس ولده مسعود، وسنّه ثلاث عشرة سنة.
وفيها عظم سلطان سلجوق، وتكاثفت جموعه وقوى عزمه.
(6/338)
________________________________________
ذكر سنة سبع وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والظاهر خليفة مصر إلى أن توفى هذه السنة ليلة الأحد النصف من شعبان، وقيل من شوّال، من هذه السنة.
وكانت خلافته خمس عشرة سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيام.
وعمره يومئذ إحدى وثلاثون سنة.
وزراؤه: عمار الخطير، شمس الملوك على بن أحمد الجرجرائى الأقطع، ابن أبى العوّام، القاسم بن عبد العزيز بن النعمان، عبد الحاكم، والله أعلم.
(6/339)
________________________________________
المدائح الظاهريّات
ابن أبى حصينة:
ما قصره المعمور إلاّ كعبة … ويمينه ركن لنا ومقام
تمحى ذنوب المذنبين إذا سعوا … من حوله وتمحّص الآثام
يا آل أحمد ثبّتت أقدامكم … وتزلزلت بعداكم الأقدام
لستم وغيركم سوآء، أنتم … للدّين أرواح وهم أجسام
فجزيتم خير الجزآء فحبّنا … لكم أمان من لظى ودمام
وقال محمد بن سلطان بن حيّوس جامعا بين التعزية عن الظاهر والتهنئة بالمستنصر:
وليس يعلو قرا الغبراء من أحد … ولا يكون لأضياف المنون قرى
قلت: والمنون مما اختلف فيه، فقوم يجعلونه جمعا لا واحد له وقوم يجعلونه واحدا لا جمع له.
حوادث لم تميّز فى تصرّفها … من ضيّع الحزم ممّن أكثر الحذرا
قضى وما إن قضى من لذّة وطرا … وكم قضت منه آمال الورى وطرا
(6/340)
________________________________________
وراغب عن سرير الملك فارقه … فعاضه الله من جنّاته سررا
دمع ترقرق فى الأجفان حين رقا … ولو تأخّرت البشرى إذا لجرى
لو لم يكن لدموع العين عاقلة … لأطلق الحزن دمعا طال ما أسرا
فليرغم الدّهر أنفا إنّ حادثه … أرادنا بسهاد فاستحال كرى
رزيّة جلبت نعمى وزند هدى … لم يكب إلاّ كرجع الطّرف ثمّ ورى
وصارم حمت الدنيا مضاربه … ما قيل أغمد حتى قيل قد شهرا
أئمة لم يغب فينا لهم قمر … إلاّ وأعقبنا من سنخه قمرا
وإنّ آلآءهم ما لا يحيط بها … وصف، على أنها تستنطق الحجرا
(6/341)
________________________________________
ذكر خلافة المستنصر بالله ابن الظاهر لإعزاز دين الله
وما لخص من سيرته
هو أبو عبد الله معدّ بن أبى الحسن علىّ الظاهر لإعزاز دين الله، وباقى نسبه قد تقدم.
أمّه أمّ ولد تسمى. . . .
ولد فى سنة عشرين وأربع مئة، يوم الثلاثاء السادس عشر من جمادى الآخرة بالقاهرة المحروسة.
بويع له يوم الاثنين السابع عشر من شعبان من هذه السنة.
وله من العمر يوم ولى الأمر سبع سنين وأشهر.
دبّر الملك فى بداية أمره الوزير أبو القاسم على بن أحمد الجرجرائى الأقطع المقدّم ذكره.
ثم استخدم من يأتى ذكره من الوزراء، حتى استقدم أمير الجيوش حسبما يأتى من ذكره فى تاريخه.
(6/342)
________________________________________
أقام المستنصر بالله خليفة ستين سنة وأربعة أشهر ويومان. وجرت فى أيامه أحوال وأمور ومكائد يأتى ذكرها فى سنيها.
وأقيمت له الدعوة ببغداد فى سنة إحدى وخمسين وأربع مئة، وأخرج الإمام القائم من بغداد فى نوبة البساسيرى، كما يأتى من ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
(6/343)
________________________________________
ذكر سنة ثمان وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير مدبّر الدولة أبو القاسم على ابن أحمد الجرجرائى، وهو الذى أخذ البيعة للمستنصر، وأقام بأموره فى مبتدأ أمره إلى أن وزر له بعده أبو البركات البابلى. (ص 202)
(6/344)
________________________________________
ذكر سنة تسع وعشرين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، ووزيره الجرجرائى مدبّر دولته.
وفيها استولوا بنو سلجوق على خراسان، وتوفى سلجوق وقام بأمر الملك ولده الأكبر ميكائيل <جدّ> طغريل بك الملك العادل.
وجلس على كرسى مملكة خراسان، وتفرّق إخوته بممالك البلاد، وهرب مسعود بن محمود بن سبكتكين إلى غزنة.
وفى هذه السنة كان أول مملكة آل سلجوق.
وقيل بل كان جلوس طغريل بك على سرير مملكة خراسان فى سنة ثلاثين. وقيل فى سنة إحدى وثلاثين، والله أعلم.
(6/345)
________________________________________
ذكر سنة ثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير بها الجرجرائى مدبّر الممالك المصرية وما معها.
وقيل فيها جلس طغريل بك على سرير الملك بخراسان، وعظم سلطانه وقوى ملكه وكثرت جيوشه، وهادنوه سائر الملوك المجاورة له، وهادنه وهاداه الخان الكبير ملك الترك، وملك فى هذه السنة عدّة ممالك من (ص 203) الأعمال الخراسانيّة، واتصل ملكه بطبرستان والجبل والكرج وغير ذلك.
(6/346)
________________________________________
ذكر سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير الجرجرائى بحاله.
وفيها خطب لألب أرسلان السلجوقى على المنابر.
وفيها قدم على طغريل بك رسل الخان الكبير وهدية حسنة، ومعهم رجل بغير رأس ولا عنق، ووجهه فى صدره، وعيناه كالسرح، وفمه فى صدره، وصحبته ترجمان يفهم كلامه. فأوقف بين يدى طغريل بك وسأله عن أصله، فقال على لسان الترجمان: إنه من بلاد قراطاغ، وإنه من قوم كثيرة ليس يحصى عددهم إلاّ الله، وإنّهم على شاطئ البحر المحيط، وليس لهم ملك ولا دين يرجعون
(6/347)
________________________________________
إليه، وإنهم كالوحش لا يعرفون شيئا مما يعرفونه الآدميين، وهم من نسل يافث بن نوح.
ثم إنّ طغريل بك سأل من الرسول عن ذلك الشخص فقال:
هؤلآء يسمون عندنا: باشى بق أغلى؛ معناه ابن بلا رأس.
ويحكى أنّ أصلهم كان أبوهم ضربت رقبته مظلوما فى أول زمان فعاش‍ <ت> جثته ولم يمت، فكان يمشى ويروح، وإذا جاع ظهر وريده بين كتفيه فيعلم أنّه جاع، فيطعم ويسقى. ثم إن بنوه جميعهم أتوا على هذه الصفة. وبين بلاد الخان وبلادهم سنتين جدّ فى أراضى (كذا) وجبال وأودية ورمال (ص 504) وإن الملك المحاذى لمملكة الخان الذى يقال له كمش خان بن الطرخان الكبير سيّر هديّة إلى الخان وسيّر هذا الرجل مع هديته للتعجب، فسيّره الخان إليك للتعجّب فى عظيم قدرة الخالق.
(6/348)
________________________________________
ذكر سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير الجرجرائى مستمرّا.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بأرض القيروان، ووصلت إلى إفريقية، وخسف ببعض قرى بأرض القيروان، وطلع من ذلك الخسف دخان عظيم متّصل بالعيان.
وفيها نزل ميكائيل ملك الروم عن الملك، وولّى دربى؟؟؟ فى حديث طويل.
(6/349)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وكان بمصر وباء توفى فيه جماعة من الأشراف.
وظهر بالقرافة شئ لا يعرف ما هو، حتى قيل إنه القطرب واختطف جماعة من أولاد سكان القرافة، وخافوه الناس على أولادهم، ورحل من كان يسكن القرافة. وقيل إنّه كان ينحدر من الجبل المقطّم، (ص 205) وكثرت فيه الأقوال.
وذكر أن شخص من أهل كبار مصر يسمى حميد الفوّال كان
(6/350)
________________________________________
خرج من اطفيح على حمارة له وتحته خرج فيه فول قد أحضره معه للمعيشة. فأذّنت عليه المغرب عند حلوان، فوجد امرأة مبرقعة ملتفّة برداء مسّاق (كذا)، جالسة على قارعة الطريق. فلما قرب منها كلّمته بكلام ليّن، وقالت: إنى امرأة ضعيفة وأرملة، وعندى صغار أيتام، وخرجت أستعطى لهم من قرى اطفيح حتى لا أعرف بمصر فإنى من بيت، وقد أعييت هاهنا، وأمسى علىّ الليل وأخشى من ولد زنا أو وحش يفترسنى، وأسألك أن تردفنى على دابتك إلى طرف مصر. فرقّ لها الرجل وأردفها خلفه، وهو لا ينظر إليها حياء من الله عز وجلّ.
فلم يشعر إلاّ ودابته تقمص من تحت. ثم إنها سقطت من تحته فنظرها فإذا بها قد أخرجت جوفها بمخالبها. فلما رآها الرجل كذلك لم يتمالك دون الهرب والنجاة بنفسه، واشتغلت فى الدابة عنه. ولم يزل الرجل على وجهه إلى أن دخل مصر، وهو لا يصدق بالنجاة. ثم بلغ خبره والى البلد فركب فى جمع له والرجل صحبته، وأتوا إلى المكان فوجدوا الدابة طريحة والخرج الفول إلى جانبها وقد أكل جميع جوفها.
ثم إن الناس اختشوا ذلك، وصنعوا الدروب على حارات مصر، وأوثقوا أبوابهم، ونفروا أهل ضواحى مصر.
ثم إنها عادت تتبع الموتى من الناس الطريّين فتنبش قبورهم وتمزّق أكفانهم وتأكل أجوافهم، ويأتوا أصحاب الميت فيجدون ميتهم
(6/351)
________________________________________
منبوشا موكولا (كذا) على شفير قبره. فامتنعوا الناس من الدفن بالقرافة لذلك، وعادوا يدفنون بصحراء الريدانية بظاهر باب النصر، ولم يكن قبل (ص 206) ذلك يعرف هناك مقابر.
وكثرت فى أحوال هذا الشئ الأحاديث والخرافات والأقاويل من ساير الناس أضربت عن كثير منه.
وهذا الكلام وقعت عليه من كتاب يسمى «تحفة القصر، فى عجايب مصر»، منسوبا إلى العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، وقعت عليه فى جملة معه وهو محروق أكثره، أظنه من كتب الخزانة التى احترقت، وذكر فيه من العجايب بمصر شئ كثير غير أن أكثرها مخرومة بالحريق. وهو كتاب حسن بخط منسوب جيّد التذهيب، وهو تأليف خليفة مطّلع فاضل لا يجمع فيه غير ما ثبت عنده.
وذكر فيه العروس التى كانوا أهل مصر يهدونها فى كل عام للنيل، وذلك فى الوقت الذى يرمون فيه إصبع الشهيد، وأن لم يزل ذلك مستمرّا عند القبط إلى حين ملكت المسلمين. فكتب بذلك عمرو ابن العاص إلى الإمام عمر بن الخطاب رضى الله عنه. فأنفذ الإمام عمر ورقة أو قال قطعة من أدم مكتوب فيها بخط يده أو قال بخط الإمام على بن أبى طالب كرّم الله وجهه.
(6/352)
________________________________________
هكذا ذكر صاحب هذا الكتاب أن الورقة كانت قطعة من أدم بخط الإمام علىّ عليه السلام يقول فيها:
بسم الله الرّحمن الرحيم أمّا بعد:
أيّها النيل المبارك. إن كنت تجرى بأمر الله فاجر لما أمرك الله، نفع الله بك.
قال: ورميت هذه الورقة عوضا عن تلك العروس التى كانوا يزينوها ويلبسوها أفخر الملابس ويرمونها، قال: فكان النيل فى تلك السنة أعمّ من كلّ نيل كان من قبله. فاستمر ذلك.
وذكر فى هذا الكتاب من عجايب مصر وكهنتها وسحرتها بصعيدها وبرابيها وعمايرها أشياء كثيرة، أكثرها مخرومة (ص 207) بالحريق الذى حصل فى الكتاب، وآمل أنى أذكر بعض شئ فى هذا التاريخ من عجايب هذا الكتاب ممّا له أول وآخر بغير خرم إن شاء الله تعالى.
على أنى قد ذكرت فى أول جزء من هذا التاريخ من أحوال مصر ما فيه الكفاية، لما تضمنه ذلك الجزء الأول من العجايب التى لم تقع لأحد من قبل من أرباب التواريخ، وذلك لما كنت أيضا وقعت عليه من الكتاب القبطى الذى وجدته بالدير الأبيض بالوجه القبلى واستنسخت منه ما ضمنته لذلك الجزء، والواقف عليه يعلم صحة الدعوى إذا لم ينظر بعين الهوى.
(6/353)
________________________________________
ذكر سنة أربع وثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وسبعة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير الجرجرائى بحاله، وكذلك القاضى أبو الفتح عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقى.
وفيها فتح معزّ الدولة ثمال بن صالح بن مرداس حلب وملكها، وهو الثانى من ملوك بنى مرداس بحلب.
وفيها ولد بصنعاء اليمن مولود عن عشرين شهرا كأطول ما يكون من المولودين، وعيناه كالشرج وهلكت أمه.
وفيها كانت الزلزلة العظيمة بتوريز فهدمت قلعتها وسورها ودورها، وأحصى عدة من هلك تحت الردم من الناس فكانوا نيف وخمسين ألفا. وإنّ أميرها لبس السواد و <جلس على> المسوح لعظم هذه النازلة. ذكر ذلك صاحب «تاريخ بغداد» وعدّها من النوازل العظام والنكت الغريبة والمصيبة العميمة (ص 208).
(6/354)
________________________________________
ذكر سنة خمس وثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع واثنان وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير الجرجرائى بحاله.
وفيها دخلت الأتراك الموصل ولم يكن قبل ذلك دخلوها. فكان ذلك أول دخولهم.

ذكر سنة ست وثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثمانية أذرع وسبعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
(6/355)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر.
وفيها توفى الوزير الجرجرائى المقدّم ذكره. وتولّى الوزارة تاج الرياسة أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحى، وكان يهوديا فهداه الله تعالى للإسلام، والقاضى عبد الكريم بحاله.
وفيها ظهر بحمص رجل كذّاب وادّعى النبوة، وأنه من ولد مسيلمة الكذّاب. فقتله صاحب حمص وصلبه، وقتل جماعة كانوا قد تبعوه على الضلالة.

ذكر سنة سبع وثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وسبعة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا عشرون إصبعا.
(6/356)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث (ص 209)
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وقبض على الوزير تاج الرياسة صدقة ثم قتل.
وتولّى الوزارة بعده ظهير الأئمة أبو البركات الحسين بن عماد الدولة محمد، وهو أخو الوزير الجرجرائى. فأقام إلى سنة إحدى وأربعين وأربع مئة كما يأتى.

ذكر سنتى ثمان وتسع وثلاثين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لثمان ستة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع.
الماء القديم لتسع سبعة أذرع وعشرة أصابع مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
(6/357)
________________________________________
ذكر سنة أربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين.
وفيها دخل البساسيرى بغداد وملكها من قبل المستنصر خليفة مصر، وأمر بنهب القصر ساعة، ثم كفّ عنه، وأخرج الإمام القائم بالله راكبا على فرس أدهم، وعليه حلّة سوداء وعمامة سوداء.
فنزل ووقف بين يدى البساسيرى. ثم أمر بقتل الوزير وقاضى القضاة فقتلا. وخطب للمستنصر خليفة مصر فى بغداد. وكان ذلك فى شهر رجب من هذه السنة فى حديث طويل جدا هذا ملخصه.
وقيل: إنما أقيمت دعوة المستنصر ببغداد فى سنة إحدى وخمسين وأربع مئة، وهذا فرط كثير بين التاريخين، والقريب من الصحيح أنّ ذلك كان فى هذه السنة والله أعلم. (ص 210)
(6/358)
________________________________________
ذكر سنة إحدى وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر. وقبض على الوزير أبى البركات فى شوّال.
وكان قد كثر جوره وظلمه وعسفه، وتسلّط على أخذ أموال الناس بالجور والمصادرات.
وفيها صرف القاضى أبو محمد القاسم ابن النعمان وتولّى القضاء مكانه أبو محمد الحسن بن على اليازورى، ثمّ تولّى النظر والتدبير فى مصالح الدولة أبو الفضل صاعد بن مسعود.
وفيها كان مطر بتمّوز فى القيظ وبرد، ونزل مع المطر ضفادع ورمل أصفر، أقام كذلك يوم كامل، وأكثر ما كان كذلك بدمشق.
(6/359)
________________________________________
ذكر سنة اثنين وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة سبعة عشرة ذراعا وستة عشرة إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر.
وفى المحرّم من هذه السنة صرف أبو الفضل صاعد بن مسعود عن النظر.
ووزر أبو محمد الحسن بن على اليازورى القاضى، وجمع له بين القضاء والوزارة.
وهذا القاضى كان أبوه من أهل يازور، وهى ضيعة من عمل الرملة، فترقّى به الحال حتى ولى هاتين الرياستين، (ص 211) وكان
(6/360)
________________________________________
فاضلا، لا يستبدّ برأيه، ولا يأنف من مشاورة ثقاته. وكان إذا ركب يغمض عينه الواحدة فقط لفرط حيائه. هكذا ذكر القاضى ابن خلّكان. وولى الوزارة فى السابع من المحرم من هذه السنة، واستخلف ولده الأكبر فى الحكم، وهو أبو الحسن محمد، ولم يزل أمره مستمرّا حتى قبض عليه فى تاريخ ما يأتى من ذكره إن شاء الله.
(6/361)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا. واثنا عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير أبو محمد الحسن بن على اليازورى القاضى.
وفيها فتح السلطان ركن الدين طغريل بك بن سلجوق إصبهان وكرمان، واتصل سلطانه بتلك الديار إلى ما وراء النهر وغيره.

ذكر سنة أربع وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.
(6/362)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير القاضى اليازورى مستمرّا.
وفيها ولدت بغلة بنابلس بغل أبيض ومهرة، وهما فى بطن واحد. ذكر ذلك العاضد فى كتابه «تحفة القصر فى عجايب مصر» والله أعلم. (ص 212)

ذكر سنة خمس وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، والوزير القاضى اليازورى مستمرا على الحكم والوزارة.
(6/363)
________________________________________
ذكر سنة ست وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم.
المستنصر خليفة مصر، والوزير القاضى اليازورى بحاله.
وفيها ظهر ناووسا بمدينة حمص، وفيه ميت، وفى رأسه ضربة ويده على رأسه. فإذا رفعوا يده عن رأسه يقطر الدم من تلك الضربة، وإذا أعادوا يده عليها انقطع الدم. فقال المسلمين: هذا منا. وقال النصارى: هذا منا. فحرّروا أمره فوجدوه من أصحاب الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. فأخذوه المسلمين ليحفروا له
(6/364)
________________________________________
ويدفنوه ويبنوا عليه مسجدا، فسرقوه النصارى ورموه فى العاصى.
وفيها دخل السلطان ركن الدين طغريل بك ابن سلجوق بغداد وقتل الملك العزيز بن بويه الديلمى، وهو آخر ملوك بنو بويه.
وانقرضت دولتهم حتى كأنهم ما كانوا، واستولى على دار السلطنة ببغداد طغريل بك بن سلجوق، وهو أوّل ملوك آل سلجوق (ص 213) ببغداد، ثم استمرّ حكمهم على حكم الخلفاء بأعظم مما كانوا عليه بنو بويه.
(6/365)
________________________________________
ذكر عدّة الملوك من بنى بويه
الذين ملكوا بغداد
فأولهم: معزّ الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه.
الثانى: عزّ الدولة أبو منصور بختيار ولده.
الثالث: عضد الدولة أبو شجاع فنّاخسرو بن ركن الدولة.
ثم ولده صمصام الدولة أبو كاليجار.
الرابع: شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيك ولد عضد الدولة أخوه. <صمصام الدولة>
الخامس: بهاء الدولة أبو نصير فيروز خره أخوهما.
السادس: سلطان الدولة أبو شجاع فناخسرو بن بهاء الدولة.
(6/366)
________________________________________
السابع: جلال الدولة أبو طاهر فيروز خره بن بهاء الدولة.
الثامن: [عماد الدولة] الملك أبو كاليجار [المرزبان] ابن سلطان الدولة.
التاسع: الملك الرحيم أبو نصر بن أبى كاليجار.
العاشر: شرف الدولة أبو على الملك العادل تغلبك.
الحادى عشر: الملك العزيز صمصام الدولة المورانى آخرهم وهو الذى قتله السلطان بركوب طغريل بك بن سلجوق حسبما ذكرناه والله أعلم.
(6/367)
________________________________________
ذكر سنة سبع وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وستة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين.
وسلطان بغداد طغريل بك بن سلجوق، وجلس ألب أرسلان ابن سلجوق على تخت الملك بخراسان.

ذكر سنة ثمان وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر إصبعا.
(6/368)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وسلطان بغداد طغريل بك.
وفيها كان الوباء والقحط ببغداد والشام ومصر وساير الدنيا، حتى كانوا الناس يأكلون الميتة. وهبط نيل مصر سريعا قبل الانتفاع به، وكان أول الغلاء العظيم بمصر كما يأتى من ذكره فى تاريخه. وكان مع الغلاء وباء عظيم لم يعهد بمثله، حتى كان يموت ببغداد فى كلّ يوم ما يزيد عن خمسين ألف نفس. ثم ارتفع من الشرق ووقع بديار مصر، كما يأتى من ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة تسع وأربعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وسلطان بغداد طغريل بك بن سلجوق.
(6/369)
________________________________________
وفيها بلغ الخبز ببغداد كلّ اثنى عشر رغيفا بدينارين، واشتد بالناس الغلاء والقحط حتى كادوا الناس يفنوا جميعا.
وفيها توفى أبو العلاء [أحمد بن عبد الله] بن سليمان المعرّى الشاعر صاحب كتاب «سقط الزند»، وسيأتى ما استطرف من شعره الداخل فى طبقتى المرقص والمطرب آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة خمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام.
والمستنصر خليفة مصر، وقبض على الوزير القاضى اليازورى ونفى إلى مدينة تنّيس وقتل بها.
(6/370)
________________________________________
وفيها اشتدّ الغلاء بمصر وكثر الوباء، وكان يموت فى كلّ يوم مما يحصيه ديوان المواريث نحو العشرة آلاف خارجا عمن لا يعرف من صعاليك الناس. وبلغ القمح بثمان الدنانير عين مصرية الأردبّ المصرى، وبلغ الشعير والفول خمسة دنانير والحمص تسع الدنانير.
وروى أنّ بمصر درب فيه عدة دور مساكن يعرف بدرب طبق. وإنما يعرف بذلك لأنّه أبيع فى هذه السنة بطبق من خبز، والدور التى فيه تساوى ألوف عدة، وبمصر أيضا دارا تسمّى دار رغيف، أبيعت أيضا فى غلاء المستنصر، وهو فى هذه السنة المذكورة، برغيف خبز، وأكل الناس فى هذه الأيّام جلود الكتب، وعاد الكلاب يدخلون (كذا) بيوت الناس فيأكلون (كذا) الولد قدّام أبوه وأمه، وليس فيهم من المنعة أن يمنعوه (كذا) عن ذلك.
وعاد الحمام والعصفور واليمام وما شاكل ذلك يتساقط ميتا من الجوع، ولا يجد ما يأكله. وإنّ المستنصر انحلّ أمره وضعف سلطانه وتقهقرت دولته، حتى إنه ترك القصر وخرج إلى الجامع
(6/371)
________________________________________
الأزهر، وجلس فى المقصورة التى على يمين المدخل من باب الأعمدة.
ولم يزل أمره كذلك حتى أتاه (ص 216) بدر الجمالى المستنصرى المعروف بأمير الجيوش، وكان عبدا أرمنيا اشترى بثلاثة عشر دينارا، ولم تزل تترقى به الأحوال إلى أن نعت بأمير الجيوش حسبما يأتى من ذكره فى تاريخ دخوله مصر.
وفى هذه السنة تولّى الوزارة بالديار المصرية عميد الخلافة عبد الله ابن محمد البابلى فى المحرّم منها، ثم صرف بعد مدّة شهرين وأربعة عشر يوما.
ثم وليها أبو الفرج محمد بن جعفر المغربى فى شهر ربيع الآخر.
وولى القضاء فى هذه السنة القاضى أبو على أحمد بن عبد الحاكم فى ثالث وعشرين صفر. ثم صرف فى تاسع ذى الحجة.
وولى القضاء عبد الحاكم بن وهيب بن عبد الرحمان.
وفيها عاد البساسيرى ودخل الموصل وخطب للمستنصر بها.
(6/372)
________________________________________
ذكر سنة إحدى وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وطغريل بك بن سلجوق سلطان بغداد والمشرق بكماله، مع خراسان إلى ما وراء النهر، إلى حدّ الصين الأعلى فى ممالكهم.
والمستنصر خليفة مصر؛ والوزير [محمد] بن جعفر المغربى، والقاضى بحاله.
وفيها قصد البساسيرى بغداد، وخرج إليه طغريل بك وضرب معه مصافا وكسره وانهزم البساسيرى.
(6/373)
________________________________________
ذكر سنة اثنين وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 217)
الماء القديم خمسة أذرع واثنان وعشرين إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وطغريل سلطان بغداد.
والمستنصر خليفة مصر. وصرف الوزير ابن جعفر المغربىّ فى شهر رمضان. وكانت العادة أنّ الوزراء إذا صرفوا لم يتصرّفوا بعد الوزارة فى عمل ولا خدمة إلاّ إن أعيد (كذا) إلى الوزارة. فاقترح هذا الوزير المغربى عند صرفه وسأل أن يولّى بعض الدواوين. فولّى ديوان الإنشاء. ثم صارت عادة فى استخدام الوزراء بعد الصرف. وسئل عن سبب سؤاله فى توليته فقال: فعلت ذلك حقنا لدمى ودم جميع من سار هذا السير من الوزراء.
ثم تولّى الوزارة بعده أبو الفرج [عبد الله بن محمد] البابلىّ المقدّم ذكره.
وفى الحادى عشر من رجب صرف القاضى عبد الحاكم بن وهيب، وولّى القضاء مكانه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى.
وفيها كانت زلازل وخسف.
(6/374)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة.
الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وطغريل بك سلطان بغداد.
والمستنصر خليفة مصر، وصرف الوزير البابلى.
وولى الوزارة بعده بالديار المصريّة عز الدين عبد الله بن يحيى ابن مدبّر، وذلك فى شهر صفر من هذه السنة. ثم صرف فى شهر رمضان.
وولى (ص 218) الوزارة فخر الوزراء قاضى القضاة عبد الكريم ابن عبد الحاكم ابن سعيد الفارقى فى شهر رمضان المذكور.
وفيها توفى القاضى أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى سادس ربيع الأول. وولى القضاء أبو على أحمد بن عبد الحاكم فى الرابع والعشرين من الشهر المذكور.
(6/375)
________________________________________
ثم صرف فى الرابع من رجب، وأعيد الحاكم بن وهيب ولايته الثانية.
ثم صرف فى الحادى عشر من رمضان، وأضيف الحكم فى القضاء إلى الوزير عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقى.
وفيها كسفت الشمس بعقدة الرأس، وظهرت النجوم، والله أعلم.

ذكر سنة أربع وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وطغريل بك سلطان بغداد.
والمستنصر خليفة مصر.
وفى المحرّم منها ولى القضاء أبو على بن عبد الحاكم ولايته الثانية، ثم صرف فى الثانى والعشرين من صفر.
وولى بعده عبد الحاكم بن وهيب الولاية الثالثة، فى شهر صفر.
(6/376)
________________________________________
ثم ولى الوزارة أبو على أحمد بن عبد الحاكم الذى كان قاضيا، فأقام فيها سبعة عشر يوما وعزل.
وولى الوزارة مكانه معزّ الدين أبو عبد الله الحسين بن سديد الدولة الملقب بذى الكفايتين، فى الثانى من ربيع الأوّل. وكان فى وزارته وقعة القصر المعروفة بين العبيد والأتراك، وكانت فتنة عظيمة.
ثم صرف فى شعبان.
وولى الوزارة بعده جلال الملك أبو الفرج بن عبد الله البابلى وهى وزارته الثالثة. ثم طلب الإعفاء فأعفى.
وولى بعده (ص 219) الوزارة أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم ولم يزل إلى السنة الأخرى.
(6/377)
________________________________________
ذكر سنة خمس وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وطغريل بك بن سلجوق بحاله.
والمستنصر خليفة مصر، وصرف الوزير ابن عبد الكريم.
وولى الوزارة تاج الرياسة أبو غالب عبد الظاهر بن فضل المعروف بابن العجمى، وذلك فى جمادى الأولى، وصرف بعد ثلاثة أشهر.
وولى بعده قاضى القضاة الحسن ابن القاضى ثقة الدولة المعروف بابن أبى ذكيّة فى شعبان، وصرف فى ذى الحجة.
وفيها صرف القاضى ابن وهيب فى سادس عشر المحرّم.
وولى وأعيد ابن عبد الكريم، وهى الولاية الرابعة. ولم يزل إلى أن قبض عليه فى السابع عشر من ربيع الأول.
ثم أعيد عبد الحاكم بن وهيب ولايته الرابعة.
وفيها توفى السلطان ركن الدين طغريل بك بن سلجوق إلى رحمة الله تعالى. وكانت قد زفت له ابنة الإمام القائم بالله، وكانت وفاته بالرىّ.
وجلس بالمملكة السلجوقية ألب أرسلان بن سلجوق.
(6/378)
________________________________________
ذكر سنة ست وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر (ص 220) خليفة مصر.
وولّى الوزارة ذخيرة الملك أبو المكارم أسعد، وذلك فى صفر، وصرف فى ربيع الأوّل.
ثم أعيد إلى الوزارة أبو غالب بن العجمى، وهى الوزارة الثانية، فى الشهر المذكور، ثم صرف بعد ثلاثة أشهر.
وولى العميد علم الكفاة أبو على الحسين بن إبراهيم بن سهل التسترى. وكان يهوديّا فأسلم. فأقام فى الوزارة عشرة أيام واستعفى فأعفى.
(6/379)
________________________________________
ثم ولى الوزارة محمد بن هبة الله الرغبانى بقية هذه السنة. وجميع هذه الأحوال مع فتن وشرور وعدم تدبير وانحلال أمر مصر، فى أشدّ ما يكون من سوء الحال، وكلّ من قوى على صاحبه أكله، ولا يجد من يشتكى إليه، حتى كثير من المساتير نهبوا. وعادوا الناس فى بيوتهم لا يخرجون إلا لضرورة قادحة، لعدم من يشار إليه، هذا مع غلاء الأسعار وعدم الجالب من سائر الأصناف، وتأخرت التجّار، وانقطع الكارم.
(6/380)
________________________________________
ذكر سنة سبع وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام.
والمستنصر خليفة مصر، وعزل الوزير الرغيانى المقدم ذكره، وولى الوزارة الأثير كافى الكفاة أبو الحسن علىّ بن الأنبارى.
وتزايد الأمر فى فساد الأحوال وقلّة الحرمة جدا، حتى إن ولاة الأعمال استبدّ كلّ أحد بما فى يده، ولا عاد يرجع بما يؤمر به من قبل الخلافة، وانحلّ نظام الملك إلى الغاية القصوى، والرعايا تحت لطف الله عزّ وجلّ (ص 221)
(6/381)
________________________________________
ذكر سنة ثمان وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام.
والمستنصر خليفة مصر. وصرف الأنبارى، وولى الوزارة علم الدين أبو على الحسن الماشكى، وذلك عند استحكام فساد الدولة.
وقلّت الهيبة واختلّ النظام إلى الغاية. فأقام أيام قلائل ثم صرف.
وولى الوزارة بعده أبو شجاع محمد ابن فخر الملك أبى غالب محمد ابن الأشرف البغدادى. وكان قد وصل إلى مصر. فتقرّرت له الوزارة. وكان والده قد وزر لبهاء الدولة أبى نصر ابن عضد الدولة فناخسرو ابن بويه سلطان بغداد.
(6/382)
________________________________________
قلت: وهذا فخر الملك جرت له حكاية مستطرفة أيام وزارته لبهاء الدولة المذكور، وذلك أنه كان فاضلا أديبا يحب المديح ويجيز عليه. فقدم عليه أعرابى من البادية وامتدحه بأبيات، فلم يلتفت إليه فخر الملك ولا عبأ به، ولا أجازه بشئ.
وكان فى عصره ابن نباته السعدى الشاعر المشهور وهو غير ابن نباتة صاحب الخطب البليغة.
قال راوى هذه الحكاية: وكان ابن نباتة الشاعر المذكور ذو نباهة ورياسة، وهو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد ابن نباتة بضم النون التميمى السعدى. فلم يشعر وهو جالس على باب داره بين حفدته وجلسائه إلاّ وذلك الأعرابى وبصحبته رسول من جهة قاضى الحكم يطلب ابن نباتة إلى مجلس الحكم، أو يخرج من حق ذلك الأعرابى. فلما رآه ابن نباته لم يعرفه، وتعجّب من ذلك، فإنّه لم يكن قطّ رآه قبل تلك الساعة. فقال له: يا أخا العرب! مالى ولك؟ هل تعرفنى قط قبل اليوم؟ هل علىّ من طلب أو دين؟
فقال الأعرابىّ: أطالبك أصلحك الله بضمان لم تف به. فقال:
وما هو؟ فقال ألست القائل:
لكل فتى قرين حين يسمو … وفخر الملك ليس له قرين
(6/383)
________________________________________
أنخ بفنائه واحلل عليه … على حكم المنى وأنا الضمين
فقال ابن نباته: بلى والله، أنا القائل ذلك.
فقال الأعرابى: فإننى قطعت إليه من بادية أرض كذا، وسرت كذا ليلة، وامتدحته بكيت وكيت فلم يلتفت إلىّ، ولا أجازنى بشئ.
وأنت الضامن وعليك الغرامة.
قال: فأعجب ابن نباتة من الأعرابىّ ذلك. وقال: ارفع الرسول ولك الرضا. وركب لوقته بصحبة الأعرابى، وأتى إلى فخر الملك وقصّ عليه خبر الأعرابى فاستملحه ووصله فوق أمله.
قلت: نسخت هذه الحكاية من مجموع. وابن نباتة هذا كان معاصر سيف الدولة ابن حمدان. وهو من الشعراء المعدودين فى الطراز المذهب من شعراء المئة الرابعة. وله فى سيف الدولة ابن حمدان نخب القصائد. فمن ذلك وقد أنعم عليه بفرس أدهم أغرّ محجّل فقال:
يا أيّها الملك الذى أخلاقه … من خلقه ورواؤه من رأيه
قد جاءنا الطرف الذى أهديته … هاديه يعقد أرضه بسمائه
ومنها ولعله معنى مبتكر:
فكأنّما لطم الصباح جبينه … فاقتصّ منه فخاض فى أحشائه
متمهّلا والبرق من أسمائه … متبرقعا والحسن من أكفائه
لا تعلق الألحاظ فى أعطافه … إلاّ إذا كفكفت من غلوائه
ما كانت النيران تمكن حرّها … لو كانت النيران بعض ذكائه
(6/384)
________________________________________
لا يكمل الطرف المحاسن كلّها … حتى يكون الطرف من أسرآئه
ولعمرى لقد أجاد فى وصفه. وأحسن منه قول الآخر يصف فرسا:
خير ما استطرف الفوارس طرف … كل طرف لحسنه مبهوت
هو فى الجوّ عقاب وفى ال‍ … جبال وعل وفى المعابر حوت
فوصفه بأعظم ما فى الأربعة حيوانات (كذا).
وكلّ ذلك يقصر عن قول امرئ القيس:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا … كجلمود صخر حطّه السيل من عل
وهذا من التغالى والإعنات الذى لا يمكن أن يكون أبدا لقوله معا. فإنّ معا تكون فى وقت واحد لا يفرق بينهم شيئا. حتى لو كان بين الحالتين طرفة جفن لم يكن معا، فلذلك أنه لا يمكن ذلك. والله أعلم.

ذكر سنة تسع وخمسين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
(6/385)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وصرف الوزير ابن فخر الملك البغدادى.
وولّى الوزارة بعده أبو الحسن طاهر بن زبر من أهل طرابلس الشام، وصل إلى مصر وخدم كاتبا فى ديوان الإنشاء. فتقرّرت له الوزارة فأقام أيّاما وانصرف.
وولى بعده العادل شمس الأمم أبو عبد الله محمد (ص 224) ابن أبى حامد التنّيسى. وصل إلى مصر زمن الفتن فاستقرّت له الوزارة يوما واحدا ثم قتل.
وولى بعده عميد الخلافة أبو سعيد منصور المعروف بابن زنبور.
فأقام فى الوزارة أيام قلايل، ثم طالبوه الجند بأرزاقهم فوعدهم وهرب مع اللواتين وبطل أمره.
ثم ولى بعده مكين الدولة أبو العلاء عبد الغنى نصر بن سعيد الضيف. ونظر فى الأمور وساطة لا وزارة، إلى أن وصل بدر الجمالى أمير الجيوش.
هذا والغلاء مستمرّا، والهيبة ساقطة والنظام محلول.
(6/386)
________________________________________
ذكر سنتى ستين وإحدى وستين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لستين أربعة أذرع وثلاثة أصابع.
ملبغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة أصابع.
الماء القديم لإحدى وستين ستة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
فى سنة ستين وأربع مئة زلزلت فلسطين زلزلة عظيمة.
وتوفى أبو جعفر الطوسى فقيه الشيعة.
والغلاء مستمرّا بمصر وعدم التدبير موجود.
فى سنة إحدى وستين وأربع مئة كثر الوخم والوباء بمصر، وعاد الطير المعروف بالرخم كثيرا جدا، حتى عاد فى سائر دور مصر يطرد فلا يبرح.
وعاد الناس يطلع فى حلوقهم صفة التخمة فيموتون بها. فقيل سنة الوخم والرخم والتخم. فنعوذ بالله من أنظارها.
(6/387)
________________________________________
ذكر سنة اثنين وستين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط (ص 225)

<ما لخّص من الحوادث>
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وناظر الدولة أبو العلاء بحاله.
وفيها أحرق جامع دمشق. وفتحت الروم منبج، وتسلّم اقسيس دمشق من المصريّين.
وفيها أشار صاحب حلب بالخطبة لبنى العباس. فلّما كان يوم الجمعة خرج الخطيب والمؤذنون السواد عليهم، فلما رأوهم الناس
(6/388)
________________________________________
ارتاعوا لذلك، فإنّ عهدهم كان بعيدا من ذلك. فلما ذكر الإمام القائم نفروا وخرجوا من الجامع بغير صلاة. فلما كان الجمعة الأخرى رتّب محمود [بن صالح] صاحب حلب جماعة على أبواب الجامع، وقال لهم: من خرج من الجامع ولم يصلّ اقتلوه. ثم خطب الخطيب وصلّى الناس من تحت القهر.
ثم إنّ العامة تعاونوا وأخذوا حصر الجامع وقالوا: هذه حصر علىّ بن أبى طالب فأحضروا لأبى بكر وعمر وعثمان حصر. وأقام الناس مدة طويلة يصلّون على الأرض بغير حصر، والله أعلم.
(6/389)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث وستين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام.
والمستنصر خليفة مصر، وناظر دولته أبو العلاء عبد الغنى بحاله.
فيها فتح تاج الدولة دمشق. وفتحت الروم صقلية وأخذوها من المسلمين.
وفيها كانت الوقعة العظيمة بين السلطان ألب أرسلان السلجوقى وبين ملك الروم.
وذلك أنّ ألب أرسلان لما توجّه من همدان فتح أرجيش وقصد (ص 226) مناز كرد إلى ميّا فارقين. فنزل بتلّ بغداد.
(6/390)
________________________________________
وكان يومئذ مدبّر الممالك الخليفية الوزير نظام الملك نصر بن مروان، فخرج إليه وهو خائف يترقّب. فلما حضر بين يديه قرّر عليه مئة ألف دينار يحملها وخلع عليه.
ثم إنّ نظام الملك أخرج للسلطان من الإقامات والتقادم والعلوفات شئ كثير. وكان ذلك على ميّافارقين. فبلغ السلطان أنّ جميع ذلك إنما أخذه الوزير نظام الملك من أموال الرعّية. فردّ الجميع عليه، وقال: ما لنا فى أموال الرعيّة من حاجة. وأمره بردّه على أصحابه، فأعاده، حتى قيل إنه ردّ على فلاح بيضة كانت أخذت منه.
ثم حمل نظام الملك الإقامات للسلطان من ماله وصلب حاله.
ثم إنّ السلطان ألب أرسلان فتح السويدا وحصون كثيرة إلى حرّان، ثم نزل على الرّها، ونصب المناجيق، وردم خندقها.
فبذلوا له خمسين ألف دينار على أن يعفيهم، فكفّ عنهم، ثم غدروا ولم يوفوا. ورحل السلطان طالبا للفرات، وتقاعدت عنه العساكر الذين كانوا من العراقين، وهو عسكر عمّه طغريل بك المقدّم ذكره، وخبثت نفوسهم لأجل تأخير أرزاقهم، ونزل على الفرات فى شرذمة يسيرة الخصّيصين به من عسكره. فلم يحفل به محمود صاحب حلب، ولا نزل إليه. فأضربت العساكر فى بلاد حلب تنهب، ووصلوا إلى القريتين من عمل دمشق أيضا. ثم نزل على حلب وحاصرها، فأرسل
(6/391)
________________________________________
إليه محمود يطلب الموادعة، ووعده أن يدوس البساط. ثم إنّه خرج إليه فى الليل ووالدته معه ومسكته بيده وقدّمته للسلطان ألب أرسلان الملك العادل. وقالت: يا خوند هذا ولدى ومهجة فؤادى قد سلمته إليك افعل فيه (ص 227) ما أحببت من جميل إحسانك. فرقّ لها وأكرمها وطيّب قلب ولدها. وقال: خد والدتك وعود إلى مكانك، وأخرج من الغد لترى ما أفعله معك. فعاد من الغد. فأمر الوزير نظام الملك والحجّاب أن يتلقوه، ودخل على السلطان فأكرمه وأجلسه وأخلع عليه بما يليق بمثله، وأنعم عليه بالخيول بالمراكب الذهب، وركّبه بالكوسات والصناجق.
ثم وردت الأخبار على السلطان ألب أرسلان أنّ ملك الروم خرج فى جموع عظيمة، وورد إلى منبج وأرجيش ومناز كرد. فرجع السلطان. وعدّا الفرات. وبلغ ملك الروم أنّ السلطان فى عسكر خفيف. فطمع فى لقائه. ووصل الخبر إلى السلطان بما عزم عليه ملك الروم وطمعه فيه لقلّة جيوشه. وكان قد بقى فى أربعة آلاف فارس.
فقال لوجوه عسكره: أنا صابر فى هذه الغزاة صبر المحتسبين، وصابر إلى مصير المخاطرين. فإن سلمت فذلك ظنّى بالله تعالى، وإن تكن الأخرى فأنا أعهد إليكم أن تسمعوا وتطيعوا لولدى ملك شاه، وتقيموه مقامى. فقالوا: سمعنا وأطعنا. وقصد الروم جريدة، مع كلّ غلام فرس يركبه وآخر يجنبه. وسار بنيّة خالصة لا يخالطها كدر لغزاة المشركين وقدّم قدّامه أحد حجّابه فى جماعة من الجند. فصادف عند
(6/392)
________________________________________
أخلاط مقدمة الروم فى عشرة آلاف من الروم، فالتقاهم ذلك الحاجب، وكان فى ثمان مئة فارس. فنصره الله عزّ وجل على تلك الجموع بمعونة الله تعالى، وأسر مقدّم الجيش وكان من الرءوس، وأخذ صليبهم وأنفذ الجميع إلى السلطان. فسرّه ذلك وعلم أنها علامة النصر.
ووصل ملك الروم إلى مناز كرد فى تلك الجموع العظيمة مما يزيد (ص 228) عن مئة ألف فارس، ومئة ألف جرخى، وأربع مئة عجلة تجرّها ثمان مئة جاموسة، عليها نعال ومسامير برسم الخيول، وألف عجلة أخرى عليها السلاح والمناجيق وآلات الحصار. وكان فى خزائنه ألف ألف دينار، ومئة ألف ثوب إبريسم. وخرج فى نيّة أنه يطأ الأرض ويفتح مصر والشام. واقتطعها للبطارقة. وأوصى على بغداد وقال: لا يتعرّض أحد إلى دار الشيخ الصالح، يعنى الخليفة، فإنّه صديقنا.
وكان قد اجتمع مع السلطان ألب أرسلان تقدير عشرة آلاف من الأكراد والمجتمعة من سائر الناس. فلما كان نهار الجمعة قال السلطان وقد جمع وجوه أصحابه: إلى متى هذا التأخير؟ أريد أن أطرح نفسى عليهم هذا اليوم وقت الصلاة الذى الناس جميعهم من المسلمين يدعون لنا بالنصر على المنابر. فإن نصرنا الله عزّ وجلّ عليهم وإلاّ متنا شهداء.
فمن أحبّ أن يتّبعنى فليتّبع، ومن أحبّ الحياة فلينصرف ولا عتب عليه. فما هاهنا اليوم سلطان، وإنما أنا واحد منكم.
(6/393)
________________________________________
فقالوا جميعهم: لا حياة لنا بعدك، ومهما اخترته لنفسك اخترناه لأنفسنا.
فلما كان وقت الصلاة اصطفت العسكرين. فعندها قام السلطان فى سرجه ورمى القوس من يده؛ وتناول لتّ حديد. وفعل جميع أصحابه كفعله. وصاح. الله أكبر فتح الله ونصر. وحمل على الروم حملة صادقة، وحملوا جميع أصحابه بقلوب موافقة، فلم يقفوا الروم قدّامهم ولا طرفة عين لتلك الحملة المنكرة. ونصر الله الإسلام وكسروا عبدة الصلبان والأشخاص والأصنام، وركبوا أكتافهم قتلا وأسرا، وتبعهم السلطان بقيّة يوم الجمعة مع ليلة السبت (ص 329) وهو يقتل ويأسر، فلم ينج منهم إلاّ القليل النادر. وغنم جميع ما كان معهم، ورجع إلى مكانه. فدخل عليه بعض الأمراء الذى له وقال: إنّ أحد مماليكى أسر ملك الرّوم. وكان هذا المملوك قد أعرض على نظام الملك فاحتقره ولم يجيز عرضه وأسقطه، وقال مستهزئا به:
لعلّه يأتينا بملك الروم! فأسر الله ملك الروم على يده لكسر قلبه.
فأمر السلطان بعض الخدّام الذين عنده ممن كان يعرف ملك الروم أن يتوجّه ويكشف عن حقيقة أمره فلما رآه عرفه. فعاد إلى السلطان وأخبره بذلك. فأمر له بخيمة فضربت له، ووكل به من يحفظه،
(6/394)
________________________________________
وأحضر السلطان الغلام الذى أسره وأخلع عليه وأعطاه وقدّمه، وأقطعه غزنة، وجعله من خاصّته.
ثم إنّ السلطان أحضر ملك الروم يرفل بقيوده. فرفسه برجله.
ثم قال له: ما الذى تريدنى أفعل بك؟ قال: إحدى من ثلاث:
الأولى قتلى وإعدامى الحياة. والثانية إشهارى وسجنى، والثالثة:
لا فائدة من ذكرها فإنّك لا تفعلها. قال السلطان: وما على؟ قال:
تعفو عنى وتصطنعنى وتتّخذنى خادما ما بقيت من عمرى. فقال السلطان:
إنى لم أنو إلاّ العفو عنك. فاشتر الآن نفسك. فقال: يقول السلطان ما شاء. فقال: ألف ألف دينار. ثم استقرّ بينهما الحال على ما أحبّ السلطان وهو ألف ألف دينار، وللهدنة ثلاث مئة ألف.
وأن يسيّر فى كلّ سنة عشرين ألف دينار، وأن يتقدّم إلى عساكر الروم بجميع ما يحتاج إليه المسلمون من سائر ما فى بلاد الروم. ثم حلّ وثاقه وأخلع عليه ونصب له سرير إلى جانب سريره. فقال ملك الروم: عجّل بإنفاذى (ص 230) قبل أن تقيم الروم لهم ملكا غيرى.
فقال له السلطان: أريد أن تعيد إلينا ما أخذته من بلادنا، وهو الرّها ومنبج، ومناز كرد، وتطلق سائر أسير عندك من المسلمين.
فقال: أمّا البلاد فإذا وصلت سالما إلى بلدى أنفدت بتسليمها إليكم.
فإنّ الآن لا يسمعون منى. وأمّا أسارى المسلمين فإنى فكنت عاهدت
(6/395)
________________________________________
الله عزّ وجل ونذرت من قبل أن تعفو عنى، أنى متى ردّيت إلى بلادى سالما أعتقت كلّ أسير عندى. وأنا فاعل ذلك.
ثم إن السلطان ردّه إلى خيمته، ورتّب له ما يصلح لمثله من سائر ما يحتاج إليه. ثم إنه اقترض عشرة آلاف دينار وفرّقها على الحاشية.
فلما كان بعد ثلاثة أيام أحضره السلطان وتلقاه وقام له قائما وأجلسه على سريره الذى كان له وكسب منه، وأخلع عليه ثانيا بأحسن من الأولى، وعقد له راية بيضاء مكتوب عليها بالسواد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنفذ معه حاجبين ومئة غلام، مع سائر ما يحتاج إليه الملوك من الآلات، وركب معه بنفسه وشيّعه مقدار فرسخ، وتعانقا وتودّعا وسار إلى القسطنطينية.
ثم إنّ السلطان كتب إلى الخليفة الإمام القائم بالله أمير المؤمنين يشرح له جميع ما جرى. وزيّنت بغداد، وعملوا القباب وكان فرحا عاما عند سائر الناس بجميع الأقاليم.
وأمّا ملك الروم فإنّه وصل إلى بلاده سالما، وأوفى بجميع ما أوعد به، وزاد فى هداياه أضعاف ما كان فى الظنّ، واستقرّ حال المسلمين معه طول أيام حياته.
(6/396)
________________________________________
ذكر سنتى أربع وخمس وستين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنتين (ص 231):
الماء القديم لسنة أربع: أربعة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.
الماء القديم لسنة خمس: ثلاثة أذرع وسبعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين مستمرّا فيهما (كذا) وكذلك المستنصر.
وفى سنه أربع كان زيادة الماء بكلّ أرض، حتى خيف منه، وظن أنه طوفانا.
وقيل بل كان ذلك فى سنة ستّ التى غرقت فيها بغداد حسبما يأتى من ذكر ذلك فى سنة ست.
(6/397)
________________________________________
وفى سنة خمس توفى السلطان ألب أرسلان السلجوقى إلى رحمة الله تعالى، وجلس على تخت الملك السلطان ملك شاه أبو الفتح ابن السلطان ألب أرسلان ابن سلجوق، وكان ملكا شجاعا هماما جوادا، وسيأتى من خبره طرف فى مكان يليق به إن شاء الله تعالى.
وفيها توفى محمود بن شبل الدولة صاحب حلب.
وقام بأمر حلب ولده نصر بن محمود.
وفيها استولى تاج الدولة على دمشق، وأخرج الأقسيس منها من رواية أخرى.

ذكر سنة ست وستين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة أصابع.
(6/398)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الملوك بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر.
وفيها دخل أمير الجيوش إلى الديار المصرية. وهو أبو النجم بدر الجمالى المستنصرى، وكان قبل ذلك بصور (ص 232) وعكّا نايبا عن الظاهر بن الحاكم. فعقد يوم وصوله مجلسا عظيما عامّا اجتمع فيه أكثر الناس فاستفتح قارئا وقرأ (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ}) وقطع الآية. فقال المستنصر: لو أتم الآية أمرت بضرب عنقه.
وممّا يعتد من مبادئ سعادة أمير الجيوش أنه حضر من بيروت فى البحر وأقلع منها فوصل منها إلى دمياط ثانى يوم، وصحت له هذه الصحوة حتى ضرب بها المثل، فقيل: صحوة أمير الجيوش. ونعت بالسيّد الأجلّ كافل أمير المؤمنين، وهادى قضاة المسلمين، وناصر دعاة الدين، أمتع الله ببقائه أمير المؤمنين.
ثم إنّه دبر الأمور أحسن تدبير، وأرخص الأسعار بعد طول مدة غلائها فى تلك السنين الماضية. وذلك أنه نادى بإخراج الغلال وبيعها،
(6/399)
________________________________________
وعاد يهجم على كلّ من بلغه أنّ عنده غلة خزين. فإذا وجد ذلك طلبه وكشف عن ما يكفيه وجميع عائلته من تلك الغلّة مدة سنة كاملة، ويأمر بالفاضل عنه فيباع ويصب فى العراص. فرخص السعر، وطابت نفوس الناس، ومشى الحال، وقويت الهيبة، وارتدع المفسد، وأمنت الطرق، وسافرت التجار، وورد الجالب.
وفيها قبض على أبى العلاء عبد الغنى المعروف بالضيف الذى كان ينظر فى الأمور، وأمر بنفيه إلى قيسارية ثم نقل إلى تنيّس وقتل بها.
وفيها ولى القضاء أبو العلاء حمزة العرقى من قبل أمير الجيوش، وعاد من متولى الحكم والدعوة من هذا التاريخ نائبا عن أمير الجيوش، وتقليدهم من مجلس حكمه. فكان نوابه فى القضاء من يذكر:
أبو يعلى حمزة العرقى وكان وليه أصلا.
أبو الفضل القضاعى.
أبو القاسم على بن أحمد بن عمار.
أبو الفضل بن نباتة.
أبو الفضل بن عتيق.
أبو الحسن بن الكحّال.
وفيها كانت غزقة بغداد.
(6/400)
________________________________________
قال القاضى ابن الأثير صاحب التاريخ: إن فى هذه السنة كانت غرقة بغداد. وذلك أنه جاءت أمطار وسيول، وجاء بأرض الموصل والجبال أمطار عظيمة، وزادت دجلة (ص 233) زيادة لم يعهد بمثلها، وعاد يأتى على وجه الماء من الأفاعى من الحيّات والحشرات شئ كثير، حتى نظروا الناس على تلّ فى وسط الماء سبع ويحمور واقفين مذهولين عن بعضهما بعضا. ودخل الماء دار الخلافة من باب النوبى وباب العامة، ودخل الجامع وخرج الماء على الخليفة من تحت سريره، فنهض إلى الباب فلم يجد طريقا، فحمله خادم على ظهره إلى التاج، ولبس الخليفة البردة وأخذ القضيب بيده ووقف بين يدى الله تعالى يتضرّع، ولم يطعم فى يومه وليلته، وغرقت مقبرة أبرز وخرجت الموتى فى توابيتهم على الماء، وتهدّم الحريم وباب الأزج، وخرج رجل وعلى كتفه ولد له، فاجتهد أن يتخلّص فلم يقدر فرمى بولده وخلص بنفسه.
وغرق من العالم والبهائم ما لا يحصى كثرة.
وفيها تسلطن السلطان سنجر شاه.
(6/401)
________________________________________
ذكر سنة سبع وستين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثلاثة أذرع وتسعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى هذه السنة يوم الخميس ثانى عشرين شعبان، وعمره سبعون سنة. وكانت خلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر.
وتولى الخلافة المقتدى.

ذكر خلافة المقتدر بأمر الله بن محمد بن القائم بالله
وما لخّص من سيرته
هو أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الله القائم بالله ابن أحمد القادر بالله. وباقى نسبه قد تقدم ذكره.
(6/402)
________________________________________
أمّه أمّ ولد تسمّى شراب.
ومحمد والده يلقّب ذخيرة الدين. وكان ولى عهد أبيه القائم بالله فتوفى فى حياته (ص 234).
والمستنصر خليفة مصر. وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبّر الممالك المصرية بأحسن التدبير. وصلحت أحوال الناس، وزال جميع ما كان من الشرور والفتن والخوف، ورخصت الأسعار، ومشت أحوال العالم.
وكثر الجالب من سائر الأصناف.

ذكر سنة ثمان وتسع وستين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة ثمان: أربعة أذرع وإصبعان.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.
الماء القديم لسنة تسع: ثلاثة أذرع وسبعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
(6/403)
________________________________________
الحوادث
الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق الحكام.
والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبّر الممالك المصرية.
وفى سنة ثمان قتل محمود بن نصر بن شبل الدولة صاحب حلب، وجلس أخوه سابق بن محمود.
ولم يتجدّد شئ فى سنة تسع بحكم التلخيص.

ذكر سنتى سبعين وإحدى وسبعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة سبعين أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.
(6/404)
________________________________________
الحوادث
الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم حسبما تقدم.
والمستنصر خليفة مصر. وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبر الممالك المصرية.
وفى سنة سبعين حاصر تاج الدولة حلب، وطمع فى أخذها من سابق.
وفيها ولد المستظهر.
وفى سنة إحدى وسبعين توفى نصر بن مروان صاحب ديار بكر (ص 235).
وفيها كانت عدة فتن بين الملوك يطول شرحها.

ذكر سنتى اثنتى وثلاث وسبعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة اثنتين: خمسة أذرع وثمانية أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.
(6/405)
________________________________________
الماء القديم لسنة ثلاث: أربعة أذرع واحد وعشرون إصبع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.

الحوادث
الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبر ممالكه.
وفى سنة اثنتى عاد تاج الدولة وحاصر دمشق وأخذها فى ربيع الآخر وقتل اتسز الذى كان تغلب عليها. وكانت مملكته بها ثلاث سنين وأربعة أشهر.
وفى سنة ثلاث أخذ شرف الدولة حلب من سابق بن محمود.

ذكر سنتى أربع وخمس وسبعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة أربع: خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا.
(6/406)
________________________________________
الماء القديم لسنة خمس: ثمانية أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

الحوادث
الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر. وأمير الجيوش بها بدر الجمالى مدبّر ممالكه.
وفى سنة أربع توفى محمد بن ثابت الجحدى صاحب آلة النجوم الرصدية.
وفى سنة خمس فتح تاج الدولة أنطرطوس وبانياس من الفرنج.
وفيها سار السلطان ملك شاه السلجوقى إلى محاربة أخيه نقش شاه (ص 236) وحصل بينهما الصلح من غير حرب ولا قتال.
(6/407)
________________________________________
ذكر سنتى ست وسبع وسبعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة ست خمسة أذرع وسبعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.
الماء القديم لسنة سبع خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.

الحوادث
الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى بحاله.
قال ابن واصل: فى سنة ست وسبعين وأربع مئة سيّر السلطان جلال الدولة السلجوقى سلطان بغداد فخر الدولة بن جهير إلى ديار بكر
(6/408)
________________________________________
ليتسلّمها، وأعطاه الكوسات و [سيّر معه] العساكر [فسار إليها ونزل بنواحى آمد].
[وفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة] أردفه بجيش كثيف من جملتهم الأمير أرتق بن أكسب-أبو الملوك الأرتقيّة-وكان صاحب ديار بكر يومئذ ابن مروان الكردى لما بلغه توجه العساكر إليه، توجّه إلى الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلى صاحب الموصل راغبا أن ينصره ويساعده فأجابه إلى ذلك.
فلما علم فخر الدولة ذلك مال إلى الصلح ولم ير بتشتيت العرب مصلحة. فلما علمت التركمان منه ذلك تركوه، وركبوا ليلا وأحاطوا بالعرب، وذلك فى ربيع الأول، [والتحم القتال واشتد]، فانهزمت العرب، ولم يحضر هذه الوقعة فخر الدولة ولا الأمير أرتق.
وغنم التركمان حلل العرب ودوابهم، وانهزم شرف الدولة العقيلى وتحصّن بمدينة آمد، ونازله فخر الدولة ابن جهير والأمير أرتق بالعساكر.
فراسل شرف الدولة الأمير [أرتق] وبذل له مالا كثيرا. وكان أرتق على حفظ الطريق. فمكّنه من الخروج فخرج لتسع بقين من ربيع الأول، وقصد الرقّة.
(6/409)
________________________________________
فلما بلغ جلال الدولة السلطان ببغداد [انهزام شرف الدولة وحصره بآمد، لم يشك فى أسره ف‍] خلع على عميد الدولة ابن فخر الدولة [بن جهير] وسيّره إلى أبيه فى جيش كثيف ومعه من الأمراء قسيم الدولة آقسنقر والد الأتابك محمود بن زنكى. وكان الأمير أرتق قد رجع إلى السلطان لمنافسة وقعت بينه وبين فخر الدولة ثم توجهت الجيوش إلى الموصل ونازلوها وفتحوها سلميّا. ثم حضر السلطان بنفسه وكانت [بلاده الموصل، وديار ربيعة أجمع، ومدينة حلب و] سائر تلك النواحى بالجزيرة والفرات ومنبج وغيرهما.
قال ابن واصل: ثم إن شرف الدولة طلب الأمان من السلطان وحضر، وقدّم السلطان تقادم حسنة من جملتها فرسه المشهور المسمى بشّار، فسبق كلّ فرس كان عند السلطان فأعجبه، وأقبل على شرف الدولة وأعاده إلى ما كان عليه، وأعاد إليه الموصل.
وكان صاحب قونية وأقصرا وما يتّصل بهما من البلاد الرومية للملك سليمان بن قطلمش، وهو ابن عم السلطان جلال الدولة ملكشاه.
فقصد فى سنة سبع وسبعين وأربع مئة مدينة أنطاكية، وكانت يومئذ بيد الروم وكانوا ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة.
قلت: وسيأتى ذكر ذلك متفصّلا فى تاريخ ما يأتى ذكره، لما فتحها السلطان الملك الظاهر البندقدار آخر وقت إن شاء الله.
(6/410)
________________________________________
وملكها فى هذه السنة فى حديث طويل يأتى فى موضعه، ولما ملكها كتب إلى السلطان ملكشاه بذلك وعرّفه بما فتح الله على يديه.
ثم إن شرف الدولة العقيلى صاحب الموصل كتب إلى سليمان يطالبه بالحمل إلى السلطان فأبى عليه. وقال: السلطان ابن عمى، وقد كتبت إليه بذلك. فأنت أيش بيننا؟
فركب شرف الدولة ونهب بلاد أنطاكية. فنهب سليمان بلاد حلب، وحصل بينهما وقعة وانهزم فيها شرف الدولة [ثم قتل فى نفس اليوم].
وسار سليمان إلى حلب وحصرها خامس ربيع الآخر، فلم يبلغ منها غرضا، فرحل عنها. وكان مع سليمان الأمير ارتق. فإنه خاف من فخر الدولة لما ينم عليه عند السلطان بما كان ما دار
(6/411)
________________________________________
من شرف الدولة. ثم انتقل إلى خدمة جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان العادل عضد الدولة ألب أرسلان السلجوقى، وجلال الدولة تتش يومئذ صاحب دمشق. فلما وصل إليه الأمير أرتق أقطعه نابلس.
وكان سليمان بن قطلمش قد ظفر بشرف الدولة وقتله وسيّر جيشه إلى حلب، وطلب تسليمها، فلم يحيبوا، والحاكم عليها يومئذ ابن الحتيتى العبّاسى. فكاتب لجلال الدولة صاحب دمشق وحسّن له ذلك الأمير أرتق. فركب والتقى سليمان. فانهزم أصحاب سليمان. قال فأخرج سكينا وقتل بها نفسه.
واستولى جلال الدولة تتش على عسكره، ووصل إلى حلب وطلب تسلّمها فأبوا عليه أيضا، فخامر من أهلها أناس واطلعوا من عسكر جلال الدولة جماعة بالحبال، وشفع الأمير أرتق فى ابن الحتيتى حاكم حلب.
وكان بالقلعة سالم بن مالك بن بدران العقيلى وهو ابن عم شرف الدولة
(6/412)
________________________________________
المذكور، فحوصرت القلعة مدة سبعة عشر يوما، ثم بلغه توجّه أخيه السلطان ملكشاه إلى نحوه، فنزل حلب وعاد إلى دمشق مملكته وحضر السلطان من إصبهان، وجعل طريقه على الموصل فوصلها فى رجب، وسار عنها إلى حرّان، وأقطعها إلى محمد بن شرف الدولة المقتول. ثم سار إلى الرّها وملكها من الروم، وفتح قلعة جعبر، وأخذ صاحبها جعبر، وهو شيخ ضرير. ثم وصل إلى حلب وتسلّمها وتسلّم قلعتها، وعوّض سالم عنها قلعة جعبر، فلم تزل فى أيدى العقيليّين إلى أن أخذها منهم نور الدين الشهيد حسبما يأتى من ذكر ذلك إن شاء الله.
وفيها كانت قتلة الصليحى الناجم باليمن، ولنذكر الآن بدو شأنه ونسبه.
(6/413)
________________________________________
ذكر علىّ الصليحى الناجم باليمن وما لخّص من خبره
هو أبو الحسن علىّ بن محمد بن علىّ الصّليحىّ القائم باليمن.
وذلك ما رواه القاضى ابن خلّكان فى تاريخه عن الفقيه عمارة اليمنى الشاعر الآتى ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر السلطان صلاح الدين ابن أيّوب فى الجزء التالى لهذا الجزء، وهو المختصّ بذكر دولة بنى أيوب.
قال القاضى شمس الدين ابن خلكان: قال الفقيه عمارة اليمنى فى ترجمة الصالح ابن رزّيك: كان الصّليحى المذكور أبوه قاضيا باليمن سنى المذهب. وكان أهل بيته وجماعته يطيعونه. وكان الداعى عامر ابن عبد الله الرواحى لم يزل يلاطفه ويركب إليه، لرئاسته وسؤدده وصلاحه وعلمه. ثم إن عامرا المذكور استمال قلب ولده علىّ المذكور، وهو يومئذ دون بلوغ الحلم، ولا حت لعامر من الغلام مخايل النجابة.
وقيل كانت عند عامر حلية علىّ الصليحى فى كتاب [الصور]، ويقال إنّه من الكتب (ص 237) العظيمة والذخائر العظيمة. فأوقفه منه على تنقّل حاله وشرف مآله، وأطلعه على ذلك سرّا من أبيه وأهل بيته. ثم إنّ عامرا توفى إلى رحمة الله عن قريب وأوصى إلى علىّ
(6/414)
________________________________________
الصّليحى بكتبه وعلومه، ورسخ فى ذهن علىّ من كلامه ما رسخ، وعكف على الدرس والاشتغال. وكان ذكّيا حاذقا، فلم يبلغ الحلم حتى تضلّع من معارفه التى بلغ بها وبالجدّ السعيد غاية الأمل. فكان فقيها فى مذهب الدولة الإماميّة مستبصرا فى علم التأويل، ثم إنه صار يحجّ بالناس دليلا على طريق السّراة والطائف، فأقام كذلك خمس عشرة سنة. وكان الناس يقولون له: بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره، ويكون لك شأن عظيم، فيكره ذلك وينكره على قائله، مع أنّه أمر قد شاع وذاع فى الناس وكثر على أفواه العالم.
ولما كان فى سنة تسع وعشرين وأربع مئة ثار فى رأس مشار وهو أعلى ذروة تلك الجبال. وكان معه ستون رجلا قد حالفهم بمكّة فى موسم سنة ثمان وعشرين وأربع مئة على الموت، والقيام بالدعوة، وما منهم إلاّ من هو فى منعة من قومه وعشائره، وفى عدد جيّد.
ولم يكن ثمّ برأس الجبل المذكور قلعة ولا ما يمنع. فلما ملك الذروة لم ينتصف النهار الذى ملكها فيه حتى أحاط به عشرون ألف ضارب سيف وحصروه وشتموه وسفّهوا عليه وسفهوا رأيه [وقالوا له]: تنزل طوعا وإلاّ قتلناك ومن معك جوعا وعطشا. فقال لهم: لم أفعل ذلك إلاّ خوفا علينا وعليكم أن يملكه غيرنا. فإنّ تركتمونى أحرسه وإلاّ نزلت. (ص 238) فانصرفوا عنه. ولم يمض شهران من ذلك
(6/415)
________________________________________
التاريخ حتى بناه وحصّنه وأتقنه، واستفحل أمره شيئا فشيئا. وكان يدعو للمستنصر خليفة مصر فى الخفية، ويخاف من صاحب تهامة المسمّى نجاح. فكان يلاطفه ويستكين لأمره. وفى الباطن يعمل الحيلة فى قتله. فلم يزل حتى قتله بالسم مع جارية جميلة كان أهداها له. وذلك فى سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة بالكدراء.
وفى سنة ثلاث وخمسين كتب الصّليحىّ إلى المستنصر بمصر يستأذنه فى إظهار الدعوة. فأذن له، فطوى البلاد طيّا، وفتح الحصون والتهائم، ولم تخرج سنة خمس وخمسين حتى ملك اليمن بأسره سهله ووعره، بره وبحره. وهذا أمر لم يعهد مثله فى جاهليّة ولا إسلام، حتى قال يوما وهو يخطب الناس فى جامع الجند: وفى مثل هذا اليوم نخطب على منبر عدن إن شاء الله تعالى. ولم يكن ملكها بعد. فقال رجل ممن حضر مستهترا: سبّوح قدّوس. فأمر بالحوطة عليه. وساعدت الصليحى المقادير فخطب تلك الجمعة بجامع عدن وهى الجمعة التى ذكرها. فقام ذلك الرجل وتغالى فى القول وأخذ البيعة على نفسه ودخل المذهب.
ومن سنة خمس وخمسين استقرّ حاله فى صنعاء. وأخذ معه ملوك اليمن الذين أزال ممالكهم وأسكنهم معه فى صنعاء. وولّى فى الحصون غيرهم، واختطّ بمدينة صنعاء عدّة قصور، فوزنت له زوجته أسماء
(6/416)
________________________________________
عن أخيها سعد بن شهاب مئة ألف دينار. وكان أخوها من أمّها.
فولاّه تهامة. وقال: مولاتنا ({أَنّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} (ص 239) {إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}) فتبسم وعلم أنّ ذلك من خزائنه. فقبضه وقال: ({هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا}) [فقالت: ({وَنَمِيرُ أَهْلَنا] وَنَحْفَظُ أَخانا}).
ولم يزل مستمر الملك نافذ الأمر إلى هذه السنة. فعزم على الحجّ. فاستصحب معه الملوك [الذين كان يخاف أن يثوروا عليه]، وكذلك زوجته، واستخلف مكانه ولده المكرم أحمد، وهو ولده أيضا منها. وتوجّه فى ألفى فارس فيهم من الصليحيين مئة وستون نفرا. حتى إذا كان بالمهجم ونزل بظاهرها بضيعة يقال لها: الدهيم وبئر أمّ معبد، وخيّمت عساكره والملوك الذين معه حوله لم يشعر الناس حتى قيل:
قد قتل الصّليحىّ. فانذعر الناس وكشفوا عن الخبر.
فكان سبب ذلك أنّ سعيد الأحوال بن نجاح صاحب تهامة الذى قتلته الجارية بالسّم بتدبير الصّليحىّ لما توفى أبوه واستولى الصليحىّ على ملك اليمن استتر فى زبيد. وكان أخوه جيّاش فى دهلك. فسيّر إليه وأعلمه أنّ الصليحىّ متوجه إلى مكة فتحّضر حتى تقطع عليه الطريق وتقتله إن شاء الله تعالى. فحضر جيّاش إلى زبيد، وخرج هو وأخوه سعيد ومعهما سبعون رجلا بلا مركب ولا سلاح، بل مع كل
(6/417)
________________________________________
واحد جريدة بآخرها مسمار من حديد، وتركوا جادة الطريق، وسلكوا طريق الساحل، وكان بينهم وبين المهجم مسيرة ثلاثة أيام للمجدّ.
وكان الصليحىّ قد سمع بخروجهم، فسيّر خمسة آلاف حربة من الحبشة الذين فى ركابه لقتالهم، فاختلفوا فى الطريق. فوصل سعيد ومن معه إلى [طرف] المخيم، وقد أخذ منهم التعب والحفاء وقلّة المادة. وظن الناس أنّهم من جملة عبيد العسكر. ولم يشعر (ص 240) بهم إلاّ عبد الله أخو [علىّ] الصليحىّ. فقال لأخيه: يا مولانا اركب، فهذا والله سعيد بن نجاح. وركب عبد الله. فقال الصليحىّ لأخيه:
إنّى لا أموت إلاّ ببئر أمّ معبد. معتقدا أنها بئر أم معبد التى نزل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لما هاجر إلى المدينة. فقال له رجل من أصحابه:
قاتل عن نفسك، فهذه والله الدهيم وبئر أمّ معبد. فلما سمع ذلك الصليحىّ زمع اليأس من الحياة، وبال فى مكانه، ولم يبرح زامعا بمكانه حتى قطع رأسه بسيفه، وقتل أخوه معه وسائر الصليحيّين. وذلك فى الثانى عشر من ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة. وهو الصحيح، ليس فى هذه السنة.
ثم جلس سعيد على فراش الصّليحىّ، وأرسل إلى الخمسة آلاف التى كان أرسلها الصّليحىّ إليه وقال لهم: إنّ الصّليحىّ قد قتل، وأنا رجل منكم. وقد أخذت بثأر أبى. فقدموا عليه ودخلوا تحت طاعته، واستعان بهم على قتال من تبقّى من الصليحيّين وجموعهم، واستظهر عليهم قتلا وأسرا، ثم رفع رأس الصليحى على عود المظلّة،
(6/418)
________________________________________
وقرأ القارئ ({قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ}) الآية. ورجع إلى مدينة زبيد، وقد حاز [من] الغنائم ملكا عظيما. ودخلها فى سادس عشر ذى القعدة من السنة المذكورة. وملكها وملك بلادها وبلاد تهامة.
ولم يزل كذلك حتى قتل فى سنة إحدى وثمانين وأربع مئة، بتدبير الحرّة، وهى امرأة من الصليحيّين فى خبر طويل، لا يمكن استيعابه.
ولما قتل الصليحىّ ورفع رأسه على عود المظلة كما تقدم، عمل فى ذلك القاضى العثمانى شعرا فمن ذلك:
بكرت مظلته عليه فلم ترح … إلا على الملك الأجلّ سعيدها
ما كان أقبح وجهه فى ظلّها … ما كان أحسن رأسه فى عودها
سود الأراقم قاتلت أسد الشرى … وارحمة لأسودها من سودها
قلت: وكان الصّليحىّ شجاعا بطلا مقداما عالما شاعرا فمن شعره:
أنكحت بيض الهند سمر رماحهم … فرؤوسهم عرض النثار نثار
وكذا العلا لا يستباح نكاحها … إلاّ بحيث تطلّق الأعمار
وذكر العماد الإصبهانّى رحمه الله فى «الخريدة» من شعر الصليحىّ يقول:
(6/419)
________________________________________
وألذّ من قرع المثانى عنده … فى الحرب ألجم يا غلام وأسرج
خيل بأقصى حضر موت أشدها … وزئيرها بين العراق ومنبج
وذكر صاحب كتاب «دمية القصر» ممّا اختاره من شعر الصليحىّ:
وسرجى فراشى والحسام مضاجعى … وعدة حربى، لا ذوات الخلاخل
ورمحى يعاطينى البعيد لأننى … تناولت ما أعيا على المتناول
ولى همة تسمو على كلّ همّة … ولى أمل أعيا على كل آمل
ولى من بنى قحطان أنصار دولة … بطاريق من أنجاد كلّ القبائل
ومما أجابه الحسين بن يحيى الحكّاك المكى فأحسن:
رويدك ليس الحقّ ينفى بباطل … وليس مجدّ فى الأمور كهازل
كزعمك أنّ الدرع لبسك فى الوغى … وذاك لجبن فيك غير مزايل
وهل ينفعنّ السيف يوما ضجيعه … إذا لم يضاجعه بيقظة باسل
فهلاّ اتخذت الصبر درعا وجنة … كما الصبر درعى فى الخطوب النوازل
وتفخر أن أصبحت مأمول عصبة … فأخسس بمأمول وأخسس بآمل
وهل هى إلاّ فى تراث جمعته … فهلاّ عدت فى بذل معروف ونائل
كما همّنا فاعلم إجابة سائل … وإسعاف ملهوف وإغناء عائل
وختمها:
ولا تغترر باللّيث عند خدوره … فكم خادر فاجا بوثبة صائل
(6/420)
________________________________________
ذكر سنة ثمانى وسبعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وسبعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبّر الممالك المصرية.
وفيها كان ابتدآء دولة بنى منقذ بشيزر.
قال العماد الإصفهانى رحمه الله فى كتاب «السيل والذيل»: إن فى هذه السنة تسلّم أبو الحسن علىّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ الكنانى الملقب بسديد الملك قلعة شيزر.
وذلك أنّه كان شجاعا مقداما قوىّ النفس. وهو أول من ملك قلعة من بنى منقذ. وكان نازلا بجوار القلعة بالقرب من الجسر المعروف
(6/421)
________________________________________
اليوم بجسر بنى منقذ. وكانت القلعة يومئذ فى يد الروم، فحدثته نفسه بأخذها. فنازلها بقومه وعشيرته وتسلّمها بالأمان.
وقيل كان ذلك فى سنة أربع وسبعين وأربع مئة.
ولم تزل فى يد بنيه إلى أن كانت الزلزلة العظيمة، فهدمت القلعة ومات أكثرهم تحت الردم، وشغرت، فجاءها نور الدين محمود ابن الملك زنكى صاحب الشام فى بقية سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة.
وكانت هذه الزلزلة يوم الاثنين ثالث رجب من السنة المذكورة.
وتسلّم نور الدين القلعة وعمرها بعد ذلك.
وذكر القاضى بهاء ابن شدّاد صاحب «سيرة السلطان صلاح الدين» -رحمهما الله-فى السيرة المذكورة أنه جاءت زلزلة عظيمة بحلب، وأخربت كثيرا من البلاد. وأرّخ ذلك فى ثانى عشر شوال سنة خمس وستين وخمس مئة (ص 243) وهذه زلزلة أخرى غيرها تيك، وسيأتى ذكرهما فى تاريخهما الآتى من الجزء التالى لهذا الجزء إن شاء الله تعالى.
وكان سديد الملك بن منقذ المذكور مقصودا جوادا شجاعا، وخرج من بنيه جماعة نجباء أمراء فضلاء كرماء. ومدحه جماعة من الشعراء كابن الخيّاط، والخفاجىّ، وشرف الدين ابن الحلاوى شاعر الموصل،
(6/422)
________________________________________
وعبد المحسن الصّورى، وغيرهم. وسيأتى بعد ذكره شيئا من أشعارهم، وكان له شعر جيّد. فمنه قوله وقد غضب على مملوك له وضربه، وكان كثير الشغف به فقال:
أسطو عليه وقلبى لو تمكّن من … كفّىّ غلّهما غيظا إلى العنق
وأستطير إذا عاقبته حنقا … وأين ذلّ الهوى من عزّة الحنق
وكان موصوفا بقوّة الفطنة. وتنقل عنه حكايات عجيبة. فمن ذلك ما ذكره الشيخ شمس الدين ابن خلكان رحمه الله فى تاريخه قال: كان يتردّد إلى حلب قبل تملّكه شيزر، وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس، فجرى له أمر خاف سديد الملك على نفسه منه، فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يومئذ جلال الملك ابن عمّار، فأقام عنده. فتقدّم صاحب حلب إلى كاتبه أبى نصر محمد بن على بن النحاس أن يكتب إلى سديد الملك كتابا يتشوّقه ويستعطفه ويستدعيه إليه. وفهم الكاتب أنّه يقصد له شرّا. وكان صديقا لسديد الملك فكتب الكتاب كما أمر إلى أن بلغ إلى إن شاء الله تعالى فشدّد النون وفتحها.
فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمّار صاحب
(6/423)
________________________________________
طرابلس ومن بمجلسه من خواصه، فاستحسنوا عبارة الكاتب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود (ص 244) فيه وإيثار لقربه.
فقال سديد الملك: إنى أرى فى الكتاب ما لا ترون. ثم إنّه أجابه عن الكتاب بما اقتضى الحال من جوابه، وكتب فى جملة الكتاب:
أنا الخادم المقرّ بالإنعام وكسر الهمزة من أنا وشدّد النون. فلما وصل الكتاب إلى محمود وقف الكاتب عليه فسرّ بما فيه. وقال لأصدقائه:
قد علمت أنّ الذى كتبته لا يخفى على سديد الملك. وقد أجاب بما طيّب به قلبى.
وكان الكاتب قد قصد قوله تعالى ({إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}) فأجاب سديد الملك ({إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها}) ولنذكر الآن قصيدة ابن الحلاوى الفريدة، ذى المعانى المجيدة:
حكاه من الغصن الرطيب وريقه … وما الخمر إلاّ وجنتاه وريقه
هلال ولكن أفق قلبى محلّه … غزال ولكن سفح عينى عقيقه
وأسمر يحكى الأسمر اللّدن قدّه … غدا راشقا قلب المحب رشيقه
على خده جمر من الحسن مضرم … يشبّ ولكن فى فؤادى حريقه
(6/424)
________________________________________
منها:
من الترك لا يصبيه وجد إلى الحمى … ولا ذكر بانات الغوير يشوقه
له مبسم ينسى المدام بريقه … ويخجل نوّار. الأقاحى بريقه
تداويت من حرّ الغرام ببرده … فأضرم من ذاك الحريق رحيقه
منها:
حكا وجهه بدر السماء فلو بدا … مع البدر قال الناس: هذا شقيقه
وأشبه زهر الروض حسنا وقد بدا … على عارضيه آسه وشقيقه
على وجنتيه للعذار جديده … وفى شفتيه للعقار عتيقه
فما فاز إلاّ من يكون صبوحه … شراب ثناياه ومنها غبوقه
على مثله يستحسن الصب هتكه … وفى حبه يجفو الصديق صديقه
أحبة قلبى جيرتى نحو أرضكم … يحنّ فؤادى ليس يخفى خفوقه
وأشتاق هاتيك المنازل والحما … ومن ذا الذى ذكر الحمى لا يشوقه
ومما يدلّ على علو طبقة هذا الرجل الفاضل قوله:
كتبت فلولا أنّ ذاك محرّم … وهذا حلال قست لفظك بالدرّ
فو الله ما أدرى أزهر خميلة … بطرسك أم درّ يلوح على نحر
فإن كان زهرا فهو صنع سحابة … وإن كان درّا فهو من لجّة البحر
وعلى معنى البيت الذى فى قصيدته القافية وهو:
حكا وجهه بدر السماء فلو بدا … مع البدر قال الناس هذا شقيقه
(6/425)
________________________________________
قول:
خليلىّ ما أحلا صبوحى بدجلة … وأطيب منها بالصراة غبوقى
شربت من الماءين ماء وكرمة … فكانا كدرّ ذائب وعقيق
على قمرى أفق وأرض تقابلا … فمن شائق حلو الهوى ومشوق
فما زلت أسقيه وأشرب ريقه … وما زال يسقينى ويشرب ريقى
فقلت لبدر التمّ: تعرف ذا الفتى؟ … فقال: نعم هذا أخى وشقيقى
ومن القصايد البديعة الجارية كجرى السّلاف فى أعطاف اللطاف قصيدة عبد المحسن الصورى:
عاد الفؤاد إلى قديم ضلاله … ورأى الرجوع إلى وداد غزاله
وخفى عليه الرشد حين أراده … وتنافرا إذ ليس من أشكاله
مطل العذول بصبره متوانيا … وأجاب داعى الحب قبل سؤاله
شغفا بمرتجّ الروادف أهيف … كالغصن يثنيه نسيم شماله
عظمت محاسنه فحين خبرته … صغرت محاسنه لحسن فعاله
هجراته كالدهر فى إدباره … ووصاله كالسعد فى إقباله
جمع الجمال فكلّ ما أبصرته … من غيره فهو اختصار جماله
للحسن إلف تابع ومساير … من خلفه ويمينه وشماله
لو أنّه يوما تمنّى حسنه … ما كان يخطر كلّ ذا فى باله
انظر إلى ما شئت منه فكلّه … لمحبّه حجج على عذّاله
يا من يقيس بوجهه البدر اعتذر … مما جنيت فليس من أمثاله
(6/426)
________________________________________
البدر يقصر عن حكاية كلّه … لم يحكه إلاّ ببعد مناله
إنّ الشقيق رأى محاسن وجهه … فأراد أن يحكيه فى أحواله
فأفاد حمرة لونه من خدّه … وأفاد لون سواده من خاله
يا أيّها البدر البديع جماله … ارحم فتى أنت العليم بحاله
لو سيل عن آماله من دهره … ما كان غير رضاك من آماله
قلت: لا أعلم ما يشاكل رقّة الخمر فى رقة الزجاج حتى تشاكلا فى الليل الداج، فهنالك تشاكل الأمر، أن يفرق بين الزجاج والخمر، كرقة هذا القصيد، الذى عاد لاختراع المعانى وصيد، وليس لها نظير، إلا قصيدة الوزير، أبى الوليد ابن زيدون، التى لولا التغالى لكانت حقيقه بكلمة الكاف والنون، وستأتى أبياتها، فى مكان يستحق إثباتها.
(6/427)
________________________________________
ذكر سنة تسع وسبعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وتسعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
(ص 247).
والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى بحاله.
وفيها ملك سليمان بن قتلمش أنطاكية حسبما يأتى من ذكر ذلك عند فتوحها على يد السلطان الملك الظاهر البندقدارى أحد الملوك التركية، أدام الله أيّام سلطانها، وأعزّ نصره، وأعلا فى عليّين محله وقصره.
وفيها تسلّم سكمان بن أرتق حصن ماردين.
وفيها استولى الشريف حسن على حلب وغلب عليها والله أعلم.
(6/428)
________________________________________
ذكر سنتى ثمانين وإحدى وثمانين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة ثمانين ستة أذرع وخمسة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.
الماء القديم لسنة إحدى خمسة أذرع وسبعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

الحوادث
الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكّام.
والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بها بدر الجمالى مدبّر الممالك المصرية.
وفى سنة ثمانين تسلّم شرف الدولة خراسان، وقتل ابن حبلة (؟) بها وملك.
(6/429)
________________________________________
وفيها سلّم السلطان أبو الفتح حلب إلى قسيم الدولة آق سنقر.
وفى سنة إحدى فتح السلطان ملك شاه سمرقند وملكها بالسيف عنوة.
وفيها هلك تكفور ملك الروم صديق السلطان ملك شاه.
قال ابن واصل: فى هذه السنة كان تسليم السلطان جلال الدولة ملكشاه حلب بالسبب المقدم ذكره المكتوب على الحاشية ولما تسلّمها لحاجبه قسيم الدولة آقسنقر، فاستولى عليها وعلى أعمالها وعلى منبج واللاذقيّة وكفر طاب. وأقطع السلطان مدينة الرّها مجاهد الدين بزان، وأقطع أنطاكية الأمير ياغى سيان. ثم ظهرت كفاية الأمير قسيم [الدولة] آقسنقر، وعظمت هيبته فى جميع بلاده.
ثم إن السلطان استدعاه بعد ذلك إلى العراق، فقدم عليه فى تجمّل عظيم. ولم يكن فى عسكر السلطان من يقاومه. فاستحسن السلطان ذلك منه وعظم محلّه عنده. ثم أمره بالعود إلى حلب. فعاد إليها فى سنة ثمانين وأربع مئة، ورخصت الأسعار فى أيّامه، وأمنت السّبل، وأقيمت الحدود الشرعية، وقتل المتطرفين إلى الفساد.
(6/430)
________________________________________
وفى سنة إحدى وثمانين وأربع مئة جمع قسيم الدولة عسكره وقصد شيزر وحاصرها، وصاحبها يومئذ نصر بن على بن منقذ وضايقها ونهب ربضها ثم صالحه صاحبها وعاد إلى حلب.
وفى سنة اثنتين وثمانين أسّس القاضى أبو الحسن الخشّاب منارة حلب. [وكان بحلب] معبد نار قديم [العمارة] وصار بعد ذلك أتون حمّام. فأخذ ابن الخشّاب حجارته، وبنى بها المنارة. فوشى به بعض حسّاده إلى الأمير قسيم الدولة فغضب على القاضى واستحضره وقال: هدمت معبدا هو لى وملكى. فقال: أيّها الأمير، هذا كان معبدا للنار قديما، وقد صار اليوم أتونا، فأخذت حجارته عمرت بها معبدا للإسلام يذكر فيه اسم الله وحده لا شريك له. وكتبت اسمك عليه، وجعلت الثواب لك. فإن رسمت غرمت ثمنه لك، ويكون الثواب لى، فعلت. قال: فأعجب الأمير كلامه واستصوب رأيه، وقال: بل الثواب لى وافعل ما شئت.
وفى سنة أربع وثمانين تسلم قسيم الدولة حصن فامية.
ثم سار وصحبته تاج الدولة إلى طرابلس فحاصرها، وبها صاحبها الأمير جلال الملك بن عمّار. فرأى جيشا لا يدفع إلاّ بالحيلة والسياسة. فراسل
(6/431)
________________________________________
ابن عمّار وزير قسيم الدولة، وأوعده بحمله مال. فسعى مع صاحبه فى إصلاح أمره، وحمل إليه ثلاثين ألف دينار وتحف (كذا) بمثلها، وأبرز من يده منشورا من وزير السلطان ملكشاه بالبلد. فأنعم قسيم الدولة بقبول المنشور، ورحل عن طرابلس على كره من تاج الدولة. وكان تاج الدولة فى ذلك الوقت فى خدمة أخيه السلطان.
فلما توفى السلطان ملكشاه رحمه الله فى سنة خمس وثمانين حسبما ذكرناه فى الأصل، وبلغ ذلك تاج الدولة وهو بمملكته بدمشق حشد العساكر وخرج طالبا للسلطنة. فخرج إلى خدمة قسيم الدولة من حلب ودخل فى طاعته. وسيّر إلى ياغى سيان صاحب أنطاكية، وإلى بزان صاحب الرّها، وأشار عليهما بالدخول فى طاعة تاج الدولة حتى يروا ما يكون من الأمر. فأجابا إلى ذلك، واتفقوا على الخطبة له على منابر بلادهم. ثم إنّ تاج الدولة سار فى أبهة السلطنة ونزل الرحبة وملكها.
ودخلت سنة ست وثمانين. ثم وصل إلى نصيبين وبها نواب العقيلى صاحب الموصل، فملكها بالسيف عنوة، وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وفعل الأفعال القبيحة، ثم سلّمها لمحمد بن شرف الدولة [بن بدران] العقيلى، وسار
(6/432)
________________________________________
إلى الموصل. وانفع (كذا) مع صاحبها يومئذ إبراهيم بن قريش العقيلى، وكره ونهب العربيات من النساء وقتلن جماعة منهن خوفا من الفضيحة.
وملك الموصل وولاها للأمير سعد الدولة علىّ ابن شرف الدولة.
وكان ابن عمته، ثم إنه سيّر إلى بغداد يطلب أن يخطب له [الخليفة].
وكان ابن أخيه السلطان ركن الدين بركياروق ابن ملكشاه قد قوى سلطانه [وصارت بيده الرىّ وهمذان وما بينهما. فسار بالعساكر ليمنع عمه من البلاد]، فترك قسيم الدولة ورفقته تاج الدولة وانحازوا إلى السلطان ركن الدين، فعاد تاج الدولة إلى دمشق خائبا عن قصده، وحشد وقصد قسيم الدولة. فلما تصاففا خامر الحلبيّون على قسيم الدولة، وأخذ [قسيم الدولة آق سنقر] أسيرا، وقدّم بين يدى [تاج الدولة] فقال له: لو كنت ظفرت بى ما كنت تصنع؟ قال: كنت أقتلك.
قال: فأنا أحكم عليك بذلك. فقتله صبرا. وتسلّم حلب وقلعتها.
ولم يخلف ولدا غير زنكى. وكان عمره يومئذ عشر سنين.
(6/433)
________________________________________
ذكر سنتى اثنتى وثلاث وثمانين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة اثنتى خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.
الماء القديم لسنة ثلاث خمسة أذرع وستة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع (ص 248).

الحوادث
الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى المستنصرى بحاله.
وفى سنة اثنتين بنيت منارة حلب، وكسرت الأتراك لبنى عقيل بالرملة.
(6/434)
________________________________________
وفيها تسلّمت المصريين صيدا من الأتراك.
ومات ابن حمير والله أعلم.
وفى سنة ثلاث وثمانين ولد أبو القاسم ابن المستنصر.

ذكر سنتى أربع وخمس وثمانين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة أربع: أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبر الممالك المصرية.
(6/435)
________________________________________
وفى سنة أربع قتل كمشكين المقدم ذكره
وفيها كان الفراغ من عمارة باب زويلة.
وفى سنة خمس فتح تاج الدولة الرحبة.
وفيها قتل الوزير نظام الملك المقدم ذكره.
وفيها بنى السلطان ملك شاه ابن السلطان ألب أرسلان بن السلطان طغريل بك بن سلجوق من وراء النهر منارة من قرون الغزلان، وبنى أخرى مثلها بظاهر الكوفة. ثم قال: احصوا ما صدته أنا بنفسى من الصيد. فحصروه فكان عدة عشرة آلاف صيد، فتصدّق بعشرة آلاف دينار.
وفيها توفى رحمه الله. وكان سلطانا جيدا كثير العدل والإنصاف، حسن السيرة، جميل الأوصاف. وأسقط المكوس فى جميع ممالكه فكان مبلغها ألفى دينار. وكان حسن الوجه، كريم الأخلاق. وخطب له فى بلاد الترك والصين، إلى أقصى اليمن.
وكانت (ص 249) تقف له الأمراء والضعيف، فيقف بنفسه الكريمة ويسمع الكلام، ولا يبرح من مكانه حتى ينصف المظلوم من الظالم، وكانت له همة لم تكن لأحد من السلاطين قبله، وله النكت العجيبة
(6/436)
________________________________________
فى العدل. فمن جملة ما يحكى عنه ما ساقه صاحب كتاب «جنا النحل» ذكر أنه استنسخه من كتاب يسمى «مطالع الشروق فى محاسن بنى سلجوق».
قال: إن السلطان ملك شاه افترد فى صيد بنفسه. فلقى سوادى وهو يبكى. فوقف وسأله عن حاله فظنه السوادى أنّه من بعض الأمراء فقال يا حملباشى (؟) كان معى حمل بطّيخ، وهو بضاعتى، فدخلت به إلى هذا العسكر لأبيعه فالتقانى ثلاث غلمان فأخذوه منى، ولم يعطونى له ثمن، وطالبتهم فضربونى. فقال له السلطان: امض إلى العسكر وأى خيمة رأيتها حمراء اجلس عندها ولا تبرح حتى أعطيك ثمن بطيخك. فمضى ذلك الرجل وجلس عند الخيمة الحمراء. وعاد السلطان فقال للشرابى: قد اشتهيت بطيخ. ففتش خيم العسكر.
فمضى وعاد وأحضر البطيخ. فقال: أين وجدته؟ فقال فى مخيّم الحاجب فلان. فأمر بإحضاره. فقال: من أين لك هذا البطيخ؟ قال: أحضروه غلمانى. قال: أريدهم السّاعة. فتوجّه فوجد الغلمان قد هربوا لمّا تحققوا الأمر. فعاد وخبّر السلطان. فأمر بإحضار السوادى. فقال: هذا بطّيخك؟ قال: نعم. قال: خذه وخذ هذا
(6/437)
________________________________________
الحاجب مملوكك، فقد وهبته لك، والله لئن تركته أو خرج من يدك بغير رضاك لأضربن رقبتكما جميعا. فأخذ السوادى هذا الحاجب وأخرجه يقوده بين العساكر. فاشترى الحاجب نفسه من السوادى بثلاث مئة دينار (ص 250) وعاد السوادى إلى السلطان وعرّفه أنه أباعه نفسه بطيبة من قلبه، ثم إن السلطان طرد الحاجب ونفاه عنه.
ومنها أنّه سار من جيحون إلى أنطاكية، ما قدر أحدا من عسكره يتعرّض لعلّيقة بغير ثمنها، ولا كفّ من تبن. وتوفى رحمه الله وهو على هذه السنّة من العدل. وسيأتى من خبره أيضا وبعض محاسنه ما يليق أن يذكر بموضعه.
وفيها ركّب باب زويلة على بابه.
وفيها نافق منير الدولة بصور، ووصل فى رجب أسير، وقتل وسائر من نافق معه.
(6/438)
________________________________________
ذكر سنة ست وثمانين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستنصر خليفة مصر.
وفيها توفى أمير الجيوش بدر الجمالى وأخلع على ولده الأفضل شاهنشاه، وكان يقوم بالأمر فى مدّة ضعف أبيه. فلما توفى أبوه خرجت إليه الخلع بالوزارة. وجمع له ما كان لأبيه من السيف والطيلسان، وقام بالأمر أحسن قيام. وأعظم مما قام به أبيه، وزاد عليه، وسيأتى من خبره طرف عند ذكر وفاته وما خلّفه من الأموال، وما ذكر عنه من وجود الكنز.
(6/439)
________________________________________
ذكر سنة سبع وثمانين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السّنة:
الماء القديم ستة أذرع وإصبعان.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المقتدى بالله أمير المؤمنين، إلى أن توفى غرّة المحرّم من هذه [السنة] (ص 251) وكانت خلافته عشرون سنة وأشهر والغالب على أيامه بنى سلجوق.
صفته: كان آدم اللون، ربعة عريض المنكبين، أدعج، حسن السيرة، ذكيّا فاضلا.
نقش خاتمه: المقتدى بالله يقتدى. وقيل: المقتدى بأحكام الله.
(6/440)
________________________________________
ذكر خلافة المستظهر بالله بن المقتدى بأمر الله
وما لخّص من سيرته
هو أبو العباس أحمد بن أبى القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بالله، وباقى نسبه قد تقدّم.
أمّه أم ولد أرمنيّة تسمى نور، ويقال تركية تسمى نوروز.
بويع له بعد وفاة أبيه بثلاثة أيام فى شهر المحرم من هذه السنة وكان عمره يوم ولى الخلافة ست عشرة سنة [وشهرين].
مولده فى ذى الحجة سنة سبعين وأربع مئة.
مدبّر ممالكه عميد الدولة أبو منصور محمد بن محمد بن جهير، ثم أخوه زعيم الدولة أبو القاسم علىّ. وبنو سلجوق الحكام فى أقاصى البلاد وأدانيها، وأمر الخلافة من تحت أمرهم.
والمستنصر خليفة مصر إلى أن توفى أيضا فى هذه السنة سادس عشر ذى الحجة. فكانت مدة خلافته ستون سنة وأربعة أشهر.
وقد تقدم ذكر جميع وزرائه وقضاته مما يغنى عن تكرار ذلك.
وكان المستنصر لا يبقى فى وجهه شعرة تلوح للناظر إلاّ يحلق الجميع.
وبلغ الأفضل أمير الجيوش أنّ رسول ملك الهند قادم عليهم، فبعث
(6/441)
________________________________________
إلى المستنصر بقول: إنّه قد توجّه إلينا رسول صاحب الهند، ولا بدّ من مثوله بين يدى مولانا أمير المؤمنين. فلو ترك مولانا هيئته بحالها لكان أهيب لنا عند الرسول.
فكتب إليه: قد جعلنا لك الأموال والبلاد والإقطاع والولايات والتصرف فى جميع (ص 252) الأمور، تنظر فيها برأيك ولم نعارضك فى شئ منها، فلا أقلّ ما تهبنا هيئتنا والسلام.
فلم يعاوده فى أمر بعدها.
(6/442)
________________________________________
ذكر خلافة المستعلى بالله
وما لخّص من سيرته
هو أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله بن علىّ الظاهر بن الحاكم، وباقى نسبه قد تقدّم.
ولد بالقاهرة المحروسة ليلة يسفر صباحها عن الثامن عشر من ذى الحجّة سنة سبع وستين وأربع مئة.
بويع له يوم الخميس ثامن عشر ذى الحجة من هذه السنة.
وتولّى أمره الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، وأجلسه على سرير الخلافة، وسلّم عليه بأمير المؤمنين، وجلس بين يديه، وعمره يومئذ سبع عشرة سنة.
وسيّرت عمته إلى نزار وعبد الله وإسماعيل أعمامه فحضروا وشاهدوا المستعلى على سرير الخلافة، فلم يرضهم ذلك، فأمرهم الأفضل أن يسلّموا عليه بالخلافة فأبوا ذلك، وامتنعوا من مبايعته، وقال نزار: عندى الخطّ من المستنصر بولاية العهد لى، وأنا آتيكم به وخرج ليأتيهم بذلك فاستخفى، وطلب فلم يوجد، إلى أن ظهر أمره
(6/443)
________________________________________
بالإسكندرية وادّعى الخلافة، ولقّب نفسه الإمام المصطفى لدين الله، وركب بالمظلة.
فلما بلغ الأفضل ذلك أمير الجيوش، وكان بالإسكندرية يومئذ الأفتكين واليا، وهو غلام أمير الجيوش بدر الجمالى، كان قد ولاّه الإسكندرية أيام حياته. فلما وصل إليه نزار قام معه فى الأمر ووزر له، وتلقّب ناصر الدولة، وجمع جمعا عظيما من المغاربة والعربان والجند والقبائل من العرب، ووصل إلى شابور (؟)، فخرج إليه الأفضل فى جموعه وكسره على شابور، وقتل جميع من كان معه، وبنى على رؤوسهم مسجدا وسماه مسجد النصر.
(ص 253) وكانت هذه الوقعة فى سنة ثمان وثمانين وأربع مئة كما يأتى من ذلك. وفى هذه السنة وهى سنة سبع وثمانين دخل مؤيّد الدولة بن شرف الدولة الموصل وخطب فيها لتتش.
وفى آخرها قتل تتش الملقّب تاج الدولة بإصبهان، وتسلّم دقاق ابن تتش دمشق بعد أبيه.
وتسلّم أخوه رضوان حلب.
وفيها جاءت الزلزلة فى يوم وليلة اثنتى عشرة دفعة، لم يسمع بمثلها وأخربت البلاد، وقتلت عالم عظيم.
(6/444)
________________________________________
وفيها كانت الدعوة للإمام المستظهر بالله أمير المؤمنين خليفة بغداد ببلاد الأندلس. قام بذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ثم قام بها فى جميع المغرب، ولم تزل قائمة بالمغرب حتى ظهر ابن تومرت الملّقب بالمهدى فانقطعت.
وفى أيّام المستظهر توفى أبو حامد الغزالى رحمه الله. وكان قد ألّف كتابا وسماه «المستظهر» وهو المشهور فى أيدى الناس من جملة تصانيف الغزالى.

ذكر سنة ثمان وثمانين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد والمستعلى خليفة مصر.
(6/445)
________________________________________
وكانت الوقعة بين الأفضل وأفتكين ونزار على شابور، وكسرهم الأفضل، وقتل منهم مقتلة عظيمة حسبما سقناه، ثم توجّه إلى الإسكندريّة وحاصرها، ولم يزل حتى افتتحها، وأخذ نزارا والأفتكين أسرى، ثم قتل فى الإسكندريّة جماعة من وجوه قومها ممن أقاموا بيعة نزار، ومن جملتهم القاضى ابن عمّار. وكان هذا القاضى (ص 254) ابن عمّار قاضى الإسكندرية ورئيسها، وكان بينه وبين قوم عدول من أهل الإسكندرية يعرفوا بينى هريسة منازعة فى الباطن. وكان بين بنى هريسة وبين الأفضل أمير الجيوش وصلة، وكانوا يكاتبونه بأخبار البلد عند ما كانت فى يد نزار والأفتكين. فلما دخل الأفضل إلى الإسكندريّة وشوا بنو هريسة بالقاضى ابن عمّار عند الأفضل، حتى قتله مع من قتل، بعد ما قبض عليه واعتقله. وكان هذا القاضى ابن عمّار حسن السيرة، ونادرة الوقت، ولما أخذ وسجن دخل عليه بعض العدول زائرا، وكان ذلك العدل خصيصا بالأفضل، فدفع إليه القاضى ابن عمّار رقعة فيها بيتين من الشعر لنفسه يقول:
هل أنت منقذ شلوى من يدى زمن … أضحى يقدّ أديمى قدّ منتهس
دعوتك الدعوة الأولى وبى رمق … وهذه دعوتى والدهر مفترسى
(6/446)
________________________________________
وقال لذلك العدل: أنا أعلم خاصتك بأمير الجيوش فإذا خلوت به فادفع هذه الرقعة إليه. فأخذها وتشاغل عنها للأجل المحتوم والأمر المقدّر. فلما قتله وفرط فيه الفرط ذكر ذلك العدل تلك الرقعة فأوصلها للأفضل. فلما قرأها قال له: أفّ لك! والله لو دفعتها إلىّ قبل قتله ما قتلته. ثم طلب ذريّته وأسدى لهم خيرا.
ولم يزل الأفضل بالإسكندرية حتى وطّدها واستقرّت أحوالها وكرّ راجعا إلى القاهرة وصحبته نزار والأفتكين. فأشهر الأفتكين على جمل ثم قتل، وابتنى على نزار حيطين فهو بينهما والله أعلم.
وفيها وصل أتابك طغتكين من خراسان إلى دمشق.
وفيها توفى أبو يوسف القروى المعتزلى، وهو مصنف تفسير القرآن فى سبع مئة مجلد (ص 255).
وفيها كسرت الفرنج أمير الجيوش الأفضل بالساحل ورجع إلى القاهرة فى نفر قليل.
وفيها كانت زلزلة عظيمة عامّة والله أعلم.
(6/447)
________________________________________
ذكر سنة تسع وثمانين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وسبعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والمستعلى خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى.
وفيها قتل سوتكين والى قلعة دمشق.
وفيها كسر دقاق بن تتش على قنّسرين.
وفيها توفى منصور بن قيصر بن مروان صاحب ديار بكر.
وفيها ظهر نجم بذنب طويل تقدير عشرين رمح.
وقيل إنّ فى هذه السنة كان خروج نزار والأفتكين من الإسكندرية حسبما سقناه والله أعلم.
(6/448)
________________________________________
ذكر سنتى تسعين وإحدى وتسعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم أربعة أذرع وأحد عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واحد وعشرون إصبعا.
الماء القديم لسنة إحدى أربعة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر أصبعا.

الحوادث
الخليفة فيهما المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والمستعلى خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه مدبّر الممالك المصرية.
وفى سنة تسعين نزلت الإفرنج خذلهم الله على أنطاكية وفتحوا سميساط.
(6/449)
________________________________________
ورأيت فى مسوّداتى أن فى سنة إحدى وتسعين ظهر بمصر ظلمة عظيمة غشيت الناس إلى أن ظنّوا أنّ القيامة قد قامت، ولم ير بعضهم بعضا، وأجمع الناس أنّهم لم يروا من عهد آدم عليه السلام إلى ذلك التاريخ مثل هذه الظلمة، وقوى الريح الأسود، حتى تاهت الناس فى تلك الظلمة عن منازلهم، وأقامت كذلك سبع ساعات من النهار، ثم سكن الريح وظهر النور بعد العصر، ولم يؤذّن أحدا فى ذلك اليوم لا ظهر ولا عصر لدهشة الناس وعدم معرفة الوقت.
وفيها فتح أمير الجيوش الأفضل دمشق، وعادت فى ولايته، (ص 256) وتسلم بيت المقدس بالأمان.
وفيها ملكت الفرنج الرّها ومرعش والحدث وكيسون وأنطاكية مع عدة قلاع بالشرق.
وفى سنة إحدى كان بمصر وباء كثير وموت، وعدمت ناس كثيرة.
(6/450)
________________________________________
ذكر سنتى اثنتين وثلاث وتسعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة اثنتين ستة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع.
الماء القديم لسنة ثلاث عشرة أذرع وستة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة خمسة عشرة ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

الحوادث
الخليفة فيهما المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والمستعلى خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية.
وفيها، وهى سنة اثنتين، غلب الفرنج خذلهم الله على أكثر الشام ولم يبق غير دمشق، واستعادوا بيت المقدس من المسلمين، وكان
(6/451)
________________________________________
ذلك فى شهر رمضان. وكان أشدّ ما على المسلمين من أخذهم هذا البيت المقدس بعد استنفاده منهم وكذلك أخذوا المعرة، ونقلوا المسلمون مصحف عثمان من المعرّة إلى دمشق.
وفى سنة ثلاث أخذوا الفرنج سروج.
وفيها توفى عميد الدولة ابن جهير.
وفيها ركب المستعلى بالله إلى مصلّى العيد، وناب عن أمير الجيوش الأفضل أخوه المظفّر بسبب ضعف الأفضل.
وفيها توفى رجاء وولى القضاء ذكاء، والله أعلم.

ذكر سنتى أربع وخمس وتسعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة أربع سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع (ص 257).
(6/452)
________________________________________
الماء القديم لسنة خمس سبعة أذرع وثمانية أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والمستعلى خليفة مصر إلى أن توفّى سنة خمس وتسعين وأربع مئة حسبما يأتى من ذكره فى تاريخه.
وفى سنة أربع أحرقت الأجزاء من «كتاب إخوان الصفا» ببغداد ونهى الناس عن قراءتها، وقتل جماعة من الإسماعيلية.
وتسلّم أتابك جبلة. وملكت الفرنج قيسارية. وقتل سعد الدولة على عسقلان.
وفى سنة خمس توفى المستعلى بالله خليفة مصر ليلة السابع والعشرين من شهر صفر من هذه السنة، وله من العمر سبع وعشرون سنة وشهران وأحد عشر يوما.
(6/453)
________________________________________
وقيل: وشهران غير يوم واحد. وهو الصحيح.
وكانت خلافته مصر وتابعها سبع سنين وشهر واحد وعشرون يوما.
مدبّر دولته طول أيّامه الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه إلى حين وفاته.
قضاته: ابن الكحال، ابن المليحى، ابن رجا، ابن دكا، النابلسى.
قلت: قد تقدم الشرط من العبد أن يذكر آخر كلّ خلافة خليفة من هؤلآء القوم ما ذكر من مدائحه، وها نحن نذكر من المدائح المستنصريّات ما هو مستحسن لائق، من حرّ المديح الرائق، ونتبعه بالمدائح المستعليات، الشوائق المستحليات، جهد الطاقة، وحدّ الاستطاعة، وبالله التوفيق.

المستنصريّات
ولى الدين أحمد بن حران متولى الإنشاء:
إنّ الحقائق قد تبلّج نورها … لمّا تتوّج بالهدى المستنصر
هو ثمن الأملاك قام وثا … من الأفلاك أعلى فى النفوس وأكبر
سادت معاليه كواكب سبعة … بضيائها تحيا النفوس وتبصر
شرف الزمان بهم فصارت أرضه … فلكا هم فيها كواكب زهّر
(6/454)
________________________________________
ابن أبى حصينة:
هو حجة الله العلىّ فلا تكن … متعلّقا أبدا بغير حباله
وعلا سرير الملك من آل الهدى … من لا تمرّ الفاحشات بباله
أوفى البرية كلّها بعهوده … وأشدّها حنقا على أمواله
لو رام تحويل الزمان ونقله … عن طبعه لأماله عن حاله

تهنئة ببنت له من كلام الأشروسى
صلوات الله العائدة البادية، الرائحة الغادية، وتحياته المستمرة، الزاهية، المستقرة، القاطنة، وسلامه المتعهّد بالعشىّ والإبكار، والمتجدّد آناء الليل وأطراف النهار، على مولانا وسيدنا الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، وعلى آبائه الطاهرين الأبرار الراشدين، ما أخضرّ فى غصن ورقة، وناحت على شجر مطوّقة، وأسعد الله مولانا بطلوع شمس غدا نورها كاسفا للأقمار، وزاد ضياؤها فى إشراق النهار، وعظّم عليه يمن سيدة تقاصرت عن علاها الرتب، وتجملت بذكرها السّير والخطب، وما التأنيث منغصا للعطيّة الكريمة، ولا منقصا من العارفة الجسيمة، لأنّ الله تعالى جعل التأنيث فى أشرف ما صنع، وأعظم
(6/455)
________________________________________
ما اخترع، فالأرض مؤنّثة ومنها خلقت الأمم، والدنيا مؤنّثة والعالم لها خدم، والسماء مؤنّثة وهى محلّ الكواكب، والشمس مؤنثة ولها النور الثاقب، والنفس مؤنّثة وهى قوام الحيوان، (ص 259) والعين مونّثة وهى سراج الإنسان، والتقوى مؤنثة وهى خير زاد، والآخرة مؤنّثة وهى دار المعاد، والنبوّة مؤنثة وهى صراط الحقّ، والأمانة مؤنّثة وهى حجّة الله على الخلق، والدولة مؤنّثة والبريّة عبيدها، والدعوة مؤنّثة والهدى عمودها، والبركة مؤنّثة وهى أيمن طالع، والنعمة مؤنثة وهى أسعد قادم، فالحمد لله على جزيل عطيّته، وكريم عارفته، وإليه الرغبة فى تبليغ مولانا أبعد حدود الأمل، وأعلى درجات الغبطة والجذل، وأن يشفع هذه الموهبة بعدد من أنجاب نجله الطاهر، وفروع أصله الكريم العناصر، وهو بكرمه ولىّ الفضل، ومولى الامتنان والتطوّل، إن شاء الله.
ولعبد الباقى التنوخى، ويذكر أخذ البساسيرى للإمام العباسى:
أنت الذى نطق الكتاب وبشّرت … بقدومك العلماء والأحبار
تمحى برؤياك الذنوب كأنّما … رؤياك عند المذنب استغفار
هذا الإمام معدّ أفضل كلّ من … ولدت معدّ قبله ونزار
سائل بنى العبّاس عنه فعندهم … خبر الذى هو عندنا استخبار
لما طغى أنهم (؟) فلم يلبث إلى … أن حاط منك به قوى ودمار
لم يكف أن دكّت أسرة ملكه … حتى حواه بعد ذلك أسار
(6/456)
________________________________________
من يعتقد فيمن سواك إمامة … فإمامه خزى له وشنار
صغنا لك الأشعار يا من صيغت ال‍ … آيات فيه فضاعت الأشعار

المدائح المستعليات
عبد الباقى فى القصيدة التى رثى بها المستنصر (ص 260) وكان وفاة المستنصر ليلا، وجاءت فيه مطر فقال:
وليس ردى المستنصر اليوم كالردى … ولا رزؤه أمرا يقاس به أمر
لقد هاب ملك الموت إتيانه ضحى … ففاجأه ليلا وما طلع الفجر
وأجرت عليه حين مات دموعها … السماء وقال الناس: لا بل هو القطر
وقد بكت الخنساء صخرا وإنّه … ليبكيه من فرط المصاب به الصخر
وقلّدها المستعلىّ الطّهر حسبما … عليه قديما نصّ والده الطهر
وله فى مثل ذلك:
إن كان قد أودى معدّ فانظروا ال‍ … مستعلى العالى ابنه وتبصّروا
تجدوا الإمام أبا تميم نيّرا … ما غاب حتى لاح منه نيّر
وكذا الإمامة كالحديقة لم تزل … غصن بها يذوى وآخر يثمر
وقال أيضا:
عاد عود العلياء غضّا طريّا … واستجدّ الزمان خلقا رضيّا
ورأينا المستعلى العالى الجدّ (م) … كأنّا به رأينا النبيّا
وشهدنا معه المعزّ مع القائم … يتلوا المنصور والمهديّا
(6/457)
________________________________________
وبه أرشد الإله البرايا … وهداهم به صراطا سويّا
وحباهم وعدا بهم فأتاهم … إنّه كان وعده مأتيّا
صلوات الإله تترى عليه … آخر الدهر بكرة وعشيّا
وقال أيضا:
لقد فضّل الخلاّق أحمد فى الورى … وفضّل فى البلدان من أجله مصرا
تحذى رسول الله اسما وكنية … وطهرا فأضحى مثل آبائه طهرّا
(ص 261) فيا ربّ هنينا به وأطل له … كوالده المنصور الباع والعمرا
محمد بن محمد الحسنى يقول:
سليل النبىّ وفرع الوصىّ … طال فخارا وطاب اختيارا
وإرث الخلافة حقّ له … إذا ما سواه ادعىّ واستعارا
فإن تميروا فيه بعد اليقين م … فحاميم أكرم من أن تمارى
يعنى قوله تعالى ({قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}).
حسن بن حيدرة يقول:
ملك الّتى ما أن تنال بحيلة … بل مولد يقضى بها ونجار
سرّ تنقّل كابرا عن كابر … حتى أتته بمحضها الأسرار
(6/458)
________________________________________
ولمحمد بن محمد الحسنى أيضا عند مولد الآمر:
أهدى الزمان لنا بشائر سعده … ووفى لأبناء الرجاء بوعده
واستلّ من جفن المعالى صارما … يفرى الخطوب القادحات بحدّه
نور النبوة والإمامة أصبحا … يتألّقان على ضياء فرنده
بتآمر البناء العظيم تشعبت (؟) … شعب الضلال تحاير عن قصده (؟)
ولحسن بن حيدرة فى ذلك:
ذخر الخلافة أبدته سعادتها … وكان فى عينها من قبل مكتتما
سرّ من الله تخفيه إرادته … عن الجهول وتبديه لمن علما
وله أيضا فيه:
ورث الخلافة كابرا عن كابر … شهدت بذاك بواطن وظواهر
شفع النبوّة بالخلافة إنّه … فيها بأحكام المهيمن آمر
ولمحمد بن القاضى الموفق: (ص 262).
يا عاشر الخلفاء والمحيى لهم … ذكرا روايتنا له عن طاها
أخجلت بالكرم السحائب بعدما … كانت تفاخر بالندى وتباها
وحسمت أدواء القنوط لأنفس … فجعلتها تقوى على تقواها
فأسلم على رغم الليالى آمرا … فيها فأنت سناؤها وسناها
وله أيضا فيه:
إمام تذلّ الحادثات لعزّه … يعيد ويبدى والليالى رواغم
تداركنا والمكرمات دوائر … يصمّ صداها والمعالى معالم
(6/459)
________________________________________
وله أيضا فيه:
أذهبت بالجود ما بالناس من حسد … فأصبحوا فى دراك الرّحب إخوانا
ما زلت أسمحهم نفسا وأسمعهم … همسا إذا سدّ وقر البخل آذانا
وما يجود زمان أنت قاهره … ولا يروّعنا ما دمت ترعانا
قلت: وهذا آخر ما وجدت من مدائح هؤلآء القوم فى «مسير التاريخ» اختصار الشيخ أبى القاسم علىّ بن منجب بن سليمان الكاتب رحمه الله تعالى. والآمر هذا هو آخر من ولى الخلافة على التلاوة من عنصر المهدى، وهو يعدّ عشرة جدود خلفاء إلى جدّه عبيد الله المهدى.
وذلك أنه الآمر بن المستعلى، بن المستنصر، بن الظاهر، ابن الحاكم، بن العزيز، ابن المعز، ابن المنصور، ابن القائم، ابن المهدى.
(6/460)
________________________________________
ذكر خلافة الآمر المذكور
وما لخّص من أخباره وسيرته
هو أبو علىّ منصور بن أبى القاسم أحمد بن المستعلى بالله وباقى نسبه قد ذكرناه.
ولد فى المحرم من سنة تسعين وأربع مئة.
بويع له يوم الثلاثاء الثالث عشر من المحرّم، وقيل السابع عشر من صفر وهو الصحيح، من هذه السنة. وله خمس سنين وأشهر وأيام.
قام بأمره أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالى المستنصرى، وكفله ودبّر (كذا)، وقام بأمره أحسن قيام، وساس الأمور أجمل سياسة. وحسنت حال الرعية فى أيّامه إلى الغاية.
ولم يزل مستبدّا بالأمور من غير منازع ولا مشارك ولا معاند حتى كبر الآمر وعرف جيّده من رديّه، وحسّن له أن يعمل على قتل الأفضل ليخرج من تحت حجره، فأتقن أمره وباطن عليه، حتى قتل فى تاريخ ما يأتى من ذكره.
ثم وزر له بعده جماعة تأتى أسماؤهم فى تواريخها إن شاء الله تعالى.
(6/461)
________________________________________
ذكر سنة ست وتسعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا. وخمسة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية.
وفيها فتح دقاق بن تتش السلجوقى الرحبة.
ودخل كمشتكين بعلبكّ، وحاصر شرف الدولة دمشق وفتحها عنوة بالسيف.
(6/462)
________________________________________
ذكر سنة سبع وتسعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث (ص 264)
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية.
وفيها ملكت الفرنج خذلهم الله عكّا من المسلمين، وقتلوا من كان بها بعد ما أمنوهم.
وفيها توفى الملك دقاق بن تتش السلجوقىّ صاحب دمشق فى شهر جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفيها ظهر كوكب عظيم بالشرق أبيض كأنّه القمر، له ذؤآبة من شرقيّه، تقدير طولها مئة وخمسين ذراعا، وله شعاع وضوء كالقمر الزاهر، وأقام يتردّد مدّة أيّام وليال. وكان إذا كان مع القمر يظنّ الناس أنّهما قمران، لولا ما فضل القمر بذؤآبته، وكان من الأعاجيب السمائية (كذا).
(6/463)
________________________________________
ذكر سنة ثمان وتسعين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وخمسة أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالى المستنصرىّ، والقاضى النابلسى بحاله.
وفيها نزل أتابك طغتكين على دمشق خامس عشر جمادى الأولى فأقام محاصره إلى المغرب (كذا) من جمادى الآخرة. فملكها بالأمان ودخل إليها وصلّى تلك الجمعة بجامعها، فقفز عليه إسماعيل ليقتله فضربه مملوك كان خلفه بلتّ حديد فقتله، وسلم أتابك.
(6/464)
________________________________________
ذكر سنتى تسع وتسعين وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة تسع وتسعين ثمانية أذرع فقط.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا.
الماء القديم لسنة خمس مئة ثمانية واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.

الحوادث
الخليفة فيهما المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه مدبّر الممالك المصرية.
وفى سنة تسع وتسعين استولى الملك رضوان صاحب حلب على فامية، وكسر الفرنج على أرتاح، واستولى طغتكين أتابك على بصرى وصرخد.
وفيها توفى يوسف بن تاشفين صاحب المغرب.
وفى سنة خمس مئة قتل قلج أرسلان لسيف الدولة علىّ بن بسام صاحب الرقة.
وفيها استعادوا الفرنج فامية من المسلمين.
(6/465)
________________________________________
ذكر سنة إحدى وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وخمسة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكام البلاد.
ووزير الخلافة ابن جهير عميد الدولة، إلى أن توفى فى هذه السنة.
ووزر أخوه أبو القاسم علىّ ولقّب زعيم الدولة.
والآمر خليفة مصر وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى،
(6/466)
________________________________________
واستكمل دار الملك وجعلها دار إقامته، وهى دار الوكالة اليوم بمصر فى هذا التاريخ. ونقل إليها من الأموال والتحف والأمتعة ما يعجز عن بعض وصفه اللسان.
قال الشيخ شمس الدين ابن خلّكان رحمه الله تعالى فى تاريخه:
كان بهذه الدار عشرة مجالس مفروشة (ص 266) بأنواع الفرش الديباج والبسط الحرير. وكان فى كلّ باب من أبواب هذه المجالس العشرة مسمار ذهب بحلقة زنته مئة دينار، معلّق فيه منديل زركش يتناول منهم (كذا) ما شاء.
وقيل إنّ الأفضل وقع له كنز يعرف بكنز الحمارة، ذكر ذلك صاحب كتاب «حلّ الرموز فى علم الكنوز».
حكى أنه كان بمصر رجل أحدب إسكاف يرقّع العتيق من المداسات، فاجتمع له ثمانين درهم، ففكّر أنّه يشترى بها حمارا يكون يركبه إذا فرغ من شغله. فخرج إلى سوق الدوابّ، فوجد حمارة تباع بسائر عدتها بثمانين درهم. وهى من تركة إنسان توفى فشراها. فلما كان بكرة ذلك اليوم ركبها الأحدب وخرج نحو القرافة،
(6/467)
________________________________________
وهى تسرع به المشى من غير أن تكلّفه لضربها. فأعجبه منها ذلك، واستمر كذلك إلى بساتين الوزير، فعرّجت طالعة نحو الجبل وهى تسرع أشدّ إسراع، ولا عاد يقدر على منعها. فلم تزل به كذلك إلى أن وصلت به فى الجبل إلى مكان فيه مدود مبنى وبه أثر شعير وتبن وقصريّة وجرّة ومقود بهيمة مشدود إلى مكتوم. فوقفت على ذلك المدود. فتعجّب الأحدب ونزل من عليها، فوجد إلى جنب المدود طابق بدرج، فجعل البهيمة فى ذلك المقود ونزل فى تلك الدرج، فأوصلته إلى قاعة حسنة بأربع أواوين متقابلة، فيها من الأموال ما لا يحصره لسان. ووجد فى زاوية المكان شعير وتبن فأخذ منه كفاية الهيمة وطلع أرماه لها، ونزل وصار يرقص ويصفّق وقد خرج من عقله فرحا. ثم إنه نظر إلى زنبيل معلّق فحطّه فوجد فيه مأكول مشوى وخبز وحلوى. فأكل، وفى وسط تلك القاعة بركة ماء كأحلى ما يكون وأعذب، (ص 269) فشرب منه، وسقى البهيمة، وأخذ من ذلك الذهب فى خرجه شى تطيق البهيمة حمله، وركب وعاد إلى مصر مع عشى (كذا). ثم إنه اكترى قاعة حسنة فى
(6/468)
________________________________________
مكان لا يعلم به، وصرف من الذهب قليل، وعاد يكسى (كذا) تلك القاعة أوّل فأوّل، حتى أعادها كأحسن ما يكون من آدر الأمراء الكبار، وكذلك صنع لنفسه من كلّ ملبوس حتى يلبسه إذا خلا بنفسه فى تلك القاعة، وهو مع ذلك لا يفارق ما كان عليه من خلقانه وهو فى دكّانه على حاله، ويعاود المكان ينقل منه أوّل بأوّل.
قال: وكن جوارى الأفضل إذا أردن الجواز إلى الحمّام عبرن من عليه، وكان فيهن جارية من حضاياه تعبث بالأحدب إذا مرّت به وتضحك عليه، فيقول لها: والله لو زرتنى لنظرتى (كذا) عندى ما لا نظرته عند الأفضل. فلما تكرّر عليها القول قالت: يا أحدب تقول هذا الكلام هزل أم جد؟ فقال: لا والله يا نور عينى ما أقوله إلاّ جد. فقالت: جهّز أمرك لمثل هذا اليوم أنا عندك.
فلما كان ذلك اليوم حضرت إليه متنكّرة وحدها، فأخذها وأتى بها القاعة، فنظرت إلى زىّ حسن، ثم قدّم لها مأكل عنده ومشروب فى أوانى عجيبة، لم تنظر عند الأفضل مثلها. وقدّم لها كيس فيه ألف دينار. وأقامت عنده إلى آخر النهار، وخرجت إلى منزلها وقد
(6/469)
________________________________________
تعجّبت من أمر الأحدب. ثم إنها صارت تعاوده وكلّما انتهت إليه يعطيها كيس فيه ألف دينار. وامتحن الأحدب بها، فلما علمت الجارية أنّها أخذت بقلبه سألته عن أمره، ولم تزل به حتى اعترف.
فقالت: أشتهى أتوجّه معك وأتفرّج فى هذا المكان. فأنعم لها بذلك.
وأردفها خلفه على تلك البهيمة وأتى إلى المكان. فنظرت الجارية إلى ما أبهر عقلها. ثم إنها نظرت إلى بدنة لؤلؤ كبار مفصّلة بقضبان الزمرّد وقطع الياقوت البهرمان وقطع البلخش. فقالت: لابدّ لى من هذه البدنة. فقال الأحدب: وقد غلب عليه هواه لشقاه: هى لك.
فأخذتها وافترقا. ثم إنه كان قد ولد للأفضل مولودا، فعمل له مهمّ كبير اجتمع فيه سائر نساء كبار الدولة. فلبست تلك الجارية تلك البدنة فوق سائر قماشها. فعادت تشتعل كالجمر. فلما رأوها بقية الحضايا عرّفوا الأفضل، فأمر بإحضارها، واستقرّها فاعترفت على الأحدب.
فأحضر، وتوجّه الأفضل معه وتسلّم الكنز، ولم ير بعدها الأحدب.
فكان هذا سبب سعادة الأفضل التى يخامر العقول ذكرها، كما يأتى بعض شئ من ذكر ذلك مما وجد فى تركته عند وفاته مما أثبت ذلك جماعة <من> المؤرخين منهم القاضى ابن خلّكان رحمهم الله.
(6/470)
________________________________________
وذكر أنّ بعض حاشية المستنصر اطّلع على أمر هذا الكنز فكتب إلى المستنصر رقعة يسأل المثول فى خلوة من الأفضل. فبينا هو يحدّث المستنصر عن الكنز وسببه ووصول الأفضل إليه لم يشعر إلاّ وهو قد دخل على المستنصر بغير إذن. وكان الأفضل إذا غضب على أحد قطع سائر أعضائه. فنظر إلى ذلك الرجل وهو يحدّث المستنصر عن الكنز، فأشار إليه أن لا بدّ ما أقطع أعضاءك. فلم يزل الرجل فى حديثه حتى انتهى. وقال: فإنى كذلك يا أمير المؤمنين، وإذا بحيّة عظيمة خرجت علىّ من ذلك الكنز فصرخت صرخة عظيمة أنبهتنى زوجتى، فانتبهت مرعوبا. فقال المستنصر: ما هذا ويلك؟ أكان ذلك رأيته فى منامك؟ قال: نعم يا مولانا. فقال قبّحك الله! اصفعوه. فقال الرجل: الحمد لله! بالتصفيع ولا بالتقطيع.
(ص 271).
وسيأتى من ذكر الأفضل عند وفاته شيئا آخر إن شاء الله.
(6/471)
________________________________________
ذكر سنة اثنتين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وثمانية عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية.
وفيها سلّمت الموصل لممدود.
وملكت الفرنج طرابلس، وحلبا (؟) من العرب، وهو ابن عمار، بعد أن حوصر سبع سنين، كما يأتى من خبره عند ذكر فتح طرابلس إن شاء الله تعالى.
(6/472)
________________________________________
وفيها أهدى الأفضل للآمر هدايا حسنة فى يوم خميس العدس، من جملتها قطعة مرجان عزيزة الوقوع خطرة المقدار، فحضر الجوهريّون وقالوا: هذه يعمل منها دواة قطعة واحدة، لم ير الناس أحسن منها. فجرّدوا العناية فى عملها فى أسرع وقت. فجاءت شئ عظيم القدر.
فلم يحسن أحدا من الشعراء على أن يأتى بما يناسب ذلك فى القول، إلى أن حضر أحمد بن منصور فقال:
ألين لداود الحديد تكرّما … يقدّره فى السرد وهو شديد
ألين لك المرجان وهو حجارة … على أنّه صعب المراس بعيد
فأمر له بجائزة سنّية وملبوس ومركوب، واستحسن ذلك منه.

ذكر سنتى ثلاث وأربع وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة ثلاث ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. (ص 272)
(6/473)
________________________________________
الماء القديم لسنة أربع سبعة أذرع وثلاثة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.

الحوادث
الخليفة فيها المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش والأفضل مدبّر الممالك المصريّة بحاله.
وفى سنة ثلاث تسلّمت الفرنج خذلهم الله بيروت من المسلمين.
وفى سنة أربع تسلّموا أيضا صيدا من المسلمين.
وتوفى هبة الله بن الموصلى بحلب.
وفيها هبّت ريح سودآء بمصر، وطلع سحاب أسود أخذ أنفاس العالم، وأظلمت منه الدنيا، وظنوا أنّ القيامة قد قامت، والريح تسفى الرمل فى أعين الناس، حتى يأست العالم من أرواحهم، ثم تجلّى ذلك الظلام وتقشّع إلى الحمرة، ثم إلى الصفرة، وظهر للناس الكواكب، وخرجت الناس من منازلهم يستغيثون إلى الله عزّ
(6/474)
________________________________________
وجلّ، ولم تزل كذلك من بعد العصر إلى أذان المغرب، وهذه أخرى غير الأوّلة التى سقناها فى سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، فلا يظنّ أنها تلك، والله أعلم.

ذكر سنتى وخمس وستّ وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة خمس سبعة أذرع وثلاثة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا.
الماء القديم لسنة ستّ ثمانية أذرع وخمسة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان.

الحوادث
الخليفة فيها المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية بحاله.
(6/475)
________________________________________
وفى سنة خمس كان بمصر وباء عظيم وموت، إلى أن عجزت المواريث (273) عن إحصاء من مات.
وفى سنة ست تسلّم أتابك صور من المصريّين.
وفيها توفى على كرد صاحب حماة.
وقتل مودود صاحب الموصل. قتلوه الإسماعيلية وهو راكب بالميدان وقتل قاتله.
وفيها ملك عماد الدين قلاع الهكارية.

ذكر سنتى سبع وثمان وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسبع ثمانية أذرع وخمسة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان.
(6/476)
________________________________________
الماء القديم لثمان سبعة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع.

الحوادث
الخليفة فيهما المستظهر أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية.
وفى سنة سبع توفى الملك رضوان صاحب حلب، وملكها تاج الدولة.
وفى سنة ثمان كسر أتابك الفرنج، وتسلّم صور من المصريين، وعاد طنطاش إلى قلعة جعبر.
وفيها كانت زلزلة بحلب، وخسف بسميصاط ومرعش، وهلك أناس كثير منهما. والله أعلم.
(6/477)
________________________________________
ذكر سنتى تسع وعشر وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لتسع سبعة أذرع وستة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط.
الماء القديم لعشر سبعة أذرع وتسعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع.

الحوادث
الخليفة فيهما المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه مدبّر الممالك المصرية (ص 274).
وفى سنة تسع نزل أتابك على فامية وتسلّمها، ثم توجّه إلى بغداد فى آخر هذه السنة.
(6/478)
________________________________________
وفى سنة عشر احترقت المدرسة النظامية، وهى أوّل مدرسة بنيت فى الإسلام.
وفيها قتل أحمد صاحب أذربيجان.
وفيها اجتمع أتابك بالإمام الناصر وأخلع عليه، وطوّق. وعاد وهجم على حمص.
وفيها قتل السلطان محمد بن طبر السلجوقى ببغداد وقام بالملك ابن عمه السلطان محمود بن محمد السلجوقى.

ذكر سنتى إحدى عشرة واثنتى عشرة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لإحدى عشرة سبعة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا.
(6/479)
________________________________________
الماء القديم لسنة اثنتى عشرة سبعة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع.

الحوادث
الخليفة فيهما المستظهر أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى سنة اثنتى عشرة.
والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية.
وفى سنة إحدى عشرة قتل كامل بن منقذ صاحب شيزر.
وفيها سار أتابك إلى عسقلان، وسيّر إليه خليفة مصر الخلع العظيمة.
وفيها هلك الملك بردويل الفرنجى. وكان قد قصد الديار المصريّة فى جموع عظيمة، فسار حتى وصل الفرما فدخلها وأحرقها، وأحرق جامعها وسائر مساجدها، ورحل عنها، فمرض فى الطريق فمات قبل وصوله إلى العريش بالسبخة، فشقّوا أصحابه جوفه، ونكثوا حشوه
(6/480)
________________________________________
فى السبخة، وصبّروه وأتوا به قمامة فدفنوه بها. ولم يكن بالسبخة المعروفة به تحت ذلك الردم غير حشو جوفه.
وكان بردويل هذا صاحب البيت المقدس وعكّا ويافا وعدة (ص 275) من بلاد بالساحل، وكان جبار عنيد وكافر شديد، هائل المنظر، شديد البأس. وهو استرجع جميع هذه البلاد من المسلمين.
وكان موته لطف من الله عز وجل بأهل الديار المصرية.
قال ابن واصل: وفى سنة إحدى عشرة ولد نور الدين محمود ابن عماد الدين زنكى بن قسيم الدولة آقسنقر المقدم ذكره.
وفيها توفى السلطان محمد، وجلس ولده محمود بن محمد بالموصل.
ثم ولاها لقسيم الدولة آق سنقر البرسقى، وهو غير آق سنقر والد عماد الدين أتابك زنكى، وذلك فى سنة خمس عشرة وخمس مئة. وأمره السلطان بحفظ عماد الدين رعاية لخدمة أبيه آق سنقر. فقام بذلك، وكان لا يقطع بأمر دونه.
وفيها أخرب السيل سنجار.
وفى سنة اثنتى عشرة تسلّم نجم الدين ألب غازى حلب.
(6/481)
________________________________________
ذكر وفاة الإمام المستظهر بالله
توفى ثانى عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة وخمس مئة.
وله اثنان (كذا) وأربعون سنة.
وكانت خلافته ستا وعشرون (كذا) سنة وأربعة أشهر.
وزر له عميد الدولة أبو منصور محمد بن محمد بن جهير، إلى أن توفى فى تاريخ ما تقدم.
ثم وزر له أخوه زعيم الدولة أبو القاسم.
صفته: طويل جسيم، أبيض، أزرق، أشقر، حسن السيرة، جميل الذكر، الغالب على جميع أيّامه بنى سلجوق.
نقش خاتمه: المستظهر بالله عبد الله.
(6/482)
________________________________________
ذكر خلافة المسترشد بالله بن المستظهر بالله
وما لخّص من سيرته
هو أبو منصور الفضل بن أحمد المستظهر بالله، وباقى نسبه قد علم.
أمّه أمّ ولد تدعى حبش.
بويع له ثالث عشر ربيع الأول من هذه السنة. لم يزل خليفة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر.
ووزر له أبو على الحسين بن على بن صدقة، وبنى سلجوق الحكّام على الأمر.
(6/483)
________________________________________
ذكر سنتى ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس مئة
الماء القديم لسنة ثلاث عشرة: ستة أذرع واحد وعشرين إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وسبع أصابع.
الماء القديم لسنة أربع عشرة: سبعة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع.

الحوادث
[الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم].
[والآمر خليفة مصر].
وفى سنة ثلاث عشرة كسر سنجر شاه لمحمود ابن أخيه.
وفيها كسر أتابك الإفرنج على جبل السمّاق كسرة عظيمة،
(6/484)
________________________________________
وكسرهم أيضا أيل غازى على البلاطة من أعمال حلب.
وفيها تسلّم أتابك طغتكين تدمر والشقيف.
ومضت سنة أربع عشرة لم يتجدد فيها شئ بحكم التلخيص.

ذكر سنة خمس عشرة وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وأربعة أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر.
وفيها قتل أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالى المستنصرى فى سلخ رمضان من هذه السنة.
(6/485)
________________________________________
وثب عليه على جسر مصر أقوام من المشارقة فجرحوه، ومسك بعضهم وهرب البعض، وحمل فى عشارى إلى بيته بدار الملك، وأخفى أمره. ثم نزل الخليفة الآمر إلى دار الملك وأمر أن لا يتحدّث أحدا بموته. ثم نقل منها أموالا لا تحصى وتحف وأمتعة ما يعجز عن حصرها.
قال القاضى شمس الدين ابن خلّكان رحمه الله فى تاريخه:
إنه لما مات وجد له من جملة ما وجد ست مئة ألف [ألف] دينار عين مصرية ومئتان وسبعون أردبا دراهم نقد مصر، [وخمسة وسبعون ألف ثوب ديباج أطلس، وثلاثون راحلة أحقاق ذهب عراقى، ودواة ذهب فيها جوهر قيمته اثنا عشر ألف دينار، ومئة مسمار من ذهب، وزن كل مسمار مئة مثقال] وخمس مئة صندوق قماش من دقّ تنّيس [ودمياط]، وشئ لا يحصيه إلاّ الله تعالى. . .
ومن جملة ما وجد له صندوقين ملئا إبر ذهب برسم الجوارى.
وكان ضمان ألبان مواشيه من أغنام وأبقار وجواميس فى السنة ثلاثين
(6/486)
________________________________________
ألف دينار، وأشياء لا يحملها العقل (ص 267) كثرة. وأما الجواهر والفصوص والأوانى المرصّعة فشئ عظيم. والله لقد أضربت عن ما نقله ابن واصل رحمه الله من عظيم ذلك، لأنّى رأيته لا يصدّقه من وقف عليه. وأمره فى ذلك إلى الله عزّ وجلّ.
وكان مدة وزارته وأبوه ثمانية وعشرين سنة وستة أشهر، وأحد عشر يوما.
وعمّر فى مدة حياته عدّة عماير منها: التاج والسبع وجوه، وذكر أنّ من التاج إلى السبع وجوه عقدا مبنيّا من تحت الأرض يمشى فيه الفارس برمحه، أزجّ معقودا، وقيل إنّ فيه له كنزا مدفونا إلى الآن، وإنّ فيه أكثر ذخائر الكنز الذى وجده.
وعمّر بالروضة عدّة عماير ومناظر، وكذلك بظاهر مصر، والسوق الذى داخل باب القنطرة المعروف بسويقة أمير الجيوش، وبستان البقل مع عدة بساتين أخر، ومستنزهات عدّة.
وأضربت عن كثير مما نقل عن أمواله وأحواله طلبا للايجاز وقصدا للاختصار.
واستبد الآمر بالأمور بنفسه.
(6/487)
________________________________________
ثم وزر الأمير محمد بن فاتك البطايحى وأنعت بالمأمون. وهو أبو عبد الله محمد بن نور الدولة أبى شجاع فاتك، وطوّق بطوق ذهب مرصّع بجواهر، وتوّج بتاج مكلّل، وكتب له سجلّ بنعوته وأوصافه.
فمن ذلك:
السّيد، الأجلّ، المأمون، تاج الخلافة، وجيه الملك، فخر الصنائع، أمير الجيوش، ناصر الإمام، وسيف الإسلام، كامل قضاة الدين، هادى دعاة المؤمنين، نظام الوجود، خالصة أمير المؤمنين، أعانه الله على مصالح المسلمين، ووفّقه لخدمة أمير المؤمنين، وعضد بسموه ورثته (كذا) الدنيا والدين، وأدام قدرته وأعلا كلمته.
وفيها كسر أتابك الفرنج على تل حورى.
وفيها هبت ريح سودآء بمصر وأقامت ثلاثة أيّام، وهلكت أناس كثيرة وحيوان كثير (كذا).
وفيها توفى أبو محمد القاسم بن علىّ الحريرى صاحب المقامات البديعة التى ما عمل مثلها إلى حين تسطير هذا التاريخ رحمه الله تعالى.
(6/488)
________________________________________
وقفت على مقامات الشيخ الحافظ ابن الجوزى، وهى خمسون مقامة، ولعلهنّ مما يضاهين مقامات الحريرى، وإنما نفس الحريرى رحمه الله نفس فاضل أديب، ونفس ابن الجوزى رحمه الله نفس واعظ أريب، وكلّ منهما ففى معناه مصيب.
وفيها أقطع أتابك زنكى شحنكية البصرة، وعظم شأنه وكبر سلطانه وهابه الأمير دبيس بن صدقة صاحب الحلّة حسبما ذكرنا من قبل.

ذكر سنة ست عشرة وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستّة أذرع وستة عشر ذراعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
(6/489)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر.
وأمير الجيوش محمد بن فاتك.
وفيها مات ملك الخزر واسمه داود، وكان فتح تفليس، وكان له نظر عظيم فى الإسلام. وجرى له مناظرات مع القاضى الكنجى فى الكلمة هل هى مخلوقة أو قديمة.
وفيها أكل القطا زرع الشام.
وفيها كسر دبيس البرسقى، وتوفى الحاجب فيروز، وقبض المصريون على الأمير سعود والى صور عن أتابك طغتكين.
وفيها توفى أيل غازى ابن أرتق صاحب ماردين، ونزلت الفرنج خذلهم الله على بالس وحاصروها، وزلزلت مدينة الحيرة المدعوة كنجة من بلاد تجاور الكرج، وانخسف طرف منها، وانهدم سورها. فسار إليها ملك الكرج ودخلها وعادت فى مملكته. والله أعلم.
وفى سنة ست عشرة [وخمس مئة] أقطع عماد الدين شحنكيّة
(6/490)
________________________________________
البصرة [وواسط]، وعظم شأنه، وهابه الأمير دبيس بن صدقة صاحب الحلّة، وهمّ دبيس بقصد بغداد، فسار إليه آقسنقر البرسقى بنفسه، وتبعه الإمام المسترشد [بالله] فانهزم عسكر دبيس، وقتل وأسر منهم خلق كثير. وكان لعماد الدين أثر حسن فى هذه الوقعة.
وذلك فى أوّل المحرّم سنة سبع عشرة وخمس مئة. ولحق دبيس بالسلطان طغرل ابن السلطان محمد وكان معه عاصيا على السلطان محمود، [وأمر السلطان لآق سنقر البرسقى أن يرجع إلى الموصل فعاد].
ثم إن عماد الدين ابن زنكى قال لأصحابه: قد ضجرنا مما نحن فيه، كلّ يوم فى مكان. وجمع رأيه وسار من البصرة إلى خدمة السلطان محمود. وأقام عنده فى منزله، وكان يقف إلى جانب الملك عن يمينه، لا يتقدّم عليه أحد، وهو مقام والده قسيم الدولة من قبله، [وبقى لعقبه من بعده].
ثم إنّه بلغ السلطان انحلال البصرة ونهبها. فأمر عماد الدين زنكى بالمسير إليها، وأقطعه إيّاها. فقام بأمرها أتمّ قيام، وعظم عند السلطان وزاد محله. وجرى بين برتقش شحنة بغداد وبين الخليفة المسترشد نفرة، فهدّده الخليفة، فسار عن بغداد شاكيا للسلطان من الخليفة. وقال: إنه قد جمع العساكر، وعزمه منعك من السلطنة ببغداد والعراق، فسار السلطان إلى بغداد، وجرت حروب
(6/491)
________________________________________
كثيرة ثم جعل عماد الدين زنكى على شحنكية بغداد والعراق مضافا إلى ما كان بيده من البلاد والإقطاع. وسار السلطان من بغداد.

ذكر سنة سبع عشرة وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 277)
الماء القديم ثمانية أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر.
وأمير الجيوش محمد بن فاتك إلى أن قبض عليه <فى> الرابع من شهر رمضان من هذه السنة. وكان قد أسآء السيرة، وظلم وعسف، وتعاظم فى نفسه، وأراق الدماء، وكسر العظم، وافترد برأيه.
(6/492)
________________________________________
ويقال إنّه كان فرّاشا، ورأوه الناس وهو يرشّ الماء بين القصرين، والله أعلم.
قبض عليه فى القصر الغربىّ بعد صلاة المغرب.
ثم إنّ الخليفة الآمر استبدّ بالأمور، وقام بتدبير الدولة بنفسه، وأحسن عيار الذهب، ولم يسبقه إلى ذلك أحد غير الحجّاج بن يوسف الثقفى، وقد تقدّم ذلك.
وفيها تسلم أتابك حماة وعادت فى مملكته والله أعلم.
وفيها ولى أتابك زنكى شحنكيّة العراق من قبل السلطان محمود ابن محمد السلجوقى، وتزايدت هيبة أتابك حسبما تقدّم من ذكر ذلك.

ذكر سنة ثمان عشرة وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
(6/493)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر. مدبّر أمور مملكته بنفسه.
وفيها ملك دبيس البرسقى حلب.
وهبت ريح حملت من رمل الرصافة إلى قلعة جعبر، وفتحت الفرنج صور فى هذه السنة، وتوفى حسن الصبّاحى، وكان رئيس الإسماعيلية بعد سنان، وكان رفيق الإمام أبى حامد الغزالى فى قراءة بعض العلوم.
وقتل القاضى الهروىّ (ص 278) وولده ببغداد.
وفيها نزل دبيس البرسقى (كذا) الملقّب سيف الدولة وصحبته ملوك الفرنج على حلب فجاءهم كنجاك الرشيقى صاحب الموصل ورحّلهم عن حلب وتسلّمها. وكانت الفرنج قد أشرفوا على أخذها، لأنها كانت خلت من الرجال، ولم يبق فيها غير مئتى وستين رجلا.
(6/494)
________________________________________
وكانوا تخيّلوا بالنساء على الأسوار فى زىّ الرجال. فأقاموا الفرنج عليها تسعة أيّام. فلما كان اليوم العاشر تشاوروا أهل حلب على أنهم يخرجون ويطلبون الأمان من القتل. فلما كان بعد العصر أرسل الله عز وجل سيلا عظيما أخذ الفرنج ودوابهم وجميع مالهم، ووصل كنجاك الرشيقى (كذا) أوّل الليل وأصبح فكسرهم وتسلّم حلب.
وفيها حاصروا الفرنج خذلهم الله صور وأخذوها.

ذكر سنة تسع عشرة وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم تسعة أذرع وثلاثة أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع واحد.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
(6/495)
________________________________________
والآمر خليفة مصر مدبّر أمور مملكته بنفسه.
وقيل فى هذه السنة كان قتل الوزير فاتك وخمسة نفر من إخوته.
وفيها أخذ ملك الخزر مدينة دون، وقتل منها عالم عظيم لا يحصى عددهم إلا الله عزّ وجلّ.
وفيها مات ناصر الدولة ابن طرخان صاحب بالس.
وفيها انكسرت المسلمين على مرج الصفّر على ضيعة (ص 279) تسمى شرخوب، وقتل من أهل دمشق خلق كثير. وكان الرشيقى (كذا) صاحب دمشق يومئذ. وقتل ذلك اليوم علىّ وصالح أولاد عامر النويرى، وكذلك قتل محمود بن قراجا وكان صاحب حماة.
وقتل علىّ بن سلام النميرى، وكانت نوبة صعبة على المسلمين.

ذكر سنة عشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثمانية أذرع وثلاثة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.
(6/496)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر يدبّر أمور مملكته بنفسه.
وفيها قتل البرسقى، قتله <الباطنية، ونهض> أتابك وتسلم تدمر والسخنة إلى ما معهما.
وقيل فيها دخل محمد بن تومرت بغداد فى طلب العلم، فحصّل فى المدة القريبة ما لم يحصّله غيره فى الزمان الطويل.
وفى سنة عشرين وخمس مئة قتل آقسنقر البرسقى، قتلوه (كذا) الباطنية.
وكان بيده الموصل وحلب، ففوّض السلطان الأمر بعده لولده عزّ الدين مسعود، فلم تطل أيّامه، وتوفى سنة إحدى وعشرين، وولّى أخ له، وقام بتدبير أمره الجاولى.
فكان من ولاية عماد الدين ما ذكرناه فيما يأتى إن شاء الله.
(6/497)
________________________________________
ذكر سنة إحدى وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ثمانية أذرع وسبعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين بحاله، وكذلك بنو سلجوق، والآمر خليفة مصر مدبّر أمور مملكته بنفسه.
وفيها توفى القاضى الأندلسى.
وتولّى القضاء مكانه أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسّر القيسرانى.
وفيها دخل أتابك الموصل، وتوفى (ص 280) مسعود بن البرسقى وتسلم المختص الرحبة.
وفيها كان أوّل:
(6/498)
________________________________________
مملكة أتابك زنكى
هو عماد الدين أتابك زنكى السلجوقىّ أبو نور الدين محمود، صاحب الشام. وهو أوّل من ملك بيت زنكى الموصل.
وأتابك زنكى هو ابن قسيم الدولة آقسنقر الحاجب. [كان] مملوكا للسلطان العادل عضد الدولة ألب أرسلان ابن داود بن ميكاييل ابن سلجوق.
ثم كان فى خدمة ولده جلال الدولة ملكشاه، وترقّت به الأحوال حتى ملك حلب وكثير من الشام والشرق، إلى أن قتل فى سنة سبع وأربعين وأربع مئة، فى معركة الحرب بينه وبين السلطان تاج الدولة السلجوقى، صاحب دمشق يومئذ. وكان قسيم الدولة المذكور قايم فى ذلك وفآء بابن أستاذه ركن الدولة بركياروق بن السلطان ملكشاه. ولما قتل قسيم الدولة آقسنقر كان زنكى يومئذ دون البلوغ، اجتمع عليه مماليك أبيه منهم زين الدين على كوجك صاحب إربل. وتنقّلت بزنكى الأحوال حتى صار منه ما يذكر.
قال ابن واصل: إنه لما قتل آقسنقر البرسقى-وهو غير آقسنقر
(6/499)
________________________________________
أبى زنكى-وكان صاحب الموصل، قتلوه الباطنية سنة عشرين وخمس مئة-[فوّض السلطان الأمر بعده بالمحصل إلى ولده عز الدين مسعود بن آق سنقر. فلم تطل أيامه وتوفى سنة إحدى وعشرين وخمس مئة] وولى [بعده] أخ له، وقام بتدبير الملك مملوك لأبيه يقال له جاولى. فأرسل إلى السلطان محمود يطلب تقرير البلاد [على ولد آق سنقر البرسقى]، وبذل فى ذلك الأموال الجمة. وكان سيّئ السيرة. وسيّر الرسول فى ذلك القاضى بهاء الدين على بن القاسم [الشهرزورى]. فلما اجتمع بالديوان السلطانى حسّن الأمر، وسعى لزنكى بن آقسنقر قسيم الدولة، لما كان يعلم من شهامته وحسن سيرته، وبذل عنه الأموال الكثيرة، فأجيب إلى ذلك، وولى البلاد، وكتبت له المناشير السلطانية، وضم إليه ولد السلطان محمود ألب أرسلان -المعروف بالخفاجى-وجعل زنكى أتابكه، فمن ثمّ قيل أتابك زنكى.
فلما وصل إليه المنشور قام بالأمر أتم قيام. ولما قرب من الموصل خرج إليه جاولى وتلقّاه، ونزل عن فرسه، وقبّل الأرض، وعلا فى خدمته إلى الموصل. فدخلها فى شهر رمضان، وأقطع جاولى الرحبة وولى نصير الدين دودارية الموصل، وجعل صلاح الدين محمدا بن أمير
(6/500)
________________________________________
حاجبه، وبهاء الدين قاضى القضاة [فى البلاد جميعها]، فإنهما كانا السبب فى ولايته.
ثم لما استقرّت قواعده بالموصل توجّه إلى جزيرة ابن عمر وبها يومئذ مماليك آقسنقر البرسقى. فامتنعوا عليه، فحصرهم حتى أجابوه، ثم امتنعوا، فلم يزل عليها حتى فتحها عنوة بالسيف، ثم تنقّلت أحواله حسبما يأتى من ذكره.
وفيها ملك حلب فى حديث طويل. واستوثق أمره وعلا ذكره، قال ابن واصل: لما قتل قسيم الدولة لم يكن له ولد غير زنكى، وخلّفه وعمره يومئذ عشر سنين.
وكان تاج الدولة لما قتل أيضا فى اعتقاله أمير يقال له كربوقا، فخرج من الاعتقال، وملك الموصل، وأحضر زنكى إليه، وأحسن تربيته لأنه كان ابن خشداشه.
وتوفى كربوقا، وملك الموصل موسى التركمانى. ثم وليها شمس الدين جكرمش أحد مماليك ملكشاه. فقرّب عماد الدين زنكى، وعاد كالوالد. وتوفى جكرمش فى سنة خمس مئة، فولى بعده جاولى.
ثم كانت ولاية عماد الدين زنكى حسب ما ذكرناه من أول الكلام.
(6/501)
________________________________________
ذكر سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين بحاله، وبنو سلجوق حكّام البلاد بحالهم.
وتوفى أتابك طغتكين، وملك أتابك زنكى جزيرة ابن عمر وإربل، وعدّة بلاد وقلاع بالشرق، وقوى سلطانه، وكثفت جيوشه، وعلا شأنه فى سائر تلك البلاد، وهادنوه الملوك أرباب الممالك والقلاع، وخافوه على ما بأيديهم من ممالكهم.
(6/502)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وستة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراع وإصبعان.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد، والآمر خليفة مصر ومدبّر مملكته بنفسه.
فيها قتل المزدقانى وقتل معه من الإسماعيلية عشرين ألف، ما بين برئ وسقيم (؟) فى حديث طويل.
وفيها وصل سوار وأرسلان دغمش بالتركمان، واتفقوا مع الفرنج على دمشق وكسروهم كسرة عظيمة.
(6/503)
________________________________________
وكذلك كسر أيل غازى الفرنج على المعلاّة بأرض حلب، وكانت سنة شديدة على الملاعين.
وفى سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة تزوج أتابك زنكى خاتون بنت الملك رضوان بن تاج الدولة تتش السلجوقى كان صاحب دمشق.

ذكر سنة أربع وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وأربعة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والآمر خليفة مصر، حتى قتل فى هذه السنة.
وذلك أنّه خرج يوم الثلاثآء الثالث من ذى القعدة ونزل مصر، وطلع الحرّاقة، وعدا إلى الجزيرة، فكمن له قوم اتفقوا على قتله.
وكان ذلك بتدبير بنى عمّه. فغيّبوا تلك الأقوام أنفسهم فى فرن
(6/504)
________________________________________
هناك، فلما وصل الآمر إلى عندهم ومعه عدة يسيرة من حاشيته، وهو آمن من نوائب الدهر، راكن إلى غرّة الليالى وصفوها، فوثبوا عليه بأسيافهم ضربا (ص 382) فجرحوه جراحات قاتلة، ولم يمت فى ساعته الراهنة، بل حمل من ذلك المكان وأعيد إلى قصره، فمات من ليلته، ولم يعقب. وهو كان العاشر من صلب عبيد الله المهدى، أول خلفاء هؤلآء القوم، وقيل إنّ الذين دبّروا فى قتله بقية من عترة محمد بن فاتك المقدّم ذكره.
عمره يوم قتل أغلاق أربعون سنة. وخلّف بعض حضاياه حامل فقال قوم: نبايع للحمل. وأبى آخرون. ثم اتّفق أمرهم على مبايعة أبى الميمون عبد المجيد. فبايعه قوم وامتنع آخرون. ثم اتفق الحال أن تكون البيعة بشرط أن يرى على الحمل. فإن وضعت ذكرا كان الأمر إليه، وإلاّ فله. فاستقرّت كذلك، ثمّ لم يظهر للحمل بعدها خبر.
وكانت خلافته فى قول ثمان وعشرين سنة. وقيل: أربعة وعشرين سنة، وثمانية أشهر، وخمسة عشر يوما.
(6/505)
________________________________________
ذكر خلافة الحافظ أبو الميمون بن أبى القاسم
وما لخّص من سيرته
هو أبو الميمون عبد المجيد بن أبى القاسم بن المستنصر بالله، وباقى نسبه قد تقدّم.
ولد فى سنة ستّ وستين وأربع مئة.
بويع له يوم قتل الآمر، وفى غد ذلك اليوم نصب فى النظر لأمور المملكة أبو على أحمد بن الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، ثم إنه غلب على الأمر، واعتقل الحافظ عبد المجيد، وأقام متغلّبا على الأمر مستوليا مستبدّا بالأمور إلى النصف من شهر المحرّم سنة ستّ وعشرين وخمس مئة. فوثب عليه من صبيان الخاصّة من قتله على باب البستان ظاهر القاهرة. وأخذت رأسه فدخل بها إلى القصر، وأخرج ولىّ العهد الحافظ لدين الله من الاعتقال، وتقررت الوزارة ليانس، ولقّب بألقاب أمير الجيوش بدر الجمالى، وجدّدت البيعة للحافظ لدين الله، واستمرّ نظر يانس إلى أن توفى اليوم الثانى من ذى القعدة سنة ستّ (ص 283) ثم لم يستوزر بعده الحافظ أحد.
(6/506)
________________________________________
قلت: هذا القول الذى ذكرناه على ما سيّره الشيخ أبو القاسم علىّ بن منجب بن سليمان الكاتب رحمه الله.
وأما نسخة الأصل من التاريخ الذى وضعته فإنّ الحافظ لما ولى واستوزر أبا علىّ بن الأفضل شاهنشاه أقام فى الوزارة ثمانى سنين، والحافظ تحت حجره حتى قتل حسبما ذكرناه.
ثم وزر أخوه أبو الفتح. أقام سنتان وثمانية أشهر. يقال إنه سمّ فى ماء استنجى به فمات.
ثم استوزر الحافظ بهرام الأرمنى. أقام سنة واحدة وعشرة أيام، ثم استعفى وترهّب ولبس الصوف، وبنى له فى القصر مكانا يتعبّد فيه حتى مات.
ثم استوزر رضوان بن الوبحشى (كذا) سنتين وخمسة أشهر.
ثم كان نجم الدين بن مصال يدبّر أمور المملكة، إلى أن توفى الحافظ، كما يأتى بيان ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى.
وفى سنة أربع وعشرين أخذ عماد الدين أتابك زنكى حماة من صاحبها، وهو يومئذ بهاء الدين سونج بن تاج الملوك بورى ابن طغتكين صاحب دمشق.
(6/507)
________________________________________
ذكر سنة خمس وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وإصبعان.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والحافظ ولىّ العهد بالشرط المقدّم ذكره.
والوزير الغالب على الأمر أبو علىّ أحمد بن الأفضل شاهنشاه، ونعت نفسه بنعوت أبيه وجدّه، واعتقل الحافظ عبد المجيد، وضرب السكة باسم القايم المنتظر، وذكره فى الخطبة، وردّ على التجار ما كان اغتصبه الراهب بهرام الأرمنىّ منهم من أموالهم ورباعهم، واستقر الحال كذلك.
وفيها توفى السلطان محمود بن محمد السلجوقى لأربع عشرة ليلة بقيت من شوّال. وكان عند الملك زنكى ولدان للسلطان: أحدهما ألب
(6/508)
________________________________________
أرسلان الخفاجى، يكنى أبا طالب. فأرسل أتابك زنكى إلى الخليفة يسومه أن يخطب ببغداد لأبى طالب المذكور. فاعتذر الخليفة بأنّه صبىّ، وأن السلطان عهد بالسلطنة لولده داود بن محمود، وهو بإصبهان، وقد وردت رسل الأطراف بالخطبة له، ونحن منتظرون كتاب السلطان سنجر بن ملكشاه فإنّه عمّ القوم.
ولما مات السلطان محمود خطب بهمذان وإصفهان وأذربيجان والجبال لولده داود، وجرى له حروب كثيرة مع عمه السلطان مسعود ابن محمد إلى سلخ المحرم من السنة الأخرى.

ذكر سنة ست وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وسبعة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم مستمرّون بالحكم.
(6/509)
________________________________________
والحافظ ولىّ العهد بخلافة مصر، وأمير الجيوش أبو على بن الأفضل.
وفيها كسر شمس الملوك الفرنج وفتح بانياس عنوة بالسيف.
وفى سنة ستّ وعشرين كانت الوقايع العظيمة بين ملوك السلجوقية، وانتصر أتابك زنكى الخفاجى، وضرب مع الخليفة مصافين انكسر فيهما جميعا. وكان قد وصل إلى الموصل هاربا وبها يومئذ-على ما قال ابن واصل -نجم الدين أيّوب. ثم قال: بل كان بتكريت فى النوبة الأولة. ووصل أتابك زنكى مهزوما من المسترشد، فأصلح له الطرقات والمعابر، ووفى أتمّ وفاء له.
وفيها وصل السلطان سنجر وكانت الوقعة بينه وبين أولاد أخيه، ثم آل الأمر أن اصطلح الأخوان مسعود وسلجوق بناء على أن تكون السلطنة لمسعود، ويكون سلجوق ولىّ عهده. وكان ذلك فى جمادى الأولى من هذه السنة المذكورة.
ثم لما حضر السلطان سنجر وكان بينهم ما كان من الحروب العظيمة، أجلس طغريل بن محمد وأمر بالخطبة له فى ساير الممالك.
وفيها وصل الخليفة إلى الموصل وحاصرها أشدّ حصار، وعاد إلى بغداد ولم يحصل له غرض.
(6/510)
________________________________________
ذكر سنة سبع وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد، والحافظ ولىّ عهد الخلافة بمصر، حتى قتل أبو على بن الأفضل فى هذه السنة، فى رواية، بظاهر القاهرة، فى غرّة المحرّم. وسبب ذلك أنه كان لمّا أبطأ عليه أمر خبر الحمل طالب به، فلم يجد لصاحب الحمل خبرا، فعلم أنّ الحافظ كان سبب ذلك، فهدّد وتوعّد، فخيف من شرّه، فوثب عليه صبيان الخاصة فقتلوه، وقتل منهم عدّة.
وولى الوزارة يانس، فأقام إلى آخر هذه السنة، ثم توفى مسموما حسب ما ذكرناه.
وفيها صرح الحافظ بتوليته الخلافة، وخطب باسمه، وانقطع ذكر القايم المنتظر. ولم يكن ولى الخلافة أحد لم يكن أبوه خليفة قبل الحافظ.
(6/511)
________________________________________
ثم كان العاضد أيضا كذلك حسب ما (ص 285) سقناه من ذلك، واستقرّ الحافظ لدين الله خليفة مصر، ولقّب بأمير المؤمنين، وولى العهد ولده الأمير حيدرة.
ولما توفى يانس وزر بهرام الأرمنى. فأقام إلى سنة تسع وعشرين، ثم ترهّب وانقطع بمكان بنى له فى القصر حسب ما يأتى.
وفيها كانت الوقعة بين الملك زنكى وبين ولدى أرتق، وهما داود وأخوه، وكسرهما كسرة شنيعة، وأسر من رجالهم خلقا كثيرا، وأباع كلّ واحد منهما بكلب صيد، فى كلام طويل هذا ملخصه.
قال ابن واصل: كان سبب وقعة عماد الدين مع ابن أرتق داود بن سقمان صاحب حصن كيفا، أنّ الأمير حسام الدين تمرتاش ابن ايلغازى بن أرتق قصد عماد الدين واتفق معه، وقصدا مدينة آمد وحصراها. فأرسل صاحبها إبراهيم بن كيكدى إلى الأمير ركن الدين داود المذكور يستنجد به فأنجده، والتقوا على باب آمد فحاصراها، ثم عادا منها من غير بلوغ غرض.
ثم قصد عماد الدين قلعة الصور من ديار بكر فحاصرها وملكها فى رجب.
(6/512)
________________________________________
ذكر سنة ثمان وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكام البلاد.
والحافظ خليفة مصر مستقلاّ، والوزير بهرام الأرمنى.
وكان قد ولى القضاء بعد النابلسى أبو الفخر بن مبشّر صالح ابن عبد الله بن رجا، ثم القاضى سراج الدين أبو الثريّا نجم بن جعفر.
فقتل فى هذه السنة.
وولى مكانه سناء الملك بن مبشّر.
وفى هذه السنة توفى محمد بن تومرت المهدىّ صاحب القيام بأمر المغرب. وقام بالأمر عبد المؤمن بن على الآتى ذكره إن شاء الله تعالى.
(6/513)
________________________________________
وفيها توفى الشيخ أبو على الحسن شيخ ابن عصرون.
وفيها ولد السلطان صلاح يوسف بن أيوب بن شادى بن مروان بمدينة تكريت.
وفيها سألت الأجناد المصريون الحافظ أن يجعل ولده حيدرة المسمّى بحسن واسطة بينهم (ص 286) وبينه، وأخرجوا الأمير حسن من القصر الغربى بغير رضى الحافظ وألزموه أن يوليه. فقال لهم: رضيتموه.
فقالوا: نعم. وظلّ يراوغ بهم الأمر تسعة أشهر، فلما غلب سلّط عليهم السودان. وكان لهم زعيما يعرف بالأحاوى. فقتلوا من الجند خلقا كثيرا، وكانت فتنة كبيرة، وأبدعوا (كذا) السودان فيهم وأخرجوهم من مواطنهم وبيوتهم، وحشروهم فى طرف القاهرة بالحارة المعروفة بالبرقية أيّاما، واستولى السودان على القاهرة. فخرج بعض الجند إلى المحلّة مستصرخا بالوالى. وكان واليها يومئذ رجلا أرمنيّا وهو بهرام الأرمنى المقدّم ذكره. وكان رجلا سليم الباطن جيدا فى نفسه.
وكان نصرانيّا على دينه، باقيا على ملّته، فانضوى إليه جماعة من الجند والعساكر مع جند الأرياف، وسار طالبا للقاهرة. فوصل إليها، فغلّقت الأبواب فى وجهه، فأحرق باب القنطرة، وباب الخوخة، وباب سعادة، وباب زويلة، وباب البرقيّة، ودخل ووضع السيف
(6/514)
________________________________________
على السودان. فقتل خلقا كثيرا. وأمّا الأمير حسن فإنّه ساعد السّودان على الأجناد، وقتل من الجند جماعة. فقالوا للحافظ: سلّم لنا ولدك حسن وأنت آمن. فتمنّع وعظم عليه تسليم ولده، وعلم أنّه إن لم يسلّمه قتلوه معه. فسقاه سمّا فمات. ودخل الأجناد فوجدوه ميتا.
فقنعوا بذلك. وتولّى الوزارة بهرام الأرمنى.
فهذا كان سبب وزارته والله أعلم.
قال ابن واصل فى هذه السنة، أعنى سنة ثمان وعشرين قتل الخليفة المسترشد بالله ومنيته قال: لما أراد الخروج لقتال السلجوقيّة، والسلطان يومئذ مسعود بن محمد، دخل عليه الوزير شرف الدين علىّ ابن طراد الزينبى وكمال الدين صاحب المخزن. قال ابن واصل:
وأنا معهما. فقال له الوزير شرف الدين: يا مولانا، فى نفس المملوك شئ، فهل تأذن لى فى المقال. فقال: قل. فقال: إلى أين تمضى؟ وبمن تعتضد؟ وإلى من تلتجئ؟ وبمن تستنصر؟ ومقامنا ببغداد [أمكن لنا، ولا يقصدنا أحد، والعراق] فيه لنا الكفاية.
مع كلام كثير.
(6/515)
________________________________________
فقال لى الخليفة: [ما تقول يا كاتب؟. فقلت: يا مولانا، الصواب المقام. وما رآه الوزير فهو الرأى. ولا يقدم علينا أحد، وليت العراق يبقى لنا.
فقال لصاحب المخزن: يا وكيل، ما تقول؟ فقال: فى نفسى ما فى نفس مولانا.
فأنشد الخليفة] قول المتنبى:
وإذا لم يكن الموت بدّ … فمن العجز أن تموت جبانا
ثم إنه [تجهّز وجمع] خدم جماعة من الأمراء الأتراك وغيرهم، ووقع المصاف بينه وبين السلطان مسعود بمكان يسمى دامرك من أرض همذان. فلما اصطفت العساكر تركه جميع الأتراك ومالوا إلى السلطان مسعود. ثم وقع القتال فانهزم الخليفة ثم أسر وقبض عليه، وقتل جلّ أصحابه، وسار مع السلطان تحت الاحتياط إلى بلاد أذربيجان، فلما وصلوا إلى مراغة هجم عليه ثلاثة نفر من الملاحدة الباطنية فقتلوه وقتلوا معه ابن سكينة، وكان يصلّى [به]، وذلك يوم الخميس لأربع بقين من شهر ذى القعدة [سنة تسع وعشرين وخمس مئة] والله أعلم.
(6/516)
________________________________________
ذكر سنة تسع وعشرين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين إلى أن قتل فى هذه السنة، قتلوه الباطنيّة سابع عشر ذى القعدة.
وكانت خلافته سبع عشرة سنة وتسعة أشهر:
الغالب فى أيامه على الأمر بنو سلجوق.
وزيره أبو على الحسين بن على بن صدقة.
صفته: أسمر، ربعة، أسود الشعر، سبطه.
نقش خاتمه. . . لقبه. . . والله أعلم.
(6/517)
________________________________________
ذكر خلافة الراشد بالله بن المسترشد بالله
وما لخّص من سيرته
هو أبو جعفر المنصور بن أبى المنصور الفضل بن أحمد المستظهر بالله، وباقى نسبه قد علم.
أمه أمّ ولد يقال لها صبا.
مولده سنة خمس مئة. ولّى بعهد من أبيه فى حياته له، وجلس للأمر يوم وفاة والده.
والحافظ خليفة مصر، والوزير تاج الدولة بهرام الأرمنى، إلى أن استعفى وترهّب ولبس الصوف حسب ما سقناه، وأقام كذلك إلى أن توفى سنة خمس وثلاثين وخمس مئة، وكان لبهرام أخ يسمى باسك، وبه سميت منية الباسك فإنها كانت من إقطاعه.
وفيها قتلت ياقوت خاتون ولدها شمس الدولة قدامها وهى قائمة على رأسه حتى مات فجعلته فى ناحية من المكان، وأمرت الجند فدخلوا فنظروه ميتا، ثم أجلست أخا له صغيرا يسمى محمود، وأنفذت إلى الحاجب يوسف بن فيروز فأحضرته وسلّمت إليه دمشق. وأقام مدّة يسيرة فاعترضه إنسان يقال له بزاوش، وهو فى الميدان،
(6/518)
________________________________________
فضربه بخنجر فقتله. وتفرّقت الجند. فقوم اجتمعوا على بزاوش، وقوم توجّهوا إلى منازلهم. وكان أمين الدولة صاحب بصرى حاضرا.
فأرادت قتله فهرب إلى بصرى.
ثم حضر أتابك زنكى ونزل على دمشق يحاصرها، ثم تقرّر بينهم الصلح.
قال ابن واصل: وكان سبب قتل أمّ شمس الدولة، وقيل شمس الملوك-واسمه إسماعيل بن بورى بن طغتكين-ولدها المذكور أنه كان سىّء السيرة إلى الغاية القصوى [مع بخل زائد ودناءة نفس] فكرهه أصحابه وأهله ورعيته، [فلما استشعر بغض أصحابه له وخاف منهم راسل] عماد الدين وقال: إن لم تسرع بالحضور سلّمت المدينة للفرنج. أعنى دمشق. فلما تحقّقت أمّه من أهل الدولة بكمالهم خافت على زوال الملك من بيتها، جمعت كبار القوم وقررت معهم أنها تقتله وتقيم أخوه (كذا)، فكان ما ذكرناه.
(6/519)
________________________________________
نكتة [ولدت الجارية غلاما فسرّ به المسترشد وسماه أمير الجيوش.]
قال ابن واصل: إن الخليفة المسترشد بالله كان قد أعطى لولده الراشد، وعمره أقلّ من تسع سنين، عدة جوار وأمرهن أن يلاعبنه ويمكّنّه من أنفسهنّ. وكانت فيهنّ جارية صفرآء حبشيّة، فحملت من الراشد بالله، فلما ظهر الحمل وبلغ ذلك المسترشد أنكره، وأحضر الجارية وتهدّدها. فقالت. والله ما تقدّم إلىّ سواه. وإنّه قد بلغ الحلم. فسأل عن ذلك بقية الجوارى، فقلن مثل ذلك. فأمر أن تحمّل الجارية قطنا ثم وطئها الراشد. فنظروا القطن والمنىّ عليه.
وهذا من غرايب الأحوال. ولم يسمع بمثل هذا. إلاّ قيل إنّ نساء تهامة من الحجاز يحضن لتسع سنين ويبلغ صبيانها لتسع.
ثم ولدت الجارية غلاما فسرّ به المسترشد وسماه أمير الجيوش.
(6/520)
________________________________________
ذكر سنة ثلاثين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والحافظ خليفة مصر.
ووزر أبو الفتح رضوان ولقّب بالأفضل، وجرت له أمور يطول شرحها، ملخصها أنّه هرب من مصر إلى الشام بعد فتن كثيرة، ثم عاد إلى مصر، ثم خرج إلى الشام يستجيش على الحافظ، فلم يزل يرسل إليه ويداهيه ويطمعه ويرغّبه حتى استقدمه. فسجنه فى قصره، فأقام مدّة، ثم نقب القصر وخرج، فعلم به فاتّطلبه الحافظ حتى وقع عليه فقتله. ثم لم يستوزر الحافظ بعدها أحدا غير ابن مصال نجم الدين، فإنّه أقامه ناظرا فى الأمور من غير أن يطلق عليه اسم الوزارة.
والله أعلم.
(6/521)
________________________________________
وفيها توفى شهاب الدين صاحب قلعة جعبر، وتولّى ولده شرف الدولة.
وفيها تسلّم أتابك زنكى الرقّة من زعيم الدولة.
وفيها طلع سحاب أسود أظلمت الدنيا منه، حتى صار الوقت كالليل المظلم، طلع بعده سحاب أحمر، فاحمرّت الدنيا منه، حتى عاد الجو كأنّه نار تشتعل، وكان قد هبّ قبل ذلك ريحا عاصفا وأهلكت شئ كثير من الشجر. ولم يزل كذلك إلى الليل، فمطرت مطرا عظيما إلى أن زادت منه الأنهر، وكادت دمشق تغرق، وكان ذلك فى الرابع والعشرين من أيّار. والله أعلم.
قال ابن واصل: فى هذه السنة-[أعنى سنة ثلاثين وخمس مئة]- كانت البيعة للمقتفى لأمر الله ببغداد. وذلك أن المسترشد قتل وبويع الراشد ببغداد، فلم يوافق على ذلك السلطان مسعود وقال: هذا يكون كاينة فى معاندتنا. وأجمع رأيه مع كبار الدولة على المقتفى. وكان الراشد قد أرسل إلى أتابك زنكى يستقدمه، وجعل له الشحنكية ببغداد، والملك والسلطنة لألب أرسلان الذى عنده. فلما قدم أتابك زنكى واتقع (كذا) مع السلطان مسعود وانكسر ورجع هاربا. فلما كان ذلك خرج الراشد من بغداد هاربا ولحق بأتابك زنكى بالموصل
(6/522)
________________________________________
واستقرّ بها إلى سنة اثنتين وثلاثين، والخطبة له ببلاد الموصل وما والاها.
وأما بغداد وساير الأعمال للمقتفى بحكم إجماع الناس على خلعه. ثم سيّر إلى الأتابك زنكى ما أرضاه به من جهة المقتفى من الإقطاعات وغيرها فوافق، وخطب للمقتفى بالموصل. وفارقه الراشد بالله وتوجّه نحو همذان، فوثب عليه الباطنيّة فقتلوه. وكان ذلك يوم الثلاثاء سادس رمضان المعظم سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة.
(6/523)
________________________________________
ذكر خلافة المقتفى لأمر الله ابن المستظهر بالله
وما لخّص من سيرته
هو أبو عبد الله محمد بن أبى العبّاس أحمد المستظهر بالله، وباقى نسبه قد علم.
أمه أمّ ولد لم أقف على اسمها.
بويع بعد قتلة الراشد بيومين.
هكذا ذكر أبو المظفر عن بيعة المقتفى أنها بعد قتلة الراشد وليس كذلك، والصحيح ما ذكره القاضى جمال الدين بن واصل من ذلك، وقد ذكرنا بتلخيصه فى الحاشية التى قبل هذه الحاشية. وكلّ ما حشيّته فى جميع هذا التاريخ وفى أجزائه مقابلا (كذا) على نسخ المؤرّخين يحقق الضبط، فزاد هذا التاريخ إحسان، ولم يشنه بل له زان.
أقام خليفة أربعا وعشرين سنة.
وقيل خمس (كذا) وعشرين وثلاثة أشهر ونصف شهر.
وكان شيخا أبيض الرأس واللحية. وقبض على كثير من أفراد بطانته وأمرائه. وكان يحبّ المال وتحصيله وجمعه، ولم يزل كذلك إلى أن توفى فى تاريخ ما يأتى ذكره.
(6/524)
________________________________________
قال الفقيه أبو محمد أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عمر صاحب «التاريخ»: كانت دعوة المقتفى لأمر الله <فى> العراق والشام والحجاز وحرّان.

ذكر سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
(ص 289) الماء القديم ستة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والحافظ خليفة مصر، والوزير رضوان مدبّر الممالك المصرية.
وفيها استولى الصوفىّ على دمشق وملكها من ياقوت خاتون.
وفيها نزل ملك الروم على أنطاكية وحاصرها وشدّد عليها ذلك.
وفيها نفى القاضى سناء الملك إلى تنّيس، وولى الحكم القاضى ابن أبى عقيل.
وفيها فتح أتابك زنكى المعرّة وكفر طاب بعد فتح بارين من
(6/525)
________________________________________
الفرنج، وأعاد كلّ ملك إلى صاحبه من المسلمين. وهذا ما يحكى من جملة عدله رحمه الله.
قال ابن واصل: وفى هذه السنة، أعنى سنة إحدى وثلاثين، تزوّج أتابك زنكى بصاحبة دمشق وسماها زمرد خاتون. وهى أمّ الذى قتلته شمس الملوك ولدها، ظنّا منه أنها تسلّمه دمشق فلم توافق.
وقال ابن واصل أيضا: وفى هذه السنة ملك ملك الروم بزاعة بالأمان من أهلها، ثم غدر وقتل جميع أهلها عدّة خمسة آلاف ومات نفر.
قال: وتنصّر قاضيها وجماعة من أعيانها نحو أربع مئة نفس، واختفى جماعة فى مغارة فدخّن عليهم فماتوا أجمعهم.

ذكر سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وإصبع واحد.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.
(6/526)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد بحالهم.
والحافظ خليفة مصر، والوزير رضوان.
وفيها هرب إلى الشام الهربة الأولى حسبما ذكرناه.
وفيها دخل أتابك زنكى دمشق، واستقرّ ملكه بها بعد ما كسر الفرنج كسرة عظيمة، وقتل بزواش الذى كان متغلّبا على دمشق. ثم إنه انتقل إلى حمص وملكها فى هذه السنة، وولده نور الدين محمود بالشرق فى ممالك أبيه زنكى، واستقرّ الملك زنكى بدمشق.
وفيها قتل الإمام الراشد بالله أمير المؤمنين غرّة رمضان من هذه السنة.
وكانت خلافته سنتين وعشرة أشهر.
وكان جبارا قوىّ النفس جريثا على سفك الدماء بحقّ وبغير حق.
صفته عفا الله عنه: أشقر، كبير العينين، بيّن الزرقة والشهولة، ربعة.
نقش خاتمه. . . .
لقبه. . . والله أعلم.
(6/527)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث وثلاثين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق ملوك البلاد.
واستبدّ الحافظ بالأمور وقام فيها بنفسه.
وفيها توفى القاضى ابن أبى عقيل رحمه الله، وأقامت القاهرة ومصر بغير قاض ثمانية شهور.
ثم تولّى الحكم القاضى هبة الله بن خير الأنصارى.
وفيها خرج ملك الروم إلى الشام وفتح بزاعة، وأسر خلق كثير عدة عشرة آلاف نفر، وجعلهم فى خندق الآثارات يخرجون كل يوم يرعون الفول الأخضر ثم يعودون إلى الخندق، مع موكّلين بهم، ثم
(6/528)
________________________________________
رحل طالبا شيزر، ونزل عليها، فخرج عليه سيف الدين سوار ابن ألدكز فى خيل من عسكر حلب، فخلّص الأسرى جميعهم ما خلا ولده وكان فى جملة الأسرى، وكانوا ثلاث مئة وخمسين نفرا.
ثم رحل ونزل بزاعة وتسلّمها من الفرنج.
وفيها زلزلت الحيرة عشر فراسخ فى مثلها وأهلكت ألف إنسان، وخسف بها وصار مكانه ماء أسود، وقدموا الغايبين من أهلها ولازموا البلد يبكون على أهاليهم وأموالهم التى عدمت لهم فى ذلك الخسف.
وذكر أبو العلاء القلانسى أنّها كانت عامة، وأنها كانت فى حلب أقوى وأعظم، فإنها تواترت ثمانين مرة فى يوم وليلة، ورمت أبراج القلعة وأسوار البلد، وهرب جميع أهلها إلى ظاهرها.
فهذه الزلزلة التى ذكرناها فيما تقدم ونبهنا على أمرها فإنها غير زلزلة شيزر المقدّم ذكرها أيضا.
وفيها قتل الأمير شهاب الدين محمود بن بورى بن طغتكين صاحب دمشق ليلة الجمعة لثلاث بقين من شوّال، قتله غلامه البقش ويوسف الخادم والفرّاش الخركاوى، وصبيحة قتله وصل أخوه جمال الدين محمد بن بورى وملك دمشق، وقام بتدبير دولته الأمير معين الدين
(6/529)
________________________________________
أنر مملوك جده طغتكين، ووصل أتابك زنكى إلى دمشق، وكانت الحرب بينه وبين الدماشقة، ولم يزل الحصار عليها إلى شعبان من هذه السنة. فتوفى جمال الدين صاحبها وهو كان آخر ملوك دمشق.
وملك بعده مجير الدين آبق آخر من ملك دمشق من بيت الأتابك طغتكين، وقام بتدبير الملك معين الدين أنر، إلى أن ملكها أتابك زنكى.
قال ابن واصل: وفى هذه السنة تسلم أتابك زنكى دمشق، وذلك لما قتل شهاب الدين محمود بدمشق حزنت عليه أمّه زمرّد خاتون فكاتبت أتابك على طلب دمشق. وكان بها معين الدين أنر، وكان قد خرج عن طاعة زمرّد خاتون. فحضر جمال الدين من بعلبك بقصد دمشق، واستنجد معين الدين بالفرنج، وجرت حروب كثيرة، وعاود دمشق عدة دفوع حتى دخلها على حين غفلة من أهلها فملكها. ثم قال ابن واصل فى مكان آخر: إنه لم يملكها فى هذه السنة. والله أعلم.
(6/530)
________________________________________
ذكر سنة أربع وثلاثين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وثمانية عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والحافظ خليفة مصر قائم بأمور نفسه وتدبير ممالكه.
وعزل القاضى عبد الله وتولّى الحكم أبو الطاهر إسماعيل بن أبى سلامة الأنصارى.
وفيها كانت وقعة الزيتون مع أتابك زنكى، وكسرهم أتابك زنكى كسرة عظيمة، وقتل من الفرنج عشرين ألف نفر على تلّ الثعالب، وكان قبل ذلك وصلوا (كذا) الملاعين إلى بانياس، ووصلوا إلى داريّا ظاهر دمشق.
(6/531)
________________________________________
قال ابن واصل رحمه الله: ولما رجع ملك الروم خائبا امتدح عماد الدين أتابك زنكى مسلم بن خضر بن قسيم الحموى بقصيدة منها يقول:
بعزمك أيّها الملك الرحيم … تذلّ لك الصّعاب وتستقيم
ألم تر أنّ كلب الروم لمّا … تبيّن أنّك الملك الرحيم
فولّى يطبق الفلوات جبنا … كأنّ الجحفل الليل البهيم
منها:
كأنّك فى العجاج شهاب نور … توقّد وهو شيطان رجيم
ومنها:
أراد بقاء بهجته فولّى … وليس سوى الحمام له حميم
(ص 292) وفيها قتل أتابك زنكى من أهل العريش ألف رجل كانوا اتفقوا مع الفرنج أن يسلّموهم بلاد المسلمين فقتلهم بسبب ذلك.

ذكر سنة خمس وثلاثين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.
(6/532)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المقتفى بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والحافظ خليفة مصر يدبّر أموره بنفسه.
فيها وصل أتابك زنكى بمرج الزّبدانى ووصل البقاع، وخطب له بدمشق وحمص وغيرهما.
وفيها قتل سنجر شاه صاحب أذربيجان.
وفيها كانت الزلزلة بشيزر، وأخرجت القلعة، وتسلّم أتابك الموزر.
وفيها توفى بهرام بن أسد الأرمنى المترهّب المقدّم ذكره فى ذكر وزارة مصر.

ذكر سنة ستّ وثلاثين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا.
(6/533)
________________________________________
ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المقتفى بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والحافظ خليفة مصر مدبّر أموره بنفسه.
وفيها توفى كند أسطيل (كذا) ملك الروم.
وفيها كانت وقعة بين سنجر سلطان [الشرق] وكافر ترك [الواصل من ناحية الصين] وسبب ذلك أنه كان مما وراء النهر طائفة من الملوك يقال لهم العمرة ينزلون بنواحى سمرقند فى مروجها، ولهم أموال كثيرة ومواشى (كذا) كثيرة، وأهل تلك النواحى ينتفعون بهم، وهم قوم يعفّون عن مال غيرهم ولا يؤذون أحدا، فبلغ خبرهم سنجر سلطان فنفذ إليهم العساكر فأوقعوا بهم، ونهبوا أموالهم، وهتكوا حريمهم، وسبوا بناتهم، وقتلوا منهم خلق كثير. فانزاحوا إلى ناحية أورجيد. ثم نفدوا مشايخهم وكبراءهم بتقادم حسنة من أموالهم إلى سنجر سلطان وقالوا: نحن قوم أهل برارى وصحارى وخراب من الأرض، ولا لنا أذية إلى مخلوق، ونحن نسأل السلطان أن يكفّ عنا، ونجعل له علينا فى كلّ سنة خمسة آلاف فرس، وثلاثين ألف رأس من الغنم، ومن المال كذا وكذا. فلم يلتفت إليهم ولا أجابهم ولا إلى شئ من ذلك. فلما عادوا مشايخهم بالخيبة أجمعوا رأيهم
(6/534)
________________________________________
وتوجّهوا إلى خاقان ملك الخطا مستصرخين به ومستجيرين بسلطانه.
فحشد خاقان جموعه وجيوشه فى سبع مئة ألف مقاتل، وانضمّ خوارزم شاه إليه لمصاهرة كانت بينهما ومعاداة بين سنجر سلطان وبين خوارزم شاه. وكان عدّة عسكره خمسين ألف مقاتل، فلما بلغ سنجر سلطان ذلك حشد وجمع جموعه وقطع النهر فى ثلاث مئة ألف مقاتل، والتقوا فى صحراء سمرقند، وكان يوما عظيما لم ير مثله فى جاهلية ولا إسلام، واقتتلوا ثلاثة أيّام ليل نهار، فانكسر سنجر سلطان وانهزم، وهرب فى ستة نفر، وأسروا زوجته وأولاده، وهتكوا حريمه، وقتل عامة أمرائه، وقتل من أعيان دولته نحو المئة ألف.
ودخل خوارزم شاه إلى بلخ، ونهب وقتل وسار. ومضى سنجر سلطان إلى فرهد (كذا) فلما دخلها لم يجد بها أحد (كذا) فسأل عن ذلك فقالوا: قتلوا جميعا. (ص 294) وأخذت خزائنه وأمواله وذخائره، وأقام أيّاما لا يأكل ولا يشرب. فهذه وقعة سمرقند المشهورة. والله أعلم.
قال ابن واصل: إن فى سنة ست وثلاثين تسلم أتابك زنكى إربل، وكانت إربل وجميع أعمالها لأبى الهيجاء الكردى الهذبانى ولورثته من بعده، ثم تغلّبت دولة الأتراك السلجوقية عليها وعلى غيرها، وتنقلت إلى أن صارت للسلطان مسعود بن ملكشاه، وهو يومئذ
(6/535)
________________________________________
صاحب بزاعة قبل أن تصير إليه السلطنة. وكان <فيها> نائب من قبله، فسار إليها عماد الدين أتابك زنكى ونازلها فى هذه السنة المذكورة، أعنى سنة ست وعشرين وخمس مئة، فسار إليه السلطان محمود من مراغة، فرحل عنها عماد الدين فترك الزاب وترددّت الرسل بينهم إلى أن استقرّ أن يسير عماد الدين فى خدمة السلطان مسعود ليجلسه فى السلطنة، ويكلّف الإمام المسترشد أن يخطب له، ويسلّم إليه السلطان إربل.
فتسلّمها على ذلك الشرط. فسلّمها عماد الذين لزين الدين كوجك، ثم سار عماد الدين إلى بغداد غربىّ الماء، وسار السلطان مسعود شرقىّ الماء، وتواعدا أن يلتقيا ببغداد. فوصل من بغداد قراجا الساقى وكبس عماد الدين، فكسر العسكر وأسر كلّ من فيه، ولم ينج سوى عماد الدين فإنه قطع الشطّ فى زورق وهو مجروح، فوصل إلى الموصل.
واستقرّت حلب فى يد زين الدين كوجك وولده بعده إلى آخر أيّام الملك المعظّم مظفر الدين كوكبورى حسب ما يأتى من ذكره.
قال ابن واصل: فى هذه السنة، أعنى سنة ست وثلاثين وخمس مئة، ملك عماد الدين أتابك زنكى الحديثة، ونقل من كان بها [من آل مهراش] إلى الموصل.
وفيها خطب لعماد الدين بمدينة آمد، ودخل صاحبها فى جماعته،
(6/536)
________________________________________
وكان قبل ذلك موافقا للأمير ركن الدين داود الأرتقى صاحب حصن كيفا. فلما رأى قوّة الملك زنكى رجع إلى طاعته.
وفيها أغار عسكر حلب من جهة أتابك على الفرنج وقتلوا منهم خلقا كثيرا.

ذكر سنتى سبع وثمان وثلاثين وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة سبع ثلاثة أذرع وستة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط.
الماء القديم لسنة ثمان خمسة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
(6/537)
________________________________________
والحافظ خليفة مصر مدبّر أمور ممالكه بنفسه.
ومضت سنة سبع بغير حادث بحكم التلخيص.
وفى سنة ثمان ظهر قوم يقال لهم بنو لام ومعهم جماعة من أهل الشرق فتوجهوا إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وأحرقوا قبر عثمان بن عفّان رضى الله عنه، وأحرقوا معه قبور كثيرة. وكان هؤلاء القوم علويون ثم إنهم عادوا إلى بلادهم.
وفيها غلب سيف الدين غازى بن أتابك على ملك الموصل من مملكة نور الدين محمود بن أتابك زنكى وأخرجه عنها فى شرح طويل هذا ملخصه:
قلت: هذا غلط من أبى المظفر، وإنما الصحيح ما ذكره ابن واصل من ذلك المكتوب على الحاشية فى أمر بنى أتابك زنكى.
وفيها فتح أتابك الرّها عنوة بالسيف وكذلك سروج أيضا.
وفيها ملك نور الدين محمود بن زنكى سنجار وعادت فى ملكه والله أعلم.
وقيل إن هذه الحوادث كانوا فى سنة تسع وثلاثين والله وأعلم.
(6/538)
________________________________________
قال ابن واصل: وفيها فتح الرها. كان الفرنج-لعنهم الله-كثر شرّهم بالبلاد الجزريّة، وكانت لهم الرّها وسروج وألبيرة وغير ذلك. وكانت جميع هذه البلاد والأعمال لجوسلين. وكان أتابك زنكى يعلم أنه متى قصد الرّها اجتمع بها الفرنج ومنعوه منها. فاشتغل بقصد ديار بكر ليوهم الفرنج أنّه غير قاصد نحوهم. ثم إنه نادى على حين غفلة من الفرنج بالركوب. ومدّ خوان وقال: لا يأكل معى على مائدتى إلاّ من يطعن غدا معى باب الرها. فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبى لا يعرف، وذلك لما يعرفون من شجاعته وقوة جسارته. .
فقال ذلك الأمير للصبى: ما أنت وهذا [المقام] فقال له [عماد الدين]: دعه، فإنى والله أرى منه وجها لا يتخلّف عنى.
فكان كذلك حتى فتح الله عليه.

ذكر سنتى تسع وثلاثين وأربعين وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة تسع ستة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
(6/539)
________________________________________
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.
الماء القديم لسنة أربعين أربعة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والحافظ خليفة مصر مدبّر أمور ممالكه بنفسه، وابن مصال ناظر فى المصالح.
ومضت سنة تسع ولم يكن بها غير ما تقدم فى ذكر سنة ثمان،
وفى سنة أربعين فتح عبد المؤمن مدينة مرّاكش.
وفيها نزل أتابك زنكى على قلعة جعبر، وولده نور الدين دخل دمشق فأقام مدة يسيرة ثم عاد.

ذكر سنتى إحدى واثنتين وأربعين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم لسنة إحدى ستة أذرع وإصبعان.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
(6/540)
________________________________________
الماء القديم لسنة اثنتين خمسة أذرع وثلاثة أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والحافظ خليفة مصر مدبر أمور ممالكه بنفسه، ونجم الدين ابن مصال بحاله.
وفى سنة إحدى بنى حسام الدين أرتق جسر قرمان فى أرض ميّافارقين.
وفى سنة اثنتين قتل عبد المؤمن صاحب المغرب جميع من كان فى مرّاكش من المقاتلة، وأحضر اليهود والنصارى وقال لهم: إنّ الإمام المهدى أمرنى أن لا أقرّ الناس إلاّ على ملّة الإسلام، وأنتم تزعمون أنّ بعد الخمس مئة يظهر من يعضد شريعتكم، وقد انقضت المدة.
فإمّا أن تسلموا وإمّا أن تلحقوا بدار الحرب. فأسلم منهم خلق كثير.
ثم إنه أخرب الكنائس (ص 296) وردها مساجد. ثم دخل بيت المال ففرّقه جميعه وكنسه وصلّى فيه، كما فعل الإمام علىّ بن أبى طالب
(6/541)
________________________________________
كرّم الله وجهه، وأقام معالم الإسلام والحدود والأحكام على الوجه المرضىّ من الشرع، مع السياسة الكاملة، وأمر من ترك الصلاة ثلاثة أيّام أن يقتل، وأزال ساير المعسكرات، ونهى عن جميع المنكرات، وكان يصلّى بنفسه بالناس الصلوات الخمس، ويقرأ فى كلّ يوم سبعا من القرآن، ويصوم الخميس والاثنين، ويلبس الصوف. وسيأتى ذكر مبتدإ أمره ونسبه وما لخّص من أخباره فى الجزء الذى يتلو هذا الجزء، عند ذكر وفاته إن شاء الله تعالى.
ورأيت فى بعض مسوداتى أنّ عبد المؤمن هذا الذى دخلت عليه حفصة بنت الحاج الشاعرة فقال لها: أنت حفصة الشاعرة؟ قالت: نعم، أصلحك الله. قال: أرينا شيئا من شعرك. فارتجلت تقول:
امنن علىّ بطرس … يكون للدهر عدّه
تخطّ يمناك فيه … والحمد لله وحده
وكانت علامته على المناشير والتوقيع: الحمد لله وحده. فحسن ذلك الموقع منها. فكتب لها توقيعا بضيعتها وأكرمها.
ومن ذلك فى ذكر حفصة الشاعرة المذكورة أن اتفق أنّه بات معها فى محاضرة وأدب أبو جعفر بن عبد الملك فى حور مؤمل، وهو أحسن أماكن النزهة بمدينة غرناطة.
(6/542)
________________________________________
فقال أبو جعفر:
رعى الله يوما لم يرح بمذمّم … عشيّة وارانا بحور مؤمل
وغرّد قمرىّ على الدوح وانثنى … قضيب من الريحان من فوق جدول
ترى الروض مسرورا بما قد بدا له … عناق وضمّ وارتشاف مقبّل
فأجابته بما لا يخفى إحسانها فيه على كل حاذق تقول: (ص 297)
لعمرك ما سرّ الرياض بوصلنا … ولكنّه أبدى لنا الغلّ والحسد
ولا صفّق النهر ارتياحا لقربنا … ولا صدح القمرىّ إلاّ لما وجد
فلا تحسن الظنّ الذى أنت أهله … فما هو فى كلّ المواطن بالرّشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه … لأمر سوى كيما يكون لنا رصد
وكانت أيضا بغرناطه نزهون الشاعرة. فهى ذات يوم تصحّح شئ (كذا) من اللفاظ العربية (كذا) على الشيخ أبو الحسن ابن أصحا الأعمى المخزومىّ، وكان أوحد أهل المئة السادسة فى علم العربية، وشاعرا مطبقا هجّاء فاضحا. فدخل عليه أبو بكر الكتندىّ ونزهون بين يديه، وكانت من الجمال بالموضع الوافر، فقال أبو بكر مستنطقا للأستاذ أبى الحسن:
لو كنت تبصر من تكلّمه
(6/543)
________________________________________
فأفحم الأستاذ ولم يقدر أن يجيزه. فقالت نزهون ارتجالا:
لغدوت أخرس من خلاخله … البدر يطلع من أزرّته
والغصن يمرح فى غلائله
ونزهون هذه التى استأذن عليها ابن قزمان المشهور بالإجادة فى الأرجال، فقالت له الجارية: من أنت حتى أستأذن لك: فقال قولى لستّك رجل من أخصّ أصحابك. فلما أعلمتها قالت: ارجعى إليه وقولى له: بالسين أو بالصاد؟ فأعادت عليه. فقال قولى لها: بصاد مثل كسّك.
وكان فى غرناطة أيضا فى المئة السادسة حمدة بنت زياد القائلة وقد خرجت إلى بسيط غرناطة مع نساء، فيهن من تميل إليها. فلعبن وسبحن فى تلك الأنهار المتفرّقة. فقالت حمدة فى ذلك:
أباح الدمع أسرارى بواد … له فى الحسن آثار بوادى
فمن نهر يطيف بكلّ روض … ومن روض يرفّ بكلّ واد
ومن بين الظباء مهاة أنس … لها لبّى وقد سلبت فؤادى
لها لحظ ترقّده لأمر … وذاك الأمر يمنعنى رقادى
إذا سدلت ذوائبها عليها … رأيت البدر فى أفق السواد
كأنّ البدر مات له شقيق … فمن حزن تسربل بالحداد
(6/544)
________________________________________
ومن شعرها:
ولما أبى الواشون إلاّ فراقنا … وما لهم عندى وعندك من ثار
وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة … وقلّ حماتى عند ذاك وأنصارى
لقيناهم من ناظريك وأدمعى … ومن نفسى بالسيف والسّيل والنار
قال ابن واصل: ولما كان فى سنة إحدى وأربعين قصد عماد الدين قلعة جعبر، وصاحبها يومئذ [مالك بن] سالم بن مالك العقيلى، وحاصرها، وسيّر إلى صاحبها رسولا يقول له فى جملة رسالة: من يمنعك عنى؟ وكان الرسول الأمير حسّان صاحب منبج لمودّة كانت بينهما.
فلما أدّى الرسالة وقال له: يقول لك من يمنعك منى، فقال يمنعنى منه الذى يمنعك من الأمير بلك.
قصد بقوله أنه لما نازل بلك بن بهرام بن أرتق منبج، بعد أن أسر حسّان هذا وهو صاحبها يومئذ، ولم يبق إلا أخذها، فجآءه سهم فوقع فى نحره فأهلكه وخلص حسّان منه.
فكانت واقعة عماد الدين على قلعة جعبر كذلك، فإنّه أقبل عليها وخلصت من حصاره حسبما يأتى من ذكر ذلك فى الحاشية الأخرى من الوجه الآخر.
(6/545)
________________________________________
قلت: وقد ورد عن الله تعالى حكاية يقول: أنا الله ربّ مكّة، وعزّتى لا أقمت لمقدّر أمرا.
وقيل: إنه كان فى أتابك فى أوّل مبدإه ظلم، فسمع ليلة وهو نازل بحماة شخصا يغنى على شاطئ العاصى:
اعدلوا ما دام أمركم … نافذا فى النفع والضرر
واحفظوا أيّام دولتكم … إنكم منها على خطر
قال: فبكى، فتبدلت نيته.
قال ابن واصل: وفى سنة إحدى وأربعين قتل أتابك زنكى وهو محاصر لقلعة جعبر. دخل عليه صبى من غلمانه إفرنجى اسمه برتقش مع جماعة من مماليكه فقتلوه على فراشه وهربوا فى الوقت إلى قلعة جعبر. وكان ذلك ليلة الأحد لستّ مضين من ربيع الآخر، واستولى على الأمر بعد قتله ألب أرسلان السلجوقى الذى كان يدّعى أتابك زنكى أنه أتابكه. فدبّر عليه الوزير جمال الدين [الاصفهانى] مع صلاح الدين الياغسيائى وأحضروا سيف الدين غازى، وهو أكبر أولاد أتابك زنكى، وسلّموه الموصل، وملّكوه عوضا عن أبيه، وأعملوا
(6/546)
________________________________________
الحيلة على ألب أرسلان حتى دخل الموصل فقبض عليه وكان آخر العهد به.
وملك نور الدين محمود حلب، وهو نور الدين أبو القاسم محمود الشهيد حسبما يأتى من ذكره.
[ولما قتل عماد الدين أتابك زنكى رحمه الله قال الأمير مؤيد ابن منقذ: وكأنّ الشاعر المتنبى رثاه بقوله:
وقد قاتل الأتراك حتى قتلنه … بأضعف قرن فى أذلّ مكان
ومن بعض ما يحكى عنه من قوة منطوية أنه مما امتحن به بعض علمائه أعطاه يوما فى تسليمه خشكنانكه وقال له: احفظ هذه.
فبقيت نحوا من سنة وهى لا تفارقه سفرا وحضرا، خوفا أن يطلبها منه. فلما كان بعد ذلك قال له: أين الخشكنانكه؟ قال: فأخرجها له من منديل ثم قدّمها بين يديه. فاستحسن ذلك منه. وقال:
مثلك ينبعى أن يكون مستحفظا بحصن. وأمره حينئذ بدزدارية قلعة كواشى. فبقى فيها ذلك الطشتدار إلى أن قتل عماد الدين.
ومن جملة حزمه أنه تفرّس فى الأمير بهاء الدين ياروق التركمانى الشجاعة فجعل له ولاية حلب. فكان ياروق وأصحابه حصن حلب المانع حتى ضربت بشجاعته الأمثال.
(6/547)
________________________________________
ذكر سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والحافظ خليفة مصر، مستبد بالأمور بنفسه، وابن مصال ناظر بحاله.
وفى تاسع صفر من هذه السنة عزل القاضى أبو طاهر، وتولّى مكانه يونس بن محمد المقدسى.
وفيها أخذت الفرنج عسقلان، سلّمها لهم عبّاس وزير مصر.
وهذا غلط من صاحب هذا التاريخ الذى منه ننقل ذلك. فإنّ
(6/548)
________________________________________
عباس لم يتوزّر للحافظ قطّ، ولعله غلط فى السنين، أو من ناسخ الجزء وقع السهو والله أعلم.
ونحن نذكر الواقعة، ولعلّها كانت فيما يأتى من خلافة الظافر فنقول:
كان سبب تسلم الفرنج عسقلان أنّ رأس الإمام الحسين بن على ابن أبى طالب عليهما السلام كان قد طيف به البلاد عند قتله، ودفن بعسقلان قريبا من حيط الجامع القبلى بين العمودين. فأقام من ذلك التاريخ إلى (ص 299) هذه المدّة. فذكر لعباس المذكور فى حال وزارته للظافر وصحّ عنده الخبر وثبت ذلك إثباتا جيدا، فكاتب الفرنج واتفق الحال بينهم أن يسلّمهم عسقلان ويتسلّم الرأس الشريفة، فأحضرت (كذا) الرأس إلى القاهرة المعزية ودفن بالمشهد الحسينى فى شهر ربيع الأول، وقيل ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وخمس مئة وهو الصحيح، وأحضر صحبة تميم المعروف بالأمين.
وقيل فى هذه السنة كانت وفاة الحافظ خليفة مصر، وولاية الظافر والصحيح أنّ ذلك فى سنة أربع وأربعين والله أعلم.
وفيها نزل ملك الألمان على دمشق وخيّم من جهة باب الجابية،
(6/549)
________________________________________
وكان فى خلق عظيم ما مقداره أحد عشر ألف مقاتل، وكان بدمشق أناس قليلة من الجند وكانوا شجعان.
منهم: الحبق، وطرعق، وبلق، ومجاهد الدين بزان، وعين الخواص المسمى الزّىّ، وإسرائيل، والبصّارو، والسليمانى، وغيرهم من الأمراء الشجعان، فتحالفوا بالطلاقات أنهم لا يرجعوا عن الملاعين ولا يغلقون لدمشق باب ليلا ونهارا، ولا يحمل أحد منهم إلا ويواصل الضرب. ثم إنّ الفرنج ثانى يوم شربوا وطابوا وصلّوا صلاة الموت وقدّموا قدّامهم الأقسسة بالإنجيل، والذى حامله راكب حمار (كذا) وفى يده صليب الصّلبوت. ولم يزالوا كذلك إلى أن وصلوا القنوات قدّام باب الجابية. فرمى رجل من المسلمين يقال له كبك القسّيس الذى على رأسه الإنجيل بفردة ياشج فى صدره مرقت من ظهره، فوقع، وحمل آخر يقال له ابن جمّار، وضرب صاحب العلم الكبير فجدّله، فولّوا (كذا) الملاعين على أعقابهم مدبرين، وقتل أهل دمشق منهم خلقا كثيرا، وقتل (ص 300) فى هذه النوبة الفقيه الفندلاوى المالكى، وكان يحمل على الفرنج ويقول: قد بعت نفسى عسى تشترى.
(6/550)
________________________________________
قال ابن واصل: فى هذه النوبة قتل شاهنشاه بن [نجم الدين] أيوب شهيدا ولم يدرك ملك إخوته بنى أيوب، وهو جدّ الملوك بحماة والملوك ببعلبكّ.
وقيل فى هذه السنة زاد النيل إلى أن بلغ تغليق تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع من العشرين، وغرقت سائر ضواحى مصر والقاهرة، وخشى الناس الغرق.
وهذا لم أجده فى نسخة المسير، وإنما ذكره ابن واصل فى «تاريخه» فذكرته. والله أعلم.
وفى هذه السنة حاصروا (كذا) الفرنج دمشق حصارا شديدا، وسيّر مدبّر الدولة بها يستنجد بسيف الدين غازى ابن أتابك زنكى صاحب الموصل وحضر فى جيوشه، ونزل إليه أخوه نور الدين محمود من حلب وتعانقا، واتّفقا. ولما سمعت الفرنج بحضور سيف الدين غازى خافوا ورحلوا عن دمشق.
وفيها قتل شاهنشاه بن أيوب جدّ الملوك أصحاب حماة. قتلوه (كذا) الفرنج على دمشق فى هذه النوبة، وخلّف ولدين وهما الملك المظفر تقى الدين عمر والملك المنصور عز الدين فرّخشاه أبو الملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك، ودفن بالشرف ظاهر دمشق.
(6/551)
________________________________________
ذكر سنة أربع وأربعين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد.
والحافظ خليفة مصر إلى أن توفى يوم الأحد الخامس من جمادى الآخرة، ومدبّر دولته نجم الدين بن سليم بن مصال.
ووصل علىّ بن السلاّر من ثغر الإسكندرية طالبا للوزارة فى جموع من المغاربة والقبايل، فلما سمع به نجم الدين خرج من القاهرة فى جماعة الريحانية والمغاربة المصريّين، ونزل بأرض دلاص من طرف صعيد مصر الأسفل. ودخل ابن السلاّر القاهرة فى جمع كثيف. وكان خروج ابن مصال من القاهرة فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء
(6/552)
________________________________________
الرابع من شهر رمضان، وقيل شعبان وهو الصحيح، ودخل ابن السلاّر خامس الشهر المذكور. فتولّى تدبير الأمور، ونعت بالسيّد الأجلّ الأفضل، ثم نعت نفسه بالعادل بن أسبا سلار، ثم جمع نجم الدين ابن مصال جمعا كثيرا، فخرج له عباس، وكان يومئذ والى الأعمال الشرقية، والتقى مع نجم الدين، وكسره وقتله، وقتل من جمعه تقدير عشرة آلاف نفر، (ص 301) وأخذ رأسه ودخل به على عود عال إلى القاهرة، وذلك يوم الخميس ثالث عشرين ذى القعدة من هذه السنة.
واستمرّ العادل ابن السلار فى تدبير المصالح، وتزوج بامرأة حسناء مفرطة فى الجمال كان عبّاس متولّى الشرقية قد ملك عليها، ولم يعبر بها.
فبلغ ابن السلار ما هى عليه من الجمال فغلب عباس عليها وتزوّجها.
وكان لها ولد يضاهيها فى الجمال يسمّى نصرا، فحصل بين <ابن> السلاّر وبين عباس الوحشة والتنافس، وخرج عباس إلى محل ولايته بالشرقيّة، وعاد كالعاصى على ابن السلاّر، وكلّ منهما يداهن الآخر ومحترز منه، وجرى بينهما أحوال كثيرة، فشرع عباس يراسل نصرا ابن زوجة ابن السلاّر ويداهنه ويوعده ويمنيه حتى استماله، وعمل الحيلة على زوج أمّه ابن السلار حتى قتله، وذلك يوم الخميس سنة ثمان وأربعين
(6/553)
________________________________________
وخمس مئة، ووصل عباس يوم الجمعة صبيحة قتله ابن السلار، وخرجت له خلع الوزارة، ولقّب بالمظفّر عباس أمير الجيوش ولم يزل كذلك، وتزّوج أمّ نصر، وعاد لا يقطع أمرا دون ذلك الصبىّ نصر، إلى أن قتلا الظافر وقتلا بعده حسب ما يأتى:
وفيها كسر نور الدين محمود بن الملك زنكى من الفرنج، كسروه على ريحه (؟) ثم جمع وحشد واهتمّ وخرج إليهم، وكان ملكهم يومئذ صاحب أنطاكية، فكسرهم كسرة شنيعة وأسر ملوكهم.
وقتل فى هذه النوبة ملكهم البرنس، وقام مكانه ولده بيمند.
وكان طفلا، فتزوّجت أمّه كبيرا من كبرائهم لتدبّر حال الطفل، فغزاهم أيضا نور الدين وكسرهم، واستأسر ذلك الكبير الذى تزوجته الملكة، فامتدحه محمد بن صغير القيسرانى:
هذى العزائم لا ما تدّعى القضب … وذى المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاّتى إذا خطبت … تعثّرت خلفها الأشعار والخطب
صافحت يابن عماد الدين ذروتها … براحة للمساعى دونها التعب
وهى طويلة وهذا ملخصها.
وفيها نزل مسعود بن قليج أرسلان على مرعش، وأخذها بالسيف عنوة.
(6/554)
________________________________________
وفيها استقر (كذا) مملكة نور الدين محمود بن أتابك زنكى بدمشق بعد وفاة أبيه أتابك رحمه الله، وملك أيضا حمص وفامية، واتّسع سلطانه. (ص 302).
وكان الجوسلين صاحب تلّ باشر وإعزاز وعينتاب والراوندان ورعتات وغيرهم من الحصون على المسلمين منه ضرر كبير مما يغار (كذا) عليهم، وكان شديد البأس، شجاعا فى الحروب، مقداما جسورا، وكان مولعا بحبّ النساء الحسان. فجهّز إليه الملك العادل نور الدين محمود جيشا كثيفا فكسره الجوسلين، ولم يفيد (كذا) فيه شئ. فعظم على نور الدين، فاحتال عليه ودسّ جماعة من التركمان وقال لهم: من أتانى به أو برأسه فله حكمه علىّ. فتجهز عليه طائفة من التركمان فنزلوا عينتاب وفيهم امرأة لم يكن أجمل منها، فجعلوها فى طريق الملعون جوسلين لعلمهم بولعه بالنساء الحسان، كأنها تحتطب، وكمنوا (كذا) له الرجال من التركمان. فلما بلغ جوسلين نزول التركمان بعينتاب خرج بنفسه وقد سكر بالخمر، ولم يستصحب معه أحدا لظنه بنفسه وشجاعته. فمر بطريقه إلى تلك الامرأة، فلما رآها ذهل عقله، فراودها فأنعمت له، وأتت به إلى تحت شجرة بالقرب من كمين التركمان. فلما صار عليها ضمّت رجليها عليه ويديها، وخرجوا عليه
(6/555)
________________________________________
فأخذوه أخذا بالكفّ، وأتوا به إلى نور الدين وهو نازل على حمص، فأعطى التركمان عشرة آلاف دينار والمرأة ألف دينار.
ثم إنّ نور الدين أخذ منه سائر ما كان بيده من القلاع والحصون، ثم قتله بعد ذلك وأراح الله المسلمين منه ومن شره.
وفيها تسلّم نور الدين شيزر لمّا هدمتها الزلزلة، وانقطع ملك بنى منقذ، ووهب لأخيه نصرة الدولة حرّان وضياعها.
وفيها مطرت باليمن مطرا كلّه دم عبيط، وانصبغت الأرض منه وكان آية عظيمة.
وفيها أطلق الفرنج ابن أخت ملك الفرس، وكان أسيرا عند المسلمين، فحملوا (ص 302) للمسلمين أشياء عظيمة القدر من جملتها خمس فروش لؤلؤ، وأفدوه بألفى وسبع مئة أسير وخمس مئة ثوب أطلس.
(6/556)
________________________________________
ذكر خلافة الظافر ابن الحافظ
وما لخّص من سيرته
هو أبو المنصور إسماعيل بن أبى الميمون عبد المجيد الحافظ، وباقى نسبه قد تقدم ذكره.
أمّه أمّ ولد تدعى ست الوفا.
مولده فى المحرّم سنة سبع وعشرين وخمس مئة.
بويع له يوم الأحد الخامس من جمادى الآخرة من هذه السنة، وله يومئذ سبع عشرة سنة وخمسة أشهر، وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر.
ومدبّر دولته عبّاس المظفر، وابن زوجته نصر، وكاتبه الشيخ الموفق. كان شغوفا بمحبّة نصر ابن امرأة عباس المظفّر، فلم يكن له عنه صبر ليلا ولا نهارا. ودفع إليه من الأموال وخوّله من النّعم ما لا يحصى كثرة. ومن جملة ذلك ما ذكره الشيخ شمس الدين ابن خلكان رحمه الله فى تاريخه: أنّه دخل عليه فى يوم خميس العدس فوهبه قليوب بجميع وجوه أموالها وأصناف غيطانها وخراجها، وقال: هذه وهبة الخميس، وقليلة فى حقّك يا نصر. وزادت المحبة حتى سمع عنهما
(6/557)
________________________________________
أمور قباح. وكان الظافر يقول دائبا فى الملأ والخلا: عباس ونصر من أهل البيت. وهو يعنى عن التقرّب. فشنع عنه أنه من أهل البيت حقا، حتى لعب الشيطان بعقولهما، فقتلاه حسب ما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه.
وفى سنة أربع وأربعين توفى سيف الدين غازى بن أتابك زنكى صاحب الموصل على فراشه فى جمادى الآخرة، وقام بمملكة الموصل أخوه مودود بن أتابك زنكى. وكانت مدة ولاية غازى ثلاث سنين وشهرا وعشرين يوما. وكان جميل الصورة. وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة، لأنّ مولده فى سنة خمس، وتزوّج بابنة حسام الدين تمرتاش بن إيلغازى بن أرتق صاحب ماردين، ولم يدخل بها، فأخذها أخوه مودود لمّا ملك الموصل، واستولدها ولدين أحدهما سيف الدين غازى، والآخر عماد الدين مسعود وغيرهما. وكانت هذه الأمراء يحلّ لها أن تظهر بخمسة عشر ملكا من آبائها وأجدادها وأقاربها. وقام بتدبير ملك الموصل الوزير جمال الدين بن علىّ الإصبهانى والأمير زين الدين على كوجك أحسن قيام. وأقطع زين الدين على كوجك سنجار إلى ما بيده.
وكان نور الدين محمود قد تحرّك لطلب الملك بالموصل لأنه أكبر من أخيه مودود، فلم يقدر على ذلك من هذين الأميرين مدبرى الدولة جمال الدين وزين الدين المذكورين.
(6/558)
________________________________________
ذكر سنة خمس وأربعين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم ستة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث (ص 304)
الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والظافر خليفة مصر، ومدبّر دولته المظفّر عباس، وابن مرته نصر.
وفيها أحضر إلى نور الدين الشهيد من بلاد صرخد ذئبة ولدت جروا صفتة صفة الفهد، لكنه على صغره يقفز فى الهوا تقدير عشرين ذراعا. وقيل إنّه السّمعمع، وهو ولد الضبع من الديبة، وهو أخبث الوحوش وأعظمها قوّة وخفة. والعرب تقول إنه لا يموت حتف أنفه وإنما بآفة تعرض له. وقد تقدم ذكر ذلك فى الجزء الثالث من هذا التاريخ عندما ذكرنا بشّار بن برد الشاعر والله أعلم.
(6/559)
________________________________________
ذكر سنتى ست وسبع وأربعين وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لستّ ستة أذرع وإصبعان.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع واحد.
الماء القديم لسنة سبع ستة أذرع وسبعة أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والظافر خليفة مصر، وعبّاس ونصر بحالهما، ومضت سنة ست لم يكن بها ما يذكر بحكم التلخيص.
وفى سنة سبع كان ابتدآء الجراد العظيم بالموصل وبلاد الجزيرة، وأقام متتابعا سبع سنين حتى قحطت ديار بكر.
وفيها عزل القاضى يونس وولى الحكم الفقيه مجلى.
(6/560)
________________________________________
قال ابن واصل: وفى سنة سبع وأربعين كان تملك نور الدين دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين بن جمال الدين محمد بن تاج الملوك بورى بن طغتكين، وانقطع ملك بيت آل طغتكين.
وكان مدبر أموره معين الدين قد توفى قبل ذلك، فهيّأ لنور الدين الأمر بعد موت معين الدين. والله أعلم.

ذكر سنتى ثمان وتسع وأربعين وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة ثمان خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع.
الماء القديم لسنة تسع ستة أذرع وسبعة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
(6/561)
________________________________________
الحوادث (ص 305)
الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والظافر خليفة مصر حتى قتل سنة تسع حسب ما يأتى من ذكر ذلك.
وفى سنة ثمان غيّروا (كذا) الإسماعيلية دين الإسلام، وشربوا الخمور، وفجروا ببناتهم وأمهاتهم وخواتهم، وفعلوا كلّ محرّم فى شهر رمضان ليلا ونهارا، وأحرقوا الجامع وجميع المشاهد التى كانت عندهم والمنابر.
وقيل فى هذه السنة ملكت الفرنج عسقلان، بعد قتال شديد وحرب أكيد، قتل فيه بين الفريقين خلق كثير. وطلبوا (كذا) المسلمين من الفرنج الأمان، وكان سبب ذلك أنّ المسلمين الذين كانوا بعسقلان عادوا لما عجزوا عن الفرنج وطالعوا إلى مصر عدة مطالعات يستصرخون ويطلبون النجدة، وهم فى أشدّ الأحوال منتظرين النجدة تأتيهم من مصر. وقد صبروا الصبر العظيم. فبينما هم كذلك وإذا بمركب صغير قد أقبل إليهم من قبل مصر، فاستبشروا وظنّوا النجدة تكون خلفه.
فلما وصل إليهم طلع من المركب راجل واحد وعلى يده كتاب، فسلمه للنايب بعسقلان، فإذا فيه مكتوب: ساعة وقوفك عليه وقبل وضعه من يدك تسيّر إلينا جرزة قصب فارسى من مقصبة عسقلان
(6/562)
________________________________________
يكونوا غلاظ (كذا) لأجل الشبّابات. فقال النايب: السمع والطاعة.
وصبر إلى الليل، وخرج إلى الفرنج وطلب منهم الأمان لنفسه ولأهل البلد. فأعطوه ذلك. فلما كان من الغد فتح الباب وسلّم البلد للفرنج، وقال للقاصد الذى أتى بالكتاب: دعهم يطلبوا الشبّابات من من الفرنج أصحاب البلد.
ثم إن الفرنج أيضا فى هذه السنة هجموا تنّيس فى خمسين مركبا وأخذوا جميع ما كان فيها، واستأسروا الأقوية (كذا)، وقتلوا الضعفاء، وغنموا من الأموال ما لا يحصى كثرة.
قال ابن واصل: إن فى هذه السنة، أعنى سنة تسع وأربعين، كانت الزلزلة التى أخرجت شيزر وانقطعت فيها مملكة بنى منقذ، <وكانوا> قد اجتمعوا جميعهم فى ذلك اليوم فى مكان واحد، وبين أيديهم قرد يرقّصونه. فوقع عليهم البناء أجمع، فأهلكهم كلّهم، ولم يسلم سوى القرد، هرب إلى بستان هناك من بساتين القصر دخل إليه من شباك فسلم (ص 306).
وفى سنة تسع قتل الظافر خليفة مصر.
وذلك لما لعب الشيطان بعقل عبّاس ونصر المقدّم ذكرهما، وزيّن لهما ما بعد شأوه، خلا عباس بابن زوجته نصر وقال له: قد علمت
(6/563)
________________________________________
ما قيل وما قد ثبت فى ذهن الناس من أمرنا، وأننا نحن من أهل البيت. والرأى أن نحتال على قتلة هذا الخليفة، فإنّه صبىّ العقل والرأى والتدبير، ونملك نحن الخلافة. وإنما الأشياء همم. فأجابه نصر إلى ذلك. واتفقا عليه. فاهتمّ فى عمل دعوة سنيّة، ثم إنّه استأذن الظافر وسأله الحضور إلى منزله سرّا، ولا يعلم به أحد.
فأجابه لغلبة الهوى وحلول الأجل. فلما حضر الظافر متنكّرا تحت أذيال الدجى، خرج عليه عباس وبيده سيف مشهر وقال له: ويلك! خليفة تقبل من أمر الصبيان! ثم قبض عليه وذبحه ودفنه فى البادنهج بدار المأمونى بالسيوفيّين. ثم ركب عباس من فوره إلى القصر مسرعا وقال: استأذنوا لى على مولانا الظافر فى أمر مهمّ. فالتمس الأستاذون والحجّاب الظافر فلم يجدوه. فقال العبّاس: علىّ بأولاد الحافظ، وهما أبو الأمانة جبريل وأبو الحجاج يوسف. فلما حضرا قال: أنتما قتلتما مولانا. ثم أمر بهما فقتلا بالسيف. وقتل جماعة كبيرة منهم أبو التقى صالح بن حسن، وزمام القصر، مع جماعة يخشى شرهم.
من أعيان الدولة ورؤساء المملكة، ثم أحضروا قاضى القضاة وهو يومئذ يونس الأطفيحى والقاضى مجلّى صاحب كتاب «الذخائر»، وبايع للفائز كما يأتى ذكره بعد ذلك.
(6/564)
________________________________________
وكان قتل الظافر ليلة الخميس سلخ المحرم من هذه السنة.
وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر.
قضاة الظافر بالله: أبو الفضايل يونس الأطفيحى، الفقيه مجلّى، أبو المعالى بن جميع، ابن نجا المخزومى.
ولى الخلافة وله سبع عشرة سنة وخمسة أشهر.
وقتل وله اثنتان وعشرون سنة. والله أعلم.
(6/565)
________________________________________
ذكر خلافة الفايز بنصر الله ابن الظافر بالله
وما لخّص من سيرته
هو أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر بن عبد المجيد الحافظ، وباقى نسبه قد تقدّم ذكره.
أمّه أم ولد تدعى إحسان، وقيل زين الكمال.
مولده فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وخمس مئة.
بويع له فى سلخ المحرم صبيحة قتلة أبيه الظافر، وله من العمر أربع سنين وعشرة أيام.
مدة خلافته ست سنين وستة أشهر وسبعة عشر يوما.
كاتبه الأجلّ الموفّق كاتب أبيه.
ثم لم يزل أهل القصر يتتبّعون آثار غيبة الظافر إلى أن شاع أنّه خرج متنكّرا إلى دار نصر بن مرة (كذا) عبّاس، ولم يخرج منها.
فلما تحقق أهل القصر أنّ عباس وولده نصر (كذا) قاتلا الظافر نفذوا إلى طلائع بن رزّيك الملقب بالصالح الآتى ذكره فى الجزء الذى يليه وهم يستصرخونه، ونفذوا له بشعور المقتولين ظلما من أولاد الخلفاء، واستنجدوا به على عبّاس وولده. فحشد حشدا كثيرا وأتى إلى القاهرة حسب ما يأتى من ذكره فى تاريخه إن شاء الله تعالى.
وفيها صرف القاضى مجلّى وأعيد القاضى يونس الولاية الثانية.
(6/566)
________________________________________
ذكر سنة خمسين وخمس مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وتسعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخّص من الحوادث
الخليفة الإمام المقتفى لأمر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام والفايز خليفة مصر.
وفيها هرب عبّاس وابن زوجته نصر لما تحقّقوا خروج طلايع بن رزّيك بحشوده وطلبا الشام. فخرج (ص 308) عليهما الفرنج فأخذوهما، وقتل عبّاس عند العقبة، وأسر نصر. وذلك فى الرابع والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة. ونفذ طلائع خلفهما العساكر فأدركوهما، فوجدوا الفرنج قد قتلوا عبّاسا وأسروا نصرا. كان نصر جميلا كما ذكرنا، فاستخلصته الملكة لنفسها. فأفسد عليها المملكة وأراد المبايعة لنفسه، وأطاعه جماعة من قومها من الفرنج. فقبضت عليه وأباعته للمسلمين بخمسة وعشرين ألف دينار.
(6/567)
________________________________________
ودخل به إلى القاهرة على بغل مكتوف اليدين، وخلفه رجل ماسكه، يصحبه الخادم جوهر. ثم جعل فى قفص حديد، وعذّب بالمكاوى حتى اعترف بقتله الظافر ودلّهم على مكان دفنه. ثم ذبح من قفاه، وحمل رأسه إلى القصر، وصلبت جثته على باب زويلة.
وقيل إنّ الصالح لم يدخل القاهرة إلى يوم خروج تابوت الظافر حسب ما يأتى من ذكر ذلك فى الجزء الذى يتلو هذا الجزء إن شاء الله تعالى.

ذكر سنتى إحدى واثنتين وخمسين وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة إحدى ستة أذرع وتسعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
الماء القديم لسنة اثنتين ستة أذرع واحد وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشر أصابع.
(6/568)
________________________________________
الحوادث
الخليفة فيهما المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والفايز خليفة مصر، والصالح بن رزّيك وزيره ومدبّر الممالك المصرية.
وفى سنة إحدى وقع الحريق بدار الخلافة ببغداد بصاعقة.
وقيل فى هذه السنة كانت الزلزلة بشيزر، وتسلّمها نور الدين الشهيد.
وفيها (ص 309) خطب لسليمان شاه ببغداد، وكسرت الفرنج لنور الدين الشهيد على ما حوجه (؟)
قال ابن واصل فى هذه السنة: أعنى سنة إحدى وخمسين، ملك نور الدين مدينتى بصرى وصرخد. كانت صرخد فى يد الأمير أمين الدولة كمشتكين فتوفى فى ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين، وكانت بصرى لغلامه التون طاش فملكهما نور الدين فى هذه السنة.
وفى سنة اثنتين وخمسين مرض نور الدين بحلب وأرجف بموته، وكان-على ما ذكر ابن واصل-أسد الدين شير كوه بحمص، وهى يومئذ إقطاعه، ونجم الدين أيوب بدمشق ازدادارا. فلما سمع بموت نور الدين حضر شير كوه إلى عند أيوب وقصد الاستبداد بالممالك
(6/569)
________________________________________
المذكورة، فلم يوافقه نجم الدين أيوب وأشار عليه أن يتوجّه إلى حلب ويستوضح الخبر. فتوجّه شير كوه إلى حلب فوجد نور الدين حيّا.
فأقام فى خدمته.
وفى سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة كانت الزلزلة العظيمة بالشام جميعه إلى حدود أنطاكية، وهلك فيها خلق كثير، حتى إنّ معلم كتّاب كان يعلّم الصبيان بحماة فقام الفقيه لقضاء حاجته ثم عاد فوجد المكتب قد تطبق على جميع الصغار ممن كان فيه. فأهلكهم بأسرهم.
ومن العجيب أنّه لم يأت أحد من أهاليهم ولا سأل عنهم. ووقعت الأبراج بالقلاع، وانشقّ باللاذقيّة موضع وظهر منه صنم قائم فى الماء.
وفيها فتح عبد المؤمن صاحب الغرب مهديّة والله أعلم.

ذكر سنتى ثلاث وأربع وخمسين وخمس مئة
النيل المبارك فى هاتين السنتين:
الماء القديم لسنة ثلاث سبعة أذرع فقط.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع.
(6/570)
________________________________________
الماء القديم لسنة أربع سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبع واحد.

الحوادث
الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.
والفايز خليفة مصر، حتى توفى سنة أربع، حسب ما يأتى من ذكره فى تاريخه.
والصالح طلايع بن رزّيك مدبّر الممالك المصرية.
وفى سنة ثلاث تسلّم نور الدين مدينة حارم، وخرج ملك الروم إلى الشام.
وفيها خرج الأمير تميم المغربىّ على الصالح بن رزّيك من مدينة أسيوط فأنفد إليه عسكرا فقتلوه وأحضرت (كذا) رأسه على عود.
وفى سنة أربع وقع برد ببغداد قيل: إنّ زنة كلّ حجر تسعة أرطال بالبغدادى. فأهلكت عالما عظيما، وأخرجت عدة منازل حتى عادت بلال (؟) والله أعلم.
(6/571)
________________________________________
قال ابن واصل: إنّ فى سنة أربع توفى السلطان محمد شاه ابن محمود رحمه الله المعروف بالملك المسعود، وكان ملكا عادلا كثير الخير بعيدا من الشرّ. (ص 310).
قلت قد انتهى بنا القول فى هذا الجزء المسمى:
بالدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية إلى آخر هذه السنة بحكم التلخيص، وليكون أول الجزء السادس مبتدئا من أول سنة خمس وخمسين وخمس مئة.
ولنتلو (كذا) الآن هذا الكلام بذكر الشعراء المختصين بهذا الجزء الكائنين فى جميع سنيه، وهم شعراء بقيّة المئة الرابعة من أهل المشرق، وشعراء هذه المئة هذه المئة الرابعة من أهل المغرب، وكون أنه لم يكن بالمغرب شعراء يدركون بما قصدناه من ذكر أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب إلا فى هذه المئة الرابعة.
فلذلك لم نتعرض لذكرهم فيما مضى من جميع أجزاء هذا التاريخ إلى حين بلغ بنا القول إلى هذا الجزء الخامس، وكون هذه المئة الرابعة وما بعدها من السنين منهم من الشعراء ما هو المقصود من ذكرهم وذكر أشعارهم فى هاتين الطبقتين المدكورتين.
وبالله أعتضد فيما أعتمد، وبه التوسّل وعليه التوكّل.
(6/572)
________________________________________
ذكر شعراء المئة الرابعة من أهل المغرب
والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب
من أول الديار المصرية إلى البحر المحيط من جهة المغرب فى الجاهلية وما بعدها إلى المئة الرابعة عاطلة مما شرطنا فى هذا الباب.

1 - محمد بن عبد ربه:
إمام أنداده، وراغم حسّاده، وقبلة أهل الأدب بالأندلس وما يليها، وفارس شعرائها ومصنّفيها، وهو صاحب كتاب «العقد»، المشتمل على نوادر الغزل وفرائد الجدّ. فمن شعره فى هذا الباب:
يا ذا الذى خطّ العذار بخدّه … خطّين هاجا لوعة وبلابلا
ما كنت أقطع أنّ لحظك صارم … حتى رأيت من العذار حمائلا
وقوله الذى إذ سمعه المتنبى حكم <له> أنّه شاعر الأندلس وهو:
يا لؤلؤا يسبى العقول أنيقا … ورشا بتعذيب القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله … درّا يعود من الحياء عقيقا
(6/573)
________________________________________
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه … أبصرت وجهك فى سناه غريقا
يا من تقطّع خصره من رقّة … ما بال قلبك لا يكون رقيقا

2 - ابن هذيل الأعمى:
له فى المرقص:
لما وضعت على قلبى يدى بيدى … وصحت فى الليلة الظلماء وا كبدى
ضجّت كواكب ليلى فى مطالعها … وذابت الصخرة الصّماء من كمدى
وليس لى جلد فى الحب ينصرنى … فكيف أبقى بلا قلب ولا كبد
وكيف أشرح ما ذاب الجماد له … لمن غدا خائفا إشارتى بيدى
لمّا رآنى مشيرا بالسلام له … ألقى على خدّه مضاعف الزّرد

3 - يوسف بن هارون الرّمادى:
له فى المرقص:
ولم أر أحلى من تبسّم أعين … غداة النوى عن لؤلؤ كان كامنا
وقوله الذى لم يقل-فى وصف سحابة انسحبت على الرّبا ونقّطت وجوه الغدران-أحسن منه:
هوت مثل ما يهوى العقاب كأنّما … تخاف فوات المحل فهى تبادر
(6/574)
________________________________________
تشمّ دوانيها الرّبا فتثيرها … كما شمّ أذيال العروس الضفائر
كأنّ انتشار القطر منها ضوابط … تدور على الغدران منها دوائر
قلت: اسم البيكار عند أهل الأندلس ضوابط، فحسن القول فى ذلك.

4 - الشريف المروانى الطّليق:
له فى المرقص يصف غلاما أشقر:
غصن يهتزّ فى دعص نقا … يجتنى منه فؤادى حرقا
سال لام الصّدغ فى وجنته … سيلان التّبر وافى الورقا
فتناهى الحسن فيه إنما … يحسن الغصن إذا ما أورقا
وكأنّ الكأس فى أنمله … شفق أصبح يعلو فلقا
أصبحت شمسا وفوه مغربا … ويد الساقى المحيّى مشرقا
فإذا ما غربت فى فمه … تركت فى الخدّ منه شفقا
قلت: ولعلّ من هاهنا أخذ قائل هذين البيتين:
حمراء إذا ما نديمى بات يكرعها … أخشى عليه من الآلآء يحترق
لو جاء يحلف أنّ الشمس ما غربت … فى فيه كذّبه فى وجهه الشفق
وقول الشريف <المروانى>:
وعلى الأصائل رقّة من بعده … فكأنما تلقى الذى ألقاه
(6/575)
________________________________________
وغدا النسيم مبلّغا ما بيننا … فلذاك رقّ هوى وطاب شذاه
الروض مبسمه ونكهته الصّبا … والورد أخضله الندى خدّاه
فلذاك أولع بالرياض لأنّها … أبدا تذكّرنى الذى أهواه

5 - جعفر بن عثمان المصحفى:
له فى المرقص:
كلّمتنى فقلت درّ سقيط … وتأملت عقدها هل تنائر
فازدهاها تبسّم فأرتنى … نظم درّ من التبسّم آخر
وله فى المطرب:
خفيت على شرّابها فكأنما … يجدون ريّا من إناء فارغ

6 - ابن فرج [الجيّانى] صاحب كتاب «الحدائق»:
له فى المرقص:
بدت فى الليل سافرة فباتت … دياجى الليل سافرة القناع
فملّكت النّهى حجاب شوقى … لأجرى فى العفاف على طباعى
كذاك الروض ما فيه لمثلى … سوى نظر وشمّ من متاع
ولست من السوائم مهملات … فأتّخذ الرياض من المراعى

7 - ابن هانى:
المقدم ذكره، وله فى المرقص:
وكأن حمرة خدّه وعذاره … تفاحة رميت لتقتل عقربا
(6/576)
________________________________________
8 - الأمير تميم ابن المعزّ:
له فى المرقص:
أطلع الحسن من جبينك شمسا … فوق ورد من وجنتيك أطلاّ
فكأن العذار خاف على الور … د ذبولا-فمدّ بالشعر عليه ظلاّ
وقوله:
كأن بقايا الليل والصبح طالع … بقية لطخ الكحل فى الأعين الزّرق

9 - المقداد المصرى:
له فى المرقص:
يقول من لا منى عليه أرى فيه … جفاء وذاك يغرينى
فى خدّه آية الرضى أوما … أضحى بورد الحياء يحيّينى

10 - أبو الحسين العقيلى:
له فى المرقص:
وللأقاحى قصور كلّها ذهب … من حولها شرف كلّها درر

11 - منصور الفقيه:
له فى المرقص:
قالوا العمى منظر قبيح … قلت بفقدى لكم يهون
تالله ما فى الأنام شئ … تأسى على فقده العيون
(6/577)
________________________________________
12 - ابن وكيع التنّيسى:
له فى المرقص:
قم فاسقنى والخليج مضطرب … والريح تثنى ذوائب القضب
كأنّها والرياح تعطفها … صفّ قنا سندسيّة العذب
والجوّ فى حلّة ممسّكة … قد طرّزتها البروق بالذهب
(6/578)
________________________________________
ذكر شعراء المئة الخامسة
من أهل المغرب أيضا
13 - أبو عمرو بن الدرّاج القسطلى:
له فى المرقص:
ومعاقل من سوسن قد شيّدت … أيدى الربيع بناءها فوق القضب
شرفاتها من فضّة وحملتها … حول الأمير لهم سيوف من ذهب

14 - إدريس بن اليمانى:
له فى المرقص:
ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا … حتى إذا ملئت بصرف الرّاح
خفّت فكادت تستطير بما حوت … إنّ الجسوم تخفّ بالأرواح

15 - أبو عامر بن شهيد:
له فى المرقص:
ولما تملّأ من سكره … ونام، ونامت عيون العسس
دنوت إليه على قربه … دنوّ رفيق درى ما التمس
أدبّ إليه دبيب الكرى … وأسمو إليه سموّ النفس
فبتّ به ليلتى ناعما … إلى-أن تبسّم ثغر الغلس
(6/579)
________________________________________
16 - أبو جعفر بن اللمائى:
له فى المرقص:
عارض أقبل فى جنح الدّجى … يتهادى كتهادى ذى الوجا
بدّدت ريح الصّبا لؤلؤه … فانبرى-يوقد عنها سرجا

17 - أبو حفص بن [برد] الأصغر:
له فى المرقص:
وكأنّ الليل حين لوى … ذاهبا والصبح قد لاحا
كلّة سوداء أحرقها … عابد أسرج مصباحا

18 - الوزير [أبو محمد] ابن حزم:
له فى المرقص:
لا تلحنى فى حبّه إن بدا … شاحب لون قد عراه النحول
فإنّ غصنا أبدا لم تزل … عليه شمس لحرىّ بالذّبول

19 - ابن عبّاد ملك إشبيلية المعروف بالمعتمد:
له فى المرقص:
سميدع يهب الآلاف مبتدئا … وبعد ذلك يلفى وهو معتذر
(6/580)
________________________________________
له يد كلّ جبّار يقبّلها … لولا نداها لقلنا إنّها الحجر
وقوله:
وليل بعطف النهر أنسا قطعته … بذات سوار مثل منعطف النهر
نضت بردها عن غصن بان منعّم … فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر

20 - ابنه الراضى ابن المعتمد:
له فى المرقص:
مرّوا بنا أصلا من غير ميعاد … فأوقدوا نار قلبى أىّ إيقاد
لا غرو إن زاد فى وجدى مرورهم … فرؤية الماء تروى غلّة الصادى

21 - أخوه المأمون بن المعتمد:
له فى المرقص:
قومى لخم وهم ما هم … أهل النّدى والبأس يوم الكفاح
كم كحّلوه من عيون القنا … وورّدوه من خدود الصّفاح

22 - أبو بكر بن عمّار وزير المعتمد:
يمتدحه بهذه القصيدة المجيدة:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى … والنجم قد صرف العنان عن السّرى
والصبح قد أهدى لنا كافوره … لما استردّ الليل منا العنبرا
والروض كالحسنا كساه زهره … وشيا وقلّده نداه جوهرا
(6/581)
________________________________________
أو كالغلام زها بورد رياضه … خجلا وتاه بآسهن معذرا
روض كأنّ النهر فيه معصم … صاف أطلّ على رداء أخضرا
وتهزّه ريح الصبا فتخاله … سيف ابن عبّاد يبدّد عسكرا
ملك إذا ازدحم الملوك لمورد … ونحاه (؟) لا يردون حتى يصدرا
أندى على الأكباد من قطر الندى … وألذّ فى الأجفان من سنة الكرى
من لا توازيه الجبال إذا اجتبى … من لا تسابقه الرياح إذا جرى
ملك يروقك خلقه أو خلقه … كالروض يحسن منظرا أو مخبرا
أقسمت باسم الفضل حتى جئته … فنظرته فى بردتيه مصوّرا
وجهلت معنى الجود حتى زرته … فقرأته فى راحتيه مفسّرا
فاح الثرى متعطّرا بثنائه … حتى حسبنا كلّ ترب عنبرا
منها:
أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم … لما رأيت الغصن يعشق مثمرا
ومنها:
من ذا ينافحنى وذكرك مندل … أوردته من نار فكرى مجمرا
آخرها:
فلئن وجدت نسيم حمدى عاطرا … فلقد وجدت نسيم برّك أعطرا
(6/582)
________________________________________
23 - أبو الوليد ابن زيدون وزيره:
له القصيدة الفريدة النونيّه التى لم يعمل فى باب الرثاء مثلها وسبق وعدنا بإثباتها:
بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا … شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا … يقضى علينا الأسى لولا تأسّينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت … سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألّفنا … ومورد الأنس صاف من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الوصل دانية … قطوفها فجنيناها كما شينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما … كنتم لأرواحنا إلاّ رياحينا
من مبلغ الملبسينا بانتراحهم … حزنا مع الدّهر لا يبلى ويبلينا
إنّ الزمان الذى ما زال يضحكنا … أنسا بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا … بأن نغصّ فقال الدهر: آمينا
فانحلّ ما كان معقودا بأنفسنا … وانبتّ ما كان موصولا بأيدينا
وقد نكون ولا يخشى تفرّقنا … فاليوم نحن، ولا يرجى تلاقينا
(6/583)
________________________________________
لم نعتقد بعدكم إلاّ الوفاء لكم … رأيا، ولم نتقلّد غيره دينا
لا تحسبوا بعدكم عنّا يغيّرنا … إن طال ما غيّر البعد المحبّينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا … منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا
ولا اعتقدنا خليلا عنك يشغلنا … ولا اتخذنا بديلا منك يسلينا
يا سارى البرق غاد القصر فاسق به … من كان صرف الهوى والودّ يسقينا
ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيّتنا … من لو على البعد حيّى كان يحيينا
يا روضة طالما أجنت لواحظنا … وردا جناه الصّبا غضّا ونسرينا
ويا نعيما خطرنا من غضارته … فى وشى نعمى، سحبنا ذيلها حينا
لسنا نسمّيك إجلالا وتكرمة … وقدرك المعتلى عن ذاك يغنينا
يا جنّة الخلد بدّلنا بسلسلها … والكوثر العذب زقّوما وغسلينا
كأنّنا لم نبت والوصل ثالثنا … والسّعد قد غضّ من أجفان واشينا
سرّان فى خاطر الظلماء يكتمنا … حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لم نجف أفق جمال أنت كوكبه … سالين عنه، ولم نهجره قالينا
ولا اختيارا تجنّبناك عن كثب … لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حثّت مشعشعة … فينا الشمول وغنّانا مغنينا
لا أكؤس الرّاح تبدى من شمائلنا … سيما ارتياح، ولا الأوتار تلهينا
دومى على العهد ما دمنا محافظة … فالحرّ من دان إنصافا كما دينا
فلو صبا نحونا من علو مطلعه … بدر الدّجا لم يكن حاشاك يصبينا
(6/584)
________________________________________
وفى الجواب متاع لو شفعت به … بيض الأيادى التى ما زلت تولينا
عليك منّا سلام الله ما بقيت … صبابة بك نخفيها فتخفينا
وهذا الشعر وإن طال فإنه مملوء بكل طائل، وفى مثله يجب أن يقال:
إن كان طال فإنّه ليل ال‍ … وصال بأنسه قصرا

24 - حبيب الأندلسى وزير ابن عباد أيضا:
له فى المرقص:
إذا ما أديرت كؤوس الهوى … ففى شربها لست بالمؤتلى
مدام تعتّق بالناظرين … وتلك تعتّق بالأرجل

25 - ابن حصن كاتب ابن عباد:
له فى المرقص:
وما هاجنى إلاّ ابن ورقاء هاتف … على فنن بين الجزيرة والنهر
مفستق طوق لا زوردىّ كلكل … موشّى الطّلا أحوى القوادم والظهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ … وصاغ على الأشفار طوقا من التبر
حديد شبا المنقار داج كأنّه … شبا قلم من فضّة مدّ فى حبر
توسّد من فرع الأراك أريكة … ومال على طىّ الجناح مع النحر
ولمّا رأى دمعى مراقا أرابه … بكائى فاستوى على الغصن النّضر
(6/585)
________________________________________
وحثّ جناحيه وصفّق طائرا … وطار بقلبى حيث طار ولم يدر

26 - ابن عبدوس الوزير:
له فى المرقص فى فرس أشهب فى عرفه لمعة حمراء:
يا حسن هذا الجواد حين بدا … فى شية لم تكن لذى بلق
قام عليه النهار مدّعيا … فاغترفت غرفة يد الشفق

27 - ابن وهبون المرسى:
له فى المرقص:
ذنبى إلى الدهر فلتكره سجيته … ذنب الحسام إذا ما أحجم البطل
وقوله للمعتمد ابن عباد وقد روى بيتا من شعر المتنبى فأعجبه:
تنبّأ عجبا بالقريض ولو درى … بأنّك تروى شعره لتألّها

28 - البجلىّ:
له فى المرقص:
رقّت ورقّ أديمها من حسنها … فتكاد تبصر باطنا من ظاهر
يندى بماء الورد مسبل شعرها … كالطلّ يسقط من جناح الطائر
(6/586)
________________________________________
29 - أبو الفضل بن شرف:
هو صاحب كتاب «أبكار الأفكار»
له فى المرقص:
لم يبق للجور فى أيامكم أثر … إلا الذى فى عيون الغيد من حور
وقوله:
تقلّدتنى الليالى وهى مدبرة … كأننى صارم فى كفّ منهزم

30 - ابن القابلة السّبتى:
له فى المرقص:
ووجه هلال رقّ حسنا أديمه … يرى الصبّ فيه وجهه حين ينظر
تعرّض لى عند اللقاء به رشا … تكاد الحميّا من محيّاه تقطر
ولم يتعرّض كى أراه وإنّما … أراد يرينى أنّ وجهى أصفر

31 - ابن رشيق صاحب العمدة:
له فى المرقص:
وقد غاب المعز ابن باديس عن حضوره فى العيد وكان العيد ماطرا:
تجهّم العيد وانهلّت بوادره … وكنت أعهد منه البشر والضحكا
كأنّه جاء يطوى الأرض من بعد … شوقا إليك فلما لم يجدك بكى
(6/587)
________________________________________
وقوله:
خطّ العذار له لاما بصفحته … من أجلها يستغيث الناس باللام

32 - عبد الله بن محمّد العطّار:
له فى المرقص:
وكأس ترينا آية الصّبح والدّجى … فأوّلها شمس وآخرها بدر
مقطّبة ما لم يزرها مزاجها … فإن زارها جاء التبسّم والبشر
فيا عجبا للدهر لم يخل مهجة … من العشق حتى الماء يعشقه الخمر

33 - عبد الرحمن بن حبيب:
له فى المرقص:
مجرى جفونى دماء وهو ناظرها … ومتلف القلب وجدا وهو مربعه
إذا بدا حال دمعى دون رؤيته … يغار منّى عليه فهو برقعه

34 - أبو عبد الله بن شرف:
له فى المرقص:
تحت الظلام الذى مثل الظّليم جثا … والبدر بيضته والجوّ أدحىّ
وقوله:
أفنى دموعى وجسمى طول هجركم … فانظر إلى ملتقى طلّ على طلل
(6/588)

15 - علىّ بن يوسف التونسى:
له فى المرقص:
حين اعتلت أنواره وجنت … كفّ الغزالة وردة الشّفق

36 - عتيق الورّاق:
له فى المرقص، يرثى الفقيه ابن خلدون وقد دفنوه بليل:
دفنوا صبحهم بليل وجاؤوا … حين لا صبح يطلبون الصباحا

37 - عمران بن القاضى المسيلى:
له فى المرقص:
إن يخترم خلقا حمام فابنه … منه لنا خلف وحظّ أوفر
نور تساقط حين أصبح مثمرا … والنّور يسقط نفسه إذ يثمر

38 - ثقة الدولة جعفر ملك صقلية:
فى المرقص؛ له فى غلامين أحدهما بثوب أحمر والآخر بثوب أسود:
أرى ثوبين قد صبغا … صباغ الخدّ والحدق
فهذا البدر فى شفق … وهذا البدر فى غسق
(6/589)

39 - عبد الوهاب المقال (؟):
له فى المرقص.
انظر إلى الشامة فى خدّ من … أجفانه باللّحظ جرّاحه
كأنّها من حسنها إذ بدت … نقطة مسك فوق تفّاحه

40 - ابن الغطّاس:
يصف الخيار فى المرقص:
جسم لجين يكاد يجرى … لولا تردّيه ثوب سآم
ما عارضته العيون إلاّ … خالت به مقبض الحسام

41 - ابن أبى مغنوج (؟)
له فى المرقص:
لحية ميمون إذا حصّلت … لم تبلغ المعشار من ذرّه
تطّلعت فاستقبلت وجهه … فأقسمت لا أنبتت شعره

42 - القائد ابن شكور:
له فى المرقص فى النيلوفر:
كؤوس من يواقيت … تفتّح عن دنانير
وفى أحشائها زهر … كألسنة العصافير (ص 321)
(6/590)

43 - علىّ بن الطبرى:
له فى المرقص:
وأحور مائل اللحظات عنى … دسست إليه من يشفى وسيطا
فجاء به على مهل وستر … كما يستدرج اللهب السليطا

44 - ابن عتيق الصفّار:
له فى المرقص:
واضطرمت فى القلب نار الجوى … فبادر الأدمع منا شرر

45 - عبد العزيز بن الحاكم:
له فى المرقص:
كأن البدر والمرّيخ إذ وافى إليه … ملك توقد ليلا شمعة بين يديه

46 - محمد بن الحسن الكاتب:
له فى المرقص:
لا تصل من صدّ تيها أبدا واستغن عنه … كن كمثل الكرم يعلق بالذى يقرب منه
(6/591)

47 - أبو الحسن الودانى:
له فى المرقص:
وأتى الصباح فلا أتى فكأنّه … شيب أطلّ على سواد شباب
وكأنما شفق السما وخضابه … يبدو كنعمان بأرض سراب

48 - القاضى الجليس المصرى:
له فى المرقص:
ومن عجب أنّ الصوارم فى الوغى … تحيض دما والسيوف ذكور
وأعجب من ذا أنّها فى أكفّهم … تؤجج نارا والأكفّ بحور

49 - صنّاجة الروح:
له فى المرقص وقد زلزلت مصر فى أيّام الحاكم:
بالحاكم العدل أضحى الدين معتليا … نجل الهدى وسليل السادة الصلحا
ما زلزلت مصر من كيد يراد بها … وإنّما رقصت من عدله فرحا

50 - هاشم بن الياس المصرى:
له فى المرقص: (ص 322)
كأنّ بياض البدر من خلف نخلة … بياض بنان فى اخضرار نقوش
وقوله:
وكأنما المرّيخ بين نجومه … ياقوتة فى لؤلؤ متبدّد
(6/592)

51 - ابن مكنسة:
له فى المرقص:
والسكر فى وجنته وطرفه … يفتح وردا ويفضّ نرجسا
وقوله:
إبريقنا عاكف على قدح … تخاله الأمّ ترضع الولدا
أو عابدا من بنى المجوس إذا … توهّم الكأس شعلة سجدا

52 - أبو طاهر [جعفر] بن دوّاس القنا:
له فى المرقص:
لما رأيت البياض فى الشعر الأسود … قد لاح صحت واحزنى
هذا وحقّ الإله أحسبه … أوّل خيط سدّى من الكفن

53 - يعقوب بن كلّس الوزير:
له فى المرقص، وقد سبق طيره طير العزيز:
يا أيّها المولى الذى جدّه … لكلّ جدّ قاهر غالب
طيرك السابق لكنّه … لم يأت إلا وله حاجب
(6/593)

54 - الموفق صاحب ديوان المكاتبات.
له فى المرقص فى شمعة:
وصعدة لدنة كالتّبر تفتق فى … جنح الظلام إذا ما أبرزت فلقا
تدنو فيخرق برد اللّيل لهزمها … فإن تأت رتق الإظلام ما فتقا
وتستهلّ بماء عند وقدتها … كما تألّق برق الغيث واندفقا
كالصّب لونا ودمعا والتظا وضنى … وطاعة وسهادا دائما وشقا
والحبّ حسنا ولينا واستوا وشذا … وبهجة وطروقا واجتنا ولقا
قلت: ومن المليح فى وصف شمعة أيضا قول قاضى العجم الأرّجانى وهو:
نمّت بأسرار ليل كان يخفيها … وأطلعت رأسها للناس من فيها
قلب لها لم يرعها وهو مكتمن … ألا ترى فيه نارا من تراقيها
سفيهة لم يزل طول اللسان لها … فى الحىّ يجنى عليها ضرب هاديها
غريقة فى دموع وهى تحرقها … أنفاسها بدوام من تلظّيها
تنفّست نفس المهجور إذ ذكرت … عهد الخليط فبات الوجد يبكيها
بدت كنجم هوى فى إثر مسترق … للسمع فاشتعلت منه نواصيها
(6/594)

وحيدة بشباة الرمح هازمة … عساكر الليل إن حلّت بواديها
ما طنّبت قطّ فى أرض مخيّمة … إلا وأقمر للأبصار راجيها
لها غرايب تبدو من محاسنها … إذا تفكّرت يوما فى معانيها
فالوجنة الورد إلاّ فى تناولها … والقامة الغصن إلاّ فى تثنّيها
قد أثمرت وردة حمراء طالعة … تجنى على الكفّ إن أهويت تجنيها
صفر غلائلها حمر عمائمها … سود ذوائبها بيض لياليها
كصعدة فى حشا الظلماء طاعنة … تسقى أسافلها ريّا أعاليها
وصيفة لست منها قاضيا وطرا … إن أنت لم تكسها تاحا يحلّيها
ما إن تزال بطول الليل لاهية … وما بها غلّة فى الصدر تظميها
تحيى الليالى نورا وهى تقتلها … بئس الجزاء لعمر الله يجزيها
بيضاء غرّاء ما تنفكّ ساهرة … تقصّ لمّتها طورا وتعليها
لولا اختلاف طباعينا بواحدة … وللطباع اختلاف فى مبانيها
بأنّها فى سواد الليل مظهرة … تلك التى فى سواد الليل أخفيها
لو أنها علمت فى قرب من نصبت … من الورى لثنت أعطافها تيها
وقوله الذى يشهد له لا عليه، ويميل كلّ ذو (كذا) لبّ إليه.
ولقد شربت مع الحبيب مدامة … عذراء إلاّ أنها شمطاء
والروض بين تكبّر وتواضع … شمخ القضيب به وخرّ الماء
(6/595)

55 - (ص 324) أبو علىّ الأنصارى
له فى المرقص فى خيمة نصبها الأفضل:
ما كان يخطر فى الأفكار قبلك أن … تسمو علوّا على أفق السماء الخيم
حتى أتيت بها شمّاء شاهقة … فى مارن الدهر من تيه بها شمم
والطير قد لزمت فيها مواضعها … لما تحقّق منها أنها حرم
إخالها خيلك اللاّتى يغير بها … فليس ينزع عنها السرج واللّجم
كأنها جنّة والساكنون بها … لا يستطيل على أعمارهم هرم
إن أنبتت أرضها زهرا فلا عجب … وقد همت فوقها من كفّك الدّيم

56 - القاضى ابن قادوس:
له فى المطرب:
وكلّما دام نطقا فى معاتبتى … سددت فاه بنظم اللّثم والقبل
وبات بدر تمام الحسن معتنقى … والشمس فى فلك الكاسات لم تفل
فبتّ منها أرى النار التى سجدت … لها المجوس من الإبريق تسجد لى
(6/596)

57 - أحمد بن مفرّج:
له فى المرقص فى صفة العيث:
ومن العجائب أن أتى من نسجه … وخيوطه بيض، بساط أخضر
أرض وأفق وكّلا ببلاغة … فالزهر ينظم والسحائب تنثر

58 - ابن عياد الاسكندرى:
له فى المرقص فى أقحوانة:
كأنّما شمسه من فضّة حرست … خوف الوقوع بمسمار من الذّهب

59 - ابن شعيب المصرى:
له فى المرقص:
يا ذا الذى يدخر أمواله … عن مثل هذا الأسمر الفائق
ما الذهب الصامت مستكثر … إنفاقه فى الذهب الناطق

60 - عبد الله بن الطباخ:
له فى المرقص: فى أحدب:
قصرت أخادعه وغاض قذاله … فكأنّه مترقّب أن يصفعا (ص 325)
(6/597)

وكأنّه قد ذاق أوّل صفعة … وأحسّ ثانية بها فتجمّعا

61 - ظافر الحداد الإسكندرى:
له فى المرقص:
ونفّر صبح الليل ليل شبيبتى … كذا عادتى فى الصبح مع من أحبّه
وقوله:
وكأنما الدولاب يزمر كلّما … غنّت، وأصوات الضفادع شيز
وكأنّما القمرىّ ينشد مصرعا … من كلّ بيت والحمام يجيز

62 - على بن حبيب التميمى المصرى:
له فى المرقص:
أقمت بالبركة الغرّاء مدهقة … والماء مجتمع فيها ومسفوح
إذا النسيم جرى فى مائها اضطربت … كأنّما ريحه فى جسمها روح

63 - الجليس بن الحباب، وهو آخر من ذكرنا من شعراء المئة الخامسة
من المغرب.
له فى المرقص:
والعود أجمل بالكريم وقلما … يغنى الحيا إلاّ على تكراره
(6/598)

ذكر شعراء المئة الخامسة من أهل المشرق
لما تقدم القول من العبد بذكر شعراء المئة الرابعة من أهل المشرق فى الجزء الذى قبل هذا الجزء، وذكرنا فى هذا ما اختصّ به من ذكر شعرآء المئة الرابعة والمئة الخامسة من أهل المغرب، أردفناهم أيضا بذكر شعراء المئة الخامسة من أهل المشرق ليكون كلّ جزء مختصّا بذكر شعرآء ما اشتمل عليه من مئين (كذا) سنيّه، وبالله التوفيق.

64 - أبو منصور الثعالبى:
هو من شعراء المئة الرابعة، وطعن فى الخامسة فحسب منها على اصطلاح الكتاب.
له فى المرقص:
إنسانة تيّاهة … بدر الدجى منها خجل
إذا زنا طرفى بها … بدمع عينى يغتسل

65 - مهيار الديلمى:
له فى المرقص:
ضربوا بمدرجة الطريق فبابهم … يتقارعون على قرى الضّيفان
ويكاد موقدها يجود بنفسه … حب القرى حطبا على النيران
(6/599)

66 - أبو الحسن التهامى:
له فى المرقص؛ وهو من المقدّمين لقوله:
والصبح قد أخذت أنامل كفّه … فى حلّ جيب بالظلام مزرّر
ولقوله:
علا فما يستقرّ المال فى يده … وكيف يمسك ماء فتّه الجبل
ولقوله:
بيضاء تسحب ليلا حسنه أبدا … فى الطول منه، وحسن اللّيل فى القصر

67 - أبو العلاء بن سليمان المعرى:
له فى المرقص:
والخلّ كالماء يبدى لى ضمائره … مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وقوله:
وصبح قد فلونا الليل عنه … كما يفلى عن النار الرماد

68 - أخوه أبو الهيثم:
له فى المرقص:
متلهّب الأحشاء يحسب ليله … أبدا دخانا والنجوم شرار
(6/600)

69 - القاضى عبد الوهاب المعرى:
له فى المرقص:
زرع وردا ناظرا ناظرى … فى وجنة كالقمر الطالع
فلم منعتم شفتى قطفه … والحكم أنّ الزّرع للزّارع

70 - أبو محمد الخفاجى:
له فى المرقص:
ملك الزمان بأسره فنهاره … فى وجهه وظلامه فى شعره

71 - ابن الدويدة المعرى:
له فى المرقص:
جنبوا الجياد إلى المطى فغادروا … بالتبر سطرا من حروف المعجم
فترى به عينا بوطأة حافر … وترى به هاء بوطأة ميسم
قلت: والمليح من هذا المعنى قول الآخر، وهو قديم:
كأنّ مواطئ الخيل فيها أهلّة … وآثار أخفاف المطىّ بدور

72 - السابق المعرى:
له فى المرقص:
كأن الشقائق والأقحوا … ن خدود تقبلهنّ الثغور
(6/601)

فهاتيك أخجلهنّ الحيا … ء وهاتيك أضحكهنّ السرور

73 - الواثق المعرّى:
له فى المرقص:
انظر إلى منظر يسبيك محضره … بحسنه فى البرايا يضرب المثل
نارا تلوح من النارنج فى شجر … لا النار تخبو ولا الأغصان تشتعل

74 - الأمير أبو الفتح المعرى:
له فى المرقص:
أبا صالح أشكو إليك نوائبا … عرتنى كما يشكو النبات إلى القطر
لتنظر نحوى نظرة لو نظرتها … إلى الصخر فجّرت العيون من الصخر
وفى الدار خلفى صبية قد تركتهم … يطلّون إطلال الفراخ من الوكر
جنيت على روحى بروحى جناية … فأثقلت ظهرى بالذى خفّ من ظهرى

75 - أبو الفتيان بن حيّوس:
له فى المرقص:
إن ترد خبر حالهم عن يقين … فأتهم يوم نائل أو نزال
تلق بيض الوجوه سود مثار النقع خضر الأكناف حمر النضال وقوله:
فعل المدام ولونها إذ ذاقها … فى مقلتيه ووجنتيه تنتقل
(6/602)

76 - الوزير أبو الفرج المنازى:
له فى المرقص ولا يوجد فى معناه مثله:
وقانا لفحة الرمضاء واد … وقاه مضاعف النبت العظيم
نزلنا دوحه فحنا علينا … حنوّ الوالدات على الفطيم
وأرشفنا على ماء زلال … ألذ من المدامة للنديم
يصدّ الشمس أنّى واجهتنا … فيحجبها ويأذن للنسيم
تروع حصاه حالية العذارى … فتلمس جانب العقد النظيم

77 - ابن الشحنا العسقلانى:
له فى المرقص:
ومهفهف عاق السقام بطرفه … وسرى فخيّم فى معاقد خصره
مزقت أثواب الظلام بثغره … ثم أتيت أحوكها من شعره

87 - الماهر الحلبى:
له فى المرقص فى الرثاء فأجاد:
برغمى أن ألوم عليك دهرا … قليل نكره بمعنّفيه
وأن أرعى النجوم ولست فيها … وأن أطأ التراب وأنت فيه

79 - ابن السراج الصّورى:
له فى المرقص وهو آخر من ذكرنا من هذه الطبقة؛ وله فى فهد:
(6/603)

وأهرت الشدق فى فيه وفى يده … ما فى القواضب والعسالة الذّبل
تنافس الليل فيه والنهار معا … فقمّصاه جلابيبا من الحلل
والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم … تطلع على وجهه إلاّ على وجل
ونقطته حياء كى نسالمها (؟) … على المتون نعاج الرمل بالمقل

انتهى الكلام فى ذكر الشعراء المذكورين المختصين بهذا الجزء وبتمامهم نجز ولله الحمد والمنة والطول، وبه القوة والحول، بخط يد واضعه ومصنفه، وجامعه ومؤلفه أضعف خلق الله وأفقرهم إلى رحمته، أبو (كذا) بكر عبد الله الدودارى المقدم ذكر نسبته فى أولّه، غفر الله له ولوالديه ولمن قرأه وتجاوز عن كلّ خطأ يراه ولكافة المسلمين أجمعين.
وكان الفراغ من نسخه آخر يوم الأحد العشرين من شهر جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة الهجرية على صاحبها السلام.
أحسن الله نقصها بخير إنّه ولىّ ذلك وقادر عليه، والأمور مبتدؤها منه ومصيرها إليه.
وهو حسبى ونعم الوكيل.
بلغ نظرا من المصنّف عفا الله عنه
(6/604)

يتلو ذلك
فى أول الجزء السابع منه.
ما مثاله ذكر أول دولة بنى أيوب.
ملوك الإسلام، والقادة الأعلام.
ونستقبل التاريخ من أول سنة خمس.
وخمسين وخمس مئة إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين وصلواته.
على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(6/605)

الجزء السّابع
من تاريخ كنز الدّرر تأليف أبى بكر بن عبد الله بن ايبك
(م 7/2)

فهرس المحتويات
مقدمة المحقق ج
مقدمة المؤلف 3
ذكر ابتداء دولة الملوك بنى أيوب ونسبهم وبدء شأنهم 5
ذكر سنة خمس وخمسين وخمسمائة 11
ذكر خلافة المستنجد بالله بن المقتفى لأمر الله 11
ذكر خلافة العاضد لدين الله 12
ذكر سنة ست وخمسين وخمسمائة 15
ذكر سنة سبع وخمسين وخمسمائة 16
ذكر نبذ من أخبار الصالح بن رزيك 16
ذكر شاور ونسبه وبدء شأنه 18
ذكر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة 20
ذكر طرف من أخبار السلجوقية وملوكهم 20
ذكر عدة ملوك بنى سلجوق 21
ذكر عبد المؤمن ونسبه وبدء شأنه 22
ذكر سنة تسع وخمسين وخمسمائة 26
ذكر سنة ستين وخمسمائة 34
ذكر سنة إحدى وستين وخمسمائة 37
ذكر سنتى اثنتين وثلاث وستين وخمسمائة 38
ذكر سنة أربع وستين وخمسمائة 39
(م 7/3)

ذكر سنة خمس وستين وخمسمائة 41
الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل محمود نور الدين الشهيد بن أتابك زنكى 43
ذكر سنة ست وستين وخمسمائة 46
ذكر خلافة المستضئ بنور الله بن المستنجد بالله 46
السلطان الأجل صلاح الدنيا والدين يوسف الملك الناصر 47
ذكر سنة سبع وستين وخمسمائة 48
ذكر سنة ثمان وستين وخمسمائة 50
ذكر منازلة الكرك وسببه 50
ذكر سنة تسع وستين وخمسمائة 56
ذكر سنة سبعين وخمسمائة 58
ذكر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة 60
ذكر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة 61
ذكر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة 63
ذكر سنة أربع وسبعين وخمسمائة 64
ذكر سنة خمس وسبعين وخمسمائة 66
ذكر خلافة الإمام الناصر لدين الله بن المستضئ بنور الله 66
ذكر سنة ست وسبعين وخمسمائة 68
ذكر سنة سبع وسبعين وخمسمائة 70
ذكر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة 73
ذكر سنة تسع وسبعين وخمسمائة 75
ذكر سنة ثمانين وخمسمائة 78
(م 7/4)

ذكر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة 80
ذكر سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة 82
ذكر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة 84
ذكر فتح القدس الشريف 84
ذكر خطبة القاضى محيى الدين 87
ذكر سنة أربع وثمانين وخمسمائة 94
ذكر سنة خمس وثمانين وخمسمائة 98
ذكر الواقعة الكبرى على عكا 98
ذكر سنة ست وثمانين وخمسمائة 104
ذكر سنة سبع وثمانين وخمسمائة 106
ذكر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة 111
ذكر سنة تسع وثمانين وخمسمائة 113
ذكر وفاة السلطان صلاح الدين 113
ذكر عدة أولاده الملوك 115
ذكر بعض محاسنه رضى الله عنه 116
ذكر سنة تسعين وخمسمائة 123
ذكر سبب انتقاض ملك الأفضل صاحب دمشق 124
ذكر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة 126
ذكر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة 128
ذكر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة 131
ذكر سنة أربع وتسعين وخمسمائة 133
(م 7/5)

ذكر سنة خمس وتسعين وخمسمائة 136
ذكر تملك المنصور بن الملك العزيز 136
ذكر سنة ست وتسعين وخمسمائة 140
ذكر القاضى الفاضل وفقر من ترسله 142
ذكر سنة سبع وتسعين وخمسمائة 148
ذكر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة 153
ذكر سنة تسع وتسعين وخمسمائة 154
ذكر سنة ستمائة هجرية 155
ذكر سنة إحدى وستمائة 158
ذكر سنة اثنتين وستمائة 159
ذكر سنة ثلاث وستمائة 160
ذكر سنة أربع وستمائة 161
ذكر سنة خمس وستمائة 165
ذكر سنة ست وستمائة 167
ذكر سنة سبع وستمائة 169
ذكر سنة ثمان وستمائة 170
ذكر سنة تسع وستمائة 172
ذكر سنة عشر وستمائة 175
ذكر سنة إحدى عشرة وستمائة 177
ذكر سنة اثنتى عشرة وستمائة 181
ذكر سنة ثلاث عشرة وستمائة 183
(م 7/6)

ذكر سنة أربع عشرة وستمائة 187
ذكر توجه السلطان خوارزم شاه إلى نحو بغداد 188
ذكر أولاد الشيخ وأصلهم 193
ذكر سنة خمس عشرة وستمائة 195
ذكر الوقعة العظمى على ثغر دمياط وابتدائها 195
ذكر وفاة السلطان الملك العادل 197
ذكر سنة ست عشرة وستمائة 202
آل السلطان صلاح الدين بن أيوب 205
آل السلطان الملك العادل بن أيوب 205
آل سيف الإسلام صاحب اليمن ابن أيوب 205
آل المعظم شاهان شاه الكبير بن أيوب 206
ذكر سنة سبع عشرة وستمائة 208
ذكر سنة ثمان عشرة وستمائة 209
ذكر ليلة طيبة جرت بين ملوك الإسلام 215
ذكر السلطان علاء الدين خوارزم شاه 217
ذكر بدء شأن الترك الأول حسبما ذكره صاحب الكتاب التركى 219
ذكر سبب تغلب التتار على ملك ألطن خان وما كان من حيل الحروب 232
ذكر ما جرى بين الملكين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وجكزخان 239
ذكر دخول التتار بلاد الإسلام 241
ذكر سنة تسع عشرة وستمائة 243
(م 7/7)

ذكر سنة عشرين وستمائة 252
ذكر تملك السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين خوارزم شاه 257
ذكر سنة إحدى وعشرين وستمائة 261
ذكر سنة اثنتين وعشرين وستمائة 271
ذكر بعض شئ من سيرة الإمام الناصر 271
ذكر خلافة الإمام الظاهر بأمر الله 272
ذكر سنة ثلاث وعشرين وستمائة 279
ذكر خلافة الإمام المستنصر بالله بن الإمام الظاهر بأمر الله 281
ذكر سنة أربع وعشرين وستمائة 283
ذكر سنة خمس وعشرين وستمائة 289
ذكر سنة ست وعشرين وستمائة 292
ذكر سنة سبع وعشرين وستمائة 299
ذكر سنة ثمان وعشرين وستمائة 302
ذكر سنة تسع وعشرين وستمائة 305
ذكر سنة ثلاثين وستمائة 309
ذكر سنة إحدى وثلاثين وستمائة 311
ذكر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة 313
ذكر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة 315
ذكر سنة أربع وثلاثين وستمائة 317
ذكر سنة خمس وثلاثين وستمائة 320
ذكر وفاة الملك الأشرف موسى رحمه الله 320
(م 7/8)

ذكر سنة ست وثلاثين وستمائة 326
ذكر وفاة الملك الكامل 326
ذكر تملك الملك الجواد مظفر الدين يونس لدمشق 328
ذكر سنة سبع وثلاثين وستمائة 335
ذكر سلطنة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب 339
ذكر سنة ثمان وثلاثين وستمائة 341
ذكر عجائب مما ذكر رسول التتار 342
ذكر سنة تسع وثلاثين وستمائة 347
ذكر سنة أربعين وستمائة 348
ذكر خلافة الإمام المستعصم بالله وأخباره وما لخص من سيرته 348
ذكر سنة إحدى وأربعين وستمائة 352
ذكر سنتى اثنتين وثلاث وأربعين وستمائة 356
ذكر سنة أربع وأربعين وستمائة 358
ذكر سنة خمس وأربعين وستمائة 362
ذكر سنة ست وأربعين وستمائة 364
ذكر سنة سبع وأربعين وستمائة 365
ذكر سبب مجئ الفرنسيس وما تم فى هذه الوقعة 365
ذكر وفاة السلطان الملك الصالح 370
ذكر بيعة الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح 374
ذكر سنة ثمان وأربعين وستمائة 379
ذكر الليلة الغراء المسفرة عن الصباح الأزهر بالنصر والظفر 379
ذكر قتلة الملك المعظم وتمليك أم خليل شجر الدر 381
(م 7/9)

ذكر الشعراء بالمائة السادسة من أهل المشرق، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 386
ذكر شعراء المائة السادسة من أهل المغرب، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 392
ذكر شعراء المائة السابعة من أهل المشرق، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 394
ذكر شعراء المائة السابعة من أهل المغرب، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقض والمطرب 400
الفهارس
أولا-فهرس الأعلام 409
ثانيا-فهرس الأماكن والبلدان 436
ثالثا-فهرس المصطلحات 449
(م 7/10)

مقدّمة المحقّق
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين (1) وبعد، فهذا هو الجزء السابع من تاريخ كنز الدرر وجامع الغرر لأبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى؛ وهو الجزء الذى أسماه مؤلفه «الدر المطلوب فى أخبار ملوك بنى أيوب»، تمشيا مع طريقته فى تسمية كل جزء من أجزاء مؤلفه الكبير باسم فرعى خاص يوضح العصر ويحدد الدولة التى خصص هذا الجزء أو ذاك لعلاج تاريخها.
ولا تخفى على المشتغلين بدراسة تاريخ الشرق الأدنى فى العصور الوسطى أهمية عصر الأيوبيين بالذات، بوصفه العصر الذى عاين حلقة من أخطر حلقات الحركة الصليبية. ففى ذلك العصر أخذت الصحوة الإسلامية تنطلق لتأخذ شكل موجة جهاد كبرى ضد الوجود الصليبى الغربى فى بلاد الشام، وهو الأمر الذى ساعد عليه وأدى إلى نجاحه تحقيق الوحدة بين مصر والشام فى ظل ملوك بنى أيوب. وبعبارة أخرى فإن جانبا هاما من جوانب أهمية العصر الأيوبى يبدو فى أنه شهد تحول الصليبيين من الهجوم إلى الدفاع، وتحول المسلمين-وخاصة فى بلاد الشام-من الدفاع إلى الهجوم؛ الأمر الذى جعل دعاة الحروب الصليبية، وأصحاب مشاريعها فى الغرب الأوربى يؤكدون حقيقة هامة لم تغب تماما عن أنظار الصليبيين الأوائل، وهى أن مصر بموقعها وإمكانياتها ومواردها مصدر خطر كبير على الصليبيين بالشام، وأنه إذا أراد الصليبيون إقامة آمنة هادئة فى بلاد الشام فعليهم بتأمين جبهتهم الجنوبية من ناحية
(م 7/11)

مصر أولا. وهكذا تعرضت مصر فى أواخر العصر الأيوبى-أعنى فى النصف الأول من القرن الثالث عشر للميلاد-لحملتين صليبيتين كبيرتين، ارتبط بهما كثير من الأحداث التى ميزت تاريخ الشرق الأدنى فى عصر الأيوبيين.
فإذا أضفنا إلى ذلك التيارات الأخرى الخارجية التى أثرت فى تاريخ المنطقة فى ذلك العصر، مثل تفكك الدولة الخوارزمية، وظهور خطر المغول أو التتار فى المشرق، وما صحب هذا وذاك من ردود فعل حضارية وسياسية واسعة الأصداء-وخاصة فى مصر والشام-أدركنا بعض الأهمية التى لعصر الأيوبيين فى تاريخ الشرق الأدنى.
ففى ذلك العصر انسابت كثير من العناصر-وخاصة من الأكراد والأتراك والتركمان- داخل المحيط العربى الكبير فى مصر والشام، لتترك آثار بصماتها واضحة فى التركيب الاجتماعى والتكوين البشرى والجنسى والبناء الحضارى، وخاصة ما يرتبط بالنظم واللغة والعادات والتقاليد. وحسب عصر الأيوبيين أن مصر والشام شهدتا فيه انتشار النظام الإقطاعى الحربى، والتوسع فى استخدام الرقيق الأبيض الذين عرفوا باسم المماليك، ثم ظهور كثير من الألفاظ والمصطلحات غير العربية لتصبح شائعة الاستعمال، لا عند العامة فحسب، بل أيضا عند الخاصة من العلماء والكتاب والمؤلفين، فضلا عن الحكام. وهذه كلها ظواهر أخذت تنمو ويشتد خطرها طوال العصر الأيوبى، حتى اكتملت صورتها مع قيام دولة المماليك، التى خلفت دولة الأيوبيين فى حكم مصر والشام.
(2)
ومن داخل إطار هذه الصورة المبسطة تبدو الأهمية الخطيرة للحقبة التى يعالجها هذا الجزء السابع من تاريخ كنز الدرر لابن أيبك. ويزيد من هذه الأهمية أن ابن أيبك لم يكن مؤرخا عاديا، اقتصر فى كتابه على الجمع والتلخيص والنقل عمن سبقه من المؤرخين؛ وإنما انتمى ابن أيبك إلى أسرة كان لها من مسؤلية المشاركة فى صنع الأحداث المعاصرة نصيب مرموق. فإذا أضفنا إلى السنوات التى عاشها مؤلف هذا
(م 7/12)

الكتاب وشهد أحداثها، تلك التى عاشها أبوه وجده-وكان لهما قسط واضح فى المشاركة فى الأحداث المعاصرة-لخرجنا بحقبة زمنية تمتد على وجه التقريب من أوائل القرن السابع حتى قرابة منتصف القرن الثامن للهجرة-وهى حقبة لها أهميتها التاريخية البالغة بوصفها تمثل عصر الانتقال من دولة الأيوبيين إلى دولة المماليك؛ أو بعبارة أخرى الانتقال من العصر الذى اكتمل فيه بناء دولة الأيوبيين وبدأت تنخر فى جسمها العوامل الداخلية والخارجية التى أدت إلى سقوطها من ناحية، إلى العصر الذى نضجت فيه ملامح ومقومات دولة سلاطين المماليك لتصبح قوة فعالة، تمثل دولة من أغرب الدول التى عرفها التاريخ سواء من ناحية تكوينها أو من ناحية نظمها أو من ناحية الدور الحربى والسياسى والحضارى الذى قدر لها أن تلعبه على مسرح الشرق الأدنى أواخر العصور الوسطى.
فمؤلف هذا الكتاب الذى عاصر فترة نشطة حافلة بالأحداث فى صدر دولة سلاطين المماليك، ربطته ببعض بقايا ملوك بنى أيوب صلات قوية مما جعله يقف على تفصيلات عديدة عن الأيوبيين وحياتهم الخاصة ودقائق ما كان يجرى بين بعضهم وبعض من أحداث وأحاديث تلقى أضواء جديدة على روح العصر من ناحية وعلى حياة ملوك بنى أيوب الخاصة والعامة من ناحية أخرى. بل إن المؤلف يقول فى صراحة عند كلامه عن ابتداء دولة ملوك بنى أيوب فى بداية هذا الجزء السابع من كتابه كنز الدرر، إنه صاحب الملك الكامل بن الصالح إسماعيل الأيوبى، وأن الصداقة بينهما اشتدت إلى درجة أنه «كان يطلعنى على كثير من أسراره».
وعند ما يشير المؤلف إلى جده عز الدين أيبك صاحب صرخد (ت 645) يبدو لنا بوضوح مدى مشاركة هذا الجد-الذى نسب إليه المؤلف-فى صنع الأحداث التى كانت تجرى على مسرح بلاد الشام فى النصف الأول من القرن السابع للميلاد.
(م 7/13)

ثم إن الأمير عز الدين أيبك-جد المؤلف-لم يكن مجرد أمير من أرباب السيوف الذين لا شغل لهم فى الحياة إلا المساهمة فى تبعات الحكم، وإنما يبدو مما كتبه حفيده -صاحب هذا الكتاب-أن الأمير الجد عرف بشدة التدين والحرص على تلاوة القرآن الكريم، والاشتغال بالكتابة، فكانت له كتابات بخط يده كما كانت له خزانة كتب عامرة. وهنا يكشف المؤلف عند إشارته إلى جده فى هذا الجزء عن حقيقة جديدة هامة هى أن أسرة ابن أيبك تنحدر من نسل بنى سلجوق، وأن عز الدين أيبك اسمه الحقيقى ميكائيل بن بهرام، أسره الخوارزمية، وباعوه للملك المعظم الأيوبى، فنسب إليه وصار يعرف بالمعظمى. ويلقى المؤلف أضواء جديدة على أسرته-فى هذا الجزء السابع من كتابه-فيروى أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب هو الذى كاد لجده الأمير عز الدين أيبك ودسّ له السم ليتخلص منه ويستولى على أمواله وممتلكاته. فلما أحس الأمير أيبك بالسم يسرى فى جسده، وتحقق من مؤامرة السلطان الصالح، دبر للسلطان مؤامرة أدت إلى إصابته بمرض السقية الذى مات به بعد ذلك. وكانت من جملة جوارى الأمير أيبك-اللائى استولى عليهن السلطان الصالح-أم عبد الله والد المؤلف، وهى امرأة خطائية الجنس، فباعها الصالح-وهى حامل بوالد المؤلف من الأمير عز الدين-إلى رجل من كبار أهل صرخد، فولدت عنده. ونشأ عبد الله-أبو المؤلف-عند ذلك الرجل، حتى بلغ السابعة عشر من عمره وعندئذ انتقل إلى السلطان الظاهر بيبرس فى قصة طويلة، فأنعم عليه بإقطاع عبرته ألفى وأربعمائة دينار، وسلمه للأمير سيف الدين بلبان الرومى الدوادار، وقال له «علمه وخليه يمشى معك» فعرف عبد الله-أبو المؤلف- بالدوادارى.
ويفهم من سياق هذه القصة أن عبد الله بن أيبك-أبا المؤلف-نشأ هو الآخر
(م 7/14)

نشأة قويمة، حيث أن الرجل الذى اشترى أم عبد الله «كان دينا. . . وكان رجلا فقيها صوفيا فاضلا محققا، له عندى كتاب تأليفه بخطه فى التصوف». مما يشير إلى أن والد المؤلف نفسه شب فى بيت علم وأدب. هذا إلى أن عبد الله والد المؤلف كان مقربا من السلطان الأشرف خليل بن قلاون ثم من السلطان الناصر محمد بن قلاون، الذى أمّره وولاه بلبيس والعربان سنة 703 هـ‍، فأقام إلى سنة 710 هـ‍، فنقله إلى الشام بسؤاله، وجعله مهمندارا، ثم ألزم بشد الدواوين بدمشق. . . وهكذا ظل والد المؤلف يشارك فى شئون الحكم حتى وفاته سنة 713 هـ‍.
وهكذا ولد أبوبكر-مؤلف كنز الدرر-وشب فى بيت عرف قيمة العلم وقدره.
وإذا كانت المصادر المعاصرة قد صمتت صمتا غريبا عن ذكر شئ عن حياة أبى بكر ابن عبد الله بن أيبك، إلا أن مؤلفاته العديدة تشهد على تمرسه فى حياة العلم وسعة معلوماته وأفقه. ومن جملة هذه المؤلفات التى ألفها صاحب كنز الدرر كتاب فى خطط القاهرة، أسماه «اللقط الباهرة فى خطط القاهرة» ومعروف عن موضوع الخطط أنه ليس بالموضوع السهل، وأنه لا يجرؤ على الخوض فيه إلا عالم متمكن واسع المعرفة. كذلك يشير المؤلف فى هذا الجزء السابع إلى أنه كان يرجع إلى مسوداته بين حين وآخر ليتحقق من حدث أو نبأ، مما يوضح أنه كان حريصا على تدوين ما يتوصل إليه من معلومات فى مسودات يرجع إليها وقت الحاجة، وهذا أسلوب لا يأخذ به إلا صاحب منهج علمى منظم.
(3)
أما عن كتاب كنز الدرر لابن أيبك فإن الصفة الغالبة عليه هى الإيجاز الشديد، والاكتفاء بالإشارة إلى الأحداث الكبرى الرئيسية دون الدخول فى التفاصيل،
(م 7/15)

والبعد عن ذكر التفريعات الثانوية التى تتصف بها حوليات العصور الوسطى بوجه عام. وقد توخى المؤلف هذا النهج فى كتابة التاريخ متعمدا، فيقول عن بعض الأحداث «أضربت عنه لطوله، وكون تاريخنا تاريخ تلخيص». كذلك نراه يحرص على عدم تكرار بعض الأحداث فيقول «. . . بعد عدة وقائع قد تقدمت أخبارها بحكم التلخيص».
على أننا لا يمكن أن ننزع ابن أيبك من العصر الذى عاش فيه فعلا، وهو عصر اتصفت عقليته بحب الاستطراد فى الكلام والكتابة. وكان المعاصرون يرون فى هذا الاستطراد نوعا من التنويع لزيادة الفائدة من ناحية والترويح عن المستمع والقارئ ودفع السأم عنهما من ناحية أخرى. ولذا نجد المؤلف فى بعض أجزاء كتابه يجنح أحيانا إلى الاستطراد، بل ربما انتقل من فن التاريخ إلى فن الأدب، مثلما حدث فى ترجمته للقاضى الفاضل فى حوادث سنة 596 هـ‍، إذا لم يكتف بذكر فقرات من بليغ أدبه، وإنما ساقته المعانى إلى ذكر بعض محفوظاته-محفوظات المؤلف نفسه-من الشعر الرقيق. وعند ما يتنبه المؤلف إلى أنه خرج عن الموضوع واستسلم للاستطراد، يبرر سلوكه بأنه فعل ذلك متعمدا «لتنشيط القارئ، ولا يمل ويسأم من فن واحد، فإذا خرج به شجون الحديث من فن إلى فن كان لزناد فكرته أقدح، ولطير نظرته أصدح. . .»!!. على أن ابن أيبك لم يستسغ فى قرارة نفسه هذا الاستطراد الذى وقع فيه أحيانا، فكان يعلن بسرعة عودته «إلى سياقة التاريخ بمعونة الله وحسن توفيقه». وربما أحسّ أنه باستطراده قد وقع فى خطأ فعلا، فيعترف بالخطأ الذى وقع فيه، ويستغفر الله منه، ويقولها فى صراحة «وقد خرج بنا الكلام وشجونه عن شرط الاختصار، وأنا أقول استغفر الله من ذلك!!».
(م 7/16)

ومع روح الإيجاز الشديد التى سادت كتاب كنز الدرر، ينبغى أن نعترف بأن ابن أيبك استطاع أن يأتى فى كتابه هذا بجديد فعلا. ويبدو هذا الجانب الجديد فى بعض المعلومات والآراء والحقائق التى يشير إليها ابن أيبك إشارات قد تكون موجزة، ولكننا لا نعثر عليها فى مصدر آخر من المصادر التى تعرضت لتاريخ نفس الفترة.
ويبدو السر فى هذه الحقيقة فى أن بعض المصادر التى أخذ عنها ابن أيبك واستقى منها معلوماته قد اندثرت ولم تصل إليها أيدى غيره من المؤرخين الذين عالجوا تاريخ نفس الحقبة الزمنية التى عالجها.
من ذلك ما نجده فى كتابة ابن أيبك من تلميحات طريفة عن أصل التتار وأخبارهم. كذلك نراه يشير فى هذا الجزء إلى أن رسل الصليبيين إلى المسلمين كانوا يدعون أنهم لا يعرفون العربية وهم يعرفونها. وإلى سياسة صلاح الدين فى مصانعة الفرنج-وخاصة أرناط صاحب الكرك-وكيف أنه كان يبذل لهم الأموال فى الدور الأول الذى شغل فيه صلاح الدين بإعادة بناء الجبهة الإسلامية، وتعبئة جهود المسلمين فى مصر والشام استعدادا لمرحلة الجهاد، «وكان يعطى الإفرنج شيئا كثيرا لا يعلم له قيمة، ويصانعهم فيما بينه وبينهم، ويجتهد بكتمان ذلك، لا يسمع عنه أنه يصانع عن نفسه وبلاده». . . إلى غير ذلك من الإشارات السريعة الخاطفة التى لا نجد لكثير منها أثرا فى بقية المصادر المعاصرة، والتى تلقى أضواء لها أهميتها على روح العصر.
هذا فضلا عن أن ابن أيبك نفسه-بالإضافة إلى أبيه وجده-شاركوا فى كثير من أحداث الفترة التى عاشوها-كما سبق أن أشرنا-مما جعله فى كتابته عن هذه الفترة بالذات يحيط بما لم يحط به غيره علما. ومع هذا فقد تحلى ابن أيبك فى كتابته
(م 7/17)

بالتواضع الشديد، وعدم الاستبداد بالرأى، والاعتراف بعدم تثبته أحيانا من بعض البيانات. فهو مثلا فى حوادث سنة 591 هـ‍ يقول إن العادل عاد إلى دمشق «وخلف بعض أولاده بالشرق، لا أعلم أيهم كان». وهو عندما يشير إلى واقعة حطين يفعل ذلك ضمن أحداث سنة 568 هـ‍، ولكنه يذكر أن ابن واصل قال إن هذه الواقعة حدثت سنة 583 هـ‍، ويؤيد رأى ابن واصل قائلا «وأقول إنه الصحيح». ويعلل ابن أيبك ذلك بأن المصدر الذى نقل عنه أخبار تلك الواقعة-وهو أبو المظفر جمال الدين يوسف-اتبع طريقة رواية الأحداث والوقائع متكاملة لا مجزأة وفق السنوات التى استغرقتها، بحيث يذكر الواقعة «واستمر على ذكرها هل يكون فى سنيها أو غير سنيها». أما ابن واصل فقد اتبع أسلوب تتابع السنين، بحيث لا يذكر فى السنة الواحدة إلا ماتم فيها من أحداث، ولذا «فالرجوع إليه فى وقائع السنين أولى من غيره. . .».
وهكذا يبدو لنا أنه إذا كان البعض قد أخذ على كتاب كنز الدرر لابن أيبك بعض المآخذ، كالاستطراد حينا، والإيجاز الشديد أحيانا؛ فضلا عن ركاكة الأسلوب وكثرة الأخطاء اللغوية. . . فإن هذا كله لا ينبغى أن يصرفنا عن مزايا هذا الكتاب ومحاسنه، بوصفه مصدرا هاما من مصادر الحقبة الزمنية التى تصدى لعلاجها. هذا إلى أننا فى حكمنا على أى عمل تاريخى ينبغى ألا ننظر إليه بأعين العصر الذى نعيش نحن فيه، ولا نحكم عليه بمقاييسنا ومثلنا ومستوياتنا نحن؛ وإنما تتطلب العدالة أن تقيّم هذا العمل أو ذاك فى ضوء المثل والمقاييس والمستويات التى سادت العصر الذى تم فيه إنجاز ذلك العمل فعلا. ولا يخفى علينا أن ابن أيبك عاش وكتب فى عصر شهد زحف الأعاجم على الوطن العربى فى الشرق الأدنى وتغلغلهم فيه وبسط سيادتهم عليه. . . ونجم عن هذا كله زحف كثير من عادات الترك والتتار وغيرهم من شعوب المشرق، وانتشار عديد من نظمهم وتقاليدهم فى العراق والشام ومصر بوجه خاص، وانسياب كثير من ألفاظهم المستغربة فى هذه البلاد، حتى غدت مألوفة الاستعمال فى الحياة اليومية عند العامة والخاصة سواء، بحيث صار
(م 7/18)

لا يخلو منها كتاب أو مصدر أو موسوعة مما تم تأليفه بالعربية فى ذلك العصر. وعلى هذا فإن ابن أيبك-فيما ظنه البعض مخطئا-لم يكن فى حقيقة أمره إلا قطعة من العصر الذى عاش فيه، وكتب بروحه، وتأثر بأوضاعه واتجاهاته. وحسب ابن أيبك أنه استطاع أن يقدم لنا فى كتابه كنز الدرر الكثير من المعلومات الجيدة الحبك التى لا تخلو من جديد وطريف.
(4)
وإذا كان لى أن أختار صفة نصف بها ابن أيبك فى الأجزاء الأخيرة من كتابه «كنز الدرر وجامع الغرر»؛ فإننى لا أجد أفضل من أن أصفه بأنه «مؤرخ النيل».
قد يقول البعض بأن هذه الصفة ليست من خصائص ابن أيبك وحده فى كتابه كنز الدرر، وإنما يشاركه فيها ابن تغرى بردى، المؤرخ الذى عاش فى القرن التاسع الهجرى (ت 874 هـ‍) والذى عنى هو الآخر عناية فائقة بذكر أمر النيل فى كل سنة من سنوات حوليته الشهيرة «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة». ولكن علينا هنا أن نضع أمام أعيننا اعتبارين هامين: أولهما أن ابن أيبك عاش وكتب فى عصر يتقدم من الناحية الزمنية العصر الذى عاش وكتب فيه المؤرخ ابن تغرى بردى، مما يجعل ابن أيبك فى هذه الناحية مبتكرا ورائدا لا مقلدا ومحاكيا. هذا مع عدم استطاعتنا أن ننفى أن يكون هناك من المؤرخين والمؤلفين من سبق ابن أيبك زمنيا فى العناية بذكر أمر النيل فى كل سنة من السنوات التى تصدى لعلاج تاريخها.
ولكننا فيما نعلمه-وفوق كل ذى علم عليم-لم نتوصل إلى أحد قبل ابن أيبك استن هذه القاعدة فى العناية بذكر أمر نهر النيل سنة بعد أخرى. أما الاعتبار الثانى الذى يميز ابن أيبك عن ابن تغرى بردى فى هذا الصدد فهو أن ابن أيبك جعل للنيل مكان الصدارة فى أحداث كل سنة من حولياته، فى حين جعل ابن تغرى بردى للنيل مكان الخاتمة أو الذيل. ويبدو لنا فى هذا الجزء السابع من كتاب كنز الدرر كيف حرص ابن أيبك على أن يستهل أحداث كل سنة بعنوان ثابت لا يحيد عنه، هو: «النيل المبارك فى هذه السنة». فى حين ينهى ابن تغرى بردى فى حولياته «النجوم
(م 7/19)

الزاهرة» حوادث كل سنة بذكر من توفى فيها من الأعيان ثم يختتمها بعنوان جانبى نصه «أمر النيل فى هذه السنة».
وهكذا أدرك ابن أيبك أن نهر النيل «مبارك» وأن الوقوف على حال فيضانه هو المفتاح لدراسة أحوال مصر وأهلها، ولذا يبدأ بذكر أمر الفيضان. وفى ضوء وضع النيل والفيضان يمكن تفسير ما ألمّ بالبلاد والعباد فى هذه السنة أو تلك من أحداث اقتصادية واجتماعية وسياسية. حقيقة إنه قد يؤخذ على ابن أيبك عدم دقته أحيانا عند تسجيل مدى الماء القديم فى النيل، ومقدار زيادة ماء الفيضان؛ ولكننا مرة أخرى نكرر ما سبق أن ذكرناه من أنه علينا قبل أن نحكم على عمل من أعمال التاريخ أن نقدر ظروف العصر الذى تم فيه ذلك العمل، ومدى إمكانيات المؤلف، والمصادر التى كان عليه أن يستقى منها معلوماته. . . إلى غير ذلك من الاعتبارات العديدة التى لا يقدرها حق قدرها إلا المؤرخ الذى يتمتع بحاسة تاريخية نفّاذة.
(5)
وأخيرا، فإنه لا يسعنى بالنيابة عن جميع المشتغلين فى حقل تاريخ العصور الوسطى سوى أن أشكر المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة لعنايته-وعناية القائمين على أمره-بنشر هذا الكتاب، كتاب كنز الدرر وجامع الغرر لأبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى، والحرص على إخراجه فى هذه الصورة السليمة المتكاملة التى تم إخراجه فيها فعلا.
وأرجو أن أكون قد وفقت فى النهوض بنصيبى فى هذا العمل العلمى الجليل، بتحقيق الجزء السابع من هذا الكتاب، وهو الجزء الذى أتشرف بتقديمه اليوم للباحثين، لنضيف به لبنة جديدة إلى صرح بناء حركة إحياء التراث العربى.
والله ولى التوفيق.

سعيد عبد الفتاح عاشور
أستاذ كرسى تاريخ العصور الوسطى كلية الآداب-جامعة القاهرة
ضاحية المعادى بالقاهرة فى ذى الحجة سنة 1391
فبراير سنة 1972
(م 7/20)

مقدّمة المؤلّف
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ربّ اختم بخير
الحمد لله الذى أنشأ الجنين فى الأحشاء، ثم أبرزه فدبره، إلى أن ترعرع ومشى، ودبّ ونشا. يفعل فى ملكه ما يريد، ويحكم فى خلقه ما يشاء، {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»}.
وصلى الله على سيدنا محمد الذى نسخت ملته سائر الملل، ورسخت هيبته فى قلوب تلك الملوك الأول، من الأكاسرة والقياصرة، أرباب الدول والحول. لم يزل صلى الله عليه منصورا بالرعب والرهب، حتى بلغ الإيمان أقصى نهاية الأرب، وأصبحت نواصى ملوك الكفر من العجم بأيدى سادات الإسلام من العرب.
صلى الله عليه وعلى آله، الذين ما خاب من توسل بهم، وأضحى بجنابهم مستجيرا، وأنزل فى حقهم {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»} وعلى أصحابه خلفاء الدنيا، سادات الآخرة الذين أنزل فى حقهم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»}.
وبعد، فإن هذا الجزء السابع، المشنف المسامع، بدرره اللوامع، المسمى «بالدر المطلوب فى أخبار ملوك بنى أيوب»، السادة الأعلام، وقادة الإسلام، ملوك مصر والشرق والشام، الذين شفوا صدور أهل الإيمان، من عبدة الأوثان
(7/3)

والصلبان. وكفاهم بالسلطان صلاح الدين شرفا إلى يوم الدين. فاتح الأمصار، من أيدى الكفار، بالصارم البتّار. السيد الفاضل، والأسد الباسل، السلطان الملك الناصر، أبو المعالى والمفاخر، الذى ليس له من قبله من الملوك الإسلامية مناظر، المستمد النصر من الناصر الآخر، الذى وضع جميع هذا التاريخ توطئة لذكر بعض محاسن سيرته، منبها على آثار مآثر علانيته وسريرته. الخاتم بمحاسنه محاسن سائر ملوك الدنيا، كما ختم سميه صلى الله عليه جميع الأنبياء. لا زالت معانيه من الخواطر مخترعة، وأبكار أفكار محاسنه من القلوب مفترعة. فلذلك أسهرت ناظرى، وشغلت فكرى وخاطرى، وأنشأت هذا التاريخ الغريب المثال، الجامع نبذ الحكم إلى زبد الأمثال، المشتمل على ما شئت من النوادر. وبان وغير على ذلك تصاريف الأزمان، فأحييت ذلك فى أيام دولته القاهرة، بمدينة القاهرة، فى سنين عشر الأربعين والسبعمائة، إلى أن بلغت فى ذلك إلى ذكر سيرته الشريفة، فكانت النهاية، وبالله أعتضد فيما أعتمد.
(7/4)

ذكر ابتداء دولة الملوك بنى أيوب
ونسبهم وبدء شأنهم
قال العبد الفقير، المعترف بالتقصير، واللسان القصير، مؤلف هذا التاريخ وجامعه، غفر الله له ولوالديه ولقارئه وسامعه: حدثنى الجناب العالى المرحوم ناصر الدين محمد الملقب بالملك الكامل، من ولد الملك الصالح إسماعيل المعروف بأبى الجيش، صاحب الشام، رحمه الله تعالى، وسائر ملوك المسلمين، مع كافة أمة محمد أجمعين. وكان الحديث فى سنة عشرة وسبع مائة بمدينة دمشق المحروسة، والملك الكامل المذكور يومئذ بها أمير مائة فارس مقدم ألف. وكان حصل بينى وبينه من الصحبة ما كان يطلعنى على كثير من أسراره. وكان الملك الكامل المذكور ملك النفس والكرم والسماحة، فاضل، راو من كل فن حسن. وكان مع ذلك كثير المزح والخلاعة، طيب المحاضرة، لذيذ المفاكهة، لا يمل حديثه. لم يزل يروى المضاحكات والنوادر الحسنة، كثير التنديب على نفسه وعلى أقاربه من أولاد الملوك من بنى أيوب، حيّهم وميّتهم. وسيأتى طرف من ذكره وخلاعته وحكاياته فى تاريخه، إن شاء الله تعالى.
سألت منه-رحمه الله-ذات يوم عن جدهم أيوب، ابن من؟. فقال: أيوب بن شاذى ابن مروان، أكراد من جبل نهاوند. قال: وكان مروان فى جيش السلجوقية، وكان مشهورا بينهم بقوة وشجاعة، حتى قيل إنه كان يركض الفرس ويدعه فى قوة جريه، فيطبق عليه وركيه مع ساقيه، فيقف الجواد من ساعته، ولا يعود يتنفس.
وكان يمسك ذنب الفرس ويقول للراكب: «حرّك فرسك» فلا ينقل خطوة.
وكان يركب ولده شاذى أعفى فرس عنده، ويأمره أن يحرّك عليه، ويعارضه فى
(7/5)

الميدان، والفرس فى قوة جريه، فيصدمه بصدره فيوقفه. وكان ستين رطلا بالبغدادى رمحه. وكان إذا تقابلت الصفوف فى وقت المصافات يبرز إلى الميدان ويطلب المبارزة، فلا يجسر أحد أن يخرج إليه. وله أحوال كثيرة لا يمكنى ذكرها، تخامر العقول لا تصدق.
يقول هكذا الملك الكامل. ثم إن ولده شاذى كان يقاربه فى بعض شجاعته، فصار فى جملة جيش أتابك زنكى أبو نور الدين محمود، وتقرّب بشجاعته حتى صار أمير علم عند أتابك زنكى، وحظى عنده، وتربى أيوب ولده مع محمود بن أتابك.
قال ابن واصل صاحب تاريخ حماة فى نسب آل أيوب: لا خلاف فى أن الملك الأفضل نجم الدين أيوب، والد الملوك الأيوبية، وأخاه الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، هما ابنا شاذى بن مروان. ثم قيل إن مروان هو ابن محمد بن يعقوب.
واختلف الناس فى أصلهم، فذكر عز الدين بن الأثير أن أصلهم من الأكراد الروادية وهم فخذ الهذبانية. وأنكر ذلك جماعة من بنى أيوب، النسبة إلى الأكراد، وقالوا إنما نحن عرب، نزلنا عند الأكراد، وتزوجنا منهم. وادعى بعضهم النسب إلى بنى أمية. وكان الملك إسماعيل بن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب -صاحب اليمن بعد أبيه [سيف الإسلام ظهير الدين]-يدعى ذلك، ولقب نفسه المعز لدين الله، وخطب لنفسه بالخلافة باليمن، وذلك فى أيام عمه الملك العادل [سيف الدين أبى بكر] بن أيوب. فلما بلغه ذلك صعب عليه، وقال: كذب والله، ما نحن من بنى أمية أصلا.
والذين ادعوا هذا النسب قالوا: أيوب بن شاذى، بن مروان، بن الحكم، ابن عبد الرحمن، بن محمد، بن عبد الله، بن محمد، [بن محمد]، بن عبد الرحمن،
(7/6)

ابن الحكم، بن هشام، [بن عبد الرحمن الداخل، بن معاوية، بن هشام، بن عبد الملك، بن مروان، بن الحكم، بن أبى العاص، بن أمية، بن عبد شمس، ابن عبد مناف. وفى عبد مناف يجتمع نسب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ونسب بنى أمية. فهذا قول من جعل نسبهم فى بنى أمية.
وجماعة آخرون أثبتوا نسبهم فى بنى مرة بن عوف. وممن أثبت نسبهم فى بنى مرة الحسن بن غريب الحرسى، فإنه أوصل نسبهم إلى على بن أحمد المرّى، ممدوح المتنبى حين يقول:
شرق الجو بالغبار إذا سا … ر على بن أحمد القمقام
وأحضر هذا النسب إلى الملك المعظم صاحب دمشق فسمع النسب عليه، وأسمعه ولده الناصر داود فى سنة تسع عشرة وستمائة.
وكان فى أيوب تغفّل الأكراد وبلههم. وكان [نور الدين] محمود يحبه لا يكاد يفارقه، ويستظرف حديثه. وكان دينا خيرا صادقا. وكان محمود من صغره دينا فاضلا ورعا، يحب الفقراء ويبر المساكين. وكان لا يرى مجالسا إلا فقيرا. وله دار برسم الورّاد من الفقراء المتجردين. وكان جميع ذلك فى تكريت، قبل تمليك أتابك الشام. فلما كان نور الدين ملك الشام مع الشرق، جعل أسد الدين شير كوه -وهو أخو أيوب-أميرا وحاجبا على الأكراد من جيشه، وسلم لأيوب قصره، فكان صاحب الإذن عليه.
قلت: هكذا يقول الملك الكامل-رحمه الله-ولعله كان كما قيل برددارا لنور الدين، فحسّن الملك الكامل العبارة فى ذلك. قال: وكان نور الدين-رحمه الله- له نصيب وافر من الفقراء جدا.
وكان قد صار لأيوب عدة أولاد-يوسف وأبوبكر-والباقى تأتى أسماؤهم فى
(7/7)

أماكنها. وكان يوسف يعوض لأبيه بباب القصر إذا عرض له عارض. وكان للملك العادل نور الدين ولده إسماعيل. قال أبو المظفر: كان لنور الدين محمود، هذا الولد إسماعيل، ولد له بتكريت، وتوفى بدمشق فى حياة والده. وولده الذى ملك بعده، ولد بدمشق، وسماه باسم أخيه إسماعيل، ولقبه الملك الصالح. وكان فيه لعب واستهتار بالفقراء، وينكر على أبيه خفية، إذا خلا بين ندمائه وأصحابه. وكان يوسف بن أيوب من أكبر الخصيصين بمنادمة إسماعيل الملك الصالح، فكان يقول له:
«يا خوند اشتهى منك لا تتعرض لهذا القول، فالسلطان أخبر بأموره منا». قال:
وجاءت ليلة النصف من شعبان، وكان الملك العادل [نور الدين محمود] يحتفل بمواسم المسلمين، ويفعل فى كل موسم ما ينبغى فيه. فخرج إلى باب القصر بعد عشاء الآخرة، فطلب أيوب فلم يجده، وكان قد حصل له وجع فى بطنه أعاقه تلك الليلة، ووجد يوسف مكانه، فقال: «يا يوسف خذ إسماعيل-يعنى ولده-واطلع أنت وهو، ولا يكن معكما ثالث، إلى مغارة الجوع وباتا على بابها، وأحييا قيام هذه الليلة العظيمة القدر. فإذا كان وقت الفجر الأول اصنتا، ومهما سمعتاه احفظاه وعرفانى به».
فطلعنا وقد أخذنى لكلام السلطان هيبة عظيمة أرعدتنى. يقول يوسف: فلما صرنا على باب المغارة المعروفة بمغارة الجوع بجبل الصالحية، قال لى الملك الصالح «يا يوسف! افعل ما أمرك به السلطان من إحياء الليلة، وأما أنا فإنى بانام» ثم إنه انضجع على ما فرش له ونام. قال يوسف: فقمت فأحييت تلك الليلة، وقد داخلنى لكلام السلطان وجل عظيم. فلما كان أول الفجر عند شعشعة العمود، سمعت حس هفيف كأجنحة طائر كبير، وأسمع من تلقائه قائلا يقول: «الناصر للصليب كاسر، وللفرنج خاسر، وللقدس طاهر. الظاهر للشام طاهر، وللكفر قاهر، قاتل كل كافر عاهر. الناصر بالشرق ظافر، يطؤها بالخف والحافر، بعد ثلاث تواتر».
قال الملك الكامل-رحمه الله-فكان من السلطان صلاح الدين رحمه الله
(7/8)

-وهو الملك الناصر-أن فتح البلاد من الفرنج، وطهر بيت المقدس منهم، وكان من أمره ما كان. ثم إن صلاح الدين الملك الناصر لقب ولده بالظاهر، طمعا أن يكون ذلك الظاهر، فأبى الله إلا حيث يشاء، فكان بيبرس البندقدارى صاحب ذلك الرمز المذكور. ثم لقب داود بالناصر ويوسف بالناصر، طمعا أن يكونا ذلك الناصر المذكور، فأبى الله إلا أن يكون حيث يشاء، وهو مولانا وسيدنا ومالك رقنا، السلطان الأعظم الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، محمد بن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاون الألفى الصالحى. وذلك أن بنى أيوب تحيروا فى قوله: «بعد ثلاث تواتر» ما هن؟. فلما تردد مولانا السلطان-عز نصره-إلى الملك ثلاث مرار، علم أنه صاحب ذلك الرمز المقدم ذكره.
وأما منام أيوب فى حال صباه، وهو يوم ذاك بتكريت، فإنه من غريب ما يسمع، وذلك أنه رأى كأنه قعد للبول، فعادت إراقته تطلع من إحليله كالفوارة، إلى أن تعلقت بالسحاب، ثم انعقدت سحابة وكأنها على بيت المقدس، ثم مطرت تلك السحابة مطرا عاما حتى غسلت القدس، مع سائر تلك الأرض. ثم ظهر فى تلك السحابة قمر مع نجوم كثيرة، حتى أضاءت الأرض كلها من نوره. ثم نبتت تلك الأراضى أنواع الحشائش. وكان فى تلك الأراضى أبقار ترعى، عدتهم دون المائة.
ثم ظهرت من جهة البحر المالح خنازير حتى ملأت تلك الأرض. ثم عادوا يقتلون تلك الأبقار إلا بقرة واحدة، هربت منهم إلى ناحية الشام. ثم ظهرت من جهة مصر أسود كالبخاتى، فقتلوا جميع تلك الخنازير، حتى لم يبق منهم إلا من هرب وقطع البحر. ثم عاد ذلك الحشيش، وحسن نضارته.
هذا ما نقله الملك الكامل-رحمه الله-قال: وكان بتكريت فى ذلك الوقت إنسان يعرف بابن المرزبان يعبّر الرؤيا، موصوف بحذاقته، فقص عليه أيوب تلك الرؤيا،
(7/9)

فتعجب لذلك، وقال: ما يجب أن تكون هذه الرؤيا إلا لملك، ولكن الله يعطى ملكه من يشاء. ثم قال: «سيكون من نسلك أيها الرجل ملوك بعدد تلك النجوم، ويكون منهم ملك عظيم يظهر على الفرنج، ويطهر بيت المقدس من أرجاسهم وأنجاسهم، وتشرق الدنيا بملكه، ثم يكون مدة تمليك تلك الملوك بعدة تلك الأبقار سنين. ثم يخرج عليهم الفرنج-وهم الخنازير-فيظهرون عليهم، حتى يخرج من جهة مصر جيش كالسباع، فيكون هلاك الخنازير على أيديهم. فهذا تأويل رؤياك، والله أعلم».
قلت: وإنما قدمت هذه المقدمة لفوائد فيها. أحدها أن يعلم أصول بنى أيوب على الصحيح. والأخرى لما فيها من البشارة لكافة المسلمين بما هو مخبأ فى الغيب من ملك مولانا السلطان الملك الناصر-عز نصره-لبلاد الشرق إن شاء الله تعالى.
والثالثة لغروبة هذا المنام الذى ما أخرم دقة. فلله الأمر من قبل ومن بعد.
ولنعود إلى سياقة التاريخ بعون الله وحسن توفيقه. وذلك لما انتهى القول من العبد فى آخر الجزء السادس إلى آخر سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وذكرنا جميع ما وصلت إليه القدرة جهد الطاقة وحد الاستطاعة، ما كان فى جميع تلك السنين الماضية من أخبار الأمم الخالية، والرمم البالية. فلنستفتح الآن هذا الجزء بذكر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، موفقا لذلك، إن شاء الله تعالى.
(7/10)

ذكر سنة خمس وخمسين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنى عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، إلى أن توفى ثانى ربيع الأول من هذه السنة، وله ست وستون سنة، مدة خلافته أربع وعشرون سنة. وزيره شرف الدين على، ثم كان شديد الدولة إلى أن توفى.
صفته نقش خاتمه
ربع القامة، مدور الوجه نقش خاتمه
واللحية، معتدل الجسم: لقبه، والله أعلم.

ذكر خلافة المستنجد بالله بن المقتفى لأمر الله
وما لخص من سيرته
هو أبو المظفر يوسف المستنجد بالله بن المقتفى لأمر الله محمد، وباقى نسبه تقدم وقد علم. أمه أم ولد، تسمى طاووس. مولده فى ربيع الأول سنة ثمان عشرة وخمسمائة. بويع يوم وفاة والده، فأقام خليفة إحدى عشرة سنة. قتل ثامن ربيع الأول سنة ست وستين وخمسمائة، وله ثمان وأربعون سنة. كان حسن السيرة قطع
(7/11)

المكوس ببغداد، ونظر فى المظالم وأزاحها. وقيل إنه مات بالنقرس، والله أعلم.
وفيها توفى الفائز بالله، وهو أبو القسم عيسى الفائز بنصر الله، ابن الظافر، ابن الحافظ، المقدم ذكره فى الجزء الذى قبله. وكان له من العمر يوم توفى عشر سنين. وكانت ولايته عند قتلة أبيه الظافر، حسبما سقناه من ذكر ذلك. وكان الفائز طفلا هلعا لما عاين من قتل أعمامه، فكان ربما يقع ويخبط، فلم يزل كذلك حتى توفى فى هذه السنة.
ودخل الصالح بن رزّيك-واسمه طلائع-القاهرة، يوم خروج تابوت الظافر من دار نصر بن إمرأة عباس المقدم ذكره، فمشى الصالح بن رزيك تحت التابوت حافيا، ثم خلع عليه الفائز خلع الوزارة. واستقل الصالح بن رزيك-حسبما سقنا من أمره-فى الجزء الذى قبله، إلى أن قتل، حسبما يأتى من ذكره فى تاريخه إن شاء الله.
قضاة الفائز بنصر الله فى مدة أيامه: الفقيه مجلّى؛ القاضى يونس الأطفيحى، الولاية الثانية؛ المفضل ضياء الدين أبو القاسم هبة الله بن كامل.
وتولى الخلافة العاضد لدين الله، وهو آخر العبيديين، والله أعلم.

ذكر خلافة العاضد لدين الله-آخرهم-
وما لخص من سيرته
هو أبو محمد عبد الله بن الأمير أبى الحجاج يوسف بن الحافظ أبى الميمون عبد المجيد.
وباقى نسبه قد تقدم فيما قبله. أمه أم ولد، تدعى ست المنى.
بويع بخلافة مصر والشام وما معهما فى تاريخ موت الفائز بنصر الله، وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رجب الفرد من هذه السنة. مولده سنة أربع
(7/12)

وأربعين وخمس مائة. وجلس للأمر وله يوم ذلك عشرة سنين وأشهر. وكانت خلافته إسما له، وجسما ورسما للصالح بن رزيك. ثم إنه أخرج المسجونين، وسامح بالأموال والبواقى، فكانت جملة ذلك أحد عشر ألف ألف وستمائة ألف وثمانين ألف وأربعة عشر دينارا. واستمر الصالح، وقويت حرمته، وزادت هيبته، وعظم، وتزوج العاضد ابنته، فاغتر بطول السلامة. وكان العاضد تحت قبضته وفى أسره، فلما طال عليه ذلك عمل على قتله، فقتل كما يأتى ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى.

نكتة
قيل إن هؤلاء القوم فى أوائل دولتهم، قالوا لبعض العلماء فى ذلك الوقت:
«اكتب لنا ورقة تذكر فيها ألقابا تصلح لألقاب الخلفاء، حتى إذا ولى منا أحد لقب ببعض تلك الألقاب». فكتب لهم ألقابا كثيرة، وآخر ما كتب فى الورقة «العاضد»، فاتفق أن آخر من ولى منهم الملقب بالعاضد. وهذا من عجيب الاتفاق.
والعاضد فى اللغة القاطع، يقال عضدت الشئ فأنا عاضد له إذا قطعته، فكأنه قاطع لدولتهم.
وكان العاضد شديد الرفض، متغاليا فى سب الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، وإذا رأى سنيا أو سمع به أراق دمه.

نكتة أخرى
روى أن العاضد فى آخر دولته رأى فى منامه أن قد خرجت عليه عقرب من مسجد من مساجد مصر معروفا، فلدغته. فلما استيقظ-وهو مرتاع لذلك-فطلب
(7/13)

معبرى الرؤيا، وقص عليهم المنام، فقيل: «ينالك مكروها من شخص هو مقيم فى هذا المسجد». وطلب متولى مصر فقال: «يكشف عن من هو مقيم بمسجد كذا وكذا -وكان العاضد يعرف كل مسجد بمصر-فإذا رأيت به أحد فاحضره إلى عندى».
فمضى الوالى وأحضر رجلا صوفيا. فلما رآه العاضد سأله، من أين هو ومتى قدم.
وهو يجيب عن كل سؤال. فلما ظهر له منه الضعف والصدق والعجز عن إيصال مكروه إليه، أطلق سراحه، وعاد الرجل إلى مسجده. فلما استولى السلطان صلاح الدين، وعزم على القبض على العاضد، واستفتى فيه الفقهاء، وأفتوه بجواز ذلك، لما كان عليه من انحلال العقيدة، وفساد الاعتقاد، وكثرة الوقوع فى حق الصحابة، والإشهار بذلك، فكان أكثرهم مبالغة فى الفتيا والتصميم على زوال أمر العاضد ذلك الشخص الصوفى الذى كان فى ذلك المسجد، وهو الشيخ نجم الدين الخبوشانى، فإنه عدد مساوئ القوم، وسلب عنهم الإيمان جملة، وأطال فى ذلك.
وبنى الأمر على قوله وفتياه. فصحت بذلك رؤيا العاضد، والله أعلم.
(7/14)

ذكر سنة ست وخمسين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. والعاضد خليفة مصر اسما، والأمور راجعة إلى تصرف الصالح بن رزيك.
وفيها خرج الإفرنج، ووصلوا إلى فاقوس. وحشد الصالح لهم سائر الأجناد، وخرج إلى ظاهر بلبيس، فعادوا إلى بلادهم.
وفيها هلك أبو الطاهر متولى ديوان الجيوش المنصورة، وقلد مكانه ابن جراح.
وفيها أخذ طرخان-المنعوت بعز الدين-لما خرج بالإسكندرية طالبا للوزارة، وأحضر إلى القاهرة، وطيف به على جمل، وعلى رأسه طرطور من رصاص. ثم سمر بظاهر باب زويلة. وقتل أخوه فى اليوم الثانى وصلب. وقبض الصالح، على، ابن شاهان شاه، وعلى الأسد غازى والحلواص، وسجنهم فى داره.
(7/15)

ذكر سنة سبع وخمسين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع، وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا، وثمانية عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. والعاضد خليفة مصر.
وفيها قتل الصالح بن رزيك. وسبب ذلك أنه لما طال الحجر على العاضد من جهته، اتفق مع قوم يقال لهم أولاد الراعى على قتله، وتقرر بينهم ذلك، وعين لهم موضعا فى القصر يجلسون فيه مستخفين، فإذا مرّ بهم الصالح ليلا أو نهارا قفزوا عليه فقتلوه. فقعدوا له ليلة، وخرج من القصر، فقاموا ليخرجوا إليه، فأراد أحدهم أن يفتح القفل، فغلقه، ولم يعلم. فلم يحصل لهم تلك الليلة مقصودهم، لأمر أراده الله، لتأخير الأجل. ثم إنهم جلسوا له يوما آخر، فدخل القصر نهارا، فوثبوا عليه، وجرحوه جراحات عدة، ووقع الصوت. وعاد أصحابه إليه، فقتلوا الذين جرحوه، وحمل إلى داره مجروحا، فأقام بعض يوم، ومات يوم الاثنين تاسع عشر رمضان من هذه السنة، رحمه الله تعالى.

ذكر نبذ من أخباره وزبد من أشعاره
كان الصالح بن رزيك-رحمه الله-رجلا ملكا جوادا، فاضلا، سمحا فى العطاء، سهلا فى اللقاء، محبا لأهل العلم، مقرّبا لأرباب الفضل. وكان جيد الشعر، وقفت على شئ من شعره، فمن ذلك قوله:
(7/16)

كم داير بنا الدهر من أحداثه … عبرا وفينا الصّد والإعراض
ننسى الممات وليس نجرى ذكره … فينا فتذكرنا به الأمراض
ومن قوله فى الغزل:
ومهفهف ثمل القوام سرت إلى … أعطافه النشوات من عينيه
ماضى اللحاظ كأنما سلت يدى … سيفى غداة الروع من جفنيه
قد قلت إذ خط العذار بمسكه … فى خده ألفيه لا لاميه
ما الشعر دب بعارضيه وإنما … أصداغه نفضت على خديه
الناس طوع يدى وأمرى نافذ … فيهم وقلبى الآن طوع يديه
فاعجب لسلطان يعم بعدله … ويجور سلطان الغرام عليه
والله لولا اسم الفرار وأنه … مستقبح لفررت منه إليه
ومن شعره أيضا ما رواه القاضى ابن خلكان-فى تاريخه-من رواية ابن نجية الواعظ الدمشقى، قال: أنشدنى الصالح لنفسه يقول:
مشيبك قد نضى صبغ الشباب … وحل الباز فى وكر الغراب
تنام ومقلة الحدثان تقضى … وما ناب النوائب عنك ناب
وكيف بقاء عمرك وهو كنز … وقد أنفقت منه بلا حساب
قلت: لو قال مكان «أنفقت» «أسرفت» لكان أحسن فى باب التورية.
وكان المهذب عبد الله بن أسعد الموصلى المعروف بنزيل حمص قد قصد الصالح ومدحه بقصيدة حسنة، وهى الكافية التى أولها يقول:
أما كفاك تلافى فى تلاقيكا … ولست تنقم إلا فرط حبيكا
وهى من نخب القصائد، وفيها طول، ولذلك لم أثبتها بجملتها، ومخلصها يقول:
وفيم تغضب إن قال الوشاة سلا … وأنت تعلم أنى لست أسلوكا
لا نلت وصلك إن كان الذى نقلوا … ولا شفى ظمئى جود ابن رزيكا
(7/17)

ولما مات رثاه الفقيه عمارة اليمنى بقصيدته اللامية التى أولها يقول:
أفى أهل ذا النادى عليم أسائله … فإنى لما بى ذاهب اللب ذاهله
دعونى فما هذا أوان بكائه … سيأتيكم طل البكاء ووابله
فلا تنكروا حزنى عليه فإننى … تقشّع عنى وابل كنت آمله
ولم لا نبكيه ونندب فقده … وأولادنا أيتامه وأرامله
فيا ليت شعرى بعد حسن فعاله … وقد غاب عنا ما بنا الله فاعله
ولما حمل على نعشه قال فيه الفقيه عمارة أيضا:
وكأنه تابوت موسى أودعت … فى جانبيه سكينة ووقار
وله فيه مراث كثيرة، أضربت عنها.
وهذا الصالح الذى بنى هذا الجامع الذى ظاهر باب زويلة، وقد ذكرته فى كتابى المسمى «اللقط الباهرة، فى خطط القاهرة».
ثم إن الخلع خرجت لولده رزيك بن طلائع بن رزيك، ولقب بالعادل. واستقر بما كان لأبيه من ولاية الأمر، لكن الأمور راجعة للعاضد، بخلاف ما كان فى أيام الصالح من استبداده بالأمر.

ذكر شاور ونسبه وبدء شأنه
كان الصالح بن رزيك قد ولّى فى أيام وزارته أبا شجاع شاور الصعيد بكماله.
وهو شاور بن مجير بن نزار بن عشائر بن شاس بن مغيث بن حبيب بن الحارث ابن ربيعة بن مخيس بن أبى ذؤيب، وهو الحارث بن عبد الله بن شحنة بن جابر
(7/18)

ابن ناصرة، [وهو والد حليمة مرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم] أرضعته بلبن ابنتها الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان، وهى التى حضنت سيدنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لما كان عند حليمة السعدية، ظئر النبى صلى الله عليه وسلم. والشيماء المذكورة كانت تحمل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعضها حين تحمله. فلما وفدت عليه صلى الله عليه وسلم، أرته الأثر، فعرفها وأكرمها.
فلما ولاه الصعيد عاد ندم على ذلك. وكان الصالح يعد لنفسه-وهو فى جراحه- ثلاث غلطات، أحدها استهتاره بأمر العاضد، وقلة اكتراثه به، حتى حصل له ما حصل. والأخرى الذى ما كان قبض عليه، وعلى جميع الفاطميين، ورد الدعوة عباسية، إذ كان قادرا على ذلك. والثالثة توليته شاور المذكور الصعيد.
وكان شاور ذا شهامة، ونجابة، وفروسية، وشجاعة. وكان الصالح قد أوصى ولده العادل رزيك أن لا يتعرض لشاور بمساءة قط، ولا يغير عليه، وأن يتلافاه جهده، فإنه لا يأمن عصيانه وخروجه. وكان الأمر كذلك كما يأتى فى تاريخه.
وفيها قتل العادل رزيك أخته زوجة العاضد-وقيل عمته-لما توهم أنها باطنت على قتل أبيه. وقتل الأستاذ سعيد السعداء صاحب هذه الخانقاه التى بالقاهرة المعروفة به. وقتل رفيقه الوجيه، وابن قوام الدولة؛ وقيل إن هؤلاء الذين كانوا متفقين على قتل أبيه. وأخرج ابن شاهان شاه، وأسد الغازى، والخلواص، وأعادهم مكانهم.
(7/19)

ذكر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين نافذ الحكم. وقد كانت الأمور راجعة لبنى سلجوق، فإنهم كانوا استولوا على جميع ممالك الشرق، وعلت كلمتهم على كلمة الخلفاء، كأعظم مما كان بنو بويه.

ذكر طرف من أخبار السلجوقية وملوكهم
أعظم هؤلاء القوم تاريخا، وأشدهم سلطانا، وأول من ظهرت كلمته على كلمة الخلفاء العباسيين، عضد الدولة أبو شجاع ألب رسلان، فإنه فتح البلاد، واستولى على العجم والشرق كله مع العراق، ووصل ملكه إلى الصين والترك، وإلى بلاد بلغار والروس واللّكز واللان، وكذلك إلى بلاد الخطا، وهما المدينتان العظيمتان كاشغور وبلاصغون وهما بالسند الأعلى. وملك إلى ما وراء النهر،
(7/20)

واستولى على الخلفاء العباسيين، وعمل له ببغداد دار سلطنة، ونقض كلمة الخلفاء.
وهؤلاء القوم نسبهم فيه قولان، وإن كان تقدم من ذكرهم طرف. فمن الناس من يدعى أنهم تركمان، وأن سلجوق جدّهم كان فى جملة عسكر بنى بويه الديالمة.
والصحيح أنهم من السامانية، أصلهم يرجعون إلى الفرس من ملوك العجم. ولهم تاريخ مستقل بذاته، إذ لو شرحناه لكان جزءا كاملا، وإنما نذكر عدة ملوكهم الذين ملكوا الدنيا، ونؤخر من ذلك كلاما يأتى فى موضعه، إن شاء الله تعالى.

ذكر عدة ملوك بنى سلجوق
أولهم ميكائيل بن سلجوق وهو أجل ملوك السلجوقية، كما كان إسماعيل أجل ملوك السامانية. ثم محمد بن ميكائيل بن سلجوق، ثم أبو الحرب سنجر سلطان، ثم أبو القاسم محمد طبر، ثم أبو عبد الله بن محمد بن محمد طبر، ثم طغريل ملكشاه، ثم غياث الدين أبو الفتح، ثم السلطان مسعود بن محمد طبر، ثم ملكشاه ابن محمد بن محمد طبر، ثم عضد الدولة أبو شجاع ألب رسلان صاحب دار الملك والسلطنة ببغداد. ثم كان السلطان علاء الدين بن تكش خوارزم شاه، وهو ابن مملوك طغريل بك السلجوقى، ثم ولده السلطان جلال الدين منكبرتى خوارزم شاه، وسيأتى ذكر هذين الملكين وأخبارهم مع التتار فى تاريخهم إن شاء الله تعالى.
فهؤلاء عدة ملوك بنى سلجوق رحمهم الله. وهم الذين فتحوا البلاد، وقادوا الجيوش، ونصروا الملة المحمدية لما ظهروا، وامتحنت بدولتهم سائر الدول، وأعلوا منار هذه الملة المحمدية على جميع الملل. وعلى ما كانوا عليه من اللغة التركية
(7/21)

والألسنة الأعجمية كانوا فضلاء، عقلاء، أدباء، نجباء، يحبون أهل العلم والفضل، ويسمعون المديح، ويجيزون عليه الجوائز السنية. وكانت تلك الأيام مدة كالأحلام لذة.
فى هذه السنة توفى عبد المؤمن سلطان المغرب. ولنذكر ها هنا لمعا من أخباره، ونسبه، وآثاره.

ذكر عبد المؤمن ونسبه وبدء شأنه
هو أبو محمد عبد المؤمن بن على القيسى الكومى، ليس من أهل بيت ملك. كان أبوه وسطا فى قومه، وكان صانعا فى الطين، يعمل منه الآنية، فيبيعها. وكان عاقلا، وقورا فى أهل بيته، دينا صالحا. فيحكى أن عبد المؤمن فى صناعة أبيه إذ كان صبيا، فنام إلى جانب أبيه ذات يوم، وأبوه مشتغل بعمله فى الطين، فسمع أبوه حسّا له دوى، نازلا من السماء إلى أعلى الدار، فرفع رأسه، فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار، فنزلت مجتمعة على عبد المؤمن وهو نائم، فغطته حتى لم يظهر منه شئ، ولا استيقظ لها. فلما رأته أمه على ذلك الحال صاحت خوفا على ولدها، فسكتها أبوه. ثم إنه غسل يده، ولبس أثوابه، ووقف ينظر إليه، وإلى ما يكون من ذلك النحل معه. ثم إن النحل طار عنه بأجمعه، واستيقظ الفتى فرأته أمه وليس به أثر. وكان بالقرب منهم رجل معروف بالزجر، فمضى أبوه إليه، فأخبره بما رآه من النحل مع ولده، فقال الزاجر: «يوشك أن يكون له شأن، تجتمع على طاعته خلق عظيم». فكان من أمره ما كان.
ويقال إن محمد بن تومرت-المعروف بالمهدى-كان قد ظفر بكتاب الجفر،
(7/22)

ووجد فيه ما يكون على يده، وقصة عبد المؤمن وحليته واسمه. وأن ابن تومرت أقام مدة يتطلبه، حتى وجده وصحبه، وهو إذ ذاك غلام. وكان يكرمه ويقدمه على أصحابه، وأفضى إليه بسرّه، وانتهى به إلى مراكش-وصاحبها يومئذ أبو الحسن على بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين-وجرى له معه فصول يطول شرحها. وأخرجه منها، وتوجه إلى الجبال، وحشدوا واستمال المصامدة فى حديث طويل، آخره أنه لم يملك شيئا من البلاد فى حياة ابن تومرت، بل عبد المؤمن ملك بعده بالجيوش التى جهزها ابن تومرت، والترتيب الذى رتبه له. وكان ابن تومرت أبدا يتفرس فيه النجابة، وينشد إذا أبصره دائبا:
تكاملت فيك أوصاف خصصت بها … فكلنا بك مسرور ومغتبط
فالسنّ ضاحكة، والكف ما نحة … والنفس سامحة، والوجه منبسط
وكان يقول: «صاحبكم هذا غلاب الدول». ولم يصح عنه أنه استخلفه، بل راعى أصحابه فى تقديمه إشارته لهم فيه، فتم له الأمر وكمل.
وأول ما أخذ من البلاد وهران وتلمسان ثم فاس ثم سبته. وانتقل بعد ذلك إلى مراكش وحاصرها أحد عشر شهرا، ثم ملكها. وكان أخذه لها فى أوائل سنة اثنين وأربعين وخمسمائة. واستوثق له الأمر، وامتد ملكه إلى المغرب الأقصى والأدنى، وبلاد إفريقية، وكثير من جزيرة الأندلس. وتسمى أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحوه بأحسن المدائح. ذكر العماد الأصفهانى فى الخريدة، أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن أبى العباس التيفاشى لما أنشده يقول:
ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل … مثل الخليفة عبد المؤمن بن على
(7/23)

فأشار إليه أن اقتصر على هذا البيت، وأمر له بألف دينار.
ولما تمهدت له القواعد وانتهت أيامه، خرج من مدينة مراكش إلى مدينة سلا، فأصابه بها مرض شديد، وتوفى فى العشر الأخير من جمادى الآخرة من هذه السنة، وهى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وقيل: بل كانت وفاته سنة ستين وخمسمائة، والله أعلم.
وقيل: كانت ولادته سنة تسعين وأربعمائة، وقيل غير ذلك. وإنما نسبته بالكومى، فهى نسبة إلى كومية وهى قبيلة صغيرة تنزل البحر من أعمال تلمسان.
ومولده بقرية هناك يقال لها تاجرة. هذا ما ذكره القاضى شمس الدين بن خلكان فى تاريخه من نسبة عبد المؤمن. وذكر كتاب الجفر فقال: ذكره ابن قتيبة فى أوائل كتاب الاختلاف فى الحديث، فقال بعد كلام طويل: وأعجب من هذا التفسير تفسير الروافض القرآن الكريم، وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من كتاب الجفر الذى ذكره سعد بن هارون العجلى، وكان رأس الزيدية، فقال:
ألم تر أن الرافضين تفرقوا … فكلهم فى جعفر قال منكرا
فطائفة قالوا إمام ومنهم … طوائف سمته النبى المطهرا
ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم … بريب إلى الرحمن ممن تجفرا
والأبيات كثيرة، وإنما المقصود ذكر كتاب الجفر. قال القاضى ابن خلكان:
قال ابن قتيبة، وهو جلد جفر، ادّعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إليه وإلى علمه إلى يوم القيامة. قال: وقولهم الإمام يريدون به جعفر الصادق، رضى [الله] عنه. وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعرى أيضا فى قوله:
(7/24)

لقد عجبوا لأهل البيت لما … أتاهم علمهم فى مسك جفر
ومرآة المنجم وهى صغرى … أرته كل عامرة وقفر
ومسك جفر تقال بفتح الميم من مسك، وفتح الجيم من جفر، وهو من أولاد المعز، ما بلغ أربعة أشهر وجفر جنباه، وفصل عن أمه. وكانت عادتهم-فى ذلك الزمان-يكتبون فى الجلود والعظام والخرق وما شاكل ذلك، والله أعلم.
...
ولنعود إلى سياقة التاريخ بمعونة الله وحسن توفيقه.
وفى هذه السنة وهى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، خرج شاور المقدم ذكره من الصعيد بجموع كثيرة، فعبر واحات، واخترق تلك البرارى، إلى أن خرج من عند تروجه، وتوجه إلى القاهرة فى شرح طويل آخره أنه قهر العادل رزيك بن الصالح طلائع، وقتله فى العشر الأول من صفر من هذه السنة، وأخذ موضعه من الوزارة، واستولى على الأمر، ونعت نفسه بأمير الجيوش، وقتل عليا زمام القصر، وولى لؤلؤ الصقلبى عوضه، وأعاد الحكم إلى يونس القاضى. واحتوى على أموال بنى رزيك. ولم يزل أمره مستقرا إلى العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، فخرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار، الملقب فارس المسلمين، اللخمى المنذرى، نائب الباب، بجموع كثيرة، وغلبه، وأخرجه من القاهرة. وقتل ولده طيا، وولى الوزارة، كعادة المصريين. وتوجه شاور طالبا للشام، مستجيرا بنور الدين الملك العادل محمود بن أتابك زنكى. وأقام ضرغام وزيرا بالديار المصرية، ولقب بالمنصور إلى جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين وخمسمائة، حسبما يأتى من ذلك.
(7/25)

ذكر سنة تسع وخمسين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثمانية أذرع وسبعة عشر أصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. والسلطان ببغداد عضد الدولة ألب رسلان السلجوقى.
والعاضد بمصر، وضرغام الوزير بها، إلى شهر جمادى الآخرة، قدم شاور بجيوش الشام يقدمهم أسد الدين شير كوه، وابن أخيه صلاح الدين يوسف، من قبل الملك العادل نور الدين محمود بن أتابك زنكى. وخرج إليهم همام بن سوار أخو ضرغام -الملقب ناصر المسلمين -فى جيوش كثيرة، فكانت الوقعة بينهما على بلبيس، فانكسرت جيوش همام، وقتل همام ومعه أخوين له، وقتل أيضا ضرغام. وكان مقتله عند مشهد السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، صلوات الله عليهم، فكانت مدة وزارة ضرغام مصر تسعة أشهر وعشرة أيام. وعاد شاور إلى وزارته الثانية سلخ جمادى الآخرة من هذه السنة. ودخل أسد الدين شيركوه وصلاح الدين يوسف، وأنزلوهما ظاهر القاهرة فى المخيم. وخرجت لهما الإقامات، والعلوفات، والخلع. وتأخر عنهما ما كان أشرطه لهما شاور من الأموال ونفقات الجيوش، فسير إليه أسد الدين يحثه على المال وإنفاذه، فسوّف وماطل. ثم إنه نكث جميع ما كان بينه وبين أسد الدين من العهود والمواثيق.
(7/26)

وأنفذ شاور إلى ملك الروم بالشام مستنصرا به على أسد الدين، وطمّعه فى أخذه، فجاءه الملك مرى -لعنه الله-فى عالم عظيم. ولما تحقق أسد الدين ذلك من غدر شاور، انتقل إلى بلبيس وتحصن بها.
واجتمع شاور وملك الروم على قتال أسد الدين، وكانت بينها وقائع عظيمة.
وبنى الفرنج خذلهم الله برجا عظيما. وعاد أسد الدين فى قبضتهم لولا لطف [الله] تعالى وحسن سياسة أسد الدين، فإنه كتب إلى مرى ملك الروم يقول له: «ليس لك فينا غرض، ولا معنا مال يقنعك، فإن شاور غدر بنا، ولم يوفنا ما شرطه لنا من المال.
ونحن قوم غرباء من هذه الديار، أتينا لنصرة هذا الغادر، والبغى له مصرع. وأنت تعلم أن وراءنا مثل الملك العادل نور الدين. وكأنك به وقد أطل عليك بجيوش تعرفها ولا تنكرها. وأنت قصدك مال، ومصر قدامك، وهى أحب إليك من مطاولتنا بغير فائدة لك. وليس بمصر مانع يمنعك عنها. فإن تركت البغى، وقنعت بما فى أيدينا من فضلات نفقاتنا نفذناها إليك، وتدعنا نرجع إلى بلادنا. وإن أبيت فنحن والله ما يقتل الواحد منا حتى يقتل عدة منكم. وبعد ذلك، المدد واصل إلينا، والسلام».
قال ابن واصل رحمه الله: بينما الفرنج يجدون فى حصار أسد الدين ببلبيس، إذ ورد عليهم الخبر بكسرة الفرنج من نور الدين على حارم، فخافوا على بلادهم، فهذا كان سبب صلحهم مع أسد الدين. ولما خرج من بلبيس، جعلوا له فى الطريق من يعارضه ليأخذوه، فعرج عن الطريق إلى طريق المدرية، وفى ذلك يقول عمارة
(7/27)

اليمنى يمتدح أسد الدين من قصيدة منها:
أخذتم على الإفرنج كل ثنيّة … وقلتم لأيدى الخيل مرّى على مرى
لئن نصبوا فى البر جسرا فإنكم … عبرتم بجسر من حديد على الجسر
ثم اتفقا على مال أخذه ملك الروم من أسد الدين، وفسّح لهم الطريق، فتوجهوا إلى الشام، وفى قلب أسد الدين نار لا تطفئ من فعل شاور.
ثم إنه قص على نور الدين جميع ما جرى، وعرفه أن مصر ليس بها من يمنع عنها.
ثم جهزه نور الدين بالجيوش، وعاد ودخل الديار المصرية من الطريق البدرية، فلم يعلم به إلا وهو بناحية أطفيح. ثم عدى إلى بر الجيزة، وأقام بها، وغاراته تضرب فى سائر تلك النواحى. فلما علم شاور أن لا قبل له بأسد الدين، أنفذ إلى الملك مرى-لعنه الله-وأبذل له الأموال، فوافاه الملعون بخيله ورجله، وجرت بينهم وقائع وأهوال تشيّب الرءوس. واندفع أسد الدين إلى نحو الصعيد، فلحقوه [عند] منية بنى خصيب، بمكان يعرف بالبابين، فوقعت أيضا بينهما هناك وقائع عظيمة ثلاثة أيام. فلما كان ثالث يوم، كان أول النهار لشاور وملك الروم على أسد الدين، حتى ظن أنه سيؤخذ. ثم أتاه النصر من عند الله آخر ذلك اليوم،
(7/28)

بقوم وافوه من عرب الصعيد، كان قد نفذ إليهم أموالا، فأتوه فى تلك الساعة.
فانهزم الروم وشاور، وكسرهم أسد الدين كسرة عظيمة، وأخذ صاحب قيسارية أسيرا مع جماعة من أصحابهم. وعاد شاور والملك مرى إلى القاهرة فى أنحس الأحوال.
وسار أسد الدين إلى إسكندرية، فأقام بها مدة يسيرة. فجيّش الملعون مرى الجيوش، وحزّب الأحزاب، وجاءوا إلى الإسكندرية. وكان أسد الدين قد ترك صلاح الدين بإسكندرية، فى شرذمة يسيرة من الجيش، وأصعد هو وعساكره إلى الصعيد الأعلى، فجبى منه الأموال، واستخدم الرجال، واستجلب العربان.
وحضر شاور والملك مرى بجيوشهما، فنزلا على حصار صلاح الدين بالإسكندرية برّا وبحرا. وضيقوا عليه ضيقة عظيمة، وأقاموا محاصرينه سبعة وخمسين يوما.
وأعان الله صلاح الدين ومن معه على تلك الجموع العظيمة، وصبروا لهم مع ما كان البلد فيه من قلة القوت والسلاح.
فلما كان بعد ذلك، وصل أسد الدين من الصعيد، ونازل القاهرة وحاصرها، وضيق على من بها وعلى العاضد صاحب القصر. فاتفق رأى كبار البلد مع رأى العاضد أن يصالحوه، على أن يسلم لهم صاحب قيسارية المأسور معه وجميع الأسارى الذين معه، ويرجع عن حصارهم وقتالهم، ويأخذ ابن أخيه صلاح الدين ويتوجه إلى بلاده بدمشق، ويرتفع شاور والملك مرى عنهم. فاتفق الحال على ذلك، وعاد كل أحد إلى بلاده، وأقام شاور بعد ذلك أياما يسيرة.
فما كان بعد قليل حتى عاد الملك مرّى-لعنه الله-على بدء، لما حدثته نفسه بأخذ ديار مصر، وصحبته الإسبتار، فنزل على بلبيس وفتحها، وقتل جميع من كان بها، وسبى النساء والأطفال، وأبدع كل الإبداع. فلما سمع شاور ذلك نهب مصر لنفسه، وهتك أهلها، وجمع أموالا عظيمة من أموال الناس، وقتل عدة من أهلها،
(7/29)

ممن منع عن نفسه وماله. ووصل الملك مرّى-لعنه الله-وجيوشه إلى باب القاهرة، وعوّل على فتحها، فبذل له أهلها مالا جزيلا. وقويت شوكة الفرنج-خذلهم الله- بالقاهرة، وعادوا يمدوا أيديهم، ويأخذون الحريم والأولاد والأموال، لا يمنعهم من ذلك مانع. وجرت على أهل مصر من الفرنج العظائم، وحوصر الناس فى بيوتهم، ولا عاد أحد يقدر على الخروج من بيته. وتمت أحوال تقشعر لسماعها الأبدان، وانتشر الملاعين فى سائر الأعمال، وعادوا يأخذون حريم أهل مصر، وينزلون فى الزوارق ما بين مصر والجزيرة، ويشربون عليهم الخمور، ويفسقون فيهم.
وقتلت عالم كثير من كبار البيوت، ونهبت أموالهم. هذا كله يجرى وشاور يصانعهم، ويركب إلى كبارهم وملوكهم، وأظهر النصيحة لهم.
فلما علم الفرنج أن لا دافع لهم عن تمليكهم مصر، كتبوا إلى ملكهم الكبير يحثونه على الحضور ليملك مصر. فلما علم العاضد ذلك أيقن الهلاك، وكذلك كبار البلد، فأجمعوا رأيهم، وكتب العاضد إلى نور الدين الشهيد، الملك العادل صاحب الشام، وهو يخبره فيه بما جرى على الإسلام. ثم قال فى كتابه: «متى أنجدتنا وخلصت الإسلام، كان لك مع ثواب الله-عز وجل-ثلث خراج مصر، يحمل إلى خزانتك فى كل سنة، بعهد من الله وميثاقه، خارجا عن نفقة جيوشك فى هذه الكرة». ثم إن العاضد دخل إلى قصره، وقطع شعور النساء والبنات والصبيان، وحمله فى مخالى، وسيره إلى نور الدين الشهيد، وذلك لعظم ما جرى على الإسلام من الملاعين الفرنج. ثم كتب فى أثناء كتابه يقول: «وا غوثاه! وا غوثاه! وا غوثاه! إلحق دين الإسلام! أدرك أمة محمد عليه السلام! يا نور الدين! يا نور الدين! يا نور الدين!» قلت: هكذا رأيت نسخة هذا الكتاب إلى نور الدين، لم أزد فيه حرفا.
(7/30)

فلما وصل الكتاب إلى نور الدين بكى، وكان عظيم النخوة للإسلام، رحمه الله. وأرسل إلى أسد الدين شير كوه-وكان مقيما بحمص-وفتح له الخزائن، وأطلق له الأموال، وأمره بسرعة المسير. وتوجه [أسد الدين] إلى الديار المصرية، وعبر من البرية على طريق البدرية إلى مصر، وعدة جيشه عشرة آلاف فارس شجعان، أقيال، معتادين للحرب والطعن والنزال.
قال صاحب التاريخ: وأمره نور الدين أن يصحب معه صلاح الدين، فكره صلاح الدين التوجه. قال صاحب التاريخ: قال صلاح الدين «لقد كان أمرنى نور الدين بالمسير إلى الديار المصرية، وكنت كارها لذلك. فلما فتح الله علىّ بالبلاد، قلت صدق الله العظيم {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»}.
فلما قرب أسد الدين السويس، بلغ الفرنج مجيئهم، فرحلوا عن القاهرة. وقيل بل كانوا على بلبيس، فرحل الملك مرّى، ونزل على سمنود. وكانت ليلة رحيله ليلة وصول أسد الدين شيركوه إلى القاهرة، فدقت لهم البشائر. وكان عند المسلمين يوما عظيما كونهم فكّوا من الأسر.
وأما الملك مرى-لعنه الله-فإنه جهز مائتى قنطارية وخمسين قنطارية، وألفى رجل، ليأخذ قليوب، فحشد المسلمون، وخرجوا إليهم، والتقوا بهم على دجوة، فكشوهم من غير أن يجرى بينهم قتال. ثم إن الملعون جرد ثلاثمائة قنطارية وثلاثة آلاف رجل إلى جزيرة إبيار، فنهبوا وسبوا وقتلوا. وجاءت
(7/31)

المسلمون إلى الطرانة، وعملوا جسرا من الطرانة إلى الجزيرة، وعدوا إليهم، فانكسرت المسلمون. فلما كان بعد الظهر جاءت عرب من البحيرة وجماعة من القبائل وعرب من الفيوم، ومن الصعيد، وقالوا: «وا إسلاماه» وحملوا حملة واحدة، فانكسرت الملاعين، وأخذهم السيف من الظهر إلى ثانى يوم الظهر، وقتلت سائر خيالاتهم. ولم يعد منهم إلى الملك مرّى غير اثنى عشر نفرا من الخيالة؛ والرجالة قتلوا عن بكرة أبيهم. ثم إن الملعون مرّى رحل من على سمنود، ونزل اسكندرية، وقال لأهلها: «سلموا إلىّ هذا البلد وأنا أحط عنكم المكوس، وأوسعكم عدلا». فقالوا: «معاذ الله أن نسلم الإسلام للكفر».
هذا وشاور يراسل مرّى ويهاديه، ويظهر له الود والنصح، ويقول: «الفرنج ولا أسد الدين شير كوه». وعاد الملك مرّى نازل على الإسكندرية من الجانب الغربى، والمراكب تحمل إليه جميع ما يحتاجه. وكان الوالى يوم ذاك بالإسكندرية نجم الدين ابن فضل، والقاضى بها ابن الخشاب، والمحتسب الضياء بن عوف، والناظر الرشيد ابن الزبير، فجمعوا القبائل، وحصنوا البلد.
ثم إن أسد الدين شيركوه تجهز وطلب الإسكندرية، ونزل عليها من الجانب الشرقى. ثم التقى الجمعان على الإسكندرية، ولم يجر بينهما قتال. ومشى الرسل بينهم فى الصلح، فاصطلحوا. ورحل الملك مرّى إلى الشام فى البر. وتوجه أسد الدين إلى القاهرة، فأخلع عليه العاضد، وعلى سائر من معه، ونزل على ظاهر القاهرة بمسجد التبن.
وفيها كانت الوقعة بين نور الدين الشهيد وبين الفرنج على حارم، وكسرهم
(7/32)

نور الدين كسرة عظيمة، وقتل منهم ما لا يحصى كثرة، وأسر منهم ثلاثين ألف نفرا، وأخذ جميع ملوكهم، وتسلّم حارم وبانياس. وكانت الفرنج فى خلق عظيم، فيهم القمص صاحب أنطاكية، والبرنس صاحب طرابلس، وابن جوسلين.
فلما التقى الجمعان، صعد نور الدين على تل عال، وشاهد من الفرنج ما هاله وأذهله من كثرتهم، فترك القتال وانفرد عن العسكر، وصلى ركعتين، ومرّغ وجهه على الأرض وهو يقول: «يا سيدى! الجيش جيشك! والدين دينك! ومن هو محمود! افعل أنت ما تريد». هذا والفرنج قد حملوا على المسلمين حملة منكرة. وكانت الحملة على الميمنة، وفيها عسكر حلب، فاندفعوا بين أيديهم، فنزل إليهم نور الدين وقد كشف رأسه، وصاح: «وا إسلاماه! العودة! العودة! بارك الله فيكم». فكأنما أوقع الله تعالى صوته فى آذان سائر الجيش، فكرّوا على الفرنج كرة رجل واحد، فتقهقرت الفرنج لها الخيالة منهم، فوقع السيف فى الرجالة، فحصدوهم حصدا. فلما رأى الخيالة ذلك، ولوا منهزمين، فأخذهم السيف من كل مكان، ولم ينج منهم إلا صاحب الفرس السابق. واستأسر منهم عدة ما قد ذكرناه، فأخذ عنهم الفداء، فكان جملته ستمائة ألف وستون ألف ذهب عين. فكان نور الدين بعد ذلك يحلف أن جميع ما بناه من البيمارستان والمدارس وجميع وقوفاتهم من ذلك الفداء.
(7/33)

ذكر سنة ستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر أصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق الحكام، وأمرهم فى هذه السنة راجع منهم إلى السلطان ألب رسلان السلجوقى. والعاضد صاحب مصر، والوزير شاور إلى أن قتل فى هذه السنة، على ما ذكر صاحب تاريخ سير النيل المصرى.
وذلك أن أسد الدين شير كوه كان فى قلبه من شاور دخول عظيمة، لما كان قد أسلفه من الإساءات، حسبما تقدم من ذكر ذلك. ونظر إلى ديار مصر فوجدها ليس بها مانع ولا دافع غير شاور، فاستشار صلاح الدين واتفقا على تدبير الحيلة على قتل شاور. وكان أسد الدين مبرزا على مسجد التبن، وادعى أنه مريض وشارف على الموت، وأنه يقصد الاجتماع بشاور ليتفق معه على عود العساكر إلى الشام، ويستوثق منه بالأيمان أن لا يغدر بجيوش الإسلام ويكاتب عليهم الفرنج كما فعل من قبل. فلم يثق شاور حتى نفذ حكيما يثق به لينظر صحة ما ادعاه أسد الدين. فلما أتى الحكيم خلا به صلاح الدين، وقال له: «يا حكيم! أنت تعلم أن أهل مصر عادوا فى قبضة الفرنج متى شاءوا، مادام هذا الوزير شاور. وقد رأيتم يا أهل مصر ما حل بكم من الفرنج، ونحن إن عدنا إلى الشام بعيد علينا أن نرجع إليكم، والمصلحة أن تتفق معنا على صلاح أحوال أهل بلدك.
وهذه ألف دينار استعن بها. وعهد الله وميثاقه أن تكون عندنا العزيز المكرم،
(7/34)

بخلاف ما أنت عليه الآن، وتحتال معنا على حضور شاور إلينا. وههنا شخص من أصحابنا على خطة الموت، انظره وخبر عنه إذا حلفت». قال: فلما عاد الحكيم، وعرّف شاور بأنه عاينه على التلف، وثق شاور، وطمع فى جيشه، وركب وأتى إليه، فوثب عليه جرديك وبرغش -موليا نور الدين-فقتلاه بإشارة صلاح الدين لهما فى ذلك. وقيل إن أول من بسط يده بالقبض عليه صلاح الدين، وأن شاور لم يقتل فى الساعة الراهنة حتى حضر توقيع من العاضد على يد خادم خاص بقتل شاور، وإنفاذ رأسه، ففعل به.
ثم خرجت الخلع بالوزارة لأسد الدين شيركوه، ونعته العاضد بالملك المنصور.
فكانت مدة وزارته ثمانية أشهر، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. وولى صلاح الدين الوزارة، ونعته العاضد بالملك الناصر.
وكان سبب موت أسد الدين أنه كان يحب أكل اللحوم الغليظة، مثل لحوم البقر والخيل والنعام وما أشبه ذلك، فلحقه من ذلك خانوق حتى قتله.
وكان صلاح الدين فى مبتداه قليل المال والرجال، صاحب أكل وشرب وطرب، فلما فتح الله عليه بالملك تاب عن جميع ذلك. وظن العاضد أن الأمر لا يستقيم له بعد أسد الدين، لما كان يعلمه منه، فأبى الله إلا أن يملكه الأرض، ويفتح على يديه الفتوحات. وكان ذلك فى سنة أربع وستين وخمسمائة، وإنما ذكر تلاوة على النسق.
(7/35)

وتوفى أسد الدين شيركوه يوم الأربعاء الثانى والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، كما يأتى من ذكر تمليك صلاح الدين فى تاريخه إن شاء الله تعالى.
وفيها توفى الوزير عون الدين بن هبيرة، رحمه الله.
(7/36)

ذكر سنة إحدى وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع ونصف أصبع، ومبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق قد زال ملكهم من العراق، والعاضد خليفة مصر، وشاور الوزير.
وفيها كانت عودة أسد الدين شير كوه إلى مصر، وخرج من طريق البدرية، ونزل أطفيح بجيوشه سادس ربيع الآخر. ورحل من أطفيح وعدى، وخيّم بالجيزة نيفا وخمسين يوما. واستنجد شاور بالفرنج حسبما ذكرناه. وتوجه أسد الدين عائدا إلى الشام. وقيل إن هذا جميعه كان فى سنة اثنين وستين وخمسمائة؛ وهو الصحيح.
(7/37)

ذكر سنتى اثنى وثلاث وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هاتين السنتين
الماء القديم-سنة اثنى-أربعة أذرع وأربعة وعشرون أصبعا، والزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون أصبعا. وفى سنة ثلاث-خمسة أذرع ونصف أصبع، الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا.
وفى سنة ثلاث وستين خرج زين الدين على كوجك من نيابة الموصل. وكان هو صاحب الأمر بها من قبل سيف الدين غازى بن أتابك زنكى. وكانت مدينة إربل قاعدة بيته وأولاده وكانت أيضا بيده شهرزور وجميع القلاع التى بها، مثل العمادية، وتكريت وسنجار وحران، فأصابه طرش فى أذنيه، وكف بصره، ففارق الموصل، وسلم جميع الممالك لقطب الدين مودود بن زنكى، وانتقل إلى إربل، فتوفى بها فى بقية هذه السنة. وقام بالبيت ولده زين الدين، حسبما يأتى من ذكره، إن شاء الله تعالى.
ثم لم تزل مع زين الدين إلى أيام السلطان صلاح الدين، فتوفى زين الدين، وقام بالأمر مظفر الدين كوكبورى أخوه إلى سنة ثلاثين وستمائة.
(7/38)

ذكر سنة أربع وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين.
وبنو سلجوق الحكام على بلاد العجم والروم.
والعاضد صاحب القصر [فى مصر]. وشاور الوزير، إلى أن قتل فى هذه السنة على يد صلاح الدين بإشارة أسد الدين، يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر. ووزر أسد الدين الديار المصرية، حسبما تقدم من ذكر ذلك. قلت: وللفقيه عمارة اليمنى -الشاعر الموصوف-فى شاور عدة مدائح، فمن جملتها يقول:
ضجر الحديد من الحديد وشاور … من نصر دين محمد لم يضجر
حلف الزمان ليأتين بمثله … حنثت يمينك يا زمان فكفر
وفى هذه السنة كان الحريق بمصر، وأحرق الجامع العتيق. وكان سببه النصارى، لما أنكى فيهم الحاكم من منعهم ركوب الخيل والبغال، وتعليق الصلبان الخشب الثقال فى حلوقهم، وبناية المساجد والمآذن على كنائسهم، وهدم منها عدة.
فتجمعوا فى الباطن، واتفقوا على حريق الجامع، والآدر الكبار المتعينة، والأرباع، فكان حريق عظيم ما شهد مثله. وقيل إن سبب تذكر النصارى هذا الأمر بعد طول هذه المدة، أنه تولى عليهم فى هذه السنة بطركا يعظمونه عندهم، فحثّهم على ذلك ففعلوه، حتى مسك منهم جماعة، وقطعت أيديهم وأرجلهم. وقصد صلاح الدين استئصال النصارى واليهود جملة كافية، فلم يقدر على ذلك كونه كان فى أول مبتدأ
(7/39)

أمره ووزارته، ولكل قادم دهشة. وذلك أن أسد الدين لم يقم فى الوزارة غير أربعة أشهر، وقيل ثمانية أشهر على اختلاف الرواة فى ذلك، وتوفى إلى رحمة الله تعالى فى تاريخ ما تقدم، ووزر صلاح الدين، حسبما تقدم أيضا، واستمر حاله.
ولما توفى أسد الدين وقام بالأمر صلاح الدين عمل عماد الدين الكاتب [قصيدة] رثى فيها أسد الدين، وهنأ بصلاح الدين، أولها منها:
ما بعد يومك للمعنّى المدنف … غير العويل وحسرة المتأسّف
ما أجرأ الحدثان كيف عدا على الأ … سد الهصور عدا، ولم يتوقف
لا نستطيع سوى الدعاء فكلنا … إلا بما فى الوسع غير مكلّف
وفى سنة أربع وستين ملك نور الدين قلعة جعبر أخذها من صاحبها شهاب الدين مالك العقيلى. وكانت بنو كلب قد استأسروه، وأتوا به نور الدين، فلم يزل يلطف به وعوضه عنها عدة بلاد، حتى سلمها لنور الدين. وكانت قلعة جعبر لم تزل فى يد هؤلاء القوم من حين سلمها لهم جلال الدولة ملكشاه، لما أخذها من صاحبها جعبر، وكان شيخا أعمى [من بنى قشير يقال له جعبر بن مالك]، وله ولدان كانا يقطعان الطريق ويخيفان السبيل فقتلهما وسلم القلعة للعقيليين فلم تزل فى أيديهم إلى هذه السنة، فأخذها نور الدين من صاحبها المذكور حسبما ذكر.
(7/40)

ذكر سنة خمس وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

[ما لخص من الحوادث]
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين، ونوابه ووزراء الحكام فى الأرض بالممالك الخليفتية. والعاضد صاحب القصر. والملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب مدبر الممالك بالديار المصرية وما معها.
وفيها وصلت الفرنج-خذلهم الله-إلى ثغر دمياط، مستهل صفر، فى عدد عظيم، فبادر إليهم صلاح الدين بتقى الدين عمر ابن أخيه، وشهاب [الدين] خاله، فى جماعة من الأمراء والجند والعساكر. وكانت الفرنج-لعنهم الله-قد ضايقوا الثغر مضايقة عظيمة، حتى أشرفوا على أخذه، فخذلهم الله عز وجل، ووقع فيهم وباء ومرض، حتى لا عاد منهم من يطيق يقف على قدميه. وبادرتهم العساكر مع الأمراء والملوك المذكورين، فرحل الملاعين صاغرين عن الثغر، فى الحادى والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة.
وفيها بنى صلاح الدين السور الدائر بالقاهرة ومصر المحروستين، وذلك خوفا من نور الدين الشهيد. ودور هذا السور تسعة عشر ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وذراعين بالعمل؛ فما هو بالساحل وقلعة المقسم التى كانت على شاطئ النيل إلى الكوم الأحمر الذى بساحل مصر طول عشرة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع؛
(7/41)

وما هو بين القلعة والمقسم وحائط القلعة بالجبل مجاور مسجد سعد الدولة ثمانية آلاف ذراعا وثلاثمائة واثنان وتسعون ذراعا؛ ومن جانب القلعة من مسجد سعد الدولة مقبل إلى الكوم الأحمر سبعة آلاف ذراع ومائتا وعشرة أذرع. وذلك بشاد بهاء الدين قراقوش، وهو الذى راك الديار المصرية، وهو أول روك كان بها.
وسميت الدنانير القراقوشية كل دينار ثلاثة عشر وثلث. وذلك أنه قطع سعر القمح والشعير والفول فى غالب الأزمان وجمعه، فكانت جملة ثمن كل أردب ثلاثة عشر درهم وثلث، فسمى ذلك دينار جيشى. وأقطع البلاد على هذه الدنانير، فاستمرت إلى الآن.
وفى أول هذه السنة جهز صلاح الدين أخاه الملك المعظم عيسى إلى اليمن، ففتحها وحصل على أموالها وحواصلها. وسبب ذلك أن صلاح الدين وأخاه المعظم كانا خائفين من الملك العادل نور الدين الشهيد، فاتفقا على أن يفتحا اليمن، فتكون لهما معقلا وحصنا، إن قوى عليهما نور الدين. وكانت إرادة الله لهما غير ذلك، حتى ملّكهما الأرض كلها. وكان صاحب اليمن قد قطع الخطبة عن ذكر الخلفاء وخطب لنفسه، ففتحها المعظم فى أول هذه السنة، وأقام بها شهورا يسيرة. واشتاق إلى أخيه صلاح الدين، فنفّذ رجلا من عقلاء قومه، وقال: «إن وجدت السلطان صلاح الدين يوما منشرحا فاطلب لى دستوره لزيارته». فلما وصل الرسول ومعه هدايا اليمن وطرفها عرف صلاح الدين ما قال أخوه، فأعجبه منه ذلك، وأنعم على الرسول، ونفذ يطلب المعظم، فحضر إليه.
وفيها أبطل نور الدين الشهيد سائر المكوس بالشام، فكانت جملته خمسمائة
(7/42)

ألف دينار وستة وثمانين ألف دينار. وكان نور الدين قد بنى البيمارستان بدمشق فى سنة اثنين وستين وخمسمائة. وكان فى سنة ثلاث قد قطع الفرات، واستولى على الجزيرة والرها، وعاد إلى منبج.
وفى هذه السنة أوصى نور الدين-رحمه الله وبرّد ضريحه، وجعل الجنة مأواه-وعهد إلى ولده الملك الصالح إسماعيل.

الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل محمود
نور الدين الشهيد بن أتابك زنكى
وباقى نسبه قد تقدم.
ولما مات نور الدين-رحمه الله-تحركت الفرنج بكل أرض، وأقام الملك الصالح إسماعيل أياما قلائل، ثم رحل طالبا لحلب، فدخلها وقبض على أولاد الداية.
وكان أولاد الداية أجلّ أصحاب الملك الناصر صلاح الدين. ونفذ قبل ذلك الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين إلى صلاح الدين يعزيه فى والده الملك العادل، ويأمره بالخطبة والسكة له، فامتثل ذلك على رغم منه. فلما قبض الصالح إسماعيل على أولاد الداية، وجد صلاح الدين للشر بينهما سبيلا، فجيش وخرج طالبا للشام بسبب الفرنج وتحريكهم. فلما بلغ الفرنج خروج صلاح الدين فى تلك العساكر الكثيفة، سكنوا عما هموا عليه. ثم إن صلاح الدين نزل على دمشق وأخذها-والملك الصالح بحلب-وسلمها لأخيه الملك المعظم عيسى. ثم توجه إلى حلب فحاصر الصالح أياما.
ثم وقع الصلح أن تكون حلب خاصة وأعمالها للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، ويخرج عن سائر الشام. فلما تقرر ذلك عاد صلاح الدين إلى الديار المصرية. وكان قد جعل أخاه الملك العادل سيف الدين أبو بكر نائبا بها، فخرج وتلقاه بأهل مصر من خلف سويس، على طريق قلعة صدر، خوفا من الفرنج.
(7/43)

وفيها كانت زلزلة عظيمة بحلب وبعلبك ونواحيهما، وهلك فيها عالم عظيم.
وانشق جبل لبنان المطل على بعلبك شقا لا يعرف له انتهاء. ودامت الزلازل شهرا، وربما كانت تزلزل فى اليوم والليلة عدة دفعات.
وقيل إن جميع ما ذكرناه فى هذه السنة من وفاة نور الدين، وتمليك ولده الملك الصالح إسماعيل، وخروج السلطان صلاح الدين، وأخذه الشام من الملك الصالح إسماعيل، كان فى سنة سبع وستين، وهو الصحيح. وذلك أن نور الدين لم يمت حتى توفى العاضد صاحب القصر، ووفاة العاضد كانت فى سنة سبع وستين يوم عاشوراء، متفق على صحته.
وفيها كانت فتنة السودان، وكانت فتنة عظيمة. وكان كبيرهم يسمى مؤتمن الدولة خصى. وكان متحكما فى القصر. ولما ثقلت وطأة صلاح الدين أجمع أهل القصر على مكاتبة الفرنج، فسيروا إليهم صحبة رجل جاء وجعلوه مخروزا فى نعله، فقبض عليه وأتى به إلى صلاح الدين، فعمل الحيلة حتى قتل ذلك الخصى فى قصر كان له. ثم ثاروا السودان وكان عدتهم نيف وخمسة آلاف نفر واصطلى بحربهم الأمير ابن أبى الهيجاء. وكانت الحرب بينهم فى بين القصرين يومين. وكانت لهم محلة عظيمة على باب زويلة تعرف بالمنصورية، فأرسل صلاح الدين إليها من أوقع فيها النار والحريق فى أموالهم وأولادهم. فلما بلغهم ذلك ولوا منهزمين، ثم أمّنوا بعد أن قتل منهم جماعة كثيرة.
وفيها توفى قطب الدين [مودود] بن [زنكى] صاحب الموصل إلى رحمة الله تعالى. أوصى بالملك بعده لولده عماد الدين زنكى، سماه على اسم جده، فلم يتم أمره، واستقام الأمر لسيف الدين غازى أخوه، بتدبير فخر الدين عبد المسيح، فإنه كان قام بأمر النيابة بعد [زين الدين] على كوجك، فاتفق مع الخاتون ابنة حسام الدين
(7/44)

تمرتاش جدته، وقرر الأمر لغازى. وتوجه زنكى إلى عمه نور الدين مستنصرا به.
وكان عمر قطب الدين لما توفى نحوا من أربعين سنة. ومدة ملكه الموصل إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر. ولما بلغ نور الدين استيلاء عبد المسيح على الأمور كره ذلك لكره منه له، فتوجه فى سنة ست [وستين وخمسمائة] إلى نحو الرقة، ثم نزل على سنجار وأخذها بعد حصار، وأعطاها لابن أخيه عماد الدين زنكى الذى حضر إليه منتظرا مستنصرا به. ثم توجه ودخل الموصل، واستقر غازى فيها نائبا عنه، وجعل بالقلعة سعد الدين كمشتكين، وقسم تركة قطب الدين بين يديه على الوجه الشرعى.
(7/45)

ذكر سنة ست وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم سبعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى هذه السنة. قتل ثامن ربيع الأول سنة ست وستين وخمسمائة-وهى هذه السنة-وله ثمان وأربعون سنة. وقيل إنه مات بالنقرس. وكان حسن السيرة، رفع المكوس فى أيامه ببغداد. وزيره شرف الدين أحمد بن محمد. والغالب على الأمور بنو سلجوق، حسبما تقدم من ذكرهم. نقش خاتمه لقبه.

ذكر خلافة المستضئ بنور الله بن المستنجد بالله،
وما لخص من سيرته
هو أبو محمد الحسن بن يوسف بن محمد المقتفى لأمر الله، وباقى نسبه قد تقدم.
أمه أم ولد، يقال لها بدور. مولده [فى] المحرم سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
بويع له عند موت أبيه، وأقام خليفة تسع سنين وثمانية أشهر، إلى أن توفى فى تاريخ ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
(7/46)

وفيها والعاضد صاحب القصر لم يكن له أمر، وقد خلعه السلطان صلاح الدين بفتاوى الأئمة والفقهاء، حسبما تقدم من ذكر سببه.
وفيها ولّى السلطان صلاح الدين القاضى صدر الدين أبو القاسم عبد الملك بن عيسى ابن درباس الحكم والقضاء بالديار المصرية وسائر أعمالها، وخلع عليه بما يليق بمثله.
وفيها كان أول تملك:

السلطان الأجلّ صلاح الدنيا والدين يوسف
الملك الناصر
هو أبو المعالى السلطان الملك الناصر صلاح الدنيا والدين، يوسف بن نجم الدين أيوب بن شاذى بن مروان، فاتح الفتوح، وقاتل كل كافر لحوح، معلى منار الإسلام، وحامى أمة النبى عليه السلام، مذل عبدة الأوثان، وخامد جمرة الكفر والطغيان، ومطهر البيت المقدس من رجس الشيطان، كاسر الصلبان، وراغم البطرك والقسيس والرهبان. متعه الله بالحور والولدان، فى عرصات الجنان، بكرمك يا رحمن! يا رحمن! يا رحمن!
وفيها خرج السلطان صلاح الدين إلى الغزاة، وغار على الرملة وعسقلان، وعاد إلى القاهرة.
وفيها خرج والتقى أهله لما قدموا من الشام، خوفا عليهم من العدو المخذول، ودخلوا إلى القاهرة سالمين.
وفيها أخذ الأيلة وقلعتها، ثم خرج إلى الإسكندرية لتدبير أحوالها.
(7/47)

ذكر سنة سبع وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق قد اختل نظامهم ببغداد، وعاد أمر الخلافة على ما كان عليه.
وفيها توفى العاضد صاحب القصر، واختلف فى سبب وفاته اختلاف كثير؛ فمنهم من ذكر أنه مات حتف أنفه، ومنهم من ذكر أن السلطان صلاح الدين ضيّق عليه حتى سم نفسه فمات. ورأيت فى مسوداتى أن العاضد كانت عنده جلية السلطان صلاح، وأنه سبب زوال ملكهم. وكان عادة صلاح الدين أنه يأتى كل يوم إلى باب القصر، ويقبل العتبة، ويستأذن الزمام، فيأذن له. فقال العاضد للزمام: «إذا رأيته قد حضر ولم يقبل العتبة وجاز بغير إذن فعرفنى سرعة». فلما خلع صلاح الدين العاضد أتى ذلك اليوم ولم يقبل العتبة، وجاز بغير استئذان، فدخل الزمام وعرف العاضد ذلك. وكان فى يده خاتم بفص فامتصه، فغاصت نفسه، والله أعلم.
وكان السلطان صلاح الدين-لما خلعه بمقتضى الفتاوى الشرعية المقدم ذكرها- خطب لبنى العباس فى أول جمعة من هذه السنة، بمصر. وفى الجمعة الثانية فى القاهرة وسائر الأعمال المصرية. ثم نفذ بذلك إلى سائر البلاد الشامية، والخليفة يومئذ المستضئ بنور الله. وفيها خطب أيضا لنور الدين محمود صاحب دمشق.
واستولى السلطان صلاح الدين على جميع ما فى القصر من الذخائر والأموال، وحمل لنور الدين صاحب الشام حملا من أموال القصر وذخائره وجواهره وتحفه، فكان ذلك بجملة كبيرة. وفى جملة الهدية الحمارة العتّابيّة والفيل والزرافة.
(7/48)

وفيها بطل الأذان بحى على خير العمل، وعاد إلى ما كان عليه أولا، واستمر إلى الآن، أدامه الله إلى يوم الدين. وفى ذلك يقول عرقلة الدمشقى:
أصبح الملك بعد آل علىّ … مشرقا بالملوك من آل شاذى
وغدا الشرق يحسد الغرب للقو … م، ومصر تزهو على بغداد
وما حووها إلا بعزم وحزم … وصليل الفولاذ فى الفولاذ
لا كفرعون والعزيز، ومن كا … ن بها كالخصيب والأستاذ
وفيها وصل الريدكور صاحب صقلية إلى الإسكندرية وقصد أخذ الديار المصرية. وكان معه جمع عظيم، وصحبته ستين طريدة تحمل الخيول، ومائتى وخمسين شينى، فى كل شينى ثلاثمائة مقاتل. وكان السلطان صلاح الدين قد خرج إلى الشام، وهو على غزة، فأخذ من غزة إلى الإسكندرية فى أربعة عشر مرحلة، مغدى ومعشى؟؟؟.
والتقى الجمعان على الإسكندرية، وجاءت الأمداد من كل جهة. وكانت وقعة عظيمة، نصر الله فيها الإسلام، وأيد أمة النبى عليه السلام. وهرب الفرنج وملكهم الريدكور، وفى أرقابهم سيف كل بطل من المسلمين مذكور. وغنم المسلمون غنيمة جليلة. وهذه الوقعة تعرف بوقعة الريدكور. وفيها اختلاف بين سنتى سبع وتسع، والله أعلم أيهما كانت. والذى يقارب الصحيح أن ذلك فى سنة تسع وستين وخمسمائة.
(7/49)

ذكر سنة ثمان وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين، والخطبة يومئذ له بسائر بلاد الإسلام.
وانقطعت الدولة الفاطمية إلى الآن، وعاد الحق إلى نصابه، والأمر إلى صوابه.
وقيل إن نور الدين الشهيد فى هذه السنة صاحب دمشق بحاله، وأن وفاته فى سنة تسع وستين.
وفيها أمر السلطان بقتل جميع السودان بالديار المصرية وسائر أعمالها.
وفيها توفى نجم الدين أيوب، والد السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى، ثامن عشر ذى الحجة من هذه السنة.
وفيها وجه السلطان أخاه فخر الدين توران شاه إلى بلاد النوبة، وفتح قلعة يقال لها بريم، وعاد ومعه جماعة من أهلها. وفيها خرج السلطان صلاح الدين إلى غزاة الكرك.

ذكر منازلة الكرك وسببه
كان السلطان صلاح الدين-رحمه الله-قد اصطلح مع الإبرنز صاحب الكرك. وكان يعطى الإفرنج شيئا كثيرا لا يعلم له قيمة، ويصانعهم فيما بينه وبينهم، ويجتهد بكتمان ذلك، لا يسمع عنه أنه يصانع عن نفسه وبلاده.
(7/50)

ووقع الصلح بينهم إلى وقت معين، بشرط أن المسافرين يسافروا والقفول لا تنقطع، والتجار لا تتعوق من الشام إلى مصر، والخفر على الإفرنج. فاتفق أن صاحب الكرك شرب ذات ليلة وسكر، وأمر الخيالة أن تنزل تقطع الطريق على المسافرين من المسلمين، فركبت الخيالة ومعهم الرجالة، ونزلوا، فأخذوا خلقا كثيرا من التجار والتركمان والفقراء والمسافرين. فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك عظم عليه، وأنذر لله-عز وجل-إن ظفره الله تعالى بصاحب الكرك ذبحه بيده، تقربا إلى الله بدمه، وأن يجعل حجارة قلعته على الأرض. ثم نفذ إلى سائر ملوك الإسلام، يحثهم على الغزاة، فجاءه الناس من كل فج عميق.
وقدح زند الحرب، وانتدب للطعن والضرب. وخرج بنية صادقة، وقلوب على النزاة موافقة. ثم إنه نزل على الكرك، وأمر بقطع الأشجار، وأقام عليها شهرين متتابعين، ورتب عليها النقوب والزحوف، ونصب المناجنيق. وعبرت الناس تحت النقوب، وخاسفهم الفرنج، وقتل فى ذلك اليوم خلق كثير من الفئتين. وكان الملك المعظم عيسى بدمشق، حسبما سقناه من أخباره، فحضر بعساكر الشام.
وكذلك قدمت الجيوش من عند صاحب الموصل سيف الدين غازى بن مودود.
وجاءت سائر ملوك الإسلام. ثم إن السلطان صلاح الدين جدد من الجيوش على طبرية مع أخيه فخر الدين توران شاه. ثم قدم بنفسه، وفتحها الله تعالى على يديه، بعد ذلك مع قلعة حطين، التى مجاورة الطور.
فلما بلغ ملوك الفرنج اجتماع كلمة ملوك الإسلام، انتحوا للدين الذى لهم، وقالوا:
«لا بد من الموت، فموتنا فى هذه الأرض المقدسة خير لنا من غيرها». وتكاتبوا، وأتتهم النجدة من كل أرض وجزيرة، واجتمعوا مائة ألف واثنى عشر ألف،
(7/51)

ما بين فارس وراجل، ورفعوا صليب الصلبوت يزعمهم؛ وهى قطعة خشب يدعون أنها من الخشبة التى صلب عليها المشبه بعيسى بن مريم، صلوات الله على عيسى وسلامه.
ثم توجهوا بجموعهم إلى نحو السلطان صلاح الدين ليمنعونه عن طبرية وأخذها. فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك جد فى سيره، وقحم خيله، حتى سبقهم إليها بيوم واحد، ونزل عليها. ثم التقى الجمعان على السطح بطبرية، وذلك يوم الجمعة الرابع والعشرين من جمادى الآخر. وحاز بينهم الليل، فباتوا على مصافهم فى سلاحهم، متوجهين إلى الله عز وجل، مستهلين له بالدعاء والتضرع، يسألوه-جل وعز-أن ينصرهم على أعدائه. فلما كان عند الصباح التقى الفريقان بأرض لوبيه. ولم يزل السيف يعمل، والرجال تقتل، ونار الحرب تشعل، إلى الليل. ولم يحجز بينهم إلا الليل. وقد حازت المسلمون الماء بأرض الجزيرة إلى الصباح. وثار الحرب بينهم، وقد اشتد بالملاعين العطش، وقوى عليهم الحر، وأوقع الله فى قلوبهم الرعب، فاشتد خوفهم. فلما كان وقت الظهر انهزمت منهم طائفة ثم تبعتها أخرى.
وركب المسلمون ظهورهم قتلا وأسرا، فلم ينج منهم إلا من تعلق بجبل أو أدرك حصنا من حصونهم. وهرب القمص ونجا، واحتاط المسلمون ببقية ملوكهم، وهم صاحب الكرك المقدم ذكره، وأرناط صاحب القدس الشريف،
(7/52)

وجفرى صاحب صقلية، وأولى صاحب جبيل، وابن صاحب اسكندرونه، وامجل صاحب مرقيّة، وفروخ صاحب بيروت. وهؤلاء الذين ذكرناهم كان كل واحد منهم عسكره نظير عسكر السلطان صلاح الدين وأزيد، وإنما نصره الله تعالى عليهم، لما علم صدق نيته فى محبة جهاد أعدائه. وأسر من الديوية والاسبتار والبنادقة والبارومية خلق عظيم. وقتل من الفرنج ما لا يحصى كثرة. وهذه الوقعة التى ذلت بها ملوك الفرنج لصلاح الدين.
قال ابن واصل وهو القاضى جمال الدين قاضى قضاة حماه فى تاريخه، المسمى «مفرج الكروب فى أخبار ملوك بنى أيوب»: إن هذه الواقعة كانت فى سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، بعد رجوع السلطان من بلاد الشرق. وأقول إنه الصحيح؛ فإن صاحب التاريخ-أعنى أبو المظفر جمال الدين يوسف-الذى نقلت منه هذا التاريخ فى أخبار بنى أيوب، كان إذا ذكر واقعة، استمر على ذكرها هل يكون فى سنيها أو غير سنيها. والقاضى جمال الدين بن واصل حرر تاريخ السنين، فالرجوع إليه فى وقائع السنين أولى من غيره. والعهدة فى جميع ما أذكره على نسخ الأصل. ولعل ما آفة الأخبار إلا رواتها.
ثم ضرب الدهليز السلطانى الصلاحى، وجلس السلطان صلاح الدين، وأجلس بين يديه ملوك الفرنج على مراتبهم وأقدارهم، وأجلس صاحب الكرك أسفلهم، وكان أكبرهم قدرا. وسبب إهانته غدره ونكثه، حسبما تقدم من ذكر ذلك. ثم قال له السلطان صلاح الدين: «كيف رأيت صنع الله تعالى وعاقبة الغدر والنكث؟»
(7/53)

فأطرق إلى الأرض. ثم أمر به فكبل، ووثب السلطان فنحره بيده بين الملوك لوفاء نذره، فصلّب الجميع بأيديهم على وجوههم. ثم إنه أنفذهم إلى دمشق فى قيودهم، فاعتقلهم بها.
قال ابن واصل فى تاريخه: سبب قتل البرنس صاحب الكرك وكيفيته أنه لما منّ الله تعالى بالنصر على الإسلام، أمر السلطان بالملوك، فأجلسهم فى الدهليز السلطانى، وجلس السلطان فى سرادقه، وأمر بإحضار البرنس، وأوقفه على غدره وقوله. وكان الملعون لما غدر بالقافلة التى أخذها، قال لهم: «قولوا لمحمدكم يخلصكم».
فقال له السلطان: «ها أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم». ثم عرض عليه الإسلام، فأبى، فسلّ السلطان النمجاه وضربه فحل كتفه، وتمم عليه من حضر من المماليك، وسحب. فلما رآه الملك هنفرى ارتاع، وظن أنه سيكون ثانيه، فأحضره السلطان، وطيب قلبه، وقال: «إنما فعلت بهذا ما تراه لأنه تعدى طوره. وإنما الملوك لا تقتل الملوك». ثم إن السلطان أمر بقتل سائر الداوية والاسبتار، فقتلوا عن آخرهم.
ثم إنه رحل إلى عسقلان، لما كان على المسلمين منها من الأذى ومنع الطرق بسببها، فإذا أخذت أمنت الطرق، وسافرت القوافل والتجار. وكانت هذه عسقلان أم تلك الديار، ومعقل عظيم من معاقل الفرنج. واجتمعت الفرنج عليها، وحاصرهم السلطان صلاح الدين، فلم يلتفتوا إلى ذلك لحصانة المكان، وكثرة رجاله، والمراكب تأتيهم بما يمتارون، فسير صلاح الدين أحضر ملوك الفرنج من دمشق، ونفذ إلى من بعسقلان يقول: «متى لم تسلمونا الحصن قتلت ملوككم». فلم يسمعوا ذلك، ولا رجعوا إليه، وردوا أنحس جواب. فاتكل على الله-عز وجل-وجدّ فى حصارهم، ونصب المناجنيق. فلما تحقق الملاعين أن لا بد له من الحصن وفتحه،
(7/54)

أرسلوا يقولوا: «سلّم إلينا ملوكنا ونحن نسلم الحصن إليك». فاتفق الحال على ذلك، وأن يسلموا إليه عسقلان وجميع حصونها، وهى: الزعقة، والعريش، والداروم، وغزة، والرملة، والنطرون، وبيت جبريل. فسلموا جميع ذلك بالأمان، وأطلق السلطان ملوكهم.
وقيل إن فى هذه السنة كانت وقعة الريدكور صاحب صقلية المقدم ذكرها، والله أعلم.
وفيها كسفت الشمس بعقدة الرأس، واستعرف منها النصف والثمن.
وفيها قبض على جماعة من كبار المصريين، وهم: زين الدولة شبرام، والأعز العوريس، وضياء الدين بن كامل، والقاضى عبد الصمد، وعمارة اليمنى الشاعر، ومصطنع الملك، وقاضى القضاة ابن عبد القوى. وفيهم منجم نصرانى قال لهم:
«أنتم تملكون من صلاح الدين بعد تسعين يوما». ونقل للسلطان ما اتفقوا عليه من مكاتبة الفرنج بالحضور، وأن يعيدوها فاطمية. فشنقوا بأجمعهم فى سوق الخيل.
وفيها توفى فخر الدين داود صاحب حصن كيفا، وولى ولده نور الدين محمود.
(7/55)

ذكر سنة تسع وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين بالديار المصرية.
ويقال إن فى هذه السنة مات نور الدين الشهيد، وأخذ السلطان صلاح الدين الشام، وملّكها لأخيه الملك المعظم عيسى، حسبما سقناه.
وأن فيها كان القبض على الجماعة المذكورين وشنقهم.
وفيها وصل أسطول صقلية إلى ثغر الإسكندرية، وأقاموا عليه أربعة أيام، وأقلعوا عنه مستهل المحرم سنة سبعين وخمسمائة.
وفيها ظهر رجل مغربى بضيعة من أعمال دمشق-يقال لها مشغرى -ادعى النبوة-لعنه الله-وقلب رءوس خلق من الناس، وعصوا على أهل دمشق، فأرسل إليهم المعظم عسكرا، فلم يقدروا عليه-لوعارة بلدهم-وعادوا مجروحين.
وفيها خرج السلطان صلاح الدين، وكسر عساكر الموصل على تل السلطان.
وكان المواصلة أحد وعشرين ألف مقاتل.
وفيها نزل الملك المظفر تقى الدين [عمر] بن شاهنشاه على طرابلس، والتقى مع البرنز صاحب طرابلس، وكانت وقعة عظيمة، قتل فيها من المسلمين شمس الدين ابن المقدم، وسيف الدين غازى بن المشطوب، وكانا من كبار الأمراء الناصرية.
(7/56)

قال ابن واصل: إن توجه الملك المعظم شمس الدولة أخو السلطان صلاح الدين إلى اليمن وفتحها، كان فى هذه السنة، أعنى سنة تسع وستين. وكان صاحب مدينة زبيد يسمى عبد النبى، فاستأسره المعظم، ومات فى أسره. وكذلك صاحب عدن، يسمى ياسر فأخذ أيضا ومات فى الأسر. واستناب بعدن الأمير عز الدين عثمان، وبزبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ. وحصل المعظم على أموال عظيمة، ودفائن جليلة أظهرها لهم صاحبها عبد النبى بن محمد.
وفيها توفى نور الدين-رحمه الله-يوم الأربعاء حادى عشر شوال من هذه السنة وهو الصحيح، بمرض الخوانيق فى مدة سبعة أيام. وكان عمره ثمان وخمسون سنة، مولده سنة أحد عشر وخمسمائة، حليته أسمر طويل، فى وجهه شعرات يسيرة، سيرته لا يدرك لها غاية فى الجودة.
(7/57)

ذكر سنة سبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا، وسبعة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية، والحجاز، واليمن، وبعض أطراف المغرب. وأخوه المعظم بدمشق. والصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد يومئذ صاحب حلب. والعادل سيف الدين أبو بكر ينوب عن أخيه السلطان بالديار المصرية، إذا غاب السلطان فى أسفاره.
وفيها نافق الكنز بالصعيد، وقتل بعض أمراء السلطان، فتوجه الملك العادل نحوه إلى أسوان، وصحبته الأمير عز الدين موسك، والأمير حسام الدين أبو الهيجاء المعروف بالسمين مع جماعة من الأمراء، فلحقوه وقتلوه مع جماعة من أتباعه السودان.
وفيها خرج السلطان إلى الشام، ونزل على حلب، وحاصرها، ورحل عنها، ولم يتسلمها.
ووصل إلى السلطان الخلع من الإمام المستضئ بنور الله، وتقليد عظيم بمصر والشام.
وفيها كان جراد عظيم، وغلاء ووباء، وهلك فيه عالم عظيم فى الشرق وأعماله.
وفيها ادعى رجل النبوة، فطلبه السلطان، فهرب منه.
وفى هذه السنة-أعنى سنة سبعين وخمسمائة-كانت الوقعة بين السلطان صلاح الدين وبين عسكر الموصل والحلبيين، وكسرهم كسرة شنيعة. وفيها ملك حماة
(7/58)

وولاها لخاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمى. وكذلك ملك حمص، وملّكها لابن عمه الملك القاهر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه. وكانت قبل ذلك إقطاعا لأبيه شير كوه من أيام نور الدين رحمه الله، فملكها ناصر الدين [محمد] ثم ذريته من بعده، حسب ما نذكر منهم.
(7/59)

ذكر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وستة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية، وما معها.
وفيها وقعت الهدنة بينه وبين الفرنج-خذلهم الله تعالى-مدة؛ وكانوا قبل ذلك قد وصلوا إلى داريا بظاهر دمشق، وأحرقوا الجامع، ورحلوا من يومهم.
ثم وقعت الهدنة بعد ذلك.
وفيها كسر السلطان صلاح الدين سيف الدين غازى بن مودود-صاحب الموصل-كسرة ثانية، ونهب عسكره.
وفيها خرج صاحب خراسان الملقب بالمؤيد يريد خوارزم ليحاصرها، فظفر به وقتل، وطيف برأسه على رمح فى سائر تلك الأقاليم.
وفيها فتح السلطان صلاح الدين حصن أعزاز، وحصن بزاعة.
وفيها قفزت عليه وهو راكب الفداوية، وجرحوه، وسلم. فلما عوفى عاود النزول على حلب، فإنه بلغه أن صاحبها [هو] الذى أرسل إليه الفداوية.
وفيها فتح صيدا.
(7/60)

ذكر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وإحدى وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإحدى وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين.
والسلطان صلاح الدين على حلب يحاصر صاحبها. ووقع فى هذه السنة الصلح مع صاحبها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد، وكذلك مع جماعة ملوك الموصل وديار بكر. وكان الصلح عاما.
وعاد السلطان إلى ديار مصر، ودخل القاهرة يوم السبت السادس والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة. ثم خرج إلى ثغر الإسكندرية.
وفيها توفى ألدكز أتابك سلطان. وتوفى السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد ابن ملكشاه.
وفيها نزل الفرنج على حارم وحاصروها، وأقاموا عليها أربعة أشهر. فلما بلغ السلطان صلاح الدين، خرج إليهم، فاعترضه نهر الصافية، فازدحمت عليه العساكر والجمال والأثقال، فلم يشعروا إلا وقد دارت بهم الفرنج بالخيل والرجل. وكان الجيش متفرقا فلم يلو أحد على أحد، وقتل من المسلمين خلق كثير، وأسر خلق، وتفرقوا فى الضياع. وكان مقدّم الفرنج البرنز أرناط [صاحب الكرك]،
(7/61)

وكان قبل ذلك أسيرا عند المسلمين فى حلب، فأطلقه الحلبيون غيظا منهم على صلاح الدين. [ولم] ينكسر المسلمون قط كسرة أنحس من هذه الكسرة. وانهزم السلطان صلاح الدين على طريق البرية إلى مصر فى نفر قليل.
قال ابن واصل: فى هذه السنة كان قدوم الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه من اليمن. واجتمع بالسلطان صلاح الدين على حماه وهو عائد إلى دمشق من حصار حلب. وأنه ملكه دمشق فى هذه السنة، أعنى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وعاد السلطان إلى مصر.
(7/62)

ذكر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين بمصر وقد خيم بفاقوس، ثم عاد من المخيم إلى القاهرة، ثم خرج طالبا للغزاة. وفيها كانت نوبة الرملة، وكسر السلطان، ورجع مكسورا. وفقد من العسكر خلق كثير، وقتل [شهاب الدين أحمد] ولد الملك المظفر تقى الدين، وفقد الفقيه عيسى وأخوه الظهير.
ثم خرج السلطان بعد مدة شهرين إلى الشام. وترك العادل سيف الدين أبو بكر نائبا عنه بمصر.
وفيها هبت ريح سوداء شديدة ببلاد القفجق، ووصلت إلى بلاد تفليس، ثم إلى همذان وأصبهان وأكثر بلاد كرمان، فأخربت البيوت، وقتلت البقر والغنم والخيل. وروى رجل فى دهستان زعم أنه كان بارحة ذلك اليوم فى بلاد الخزر، ومعه خيل يرعاها، فهبت الريح واحتملته، ورمت به فى دهستان، ولا يعلم أمره.
ومن المسافتين خمسة عشر يوما. ذكر ذلك صاحب تاريخ بغداد.
(7/63)

ذكر سنة أربع وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة عشر أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين بمصر. وقيل فى هذه السنة كانت نوبة الرملة المقدم ذكرها.
وفيها كان قران زحل والمريخ فى السرطان، وكانت فتن عظيمة بالشرق بين الملوك.
وفيها فتح قصر يعقوب بالسيف عنوة.
وفيها انكسرت الفرنج كسرة عظيمة، وأخذت أبطالهم أسرى. وقيل بل فى سنة خمس وسبعين وخمسمائة كانت كسرة الفرنج.
وفيها توفى [سيف الدين] غازى بن مودود بن زنكى صاحب الموصل.
وكانت مدته فى ملك الموصل ثلاث عشرة سنة.
(7/64)

وفيها بنى باب البحر الذى بالمقسم والسور المحاذى له.
(7/65)

ذكر سنة خمس وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وسبعة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى هذه السنة، مستهل شهر ذى القعدة. وزيره عضد الدين أبو الفرج. مدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر. صفته أسمر بحمرة، تام القامة.

ذكر خلافة الإمام الناصر لدين الله
ابن المستضئ بنور الله، وخبره
هو أبو العباس بن أحمد الناصر لدين الله بن أبى محمد الحسن المستضئ بنور الله، وباقى نسبه قد تقدم. أمه أم ولد تدعى نرجس. بويع له يوم وفاة أبيه، رحمه الله. ولم يزل نافذ الأمر فى خلافته، مطاعا فى جميع أقطار الأرض بالممالك الإسلامية.
وفى أيامه كان بدء خروج التتار على بلاد العجم. وجرى لهم مع السلجوقية ملوك العجم حروب ووقائع، وأهوال وعجائب، يشيب لهولها الأطفال. وسأذكر أول بدء شأن هؤلاء القوم وأصولهم الأصلية، وبلادهم الأولية. وأذكر أول أب لهم، المتولدين عنه، المسمى بقرا جكون برجكى باللسان المغلى، معناه بالعربى «فرخ السبع الأسود». وهو جد جد، جكزكان ترجى، ولعله لم يذكر فى تاريخ غيره.
(7/66)

وسأذكر الكتاب الذى نسخته منه وسبب تحصيله. وجميع ذلك أذكره عند أخذهم لبغداد، واستيلائهم على البلاد، ليكون الكلام سياقه يتلو بعضه بعضا، إن شاء الله تعالى.
وكانت مدة خلافة الإمام الناصر سبع وأربعون سنة وأشهر. وهو الذى امتدحه كمال الدين بن النبيه بقصيدته، التى هى أول ديوانه، وأولها:
بغداد مكتنا وأحمد أحمد … حجوا إلى تلك المناسك واسجدوا
وهذا من التغالى الذى يخرج إلى الكفر. وكمال الدين-عفا الله عنه-من الشعراء المجدين، لو سلم فى شعره من التجاسر الذى لا يليق أن يذكر، كقوله أيضا فى قصيدته التى أولها:
قمت ليل الصدود إلا قليلا … ثم رتلت ذكركم ترتيلا
فهذا فيه إقدام على القرآن العظيم، ولا يجوز البتة، لما فيه من المعارضة.
وابن النبيه المذكور مادح الملك الأشرف موسى، وله فيه نخب القصائد، فلو سلم مما ذكرناه لذكرناه. وديوانه أشهر من أن يذكر.
وفى هذه السنة أنعم السلطان صلاح الدين ببعلبك على ابن أخيه عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه بن أيوب، ولقب الملك المنصور. ولم يزل مالكها إلى أن توفى فى حياة السلطان صلاح الدين، فصارت لولده الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه. فلم يزل مالكها حتى أخذها منه الملك الأشرف [مظفر الدين] موسى بن العادل الكبير سنة سبع وعشرين وستمائة. وفيها توجه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بمرسوم السلطان من دمشق إلى الديار المصرية، وأنعم عليه السلطان بإسكندرية، فأقام بمصر إلى أن توفى فى تاريخ ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(7/67)

ذكر سنة ست وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مدبر الأمور بنفسه، والأمور راجعة إلى حكمه، ليس عليه حجر من ملك من الملوك، ولا وزير من الوزراء.
وبنو سلجوق يومئذ ملوك الشرق بكماله، وملكهم قد اتصل بالهند والصين وصحراء القفجاق، كما يأتى ذكرهم فى مكانه، مع ما تقدم من ذكر بدء شأنهم فى الجزء الذى قبله.
والسلطان صلاح الدين ملك الديار المصرية، والحجازية، واليمنية، والشامية، وبلاد برقة. وبنو عبد المؤمن ملاك المغرب بكماله. وجزيرة الأندلس متفرقة الأجزاء والممالك، مع عدة ملوك، من حين انقطعت دولة الأمويين، حسبما ذكرناه فى الجزء المختص بذكر بنى أمية، وهو الجزء الثالث من هذا التاريخ.
وفيها خرج السلطان صلاح الدين من الديار المصرية بنية الغزاة، وخلف أخاه الملك العادل نائبا عنه بالديار المصرية، وتوجه إلى ديار بكر وبلاد الأرمن، وفتح حصن المناقير من بلادهم.
وفيها توفى الملك المعظم [شمس الدين توران شاه] أخو السلطان بثغر الإسكندرية، رحمه الله تعالى.
وفيها وصلت رسل الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين من بغداد، وهما الإمام صدر الدين بن شيخ الشيوخ أبو القاسم عبد الرحيم، والأمير شهاب الدين
(7/68)

ابن بشير الخادم الناصرى، بالخلع والتقليد بمصر والشام، وما معهما؛ وذلك فى شعبان من هذه السنة.
وفيها عاد السلطان صلاح الدين إلى الديار المصرية، وسلم الشام لابن أخيه الملك المنصور عز الدين فرخشاه.
وفيها نافقت عرب سليم بالبحيرة، فخرج إليهم الأمير أبو الهيجاء، فكسرهم.
وكان العرب فى ستين ألفا، وأبو الهيجاء فى ألفى فارس. وغنموا أموالهم وجمالهم، حتى أبيع كل خمس جمال بدينار، وكل خمسين رأس غنم بدينار.
وفيها بنيت قلعة الجبل بالقاهرة المعزية.
وفيها توفى الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد.
وفيها ولدت امرأة بمصر غرابا، وأحضر بين يدى السلطان صلاح الدين بحضرة القضاة. وكان من عجائب الدنيا، والله أعلم.
قال ابن واصل: فى هذه السنة كانت وفاة سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى.
واستولى على ملك الموصل أخوه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن آقسنقر. وكانت وفاة غازى ثالث صفر من سنة ست وسبعين وخمسمائة.
(7/69)

ذكر سنة سبع وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشرة ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين.
والسلطان صلاح الدين قد توجه إلى ثغر الإسكندرية.
وفيها بلغ السلطان عن نواب الملك المعظم باليمن، وهما ابن الزنجبيلى والى عدن، وحطّان بن منقذ والى زبيد، أن وقع بينهما اختلاف كبير، أحدث إلى حرب، فخشى أن يفسد الأمر بينهما، فتخرج المملكة. فسيّر نائبا عنه إلى اليمن، وهو الأمير صارم الدين خطلبا، وكان والى مصر. ثم توجه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب إلى بلاد اليمن، بعد سير الصارم والى مصر لقطع الفتن التى حدثت باليمن. وكان توجهه فى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ووصل إلى زبيد وملكها، وقبض على حطان، وأخذ منه أموالا عظيمة. وقال ابن واصل: إن من جملة ما أخذ له سبعين غلافا من غلف الزرد مملوءة ذهبا، وقوّم المأخوذ منه بألف ألف دينار عين مصرية.
(7/70)

وفيها تسلم عز الدين مسعود بن مودود قلعة حلب، بوصية من [الملك الصالح إسماعيل] بن نور الدين له.
وفيها خرج الملك محمد الغورى إلى الهند، وعدة عسكره ثلاثمائة ألف وتسعون ألف سوى الرجالة، وكان فى صحبته أربعمائة فيل، ففتح الهند من الكفر.
قال ابن واصل: لما خرج السلطان إلى الشام، وبرز من القاهرة، وخرجت الناس إلى وداعه، بينما هو فى سرادقه، والعلماء والفضلاء بين يديه، وكل منهم ينشد بيتا أو بيتين فى الوداع، إذ أخرج أحد مؤدبى أولاده رأسه، وأنشد مظهرا بذلك فضيلته لهذا البيت:
تمتع من شميم عرار نجد … فما بعد العشيّة من عرار
قال: فحمد نشاط السلطان، وانقبض انبساطه، وجعل الجماعة ينظرون بعضهم إلى بعض متعجبين، من سوء أدب المؤدب. وكأنه والله نطق بما هو كائن فى الغيب، فإن السلطان فارق الديار المصرية هذه النوبة، واشتغل بما سنذكره من الفتوحات والغزوات، وتمادى الحال إلى أن قضيت منيته بدمشق، ولم يعد بعدها إلى الديار المصرية. فكان الفال موكل بالمنطق. ثم سار السلطان متوجها إلى الشام لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.
وفيها طلع الفرنج إلى أيلة، وعمروا مراكب وشوانى، وركبوا بحر القلزم، وقطعوا البحر، ونزلوا على عيذاب، وأخذوا عدة مراكب الكارم، وهى موسوقة بهارا وبضائع، وقتلوا من أهل عيذاب جماعة كثيرة، فإنهم لم يتحققوا أنهم فرنج، لأنهم لم يعهدوا هذا قط، ولا دخلت إليهم فرنج من طول الأعمار، سوى هذه النوبة. والفرنج الذين فعلوا هذه الفعلة من أصحاب البرنز [أرناط] صاحب الكرك.
فلما بلغ السلطان ذلك أحضر أسطول المراكب من السويس، وعمر بها مراكب حربية فى أسرع وقت وأقربه، وشحنها بالرجال والعدد، وجعل المقدم عليهم
(7/71)

حسام الدين لؤلؤ. ثم رموا المراكب البحر من السويس، وقصدوا الملاعين الفرنج، فصادفوهم فى أرض الحوراء، فاقتتلوا قتالا شديدا، واحتاطت بهم المسلمون، وأخذوهم، وعادوا بأموالهم إلى عيذاب، ودخلوا بهم قوص، ثم إلى مصر. وكان دخولهم يوما عظيما.
وفيها ظهر بالغربية من عمل المحلة بالديار المصرية، بقرية تسمى الكنيسة، عين ماء. وذكر بعض النصارى أنه رأى فى المنام أن هذه العين تبرئ من سائر العلل، فقصدها الناس من جميع الأقطار، وأقاموا عليها أياما، ولم يظهر لهم من ذلك أثر.
وفيها سير السلطان صلاح الدين إلى اليمن سيف الإسلام طغتكين، وأن يكون نائبا بها، فاستقر بها حتى توفى، رحمه الله تعالى، فيما يأتى من خبره، إن شاء الله تعالى.
(7/72)

ذكر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأصبعان.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، قائم الأمر، مستمر السلطان، نافذ الحكم فى أقطار الأرض.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها.
وفيها غزا السلطان طبرية، وبيسان، ثم توجه إلى الفرات، واجتمع بمظفر الدين.
ودخل مظفر الدين تحت الطاعة. وكذلك وصل إليه رسول صاحب حصن كيفا -وهو نور الدين محمود بن قرا أرسلان-يسأل أن يكون تحت الطاعة، ويصير من الحاشية.
وفيها توجه السلطان صلاح الدين إلى الرها وحران والرقة والخابور ونصيبين، وملكهم. وتوجه إلى الموصل وحاصرها، ولم يزل عليها حتى وصل إليه رسل الخليفة شافعين إليه بالإعفاء عنهم، فرحل عنهم. ثم توجه إلى سنجار وملكها.
وفيها ملك سيف الإسلام [ظهير الدين طغتكين] اليمن، وقتل حطان ابن منقذ وأخذ جميع ماله، فكان من جملة ما وجد فى سلاح خاناته أربعمائة زردية ذهب عين أبريز. وهرب ابن الزنجبيلى بجميع ماله، ولحق بالسلطان صلاح الدين.
(7/73)

وفيها عدى أبو يعقوب بن عبد المؤمن ملك المغرب إلى جزيرة الأندلس، فنزل على شنترين يحاصرها، وكان عدة عسكره مائتى ألف وستين ألف، فخامر عليه وزيره ابن المالقى، فرحل عنها، ولم يبلغ أربا منها.
(7/74)

ذكر سنة تسع وسبعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم سنة أذرع، وأحد وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الملك، نافذ الأحكام.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها، وهو بلاد الشرق.
فيها فتح [السلطان صلاح الدين] آمد وملّكها لنور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا.
ثم عاود [صلاح الدين] النزول على حلب، وفتحها، وملكها فى صفر. وكان القاضى محيى الدين بن زكى الدين قاضى القضاة بدمشق، فكتب إلى السلطان صلاح الدين يهنيه بالفتح، بقصيدة من جملتها يقول:
وفتحكم حلبا بالسيف فى صفر … مبشر بفتوح القدس فى رجب
فكان الأمر كذلك. ومدح السلطان صلاح الدين القاضى السعيد بن سناء الملك، بقصيدة يقول فى أولها:
بدولة الترك عزّت ملّة العرب … وبابن أيوب ذلّت شيعة الصلب
وفى زمان ابن أيوب غدت حلب … من أرض مصر وعادت مصر من حلب
ولابن أيوب دانت كل مملكة … بالصفح والصّلح أو بالحرب والحرب
مظفّر النصر مبعوث بهمته … إلى العزائم مدلول على الغلب
والدهر بالقدر المحتوم يخدمه … والأرض بالخلق والأفلاك بالشّهب
وتجتلى الخلق من راياته همما … مبيضّة النصر مصفرّة العذب
(7/75)

ومنها:
بك العواصم طابت بعد ما خبثت … بمالكيها ولولا أنت لم تطب
فليت كل صباح در شارقة … فذا ليل فتى الفتيان فى حلب
ولما فتح السلطان حلب طلبها منه أخوه الملك العادل، فأحضره من ديار مصر، وسلمها له، فلم تزل فى يده إلى سنة ثمانين، فخرج عنها وسلمها للملك الظاهر، حسبما نذكر.
وملك السلطان فى هذه السنة حارم، وعاد إلى دمشق مؤيدا بالنصر، وقد عاد ملك العصر. واستدعى الملك العادل سيف الدين أبو بكر من الديار المصرية، وملكه حلب. ونفذ الملك المظفر تقى الدين عمر ابن أخيه إلى مصر نائبها بها عنه.
وفيها ظهر بقرية من قرى ديار مصر تعرف ببوصير السدر بيت هرمس الثانى، ووجدوا فيه أشياء كثيرة، من جملتها كباش وضفادع معادن مصنوعة، وقوارير دهنج، وفلوس نحاس فيها فضة، وأصنام من نحاس، وموتى عدة خمسة آلاف نفر-رجال ونساء-وأكفانهم سالمة لم تبل. وسفى السافى على الباقى فلم يصلوا إليه.
وفيها عزم السلطان على فتح القدس الشريف، فإنه لم يبق بالوجه القبلى من البلاد بأيدى الفرنج غيره وعكا وصيدا، وقليل من بلاد الساحل، فاهتم لفتحهم غاية الاهتمام، كما يأتى من شرح ذلك.
(7/76)

وفيها توفى تاج الملوك بورى بن أيوب، أخى السلطان صلاح الدين. وكان جرى على حلب فتوفى منه فى ثالث وعشرين صفر من هذه السنة، رحمه الله تعالى.
وكان عمره اثنتين وعشرين سنة. وكان فاضلا، أديبا، شاعرا، وله ديوان شعر، فمن ذلك فى ذكر الصوم على سبيل المداعبة، يقول:
رمضان بل مرضان، إلا أنهم … أخطوا إذا فى قولهم وأساءوا
مرضان فيه تخالفا، فنهاره … سلّ، ولكن ليله استسقاء
(7/77)

ذكر سنة ثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم سبعة أذرع وثلاثة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأحكام، مطاع الأوامر.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها.
وفيها غزا السلطان الكرك من دمشق. وخرج إلى خدمته الملك المظفر تقى الدين بالعساكر المصرية. وعاد إلى دمشق، ثم رجع المظفر إلى مصر بجيوشه.
وفيها فتح سيف الإسلام أكثر معاقل اليمن، وقوى بها سلطانه.
وفيها وقع خلاف بين الأتراك والأكراد، وقتل بينهم خلق كثير.
وفيها عدى السلطان صلاح الدين الفرات، ونزل الموصل وحاصرها، ووقع الصلح بينه وبين عز الدين صاحبها.
وفيها توفى شاه أرمن صاحب أخلاط، ولم يخلف غير بنت واحدة، فقام بمملكة أخلاط مملوكه سيف الدين بكتمر.
وتوفى قطب الدين صاحب ماردين، وكذلك توفى نور الدين بن فخر الدين صاحب آمد، رحمهم الله أجمعين.
وفيها كان الخلاف من أهل ديار بكر والجزيرة. وكذلك كان الخلاف بين كثير من ملوك الدنيا فى هذه السنة من سائر الأجناس، وقتل خلائق لا تحصى.
وفيها فتح السلطان صلاح الدين ميافارقين، وقتل عليها خلق كثير.
(7/78)

وفيها حكم المنجمون بأن يأتى هواء عظيم، ويهلك منه عالم عظيم، إلا من دخل المغائر، حتى أن قليج أرسلان صنع مغائر وسروب تحت الأرض، وسقفها بالأخشاب، وجعل فيها ما يحتاج إليه. وخرج هو وعياله وأهله وباتوا تلك الليلة التى زعم المنجمون أن يكون فيها ذلك الريح، فلم يجر شئ من ذلك.
وفيها تسلم السلطان صلاح الدين شهرزور.
وفيها خرج الملك العادل سيف الدين أبو بكر عن حلب، وتسلمها الملك الظاهر ابن أخيه، وتوجه العادل إلى مصر. وفيها فتح السلطان صلاح الدين صفد فى مدة أحد عشر يوما، ودكها دكا إلى الأرض، وامتدح بهذه القصيدة التى منها يقول:
بجدك أعطاف القنا تتعطّف … وطرف الأعادى دون مجدك تطرف
شهاب غدا فى ظلمة الشرك ثاقب … وسيف إذا ما هزه الله مرهف
وقفت على حصن المخاض وإنه … لموقف صدق لا يوازيه موقف
وما أشرقت أعلامك الصفر سحرة … إلى أن عادت أعلامها السود تكسف
ولا ضربت كوسات نصرك ساعة … إلى أن غدت أكباد أعدائك ترجف
كبا من أعاليها صليب وبيعة … وساد بها دين حنيف ومصحف
نصحتكم يا أمة الكفر فاسمعوا … نصيحة من قد جاء بالله يحلف
لقد قلت أنا ما لكم لا سمعتموا … دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
(7/79)

ذكر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم سبعة أذرع وتسعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، بحاله. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها.
وفيها توجه إلى الموصل ووصل إليه معين الدين سنجر شاه صاحب الجزيرة، ودخل تحت الطاعة. ثم توجه إلى دياربكر، وتمكن من ذلك الجانب، ثم عاد إلى الموصل. وحصل الصلح بينه وبين المواصلة، وخطبوا له بالموصل. وفيها مرض السلطان مرضة خطرة، وعوفى ولله الحمد. وفيها وصل إليه رسل الخلافة بالخلع العظيمة، وتوقيع بإضافة ماردين مع حصن كيفا إليه. وأزيد فى التوقيع ألقابا تليق بمثل سلطانه.
وفيها توفى الملك القاهر ناصر الدين محمد بن شير كوه صاحب حمص، ليلة عيد الأضحى من سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وقام بمملكة حمص الملك المجاهد أسد الدين شير كوه ولد ناصر الدين محمد المتوفى، وذلك بإنعام السلطان صلاح الدين عليه بذلك.
وعمره يومئذ اثنى عشر سنة. فلم يزل مالكا حمص وأعمالها إلى أن مات فى سنة سبع وثلاثين وستمائة. وكانت مدة ملكه نحوا من ست وخمسين سنة. وملك بعده ولده الملك المنصور إبراهيم، وتوفى فى دمشق سنة أربع وأربعين وستمائة. وملك بعده الملك الأشرف موسى بن إبراهيم، فأخذها منه الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازى-صاحب حلب-فى سنة ست وأربعين
(7/80)

وستمائة. ولم يزل مالكها حتى [وطئت التتر البلاد وملكوها سنة ثمان وخمسين وستمائة، فأعادوا حمص إلى الملك الأشرف موسى بن الملك المنصور. ثم لما رجعت البلاد إلى المسلمين أقره عليها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس. ثم توفى الملك الأشرف فى سنة اثنتين وستين وستمائة، وهو آخر من ملك حمص منهم].
(7/81)

ذكر سنة اثنين وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع واثنى عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرين أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها. وقد رجع إلى دمشق مظفرا منصورا. واستدعى ولده الأفضل-وهو الأكبر من ولده-وملّكه دمشق. واستدعى تقى الدين الملك المظفر من مصر. وملّك مصر لولده الملك العزيز، ونفذ معه عمه العادل لتدبير أحواله بها. وملّك حلب لولده الظاهر.
قال ابن الأثير فى تاريخه: إن السبب الذى فعله السلطان فى سنة اثنتى وثمانين وخمسمائة من نقل الملك العادل أخيه عن حلب وتوليتها لولده الملك الظاهر، ونقل الملك المظفر عن مصر وتوليتها لولده الملك العزيز، أن السلطان لما مرض وعوفى، وسار إلى الشام، سايره يوما علم الدين سليمان بن جندر، فجرى بينهما حديث، فقال له سليمان: «يا خوند بأى رأى كنت تظن أن وصيتك تمضى وأن أمرك يقبل، كأنك كنت تظن أنك تمضى إلى الصيد، وترجع فلا يخالفوك. بالله أما تستحى أن يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة». فقال صلاح الدين وهو يتبسم من كلامه:
«كيف ذلك؟». قال: «إذا أراد الطائر يعمل عشّا لفراخه قصد أعالى الشجر ليحمى فراخه. وأنت سلمت الحصون إلى أهلك، وجعلت أولادك على الأرض. هذه حلب مع أخيك العادل، وحماه بيد المظفر، وحمص بيد المجاهد. وأحد بنيك بمصر تحت حجر تقى الدين، يخرجه منها متى أحب». فقال: «والله صدقت فاكتم ما معك».
ثم اهتم فى تمليك بيته، وكان أمر الله غير إرادته.
(7/82)

وفيها توجه قراقوش-مملوك تقى الدين-إلى بلاد المغرب، واستولى على بلاد القيروان، فالتقاه أبو يعقوب بن عبد المؤمن بظاهر مدينة تونس، فكسره قراقوش فى يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول، واستولى على البلاد، وخطب فى تونس مع سائر تلك النواحى للسلطان صلاح الدين. ثم إن أبا يعقوب حشد عالما عظيما وكرّ على قراقوش فكسره، ومضى هاربا إلى أشبيلية.
(7/83)

ذكر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام.
وفيها كان فتح القدس الشريف وغيره.

ذكر فتح القدس الشريف
وذلك أن السلطان صلاح الدين لما تفرغ وجهه من بلاد الشرق كله، وأطاعته سائر ملوكه، أفرغ همته العلية، وفكرته الصالحة، إلى تطهير البيت المقدس من أرجاس الكفر، وخبث الفرنج. وكان ذلك إلهاما من الله عز وجل، وتأييدا للإسلام. وكان يومئذ بالقدس الشريف البطرك الكبير، الذى جميع أهل الصليب يعظمونه ويعتقدونه. وكان بها الباب ابن بارزان صاحب الرملة. وكان فيه خلق عظيم، لا يحصيهم إلا الله تعالى. فلما بلغهم قصد السلطان إليهم حشدوا وتجمعوا من كل فج عميق. وسيّر البطرك يستصرخ بملوك الإفرنج، ويحرم عليهم، ويقول لهم:
«الموت عليكم بهذه الأرض المقدسة أخير لكم مما تسلمون بيت معبودكم». وبلغ السلطان ذلك فقال: «نعم نأخذه منهم بحول الله وقوته، ونخرب بيوتهم، ونكسر لاهوتهم، ونهدم القمامة التى يدعون أنها القيامة، محل صلاتهم وقبلة ضلالهم».
(7/84)

ثم نزل السلطان صلاح الدين بجيوشه، والنصر قد حفّه، والملائكة ترفرف بأجنحتها عليه، فى العشر الأول من شهر رجب الفرد من هذه السنة. ونصب عليها المناجنيق والعرادات، ووقع الزحف والقتال، واقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد بمثله من قبله. فلما تعين للفرنج قلة النجاح، وأن المسلمين مستظهرين بالنصر والفلاح، وأن لا بد أن يكون عوض ناقوسهم «حىّ على الصلاة حىّ على الفلاح»، وأن أمائر النصر قد لاحت، وروائح الفتح قد فاحت، أجمعوا رأيهم فى طلب الأمان، ونفذوا بذلك رسولا إلى السلطان صلاح الدين، فامتنع من ذلك. وكان الفرنج لما ملكوا القدس الشريف من المسلمين قتلوا جميع من كان فيه من المسلمين، ولم يبقوا على رجل منهم، وكان ذلك فى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، ونحروا أولاد المسلمين ونساءهم، ولم يبقوا فى حق المسلمين مجهودا من كل شر. فقال السلطان صلاح الدين: «ما نفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله لما ملكتموه». فأيقن الفرنج بالهلاك، فاجتمعوا وضربوا بينهم رأيا أجمعوا عليه. ثم إن الباب ابن بارزان سيّر طلب من السلطان أمانا لنفسه، وطلب الحضور بين يدى السلطان، فأنعم له بذلك، وأحضره، وأكرمه، وأجلسه بين يديه.
فلما رأى الملعون إكرام السلطان له، طمّعته نفسه فى طلب الأمان لأهل الحصن، فصعب على السلطان ذلك، وقال: «ما بقى أمان لا لك ولا لهم-ونهره- ولا عدت أفعل بكم جميعكم إلا كما فعلتموه بأهله عند فتحكم له». فقال الباب: «حفظ الله السلطان، عندى جواب إن أمنتنى من العطب ذكرته بين يديك». فقال: «قل وأنت آمن». قال: «إن السلطان يعلم أن فى هذا الحصن خلق عظيم. وإنا لا نطلب الأمان خوفا من الموت، فإن الموت لنا فى هذه الأرض المقدسة خير من الحياة. وإنما شفقة منا على الأطفال والعيال. وقد اتفقنا على رأى، فعن إذن السلطان أقوله». قال:
(7/85)

«قل». قال: «يعلم السلطان-حفظه الله-إن اجتمع فى هذا الحصن من الفرسان والأبطال ما لم يجتمع فى غيره، وأنهم لا يفرون من الموت، ولا يرغبون فى الحياة.
وأنا إذا حققنا الموت والله والله والله-كذا يحلف الملعون-لنقتلن كل أسير عندنا من المسلمين، ويكون ذلك فى ذمة السلطان. ثم نقتل بعد ذلك أولادنا ونساءنا، ونحرق جميع أموالنا وأمتعتنا، ولا نترك لنا درهم ولا دينار، ولا ندعكم تأسروا منا رجلا واحدا، ولا صبى واحد، ولا امرأة واحدة. وإذا فرغنا من ذلك أحرقنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من الأماكن الشريفة عندكم. ولا نترك لنا دابة ولا مركوبا إلا أتلفناه. ثم نخرج إليكم عن يد واحدة، فنقاتلكم قتال الموت، وهو من يموت كريما، فلا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله. ولا نزال كذلك حتى نموت عن آخرنا، أو يفعل الله فينا حكمه. وأما قول السلطان إن الذين أخذوا القدس من الفرنج من قديم فعلوا ما فعلوا بالإسلام، فالقاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، لهم إله يختصمون بين يديه. ولا يحل للسلطان أن يأخذنا نحن بذنوب غيرنا ممن سلف. وإن الذين كانوا فيه من المسلمين لو صبروا لكان خيرا لهم. وأما نحن فكما أنهيت من الحال بين يدى السلطان حفظه الله». فأمر السلطان صلاح الدين بخيمة فضربت له، وأنزل فيها، ثم طلب أكابر دولته، واستشارهم فيما قاله الباب، فقالوا: «بل الرأى أن يعطيهم السلطان الأمان، فهو خير مما ذكروه». فأمنهم السلطان، وتسلم البيت المقدس يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر رجب من هذه السنة.
وكان يوما مشهودا. ودخل السلطان صلاح الدين إلى الصخرة الشريفة المقدسة وهو فى غاية الفرح والسرور، إذ جعله الله تعالى فى هذا الفتح ثانى عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وسيرت البشائر إلى سائر البلاد الإسلامية. وفى ذلك اليوم طلع القاضى محيى الدين بن القاضى زكى الدين، وخطب.
(7/86)

ذكر خطبة القاضى محيى الدين
{الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}».
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماااتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}».
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}».
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً}. . . الآية».
{قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اِصْطَفى»}.
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماااتِ وَما فِي الْأَرْضِ}» الآية.
{الْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماااتِ وَالْأَرْضِ}» الآية.
الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بكفره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافر بكفره. الذى قدر الأيام دولا، وجعل العاقبة للمتقين تفضلا، ورفض عبادة من ضله، وأظهر دينه على الدين كله. القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع. أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصرته لأنصاره، وتطهيره لبيت المقدس من أنجاس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره، وظاهر شكره.
(7/87)

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، شهادة من طهّر بالتوحيد قلبه، ورضى به ربه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دافع الشرك، ورافع الإفك، الذى أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى.
صلى الله عليه وعلى خليفته أبى بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى عمر ابن الخطاب الذى أول من رفع عن هذا البيت شعائر الصلبان، وعلى عثمان بن عفان ذى النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب مزيل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله والتابعين لهم بإحسان. . .».
ثم ذكر الإمام الناصر لدين الله، ودعا له وللسلطان صلاح الدين. وكانت صلاة جمعة ما رأى الناس مثلها، لما حصل للناس فيها من الخشوع الزائد، والسرور المتزايد.
ومما لخص من الخطبة فصل فى الدعاء للسلطان:
«اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، والمحامى عن دينك الدافع، والذاب عن حرمك وحرم رسولك الممانع، السيد الأجل، والكهف الأظل، الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهّر بيت المقدس، أبى المظفر يوسف صلاح الدين بن أيوب، محيى دولة أمير المؤمنين. اللهم عمّ بدوامه البسيطة، واجعل ملائكتك المقربين براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفى جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه. اللهم أبق للإسلام والمسلمين مهجته، ووف للإيمان حوزته، وانشر فى المشارق والمغارب دعوته. اللهم كما فتحت به البيت المقدس، بعد ما ظنت به الظنون، وابتلى المؤمنون، فافتح على يديه دانى الأرض وأقاصيها، وملكه بكرمك وفضلك صياصى الكفر
(7/88)

ونواصيها، ولا يلقى منهم كتيبة بقوتك إلا مزقها، ولا جماعة بعزتك إلا فرقها، ولا طائفة بقهرك إلا ألحقها بمن سبقها.
اللهم اشكر له عن محمد-صلى الله عليه وسلم-سعيه، وأنفذ فى المشارق والمغارب أمره ونهيه، وأصلح به اللهم برحمتك أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها.
اللهم ذل به معاطس آناف الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه برحمتك على الأمصار، وأثبت سرايا جنوده فى سبيل الأقطار.
اللهم ثبّت الملك فيه وفى عقبه إلى يوم الدين، واحفظه فى بنيه وبنى أبيه الملوك الكرام الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم وكما أجريت على يديه فى الإسلام هذه الحسنة التى تبقى على الأيام، وتتخلد على مرور الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدى الذى لا ينفد فى دار المتقين، وأجب دعوته ودعاءه فى قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى االِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ»}.
ونقل السلطان إلى البيت المقدس المنبر من حلب. وكان هذا المنبر قد أمر بعمله الملك العادل نور الدين الشهيد، لما كانت نفسه الزكية تحدثه أنه سيفتح القدس الشريف، فعمل هذا المنبر قبل فتح القدس الشريف بنيف وعشرين سنة.
قال صاحب هذا النقل: وكانت الفرنج-لعنهم الله-قد بنوا على الصخرة المقدسة كنيسة، وقطعوا منها جملة كبيرة، وغيروا أوضاعها، وبنوا على حيطانها أشباه الخنازير، وعملوا بها مذبحا، وعينوا بها مواضع الرهبان، ومحط الإنجيل، وأفردوا فيها لموضع القدم قبة صغيرة، مدهونة، ما بين الأعمدة الرخام. فلما نظر السلطان صلاح الدين إلى ذلك عظم عليه، وأمر أن تمحى جميع تلك الآثار. وأزال عن الصخرة ذلك البناء، وأبرزها حتى ينظر إليها. ولم تكن قبل ذلك يظهر منها إلا قطعة يسيرة.
وكان الفرنج قد قطعوا من الصخرة قطعة كبيرة، وسيروها إلى القسطنطينية،
(7/89)

وكذلك إلى صقلية، فكانوا يبيعون منها ملوك الفرنج وزنا بوزن من الذهب. وقيل إن بعض ملوك الفرنج خرج عن ملكه، وتولى خدمة ستارة الصخرة، إشفاقا عليها.
وكان كل ملك يأتى إلى زيارة القدس يتقصد أن يأخذ منها قطعة، بحسب البركة.
فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك أمر الفقيه ضياء الدين الهكارى أن يكون أمينا عليها. ثم أدار عليها صفائح من حديد. ثم حضر الملك المظفر تقى الدين عمر، وأحضر صحبته أحمالا من دمشق مملوءة ماء ورد، وتولى غسل قبة الصخرة بنفسه.
ثم أتى الملك الأفضل، وفعل كذلك.
ثم رتب السلطان صلاح الدين فى جامع الأقصى من يقوم بوظائفه، ورتب فى قبة الصخرة إماما حسنا، وأوقف عليه وقفا جيدا. وحمل إلى الجامع الأقصى مصاحف وختمات وربعات منصوبة على كراسى، ورتب له أوقافا جليلة، وعمل دار البطرك رباطا للفقراء.
وكانت قبور الفرنج من الديوية وغيرها مجاورة للصخرة، ونحو باب الرحمة، ولهم قباب معقودة، فأزالها السلطان صلاح الدين، ومحا آثارها، وأمر بغلق كنيسة قمامة.
ثم إن بعض الملوك قال: «نعم الرأى هدمها، ونخرب القبور التى بجوارها».
فقال بعض سراة الناس من العلماء-أظنه ابن شداد أو العماد الأصفهانى-: «إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضى الله عنه-لما فتح بيت المقدس استقر بهذه الأماكن على ما كانت عليه، ولو شاء لفعل ذلك». فقال السلطان: «نحن متبعين لا مبتدعين».
واستقر بالأشياء على حالها. وأن لا يغير إلا ما كان مستجدّا. فلما استقر الأمر كذلك، وردت عليه اللطائف التهانى بالقصائد من الفضلاء والأدباء والشعراء. فكان أول ذلك قصيدة الملك المظفر تقى الدين عمر:
(7/90)

دع مهجة المشتاق مع أهوائها … يا لائمى ما أنت من نصحائها
جاءتك أرض القدس تخطب ناكحا … يا كفؤها ما العذر من عذرائها
زفت إليك عروس خدر تنجلى … ما بين أعبدها وبين إمائها
إيه فخذها عاتق بكر فقد … أضحت ملوك الأرض من رقبائها
كم طالب لجمالها قد ردّه … عن نيلها أن ليس من أكفائها
وهى طويلة، وهذا ملخصها.
ومن شعر المظفر أيضا يخاطب عمه:
أصلاح دين الله أمرك طاعة … فمر الزمان بما تشاء فيفعلا
فكأنما الدنيا ببهجة حسنها … تحلا علىّ إذا رأيتك مقبلا
وكان-رحمه الله-فاضلا، متأدبا، حسن الشعر. وكان أخوه عز الدين فرخشاه نظيره فى ذلك. وأتى بيت الملك المظفر جميعهم كذلك. وناهيك بولده الملك المنصور، وسيأتى من ذكره ما يؤيد القول إنشاء الله تعالى. وكان السلطان صلاح الدين يحب الملك المظفر تقى الدين أكثر من محبته لسائر أهله، لما كان قد خص به من الشهامة والنجابة والإقدام العظيم، ولفرط طاعته لعمه صلاح الدين. ولأنه كان ألصقهم إليه قرابة، لأن والد المظفر، ركن الدين شاهنشاه-رحمه الله-كان أخا صلاح الدين لأمه وأبيه؛ والملك العادل، وتاج الملوك، وسيف الإسلام، كانوا إخوته لأبيه فقط.
وقتل ركن الدين شاهنشاه شهيدا على باب دمشق لما حاصرها الفرنج، ولم يدرك الدولة الأيوبية.
ثم وردت قصيدة القاضى هبة الله بن سناء الملك، يقول:
لست أدرى بأى فتح تهنّا … يا منيل الإسلام ما قد تمنّا
أنهنّيك إذ تملكت شاما … أم نهنيك إذ تملّكت عدنا
قد ملكت الجنان قصرا فقصرا … إذ فتحت الشآم حصنا فحصنا
قمت فى ظلمة الكريهة شمسا … فالبدر لا شك يطلع وهنا
(7/91)

لم تقف قطّ فى المعارك إلا … كنت يا يوسف كيوسف حسنا
قصدوا نحوك الأعادى فردّ … الله ما أملوه عنك وعنّا
حملوا كالجبال عظما ولكن … جعلتها حملات خيلك عهنا
جمعوا كيدهم وجاءوك أركانا … فمن هدّ فارسا هدّ ركنا
فكل من يجعل الحديد له ثو … با وتاجا وطيلسانا وردنا
خانهم ذلك السلاح فلا الرم‍ … -ح تثنى ولا المهند ظنا
وتولت تلك الخيول ولم … يتأنى عليها أنها لا تتأنى
وتصيّدتهم بحلقة صيد … تجمع الليث والغزال الأغنّا
صنعت فيهم وليمة عرس … لعب المشرفىّ فيها وغنّى
وحوى الأسر كل ملك يظن … الدهر يفنى وملكه ليس يفنى
والمليك العظيم فيهم أسير … يتثنى فى أدهم يتثنى
كم تمنّى الليالى حتى رآها … فتمنى أنه لا تمنى
ظن ظنّا وكنت أصدق فى … الله يقينا وكان أكذب ظنا
رقّ من رحمة له القيد … والغل عليه فكلما إن أنّ أنّا
واللعين الإبرنز أصبح مذبوحا … يهنى أنه مات منا
وتهادت عرائس المدن نخلا … وثمار الآمال منهن تجنى
لا يخص الشآم منك سرور … كل ربع وكل أرض تهنا
قد ملكت البلاد شرقا وغربا … وحويت الآفاق سهلا وحزنا
وتفرّدت بالذى هو أسمى … وتوحدت بالذى هو أسنى
فاغتدى الوصف فى علاك حسيرا … أى لفظ يقال أو أى معنى
هذا ربنا الإله قال أطيعوه سمعنا لربنا وأطعنا
(7/92)

وفيه وصل إليه رسل الخليفة يهنئونه بما فتح الله على يديه.
وفيها فتح عدة حصون، وهى: طبرية، والناصرة، وقيسارية، وصفورية، والطور، ونابلس، وحيفا، وصيدا، وبيروت، وعسقلان. ولم يبق فى هذه السنة بالساحل من حصون الفرنج غير عكا، فأخذها فى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، كما يأتى من ذكرها فى تاريخها.
(7/93)

ذكر سنة أربع وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع واثنى عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا.
ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين، مشمر الذيل فى إخماد جمرة الكفر، وقد نازل عكا. فلما وصل إلى تل الفضول مضمرا على الزحف عليها، إذ خرج إليه كبير من كبرائهم، وطلب الأمان من السلطان، وتضرع بين يديه، والناس قيام ينظرون. فرقّ السلطان ورحمهم، وأمنهم على أنفسهم وأهاليهم وجميع أموالهم. وخيرهم بين الإقامة فيها تحت أمانه وسلطانه أو الخروج عنها، فاختاروا الرحيل عنها، فخرجوا.
ودخل المسلمون إلى عكا يوم الجمعة ثانى جمادى الأولى من هذه السنة. وأخرج الأسرى من المسلمين، فكان عدتهم أربعة آلاف أسير. وسلم عكا لولده الملك الأفضل، وأنعم عليه بجميع ما فيها من أموال الفرنج وغلالهم، وحواصلهم.
وكتب له بذلك توقيعا متوجا بعلامته الكريمة، يتضمن تملكها لولده بجميع نواحيها. وجعل الفقيه الهكارى أمينا بها من قبل الملك الأفضل.
وكتب السلطان إلى أخيه الملك العادل بمصر يبشره بما فتح الله عز وجل عليه، ويأمره أن يخرج بالعساكر المصرية إلى بلاد الفرنج بالساحل من جهة الديار المصرية.
فخرج الملك العادل، ونزل على مجد ليابا، وفتحها، وغنم ما فيها.
وأحضر السلطان بهاء الدين قراقوش، وسلمه عكا نيابة عن ولده الملك الأفضل.
وخرج السلطان صلاح الدين وتوجه إلى حصن كوكب.
(7/94)

وفيها فتح البلاد الشمالية، وهى: جبلة، واللاذقية، وصهيون، وحصن بكاس، وسرمانية، وحصن برزية، ودرب ساك، وبغراس.
وفيها هادن السلطان لصاحب أنطاكية.
وفيها فتح الكرك، وصفد، وكوكب، وسبسطية، ونابلس، وصفورية.
وكان بنابلس خلق كثير فسألوا الإقامة بها فى مملكة السلطان، فأقرهم على أماكنهم وأملاكهم. ثم إنه كتب إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، يبشره بما فتح الله عز وجل على الإسلام، كتابا أوله يقول:
«بسم الله الرحمن الرحيم {(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}. . .) الآية {(أَنَّ الْأَرْضَ}. .) الآية». ثم كتب: «الحمد لله الذى أنجز لنا هذا الوعد، وعلى نصرته لهذا الدين من قبل ومن بعد، فجعل من بعد ذلك العسر يسرا، وقد أحدث الله من بعد ذلك أمرا، وهو الأمر الذى ما كان الإسلام يستطيع عليه صبرا، فآتانى الله ما جرى فى زمن الصحابة والأخرى، وأعتق الله ما كان من الأسارى بأيدى الكفار الأشرار، وأصبح جوار الإسلام وقد استدار، ورد من الكفر ما كان قد أشار. والحمد لله الذى أعاد ثوب الإسلام جديدا أبيضا نظره مخضرّا، بعد ما كان قد غلب عليه الكفر بهذه الديار حتى أعاده مغبرا. والحمد لله كما هو أهله، على اتساع ملك الإسلام واجتماع شمله. والمملوك يشرح من نبأ هذا الفتح العظيم، للنظر الكريم، ما يشرح به صدور المسلمين، وينتج الحبور لأمير المؤمنين. ويورد البشرى على ما أنعم الله به يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس الآخر، فذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما، سخرها الله على الكافرين، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية، فإذا رأيت ثم رأيت والبلاد
(7/95)

خاوية على عروشها، ورايات الكفر خاشعة، ورايات الإسلام طالعة، وسناجق المؤمنين ببركات أميرهم عالية كاسية، وقد كانت من الكفر ناكية باكية. وأخذ الله أعداءه بأيدى أوليائه أخذ القرى وهى ظالمة. وفى ذلك اليوم فتحت عكا بالأمان، ورفعت عليها أعلام الإيمان. وهى أمّ البلاد، وأحب إلى الكفر من {إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ}. وقد أصدر المملوك هذه المطالعة وصليب الصلبوت مكسور، وقلب البرنز مرجوف مكسور، والفارس مجدول، والراجل مقتول، والملوك ممسوكة، والدماء مسفوكة. والذى كان يظن أن عكا حصينة، فقد خيب الله عز وجل ظنه، والذى كان بماء المعمودية معمودا يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا. وعاد كل من كان فى الحرب منهم ذا همة ويقظة، لا يقبل منه عن نفسه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.
وطبرية فقد هدمت أعلام الشرك من عليها، وعكا فقد خاب وخسر من التجأ إليها، وقد سبيت نساؤها الأحرار، وعادوا لنساء الإسلام خداما وجوار، وكذلك عادوا مماليكا أولادهم الصغار؛ بعد من قتل من آبائهم من كل فاجر وكافر، وصارت الكنائس مساجدا يعمرها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. وعادت البيع مواقفا لخطباء الإسلام على المنابر. وعمرها الله بالتوحيد وأهله، مكان كل مشرك وكافر.
وأما فرسان الديوية والإسبتار، فقد عجل الله تعالى بأرواحهم إلى النار، وقد نزل بهم إلى أسفل الجحيم، مصفدين مقرنين مع الشيطان الرجيم، فليأخذ حظه من هذه البشرى مولانا أمير المؤمنين، فقد قطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين».
وفيها وردت قصيدة الشريف النسابة محمد بن أسعد بن على بن معمر الحسينى نقيب الأشراف على السلطان صلاح الدين، يهنيه بما فتح الله على يديه يقول:
أترى مناما ما بعينى أبصر … والقدس يفتح والصليب يكسّر
وقمامة قمّت من الرجس الذى … بزواله وزوالها يتطهّر
(7/96)

ومليكه فى القيد مأسورا ولم … يرى قبل ذلك ملوك تؤسر
قد جاء نصر الله والفتح الذى … وعد الرسول فسبحوا واستغفروا
فتح الشآم وطهر القدس الذى … هو فى القيامة حيث قام المحشر
من كان فتحه لنصرة أحمد … ماذا يقال له وماذا يذكر
يا يوسف الصديق أنت لفتحها … فاروقها عمر الإمام الأطهر
ولأنت عثمان الشريعة بعده … ولأنت فى نصر النبوة حيدر
(7/97)

ذكر سنة خمس وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها.
وفيها خطب لولى العهد-عدة الدنيا والدين-أبى نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله، بأمر والده، فخطب له فى سائر الممالك الإسلامية.
وفيها كانت الوقعة العظمى مع الفرنج، وأخذت عكا، وقتل من كان بها فى سبيل الله تعالى. وهذه الوقعة التى لم يعهد بمثلها فى جاهلية ولاإسلام.

ذكر الوقعة الكبرى على عكا
وذلك أن السلطان صلاح الدين، لما فتح هذه الفتوحات العظام، وأذل الكفرة اللئام، وطهّر القدس من الأرجاس والآثام، وفتح عكا وهى كرسى مملكة الملاعين، وأخلاها من كل كافر لعين، أمر بتجديد سورها، وبناء ما تشعث من ديورها، وعمارة قصورها ودورها. وأمر الملك المظفر أن ينظف الساحل من جميع الفرنج، ففعل ذلك، ولم يبق فى الساحل حصن ولا معقل إلا وقد علاه الأذان، وسكنته حملة القرآن، وخلا من عبدة الصلبان. فعند ذلك تكاتبت ملوك الفرنج فيما بينهم، لما قد جرى على الكفر وأهله، والصليب وذله، فانتخوا لدينهم، وأجمعوا ذات بينهم، على اجتماع كلمتهم، والقيام فى نصرة ملتهم، فاجتمعوا برّا وبحرا، وسهلا ووعرا، واستصحبوا القساوسة والرهبان، والبطرك الكبير والديان، بعد ما طاف جميع
(7/98)

الجزائر والبلدان، على عبدة الصلبان، وصوروا بكفرهم صورة على أنها صورة المسيح عليه السلام، وأسالوا على وجه الصورة الدماء، وأقاموا صورة إعرابى، وقالوا هذا نبى المسلمين قد جرح المسيح، وأجرى دمه على وجهه، فانهضوا لنصرته، وخذوا بثأره. فلم يبق منهم ملك من الملوك، ولا غنى فيهم ولا صعلوك، إلا انتخى لمصابهم، وسمع لهم وأجابهم.
أجمع أهل التاريخ ممن عنى بجمع أخبار العالم-رحمة الله عليهم-أن هذه الوقعة لم يسمع بمثلها من أول زمان وإلى ذلك التاريخ، فإن بلاد الروم خرجت عن بكرة أبيها، من سائر قلاعها ومدنها وحصونها، وأبذلوا الأموال للفرسان والرجال، وباعوا أنفسهم للمسيح. ووردوا من البر والبحر بالخيل والرجل، يقدمهم القسوس والرهبان، وقد لبسوا السواد. والبطرك قد حرم عليهم، وقالوا موتوا فى هذه الأرض المقدسة، فهو خير لكم.
وكان السلطان صلاح الدين مخيما على شقيف أرنون، فلما بلغه ذلك من قصد الفرنج عكا فى هذه الجموع العظيمة، خشى عليها، وتوجه يقحم خيله ليسبق بالنزول عليها، وتبعته العساكر أولا فأولا، فلم يدرك عكا حتى سبقته الفرنج، ونزلوا عليها برّا وبحرا فى عدد لا يحصى، كأنهم الجراد المنتشر، وذلك لما أراده الله تعالى من سعادة المحصورين بها، وأن يكونوا من الشهداء الفائزين بجنات النعيم، وهو النعيم المقيم.
وكان وصول الفرنج إلى عكا ونزولهم عليها رابع عشر شهر رجب من هذه السنة.
ووصل السلطان خامس عشرة، فسبقوه بيوم واحد، لما يريده الله عز وجل. وتلاحق به العساكر ونزلوا يوم الجمعة على الخروبة. ونزلت الفرنج على عكا من كل جهة برا وبحرا. ونزل جيش السلطان صلاح الدين أول ميمنته بالنواقير بالبحر، وآخر ميسرته القيمون. وأمر الناس أن يثبوا للقتال وإشغال الفرنج عن لجاجة الحصار على عكا، فتقدمت الميسرة إلى طريق النهر الحلو، وآخر الميمنة مقابل تل العياضية، واحتاطت
(7/99)

عساكر الإسلام بالعدو المخذول، والفرنج الملاعين لا يشغلهم عن حصار عكا شاغل، بل مجتهدين غاية الاجتهاد. والمسلمون بعكا لم يغلقوا لها بابا، والسلطان صلاح الدين يناوشهم القتال من جهة القلب.
ووصلت ملوك الإسلام، ووصل من الشرق مظفر الدين [كوكبورى] ابن زين الدين على كوجك. ووصل حسام الدين سنقر الأخلاطى. ولم يزل القتال كذلك بين الفئتين مناوشة إلى يوم الأربعاء، لتسع بقين من شهر شعبان، خرجوا الفرنج-خذلهم الله-فارسهم وراجلهم، وتحركوا حركة عظيمة، ارتجت لها الأرض، وبين أيديهم الإنجيل محمولا على يد البطرك، مستورا بثياب الأطلس. وركب السلطان صلاح الدين، فى جيوش الموحدين، ونادى مناديهم: «هيا يا أمة محمد المختار! عليكم بالكفرة الفجار! فهذا يوم وعد الله فيه الصابرين بالحور العين. أما ترضوا أن تبيعوا أنفسكم بالجنان، ومجاورة الرحمن، فى دار لا يحزن مقيمها، ولا يفنى نعيمها، ولا ينفد سرورها، ولا يبرح حبورها. يا خيل الله اركبى، وبالجنة أبشرى». قال:
فركب الناس وقد أباعوا أنفسهم لله، وقد وثقوا بما وعدهم به الله فى كتابه العزيز العظيم، على لسان نبيه الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكان السلطان صلاح الدين فى القلب، وولده الملك الأفضل فى الميمنة، وولده الظافر فى الميسرة. وكان مما يلى القلب سيف الدين على بن أحمد المشطوب ملك الأكراد، فى خلق عظيم من المهرانية والهكارية وغيرهم. ومحاذيه مجاهد الدين برنقش مقدم عساكر سنجار، وخلق كثير من المماليك الترك. ولم يكن عليهم مقدما، فيذكر عن الفقيه الهكارى-أمين القدس المقدم ذكره-قال: «إن السلطان صلاح الدين شاهدته بعينى وهو يدور بنفسه على جيوش المسلمين، ويحرضهم على القتال، ويقول لهم إنى كأحدكم، فلا يطلب اليوم أحد منكم غير رضى ربه».
(7/100)

ثم التقى الجمعان، فبدرهم الملك المظفر بالجاليش، فتكاثروا عليه، وكان فى طرف الميمنة على البحر. فلما رأى السلطان ذلك خاف عليه، فحرك بنفسه نحوه.
وكان المظفر قد تقهقر إلى ورائه قليلا، لما رأى من كثرتهم عليه. فلما رأى السلطان صلاح الدين ذلك حرك نحوه. فلما عاين الجيوش تأخر المظفر وتحريك صلاح الدين شوقا إليه، ظنوا أنها كسرة، فانهزم المسلمون. وكانت أهل الديار البكرية ليس لهم خبرة بقتال الفرنج، فولوا هاربين لا يلووا على شئ. ووصلت طائفة من الفرنج إلى مخيم السلطان، وجالوا حوله ساعة.
وأما ميسرة المسلمين، فإنها ثبتت قليلا، وصار السلطان دائر بين العسكرين، ومعه القضاة، والفقهاء، والخطباء، وأكابر الأشراف، وهو يستوقف الناس، ويحضهم وهم لا يلوون. قال الفقيه الهكارى يحلف بالله أنه لم يبق مع السلطان سوى خمس نفر. وأما المنهزمون من المسلمين فإنهم وصلوا دمشق، وهم الميمنة. والميسرة وصلت طبرية. ثم اجتمع على السلطان الناس أرباب المروءات، فحمل على العدو بنفسه فى شرذمة يسيرة، فطرحوا من الفرنج جماعة جيدة. وجاء نصر الله والفتح، وأيّد الله الإسلام على عوائده الجميلة، فكان كما قال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ»}. فولى الفرنج منهزمين، فظنوا أن الجيوش تراجعت عليهم. وركبت تلك الفئة القليلة أكتافهم قتلا بالسيف، وضربا بالدبوس. وعاد الملك المظفر وكذلك جناح الميسرة. وتداعت الناس، وتراجعوا من كل مكان.
(7/101)

قال الفقيه الهكارى: إن السلطان لما رد على الفرنج، لم يكن معه من الناس ما يلحق الألفين فارس، وكان الفرنج فى أربعمائة ألف أو يزيدون. ولقد ذكر جماعة من المسلمين الكبار، ممن كان مع السلطان عند رجوعه على الفرنج؛ منهم الأمير سيف الدين غازى، وعز الدين القيمرى، وحسام الدين المهرانى المعروف بابن كردم قالوا وحلفوا-وهم أمناء القول صادقين اللهجة-أن كل واحد ممن كان مع السلطان قتل من الفرنج الثلاثين والأربعين والخمسين وأكثر، وأن الواحد منا كان إذا قرب مع مطلوبه من خيالة الفرنج ويرفع يده بسيفه ويريد ضرب عنقه ينظر إلى رأسه وقد طارت عن بدنه من قبل أن يصل إليه السيف. وهذا تأييد من الله عز وجل، ومما يدل على صحة القول أن الملائكة تقاتل مع الإسلام.
قال: ولم يزل المسلمون فى أكتاف المشركين إلى أن تحصنوا بالأسوار التى كانوا صنعوها لهم، وعادوا يقاتلون من ورائها، فعند ذلك قال السلطان صلاح الدين:
«الحمد لله الذى نصرنا حتى عادوا متحصنين بالأسوار». ثم رجع إلى دهليزه ومخيمه، ووقف أصحابه بين يديه وهم بالدماء مخضبين، فرحين بما من الله عز وجل عليهم، وبما يسره من نصرهم، وتذاكروا من استشهد منهم، وأخرجوهم من بين قتلى الفرنج، وصلوا عليهم، وواروهم بدمائهم التراب. ثم أمر السلطان بالانتقال من تلك المنزلة إلى منزلة تعرف بالخروبة، وكان ليس برأى جيد، فلو كان أقام مع مشيئة الله -عز وجل-لكان أصلح. وحسب السلطان حساب أن جيشه ضعف حاله، لما نهب لهم عند هزيمتهم، وأنهم تشتتوا فى البلاد. وخشى لأن تكبسهم الفرنج، فلا تقوم لهم بعدها قائمة، فتحول لهذا السبب، ليجتمع إليه العساكر ويعود المنهزم، ويتكامل الجيش.
وكان ملك الفرنج الكبير يسمى الأنكتير مريضا على حظه، واشتغل الفرنج بمرضه، واشتغل السلطان صلاح الدين بتدبير أحوال جيوشه. هذا، والرسل تتردد منهم طول بقية هذه السنة.
(7/102)

وفيها توفى زين الدين يوسف بن زين الدين على كوجك صاحب إربل، فى الثامن والعشرين من شهر رمضان. وسير أخوه مظفر الدين يسأل السلطان أن يكون عوضا عن أخيه فى الخدمة، وأنه ينزل عن حران والرها وسميساط والموزر، وخدم بخمسين ألف دينار نقدا، فأجيب إلى ذلك، وأضيفت هذه البلاد-التى استرجعت-إلى الملك المظفر تقى الدين عمر صاحب حماه. وكتب لمظفر الدين بما سأل، وكتب إلى صاحب الموصل كتاب الوصية بمظفر الدين. واستقرت بيد الملك [المظفر] تقى الدين من البلاد ما نزل عنها مظفر الدين، مع ما بيده من ميافارقين.
هذا ببلاد الشرق. وأما [ما كان بيد الملك المظفر فى] بلاد الشام، فحماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلا طنس وغيرها.
وفى هذه السنة ولد الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين. ووصل إلى السلطان كتاب فاضلى بالبشارة ضمنه: «يقبل الأرض بين يدى مولانا الملك الناصر، دام رشاده وإرشاده، وزاد سعده وإسعاده، وكثرت أولياؤه وعبيده وأعداده، واشتد بأعضاده فيهم إعتضاده، وأنمى الله عدده حتى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده. وينهى أن الله-وله الحمد-رزق الملك العزيز عز نصره ولدا، ذكرا، برّا، مباركا، زكيا، سويا، تقيا، نقيا، ذرية كريمة بعضها من بعض، من بيت شريف كادت ولاته تكون ولاة فى السماء، ومماليكه تكون ملوكا فى الأرض.
وكان مقدمه الميمون ليلة الأحد، وهى من الجمعة أولى العدد، وبه وبآله يعز الله أهل الجمعة، ويذل أهل الأحد».
(7/103)

ذكر سنة ست وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وخمسة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الحكم، مطاع الأمر فى أقطار الأرض. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها، وهو فى حرب الفرنج على عكا حسبما تقدم من الكلام فى السنة الخالية. وحصار عكا باق من جهة الملاعين. وكانوا قد بنوا أبرجة عظيمة بظاهر عكا، وعادوا يقاتلون أهلها من عليها. فلما كان ظهر يوم السبت ثامن عشر ربيع الأول من هذه السنة أحرقت أهل عكا تلك الأبرجة بالنفط. وعظم ذلك على الفرنج، كأنهم كانوا استظهروا عليهم بها.
وفيها وصل إلى خدمة السلطان صلاح الدين جماعة من ملوك الإسلام، وهم: الملك العادل عماد الدين زنكى بن مودود، وابن أخيه معين الدين سنجر شاه، والملك السعيد علاء الدين صاحب الموصل، [وزين الدين يوسف] صاحب إربل. وكان فى ذلك حروب ومناوشات بين الفريقين، وقتل من الطائفتين خلق عظيم. هذا والرسل تتردد بينهم، وكل من الجمعين خائف من الآخر. وكان السلطان صلاح الدين رجلا مسلما، ساذج الباطن، مستسلم النية، كثير الدين، خال من المكر والخداع، صادق القول، عديم الكذب والسفه. وكان الفرنج يتحققون منه ذلك، فعادوا يشغلونه بالمراسلات والمواعيد الكاذبة، ويسوفوا به الأوقات إلى حين تعافى
(7/104)

ملكهم من علته، فعادوا وغدروا فى جميع ما قرروه بينهم، وجدّوا فى حصار عكا.
وكان ذلك بعد مضى سنة ست وثمانين، ودخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
وفيها وصل إلى أنطاكية ابن ملك ألمان نجدة للفرنج. وكان أبوه قد خرج من بلاده فى مائتى ألف مقاتل من أول سنة ست وثمانين. ووصلت الأخبار إلى السلطان بذلك، فضاق صدره لذلك. وعبروا على قسطنطينية، ولم يقدر ملك الروم على دفعهم. وكذلك دخلوا فى بلاد الروم بقونية، وحصل بين صاحب الروم وبينهم مصافا، فكسروه، وقتلوا شجعانه، وقالوا له: «لسنا نريد بلادك»، فهادنهم.
وآخر الأمر، أن الله تعالى كفى شرهم، ورمى فيهم المرض والموت، وهلك طاغيتهم.
وأوصى لولده، ولم يصل إلى أنطاكية إلا فى دون الخمسة آلاف من مائتى ألف، فهذا تأييد إلهى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
(7/105)

ذكر سنة سبع وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم ببلاد العجم.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها، وهو فى قتال الفرنج على عكا. والحصار باق، وقد ضعف حال المسلمين الذين بعكا، وقل جلدهم، ونفد صبرهم. فلما كان يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة من هذه السنة نفّذ أهل عكا من المسلمين يقولون للسلطان: «نحن والله قد عجزنا عن القتال، وقد بلغنا غاية لا بعدها غاية، ولم يكن بقى لنا غير التسليم. ونحن نهار الغد نسلّم إليهم ونطلب الأمان إذا لم تفعلوا معنا شيئا يخلصنا مما نحن فيه». فكان ذلك أصعب شئ جرى على السلطان.
قال الفقيه الهكارى راوى هذا الحديث: «والله لم يستطعم السلطان بطعام ذلك اليوم مع تلك الليلة». فلما كان صبيحة ذلك اليوم، ركب السلطان صلاح الدين فى سائر الجيوش، وقصد الفرنج، ووصل إلى حيث وقف بخنادقهم، وزحف حتى دخل بعضها، وهو كالوالدة الثكلى على ولدها، ويسير بين العساكر ويحثهم على القتال، وينادى: «يا للإسلام! يا لدين محمد عليه السلام!» وعينيه تذرفان بالدموع. ودام ذلك اليوم ولم يقدر المسلمون على شئ يفعلوه مع الفرنج. وسبب ذلك أن الرجال من الفرنج لبسوا العدد، ووقفوا فى سائر السور من خارجه ومن داخله، بالشروخ والزنارات، والنشاب. ثم إن الملاعين جدوا فى الحصار، وتمكنوا من الخنادق
(7/106)

فملكوها، ونقبوا أسوار البلد وحشوه خشبا وأحرقوه، فوقعت الباشورة وهى بدنة السور، فدخل الفرنج إليها وقتلوا من المسلمين جماعة، وقتل المسلمون من الفرنج خلقا عظيما من جملتهم ست ملوك، وقبضوا على أحد ملوكهم الكبار فى بعض الثقوب، فقال لهم: «لا تقتلونى وأبقونى أرحل عنكم الفرنج». فلم يرجعوا له وقتلوه. فلما بلغ الملاعين قتل ملكهم التزموا أنهم لا يبقوا فى عكا من يقول «لا إله إلا الله».
ثم جدوا فى الزحف ثلاثة أيام جدا عظيما. كل ذلك حزنا على ملكهم.
ثم إن السلطان صلاح الدين بعث إليهم سيف الدين المشطوب يطلب الصلح منهم.
وفى جملة كلامه: «إنا نحن أخذنا منكم بلادا كثيرة وحصونا كثيرة وإنا لم ننزل على بلد ولا قلعة وطلبوا منا الأمان والصلح إلا أجبناهم لذلك. فافعلوا أنتم أيضا كذلك». فما كروا السلطان، وسيروا يطلبوا منه القاضى نجيب الدين المالكى ليقرروا أمر الصلح بينهم، وكان ذلك كله مكر منهم وخديعة، حتى يشغلوا السلطان عنهم، ويتمكنوا من أخذ البلد. فلما كان يوم الجمعة، وصل عوام من البلد بكتاب من أهل عكا يقولون: «أن قد ضاق الأمر، ولا بقى لنا خلاص، وقد طلب منا الفرنج مائتى ألف دينار، وألفى وخمسمائة أسير، وثلاثة آلاف ثوب أطلس، وصليب الصلبوت، على أننا نخرج بنفوسنا، لا سواها». فلما وقف السلطان على ذلك أنكره، وعظم عليه. فبينما هو كذلك إذ وقعت الضجة، ورفعت أعلام الشرك على أبراج البلد، وصرخ الملاعين صرخة واحدة تزلزلت لها الأرض. وكان ذلك يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة. فعظم ذلك على المسلمين، وكثر قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم».
وعن القاضى بهاء الدين بن شداد-صاحب سيرة السلطان صلاح الدين-قال:
وصلت إلى السلطان صلاح الدين فى ذلك الوقت الذى أخذت فيه عكا، فوجدته يبكى بكاء عظيما، فجلست إليه، ثم ذكرته بما فتح الله عز وجل على يديه من بلاد
(7/107)

الكفر، وما قتل من رجالهم، فنظر إلىّ وهو مخنوق بعبرته، وقال: «كيف لى بخلاص المأسورين من أيدى المشركين؟».
ثم أمر بالرحيل من تلك المنزلة إلى المنزلة الأولى [بشفرعم]. وجرد ألفى فارس فى مكانه لينظروا ما يكون من أمر البلد والمسلمين المأسورين. وكان فى جملة المأسورين بهاء الدين قراقوش الأسدى، الذى بنى سور القاهرة، وعمل الروك بالديار المصرية، فأفدى نفسه بجملة كبيرة. ثم إن الملاعين قتلوا سائر من كان بها من المسلمين، إلا من كان فى أجله تأخير.
فلما كان نهار الخميس سلخ جمادى الآخرة، ركبوا الملاعين، خيلا ورجلا، واصطفوا ميمنة وميسرة، وتواقعوا مع يزك المسلمين، فأردف السلطان اليزك بعشرة آلاف فارس، فكسروا الملاعين، وتبعوهم إلى خندقهم. فلما كان ثامن رجب الفرد، حضر صحبة حسام الدين حسين بن باريك المهرانى فارسان من الفرنج من عند الملك الكبير ملك الفرنج، فقدموا بين يدى السلطان، وسألوه عن صليب الصلبوت الذى أخذه من بيت المقدس، وقالوا: «إن وجدناه تحدثنا فيما يعود نفعه على الطائفتين، ويكون فيه المصلحة» فأمر السلطان بإحضاره. فلما عاينوه، خروا له ساجدين على وجوههم، ومرغوا خدودهم على الأرض، ثم عادوا إلى ملكهم.
ولما كان الحادى والعشرين من رجب، خرج الملك الأنكتير-لعنه الله-ومعه جماعة من الخيالة، وساروا نحو تل العياضية، ثم أحضروا جماعة من أسرى المسلمين، ممن كانوا بعكا وسلموا ذلك اليوم من القتل. فأراد الله لهم بالشهادة، وختم لهم بالسعادة، وأوقفوهم، وأرموا فيهم السيف. فلما نظر المسلمون بوارق السيوف، ساقوا نحوهم، ثم أعلموا السلطان بذلك، فركب، وركبت العساكر، وركب الفرنج بأجمعهم من عكا. والتقى الجمعان، وقتل بينهم خلق كثير. وكانت وقعة شديدة،
(7/108)

انكسرت الفرنج فيها كسرة عظيمة. وذكر أن عدة من كان بعكا من المسلمين ممن قتل سوى من نجا خمسة آلاف نفر وسبعمائة نفر. ولما كان نهار الأحد ثالث ذى القعدة رحل الفرنج إلى الرملة، وتوجهوا لبيت المقدس. ثم كان بينهم وبين المسلمين وقائع وحروب يشيب لهولها الطفل الوليد.
ودخل الشتاء وقويت الأمطار إلى سبع بقين من ذى الحجة وصل السلطان صلاح الدين إلى القدس الشريف. ونزل بدار الأقساء مجاور كنيسة قمامة. وكان قد وصل فى ثالث ذى الحجة عسكر مصر مع أبى الهيجاء. فلما بلغ الفرنج ذلك تحولوا إلى النطرون. ثم كان بينهم وبين المسلمين-وهم اليزكية-وقعة. ثم كان بينهم وبين الأمير سابق الدين صاحب شيزر وقعة عظيمة، انكسرت فيها الفرنج كسرة شنيعة، وتسلقوا فى الجبال، وأخذت خيولهم. وحاصرهم المسلمون فى قلعة النطرون. ثم وصل عدة من الحجارين من عند صاحب الموصل بسبب تحصين خندق بيت المقدس. وعمل السلطان صلاح الدين بنفسه فيه، وكذلك سائر الملوك مع كافة الجيوش.
وفى هذه السنة توفى القاضى شرف الدين بن عصرون قاضى القضاة بدمشق، وكان أوحد أهل زمانه فى الأربع مذاهب.
وفيها ظهر بمصر رجل منجم يقال له ابن السنباطى، فأقلب رءوس السودان وقوم من المغاربة يقال لهم «المصامدة»، وقال لهم: «أنتم تملكوا الديار المصرية فى الليلة الفلانية بعد المغرب». فاستعدوا بقوارير نقط، واجتمعوا بحارة بر المدينة، وهى الهلالية، وشربوا المزور إلى بعد العشاء، دخلوا حمية واحدة من باب زويلة، وأخذوا ما قدروا عليه من العدد، وأتوا إلى خزانة البنود ليخرجوا من كان بها من المسجونين، وهم مع ذلك يصيحون: «يا آل على». وأتوا إلى السيوفيين، وكسروا الدكاكين،
(7/109)

وأخذوا السيوف والعدد. ثم ركب الأمير بدر الدين بن موسك بعسكره، فمسك الجميع، والمنجم، وقتلوا عن آخرهم.
وفيها أخرب السلطان صلاح الدين عسقلان.
وفيها توفى الملك المظفر تقى الدين عمر، وهو محاصر لملاذكرد، وذلك يوم الجمعة لإحدى عشر ليلة بقيت من شهر رمضان المعظم. وكان ولده الملك المنصور فى صحبته، فأخفى موته، وعاد به إلى مدينة حماه، فدفن بها. واستقر [الملك المنصور] بملكه-حماه وما معها. وخرج عنه ما كان بيد أبيه من بلاد الشرق، واستقر بها الملك العادل سيف الدين أبو بكر، حسبما نذكر من ذلك. وفيها توفى الشيخ نجم الدين الخبوشانى الشافعى، رحمة الله عليهما.
(7/110)

ذكر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وثلاثة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين نافذ الحكم، مطاع الأمر.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام. واستولت الفرنج-خذلهم الله-على قلعة الداروم وهدموها، ورحلوا عنها.
وفيها حصلت المهادنة والصلح بين السلطان صلاح الدين وبين الفرنج على شروط اشترطوها بينهم، وقطعوا المدة ثلاثة أشهر بعد ثلاث سنين، وقيل ثمانية أشهر.
وفيها توفى الفقيه نجم الدين بن شرف الإسلام رحمه الله تعالى، وكان أوحد أهل زمانه فى الفتيا والفقه، وكان حنبلى المذهب. وتوفى موفق الدين خاله ابن القيسرانى وزير نور الدين بحلب. وتوفى قطب الدين بن العجمى بحلب، رحمهما الله تعالى.
وفيها توفى السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان ابن قطلمش بن أرسلان السلجوقى سلطان الروم، وكان له نحو عشر بنين. وقد ولّى كل واحد منهم قطرا، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه، وكانت له سيواس، فعمل على أبيه حتى خلعه من ملك قونية وملكها لنفسه، واعتقل أباه. ثم خلص من الاعتقال وتوصل إلى ابنه نور الدين سلطان شاه، فأكرمه، وعاد إلى ملكه، وتوفى فى هذا التاريخ. وملك بعده ولده غياث كيخسرو فى حديث طويل. ثم [غلب على غياث الدين أخوه] ركن الدين سليمان، وهرب غياث الدين إلى الشام مستجيرا
(7/111)

بالملك الظاهر صاحب حلب. ثم مات ركن الدين سنة ستمائة وملك ولده قلج أرسلان.
ورجع غياث الدين فملك قونية، واستقرت السلطنة له حتى توفى، وملك بعده ابنه عز الدين كيكاوس، وكانت له حروب مع الملك الأشرف موسى بن العادل. ثم توفى [كيكاوس] وولى أخوه علاء الدين كيقباذ. ثم توفى [كيقباذ] سنة أربع وثلاثين وستمائة، وولى بعده ولده غياث الدين كيخسرو الذى كسره التتار كسرة عظيمة سنة إحدى وأربعين وستمائة، وتضعضع حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم وأعمالها، حسبما نذكر بعد ذلك إن شاء الله.
(7/112)

ذكر سنة تسع وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وثلاثة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الأحكام، مطاع الأوامر، فى سائر أقطار الأرض. والسلطان صلاح الدين إلى أن توفى فى هذه السنة إلى رحمة الله، ورحيب جنانه، بكرة يوم الأربعاء سابع عشرين شهر صفر من هذه السنة، بمدينة دمشق المحروسة.

ذكر وفاة السلطان صلاح الدين رحمه الله
كان السلطان صلاح الدين لما تفرغ قلبه من جهة الفرنج-خذلهم الله تعالى- قد عاد إلى دمشق وهو فى أسر الأحوال وأحسن الأمور، ورسل الملوك واردة عليه من كل جهة بالهدايا والتحف والمراسلات الحسان، وهو يجلس كل يوم للمظالم، وإسداء المكارم، وإنصاف المظلوم من الظالم. ثم خرج إلى الصيد شرقى دمشق فغاب خمسة أيام. وكان معه أخوه الملك العادل، فودعه من البرية وأمره بالمسير إلى الديار المصرية، وأوصاه بالملك العزيز. وعاد السلطان إلى دمشق، فحصل له توعك، ثم قوى.
وعن القاضى بهاء الدين بن شداد قال: حضرت من القدس لما طلبنى السلطان على البريد. فلما مثلت بين يديه قربنى وأجلسنى، ثم قال لى: «من بالباب
(7/113)

جالسا؟». قلت: «الملك الأفضل ولدك، والناس وقوف بين يديه». فنهت ودمعت عيناه وقال: «أف للدنيا ماذا تغير من الأحباب على الأحباب». ثم قال: «اخرج إليهم وعرفهم بعض ما أنا فيه».
وعن القاضى الفاضل قال: حضرت عند السلطان صلاح الدين فى مرضه، فأمر بطعام، فقدم وقد جلس الملك الأفضل فى دست أبيه، فقال لى: «يا قاضى اخرج وانظر الناس كيف هم بعدى». قال، فخرجت، فلما رأيت ولده مكانه، رجعت وقد عميت من البكاء، وكذلك بكى كل من حضر. وكان أشد يوم على الناس.
ثم إن السلطان صلاح الدين ثقل فى المرض. وعن إمام الكلاسة قال:
حضرت عند السلطان صلاح الدين لما أمرنى ولده الملك الأفضل أن ألقنه الشهادة، فوجدته قد غاب ذهنه، فقرأت {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ}». قال فسمعته يقول: «نعم هو كذلك». قال الشيخ: فقلت فى نفسى هذه عناية من الله تعالى بهذا الرجل فى دنياه وآخرته. قال الشيخ: ثم قرأت -وقد غاب ذهنه أيضا-إلى أن انتهيت إلى قوله تعالى {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}». قال الشيخ: فرأيته وقد تبسم وتهلل وجهه، وفاضت نفسه، رحمه الله تعالى.
وعن القاضى الفاضل قال: لما مات السلطان صلاح الدين-رحمه الله تعالى- حصرنا تركته، فوجدنا فى خزائنه أحد وأربعين درهم، ودينار واحد صورى.
هذا كان ملكيته لنفسه فى ذلك الوقت.
وتوفى وله من العمر سبع وخمسين سنة. وكان مولده سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة بتكريت. وكانت مدة مملكته بالديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة. وملك الشام بعد نور الدين وولده الصالح نحوا من تسع عشرة سنة.
(7/114)

أجمع الرواة أنهم لم يسمعوا ولا رووا عن ملك أسمح ولا أجود من السلطان صلاح الدين-رحمه الله-ولا أشجع نفسا، ولا أنصر لملة محمد صلى الله عليه وسلم.
وفى ذلك يقول ابن أسعد الفقيه الشافعى من قصيدة امتدح بها السلطان صلاح الدين رحمه الله:
وأبلج يستهين الموت يلقى … بصفحة وجهه بيض الصفاح
جواد بالبلاد وما حوته … إذا جادوا بربّات اللقاح
من النفر الذين إذا تجلوا … أعادوا الليل أجلى من صباح
فمن حاتم وكعب وابن سعدى … رعاة الشاة والنعم المراح
فللاّحين والراجين منه … أعز حمى وأكرم مستباح
يفيض بطون راحهم نوالا … وتستلم الملوك ظهور راح

ذكر عدة أولاده الملوك
خلف سبع عشر ولدا ذكرا وبنت واحدة، وهم: الملك الأفضل نور الدين على، وكان أكبر ولده، وولىّ عهده، مولده بمصر يوم عيد الفطر سنة خمس وستين وخمسمائة. وكان يوم مات أبوه وولى الملك بدمشق عمره أربع وعشرين سنة وأشهر، والله أعلم.

الملك العزيز
عماد الدين عثمان صاحب مصر، مولده بالقاهرة، ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين، وكان أصغر من أخيه الأفضل بسنتين وشهرين.

الملك الظاهر
غياث الدين غازى صاحب حلب، مولده بالقاهرة نصف شهر رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة. وكان أصغر من العزيز بسنة وأشهر.
(7/115)

والملك المفضل قطب الدين موسى. والملك الزاهر مجير الدين داود. والملك الظافر مظفر الدين خضر. والملك المؤيد نجم الدين مسعود. والملك الأغر شرف الدين يعقوب.
والملك المعز فتح الدين إسحاق. والملك الجواد ركن الدين أيوب. والملك الموفق نصرة الدين إبراهيم. والملك الأشرف نصير الدين محمد. والملك المعظم توران شاه.
والملك الغالب ملكشاه. والملك المحسن يمين الدين أحمد. والملك المنصور سيف الدين أبو بكر. والملك الأمجد عماد الدين شاذى.
ومات-رحمه الله-عن اثنين صغار ذكور. والبنت تزوجها بعد ذلك السلطان الملك الكامل ابن عمها، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى موضعه.
وعن القاضى بهاء الدين بن شداد قال: والله مات السلطان صلاح الدين -رحمه الله-ولم يترك دارا ولا عقارا ولا ملكا ولا ضيعة ولا فضة ولا ذهبا إلا ما ذكر أنه وجد بخزانته، ولا رغب فى زخرف الدنيا ولا فى أعراضها -رحمه الله عليه-وعوّضه النعيم المقيم، بجوار الرحمن الرحيم.

ذكر بعض محاسنه رضى الله عنه
قال العبد المؤلف لهذا التاريخ أبو بكر بن عبد الله الدوادارى-عفا الله عنه-:
أما ذكر محاسن السلطان الشهيد صلاح الدين وبعض مناقبه، فقد افترد بذلك مصنف سيرته، والمطلع على أخباره، والحاضر لمآثره وآثاره، القاضى المرحوم بهاء الدين ابن شداد، وذكر ذلك بلسان أنطقه فرح العطاء، فأخرس بنطقه فصيح القطاء، حتى لم يترك لقائل مقال، ولا لحصّار قريحة من مجال. وأما ما ذكره أبو المظفر
(7/116)

الذى هذا التاريخ من أساس تاريخه نشئ، ومن حشو حلاوة لوزينجه حشى، فقال: كان السلطان صلاح الدين ملكا شجاعا مقداما، سمحا معطاء، كريما جوادا، حسن الملتقى، صاحب بشاشة وهمة ويقظة وتفكر فى مصالح المسلمين، شريف النفس، عالى الهمة، عزيز المروءة، واسع الصدر، كثير الحياء، قليل السفه، عظيم الحرمة، شديد الهيبة، متزهدا عن أعراض الدنيا، غير متطلع لما فى أيدى الناس، يحبّ أهل الفضل والعلم والأدب، متواضع لأهل العلم والشرع، حسن التدبير، ليس له همة فى لذّات الدنيا وزخارفها، مشتغل لما استعمله الله-عز وجلّ-فيه من سائر الأمور الدينية، أكبر همه الجهاد فى سبيل الله، وقيام منار الإسلام، وإخماد جمرة الكفر.
يرى نفسه كأحد من الناس.
ورأيت فى مسوداتى أن لما فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس، واستنقذه من يد الكفر، فى شهر رجب-حسبما تقدم من تاريخه-كان هذا الفتح خامس وعشرين مرة له قد استنقذ من يد المشركين بأيدى المسلمين.
قال ابن واصل: حدثنى بعض من أثق به أنه كان جالسا بحضرة السلطان صلاح الدين-رحمه الله-وقد دخل عليه ولده عثمان الملك العزيز-وهو إذ ذاك صغير- فطلب من أبيه السلطان دينارا، فقال لمملوك قائم بين يديه: «أعطه» -أظنه خزنداره-فقال: «ما هو عندى». فأطرق إلى الأرض ساعة، وإذا بحمل من الإسكندرية وقد دخل عليه، وحمل آخر من الصعيد، وآخر من الغربية، فأمر بإفراغ المال بين يديه، ثم قسمه وفرقه [على] الجميع، حتى لم يبق منه شئ. قال الراوى كذلك: فداخلنى حنق، وكنت ممن أدّلّ عليه، فقلت: «يا مولانا كل الأمور
(7/117)

صبرت عليها إلا هذه». قال: «وما هى؟»، قلت: «ولدك يطلب منك دينارا فلم تجده مع خازنك تعطيه، وتفرق هذه الأموال العظيمة ولا تبقى منها لولدك ما طلبه منك». فقال: «يا فلان ترى هذه الأموال والله إنما شريت بها رءوسهم ومهجهم».
قال الراوى: فو الله لقد شاهدت تلك الرءوس تتطاير بين يديه فى مواقف الحروب كالأكر، فعلمت عند ذلك جميل مقاصده، رحمه الله.
وروى أن السلطان صلاح الدين لما كان بدمشق-بعد مهادنة الفرنج-حضرت إليه عدة من الرسل، ومنهم رسول الفنش الكبير صاحب رومية، وكان السلطان فى طارمة له تطل على اصطبله، وخيله قدامه ما لا تبلغ ثلاثين فرسا، فنظر الرسول إلى ذلك فاستقله، فقال للترجمان: «قل للسلطان أنت ملك الأرض، وصاحب العصر، وهذه جميع خيلك؟. فنحن أى فارس مسكنة منا كان عنده أضعاف هؤلاء». فأعاد الترجمان على السلطان، فقال: «قل له جوابك غدا إن شاء الله تعالى». ثم إن السلطان رسم للحجاب أن يكون الجيش جميعه بكرة النهار مطلب، ويدخل طلبا طلبا بجميع خيولهم وجنائبهم وأثقالهم، من تحت تلك الطارمة.
فلما أصبح، وجلس السلطان، وكذلك الرسول، ودخلت الأطلاب فى أحسن زى، وأعظم هيئة، رأى الرسول ما أذهله، فقال السلطان للترجمان: «قل له هؤلاء هم خيلى وعدتى». فقال الرسول: «والله مليح. لكن يجب أن يكون للسلطان مال حاصل، فإن المال مثل العسل، والرجال مثل الذباب، متى رأى العسل اجتمع عليه». فأعاد الترجمان على السلطان ذلك، فقال قل له: «جوابك الليلة إن شاء الله تعالى». ثم أمر السلطان أن يمد الخوان جميعه عسل فى زبادى على المخافى، وأوقد الشموع. وأحضر
(7/118)

الرسول، فمد يده إلى جميع ما رآه فوجده عسلا، فسأل من الترجمان فقال: «قل للسلطان هذا جميعه عسل إيش سببه؟». فقال السلطان: «قل له هذا جوابك، وهذا العسل، أين الذباب الذى أتى إليه؟». فقال الرسول: «هذا ليل ما فيه ذباب» فقال السلطان: «فإذا طرأ لى شغل فى ليل، والأموال فى الخزائن، أين أجد الرجال؟».
قال: فصلب الرسول على وجهه، وقال باللسان العربى: «أنت صاحب الوقت، وفاتح الأرض». وقد كان قبل ذلك لا يتكلم إلا بترجمان، ويدعى أنه لا يعرف اللسان العربى.
قال ابن واصل صاحب التاريخ: إن الحصون التى فتحها السلطان صلاح الدين رحمه الله؛ عن القاضى الإمام بهاء الدين أبى المحاسن يوسف بن رافع، وهم: طبرية، عكا، حيفا، قيسارية، الناصرة، أرسوف، يافا، عسقلان، غزة، الدارون، صيدا، بيروت، جبيل، هونين، جبلية، تبنين، أنطرطوس، جبلة، اللاذقية، السّرفند، القدس، نابلس، البشير، بيت لحم، بيت جبريل، صفورية، الطور، حصن دبّورية، جينين، سبسطية، كوكب، حصن عفرا، الصافية، مجدليابا، لدّ، الجب الفوقانى، الجب التحتانى، القطرون، الرملة، حصن العازرة، عرا وعرعرا، البرج الأحمر، حصن الجليل، بيت حبرون، قلنسوه، قاقون، قلعة الطفيلة، قلعة الهرمز، صفد، حصن يازور، شقيق، أرنون، شقيف تيرون، حصن سكندرونة، بانياس، صهيون، بلاطنس، حصن الحاضرية، قلعة العندقر، قصور عكا، قلعة أبو الحسن، صيدا الصغيرة، حصن بلدة، الرقيم، الكهف، حصن
(7/119)

يحمود، السّرمانية، درب ساك، بغراس، الدانور الشرقية، بكاس، الشغر، بكسرائيل. عدة أربعة وسبعون فتوحا استنقذه من أيدى المشركين. وأما ما اقتلعه من الممالك الإسلامية فمثلها أو ينقص عن ذلك قليلا، والله أعلم.
قال ابن واصل: ما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان صلاح الدين-رحمه الله.
استقر بدمشق وما معها الملك الأفضل نور الدين على، وبالديار المصرية وما معها الملك العزيز عماد الدين عثمان، وبحلب وما ينسب إليها الملك الظاهر غياث الدين غازى، وباليمن وأعمالها عمهم الملك العزيز ظهير الدين طغتكين بن أيوب، وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية عمهم الملك العادل سيف الدين أبو بكر، وبحماه وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقى الدين عمر، وبحمص والرحبة وتدمر الملك المجاهد أسد الدين شير كوه بن محمد بن شير كوه، وببعلبك وأعمالها الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. وبيد الملك الظافر [خضر] حصن بصرى، وهو فى خدمة أخيه الأفضل صاحب دمشق.
وبيد جماعة من أمراء دولته بلاد وحصون، منهم: سابق الدين عثمان بن الداية، بيده شيزر وقلعة أبى قبيس؛ وناصر الدين منكورس بن خمارتكين بيده صهيون وحصن برزية؛ وكذلك بدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر؛ وعز الدين أسامة بيده كوكب وعجلون؛ وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدم بيده بعرين وكفر طاب وحصن أفامية؛ والملك الأفضل مرجوع الكل إليه، لكونه كان ولى العهد والأكبر من أولاد السلطان، وبقية إخوته فى خدمته.
وفيها توفى سنان رئيس الإسماعيلية-صاحب التمويهات والخزعبلات العجيبة، حتى أخذ بعقول أهل تلك الديار وملك بواطنهم وظواهرهم. فمن جملة ذلك أنه حفر فى مجلسه حفيرة يكون مقدارها إذا جلس الإنسان فيها جاءت إلى رقبته، وجعل عليها
(7/120)

طابق من خشب، ونقب فيه بمقدار ما يطلع منه رأس الإنسان. ثم صنع طبق نحاس، ونقب فيه بمقدار رقبة الرجل، وجعله بمصراعين ملتقيات متداخلات فى بعضها البعض، لا يميزه أحد، ولا اطلع عليه أحد. فكان إذا أراد أن يفعل تمويها يأخذ رجلا يختار عدمه، ويقربه أولا، ويحسن إليه، ولا يعلمه ما المراد به، ثم يجزل صلته ويوصيه بما يريد أن يقوله، ويتقن أمره معه. ثم ينزله تلك الحفيرة، ويخرج رأسه من ذلك الخرق الذى فى الطابق الخشب، ثم يطبق على عنقه ذلك الطبق النحاس المصنوع، ويضع فى الطبق حول عنق ذلك الإنسان دما غبيطا، ثم يغطيه بمنديل، ويوهم أصحابه أنه ضرب رقبته، وأنه نقله من الدار الفانية إلى الدار الباقية، مع الحور والولدان، فى جنات نعيم. ويجلس ويأمر بحضور أصحابه، فإذا استقر بهم الجلوس، يأمر من يكشف عن تلك الرأس، فلا يشك من رآها أنها رأسا مقطوعة موضوعة فى الطبق، فيقول له: «تحدث يا فلان بما أنت فيه من الخير لأصحابك، وما وصلت إليه من النعيم». فيحدثهم بما قرره معه من الوصية له، فيقول له: «أيما أحبّ إليك ترجع إلى أهلك إلى ما كنت فيه، أو تسكن الجنة حسبما رأيت». فيقول:
«وما حاجتى بالرجوع إلى الدنيا، والله إن خردلة مما رأيت خير لى من تلك الدنيا سبع مرار. وأنتم يا أصحابى عليكم سلام الله، وأوصيكم، الله! الله! الحذر! الحذر! من مخالفة هذا الصاحب الإمام، فهو حجة الله فى أرضه، والسلام».
وفيها ظهر بحمص من داخلها عيون ماء، حتى امتلأ الخندق، فشرب أهل حمص منه، فوخموا جميعهم، وظهر عقيب ذلك طاعون أهلك خلقا كثيرا من أهلها.
وفيها ورد الخبر أن ذئبا كلب، فهجم مدينة دنيسر، فأتلف اثنين وسبعين نفرا من الناس حتى قتل.
(7/121)

وفيها خرج السلطان ملك شاه من همذان قاصدا الرّىّ، فهدمها حجرا حجرا، وقتل جماعة من أمرائها.
وفيها-فى سابع صفر-ظهر بظاهر بغداد عمود نار من الأرض إلى السماء، عرضه تقدير ثلاثة أرماح، ونظره الخليفة الإمام الناصر لدين الله، وجميع أهل بغداد.
وفيها وقع بنابلس برد، زنة كل حجر منها مائة وخمسين درهم.
وفيها نزلت صاعقة بسيخ الحديد من عمل حلب، فقتلت جماعة، وبقى مكانها خلو أربعين ذراعا. وكذلك سقط بجبل الملوان من عمل حلب برد تقدير كوز الفقاع.
ونزلت صاعقة بالياروقية من حلب، وسقطت فى اصطبل الحاجب، فقتلت له تسع أروس خيل.
(7/122)

ذكر سنة تسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنان وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأمر، ومستمر الأحكام، مطاع فى سائر الأرض.
والملك العزيز بمصر حسبما تقرر. والملك الأفضل بدمشق، وسائر الملوك من إخوته فى خدمته، خلا الملك الظاهر بحلب.
وفيها عزل القاضى صدر الدين أبو القاسم عبد الملك المقدم ذكره. وكان فى طول أيام السلطان صلاح الدين مستمر القضاء بمصر، فعزل فى هذه السنة. وولى القاضى زين الدين أبو الحسن على بن الشيخ شرف الدين يوسف الدمشقى. وكان المذكور نائبا عن القاضى صدر الدين بالقاهرة سنين كثيرة، فاستقر بالقضاء.
وكان السلطان صلاح الدين قد جعل لأولاده لكل واحد إقليم ملكه فى أيامه.
وجعل من الفرات إلى الشرق كله داخلا فى سلطان أخيه الملك العادل سيف الدين أبو بكر، وذلك خوفا على أولاده منه. فكان الملك الأفضل بدمشق، والملك الظاهر بحلب، والملك المنصور بحماه والمعرة وقلعة نجم، والملك الأمجد بعلبك، والملك المجاهد حمص والرحبة وتدمر، والملك العزيز مصر، وباقى الملوك فى خدمة الأفضل بدمشق.
والشرق جميعه للعادل.
(7/123)

ذكر سبب انتقاض ملك الأفضل
صاحب دمشق
وذلك أنه استوزر الصاحب ضياء الدين بن الأثير صاحب الترسل والفضيلة الحسنة. وكان له أيضا صاحبان؛ أحدهما عز الدين ابن الأثير صاحب التاريخ المشهور، والآخر مجد الدين أبو السعادات صاحب كتاب جامع الأصول فى علم الحديث. وكان هذا الرجل فاضلا، متقدما عند الملوك أصحاب الموصل من بنى زنكى. وكانوا هؤلاء الثلاث أصحاب حلّه وعقده، فأشاروا عليه أن يبعد مماليك أبيه، وينشئ مماليكا من جهته. وأوحوا إليه أن مماليك أبيه لا يرونه إلا بعين الصغر، ففعل الأفضل ذلك، وكان من سوء التدبير. فلما تباين للأمراء ذلك مالوا إلى الملك العزيز بمصر، ورحلوا إليه، فتلقاهم العزيز أحسن ملتقى، وأكرمهم، وأحسن إليهم. ورأى أمره أنه قد قوى بهم، فأشاروا عليه أن يتحرك إلى الشام، ويأخذ دمشق من أخيه الأفضل. فأراد أن يقيم له ذنبا يأخذه به فطلب منه بيت المقدس-وكان مضافا إلى مملكة دمشق-فاستشار هؤلاء، فقالوا: «لا تفعل يطمع فى سلطانك»، فامتنع.
وتجهز العزيز إلى الشام. وكانت أسماء الأمراء الذين حضروا من الشام إلى خدمة العزيز: ميمون القصرى وسنقر الكبير، مع جماعة من ملوك الأكراد، والأمير فخر الدين جهاركس. ثم تبعهم بعد ذلك الأمير صارم الدين قايماز النجمى، وكان من أكبر الأمراء الأيوبية؛ فإنه مملوك نجم الدين أيوب بن شاذى والد الملوك بنى أيوب فحضر إلى الملك العزيز بمصر. فلما علم الأفضل بتحريك العزيز إلى الشام، كتب كتابا إلى عمه الملك العادل يستنجده ويستجير به، فعندها توجه العادل من الشرق إلى نحو الشام، فوصل إلى دمشق فى اثنى عشر يوما، ووجد العزيز أيضا قد وصل دمشق،
(7/124)

فمشى بينهما بالصلح، فاصطلحا صلح العامرية، على فساد. ولما رأى العادل اختلاف الإخوة، طمع فى الملك بالشام ومصر وغيرهما.
وكان لما بلغ سيف الدين بكتمر صاحب خلاط موت السلطان صلاح الدين فرح فرحا عظيما، وأمر أن تضرب البشائر فى سائر قلاعه وحصونه، ولقب نفسه الملك الناصر، وكتب كتبا إلى سائر ملوك الشرق، مثل عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى ابن اقسنقر صاحب الموصل وحسام الدين [يولق] أرسلان بن إيلغازى، وكذلك إلى صاحب سنجار، وصاحب ماردين، وغيرهم، يستدعيهم إلى قتال الملك العادل، وأن يأخذ البلاد منه، فأجابوه إلى ذلك. وكان أول من قدم منهم صاحب ماردين وصاحب الموصل، إلا عماد الدين زنكى فإنه لم يوافقهم على ذلك. وكان اجتماعهم فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.
وأمّا ما جرى للعزيز فإنه لما خرج إلى الشام جعل ولده المنصور ولى عهده -وكان صغيرا-فأقام بهاء الدين قراقوش نائبا عنه بالديار المصرية. ولما أصلح العادل بينه وبين أخيه الأفضل حصل الخلف بين العزيز وبين أمرائه الأسدية والأكراد، ففارقوا خدمته، ومضوا إلى عمه العادل وأخيه الأفضل. وانقلب الدست عليه، فتوجه من دمشق هاربا لا يلوى على شئ. وركبوا خلفه ولحقوه ببلبيس، وحاصروه بها أياما.
ثم اصطلح مع عمه العادل وأخيه الأفضل على مال دفعه. وعاد الأفضل إلى الشام ودخل العادل إلى القاهرة، وأخلى له العزيز القصر الكبير.
وفيها عزل القاضى زين الدين.
وفيها ولى القاضى محيى الدين بن عصرون.
(7/125)

ذكر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وأصبعان. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الحكم، مستمر السلطان.
والملك العزيز بمصر [ومعه] عمه العادل.
وفيها توجه العزيز والعادل عمه إلى دمشق وحاصروا الأفضل، واقتلعوا دمشق منه، وملّكها العزيز لعمه الملك العادل، وذلك فى شعبان. وعاد العزيز إلى مصر.
وتوجه العادل إلى الشرق، فبلغه أخبار بكتمر صاحب خلاط، فكتب [العادل] إلى أولاد أخيه يستنجدهم، فكان أول من وصل إليه العزيز صاحب مصر، وجدّ فى سيره حتى وافاه. وركب طريق المفازة. ثم وصل إليه الملوك أولا فأولا. فلما تكاملوا رحل الملك العادل إلى حران، ونزل بها. ثم إن عز الدين صاحب الموصل توفى. وتفللت جموع بكتمر، ورجع كل عسكر إلى بلاده.
وأرسل عز الدين صاحب ماردين يعتذر من فعله للملك العادل. ثم إن بكتمر صاحب
(7/126)

هذه الفتنة وثب عليه فداوى فقتله، وسلّم الفداوى لبعض حاشيته له. وتمكن الملك العادل من الشرق، وملك الخابور ونصيبين وسائر تلك الأعمال. وعادت الملوك إلى بلادهم. وعاد العادل إلى دمشق، وخلف بعض أولاده بالشرق، لا أعلم أيهم كان.
وفيها وردت الأخبار أن [يعقوب بن يوسف بن] عبد المؤمن صاحب الغرب كسر ألفنش ملك الفرنج على مدينة طليطلة بالأندلس، وأسر من الفرنج ستين ألف أسير، وقتل مائتى ألف وستة عشر ألف، وكسب من السلاح والعدد ما لا يحصى كثرة، من جملتها ستين ألف زردية. وكان عدة خيام الملاعين أربع مائة ألف خيمة وستة عشر ألف خيمة، وعدد البغال التى كسبتهم عسكر [ابن] عبد المؤمن مائة ألف وخمسة وعشرون ألف بغل، وعدد الخيل ستون ألف حصان، ومائة ألف حجرة. وأن ألفنش بعد هذه الكسرة دخل طليطلة فى سبع نفر.
قال ابن واصل: فى هذه السنة كان دخول العادل إلى الديار المصرية ورجوع الأفضل إلى دمشق.
وفيها-أعنى سنة إحدى وتسعين وخمس مائة-عزل القاضى ابن عصرون.
وولى القضاء بالديار المصرية القاضى زين الدين يوسف الدمشقى.
(7/127)

ذكر سنة اثنين وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وسبعة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأمر، مستمر الأحكام فى أقطار ممالك الإسلام، خلا الغرب فإن [يعقوب بن يوسف بن] عبد المؤمن فيه، يدعى بأمير المؤمنين.
وفى أول هذه السنة عزل القاضى ابن عصرون.
وفيها استعلت كلمة الملك العزيز، واجتمعت عليه الأمراء الكبار.
وقيل فى هذه السنة كان أخذ دمشق من الملك الأفضل، وتسليمها للملك العادل، وهو الصحيح.
وذلك أن الأمراء لما قووا عزم العزيز على أخذ دمشق، وتوجه لأخذها من الأفضل، وعلم الأفضل أن لا قبل له بالعزيز، سير إليه يبذل له الأموال، ويقول:
«أنا أخطب باسمك، وكذلك السكة، وأكون نائبك». فلم يقبل العزيز شيئا من ذلك. فكتب الأفضل إلى عمه العادل وإلى إخوته الملوك يستجير بهم من العزيز.
وتوجه الأفضل ونزل القصير لما بلغه قدوم العزيز. ثم ضاق ذرعه عن الملتقى، فولى هاربا إلى رأس العين فلم يشعر إلا بالعساكر المصرية وقد أدركوه،
(7/128)

فانهزم، ودخل دمشق، وتبعه العزيز. وكان ذلك يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الآخر. ولم يزل حتى حصره [العزيز] فى دمشق يوم وليلة، فعندها وصل الملك العادل من الشرق فى اثنى عشر يوما، ودخل دمشق، وكذلك الملك الظاهر صاحب حلب، والملك المنصور صاحب حماه، والملك المجاهد صاحب حمص، والملك الأمجد صاحب بعلبك. ثم دخل الجميع دمشق إلى الأفضل. ثم كتبوا إلى العزيز يقصدوا الاجتماع به، فاجتمعوا على سطح المزة وشفع العادل فى الأفضل عند العزيز فقبل ذلك، وقال: «يا عم أنت الوالد بعد الوالد، ولا نخرج عن ما ترسم به». فلما رأى العادل حسن سياسة العزيز وغزارة عقله خطبه لا بنته، وقدمها له، فكان الملك العادل الخاطب والملك العزيز المخطوب. ثم أصلحوا بين الملكين الأخوين، وعاد كل ملك إلى بلاده. ثم تحرك أيضا الملك العزيز على الأفضل، وعاد إليه قبل دخوله إلى الديار المصرية، فإنه بلغه ممن يثق به أنه جهز عليه فداوية لقتله، فبلغ الأفضل عودة العزيز إليه فخافه، فركب بنفسه، ولحق عمه العادل، وسأله أن يقيم عنده بدمشق، فعاد معه، ونزل بدمشق. فلما بلغ الأمراء الكبار استقرار العادل بدمشق -وكان قد حصل لهم وحشة من العزيز-مالوا بأجمعهم إلى العادل. فلما حصل ذلك خشى العزيز على نفسه، فعاد إلى مصر، وأخذ بقلوب من بقى من الأمراء الأسدية، وأحسن إلى الجند، وأنعم إنعاما كثيرا، واستقر حاله.
واتفق العادل والأفضل على طلب العزيز، فتوجهوا، وإلى مصر قصدوا، فلقيهم الأمير حسام الدين بن أبى الهيجاء، وقال: «حثوا المسير فإن الأمراء المصريين كلها معكما». ثم ورد من العادل رسول على العزيز يستدعى القاضى الفاضل. وكان القاضى الفاضل قد انفرد بنفسه ذلك الوقت، وانقطع فى داره، لما رأى ما حصل من الخلف بين الإخوة. فلما وصل القاضى الفاضل تلقاه الملك العادل ملتقى حسنا، وقال:
«يا قاضى إنما جئت لأوفق بين الإخوة». ثم وفّق بينهما فى حديث طويل، آخره أنه أخذ الأفضل وعاد إلى دمشق.
(7/129)

وقيل إنه دخل مصر، ونزل فى القصر عند العزيز، حتى اتفق معه، وخرجا جميعا، واستقلعا دمشق من الأفضل، وأنعما عليه بصرخد. وملّك العزيز لعمه العادل دمشق، حسبما تقدم من الكلام فى هذا المعنى؛ والله أعلم.
قال ابن واصل إن فى هذه السنة-أعنى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة-كان أخذ دمشق من الملك الأفضل بسوء تدبير وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزرى. ولما وصل الملكان العادل والعزيز لحصار دمشق، كتب إليهما جميع الأمراء الذين كانوا بها بالتسليم كرها للوزير المذكور، فلم يحتاجا لمدة حصار. ولم يقاتل فى ذلك اليوم غير الملك الظافر مع عسكر بعثهم نجدة الملك الظاهر صاحب حلب. وجرح فى ذلك اليوم الظافر جراحا كثيرة. ولم تقم البلد إلا ساعة من نهار، ودخلها الملكان المذكوران، وخرج الملك الأفضل صبيحة ذلك اليوم بأهله وأمواله، وكانت ليست بشئ. واختفى الوزير ضياء الدين فى بعض صناديق الأفضل، ثم هرب إلى الموصل بأموال جمة.
وتوجه الأفضل وصحبته أخوه الملك المفضل قطب الدين إلى صرخد، واستقرا بها.
وكان دخول العزيز إلى دمشق رابع شعبان. وأخذت أيضا بصرى من الظافر، وتوجه إلى أخيه الظاهر بحلب.
وسلم الملك العزيز دمشق لعمه الملك العادل، ورحل من دمشق عشية الاثنين تاسع عشر شعبان، فكانت مدة إقامته بها أربع عشر يوما.
وكانت مدة ملك الملك الأفضل دمشق ثلاث سنين وأشهرا. واستقرت الخطبة والسكة بدمشق وأعمالها للملك العزيز، والملك العادل يظهر أنه نائب له بها إلى أن استقام له الأمر، حسبما ما يأتى من ذلك.
(7/130)

ذكر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وخمسة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأصبعان.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأوامر، مستمر الأحكام، مطاع فى سائر الممالك الخليفتيه الناصرية بالأرض. والملك العزيز بمصر.
وفيها سيّر [العزيز] إلى جميع الملوك من إخوته، بالممالك الشامية، القاضى ناصح الدين الطالقانى-قاضى العساكر-وصحبته الأمير علم الدين-غلامه-وأمرهم أن يخطبوا له فى منابر ممالكهم وبلادهم، وأن ينقش اسمه على الدينار والدرهم، فامتثلوا ذلك. وسير عسكر مصر إلى خدمة عمه الملك العادل.
وفتح قلعة يافا واستعادها من الفرنج.
وفيها أنشأ الأمير فخر الدين أياز جهاركس الناصرى الصلاحى القيسارية بالشرابشيين بالقاهرة المعزية.
قال ابن واصل: وفى سنة ثلاث وتسعين توفى سيف الإسلام صاحب اليمن، فى شهر شوال منها. وكان يلقب بالملك العزيز، ومدحه فى حياته [شرف الدين] ابن عنين بقصيدة منها:
دمشق وبى شوق إليها مبّرح … وإن لام واش أو ألحّ عذول
بلاد بها الحصباء درّ وتربها … عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل منها ماؤها وهو مطلق … وصح نسيم الروض وهو عليل
(7/131)

ومنها:
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى … ورأى ظهير الدين فىّ جميل؟
بنى المجد أمّا جاره فمنّع … عزيز، وأما جنده فذليل
وأما عطايا ماله فمباحة … عذاب، وأما ظلّه فظليل
وقام بعده بمملكة اليمن ولده إسماعيل، ولقب المعز لدين الله، آخر وقت، وخطب لنفسه بالخلافة، وادعى أنهم من بنى أميّة. وكان فى عقله ضعف، وقد تقدم ذكر ذلك.
وفيها توفى عماد الدين [زنكى بن مودود] صاحب سنجار، وقام ولده قطب الدين محمد مكانه.
(7/132)

ذكر سنة أربع وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأحكام، مطاع الأمر، والملك العزيز صاحب مصر، وكذلك بقية الملوك.
وفيها نزلت الفرنج-خذلهم الله تعالى-على تبنين، وحاصروها. فلما بلغ الملك العزيز ذلك، خرج بالجيوش لدفعهم عنها. فعند ما أطلت أعلامه عليهم رحلوا عن البلد صاغرين. وكان الملك العادل عنده، قد أتاه زائرا لابنته زوجة العزيز.
وفى هذه السنة كانت الوقعة العظيمة بين السلطان غياث الدين محمد بن سام وأخوه شهاب الدين الغورى، وبين ملك الهند. وذلك أن شهاب الدين الغورى كان قد كسر قبل ذلك من ملك الهند. ثم إنه اتفق مع أخيه صاحب الغور وسارا طالبين ملك الهند، فلما قاربا، قال رجل شيخ لشهاب الدين الغورى: «لا ينبغى أن تقدم عليهم فى بلادهم مع كثرتهم؛ وقد جرى لك معهم ما جرى». فقال:
«والله إنى منذ كسرونى ما نمت مع زوجتى، ولا غيرت ثياب البياض، وها أنا سائر إليهم ومعتمدا على الله عز وجل، وإن نصرنى نصر دينه، وكان ذلك من فضله، وإن هزمونى فلا تطلبونى فإنى لا أنهزم بل أموت كريما». فلما قاربهم خرجوا إليه، فأظهر الهزيمة، وهم فى أثره إلى أن قاربوا بلاد الإسلام. ثم عبأ أصحابه فى بعض الليالى،
(7/133)

وكبسهم بغتة، فقتلهم قتلا ذريعا، إلا من هرب منهم. وكانت نصرة عظيمة.
وهذه الوقعة لم يكن ملك الهند فيها. فلما بلغه ما جرى على أصحابه جمع جيوشه، وكان فى جملتها سبع مائة فيل حربية، وعدة جيشه ألف ألف مقاتل. وقصد بلاد الإسلام، فسار شهاب الدين الغورى من غزنة لملتقاه، وكان فى مائة ألف وعشرين ألفا، والتقيا. وصبر المسلمون على قتال المشركين، ونصر الله دينه، وخذل الكفرة عبّاد النار والأحجار. وكثر القتل فيهم حتى امتلأت تلك الصحارى والفلوات.
وأما الأفيلة فقتل بعضها، وانهزم بعضها. وقتل ملك الهند فى تلك الوقعة. ثم إن شهاب الدين دخل إلى عظيم بلاد الهند وملكها، وحمل من خزائنها ألف وأربع مائة حملا ذهبا، وعاد إلى غزنة وصحبته الأفيلة برجالها، وفيهم فيل أبيض. وحكى ابن واصل فى تاريخه عن الشيخ تاج الدين بن الساعى أن هذا الفتح كان فى سنة تسعين وخمسمائة.
ولما اتفق الملك العزيز والملك العادل على إخراج الملك الأفضل من دمشق، ونفيه إلى صرخد، كتب [الأفضل] إلى الإمام الناصر يتظلم منهما، ويقول:
مولاى: إن أبا بكر وصاحبه … عثمان أحاطا بالسيف إرث على
فانظر لصاحب هذا الاسم كيف لقى … من الأواخر ما لاقى من الأولى
وهذان البيتان ضمنهما آخر مطالعته للإمام الناصر فأجابه فى آخر مكاتبته:
وافى كتابك يا بن يوسف معلنا … بالودّ يخبر أن أصلك طاهر
(7/134)

غصبوا عليّا حقه إذا لم يكن … بعد النبىّ له بيثرب ناصر
فاصبر فإن غدا عليه حسابهم … وابشر فناصرك الإمام النّاصر
ثم لم يزل الأفضل مهجّجا من كل مكان حتى ملك فى آخر وقت مدينة سميساط.
ومات بها فى تاريخ ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
(7/135)

ذكر سنة خمس وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة اثنا عشر ذراعا وأحد وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأمر، مستمر الحكم.
وفيها توفى الملك العزيز-رحمه الله-ليلة الحادى والعشرين من المحرم.

ذكر تملك المنصور بن الملك العزيز
هو ناصر الدين محمد الملك المنصور بن عماد الدين عثمان الملك العزيز بن السلطان صلاح الدين. وباقى نسبه قد تقدم.
كان ولى عهد أبيه فى حياته. فلما توفى والده، جلس بمملكة الديار المصرية فى تاريخ وفاة أبيه، وعمره يومئذ تسع سنين وشهورا.
وكان سبب وفاة الملك العزيز أنه خرج إلى الصيد بناحية الإسكندرية، وأمعن فى البرية لصيد الغزال، فساق، فتقنطر من على جواده. ثم عاد إلى منزلة الأهرام، فأقام بها ثلاثة أيام، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. وكان ملكا جوادا، سمحا، شجاعا، مقداما، صاحب رياسة وسياسة وعقل وافر، وتدبير حسن، كثير الحياء والعدل، والإنصاف والرفق، والإحسان إلى الرعية. وكانت الرعايا يحبونه محبة عظيمة.
وكان قبل وفاته قد تحركت الفرنج حركة عظيمة، وعزموا على أخذ الساحل من المسلمين، مع الشام كله. وخرج الملك العادل إلى مقابلتهم. ونفّذ يطلب النجدة من العزيز، فسير إليه العساكر فى جمع كبير. ووصل إلى خدمته سنقر الكبير صاحب القدس، وميمون القصرى صاحب نابلس، وعدة أمراء ملوك. واجتمعوا ونزلوا
(7/136)

على تل العجول. ثم إن العادل نزل على يافا وحاصرها، وأخذها بالسيف عنوة، وقتل كل من كان بها، وغنم منها غنائم كثيرة. ثم إن الفرنج-خذلهم الله-نزلوا على تبنين فبادرهم حسام الدين سامه وتبعتهم الجيوش الإسلامية. فلما كان نصف الليل هربت الملاعين. ثم لم يزل الملك العادل يغزو فيهم حتى أقلقهم، وسألوا المهادنة، ووقعت الهدنة بينهم إلى مدة ثلاثة شهور بعد ثلاث سنين. ثم رحل العادل إلى الشرق، ونزل على ماردين، وأخذ ربضها، وكان بها نائبا يقال له نظام الدين.
وكان قد كتب إلى العادل يستدعيه لأخذها بعد موت عز الدين صاحبها، كما تقدم من الكلام فى ذلك. ثم إنه ندم على مكاتبة العادل، وسوّف، وظهر محاله وكذبه.
وسير العادل، وطلب العساكر من الملوك أولاد أخيه، فحضروا إليه وجدّ فى حصار ماردين. ثم وقع فى الخيل مرض الطابق. ولم يزل يجد فى أمر الحصار حتى فتحها وعاد إلى الشام.
وفيها توفى الملك العزيز سيف الإسلام [ظهير الدين] طغتكين صاحب اليمن.
وفيها توفى الأمير نجم الدين النورى صاحب شغربكاس والشقيف، وهذه الحصون كان أنعم عليه بها السلطان صلاح الدين-أستاذه-فى حال حياته.
(7/137)

ولما استقر الملك المنصور بن العزيز بالمملكة-وهو إذ ذاك طفل-نفذ إلى عمه الملك الأفضل فأحضره من صرخد، وجعله أتابك جيوشه، خوفا من العادل عم أبيه.
وقيل إن ذلك كان بوصية من العزيز له.
وكان دخول الأفضل القاهرة فى شهر ربيع الأول. وفى يوم وصوله إلى بلبيس ورحيله متوجها إلى القاهرة انفصل أياز جهاركس، وسرا سنقر، وقراجا الكبير، من الخدمة بديار مصر، وتوجهوا إلى القدس، وأقاموا به عاصين على الأفضل، وكاتبوا الملك العادل.
وفيها عزل القاضى زين الدين عن الحكم.
وفيها توجه ألطنبا الجحاف مع جماعة من الأمراء المصريين إلى الشام، ولحقوا بمن تقدمهم.
وفيها تجهز الأفضل، وخرج بالعساكر المصرية إلى الشام، لمحاصرة عمه العادل.
وفيها قبض [الأفضل] على أخيه المؤيد [مسعود] مع جماعة من الأمراء المصريين، وأودعهم الاعتقال.
وقيل إن العادل كان بالشرق، وولده الكامل بدمشق. فلما بلغ العادل توجّه الأفضل من الديار المصرية إلى نحو الشام، خشى على ولده، وأن تؤخذ دمشق، فساق فى خيل يسيرة جريدة، فوصل فى إحدى عشر يوما. ودخل دمشق قبل وصول أحد إليها، وأمر الكامل أن يتوجه إلى الشرق، ويكون على يقظة من أمره، وذلك فى ثالث شعبان من هذه السنة. ثم إن الأفضل زحف إلى دمشق، وجرى بينهما قتال عظيم، وحرب شديد، وقتل من الفئتين خلق كثير. واستظهر الأفضل، ولم يبق إلا أخذ دمشق، وتحصّن العادل بالقلعة. ثم إن عسكر الأفضل تفرق، ودخلوا دمشق من عدة أماكن، وتفرقوا للنهب، فنزلت الأمراء العادلية،
(7/138)

والملك العادل بنفسه، وغلقوا أبواب دمشق. ووقع السيف فى جماعة عسكر الأفضل ممن دخل دمشق، فقتل جماعة كبيرة، وعرّوا الباقى وأطلقوهم، فعند ذلك تأخر الأفضل ونزل الكسوة، وعاد العادل محصورا طول بقية هذه السنة.
وفيها كان بمصر غلاء شديد، بلغ القمح فيها ثمانين درهما الأردب، والشعير والفول أربعين درهما.
(7/139)

ذكر سنة ست وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة اثنا عشر ذراعا وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأمر، نافذ الحكم.
والملك المنصور بن العزيز صاحب مصر. وأتابك جيوشه الأفضل عمه. والملوك من أولاد السلطان صلاح الدين على ممالكهم، وهم فى معونة الأفضل على حصار العادل عمهم بدمشق.
وفيها وصل الملك الكامل من الشرق بجيوش كثيفة، لنجدة أبيه العادل.
وكان سبب وصوله وقدومه مكاتبة أبيه له، يحثه على حشد الجيوش، وسرعة قدومه إليه، ليستنقذه مما هو فيه من الأفضل وإخوته. وذلك أن العادل ضاق ذرعه من الحصّار وعدم القوت بدمشق، وفارقه جماعة من أصحابه. فلما ضاق به الأمر طلب الأسرى الذين كانوا عنده من الفرنج، وقال: «أسلم إليكم هذه البلد وتعطونى الكرك بجميع ما فيها»، فلم يوافقوه على ذلك. ثم شاور كبار خاصته، فقالوا:
«ابعث إلى ولدك يأتيك بالأموال والرجال». فكتب إلى ولده الكامل أن يحصّل جميع ما أمكنه من الأموال والرجال، ويسرع فى الحضور. وكتب إلى النائب بقلعة جعبر أن يسلم للكامل جميع ما فى الحصن من الأموال والسلاح.
ولما وصل الكامل بتلك الأموال والجيوش، اطمأن قلب الملك العادل، وعلم أنه قد استقر حاله. ثم حصل الخلف بين الأفضل وأخيه الظاهر صاحب حلب،
(7/140)

وانفسد الحال على الأفضل، ورحلت الملوك من عنده، وطلب كل أحد بلاده.
ورحل الأفضل خائبا، هاربا، طالبا للديار المصرية. وخرج العادل فى أثره بالجيوش.
وكان الأفضل قد وصل إلى القاهرة وأصلح حاله، وخرج لملتقى العادل، فالتقيا على الصالحية، وانكسر الأفضل كسرة عظيمة لا جبر لها. ودخل القاهرة فى نفر قليل. وأقام العادل على الصالحية، وسير إلى الأفضل رسول يقول له: «أنت تعلم أن مصر إقليم عظيم، وله فى أنفس الناس ناموسا عظيما، فالله الله لا تحوجنى أخذها منك بالسيف، فيكون ذلك نقصا فى حق هذا الإقليم، فارحل عنها إلى مكانك بصرخد، وأنت آمن على نفسك ومالك وحريمك». فقبل الأفضل ذلك، ورحل إلى صرخد، بالرغم منه.
وكان [أن] أعطاه العادل فى الصلح ميافارقين وعدة بلاد، وقع اليمين عليها.
ثم انتقض الحال فى أمر البلاد المذكورة، ولم يستقر للأفضل غير صرخد فقط.
ودخل الملك العادل إلى مصر سلطانا مستقلاّ، وهو السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، وباقى نسبه قد علم. استبد بالملك بالديار المصرية والبلاد الشامية بدمشق وأعمالها، وممالك الشرق التى كانت فى يده قبل ذلك من حياة أخيه السلطان صلاح الدين، رحمه الله. وملك جميع ذلك فى هذه السنة المذكورة، وقام بالملك أحسن قيام، ونظم الأحوال أحسن نظام، ومشى على ما كان عليه أخوه السلطان صلاح الدين، رحمه الله. وأقام بالديار المصرية بقية هذه السنة، ثم أقام بها الملك الكامل، وتوجه [العادل] إلى بلاد الشرق حسبما يأتى من ذكره.
قال ابن واصل: إنما كان دخول العادل إلى الديار المصرية أولا أتابكا للملك المنصور. ثم استقبح ذلك فاستبد بالأمر، وقام بأمر السلطنة، فلذلك حصلت الوحشة من الأمراء الصلاحية، وخرجوا عن طاعة الملك العادل خيفا من ذلك.
وفيها توفى القاضى الفاضل، رحمه الله تعالى.
(7/141)

ذكر القاضى الفاضل وفقر من ترسّله
هو القاضى الفاضل عند اسمه، الآخذ من درجة السبق فى الفضيلة بأوفر من نصيبه وقسمه، عبد الرحيم بن على البيسانى. قال: «أنفذنى والدى من عسقلان إلى الديار المصرية أيام الفتنة بوزارة شاور، وكتب على يدى كتاب إلى صاحب ديوان الترسل، وكان يعرف بابن الخلال. فلما مثلت بين يديه، وقرأ الكتاب، وفهم أنى من طلبة علمه قال لى: «يا ولدى ما الذى اعتدته وحصلته لهذه الصناعة؟» قلت: «حفظ كتاب الله العزيز وكتاب الحماسة». قال: «إن فيهما لكفاية، مع ما أرى من نجابتك».
ثم ترقت به الأحوال إلى أن صار منه ما شاع وذاع، وشنف بذكر محاسنه الأسماع.
وإن كان آخر فقد تقدم بفضله على الأوائل، وعبر على وجه قس وسحبان وائل.
لا أعلم بالمشرق والمغرب مثله، وعنوان عجائبه مثل قوله: ووافينا قلعة نجم وهى نجم فى سحاب، وعقاب فى عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل.
كان الهلال لها قلامة. قلت: ما أحسن هذا الحل بالمعنى. وبعض اللفظ من قول ابن المعتز:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا … مثل القلامة قد قدت من الظفر
فإن جل المنظوم على ثلاثة أضرب؛ الأول-وهو أقلهم رتبة-وذلك أن تحلّه بمعناه ولفظه؛ والثانى أعلى منه رتبة أن تحل ببعض لفظه وبمعناه؛ والثالث أن تحل بالمعنى دون اللفظ، وهو أفضل الثلاث، والله أعلم.
نقلت من حظ القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر-رحمه الله-يقول: نقلت من خط الأشرف بن الفاضل-رحمه الله-قال: اختار الله لجدى-رحمه الله-جواره ليلة الأحد الحادى عشر من شهر ربيع الأول، سنة ست وأربعين وخمسمائة. واختار الله
(7/142)

لعمى السعيد أبى الحسن جواره ليلة الجمعة الثانى والعشرين من جمادى الآخرة، سنة تسع وخمسين وخمسمائة بالقاهرة، ودفن بسارية. واختار الله لعمى الفتح جواره بالإسكندرية ليلة الثلاثاء تاسع وعشرين شعبان سنة أربع وتسعين وخمسمائة. واختار الله لسيدى والدى رحمه الله-يعنى الفاضل-جواره ليلة الأربعاء السابع من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين بالقاهرة، ودفن بسارية.
ومن فقر القاضى الفاضل رحمه الله-وهو من باب المرقص فى النثر- «لبد الماء فى اللبابيد فثقل وزنها، وانعكس فيها التشبيه فصار كالجبال عهنها».
وقوله فى فتح طبرية: فلما نظر إليها مالكها، وقد جعلنا عاليها سافلها، وأيقظنا بصياح السيف نائمها، وأنبهنا غافلها. . .
وقوله: وافى الأصطول الميمون فى خمسين غرابا طائرا من القلوع بأجنحته، كاسرا بمخاليب أسلحته، فما وافى شملا إلا دعاه إلى الحسين، وحقق ما يعزى إلى غراب البين.
وقوله: وأخذنا بالحزم، فسرنا إليهم سرى الطيف، واختطفناهم قبل بكور الغراب بمنشر الرمح، وخناج السيف.
وقوله: من حمل السنين ثقلت على ظهره، ومن قصرت خطاه اتسعت إلى قبره.
وقوله: وقد أثر هذا البيكار فى استطاعتهم لا فى طاعتهم. وقوله فى التوسط بين الإخوة الملوك-وهما العزيز والأفضل-حسبما تقدم من ذكرهم: وما أدخل بينكم إلا كدخول الميل بين الأجفان يرد إليها ما ذهب من الغمض، وكالنسيم بين الأغصان يميلها ويعطف بعضها على بعض.
وقوله فى ملك الاسبتار: جهول، عجول، ما أدبه الوالدان، ولا أخلقته
(7/143)

الجديدان، أرعن من سكر الحداثة، مقسم الرأى، وكيف لا يكون مقسمه وهو عابد الثلاثة.
وقوله فى الدعاء للسلطان: جعل الله الأرض التى يملكها منقلة، والأرض التى يطؤها مقبلة، والأرض التى يجر عليها عسكره مثقلة، والأرض التى يلقى فيها أعداءه مقتلة.
وقوله فى أمثاله: عضة المحبّ ولا قبلة الجانى!
وقوله: الركوب على الخنافس، ولا المشى على الطنافس!
وكتب إلى السلطان صلاح الدين من مصر فى أثناء مكاتبة، وذكر النيل، وعرض بما أظهره الملك العزيز ولده من تأمين السبل فقال: وأما النيل، فكما قال جميل، قد امتدت أصابعه، وتكسرت بالموج أضالعه، واحمرّ صفحه الحاكى مذاقه جنى النحل، فكأنه سيف ظل به دم المحل. وحيثما توجه المسافر يلقاه، وليس بمصر قاطع طريق سواه.
وكتب إلى عامل تشكّى منه: وقد وصل أهل عملك، يشكون سوء عملك، فإن كان الاختيار صدفك فإن الاختبار صرفك.
وله فى جملة رسالة يقول: ولو كاتبت سيدنا بمقدار شوقى إليه لأضجرته، ولو أغيبته بقدر ثقتى به لهجرته.
ومن مليح شعره وقد أعرقته الحمى يقول:
لا تنكروا عرق المريض فإنه … لضرورة أمست إليه داعية
فلكل عضو مقلة من حقها … طول البكاء على فراق العافية
(7/144)

وقوله فى الغزل:
ولما بدا خط بخد معذبى … كظلمة ليل فى ضياء نهار
خلعت عذارى فى هواه ولم أزل … خليع عذار فى جديد عذار
قلت: وقفت على ترسل ابن الصيرفى المصرى-وكان إمام الكتاب بالديار المصرية فى المائة الخامسة-ولعل الحاذق الفطن إذا أمعن النظر فى ترسّل هذا الرجل المذكور، يجد القاضى الفاضل مستمدّا منه.
ومن ملح ترسله قوله: وجاءت غربان الماء تحكى قطع السحاب فى أديم السماء، يحسب الناظر أنها ركائب قد طفت فى بحر السراب، أو جفون محدقة والمجاديف لها أهداب.
ونظرت فى مجموع بيتين فى غاية الرقة. يقول جامعه: هو لابن الصيرفى-فما أعلم هو هذا ابن الصيرفى أم غيره-وهما:
توهمه قلبى فأصبح خده … وفيه مكان الوهم من نظرى أثر
ومرّ بقلبى خاطرا فجرحته … ولم أر جسما قط يجرحه الفكر
ومن المحفوظ فى المعنى:
نظرت إليه نظرة فتحيّرت … دقائق فكرى فى بديع صفاته
فأوحى إليه القلب أنى أحبه … فأثر ذاك الوهم فى وجناته
ومن المحفوظ أيضا:
دعوت بماء فى إناء فجاءنى … غلام به خمر فأوسعته زجرا
فقال هو الماء القراح وإنما … تجلّى له خدى فأوهمك الخمرا
ومن المحفوظ أيضا:
وقد كنت مستعن بلحظك وحده … فكيف وفيه سبعة خيرها شرّ
سقام وأسد ضاريات وأسهم … وسمر القنى والسحر والسيف والخمر
(7/145)

فماذا تقل فيمن حوى فيك أربع … بواحدة منهنّ ينفطر الصخر
فأيامه سود وبيض لحاظه … وأضلعه صفر وأدمعه حمر
ومن المحفوظ أيضا:
كأن فى فيه خمّارا ولأّلا … وبين جفنيه نفاثا ونبّالا
منوّع الحسن يبدى من محاسنه … لأعين الناس أصنافا وأشكالا
فلاح بدرا ووافى دمية ورنا … سيفا وماج نقا واهتز عبيالا
وافترّ درّا وغنّى بلبلا وذكا … مسكا وعنّ طلا وازورّ ريبالا
ومن المحفوظ أيضا فى ساق لسيف الدين المشدّ:
ساق تجلى كأنه قمر … على قوام أفديه من ساق
لما رآنى وقد فتنت به … من عظم وجدى وفرط أشواقى
شمّر عن ساقه غلائله … فقلت مهلا واكفف عن الباقى
غنى وكاس المدام فى يده … قامت حروب الهوى على ساق
ومن ذلك فى المعنى:
لم أنسه إذ قام يكشف عامدا … عن ساقه كالجوهر البرّاق
لا تعجبوا أن قام فيه قيامتى … إن القيامة يوم كشف الساق
ولنعود الآن إلى سياقة التاريخ بعون الله تعالى، وحسن توفيقه. وإنما قصدنا بإثبات هذه المقطعات لتنشيط القارئ، ولا يمل ويسأم من فنّ واحد، فإذا خرج به شجون الحديث من فنّ إلى فنّ، كان لزناد فكرته أقدح، ولطير نظرته أصدح.
(7/146)

قال الإمام علىّ-كرّم الله وجهه-: «إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، فابتغوا لجلائها طرائف الحكم».
وقال سيدنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا».
وفى هذه السنة اشتد الغلاء بمصر، وبلغ الأردب القمح مائة درهم، والشعير والفول من خمسين إلى ستين، فنعوذ بالله من أمثالها.
وفيها خطب باسم الملك الكامل ناصر الدين محمد مع اسم أبيه الملك العادل سيف الدين أبو بكر بالديار المصرية؛ ونقش ذلك على الدينار والدرهم.
وفيها عزل القاضى زين الدين، وأعيد إلى الحكم القاضى صدر الدين المقدم ذكره، وكان وجيها عند الملك الكامل.
(7/147)

ذكر سنة سبع وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ذراعان فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأمر، نافذ الحكم.
والسلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر وولده الملك الكامل، ملوك مصر والشام بأعمال دمشق وما معها مع الشرق، وما بأيديهما منه. وبقية الملوك أولاد السلطان صلاح الدين فى بلادهم مستمرين الممالك بها. والغلاء مستمر بمصر.
وفيها احترق البحر احتراقا عظيما، حتى نشف قدّام المقياس، وحفر قدامه، وارتدمت طاقات الماء، وجدد حفره، وكان ارتدم من بحر مصر شرقى الجزيرة.
وفيها قبض السلطان الملك العادل على أولاد أخيه؛ المؤيد والمعز، واعتقلهما فى دار بهاء الدين قراقوش.
وفيها كثرت الفقراء والصعاليك بمصر والقاهرة؛ وخلت الأرياف والضّياع، واشتد بالناس الجوع، وأكل بعضهم بعضا، وأكلوا الميتة، وفرق بعضهم على الأغنياء.
والتزم الملك العادل بمؤنة ستة آلاف نفر. وكان يموت بمصر والقاهرة كل يوم ما يزيد عن الستمائة والسبعمائة من الجوع.
وفيها لحق الملك الكامل جدرى، وعوفى منه.
وفيها خرج السلطان الملك العادل إلى البركة وخيّم بها، لما بلغه خروج الملك الظاهر صاحب حلب إلى منبج وملكها. وتوجه إلى قلعة نجم وحاصرها. واختلفت الناصرية على الملك العادل. وبلغه أن الظاهر نزل على دمشق، فتوجّه العادل من البركة، ووصل نابلس، وخيم بها. فلما بلغ الظاهر ذلك عاد إلى حلب. فنفّذ السلطان ولده الملك المعظم عيسى وقلده مملكة دمشق. ثم توجه العادل ودخل الشرق، واستولى على عدة ممالك، وهم: حرّان، والرها، وسروج، وجبل عوف، وميافارقين،
(7/148)

وسميساط. وملّك ميافارقين لولده الملك الأوحد نجم الدين، وعاد السلطان إلى مصر.
وفيها اشتد بالناس الغلاء، وهرب أكثر أهل مصر إلى الغرب وإلى الحجاز واليمن والشام وتفرقوا أيدى سبا. وكان ذلك أعظم مما جرى فى زمان المستنصر فى سنة عشر السبعين والأربعمائة حسبما ذكرناه فى سنيه.
وروى الناس من الثقاة، أن فى هذه السنة كان يقوم الرجل فيذبح ولده الصغير، وتساعده أمّه على طبخه، ويأكلونه. ولما اطلع السلطان على ذلك، مسك منهم جماعة فعلوه، فأمر بحرقهم، فأحرقوا بمشاهدة جميع الناس. وعادوا يفعلون ذلك، مع من يقدرون عليه وعلى تحصيله، مثل طبيب يدعى لينظر إلى مريض، فعندما يحصل فى الدار يثبوا عليه فيقتلونه ويأكلونه. وكذلك مثل مزين، وجرائحى، وسائر أرباب الصنائع، الذين يستدعون إلى المنازل ليصنعوا شيئا من صنائعهم، فيفعلون به كذلك، وعادوا يختطفون الصغار والصبيان من الحارات والأزقة. وحصر من كفّنه السلطان فى مدة عشرة أيام فكانوا مائة ألف وعشرين ألف. وصلى خطيب الإسكندرية فى يوم واحد على سبعمائة جنازة من أعيان الناس، خارج عمن لا يعبأ به.
وكان أشد الغلاء والوباء بالديار المصرية فى شهر رمضان، بلغ فيه القمح سبعة دنانير مصرية الأردب، والشعير والفول خمسة. ولا عاد يوجد شئ من سائر الحبوب، وآلت مصر إلى الخراب الكلى، لولا لطف الله بعباده. وطلع نيلها فاطمأنت نفوس الناس قليلا.
وفيها كانت الزلزلة العظيمة فى شهر شعبان، أتت من نحو الصعيد، فعمت الدنيا فى ساعة واحدة، وهدمت بنيان مصر، حتى عدم تحت الهدم عالم عظيم. ثم وصلت بالشام والساحل، وهدمت نابلس، حتى لم يبق بها جدار قائم إلاّ حارة السّمرة.
(11 - 7)
(7/149)

وهلك تحت الردم ثلاثون ألف إنسان. وكذلك هدمت عكا وصور، مع قلاع الساحل.
وامتدت إلى دمشق، فهدمت بعض المنارة بجامع بنى أمية، وأكثر الكلاسة، والبيمارستان النورى. وهرب الناس إلى الميادين. وسقط من الجامع ستة عشر شرافة، وانشقت قبة النسر. وامتدت إلى بانياس وهونين. وخرج قوم من أهل بعلبك سائرين فى طريقهم، فسقط عليهم جبلا، فهلكوا تحته. وهدمت أكثر قلعة بعلبك مع عظيم بنائها. وامتدت إلى حمص وحماة وحلب. وقطعت البحر إلى قبرص، وانفرق البحر فصار أطوادا، وقذف بالمراكب إلى الساحل، وتكسرت منه عدة مراكب.
ثم وصلت إلى أخلاط وأرمينية وأذربيجان والجزيرة. ووصلت إلى العجم، فأحصى من هلك فى بلادها تحت الردوم، فقيل كان ألف ألف ومائة ألف. وكان قوة الزلزلة فى مبتدأ أمرها أقامت بقدر ما يقرأ الإنسان سورة الكهف، ثم عاودت بعد ذلك أياما.
وفيها توفى الشيخ جمال الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن على بن عبد الله بن حماد ابن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزى بن عبد الله بن القاسم بن النظر بن القاسم بن محمد ابن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق، رضى الله عنه. وهو ابن الجوزى الواعظ المشهور. وقيل إن أباه توفى وتركه وهو ابن ثلاث سنين. وكان له عمة صالحة، وكان أهله تجارا فى النحاس. فلما كبر، حملته عمته إلى مسجد أبى الفضل، وأسمعته الحديث. وقرأ القرآن، وعنى بأمره شيتم ابن الزعفرانى، وعلمه الوعظ. واشتغل بفنون العلم، وأخذ اللغة عن أبى منصور الجواليقى. وصنف الكتب فى فنون شتى، وقيل بلغت مصنفاته نحوا من ثلثمائة كتاب. وحضر مجلسه الخلفاء والوزراء والعلماء والأئمة والملوك والأمراء. وأقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف نفر. وأوقع الله له فى قلوب الناس المحبة والقبول
(7/150)

والهيبة. وكان زاهدا فى الدنيا. وقال صاحب هذا النقل عنه أنه سمعه يقول: «كتبت بأصبعى هاتين ألفى مجلد». وتاب على يده ما يزيد عن مائة ألف إنسان. وأسلم على يده نيف وعشرة آلاف يهودى ونصرانى. وكان يختم القرآن فى كل سبعة أيام.
ولا يخرج من بيته إلا إلى الجامع الجمعة، أو عند ما يحضر مجلسه للوعظ. ولا رآه أحدا مازحا قط، ولا رئى فى صباه يلعب قط. وهو صاحب كتاب التاريخ الكبير المسمى بمرآة الزمان، جمع فيه من العجائب والغرائب ما نثرت منه جملة فى هذا التاريخ. رحمه الله تعالى، وسائر علماء المسلمين.
وفيها توفى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، وكان خادم أسد الدين شير كوه، عم السلطان صلاح الدين. وجعله السلطان صلاح الدين زمام قصره. وكان رجلا مسعودا ذو همة، وهو الذى بنى السّور المحيط بمصر والقاهرة، حسبما تقدم من ذكر ذلك. وبنى القناطر بالجيزة التى على طريق الأهرام. وعمّر بالمقسم رباط، وبظاهر باب الفتوح خان سبيل. وله وقف كثير لا يعرف الآن. وكان حسن المقاصد، جميل النية. وكان كما تقدم من الكلام أنه أخذ أسيرا من عكا لما أخذها الفرنج، فاشترى نفسه منهم بعشرة آلاف دينار. وقال القاضى بهاء الدين بن شداد فى سيرة السلطان صلاح الدين: أنه انفك من الأسر يوم الثلاثاء حادى عشر شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قلت: والناس ينسبون إليه أحكاما عجيبة فى ولايته، وهى بالعكس مما يروونه عنه، حتى أن الأسعد بن مماتى صنع جزءا لطيفا وسمّاه «الفاشوش فى أحكام قراقوش».
وفيها توفى سقمان الملقب قطب الدين بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان؛ صاحب آمد وحصن كيفا. سقط من سطح جوسق فمات. وملك أخوه محمود، وكان شديد الكراهية له والنفور منه، فملكه الله مكانه.
(7/151)

وفيها توفى القاضى عماد الدين الكاتب رحمه الله. وكان جامعا لفنون كثيرة من الأدب والفقه والخلاف والتاريخ. وله النظم البديع والنثر الفائق.
وكتب لنور الدين الشهيد وللملك الناصر صلاح الدين، ونال عندهما المنزلة العالية.
وله التصانيف البديعة كالبرق الشامى، وخريدة القصر، والتبصرة فى أخبار وزراء الدولة السلجوقية، وغير ذلك. وكان مولده سنة تسع عشرة وخمسمائة، فكان عمره تسع وسبعين سنة.
(7/152)

ذكر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ذراع واحد وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأمر، نافذ الحكم.
والسلطان الملك العادل سلطان الإسلام بالديار المصرية، والبلاد الشامية، وما بيده من بلاد الشرق. والملك الكامل ولى عهده.
والغلاء بمصر موجود، لم يتناقص إلى جمادى الآخرة لما ظهرت زيادة النيل المبارك.
وفى شعبان منها عادت الزلزلة، وهدمت ما كان تبقى من نابلس، وشقت قلعة حمص، وأخربت حصن الأكراد، وامتدت إلى قبرص.
وفى هذه السنة انتظم الملك بسائر الممالك الأيوبية للسلطان الملك العادل، وضربت له السكة وأقيمت له الخطبة.
وفيها-أعنى سنة ثمان وتسعين-توفى القاضى محيى الدين بن زكى الدين قاضى القضاة بدمشق وأعمالها. وكان إليه قضاء حلب وبلادها من الإمام الناصر. وكان-رحمه الله- فاضلا مترسلا، وله النظم والنثر البديعان. ولما توفى ولى السلطان الملك العادل قضاء دمشق لولده زكى الدين، وهو الذى لما أراد الملك المعظم عزله والإخراق به بعث إليه قباء وكمة، وتقدم إليه بلبس ذلك، فلبسه فلحقه غم وهم بسبب ذلك، فمات بعد أيام قلائل.
وفيها أخرج الملك العادل المنصور بن العزيز من الديار المصرية، لما خيف من الأمراء الصلاحية، وذلك فى الخامس والعشرين من ربيع الآخر، ومعه والدته وإخوته. وسيروا إلى الرّها، ثم انتقلوا إلى حلب فأقاموا عند الملك الظاهر، وأحسن إليهم.
(7/153)

ذكر سنة تسع وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ذراعان وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنى عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وولده الملك الكامل، وبقية الملوك على ما هم عليه.
وفيها وردت الأخبار أن الفرنج وصلت إلى عكا فى عالم عظيم، لا يحصى عدتهم إلا الله عز وجل، وأنهم طالبين الديار المصرية، وسيروا أصطولهم إلى ثغر الإسكندرية.
وفيها ماجت الكواكب والنجوم فى السماء شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، ولم يعهد بمثل ذلك إلاّ عند مبعث النبى صلى الله عليه وسلم.
(7/154)

ذكر سنة ستمائة هجرية
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثلاثة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك.
ودخل أصطول الفرنج-خذلهم الله-إلى فوّة يوم عيد الفطر، من فم رشيد، ونهبوها، وقتلوا من كان بها، وأقاموا يومين. وكانوا عشرين قطعة. ولم يكن قبل ذلك جسرت الفرنج على مثل هذا. والفرنج على عكا، والملك العادل مرابط لهم، والرسل تتردد بينهم فى أمر الصلح. ثم اتفقوا على رأى بينهم.
وفيها نزل الملك العادل دار الوزارة بالقاهرة المعزية، ونزل الكامل ولده بالقلعة، وهو أول من نزل بها من الملوك.
وفيها غارت الفرنج-خذلهم الله-وهم طائفة الاسبتار، على حماة، ونهبوا وقتلوا من التركمان خلقا كثيرا، ووصلوا إلى باب حماة. وخرج إليهم عامة حماة، فقتل منهم خلق عظيم والذى تبقى عادوا هاربين إلى حماة، فازدحموا فى الباب، فمات منهم أناس عدة، ورمى منهم جماعة بأنفسهم إلى الخندق. ورجعت الفرنج وقد أسروا جماعة كبيرة، وفيهم رجل يعرف بالشهاب بن التلاعى كان واليا
(7/155)

بحماة. وكان قد حمل على الفرنج وأرمى من فرسانهم جماعة، ثم تقنطر به جواده، فمسكوه وأتوا به إلى طرابلس. ثم إنه بعد ذلك هرب منهم، ورمى نفسه إلى البحر المالح، وتسلق فى جبال بعلبك، ووصل إلى أهله. وكتب صاحب حماة إلى عمه الملك المعظم-وهو بدمشق-فأنجده. ولم تفده النجدة لكثرة الفرنج، قللهم الله، وخذلهم.
وفيها توفى أبو القاسم هبة الله بن أبى الرداد، متولى مقياس النيل المبارك بمصر، وكان يومئذ خطيب الجامع بالجزيرة.
قال ابن واصل: إن فى سنة تسع وتسعين قتل الملك المعز إسماعيل بن الملك العزيز ظهير الدين طغتكين بن أيوب، صاحب اليمن. وسبب قتله قلة عقله، وما كان ادعاه من الدعاوى الكاذبة. وقيل إنه ادعى أيضا الربوبية، وأمر كاتبه أن يكتب: «من مقر الإلهية»، إلى غير ذلك. فاجتمعت عليه مماليك أبيه وغيرهم، وضربوا معه مصافا. وآخر الأمر أنه قتل فى حديث طويل، ونصبوا رأسه على رمح، وداروا به.
ورتبوا فى الملك أخ له صغير يلقب بالناصر، فجعلوا [له] اسم الملك. وأقاموا [أتابكا له] مملوك لجده يسمى سنقر، وتزوج أم الناصر، ثم توفى بعد حروب كثيرة.
وعصت زوجته بالقلعة، وقالت: «لا أسلمها إلا لرجل من بنى أيوب». ثم تزوجها آخر، يقال له غازى بن جبريل. ثم سمّ [الملك الناصر] ومات، [وقتل غازى بعد ذلك]. ثم حضر إليها بعد مدة سليمان شاه بن سعد الدين شاهنشاه بن الملك المظفر تقى الدين عمر، وكان لابسا بالفقيرى [لباس الفقراء] فتزوجته، وملك اليمن، واستمر إلى حين توجه الملك المسعود بن الملك الكامل إلى اليمن وملكها. وسير سليمان شاه إلى الديار المصرية، فأقام بها مكرما، وقتل شهيدا على المنصورة نوبة الفرنج.
واستمر الملك المسعود ملك اليمن والحجاز، حسبما يأتى من خبره.
(7/156)

وفيها أعنى سنة ستمائة كان المصاف بين الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن السلطان الملك العادل وبين عسكر الموصل، وكسرهم كسرة شنيعة. وكان ذلك أول ما ظهر من ميامنة حروبه. وعاد بعدها ما حارب جيشا قط إلا كسره، فإنه كان ميمون الحروب، سعيد الحركة، ما كسرت له راية قط.
وفيها ولد الملك الناصر قليج أرسلان بن الملك المنصور صاحب حماه، وهو شقيق الملك المظفر، أمهما ملكة خاتون، ابنة السلطان الملك العادل.
قال ابن واصل: وفى هذه السنة كانت الزلزلة العظيمة التى عمّت مصر والشام وبلاد الروم إلى صقلية، ووصلت إلى سبتة من الغرب.
(7/157)

ذكر سنة إحدى وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأوامر، نافذ الأحكام فى سائر الممالك الإسلامية، كثرها الله تعالى، وأعلى كلمة سلطانها. والسلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بحاله، وولى عهده الملك الكامل. وبقية الملوك الإسلامية على ما هم عليه.
وفيها فتح الفرنج-خذلهم الله تعالى-قسطنطينية العظمى، استقلعوها من الرّوم، ونهبوا أموالها. ووصلوا إلى الإسكندرية بأموالها وجواهرها، وما كان فى كنيستها من عجائب المصاغات وغرائب الصناعات. وأبيع عليهم-فى هذه السنة-الشب بعشرة دنانير القنطار.
وفيها غاروا الملاعين أيضا على مدينة حماة، وأخذوا النساء الغسالات من على نهر العاصى. وخرج إليهم الملك المنصور تقى الدين وقاتلهم بنفسه أشد قتال، وكشفهم، واستردّ النساء وجميع ما أخذوه.
قال ابن واصل: وفى هذه السنة-أعنى سنة إحدى وستمائة-خلع الإمام الناصر ولده عمدة الدين أبا نصر محمد من ولاية العهد، وولى ذلك أخاه الصغير أبى الحسن ولقبه الملك المعظم، لميله إليه دون ولده الكبير محمد. وكان الوزير يومئذ الشريف نصير الدين بن ناصر الدين مهدى الحسنى، فأخرج خطّا ذكر أنه خط عمدة الدين يذكر فيه أنه عاجز عن ولاية العهد، وشهد [عدلان] بصحته، فقطعت السكة والخطبة باسمه فى سائر الآفاق.
(7/158)

ذكر سنة اثنين وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم سبعة أذرع وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشرة أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك.
وبقية الملوك حسبما سقناه من ذكرهم.
وفيها كان السلطان بثغر الإسكندرية وعاد إلى القاهرة المحروسة. وكان قد جهز أصطول عدتهم خمسة عشر شينيا وشحنهم بالرجال، وخرجوا، فلحقهم هواء مزعج رمى بهم فى طرف بلاد العدو قريبا من مدينة طرابلس الشام، فكسر أكثرهم، وعدم خلق كثير من الأصطول والمقاتلة ما بين أسرى وغرقى. ولم يسلم من الشوانى غير ستة.
وفيها خرجت الأرمن ومعهم ملكهم ابن لاون وغاروا على تركمان كانوا نزولا على النهر الأسود، فأخذوا منهم خلقا كثيرا، وساقوا دوابهم إلى درب ساك، وأحرقوا ربضها، وغاروا على بعض ضياع حلب. ثم إنه تقرر الصلح بين الملك الظاهر صاحب حلب وبينهم.
وفيها وصل الملك المعظم عيسى من دمشق إلى مصر لزيارة السلطان العادل.
(7/159)

ذكر سنة ثلاث وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك.
وقد خرج بجميع العساكر المصرية بنية الغزاة، وجعل الملك الكامل بالديار المصرية.
وكان سبب حركة السلطان أنه بلغه أن الملاعين-أهل حصن الأكراد-خرجوا وغاروا على البلاد الإسلامية من الشامية، ونهبوا وقتلوا، فحلف [العادل] أنه لا يبقى بالساحل من الفرنج رجلا يكفر بالله، إن شاء الله تعالى. ووصل إلى دمشق. وكانت الملوك قدمت عليه بالعساكر من كل فج عميق على كل ضامر. ونزل على بحيرة قدس. ثم صام شهر رمضان حتى تكملت العساكر من جميع النواحى، وسار إلى حصن الأكراد. واتقع مع الفرنج وقعة عظيمة، قتل بينهما خلق كثير.
ثم كسرهم وضيق عليهم، وفتح حيفا وأعزاز، وهو حصن قريب من المرقب.
ثم نزل على طرابلس، ونصب عليها المناجيق، وضيّق على أهلها. وغارت العساكر على ضياعها، وأخذوا أهلها من النساء والرجال، وقطعوا أشجارها، والعين الواصلة إليها. ولم يزل الأمر كذلك إلا أيام فى هذه السنة. ثم رحل السلطان وعاد، ونزل على منزلته الأولى فى ذى الحجة من هذه السنة. وبعث صاحب طرابلس يسأل الصلح، وسيّر هدايا جيدة، وثلثمائة أسير من المسلمين، فتقرر الصلح بينهم. وكان الرسول الريدكور أخو صاحب طرابلس.
(7/160)

ذكر سنة أربع وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وكان له ثلاثة عشر ولدا ذكورا تأتى أسماؤهم فى مكانها، إن شاء الله.
وكان منهم الملك الأوحد نجم الدين، وكان قصيرا دميما، حقيرا فى العين، فخرج مع والده وإخوته إلى الصيد، فأرسل السلطان بازا على طائر، فحط الباز على رأس الملك الأوحد، فضحك السلطان وقال: «قد اصطاد بازنا اليوم بومة». فانكسر قلب الأوحد. وقيل: إن الباز كان أهداه للسلطان صاحب أخلاط، فى جملة هدايا.
وهذه الواقعة تعد من النكت الغريبة. فلما صار الأوحد صاحب ميافارقين، وقدر الله تعالى أنه ملك أخلاط-لما استدعوه أهلها، وسلموه البلد من غير كدّ ولا تعب- فكتب إلى أبيه يبشره، ويقول له فى جملة مكاتبته: «يا مولانا؛ البومة التى صادها باز مولانا السلطان فى اليوم الأول من شهر كذا فتحت مدينة أخلاط، وإنما كان الباز من صاحب أخلاط، فبشر المملوك بأن يكون ملكها». فلما قرأ السلطان كتابه تعجب منه كيف أسرّها فى نفسه، وعظم أمره فى قلبه.
(7/161)

وفيها على ما ذكر ابن الأثير-رحمه الله-صاحب التاريخ الكبير الجامع، إن خوارزم شاه عبر بلاد الخطا بجميع عساكره، وذلك باتفاق من صاحب سمرقند وبخارى وهم الخطا الذين يلقبون ملوكهم «خان الخان» يعنى ملك الملوك، وأنهم حشدوا والتقوا معه، وجرى بينهم قتال عظيم فى عدة وقعات، فتارة له وتارة عليه.
فلما كان فى هذه السنة، اقتتلوا أشدّ قتال، فوقعت الكسرة على خوارزم شاه، وانهزم جيشه هزيمة قبيحة، وأسر كثير من المسلمين، وأسر خوارزم شاه، وأسر معه بعض أمرائه الكبار-يقال له شهاب الدين بن مسعود -، أسرهم جميعا رجل من الخطائيين وهو لا يعرفهما. ووصل المنهزمون من جيوش السلطان، وفقدوا خوارزم شاه، فعظم عليهم، واشتاشت العساكر، واختبطت البلاد. ثم إن شهاب الدين بن مسعود قال للسلطان: «يجب عليك فى هذا الوقت أن تدع السلطنة ونقش الملك، وتصير خادما لى، لعلى أحتال فى خلاصك». فشرع خوارزم شاه يخدمه، ويقدم له الطعام، ويقوم فى قضاء حوائجه. فقال الرجل الخطائى الذى
(7/162)

أسرهما لابن مسعود: «إن هذا الرجل يكثر من تعظيمك». فقال له ابن مسعود:
«أنا رجل كبير فى قومى، وهذا غلامى». فعاد ذاك الرجل الخطائى يكرر لابن مسعود، ويقوم بحقه، وقال له: «لولا إن قومى عرفوا مكانك عندى وإلا كنت أطلقتك». ثم تركه أياما، فقال له ابن مسعود: «إن المنهزمين يرجعون ولا رأونى، فيظنون أهلى أنى قد قتلت، فيعملون مأتمى، ويتفرقون أموالى ويقتسمونها، فأهلك ولا أعود أجد ما أستفكّ به نفسى. فلعلك أن تقرر علىّ شئ من المال فأحمله إليك». فقرر عليه مالا جيدا، وقال: «أريد أن تأمر رجلا عاقلا يذهب بكتابى إلى أهلى، ويأتيك بما طلبت، وإن كنت تأمر أن تنفذ غلامى هذا فهم يعرفونه ويثقون به، فإن أصحابكم لا يعرفون أهلى». فأذن له ذلك الرجل فى إنفاذ غلامه. فعندها سيّر ابن مسعود السلطان خوارزم شاه، والخطائى يظن أنه غلامه.
ثم جهزه الخطائى بفرس وجنيب، وأنفذ معه جماعة من أهله وأقاربه، ووصّلوه إلى قريب من خوارزم، وعادوا وتركوه. ثم وصل السلطان إلى قريب من محل ملكه، فعرّف بنفسه، والتأمت عليه نواب بلاده، واستبشروا به أهل مملكته، وضربت البشائر بسائر ممالكه، وزينوا المدن والحصون.
وأما ابن مسعود فإنه أقام عند ذلك الرجل، فدخل عليه يوما فقال لابن مسعود:
«قد وردت الأخبار على ملكنا أن السلطان خوارزم شاه قد عدم فإيش عندك من خبره». فقال ابن مسعود: «أو ما تعرف خوارزم شاه؟». قال: «لا، والله». قال:
«هو والله أسيرك الذى سفرته وجعلته غلامى». فبهت الرجل وقال: «ولم لا عرفتنى حتى كنت خدمته وسرت بين يديه؟». فقال ابن مسعود: «قم الآن بنا نسير إليه، فإنه يحسن مكافأتك أضعاف ما أمّلته عندى». فسارا إليه، وقدما عليه، فجعل ابن مسعود حاجبا كبيرا، وجعل ذلك الخطائى أميرا، وأحسن إليهما غاية الإحسان، والله أعلم.
(7/163)

وفيها وصلت رسل الخليفة الإمام الناصر لدين الله، بالخلع العظيمة، وتقليد بجميع البلاد الشامية والديار المصرية والممالك بالشرق، والخلع إلى سائر الملوك أولاده، صحبة شهاب الدين شيخ الشيوخ السهروردى، والأمير نور الدين السلحدار الناصرى. قلت: وهذا الشيخ شهاب الدين السهروردى القائل هذين البيتين، وذلك لما أشفق من طول العمر، فقال:
يا رب لا تبقنى إلى زمن … أكون فيه كلاّ على أحد
خذ بيدى قبل أقول لمن ألقاه … عند القيام خذ بيدى
وقيل فى هذه السنة سكن الملك الكامل القلعة، وجدد بها الآدر والمناظر والمستنزهات والحمامات وغير ذلك.
قال ابن واصل: فى هذه السنة عزل الخليفة [الناصر لدين الله] وزيره نصير الدين ناصر بن مهدى العلوى الحسنى، وذلك لما خيلوه منه الأعداء، وأغروه به، فمن ذلك ما قيل:
ألا مبلغ عنى الخليفة أحمدا … توقّ-وقيت السوء-ما أنت صانع
وزيرك هذا بين أمرين فيهما … فعالك-يا خير البرية-ضائع
فإن كان حقّا من سلالة أحمد … فهذا وزير فى الخلافة طامع
وإن كان فيما يدّعى غير صادق … فأضيع ما كانت إليه الصنائع
(7/164)

ذكر سنة خمس وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا ونصف أصبع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وهو بدمشق. وتوجه إلى خدمته الملك الكامل ولده، وأقامت مصر والقاهرة خاليتان من سلطان إلى حين عودته.
وفيها وصل إلى السلطان الملك العادل، وإلى جميع أولاده، سراويلات الفتوة، صحبة رسل الخلافة، وصحبتها خلع عظيمة. فلبسوا، ولبس كل أحد من يلوذ به من أمرائه وخاصته. وشاع لبس ذلك فى الناس.
وفى شهر رجب توفى القاضى صدر الدين عبد الملك بن عيسى، وكان صالحا.
وولى الحكم بعده القاضى عماد الدين عبد الرحمن بن عبد العلى. وجمع له ما لم يجمع لغيره من تدريس وخطابة وغيرهما.
وكان السلطان العادل قد نزل على عكا فى سنة أربع، وهى السنة الخالية، وأقام عليها ثلاثة أيام. ثم اتفق الحال على [إطلاق] ألف وثمانمائة أسير من المسلمين، فاستنقذوا من الأسر، ورحل عنها.
(12 - 7)
(7/165)

وفى سنة خمس خرجت الكرج إلى ولاية أخلاط، وقصدوا مدينة أرجيش فحاصروها، وملكوها عنوة بالسيف، ونهبوا جميع ما فيها، وأسروا وسبوا جميع أهلها، وأصبحت خاوية على عروشها.
وفى آخر هذه السنة عاد الشيخ شهاب الدين السهروردى من عند الإمام الناصر إلى السلطان الملك العادل، وصحبته خلعة عظيمة مكللة، وطوق ذهب مرصع بالجواهر، وتقليدا عظيما يتضمن نعوتا لم ينعت بها إلا الملوك من بنى بويه وبنى سلجوق، لما كان الحكم لهم فى البلاد. ويتضمن التقليد مصر، والشام، والشرق كله، والعراق، وبعض العجم الذى لم يكن داخل فى ملك خوارزم شاه. وكذلك الخلع العظيمة إلى سائر الملوك أولاده. وكان ذلك يوما مشهودا.
وفيها كانت الزلزلة بنيسابور، فدامت عشرة أيام وهى تعاودهم. وهلك تحت الردم عالم عظيم، والله أعلم.
(7/166)

ذكر سنة ست وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة لم يتحرر فى هذه السنة، كونه أخذ القاع من الماء القديم فى شهر ذى الحجة. وكانت الزيادة فى سنة سبع وستمائة ستة عشر ذراعا فقط.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل قد توجه إلى غزاة الكرج، لما بلغه ما فعلوه، وخروجهم على ولده الملك الأوحد صاحب أخلاط. فعندما سمع الكرج بتوجه السلطان إليهم، ولوا منهزمين. فنزل السلطان على سنجار محاصرا لها، لينزعها من يد مالكها، فوصل إليه رسول الإمام الناصر، وهو ابن الضحاك استادار الخلافة المعظمة، وفى خدمته أربعمائة فارس.
ولم يسمع بمثله أنه سير إلى ملك من الملوك من جهة الخلافة. وشفع فى صاحب سنجار، فامتثل ذلك، ورحل عنها.
وفيها توفى سنجر شاه صاحب الجزيرة. وكان هذا الملك سيئ الأخلاق، قبيح السيرة، ظلوما، غشوما، سفاكا للدماء بحقّ وبغير حقّ. وكان له عدة أولاد، فحبس كل واحد فى قلعة، وذلك خوفا على نفسه منهم. ثم إنه اعتقل ولدين منهم فى قلعة تعرف بقلعة فرح وهى قلعة عظيمة لا ترام. وكان أحدهما يسمى محمود والآخر مودود. واعتقل ولدا آخرا-يسمى غازى-بالمدينة، ووكل به من يمنعه من الخروج والدخول. وكان فى جانب تلك المدينة-محاذى الدار التى فيها غازى-
(7/167)

بستان خراب، فتحيّل الصبى حتى مسك ثعبانا عظيما، وسيّره إلى أبيه، وقال له: «ارحمنى، والله مالى مجاور غير هذا وأنظاره». وظن أنه يرق له، فلم يزدد عليه إلا قساوة. فاحتال الصبىّ وهرب من تلك الدار واختفى. فلما بلغ أبوه، شنق البواب على باب الدار، ثم نفذ البريد يتطلب الصبى فى سائر ممالكه، فلم يخبره أحد به.
وكان الصبى يمشى فى الأسواق وتحت قلعة أبيه، والناس يعرفونه ويدعون له ويحسنون إليه، محبة فيه وبغضا فى أبيه. وكان الصبى متولعا بإحدى حظايا أبيه، فكان يكاتبها وتكاتبه. فكتبت إليه أن يأتيها الليلة. فأتاها، وأقام معها فى القصر.
ثم إن الملك شرب تلك الليلة، وأحضرت الملاهى والأغانى، فأمعن فى شربه، ورسم أنه يغنوا له فى الفراق وما أشبه ذلك. ثم ذكر ذنوبا فعلها مع الناس، وظلمه لأولاده.
هذا وغازى ولده على أعلى القصر يسمع وينتظر غفلته ليقتله. فلما ثمل من الشرب، وخرج الأغانى، وخلا بنفسه، قام إلى الخلاء، فوثب عليه غازى فقتله، وضربه بالسكين أحد عشر ضربا، ثم لم يقنعه حتى ذبحه. ولو كان-مع مشيئة الله عز وجل-جلس فى ذلك الوقت كان استقر أمره فى الملك، وإنما التهى مع تلك الجارية بالأكل والشرب، ورأس أبيه بين يديه، فخرجت جارية صغيرة إلى الدهليز، وعرّفت لأستادار أبيه الصورة، فسير ذلك الأستادار من وقته، وأخرج بقية الأولاد المحبسين، وأخبرهم بقتل أبيهم، فجلسوا على الباب، وأحضروا الحجاب وكبراء الدولة، ومسكوا غازى واعتقلوه. وجلس ابنه مودود فى دست الملك، والله أعلم.
وفيها وصل إلى بورة أربعة عشر مركبا من مراكب الفرنج، فنهبوها وأسروا من فيها، فخرج إليهم الملك الكامل فى الشوانى الإسلامية. فلما بلغهم ذلك هربوا.
وبورة هذه بالقرب من دمياط.
قال ابن واصل: فى هذه السنة كانت وفاة الملك المؤيد نجم الدين مسعود ابن السلطان صلاح الدين، بالسبب الآتى ذكره فى تاريخه.
(7/168)

ذكر سنة سبع وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم لم يؤخذ له فى هذه السنة قاع جملة كافية، وسببه أن زيادة سنة ست فى سنة سبع، وقد تقدم ذكر الزيادة فى سنة ست.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك.
وفيها كانت وقعة الكرج مع الملك الأوحد. وذلك لما اتفقت الملوك فى هذه السنة على السلطان الملك العادل، وهم صاحب الروم خسرو شاه بن قليج أرسلان، وصاحب الموصل، وصاحب إربل، وصاحب الجزيرة، وصاحب ماردين، وصاحب سنجار.
واتفقوا أن تكون السكة والخطبة لصاحب الروم خسرو شاه. وخرج كل واحد من صوبه، وقصدوا أن يدهموا الملك العادل بكثرتهم، وكان يومئذ نازلا على حران، وعنده صهره صاحب آمد. ونزل الكرج على أخلاط سابع عشر ربيع الآخر وحاصروها، فسيّر الملك العادل وطلب الملوك أولاده وأولاد أخيه. ثم إن الله تعالى نصر الملك الأوحد على الكرج، وتفرقت كلمة الملوك المجتمعة على السلطان الملك العادل. وحضرت إليه الملوك بعساكرهم، وقصد الكرج. ثم جهز الملك الأشرف والملك المنصور ففتحوا نصيبين وسنجار. واستقرت السكة والخطبة باسم السلطان الملك العادل على عادته، والله أعلم.
قال ابن واصل: فى هذه السنة كانت وفاة نور الدين صاحب الموصل، بالسبب الآتى ذكره فى تاريخ أبى المظفر. والخلف فى هذه الأحوال فى مدد السنين على صاحب النسخة الأصل عهدته، وإنما العبد ذكر كل من التاريخين وما اختلفا فيه.
وقال ابن واصل: إن فى هذه السنة توفى الملك الأوحد صاحب أخلاط، وهو غلط منه، وإنما الصحيح ما ذكرناه فى سنة عشرة وستمائة.
(7/169)

ذكر سنة ثمان وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع أخذ تقديره فى سادس المحرم. مبلغ الزيادة فى هذه السنة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وقد عاد من بلاد الشرق فى هذه السنة، ودخل الديار المصرية، ونزل دار الوزارة.
وفيها توفيت والدة الملك الكامل، ودفنت بجوار ضريح الإمام الشافعى، رضى الله عنه. وبنى عليها القبة العظيمة التى أجمعت الناس أنهم لم يروا مثلها. وحمل الماء إليها من بركة الحبش على قناطر معقودة إلى التربة. وعمرت القرافة الصغرى بسبب ذلك. واستجدت الناس فى القرافة الآثار الحسنة.
وفيها توفى أبو الحسن على بن محمد أبو سعد، الملقب بتاج الدين بن حمدان، صاحب كتاب التذكرة الحمدونية، الذى سقنا فى هذا التاريخ جملة منها، لما وجدنا صحة ما أثبته هذا الفاضل فيها من الأخبار، ونثره من جواهر الآثار، رحمه الله تعالى، وسائر علماء المسلمين، مع كافة أمة محمد أجمعين.
وفيها توفى فخر الدين إياز جهاركس، صاحب القيسارية بالقاهرة المحروسة، رحمه الله.
وفيها توفى الملك المؤيد مسعود بن السلطان صلاح الدين، رحمهما الله تعالى.
وكان لما قدم إلى رأس العين تلقاه الوالى بها، وأحضر له فاكهة، فأكل منها هو
(7/170)

وجماعة من خواصه. فلم تستقر الفاكهة فى معاه سوى ربع ساعة، وصاح: «النار».
وتوفى بعد ثلاث ساعات من تلك الساعة، بعد الظهر، وكذلك سائر من أكل معه منها. ثم حملوه إلى حلب إلى عند أخيه الملك الظاهر، ودفن بها. ولما بلغ العادل موت المؤيّد لبس عليه الأزرق.
قال ابن واصل: وفيها كانت الفتنة بالحجاز، ونهب الركب العراقى. ولولا التجأ الباقون إلى الركب الشامى-وكان فيه ربيعة خاتون بنت أيوب أخت السلطان الملك العادل-لكان الحجازيون قد أتوا عليهم. وسبب ذلك أن باطنيا وثب على الشريف أبى عزيز قتادة صاحب مكة فقتله. وكانت أم صاحب [حصن] «الألموت» قد قدمت حاجّة، فادعوا أن الباطنى من جهتهم.
(7/171)

ذكر سنة تسع وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وقد توجه من مصر إلى دمشق. وهرب عز الدين أسامة، ولحقه الملك المعظم بنفسه، وقبض عليه [واعتقله بالكرك]، وتسلم من نوابه ما كان بيدهم من القلاع، بعد حصار كوكب، وأخذ وخرب. ونقلت ذخائره إلى الطّور. واستقر السلطان بدمشق.
وفيها كانت الوقعة العظيمة المعروفة بالعقاب، بين الأمين محمد بن يعقوب ابن عبد المؤمن صاحب المغرب، وبين الفرنج، على مدينة طليطلة من الأندلس.
وكان النصر للمسلمين على المشركين.
وفيها نزل صاحب الكرج على أخلاط وحاصرها، وأشرف على أخذها. ثم إنه شرب خمرا وثمل سكرا، فحدثه سكره أن يركب ويأخذ البلد، فركب [فى عشرين فارسا] وساق، فتقنطر به الفرس، فأخذ أسيرا مع عدة من أصحابه، وأحضروا للملك الأوحد.
وفيها تحركت الفرنج حركة عظيمة، وخرج لهم السلطان، ثم وقع الصلح والهدنة.
وفيها توفى نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر صاحب الموصل. وكان مدة ملكه بالموصل سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرا. وكان
(7/172)

لما قوى مرضه، تولى الأمور وتدبير الأحوال بدر الدين لؤلؤ-وكان أستاداره والحاكم فى مملكته. فلما مات الملك قال الأكابر من الدولة: «لا يفوه أحد بموته».
وخرج بدر الدين لؤلؤ وجلس للناس، وقضى حوائجهم. ثم طلب الأمراء والناس، وأشاع بموته، بعد أن أتقن أمره. وأخرج الملك ودفنه فى مدرسته التى كان أنشأها مقابل داره. وكان نور الدين صاحب الموصل-رحمه الله-ملكا جميلا، جوادا، شجاعا، حسن الوجه، كريم المحيا، كثير البشاشة، كثير الهيبة على أهل مملكته، زائد العدل، لا يستحسن الظلم، يكون مع الضعيف بخلاف القوى، جيد الحيلة والتصرف فى أمور المملكة. وحكى عنه أنه لما توجه إلى نجدة صاحب ماردين حين حاصره الملك الكامل بن العادل وملك الربض منه، فحضر نور الدين إلى نجدته، وضرب مصافا مع الملك الكامل، وكسره. واستقرت قلعة ماردين شاغرة بلا ملك ولا مانع، فقيل له: «املك القلعة، فإنه لم يكن بها من يمنعك». فقال: «أعوذ بالله أن أغدر بصاحبها، وأكون قد أنجدته من عدوه وأخونه فى ملكه، فيكون مثلى كمثل الرجل مع أبى زريق، وذلك أن رجلا حاز بشعراء فسمع قائلا يقول: بالله عليك أدركنى وخلص فراخى. فنظر وإذا هو الطائر المعروف بأبى زريق، وحيّة التفّت على شجرة، طالعة إلى عشّ له فى تلك الشجرة، تريد فراخه، فرمى الرجل الحية بسهم فقتلها. ثم قال: والله إنك طائر حسن ذكى، لآخذنّ فراخه. فتسلق فى الشجرة يريد أخذ الفراخ. فلما نظر إليه ذلك الطائر وعلم أنه يريد أخذ فراخه.
قال له: يا إنسان قد عملت خيرا فتمه. فتعجب منه، ورجع على نفسه بالملامة. وأنا كذلك إن أخذت هذه القلعة فأكون عملت خيرا وما تميته». ثم إنه نفذ كتابا إلى صاحبها يبشره بالفتح والنصرة على الملك الكامل، ويستقدمه، فقدم، وسلمه قلعته.
(7/173)

ومن مناقبه-رحمه الله-عن مجد الدين ابن الأثير كاتبه قال: «كنت مع نور الدين صاحب الموصل، وكان له سرّادار، وكانت مفاتيح القلعة مع ولد السرادار، ففتح وسرق دراهم لها صورة، فبلغ السلطان ذلك، فسير إلىّ ليلا مع الدوادار أن أكتب كتابا بأن تقطع يد ابن السرادار». قال القاضى مجد الدين بن الأثير:
«فقلت للدوادار إننى لا أكتب كتابا إلا بين يديه. فراددنى، فامتنعت واعتذرت.
فأحضرنى بين يديه وقال: لم لا كتبت بقطع يد ابن السرادار؟. فقلت: ياخوند، ولم ذلك؟. قال: لأنه سارق. فقلت: مولانا-أحسن الله إليه-عودنى أنى لا أكتب إلاّ بما يجوز فى الشرع. فقال: فكيف السارق ما تقطع يده فى الشرع؟. قلت: هذا سرق من غير حرز. قال: وكيف؟. قلت لأن المفاتيح معه. قال: فإن كان هكذا فجزاك الله عن صحبتك خيرا، منعتنا عن الإثم». ثم لم يذكره بعدها.
قال ابن واصل: وفى هذه السنة قبض السلطان كيكاوس على أخيه كيقباذ.
وكان قد ذكر استيلاء السلطان غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقى على بلاد الروم. ثم هلك غياث الدين، فقام بالملك بعده ولده الملك الغالب كيكاوس.
وفى هذه السنة قصده عمه طغرل شاه وحاصره، فاستنجد بالملك الأشرف، فخاف طغرل شاه، ورحل عن سيواس إلى بلاده. واستقر كيكاوس.
(7/174)

ذكر سنة عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وهو بدمشق.
وفيها استقرّ ملك الموصل لعز الدين مسعود بن نور الدين المقدم ذكره. ومدبر مملكته بدر الدين لؤلؤ، أستادار أبيه.
وفيها وردت كتب الخليفة الإمام الناصر لسائر ملوك الإسلام، بأن يشربوا له كأس الفتوة ويلبسوا السراويلات. وسيّر لكل ملك خلعة تليق به، وتقليدا بممالكه، فامتثل جميع الملوك ما رسم لهم به.
وفيها عاد السلطان الملك العادل من الشام إلى ديار مصر.
وفيها توفى الملك الأوحد نجم الدين صاحب أخلاط، واستولى على ممالكه الملك الأشرف مظفر الدين موسى. ثم إنه قدم إلى خدمة السلطان بالديار المصرية. ثم إن السلطان أنعم على ولده الملك المنصور شهاب الدين غازى بتمليك الرّها وأعمالها.
وفيها هدم السلطان حصن كوكب، وأبقى عجلون.
وفيها ظفر السلطان علاء الدين كيكاوس-صاحب الروم-بعمه طغرل شاه، وأخذ بلاده، وقتله، وذبح أكثر الأمراء. وأراد قتل أخيه، فشفع فيه، فعفى عنه، واعتقله. قلت: وهذه رذيلة فى البيت السلجوقى، وإن كانوا غير رذيلين. لكن أنفسهم أنفس قوية ملوكية، لا يروا الضيم من بعضهم بعض، والملك لا شك عقيم.
(7/175)

وفيها أظهر جلال الدين حسن-ملك الإسماعيلية -الإسلام، وكان قبل ذلك زنديقا، هو وجميع طوائفه. وهم أيضا فرقة من فرق القرامطة المقدم ذكرهم.
فأظهر فى هذه السنة الإسلام والتوحيد، وقام بجميع الشعائر الإسلامية، وأمر رعيته بذلك، ولم يكونوا يعرفون ذلك من قبل هذا. واستمسك بمذهب الإمام الشافعى-رضى الله عنه-واستقر كذلك حالهم إلى الآن.
وفيها وصل القاضى بهاء الدين بن شداد، من عند الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين صاحب حلب، رسولا من أمّه إلى ابن عمها الملك العادل، تستعطفه، وتطلب منه ضيفة خاتون شقيقة الملك الكامل-وكانت آخر بنات الملك العادل- وخطبتها لولدها الملك الظاهر، فأنعم لها بذلك، وحصل الاتفاق.
قال ابن واصل: إن فى سنة عشرة كان مولد الملك العزيز بن الظاهر صاحب حلب. وأرخ ذلك بيوم الخميس خامس ذى الحجة من هذه السنة المذكورة. وقال أبو المظفر بل فى سنة إحدى عشر. وكانت ضيفة خاتون توجهت إليه فى أول السنة، وولدت له الملك العزيز آخرها. وقد ذكرنا ذلك. والتفاوت بين النقلين سنة كاملة، والله أعلم بالصحيح فى ذلك. ولم يذكر ابن واصل توجه ضيفة خاتون إلى الملك الظاهر.
وذكر ذلك الشيخ جمال الدين أبو المظفر يوسف بن الجوزى، رحمه الله.
(7/176)

ذكر سنة إحدى عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك.
وفيها جهز الملك الكامل جيشا ثقيلا، ووجهه إلى اليمن صحبة ولده الملك المسعود صلاح الدين يوسف أقسيس. وجعل أتابكه الفارس فليت. وذلك أن سيف الإسلام صاحب اليمن كان قد توفى إلى رحمة الله عز وجل، واستولى على اليمن سليمان شاه ابن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، باتفاق من أجنادها. وتزوج أم سيف الإسلام المتوفى. ووصل الخبر إلى الملك الكامل، فاستأذن والده السلطان الملك العادل فى إنفاذ ولده أقسيس، فأذن له فى ذلك، فنفذه فى هذا العسكر الثقيل، فملكها الملك المسعود المذكور سلما من غير حرب ولا قتال. وكان ملكا جبارا فاتكا، قتل خلقا كثيرا من الأشراف من نسل الهادى المقدم ذكره، وخلقا من أكابر أهلها.
وفيها كانت المعاملة بالقراطيس السوداء العادلية بدمشق، نسبة الدراهم السّود بمصر.
وفيها أعطى وأنعم الملك المعظم على مملوكه وأستاداره جدّنا الأمير عز الدين أيبك العظمى صرخد وسائر أعمالها، وملّكها له تمليكا. فلم تزل فى يده إلى أن استعادها الملك الصالح نجم الدين أيوب فى سنة أربع وأربعين وستمائة، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى.
(7/177)

وفيها ملك السلطان علاء الدين خوارزم شاه بن تكش كرمان ومكران.
ثم ملك فى هذه السنة السند واتصل ملكه إلى أطراف الصين.
وفيها سيّر الملك الظاهر صاحب حلب يطلب زوجته ضيفة خاتون من عمه الملك العادل، وتقرير العقد. وسير فى قبول ذلك القاضى بهاء الدين بن شداد. وسيّر معه أشياء كثيرة من الخلع والإنعامات على سائر الأمراء والأعيان. ولما وصل إلى دمشق خرج إليه الأمراء الكبار وحكام الدولة، وتلقوه مع جميع العساكر، وأحضره إلى القلعة. وكان يوما عظيما ما شهد مثله. وكان النائب عن الملك العادل فى قبول العقد شمس الدين التيتى، وعقد العقد على مهر مبلغه خمسون ألف دينار ولحوقاتها.
ثم نثر الذهب على رءوس الناس. وجهز السلطان بعد ذلك ضيفة خاتون. ثم وصلت إلى زوجها الملك الظاهر، وخرج تلقاها بنفسه-من أول أعمال حلب-بسائر جيشه. وكان عبورها إلى قلعة حلب يوما مشهودا.
قال ابن الأثير فى تاريخه: إن من جملة ما وصل معها من التحف والقماش والمصاغ ما حمله مائة وخمسون بغلا. وقال أبو المظفر صاحب التاريخ: كان فى جملة الجهاز ثمانون هاون ذهب برسم المطبخ، ومائة هجين قماش ملبوس وغيره، وثلاثمائة حمل جمل فرش وطرح، وأنظاره زركش وغيرها. ومن الجوار الصغار أربعمائة وصيفة ترك وقفجاق، ومن الجوار الكبار فى المحامل والكجاوات ما يحمله ألف جمل. وكان فى خدمتها مائة جارية مطربة، يلعبون بأنواع الملاهى، ومائة جارية للتطريز. ولمّا دخلت على الملك الظاهر قام لها قائما إحدى عشر دفعة. ثم قدّم لها خمسة عقود جوهر ليس لها قيمة فنذكرها، خارجا عن قلائد العنبر المفصلة باللؤلؤ الكبار، والياقوت البهرمان، ومائتى وسبعون ثوب أطلس معدنى قرمزى، ومثلها
(7/178)

من المعاجر المكللة، ومائتى قطعة من الذهب والفضة من صناعة الفرنج العجيبة، وعشرين هجينا موسّقة من الثياب المختلفة الألوان. وكان وصولها إليه أول شهر ربيع الأول من هذه السنة. وفى آخرها ولدت له الملك العزيز، واحتفل له الملك الظاهر فى ولادته احتفالا عظيما. ثم أمر الصناع أن يقترحوا من سائر الأنواع والصنوف، فعملوا من ذلك أشياء بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة. وكذلك تماثيل من سائر الأنواع، مثل فهود من عود وعنبر وصندل، ووحوش من جميع الأجناس مطعمة بالذهب والفضة. وفتح للمولود بيتا، وعبر الناس، وأرموا عليه من الجواهر واليواقيت والبلخش واللؤلؤ والأموال ما حسبت قيمته مائة ألف دينار عين. ثم صنعوا له درعين فى كل درع أربعين جوهرة كقدر بيض الحمام، مفصلا بالياقوت البهرمان. وصنعوا له بركستوان جميعه لؤلؤ كبار، وستة سروج مجوهرة، وستة سيوف محلاة مرصعة بعلائق ذهب مكللة، ورماح ذهب وأسنتها بلخش. وفى يوم سبوعه ختن الملك الظاهر ولده الملك الصالح صلاح الدين أحمد، وكان يوما عظيما ما شهد مثله. وختن معه أربعمائة غلام من أولاد كبار الدولة. وختن ألف يتيم وأكساهم أفخر ملبوس. وعملت وليمة ما شاهد الناس مثلها، والله أعلم.
وقال ابن واصل: لما ولد الملك العزيز امتدحت الشعراء وصنعوا القصائد المنتخبة فى التهانى. فمن ذلك قول راجح الحلّى من قصيدة مطلعها، يخاطب الملك الظاهر:
نعم جادت الدنيا بما أنت آمله … فحسبك من آمالها ما تقابله
إذا ماهناء قال قوم: قد انقضت … أواخره كرّت عليه أوائله
فيا حبذا دهرا بملكك أشرقت … على أهله أسحاره وأصائله
فلسنا نرى إلا نعيما يديمه … صنيعك فينا أو سرورا يواصله
(7/179)

ومنها:
فلله مولود أنار به الهدى … وأسفر وجه الملك واشتد كاهله
تباشرت الدنيا بغرّة وجهه … فبورك من نجل وبورك ناجله
ومنها:
وتحمد منه سيرة ظاهرية … بها تشمل الآفاق طرّا شمائله
عليه خلال من أبيه وجدّه … تدل على أن البلاد معاقله
ومنها فى تطهير ولد الآخر [يعنى ولده الصالح]:
ورثت خليل الله منصبه الذى … سما والنجوم الزاهرات تطاوله
فأحييت بالتطهير سنّته وكم … تبعت نبيّا فى الذى هو فاعله
آخرها يقول:
فدم يا غياث الدين للخلق رحمة … تعمّهم كالغيث طبّق وابله
(7/180)

ذكر سنة اثنتى عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا، وثمانية أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وقد توجه من دمشق، ودخل القاهرة المحروسة فى شوال من هذه السنة.
وفيها كان ابتداء النيابة فى المدرسة العادلية بدمشق المحروسة.
وفى النصف من شعبان توفى سيدى الشيخ نور الدين أبى الحسن على بن حميد المعروف بالصباغ رضى الله عنه، ودفن بجبانة ناحية قنا، من عمل صعيد مصر، بجوار قبر شيخه سيدى الشيخ عبد الرحيم العمارى الحسينى، رضى الله عنه. وصحب الشيخ أبا الحسن-رضى الله عنه-جماعة من الأولياء والصديقين والنجباء والصالحين، فكان يقول رضى الله عنه: «أصحابى ستمائة رجل، وما نال أحد بالديار المصرية ما ناله أصحابى، سوى رجلين الشيخ مفرج بدمامن، والشيخ أبو كريم، بكورة البهنساوية، رحمة الله عليهم أجمعين».
وفيها توفى الشيخ الهروى، وكان له عند الملك الظاهر صاحب حلب صورة كبيرة. وكان من كبار الصالحين، رحمة الله عليه.
(7/181)

قال ابن واصل: فى هذه السنة كان استيلاء الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل محمد بن السلطان الملك العادل أبو بكر على اليمن. وقبض على سليمان شاه وزوجته، وسيرهما مكرمين إلى الديار المصرية، حسبما ذكرناه.
وفيها كانت وفاة على بن الإمام الناصر، الذى كان نقل إليه العهد من أخيه واستقر العهد فيه.
قال ابن واصل أيضا: إن فى هذه السنة ملك الرّوم من الإفرنج مدينة أنطاليا، وصاحبها السلطان عز الدين كيكاوس، وقتلوا من بها من المسلمين، ثم استنقذها واستعادها منهم.
قال: وفيها ملك ابن لاون الأرمنى مدينة أنطاكية من الشام، وأحسن إلى أهلها، فأحبه أهلها لظلم صاحبها الابرنس، وأطلق جماعة من أسرى المسلمين كانوا بها.
(7/182)

ذكر سنة ثلاث عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. والملك الكامل-ولده-ملك الديار المصرية.
وفيها عزل القاضى عماد الدين بن عبد العلى من الحكم والخطابة، وتولى الحكم بالقاهرة-مع الجانب الغربى والبحرى-القاضى شرف الدين محمد بن عز الدولة.
وتولى مصر مع الوجه القبلى القاضى تاج الدين عبد السلام الدمياطى، المعروف بابن الخياط. وتولى الخطابة بالقاهرة الفقيه بهاء الدين بن الحميدى، وبمصر الفقيه طاهر الحلى.
وفيها تحركت الملكة صاحبة عكا، لما قدم عليها أخوها فى البحر، يسمى الملك نفرى، وكان فى خلق عظيم، ونزل بعكا. وصار يركب ويسير إلى القيمون وغيره. فخشيه الملك العادل، فجرد له إسماعيلى فضربه خمسة سكاكين، فمات، وقتل الإسماعيلى.
وفيها توفى الملك المعظم أبو الحسن على بن الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين.
وفيها وقع بالبصرة برد كثير-قدر كوز الفقاع-حتى كسر رءوس النخل، وقتل كثيرا من الناس والحيوان.
(7/183)

وفيها اتفق الملك الغلاب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو السلجوقى مع الملك الظاهر صاحب حلب، على لاون ملك الأرمن. ودخل عز الدين كيكاوس من مرعش ودخل الملك الظاهر من درب ساك، فأحرقوا سيس ونهبوا منها شيئا كثيرا.
قال ابن واصل: إنه لم ينتظم للملك الظاهر وصاحب الروم أمر ولا كان بينهما اتفاق. وإن الملك الظاهر سير استشار السلطان فى ذلك فمنعه. وأن ابن لاون هادى الملك الظاهر وراسله، فحصل الصلح بينهما. ولم يتوجه الظاهر ولا [أرسل] جيشا من حلب إلى معونة كيكاوس صاحب الروم. وذكر ما ذكرناه فى التوجه أبو المظفر، والله أعلم كيف كان.
وفيها أرسل الملك الظاهر القاضى بهاء الدين بن شداد إلى السلطان الملك العادل يسأله أن يكون الملك بعده لولده الملك العزيز ابن بنت السلطان، ولا يغير عليه شيئا بعد وفاته. وطلب بنت الملك الكامل لولده الملك العزيز. فلما قدم بهذه الرسالة قال السلطان: «أما الملك فهو لولده ولا أغير عليه حسبما سأله. وأما الزواج فما هو لى، ولكن امض إلى أبيها الملك الكامل». فمضى إلى الملك الكامل وتحدث معه، فتبسم معه وقال: «من لى بابن عمى وابن أختى، لحمى ودمى». وأنعم له بذلك.
وفى آخر هذه السنة توفى الملك الظاهر صاحب حلب، رحمه الله تعالى. واستقر الملك العزيز صاحب حلب مكان أبيه، ولم يغير عليه شيئا.
قال ابن واصل: كانت وفاة الملك الظاهر ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة وستمائة. وكان كتب وصية أن يكون ولده
(7/184)

الملك العزيز بعده، ثم يكون ولده الملك الصالح أحمد بعد العزيز، ثم يكون الملك المنصور بن العزيز بن السلطان صلاح الدين بعده؛ وهو الذى أخرجه الملك العادل من ملك مصر.
قال: وزوج الملك المنصور المذكور بابنته قبل وفاته بيوم واحد، وأوصى له بشئ كثير، وجعل أتابكية ولده للأمير شهاب الدين طغريل، فقام بخدمة هذا البيت أتم قيام، ووفى من الأمانة ما لا وفّى به غيره. ولم يعتمد ما اعتمده بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فى حق بيت مخدومه من إزالة الأمر عنهم، وتخصيصه إياه.
فكان لؤلؤ بالضد من الأتابك شهاب الدين، رحمه الله. وأحضر الملك الظاهر-قبل وفاته- الريس جمال الدين على بن صفى الدين بن الطريرة، وأخلع عليه، وقلده رياسة حلب، وكانت لأبيه من قبله.
قال: وبعث فى ذلك اليوم لكل واحد من إخوته جملة مال، وأعتق مائة مملوك ومائة جارية، وأزوجهم بهن، ورتب لهم كفايتهم، وفعل من الخير ما يضيق عنه الوصف، رحمه الله تعالى.
بقية ذكر الظاهر: وكان الملك الظاهر صاحب حلب، رحمه الله، ملكا جوادا سمحا أديبا فاضلا. قيل إن أبا المحاسن ماجد بن محمد كتب إليه أبياتا منها:
أما وضجيج قهقهة القنانى … وأصوات المثالث والمثانى
لقد أضحى الشآم يتيه عجبا … بملك ما له فى الأرض ثانى
فكتب جوابه يقول:
طلبنا الدّرّ من بحر المعانى … وعذب اللفظ من عضب اللسان
وهل تجنى ثمار الفضل إلا … فروع أصلها حلو المجانى
فلا عجب أن استسقيت غيثا … أو استسقيت منطلق العنان
وأنت السابق الغايات فضلا … إذا ما قصّرت خيل الرّهان
(7/185)

فأهلا، ثم أهلا، ثم أهلا … بما أرسلت من سحر البيان
قلت: لعل هذا الشعر يعتد به فى طبقة المطرب من طبقات الشعر، لجودته، وسلاسته، وحسن توصيفه، وبراعة معانيه، رحم الله قائله.
وكان عمر الملك العزيز بن الظاهر-لما جلس فى الملك عند وفاة أبيه-سنتين وأشهر، وعمر أخيه الملك الصالح أحمد ولى عهده نحو اثنتى عشرة سنة. ووقع فى ذلك منازعات كثيرة من أعمامه أولاد السلطان صلاح الدين، مثل الملك الزاهر، والملك الظافر وغيرهم. وآخر الأمر استقر الحال خشية من جده الملك العادل الكبير.
ولما مات الملك الظاهر المذكور رثاه شرف الدين بن راجح الحلى يقول:
سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه … بمن علقت أنيابه ومخالبه
أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا … أما فيكم من مخبر أين صاحبه؟
ومنها:
فإن يك نور من شهابك قد خفا … فيا طالما جلّى دجى الليل ثاقبه
وقد لاح بالملك العزيز محمد … صباح هدى كنّا قديما نراقبه
فتى لم يفته من أبيه وجدّه … أب ثم جدّ غالب من يغالبه
ومنها يخاطب الملك العزيز وأخاه الملك الصالح بقوله:
أيمكث بالشهباء عبد أبيكم … ومادحه أم تستقل ركائبه
فلما سمع شهاب الدين أتابك هذا البيت قال: «قولوا له يرحل فلا حاجة بنا إليه، فإنا لا نعطى الشعراء شيئا».
قال: ثم امتدح شهاب الدين-بعد عدة مراثى عملها فى الظاهر-فلم يجزه عليها شيئا. وأمر شهاب الدين بقطع ما كان له مرتبا، ففارق حلب، وصار إلى الملك الأشرف، فحظى عنده. وبقية ما لخصناه فى الصفحة الأخرى.
(7/186)

ذكر سنة أربع عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، واثنان وعشرون أصبعا.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وبقية الملوك فى محل ممالكهم على ما هم عليه.
وفيها توجه السلطان الملك العادل من الديار المصرية إلى الشام، وخيم بنابلس، وانتقل إلى بيسان. وكان الفرنج-خذلهم الله-محاصرين الطور، فلما بلغهم توجه السلطان إليهم رحلوا عنها خاسرين، بعد ما قتل من كبارهم عدة. ثم إنهم تجمعوا وخرجوا على العساكر السلطانية بمنزلة بيسان، فرحل السلطان عنها، ونزل على مرج الصفر. ثم غاروا على تبنين وبانياس، ولم يحصلوا على شئ ورجعوا خائبين خاسرين.
وأخذ ابن ملكهم أسيرا، مع عدة جيدة من خيالتهم.
وفيها وردت على السلطان عيونه أن الفرنج-خذلهم الله-فى تجهيز عظيم، وأنهم طالبين جميع بلاد الإسلام، فاهتم السلطان الملك العادل فى تحصين سائر الثغور الإسلامية وعمائرها، وإزاحة جميع أعدارها.
وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة، وغرقت بغداد بأسرها، وانهدمت قصورها ودورها. وركب الإمام المسترشد بالله فى شبارية وخاطب الناس، واعتذر لهم، وجعل يتأوه ويقول: «لو كان هذا الماء يرد بمال أو برجال لدفعته عنكم، ولكن أمر الله لا مرد له». وزاد الماء أمرا عظيما إلى أن وصل السور، وأيقن الناس
(7/187)

بالهلاك. ودامت كذلك سبعة أيام، ثم نقص الماء، وعادت بغداد تلال خراب من الجانبين. وهذه غرقة أخرى غير الأولى المقدم ذكرها.

ذكر توجه السلطان خوارزم شاه
إلى نحو بغداد
فى هذه السنة قدم السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش السلجوقى إلى همذان طالبا بغداد، فى أربعمائة ألف عنان-وقيل فى خمسمائة ألف عنان-واستعد له الإمام الناصر لدين الله، وفرّق الأموال والسلاح. وسير إليه الشيخ شهاب الدين السهروردى -المقدم ذكره-رسولا، فأهانه، واستدعاه، وأوقفه إلى جانب تخته، ولم يأمره بالجلوس. وعن أبى المظفر قال: حدثنى الشيخ شهاب الدين السهروردى قال: استدعانى السلطان علاء الدين خوارزم شاه، فأتيت، فدخلت إلى خيمة عظيمة، فيها دهليز لم أر فى الدنيا مثله. وتلك الخيمة والشقة والدهليز أطلس معدنى قرمزى.
والأطناب حرير أبريسم. وفى ذلك الدهليز ملوك عراق العجم على اختلاف طبقاتهم، مثل صاحب همذان، وصاحب أصفهان، وصاحب الرى، وغيرهم. ثم دخلت إلى خيمة أخرى أعظم من الأولى أطلس معدنى قرمزى، بنوارات زركش، وأطناب حرير. وفى دهليزها ملوك خراسان مثل صاحب مرو، وصاحب نيسابور، وصاحب بلخ، وغيرهم. ثم دخلت إلى خيمة أعظم من الأولتين، وملوك ما وراء النهر فى دهليزها. ثم دخلت إلى خركاة عظيمة، أضلاعها ذهب عين، وعليها سجاف مرصع بالجواهر، يأخذ بالبصر. ثم دخلنا عليه، فوجدناه فى خركاة حسب العادة، مغشية بلبد أبيض، وهو جالس على تخت ساذج. وهو شاب بوجه كالترس، ورأسه
(7/188)

كرأس البغل، وله شعرات يسيرة فى وجهه، وعليه قباء بخارى يساوى خمس دراهم، وعلى رأسه قطعة من جلد تساوى درهمين. قال الشيخ شهاب الدين: فسلمت عليه، فلم يرد علىّ، ولا أمرنى بالجلوس. فشرعت، فحمدت الله عز وجل، وخطبت خطبة بليغة، ذكرت فيها فضل بنى العباس، ووصفت الخليفة بالزهد والورع والدين، والترجمان يردّ عليه قولى. فلما فرغت من كلامى قال للترجمان: «قول له هذا الذى تصفه ما هو هذا الذى فى بغداد، وإنما أنا أجئ إن شاء الله تعالى إلى بغداد، وأقيم خليفة يكون بهذه الأوصاف». ثم ردّنا بغير جواب. ثم رحل ونزل بلخ، فأرسل الله عز وجلّ على جيشه ثلجا عظيما، ما نظروا مثله، أهلك دوابهم، ووقع كثير من أطارف قومه من قوة الثلج الذى نزل بهم. ثم إن خوارزم شاه ركب يوما فرسه، فعثر به أطاحه من سرجه، فتطيّر من ذلك، ووقع فى عسكره الفساد. وكان معه سبعين ألف من الخطاء، فاختلفوا عليه، فعاد إلى بلاده فى تلك السنة. هذا ما ذكره أبو المظفر.
وأمّا ما ذكره الشيخ شهاب الدين أبو شامة قال: نسخت من كتاب محمد بن محمد ابن أحمد النسوى، الجامع لأخبار التتار مع السلطان علاء الدين خوارزم شاه ومع ولده السلطان جلال الدين منكبرتى، وقد اختصرت ما أمكن تلخيصه. حكى القاضى مجير الدين الخوارزمى أن السلطان علاء الدين سير مرارا إلى بغداد، آخرها بمطالبة الديوان بما كان لبنى سلجوق من الحكم، والنزول ببغداد، فأبوا عليه ذلك، وأنفذوا إليه الشيخ شهاب الدين السهروردى رسولا، مدافعا لما طلب من الديوان العزيز. وكان عند السلطان علاء الدين من حسن الاعتقاد ما أوجب تخصيص الشيخ برفيع المنزلة، ومزيد الاحترام، ما يميّز به عن سائر الرسل الواردة عليه من سائر الأقطار. وأنه لما دخل إليه الشيخ، أقبل عليه وأكرمه وأجلسه.
(7/189)

فقال الشيخ: «من سنّة الداعى لهذه الدولة القاهرة أن يقدم على أداء الرسالة حديثا من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم». فأذن له السلطان فى ذلك، وجلس على ركبتيه تأديبا لسماع الحديث. فذكر الشيخ حديثا فيه تحذير من أذيّة أقاربه. فلما فرغ الشيخ من رواية الحديث، قال السلطان: «أنا ما أذيت أحدا من أقاربه، ولا من آل العباس، ولا قصدتهم بسوء. وقد بلغنى أن فى مجلس أمير المؤمنين منهم خلق كثير مخلدين، يتناسلون فى الحبوس. فلو أورد الشيخ هذا الحديث بعينه على مسامع أمير المؤمنين كان أولى وأنفع». فعاد الشيخ والوحشة قائمة. ثم عزم السلطان علاء الدين على طلب بغداد، وقسم نواحيها إقطاعات لعمال من قبله. وسار حتى علا عقبة أسداد فنزلت عليه الثلوج حتى ملأت عليه الأباطح وغطت الخراكى والخيام. ودام كذلك أسبوعين، فشمل الهلاك خلقا من عساكره، ولم ينج شئ من الجمال، وتلفت أيدى أناس كثيرة، فرجع عن وجهه، وسيأتى تتمة أخباره فى مكانها.
وفيها كان جفل السلطان الملك العادل من الفرنج لما خرجوا عليه بجموعهم، ووصلوا إلى عين جالوت فأحرقوها. وطلع السلطان إلى قلعة عجلون، وقطع الفرنج خلفه الأردن، وأوقعوا باليزك، وغاروا على البلاد. وورد المرسوم إلى المعتمد والى دمشق بالاهتمام والاستعداد، واستخدام الرجال، وتدريب الدّروب على قصر حجاج والشاغور وطرق البساتين. ونقلت غلة داريا إلى القلعة بدمشق.
وغرقوا الأراضى بالمياه لأجل الفرنج الملاعين، وقصدهم إلى دمشق. وأرسل السلطان
(7/190)

إلى ملوك الشرق يستحثهم. ثم نزل السلطان على مرج الصفار ليجتمع العساكر فيه.
ووقع عند ذلك الجفل العظيم، وعزم الناس على النزوح عن أوطانهم بدمشق. وعاد للناس ضجيج وبكاء وتضرع إلى الله عز وجل فى أوقات الصلوات بالجامع. ثم إن الفرنج-خذلهم الله-عادوا إلى عكا بجميع ما احتووا عليه من الأسارى وكانت غارتهم وصلت إلى زحر وإلى فيق وغيرهما. ثم وصل الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص بمن اجتمع إليه من العساكر لنجدة الناس، ودخل من باب الفرج بعد جهد جهيد لازدحام الناس. ومضى من فوره إلى دار ست الشام-أخت السلطان الملك العادل- فسلم عليها. ثم عاد إلى داره وبات بها. وأصبح متوجها إلى خدمة السلطان، فعند ذلك سكنت نفوس الناس.
وكان الملعون ملك الفرنج فى ذلك الوقت وجامع حشودهم يقال له الملك العنكر، وكان فى خمسة عشر ألف قنطارية فرسان، خارجا عن الرجالة. وكان هذا الملعون شجاعا مقداما. قال أبو المظفر: لما رجع هذا الملعون بمن معه من خربة اللصوص، ووصلوا إلى تل الفرس. ثم رحلوا ونزلوا تحت الطور يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان، وأقاموا إلى يوم الأحد ثانى رمضان، وكان يوما كثير الضباب. فما شعروا بهم أهل الطور إلا وهم عند الباب، وقد ألزقوا رماحهم السور. فعند ذلك فتح المسلمون الباب، وخرج إليهم الفارس والراجل، وقاتلوهم أشدّ قتال، حتى رموهم إلى أسفل
(7/191)

الطور. فلما كان يوم الثلاثاء رابع الشهر المذكور، طلعوا بأسرهم، وصحبتهم سلم عظيم، فزحفوا من ناحية المرامى من نحو باب دمشق. ولم يزالوا حتى ألزقوا السلم السور، فقاتلهم المسلمون قتالا لم يعهد فى جاهلية ولا إسلام مثله، لشدته.
ودخلت رماح الملاعين من المرامى من كل ناحية، فضرب بعض الزراقين السلم بقارورة نفط أحرقه، وقتل عنده جماعة كبيرة من أعيان الفرنج، وقتل كند كبير من كبارهم. فلما رأوه صاحوا صيحة عظيمة، وكسروا رماحهم عليه. واستشهد فى ذلك اليوم من المسلمين من الأمراء بدر الدين محمد بن أبى القاسم، وسيف الدين مرزبان، وكانا من الأمراء الأجواد الصلحاء، رحمهما الله تعالى. وغلقوا الأبواب، وباتوا يداوون الجرحى، واتفقوا أنهم يقاتلون قتال الموت ولا يسلمون أنفسهم، فيجرى عليهم كما جرى على أهل عكا. وكان فى الطور أبطال المسلمين. وأوقد الفرنج حول الطور النيران. فلما كان يوم الخميس سادس رمضان وقت السحر رحل الفرنج طالبين عكا، ولم يعلم لذلك سبب. ثم إن الملك المعظم وصل الطور، وأطلق الأموال، وأخلع على سائر من كان بها، وشكر لهم ما صنعوه.
وفيها جلس الملك العزيز بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين على كرسى مملكة حلب.
وفيها تتابعت إمداد الفرنج وملوكها فى البحر من المرقية والبنادقة، وهما كرسى مملكة الرومانية، وهى التى فيها الباب الكبير، الذى يزعمون أنه الخليفة عندهم. ثم تتابعت ملوكهم أولا فأولا، وحلفوا أن لا بد لهم من البيت المقدس والشام والساحل بكماله. فلما بلغ السلطان الملك العادل ذلك-وكان بالديار المصرية-
(7/192)

جمع العساكر، وخرج بنية الغزاة وحمى بلاد الإسلام. وقصد الشام، وبث العساكر من الداروم إلى الرملة. ولما بلغ الفرنج ذلك قصدوه بخيلهم ورجلهم. ولم تكن العساكر تكملت بعد عند السلطان. وكان حذورا، فرحل من مرج الصفار، وطلب دمشق، وجعلها ظهره. فعند ذلك غارت الفرنج على البلاد الإسلامية، وأخذوا من بيسان وأعمالها خلقا كثيرا، وسفكوا وقتلوا ونهبوا وأحرقوا.
ووصلت غاراتهم إلى جينين. ثم أقاموا على بانياس ثلاثة أيام، ثم رجعوا بالأموال والغنائم والأسرى إلى عكا. ثم عادوا إلى صيدا والشقيف، ثم رجعوا إلى عكا.
ولم يزالوا كذلك إلى النصف من رمضان المعظم. ثم إن السلطان عيّد بدمشق عيد الفطر، وخرج طالبا للعدو، وحلف لا بد له منهم. فبينما هو راكب إذ رأى شيخا كبيرا، وعلى رأسه حملة كبيرة ثقيلة، وهو يعدو بها، فقال له السلطان: «لا تعجل يا شيخ، وتمهّل على نفسك»، فالتفت إليه الشيخ وقال: «ما تستحى من الله يا سلطان الإسلام، إنك قد أسلمتنا لعدونا، وتقول على مهلك». فكانت هذه الكلمة أشد ما يكون عليه وخنقته العبرة. ثم أمر ولده الملك المعظم عيسى أن يأخذ العساكر ويسير إلى الفرنج، ويردهم عن البيت المقدس. ومضت سنة أربعة عشر وستمائة والحروب بينهما سجال.

ذكر أولاد الشيخ وأصلهم
قال ابن واصل: فى هذه السنة-أعنى سنة أربع عشرة وستمائة-عاد الشيخ صدر الدين بن حمويه من بغداد، وكان قد توجه إليها رسولا من الملك العادل إلى الديوان العزيز. قال: وكان صدر الدين هذا جليلا معظما عند الملك العادل. وكان أبوه الشيخ عماد الدين قدم إلى الشام فى الأيام النورية، ففوّض إليه السلطان الشهيد
(7/193)

نور الدين محمود بن زنكى مشيخة الصوفية بالشام، وجعل إليه نظر الخانقاه بدمشق وغيرها، إلى أن مات. صار بعد ذلك النظر لولده الشيخ صدر الدين. وولد لصدر الدين أولاد نجباء من ابنة شهاب الدين بن شرف الدين بن أبى عصرون، وهم فخر الدين وعماد الدين وكمال الدين ومعين الدين، فتقدموا فى الأيام الكاملية غاية التقديم، وسيأتى من أخبارهم ما يليق بمواضعها.
(7/194)

ذكر سنة خمس عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الملك، قائم السلطان.
والسلطان الملك العادل سلطان الإسلام. وبقية الملوك على ما هم عليه.

ذكر الوقعة العظمى على ثغر دمياط وابتدائها
لمّا كان فى ثانى شهر ربيع الأول من هذه السنة، وصلت الفرنج-خذلهم الله-إلى ثغر دمياط المحروس، وعبروا بمراكبهم كلها من الفم، وخيموا ونصبوا المناجنيق الغريبة والشيطانية، ورموا الثغر. ووقع الحصار والجدّ والقتال. وكان السلطان الملك العادل نازلا على مرج الصفّار، وبعث بالعساكر إلى ولده الملك الكامل. وأقام الملك المعظم بساحل الشام مقابل الفرنج خوفا على الساحل منهم.
هذا والملك العادل مريض عاجز عن الحركة والركوب. ونزل الملك الكامل ليلة الثلاثاء سابع عشر شهر جمادى الآخرة بثغر دمياط، ووصل مخيم عساكره إلى أشموم.
وفيها أخربوا الطور لما رأوه وبالا على المسلمين ويشغلهم عما سواه. وكان فى يد الملك المعظم، فعوض عنه أموالا جزيلة. ونقلوا جميع ذخائر القلعة إلى القدس وعجلون والكرك. وكان الطور قد أنشأوه فى سنة سبع وستمائة.
(7/195)

وفيها-فى يوم الجمعة ثانى عشر ربيع الآخر-كسر الملك الأشرف موسى ابن السلطان الملك العادل لملك الروم كيكاوس السلجوقى. وسبب ذلك أن الملك الأشرف جمع عساكر الشرق وعسكر حلب، ودخل بلاد الفرنج وأشغلهم عن دمياط، ونزل على صافيتا وحصن الأكراد. وكان السلطان [العادل] بمرج الصفار مريضا، حسبما تقدم من القول، فاستغنم صاحب الروم غيبة الأشرف بالعساكر، واشتغاله بالفرنج، وخرج إلى رعبان يريد يتسلم حلب لخلوها من العساكر. وأخذ رعبان وتل باشر، فبلغ الملك الأشرف ذلك، فعاد من صافيتا إلى حلب وقد سبقه صاحب الروم إلى منبج، وتقدم بعض عسكره إلى بزاعة. وكان الملك الأشرف بظاهر حلب. وتقدم بين يديه المبارز بن خطلخ وسنقر الكبير والحلبيون مع جماعة من مشاهير الجيش. ونزل الملك الأشرف بعدهم على تل بزاعة. وقدم العرب بين يديه، والتقى بعسكر الروم. وكان الملك الأشرف مؤيدا فى سائر حروبه، فكسر صاحب الروم كسرة شنيعة. وكانت العرب أكثر نكاية فيهم. ثم استرد الملك الأشرف رعبان وتل باشر، وأعطاهما للملك العزيز صاحب حلب. ثم بعث الأشرف سيف الدين ابن كهدان والمبارز بن خطلخ فى عسكر كثيف إلى خدمة أخيه الملك الكامل، وهو على ثغر دمياط.
وفى آخر جمادى الأولى أخذ الفرنج-خذلهم الله-المنازل على دمياط، وملكوا برج السلسلة. وكان هذا البرج قفل الديار المصرية. فنفذ الملك الكامل إلى أبيه السلطان العادل صدر الدين شيخ الشيوخ، يخبره بذلك، ويستصرخه ويستنجده. فلما اجتمع به وكان على حطة من المرض فعرفه، فدق بيده على صدره، وكان سبب وفاته، رحمه الله، كما يأتى بيان ذلك فى موضعه، إن شاء الله تعالى. قال الشيخ علم الدين السنجارى: إن هذا البرج كان قفل الديار المصرية، وذلك أنه كان برجا عاليا بنى فى وسط النيل، وفى ناحيتيه سلسلة وسلسلة، تمتد إحداهما على النيل
(7/196)

إلى دمياط، وتمتد الأخرى على النيل إلى الجزيرة، يمنعا من عبور المراكب إلى بحر النيل من المالح. فملكوه الملاعين فى التاريخ المقدم.
وفيها توفى السلطان الملك العادل-رحمه الله-حسبما يأتى من ذكره فى موضعه، إن شاء الله تعالى.
وفيها توفى الملك القاهر عز الدين صاحب الموصل، وهو عز الدين مسعود ابن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكى بن آقسنقر. وكانت وفاته لثلاث بقين من شهر جمادى الأولى. وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر. وانقرض بانقراضه البيت الأتابكى، رحمهم الله تعالى.

ذكر وفاة السلطان الملك العادل
توفى إلى رحمة الله تعالى سابع جمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر ست وسبعون سنة وأشهر. وملك دمشق فى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فكانت مدة ملكه دمشق ثلاث وعشرون سنة. وملك مصر سنة ست وتسعين وخمسمائة، فكانت مدة ملكه بمصر والشام والشرق تسع عشرة سنة. وخلف من الأموال والفصوص والجواهر ما قيمته سبعمائة ألف دينار، خارجا عن الضياع والكراع.
وخلف فى الكرك مثلى ذلك، لكن احتوى عليه الملك الحافظ ولده، فإنه كان نائبا للسلطان والده بالكرك. وكان للسلطان الملك العادل خمس عشر ولدا وقيل سبعة عشر ذكرا، خارجا عن البنات وهم: الملك الأوحد [أيوب] نجم الدين صاحب أخلاط، والملك الفائز شمس الدين إبراهيم، والملك المغيث تقى الدين عمر، والملك المعظم شرف الدين عيسى صاحب دمشق، والملك العزيز عماد الدين عثمان، والملك الأمجد مجد الدين حسن، والملك الأشرف مظفر الدين موسى، والملك المعز
(7/197)

مجير الدين يعقوب، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل أبو الجيش، والملك المفضل قطب الدين أحمد، والملك الأمجد تقى الدين عباس-وهو أصغرهم مولدا وآخرهم موتا-توفى سنة تسع وستين وستمائة، والملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه، صاحب قلعة جعبر. وتاج الملوك إسحاق، والملك المظفر صاحب ميافارقين شهاب الدين غازى، أدرك هلاوون وفتحه بغداد. والملك الجواد شمس الدين داود -توفى فى حياة أبيه-وخلف ولده الملك الجواد أيضا الذى ملك دمشق. والسلطان الملك الكامل ناصر الدنيا والدين محمد صاحب مصر أعلاهم ملكا وأسماهم رتبة، وصاحب السكة والخطبة.
وفيها التقى الملك المعظم الفرنج فى جمادى الآخرة على القيمون، فنصر الله الإسلام على عبدة الصلبان، ببركات النبى عليه السلام. وقتل من الفرنج خلق كثير، وأسر من فرسان الديوية مائة فارس، وعبر بهم إلى القدس وأعلامهم منكسة.
وفيها اجتمعت سائر ملوك الفرنج ونازلوا ثغر دمياط. وعادت الأمداد تمدهم أولا فأولا. أجمعت الرواة من أرباب التواريخ أن الحرب لم تزل بين الفريقين، ليلا ونهارا، وصباحا ومساءا، مدة أربع سنين متوالية، حتى عادوا أولاد المسلمين وأولاد الفرنج الصغار يخرجون ويتصاففون، ويأسرون بعضهم البعض، ثم يتفادون فيما بينهم. فبينما الملك الكامل فى أشد الأمر من حرب الفرنج، إذ ورد عليه الخبر بموت السلطان والده الملك العادل. وكان من جملة الأمراء الكبار أمير يقال له عماد الدين ابن المشطوب، وكان ملك الأكراد. فلما بلغه موت السلطان أفسد قلوب جماعة
(7/198)

من الأمراء على الملك الكامل، وقال: «هذا صبى خفيف، ولا يأتينا منه خير».
فلما بلغ الكامل ذلك خشى على نفسه، وهرب من ليلته مع جماعة يلوذون به من خاصته، ونزل المنصورة. وأصبحت العساكر فلم يجدوا السلطان بالدهليز، فتسحبوا أولا فأولا، وكانت كسرة عظيمة، لولا لطف الله عز وجل وعنايته بهذه الأمة. وأن الافرنج-خذلهم الله-لما لم يجدوا من يقاتلهم، ولا من يمانعهم، تقدموا إلى وطاقات المسلمين، ونهبوا الأموال والعدد والسلاح. وقد كان كل أحد من المسلمين قد أخذ ما خف حمله عليه، وترك ما ثقل. وكان الملك الكامل نوى أن يقصد اليمن، ويترك ديار مصر للعدو، فأبى الله إلا عوائده الجميلة على هذه الأمة المنصورة، وأن يكون الأعداء هم العصابة المكسورة. فلم يصبح الصباح إلاّ والملك المعظم صاحب الشام بجيوشه، وقد صبّحه. فخرج الملك الكامل وتلقاه، واعتنقا وبكيا. ثم إنه شكا إليه ابن المشطوب، وما فعله ونواه، فحلف المعظم أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفيه من الديار المصرية. وكان عسكر الديار المصرية فى ذلك الوقت أكثره أكراد، وابن المشطوب ملكهم. ثم إن المعظم لم يزل راكبا حتى مرّ بخيمة ابن المشطوب، فقام إليه وتلقاه. فقال له المعظم: «اركب والحقنى، حتى نتفق على أمر تكون فيه المصلحة، فرأيك المبارك». فتوهم ابن المشطوب أن المعظم مائل إلى ملك مصر، وأنه طلبه ليتفق معه على نزع الكامل من الملك. فركب ابن المشطوب حافيا بغير خفّ لعجلته، ولا سيف. فلما لحق به قال: «أريد نخرج ونبعد ونتحالف على أمر يكون فيه صلاح المسلمين». فقوى ظن ابن المشطوب، ولم يزل يحادثه إلى أن بعد عن وطاقه. ثم إن المعظم أمر أن يركب خمسين مملوكا من أجلاد مماليكه، وجعل عليهم عشرة من بنى أيوب، ويلحقون به. فلما لحقوا به، التفت إلى ابن المشطوب، وقال: «يا عماد الدين! هذه الديار المصرية لنا أو لك؟». فقال ابن المشطوب:
«الله! الله! يا خوند! أنا مملوك بنى أيوب». فقال المعظم: «نحن ما عدنا نريدك تبلى
(7/199)

بغيرنا ولا تبلى بنا». ثم أمرهم أن يأخذوه من ساعته، ويوصلوه إلى غزة. ثم رجع المعظم إلى خيمته، وكذلك الملك الكامل، وقوى أمره، وثبت ملكه.
وأمّا الفرنج فإنهم فى تلك الليلة أشرفوا على أخذ ثغر دمياط، وأحاطوا بها، وجدوا فى حصارها. وانقطع عن أهل دمياط من كان يدخل إليهم من جواسيس المسلمين، وقلّ عندهم القوت، وذلك بسبب حركة ابن المشطوب. وتمكن الفرنج تمكنا عظيما فى حفرهم الخنادق بينهم وبين المسلمين، وبنوا الأسوار، وعملوا الستائر بالأخشاب، وأقاموا فيها الرّماة بالجروخ. وأما من كان من المسلمين بدمياط، فإنهم ضعفت أحوالهم، وضاقت حيلتهم، واشتد خوفهم، وصبروا صبر الكرام.
وأراد الملك الكامل أن يسيّر إليهم رسولا، فلم يقدر على ذلك لحفظهم الملاعين البر والبحر. وكان عند الملك الكامل جندارا من قرية من ضياع حماه، يقال لها معرذفتين، اسمه شمائل، فتوصل إلى أن صار جندارا فى الركاب. فحضر بين يدى السلطان الملك الكامل، وسأل أن يكون رسولا إلى أهل دمياط، فكان يغطس فى البحر، ويطلع من البر الآخر، ويخاطر بنفسه، ويعبر دمياط، ويدخل بين مراكب الفرنج. ويجتهدوا كل الاجتهاد على أخذه، فلم يقدروا على ذلك. ودخل دمياط عدة طرق فى تلك الأيام التى لا كان الطير يطيق العبور بها؛ لاحتياط الملاعين بها، فأحسن السلطان إليه، وجعله برددارا. ثم أعطاه إقطاعا وجعله جنديا فى العدة.
ثم جعله مقدما فى الحلقة السلطانية وهو مع ذلك واقف على قدم الاجتهاد فى الخدمة والمناصحة. فأوعده السلطان وقال: «متى فتح الله تعالى علينا بكسر هذا العدو ورجعنا إلى القاهرة جعلتك من الناس». فلما فتح الله على المسلمين، واستعادوا دمياط -بعد [أن] أقامت بأيدى الفرنج ثلاث سنين-ورجع السلطان إلى القاهرة،
(7/200)

أمّر شمائل طبلخاناه بأربعين طواشيا، وولاه القاهرة. وهو الذى بنى الخزانة التى [عند] سور باب زويلة، المعروفة به، كفى الله شرها. وكان بين المسلمين وبين المشركين فى طول بقية هذه السنة وقائع متعددة إلى أن دخلت سنة ست عشرة وستمائة.
(7/201)

ذكر سنة ست عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع ونصف أصبع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأصبعان.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الأحكام، مطاع الأوامر.
والسلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش سلطان الدنيا بالشرق جميعه، إلى ممالك الصين وبلاد الخطا وغير ذلك. والسلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب سلطان الديار المصرية، وما معها.
وبقية الملوك إخوته بحالهم. والحرب قائمة على ساق بين المسلمين والفرنج-خذلهم الله- على ثغر دمياط.
وفى السادس من المحرم من هذه السنة هدم سور بيت المقدس وقلاعه وأبراجه وصهاريجه. ولم تزل العمارة فى هذا البيت من عهد البخت نصر إلى ذلك التاريخ، وسبب ذلك أن الملك المعظم صاحب الشام لما توجه إلى أخيه الملك الكامل، بلغه أن طائفة من الفرنج عزمهم إلى نحو البيت المقدس وأخذه، فاتفق مع الأمراء على خرابه، ليؤمن شرّه، ولا يكن لهم إلى نحوه التفات، فيشغلهم عما هم عليه. وخشوا أن يملكونه فيحصل لهم التعب فى إعادته منهم، فشرعوا فى هدمه فى التاريخ المذكور.
وكان يومئذ بالقدس الملك العزيز فخر الدين عثمان، والأمير عز الدين أيبك المعظمى -جدنا-صاحب صرخد. وكان فى البلد ضجّة وصراخ وبكاء وعويل، وخرجت البنات والصبيان والشيوخ والعجائز إلى الصخرة والأقصى، وقطعوا شعورهم عليهما، بحيث امتلأت تلك البقعة. وخرجوا هاربين، وتركوا أموالهم، وما شكّوا أن الفرنج تصبّحهم. فطلب بعضهم مصر، وبعضهم الكرك، والبعض دمشق. ومات خلق كثير من الجوع والعطش. وكان يوم لم ير الناس أصعب منه، ونهبت أموالهم.
وبلغ القنطار الزيت عشرة الدراهم، والنحاس رطل نصف الدرهم.
(7/202)

ولمّا كان فى شهر شعبان، أخذت الفرنج ثغر دمياط. وكان قبل ذلك قد جهزوا إليها ابن الجرخى-المعروف بالناهض-فى خمسمائة رجل، فهجموا على الفرنج بالخنادق، فقتل ابن الجرخى وجميع من كان معه، وصف الفرنج رؤوسهم على الخنادق. ثم إنهم طمّوا الخندق الذى لدمياط. وضعف حال أهلها، وأكلوا الميتات، وعجز الملك الكامل عن نصرتهم. ووقع فيهم الوباء والمرض والفناء، فراسلوا الملك الكامل، فتمادى عليهم الجواب، فراسلوا الفرنج أن يسلموا إليهم البلد، ويخرجوا بأنفسهم وأهاليهم وأموالهم، فأجابوهم إلى ذلك. ثم ركبوا فى البر والبحر وزحفوا وفتحوا لهم البلد فدخلوا ورفعوا أعلامهم على الأبراج والأسوار. ثم إنهم غدروا بأهل البلد، ووضعوا فيهم السيف قتلا وأسرا ونهبا. وباتوا تلك الليلة فى الجامع يفجرون بالنساء، ويفضحون البنات. وأخذوا المنبر والمصاحف، وبعثوهم إلى الجزائر. وجعلوا الجامع كنيسة. وكان أبو الحسن بن فضل يومئذ بدمياط، فسألوا عنه، فقيل لهم هذا رجل صالح من مشايخ المسلمين، تأوى إليه الفقراء، فما تعرضوا له. ووقع على الإسلام كآبة وحزن، وبكى السلطان الكامل، والملك المعظّم. وتأخرت العساكر من تلك المنزلة. وقال المعظم: «لو كان الدعاء يستجاب، لاستجاب لأهل دمياط». قال أبو المظفر: فقلت: «لا تقل كذلك يا خوند فإن الله تعالى أخبرنا أنه يستجيب دعاءنا فى عدة مواضع من كتابه العزيز، وإنّما أهل دمياط لما كثر فسقهم، وفشا فجورهم، سلّط عليهم من انتقم منهم، لقوله تعالى:
{وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً}. . . .» الآية. قال أبو المظفر: وكان الملك المعظم قد كتب إلىّ كتابا وأنا بدمشق بخط يده، يقول فيه: «أخو عيسى الكاملى.
(7/203)

قد علم الأخ العزيز ما جرى على دمياط، وأريدك تحرّض الناس على الجهاد، وتعرّفهم ما جرى على إخوانهم المسلمين أهل دمياط، من الكفرة أهل العناد. وأنى كشفت عن ضياع الشام فوجدتها ألفى ضيعة، ألف وستمائة أملاك لأهلها، وأربعمائة سلطانية. وكم مقدار ما تقوم [به] هذه الأربعمائة ضيعة من العساكر. والقصد أن يخرج أهل الأملاك يذبّوا عن أملاكهم، الأصاغر منهم والأكابر». قال أبو المظفر:
فجلست فى الجامع بدمشق، وقرأت كتابه عليهم، فأجابوا بالسمع والطاعة، وقابلوا أمره بالامتثال. وقالوا: «نتجهز جهدنا». فلما حلّ ركابه بالساحل، وقع التقاعد من العامة، فكان ذلك سببا لأخذ الخمس من أموالهم. وتوجهت إليه فلحقته بقيسارية، ففتحها بالسيف عنوة، ثم فتح النقير، وانتقل فدخل دمشق، ووقعت جباية الخمس.
وفيها توفّيت الست ست الشام بنت أيوب، أخت السلطان صلاح الدين، وشقيقة الملك المعظم شمس الدولة توران شاه، وسيف الإسلام، ابنى أيوب. وهى التى تنسب إليها المدرستان اللتان بدمشق، الواحدة قبلى البيمارستان النورى، والأخرى ظاهر دمشق بالغوطة، وتعرف أيضا بالحسامية، نسبة إلى ابنها حسام الدين، وكانت دفنته بها. وهو إحدى القبور الثلاث، والقبلى هو قبر توران شاه، والأوسط قبر ابن عمها ناصر الدين محمد بن شير كوه. ولم يكن لأسد الدين شير كوه ولد غيره.
وكان تزوجها، وولدت له حسام الدين المدفون بالمدرسة المعروفة به. وكانت ست الشام من كرماء الناس الجيدات. وكانت تعمل فى بيتها كل سنة من الأشربة والمعاجين والعقاقير بألوف دنانير، وتفرقها على الناس للثواب. وكان بابها ملجأ القاصدين، ومفزع المكروبين. وكان وفاتها فى ذى القعدة من هذه السنة. وإخوتها أربع ملوك عظماء بنى أيوب؛ وهم السلطان صلاح الدين، والملك العادل سيف الدين
(7/204)

أبو بكر، والمعظم الكبير شاهان شاه، وسيف الإسلام طغتكين الملك العزيز صاحب اليمن. فمن بنى هؤلاء الملوك الأربع المذكورين:

آل السلطان صلاح الدين بن أيوب
العزيز صاحب مصر عثمان وولده المنصور محمد، والأفضل، والظاهر صاحب حلب، وابنه العزيز، وابن ابنه الناصر يوسف، والزاهر، والظافر. وقد تقدم ذكر بقيتهم فيما سقناه عند وفاة السلطان صلاح الدين.

آل السلطان الملك العادل بن أيوب
السلطان الملك الكامل محمد، وأولاده الثلاثة الملك المسعود أقسيس صاحب اليمن وولده الأشرف موسى الذى ملك مصر فى أيام البحرية. وولد الملك الصالح المعظم توران شاه الذى قتلوه البحرية. والعادل الصغير أبو بكر صاحب مصر. والملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر أستاذ الترك. وابن العادل الملك المغيث صاحب الكرك، والملك المعظم بن الصالح توران شاه المقتول بمصر، الآتى ذكره.
والملك المعظم عيسى بن السلطان الملك العادل، وولده الملك الناصر داود، والملك الأشرف موسى بن السلطان الملك العادل، وليس من عقبه ملك فيذكر.
والملك الأوحد بن السلطان الملك العادل-وهو صاحب أخلاط-وليس من عقبه ملك، والملك الصالح إسماعيل بن السلطان الملك العادل وهو المعروف بأبى الجيش وأخوه شهاب الدين غازى صاحب الرّها، والملك العزيز عثمان شقيق المعظم. وقد تقدم أيضا ذكر أسماء بقيتهم عند ذكر وفاة السلطان العادل.

آل سيف الإسلام صاحب اليمن ابن أيوب
الملك المعز إسماعيل، وهو الذى ملك اليمن بعد والده، وادعى الدّعاوى الباطلة، وقتل باليمن. وخلف ولده الملقب بالملك الناصر، وملك أيضا اليمن أياما قلائل.
(7/205)

آل المعظم شاهان شاه الكبير بن أيوب
فرخ شاه وولده الأمجد، والناصر قليج أرسلان، وتقى الدين وابنه المنصور وولده المظفر أصحاب حماه. وذريتهم المتصلة إلى آخر وقت بحماة، حسبما نذكرهم فى تواريخهم إن شاء الله تعالى. والظافر، والمغيث عمر، والمنصور، والمسعود، والسعيد، والأمجد أولاد الصالح إسماعيل، ومجير الدين يعقوب، وتقى الدين عباس.
ومن ذريّة الأمجد بهرام شاه، ولده الملك المنصور إبراهيم؛ وولد إبراهيم الملك الأشرف موسى. هؤلاء أصحاب بعلبك. ولم يزل موسى إلى أيام الملك الظاهر البندقدارى، حسبما يأتى من ذكرهم.
وأمّا أصحاب حمص فمن ذرية أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين تأتى أيضا أسماؤهم فى تواريخها إن شاء الله تعالى.
قلت: ولهؤلاء السادة أولاد أيوب شجرة تجمع سائرهم متصلة الأنساب إلى آخر وقت. وإنما ذكرت فى هذا الفصل الملوك الذين ملكوا نصيبا من الدنيا.
... وفيها، والسلطان الملك الكامل فى قتال الفرنج بدمياط وقد ضعف حاله وقل القوت عندهم ولا بقى لهم صبر على القتال. وأراد أن يسلم البلاد إلى العدو. كل هذا وكتبه ورسله تتردد إلى ملوك الشرق وإلى إخوته الملوك. ومن جملة قوله فى الحث على طلب النجدة: «وا إخوتاه! وا غوثاه! وا إسلاماه! أدركوا الإسلام! أغيثوا أمة محمد عليه السلام!».
فلما قويت شوكة الافرنج وظنوا أنهم سيملكون البلاد، ويهلكون العباد، تواردت العساكر الإسلامية، تتلو بعضها بعضا، فأول من قدم الملك المعظم عيسى صاحب الشام، ثم الملك الأشرف موسى شاه أرمن. وجاءت عساكر الشرق.
(7/206)

ثم إن الأشرف ترك جيوشه عند الملك الكامل، وعاد إلى بلاده فى نفر قليل، خوفا عليها. وعظمت جيوش الإسلام، واطمأنت النفوس. فلما رأوا الفرنج المخذولين ذلك، كاتبوا بقية ملوكهم، وأتّهم الأمداد فى البحر، ودخلوا إلى دمياط، وحصنوا أسوارها، وبنوا ما كان أخربوه منها. وكان نزول السلطان الملك الكامل على المنصورة-وهى طلخا-وبنى بها قصرا وأسواقا وحماما. وبلغ فى الحمام أجرة غسل الرأس جملة. وعادت مدينة.
ونزلت الفرنج قبالهم. واستمرت بينهم الحروب. وفشا القتل فى الطائفتين.
وكان الحرفوش من المصريين يجعل على رأسه قشرة بطيخة خضراء، ويعوم فى البحر محاذيا للبر، فيراها الفرنجى، فيظن أنها بطيخة، فيمد يده ليأخذها، فيجذبه الحرفوش، فيأخذه أسيرا، حتى عادوا إذا رأوا شيئا عائما على الماء يصلبوا على وجوههم ولا يقربوه.
قال أبو المظفر: فبينماهم كذلك إذ قدم الملك المنصور وعساكره، وكذلك الملك الناصر صلاح الدين قليج أرسلان، ثم تلوهم بقية الملوك إخوة السلطان الملك الكامل وأولاد عمه، وكان ذلك فى سنة ثمان عشرة وستمائة، حسبما يأتى.
وفيها-وهى سنة ست عشرة-استدعى الصاحب صفى الدين بن شكر من القاهرة، ووصل إلى المخيم مستهل شوال، وخلع عليه وعلى أولاده، ووزّر ونظر فى الدولة، واستخرج من الناس أجر أملاكهم شهرين، وكذلك التبرع. واستخدم الرجال، والحرب مستمر.
وفى سنة ست عشر كان أول بدء خروج التتار من بلادهم الأصلية المسماة -بلسان التركية لغتهم-قراطاغ، معناه الجبل الأسود. وفى مبتدأ خروجهم، وفى ذكر أصلهم أشياء عجيبة غريبة الوقوع وقعت للعبد من كتاب يأتى اسمه وسبب تحصيله عند ذكرهم، إن شاء الله تعالى.
(7/207)

ذكر سنة سبع عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثلاثة أذرع ونصف أصبع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، وأربعة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الحكم، مطاع الأمر. وملوك الشرق بحالهم. وكذلك السلطان علاء الدين خوارزم شاه، والسلطان الملك الكامل سلطان مصر، وما معها. والحرب بينه وبين الفرنج على ثغر دمياط.
وفى شهر رمضان ورد الخبر بوفاة الملك الفائز. ووفاة الشيخ صدر الدين بن شيخ الشيوخ، ودفن بالموصل.
وفيها صرف القاضى تاج الدين بن الخراط، وأضيف حكم مصر والوجه القبلى للقاضى ابن عين الدولة، مضافا لما بيده من القاهرة وأعمالها.
وفيها كان غلاء، وبلغ القمح دينارين ونصف مصرية الأردب.
وفيها [كان] قتل حسن بن قتادة صاحب مكة لأمير الحاج [العراقى] ونهب الحاج.
[وفيها] توفى نصير الدين ناصر الدين بن مهدى الشريف العلوى، الذى كان وزير الخليفة الناصر لدين الله، رحمه الله.
(7/208)

ذكر سنة ثمان عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثلاثة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الأمر، مطاع فى أقطار الأرض. والسلطان علاء الدين خوارزم شاه سلطان الدنيا بالممالك الشرقية. والسلطان الملك الكامل ملك الديار المصرية وما معها. وبقية الملوك بممالكهم، وقد قدموا فى هذه السّنة-لنصرة الإسلام-إلى خدمة السلطان الملك الكامل، حسبما سقناه أولا.
ثم إن شوانى المسلمين اقتتلوا مع مراكب الفرنج، فغلبهم المسلمون، وأخذوا من مراكبهم ثلاث [قطع]، بما فيها من الرجال والعدد والسلاح. وفرح المسلمون بذلك، واشتموا روائح النصر. هذا والرسل تتردد بينهم فى أمر الصلح. والملك الكامل يقصد ذلك، ومجتهد على الصّلح، خوفا من إخوته الملوك، حتى إنه دخل تحت كل ما اشترطوه عليه، وهو أن يسلم لهم القدس، وعسقلان، وطبرية، وجبلة، واللاذقية، مع جميع فتوحات السلطان صلاح الدين، ما خلا الكرك والشوبك.
ورضى الملك الكامل بذلك جميعه، حتى ثلثمائة ألف دينار [يدفعها] لعمارة القدس وغيره. ثم قالوا: «ولا بدّ لنا من الكرك والشوبك»، وتعنتوا فى الشروط تعنتا عظيما. وكان فى ذلك خير عظيم، لما يريده الله عز وجلّ من نصرة دينه، ويريهم معجزات قدرته، وأن النصر إلا من عنده.
فبينما الرسل تتردد فى ذلك كله، والملك الكامل يحث فى طلب الصلح، ويذعن
(7/209)

بالإجابة لكل ما طلبوه. وكان النيل قد عمّ البلاد، وكان عاليا، لما يريده الله عز وجل من خذلان أعدائه؛ إذ عبر جماعة من عسكر المسلمين فى الخليج وقطعوه، وعدوا إلى جزيرة الفرنج، وقطعوا عليهم جسرا من تلك الجسور المحيطة بهم. ولم يكن للفرنج خبرة بذلك، ولا يعلمون زيادة النيل، فساح عليهم، وغرق خيلهم ودوابهم، ودار بهم الماء من كل جانب ومكان. وعادوا يتأخرون إلى نحو الثغر ولا يجدون سبيلا.
وإن طلبوا نحو البحر لا يجدون سبيلا، ولا مراكبا تطيق العبور إليهم لعظمها.
وضايقهم النيل، ولم يبق لهم غير طريق واحدة، وهى أضيق الطرق، وأى طريق قصدوها غرقوا فيها.
فلمّا علم السلطان بما قد وقعوا فيه من البلاء الذى قد عمهم وطمّهم، أمر بالمراكب، وركبت الجيوش، وأخذوا عليهم سائر المذاهب والطرق، وحازوا بينهم وبين دمياط.
وفى ذلك النهار وصل للفرنج مركب عظيم يسمى مرمة، وفيه خلق عظيم، وسلاح كثير، وحوله عدة مراكب يحفظونه، وهو موسوق مأكول وسلاح وغير ذلك. فخرجت عليه شوانى المسلمين، وقاتلوهم أشد قتال، ونصر الله الإسلام، وأخذوا ذلك المركب العظيم بكل ما فيه. فلما رأوا الفرنج ذلك، انقطعت قلوبهم، وأيقنوا بالهلاك والدّمار. ثم أحاطت بهم عساكر الإسلام من كل وجه بالنشاب والرماح، وقلّ نشاطهم لما نالهم من الغرق الذى لم يكن لهم فى حساب. وأخذتهم الحجارة والنبل، وأحاط بهم البلاء، وصب عليهم الخذلان صبّا. فعندها أرموا خيامهم وأثقالهم، وأرادوا الزحف على المسلمين، لعلهم يقدرون على الوصول إلى ثغر دمياط، فحيل بينهم وبين ما يشتهون، وذلك لكثرة المياه التى عمتهم. فلما عجزوا عن ذلك، ذلت نفوسهم الخنزيرية، ونكست صلبانهم، وقهر شيطانهم، وذل سلطانهم،
(7/210)

فرجعوا إلى مراسلة السلطان الملك الكامل وسألوا الصلح، وطلبوا الأمان لأنفسهم، وأن يسلموه دمياط، ولا يريدون غير خلاص نفوسهم لا غيرها. فاستشار إخوته الملوك فى ذلك، فقال الملك الأشرف-وكان قوى النفس، شديد البأس-: «لا نقبل منهم، ونقتل هؤلاء الملاعين أجمعهم، فإن هؤلاء هم دين النصرانية كله، وهم الصليب بكماله، ونريح الأرض منهم، ولا نبقى على أحد منهم. وقد أمكننا الله عزّ وجل بقدرته من نواصيهم». وكذلك قال المعظم فقال الملك الكامل-وكان فيه سياسة ونظر فى العواقب-: «ليس هذا برأى ولا مصلحة. وهؤلاء كبار دين الصليب، وملوك الأرض، والفرنج كثير. وإلى الآن دمياط فى أيديهم. ومتى قتلناهم لا بد أن يأتوا برا وبحرا، وفارسا وراجلا، وأصحابنا فى هذا الوقت قد سئمت نفوسهم من القتال، وكلّوا. وأنهم والله لمعاذير فى ذلك. وقد أنعم الله علينا بهذا الفتح العظيم، الذى ما كان لنا فى خلد. والرأى أن ننعم عليهم بنفوسهم. لكن على ما نريد نحن، لا ما على ما يريدون هم».
قال ابن الأثير-رحمه الله-فى تاريخه: كانت مدة الحصار والحرب على ثغر دمياط ثلاث سنين، وثلاثة أشهر. وقال غيره: ثلاث سنين وسبعة أشهر.
ثم حصل الصلح بينهم فى حادى عشر الشهر، واتفق الحال بينهم على أن يأخذوا منهم رهائن، حتى تعود رهائنهم. فكان عدة رهائن الفرنج أربعة عشر ملكا وهم:
كرموك بن الباب يعنى خليفتهم، وكرمريك صاحب صقلية، وبندارك ملك النوباردية، وسربار ملك الجزيرة الورانية، والريدكور صاحب المساوى وهو إقليم كبير بالمغرب، وكندفور صاحب جزيرة النمسون، وطرباط صاحب البندقية، وابن الأنبرون، وفرنسيس، وأدورد، والملك أخوزنتون، والملكة صاحبة عكا بنفسها، ورومان ابن صاحب رومية الكبرى وهو المعروف بالكاف، وكندريس الكبير، وهؤلاء أعظم ملوك دين الصليب. ثم رهن عندهم السلطان الملك الكامل ولده الملك الصّالح، وجماعة من الأمراء الكبار المصريين. وكان عمر الملك الصالح فى ذلك الوقت خمس عشرة سنة، فإن مولده فى سنة ثلاث وستمائة، فكان مراهق البلوغ، أو بالغ.
(7/211)

فلما حضروا الملوك من الفرنج-خذلهم الله تعالى-بين يدى السلطان الملك الكامل، أقعدهم بين يديه، بعد ما جلس فى دست مملكته، وأوقف الملوك إخوته بين يديه، وفى خدمته عن يمينه ويساره. فنظر الفرنج ناموسا عظيما، وهيبة وافرة، وجلله الله تعالى بالسكينة والوقار. ثم إنهم أنفذوا قسوسهم ورهبانهم، وسلموا المسلمين الثغر على رغم منهم.
وكان ذلك يوم الخميس تاسع عشر من شهر رجب الفرد من هذه السنة. وقيل تاسع الشهر، والله أعلم. وتسلم المسلمون الثغر فى ذلك اليوم، بعد أذان الظهر.
فما استقرت الأحوال فى تسليمها إلا بعد أذان العصر، حتى وصلت للفرنج ألف مركب موسوقة، رجال وعدد وسلاح ومأكول، فلو علموا الملاعين بذلك، لما سلموا، لكن كانت إرادة الله عز وجل أغلب، وقدرته أعجب.
وكانت الفرنج قد حصنوا دمياط تحصينا عظيما، ثم عادت كل رهائن إلى أهلها.
ورسم السلطان بمبايعتهم. وكان يحمل إليهم فى كل يوم خمسين ألف رغيف من الخبز، ومائتى إردب شعير. ثم توجهوا إلى بلادهم، قيل فى بقية شهر رجب، وقيل استهلوا شعبان، وسافروا.
ولما توجهوا، واطمأنت نفوس الملوك الإسلامية، وردت بشائر السّادة الفضلاء بالتهانى فى قصائدهم المبدعة، ذوو الألفاظ المخترعة. فمن ذلك قصيدة الشيخ شرف الدين ابن عنين، التى أولها يقول:
سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنّا … إذا جهلت آياتنا والقنا اللّدنا
غداة لقينا دون دمياط جحفلا … من الرّوم لا يحصى يقينا ولا ظنّا
قد اتفقوا رأيا وعزما وهمة … ودينا، وإن كانوا قد اختلفوا لسنا
(7/212)

تداعوا بأنصار الصليب وأقبلت … جموع كأن الموج كان لهم سفنا
وأطمعهم فينا غرور فأرفلوا … إلينا سراعا بالجياد فأرفلنا
فما برحت سمر الرماح تنوشهم … بأطرافها حتى استجاروا بنا منّا
سقيناهم كأسا نفت عنهم الكرى … وكيف ينام الليل من عدم الأمنا
لقد صبروا صبرا جميلا ودافعوا … طويلا فما أجدى دفاعا ولا أغنى
بدا الموت من زرق الأسنة أحمرا … فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا
وما برح الإحسان منّا سجية … توارثها عن جد آبائنا الأبنا
وقد جربونا قبلها فى وقائع … تعلم غمر القوم منا بها الطّعنا
أسود وغى لولا وقائع سمرنا … لما لبسوا قيدا ولا سكنوا سجنا
وكم يوم حرّ ما وقينا هجيره … بستر وقرّ ما طلبنا له كنا
فإن نعيم الملك فى وسط الشقا … ينال وحلو العيش من مرّه يجنى
يسير بنا من آل أيوب ماجد … أبى عزمه أن يستقر بنا معنا
كريم الثنا عار من العار باسل … جميل المحيّا كامل الحسن والحسنى
سرى نحو دمياط بكل سميذع … إمام يرى حسن الثنا المغنم الأسنى
مآثر مجد خلدتها سيوفه … طوال المدى يفنى الزمان وما تفنى
وقد عرفت أسيافنا ورقابهم … مواقعها فإن عاودوا عدنا
منحناهم منا حياة جديدة … فعاشوا بأعناق مقلدة منّا
ولو ملكونا لاستباحوا دماءنا … ولوغا ولكنا ملكنا فأحسنا
ثم وردت قصيدة القاضى بهاء الدين بن زهير بن على القوصى، رحمه الله، التى أولها يقول:
بك اهتزّ عطف الدين فى حلل النصر … وردّت على أعقابها ملة الكفر
(15 - 7)
(7/213)

ومنها:
وما فرحت مصر بهذا الفتح وحدها … لقد فرحت بغداد أكثر من مصر
ولو لم تقم فى الله حق قيامه … لما سلمت دار السلام من الذعر
ومنها:
وأقسم لولا عزمة كاملية … أخافت بالمقام وبالحجر
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى … لما حلمت إلاّ بأعلامك الصّفر
ثلاثة أعوام أقبلوا وأشهرا … تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو
ومنها:
وليلة فرّ العدوّ وأنها … بكثرة من أرديته ليلة النحر
أيا ليلة شرف الله قدرها … فلا غرو أن سميتها ليلة القدر
سددت سبيل البر والبحر عنهم … فسابحه بر وسانحه بحر
أساطير ليست فى أساطير من مضى … فكل غراب راح أقنص من صقر
وجيش كمثل الليل هولا وهيبة … وإن زانه ما فيه من أنجم زهر
وباتت جنود الله فوق ضوامر … بأوضاحها تغنى السّراة عن الفجر
فما زلت حتى أيّد الله حزبه … وأشرق وجه الدين جذلان بالنصر
فرويت منهم ظامئ البيض والقنا … وأشبعت منهم طاوى الذئب والنسر
وجاءت ملوك الروم نحوك خضّعا … تجرجر أذيال المذلة والصّغر
أتوا ملكا فوق السّماك محله … فمن جوده ذاك السحاب الذى يسرى
فمنّ عليهم بالأمان تكرّما … على الرغم من بيض الصوارم والحمر
كفى الله دمياط المخافة إنها … غدت قبلة الإسلام من موضع البحر
وما طاب ماء النيل إلاّ لأنه … يحلّ محل الريق فى ذلك الثغر
(7/214)

منها:
لك الله كم من فارس قد أجرته … من الموت إذ أطلقته خيفة الأسر
يقصّر عنك المدح من كل مادح … ولو جاء بالشمس المنيرة والبدر
...

ذكر ليلة طيبة جرت بين ملوك الإسلام
وذلك لما رحلت الفرنج-خذلهم الله-وطابت نفوس الملوك، واطمأنت قلوبهم، اجتمعوا فى القصر الذى بناه السلطان الملك الكامل بالمنصورة. وجلس السلطان الملك الكامل محمد، والملك الأشرف موسى، والملك المعظم عيسى فى مجلس شراب وأنس ولذة وطرب. وكان يوم رقت غلائل صحوه، وغنجت شمائل جوه، وضحكت ثغور رياضه، واطرد زرد النسيم فوق حياضه، وفاحت مجامر الأزهار، وانتشرت قلائد الأغصان عن فرائد الأنوار، وقام خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، ودارت أفلاك الأيدى بشموس الرّاح فى بروج الأقداح، بمجلس قد تفتحت فيه عيون النرجس، ومالت أعناق البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فازات النارنج، وانطلقت ألسن العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبّت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادى الطرب، وطلعت كواكب الندمان، وامتدّت سماء الند على بساط الورد، وقد سبوا العقل فى مرح الجنون، وخلعوا العذار بأيدى المجون، فأمر الملك الأشرف موسى لجاريته أن تغنى، فنهضت وقبلت الأرض، وتناولت العود وأصلحته، وجسته وغنت تقول:
ولما طغى فرعون عكا وقومه … وجاء إلى مصر ليفسد فى الأرض
أتى نحوهم موسى وفى يده العصا … فغرقهم فى اليمّ بعضا على بعض
قال: فأعجب بذلك الأشرف، وطرب لقولها، وشرب، وطاب. فأمر السلطان الملك الكامل لجاريته أن تغنى، فنهضت، وقبلت الأرض، وتناولت العود، وساوته-وكانت حاذقة-وغنت تقول:
(7/215)

أيا أهل دين الكفر قوموا وانظروا … لما قد جرى فى عصرنا وتجددا
أعباد عيسى إن عيسى أتاكم … وموسى جميعا ينصران محمدا
قال: فأعجب ذلك الثلاث ملوك. وأمر السلطان الملك الكامل لكل واحدة بخمس مائة دينار.
ثم إن الملوك تودعوا وسافر كل ملك إلى بلاده ومحلّ ملكه. والذى أجمع عليه أرباب التاريخ أن كان مدة إقامة الفرنج على ثغر دمياط أربعين شهرا وسبعة عشر يوما.
{وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ}.
ودخل السلطان الملك الكامل إلى القاهرة فى شهر شوال من هذه السنة، ثم خرج إلى العباسة، ومضى إلى قلعة صدر وأمر بعمارتها، ورجع إلى القاهرة المحروسة.
وفيها استولى عماد الدين زنكى على البلاد الهكارية بالموصل، وأخذ قلاعهم.
فلما عاد الملك الأشرف من دمياط، استجار به بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل -وهو يومئذ أتابكها من قبل أستاذه-فأجاره، وأنجده، وانهزم زنكى منهما، واستعاد [بدر الدين لؤلؤ] ما أخذه [زنكى].
وفيها توفيت الملكة عصمة الدين خاتون بنت العادل الكبير، أخت السلطان الملك الكامل، زوجة الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها توفى قطب الدين محمد شاهنشاه بن عماد الدين زنكى صاحب سنجار.
وفيها كان ظهور التتار من بلادهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام.
(7/216)

ذكر السلطان علاء الدين خوارزم شاه
وسلطان الإسلام يومئذ بسائر الممالك الشرقية السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش بن إيل أرسلان اتسز بن محمد بن أنوشتكين، ونسبته تنتهى إلى ههنا. هكذا ذكره ابن الأثير فى تاريخه. وكان أبوه أو جده أحد مماليك الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع ألب أرسلان داود بن سلجوق. وهكذا ذكره أيضا ابن واصل صاحب تاريخ بغداد. وكان لأيامه ملك خوارزم من جهة السلطان المشار إليه ابن سلجوق. فلما انتقضت دولة بنى سلجوق من العجم قوى سلطان علاء الدين خوارزم شاه، وملك العجم وخراسان وعراق العجم، واستولى على ما وراء النهر، وطمع فى أخذ بغداد، وأن يعيد أمر الخلافة على ما كان عليه فى أيام دولتى بنى بويه الديالمة وبنى سلجوق-وقد تقدم القول فى ذلك. وهذا كله لأمر كان كامنا فى الغيب، لما يريده الله عز وجل من تملك التتار الأرض، فلا راد لحكمه، ولا مفر من قضائه.
قال ابن واصل صاحب تاريخ بغداد: شهدت على جماعة من سراة الناس من أرباب دولة بغداد-كل يذكر ويتقلد فى ذمته-أن الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين كتب إلى التتار يستدعيهم إلى البلاد، ويهون عليهم العبور إلى الأقاليم، ويصغّر عندهم أمر السلطان علاء الدين خوارزم شاه. كل ذلك خوفا منه لئلا يحضر إلى بغداد، وتعود الخلافة كما كانت فى أيام بنى سلجوق. ولذلك لوّح ابن الأثير فى تاريخه عند ذكره لخروج التتار كما يأتى بيانه فى موضعه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وأما هؤلاء القوم، وبدء خلقهم، وأول شأنهم، فإنه من الحديث العجيب، والأمر الغريب، ولعله لم يذكره أحد من المؤرخين، لعدم إحاطة علمهم به. وقد وقع
(7/217)

العبد عليه من كتاب عجيب له عند الترك مزية عظيمة، يسمى باللغة التركية «الواى أطام بتكى» معناه «كتاب الأب الكبير». وهذا الكتاب وقفت عليه سنة عشرة وسبعمائة، أحضره إلىّ شخص كان يسمى أمين الدين الحموى، كاتب الأمير بدر الدين بيسرى، رحمهما الله تعالى. وكان الوالد-سقى الله عهده-فى ذلك التاريخ، متولى الأعمال الشرقية، وما معها. وكان هذا الرجل أمين الدين له بالأعمال راتب مقرر، فكان كثير التردد إلى بلبيس، وكنت من حال الصبى متولعا بالفضل وأهله، والأدب ونبله. وكان أمين الدين-رحمه الله-من أحسن الناس محاضرة، وألذهم مسامرة، وأغزرهم مروءة، وأكثرهم أدبا. وكان ممن يتردد إلى المملوك من السادة الفضلاء فى ذلك العهد، مثل الشيخ جمال الدين السملوطى، والحكيم شمس الدين ابن دانيال، وجمال الدين البلاليقى المعروف بابن زيتون، وجماعة أخر من أهل الفضل والأدب. فكنا ننهب العيش بالآداب، ونستخرج لباب اللباب من ذوى الألباب، فى كل فن وباب. فتجارينا ذات يوم ذكر التاريخ، وبدء التتار، فذكر أمين الدين المذكور أن عنده كتاب لم يقع لأحد مثله، وأنه كان عند الأمير بدر الدين بيسرى من أعظم ذخائره وأعزها عليه، وكان إذا أحضره قام له قائما، وجعله على رأسه، ويعظمه كما يعظم كتاب الله تعالى. فسألناه أن يحضره إلينا. فلما عاد أحضره، فنظرناه كتابا حسنا ذى شأوة جليلة، بخطّ منسوب ربما يقال إنه خط تلميذ ابن البواب، فى ورق بغدادى، مجلد بأطلس أحمر ظاهر وأصفر باطن. وله قفل ذهب، يدل على عناية كبيرة به. فاجتمعنا عليه، وقرأه علينا أمين الدين، فوجدناه تاريخا للترك الأول وأول خلقهم-بزعمهم-وذلك مما يخالف الشرع المطهّر.
فاستنسخت منه بدء خلق التتار والترك الأول، لما رأيت فيه من العجائب الغريبة، ليكون ذلك من باب التعجب، لا من باب التصديق، إذ هو غير موافق للشريعة،
(7/218)

وإنما هو شئ وضعوه الحكماء المتفلسفين، يصيدون به عقول من يخدموه من الملوك الراغبين فى طول الحياة الدنياوية، مما يؤيد زعمهم أن العمر الطبيعى مائة وعشرون سنة، فمن مات قبل ذلك كان من وجوه التفريط بنفسه، مع شروط وضعوها.
ونحن نعوذ بالله من زعمهم، وزخارف أقوالهم. ونعلم ونتحقق أن العمر محتوم، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، فهذا هو الاعتقاد الصحيح، والعقل الرجيح.
وها أنا أضع وأثبت-فى هذا الفصل-جميع ما استنسخته من ذلك الكتاب، لضرورة بدء خلق هؤلاء القوم التتار بزعمهم. وليظهر أيضا نقصان عقولهم، فيما وضعوه من خرافاتهم.

ذكر بدء شأن الترك الأول حسبما ذكره صاحب الكتاب التركى
هذا كتاب عنى بحلّه من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، كما عنى بحله من اللغة التركية إلى اللغة الفارسية، عبد الله المتوكل على ربه الغفور المسامح، جبريل ابن بختيشوع المتطبب، فى سنة إحدى عشرة ومائتين للهجرة النبوية المحمدية، على صاحبها السلام. وتركت فيه ألفاظا بحالها باللسان التركى، كما تركها الذى حلها من التركية إلى الفارسية، وهو أبو مسلم عبد الرحمن صاحب الدعوة العباسية. قال جبريل: ووصل إلىّ هذا الكتاب من ذخائر أبى مسلم المذكور. وذكر أنه من كتب جده برزجمهير بن البختكان الفارسى. وكان أبو مسلم ينتسب إلى برزجمهير المذكور، وليس ببعيد فيما ذكره، لما كان عليه من العقل الوافر، وحسن السياسة والتدبير، مع ما اجتمع فيه من فنون العلم. وقتله المنصور لما خيف من دهائه وتدبيره.
وسمعت المأمون-رضى الله عنه-يقول: الملوك ثلاث الذين ساسوا البلاد وأتقنوا الأمور وأقلبوا الدول؛ وهم الإسكندر، وأزدشير، وأبو مسلم. ثم إن جبريل أطنب فى ذكر أبى مسلم إطنابا كثيرا، أضربت عنه ولم أنسخه، إذ ليس فيه لنا غرض.
ثم قال بعد ذلك: إن الله جلت قدرته وتعاظمت حكمته خلق جبلا عظيما آخر
(7/219)

الصين الأعلى من جهة مشرق الشمس، سمت علوه فى الجو أربع فراسخ، صاعدا فى فلك الهوى، حجرا أسودا أصمّا، ليس به نبات. وأن من حكمة الله جل وعزّ، التى لا تدرك لها غاية، ولا يحصر لها نهاية، جعله حاجزا للبحر الأسود المحيط، وحاجزا لعين الشمس فى أول طلوعها، فإنها تطلع من ذلك البحر من غامض علمه، الذى لا يعلمه سواه، فيحجبها هذا الجبل أن تدرك الأرض فى أول طلوعها، ويمنع حرارتها فى مبتدأ طلوعها؛ لطف من الله تعالى، وتدبير من الحكمة الإلهية.
فلو أدركت الأرض فى أول مبتدأ إشراقها، ما تركت عليها من دابة، ولا نبتت فيها خضراء. وليس تدرك الأرض إلا بعد ما تصير فى اثنى عشر دقيقة من سمت رأس المشرق، فعند ذلك تخف حرارتها، لارتفاعها، ويدرك بها الانتفاع. واسم هذا الجبل باللغة التركية قراطاغ، تفسير ذلك الجبل الأسود. ثم إن هذا الجبل تتفجر منه-من سفحه الموازى إلى جهة المغرب-عيون ماء عذبة، أحلى من الشهد، وأبرد من الثلج، وأعطر من المسك. تفرش تلك العيون فى بحيرة مسافة دورها سبعون فرسخا كاملا، يجرى منها نهر فى طول سفح ذلك الجبل، مسافة مائة وثمانين فرسخا. قد بنى فى وسط هذا المجرى مدينتان عظيمتان ذاتا أسوار دائرة، بحجارة سود، ونحتا ذكر فى أنثى، وأنثى فى ذكر، لا تكاد تبين مداخله إلا للمتأمل الحاذق. دور كل سور سبعة عشر فرسخا كاملا، لكل مدينة أربعون بابا من الحديد الصينى، كالفضة المحلية. على كل باب برج مشيد من تلك البناية. وذلك النهر يجرى فى تلك المدينتين. وبين المدينة والمدينة مسافة سبع عشر فراسخ. وقد صنع ذلك النهر بمقاسم قد رتبت، وتدبير قد أحكم، حتى ليس يخلو منه منزل من منازل تلك المدن. ثم يخرج وينقسم عدة أنهر إلى سائر بقاع تلك الأراضى، وعليه
(7/220)

ضياع ومزدرعات وأشجار، ذات ثمار عجيبة، وفواكه لذيذة، ما لا يعلمها إلا الله تعالى. ويعمّ ذلك النهر أراضى ذات أعمال، وعمائر تقدير سنة طول، فى سنة عرض، عليها أمم وخلق، ذوو صور مختلفة، يرجعون جميعهم إلى سلطان تلك المدينتين.
وهاتان المدينتان تسميان باللغة التركية أيدرماق وأشرماق. ويقال لكل من يملكهما من نسل واحد وعظم واحد باللغة التركية ألطن خان، تفسيره ملك الذهب. ولم يكن للقوم عدو يخشونه، ولا منازع يخافونه، أهل عيش خضل، ولذة وفكاهة، وأكل وشرب وتناسل، من أحسن خلق الله وجوها، وأرطبهم أبدانا، وأنعمهم عيشا. يأكلون من أطيب اللحومات، وألذ الفواكه، لتلك الأراضى الحسنة، والمراعى اللذيذة، ذات الحشائش المختلفة، النابتة فى تلك الأماكن الخصبة، الصحيحة الهواء، العذبة الماء. فليس يرى فيهم مرض من الأمراض، ولا عاهة من العاهات، الفرح غالب على قلوبهم، حتى إذا ما مات عندهم الميت لا يعرفون البكاء عليه ولا الحزن، طوال الأعمار. لا يكاد الشخص منهم يموت إلا بعد المائة وما فوقها.
قال جبريل: ولهم فى ذلك معنى دقيقا، جل بحثنا عليه، وذلك أن صاحب هذا الكتاب برزجمهير بن البختكان قال-وإن لم يكن ذلك موافقا للشرع المطهر، فنحن إنما نذكره للتعجب لا للتصديق، فما على ناقل خبر من عتب-قال برزجمهير:
إن أول خلق هؤلاء القوم المذكورين أن بهذا الجبل المسمّى بقراطاغ مغار، مسافة علوها فيه من أسفله إلى حين يرقى إليها الراجل الشبق-بعد المشقة العظيمة والتعب والكلال-ثلاثة أيام، بطريق وعراء كثيرة التعاريج، متسلقة فى الجو. وأن
(7/221)

على فم تلك المغار باب عظيم من الذهب الأحمر، مرصّع بأنواع الجواهر العظيمة القدر، وله سدنة وخدام. وهذه المغار فهى معبود أهل تلك الديار، فإذا أراد الإنسان منهم يحلف، يقول: «أيّما قراطاغ»، تفسير ذلك «وحق الجبل الأسود». وإشارته إلى تلك المغار.
قال جبريل: قال برزجمهير: وأصل دعواهم فيه. قلت: ونحن لا نصدق هذه الدعوى الضعيفة، وإنما نورد ما قالوه، ونرد عليهم من الشرع والعقل الذى احتجاجهم به.
قال: إنه لما كان أول زمان، جرّت السيول من الأمطار ماء إلى تلك المغار، وسحّب ذلك الماء بقوته ترابا من مجر السيول، فاحتبس فى تلك المغار فى أخدود شبيه بقالب هذه الخلقة الآدمية. وكانت الشمس فى ذلك الوقت فى برج أفنون-على ما نقول نحن برج السرطان-فقصده بذلك أن الشمس كانت فى أوجها وقوة حرارتها، بما يقتضيه عرض أرضهم، إذ كل إقليم خص بعرض وسمت. وكانت تلك الصبابة التى تحدرت من تلك السيول إلى المغار، قد تجمعت فى ذلك الأخدود. فلما استقرت، طبختها الشمس، فكانت المغار بمنزلة جوف المرأة. والمستقر فى ذلك الأخدود عنصران: الماء والتراب، وطبختهما الشمس فى أوجها فكانت كعنصر النار.
واعتدلت له الرياح فى مدة تسعة أشهر، وتكملت الأربع استقصاءات. فلما كانت الشمس ببرج حيتان-وهو كقولنا برج الحمل-فقصده أنه مضى تسعة أشهر، فإن كل ثلاثة أشهر فصل. فلما كان ابتداء أمره، والشمس فى أوجها، فيكون أول الصيف. فلما مضت التسعة أشهر، مضى فصل الصيف وفصل الخريف وفصل الشتاء، وشرعت الشمس للاعتدال. فلما وافق إكمال تلك المصاية وتعفينها وإنضاج طبخها عند اعتدال الشمس استحق الكمال والخروج، فخرج من ذلك الأخدود صفة هذا الحيوان الناطق. قال جبريل: وهذا القول تصححه أصحاب القول بالتعافين،
(7/222)

ويحتج فيه أن لكل ما عفن فى استحقاقه نتج منه روح حيوانى وذلك بالضرورة، كالدود من الخل ومن الجبن، وكالحشرات من الأرض. وربما عفنت أشياء، وخرجت منها حيوانات مختلفة الأشكال. قال: فسمّى ذلك الشخص الذى خرج من تلك المغار باللغة التركية «أى أطام» معناه «الأب القمر». والترك يدعون أنهم أحق به من الفرس، والفرس يدعون أنّهم أحق به من الترك. واسمه عند الفرس كهومرت معناه بالفارسية «أب الآباء».
قلت: ونحن نعوذ بالله تعالى من تصديق دعوى الطائفتين، ونشهد أن الله خالق آدم من طين، بقدرته التى لا يقدر عليها سواه، بما أتى به الرسول الصادق، الذى بالحق -عن الحق-ناطق. وأن الله تعالى واجد الوجود من العدم، وهو على كل شئ قدير. وأما دعوى هؤلاء القوم على ما ذكره صاحب هذا الكتاب، فإنها دعوى سخيفة جدا، لا يقبلها الشرع ولا العقل جملة كافية.
قال جبريل: قال برزجمهير: فنزل ذلك الشخص المسمى «أى أطام» إلى تلك الأرض الطيبة الهواء، العذبة الماء، فأقام بها أربعين سنة، وهو متزايد القوة والنشاط، والنهضة فى سائر أعضائه وتركيبه. قال: ثم إن السيول اجتمعت أيضا، ونزلت، وتحصلت تلك المصاية بالمثال الأول الذى تقدم ذكره. لكن كانت الشمس ببرج كينان-معناه أنه بالتقدير والقياس كقولنا برج السنبلة-فأدرك الطبخ والشمس فى أول هبوطها، وتكامل نضجها والشمس قد شرقت على أوجها، فخرجت أنثى، هذا بقوله فى كلام طويل هذا تلخيصه. ولو أمكننى تلخيص الجميع لكان أوفق، لكن ألجأت الضرورة لبيان ذكر أول خلق التتار حسبما يأتى،
(7/223)

فإننى لم أجد أحدا ذكر أصلهم الأول، وإنما سائر أرباب التواريخ ابتدأوا بذكر جكزخان تمرجى، ولم يتعدونه. ووجدت فى هذا الكتاب بدء شأنهم، فأحببت أن أنبه على ذلك. قال جبريل: فخرجت أنثى لعدم إدراكها أول الأوج، فنقصت عن التركيب الذكرى لعدم الحرارة، فسميت باللغة التركية «أى وا» معنى ذلك «وجه القمر». فتزاوجا وتناسلا، فأقام «أى أطام» بعد نزول «أى وا» أربعين سنة أخرى واقفا عن الزيادة والنقصان. ثم شرع فى النقص، فأقام أربعين سنة متناقص الأحوال. فلما كملت له مائة سنة وعشرون سنة، هلك. وقد صار له من النسل أربعين ذكر وأنثى، فتزاوجوا ببعضهم البعض. وكان أكبر الأولاد لما هلك «أى أطام» أعاده إلى المغار، ووضعه فى ذلك الأخدود، رجاء أن يقوم ثانيا.
فلما هلكت أمه «أى وا» بعد أبيه بأربعين سنة، طلع بها إلى أبيه، فوجده قد تمزق، فوضعها فوقه، وطمرهما وتركهما. وجعل على باب المغار ذلك الباب الذهب، وأقام عليه سدنة يحفظونه.
قال جبريل بن بختيشوع: فمن هاهنا أخذت الحكماء الأطباء أن العمر الطبيعى مائة وعشرون سنة. والعلة فى ذلك أن هذا الشخص لما كان ابتداؤه، والشمس فى أوجها، اقتضى الزيادة فى ذلك الفصل بكماله. وذلك أن السنة ثلثمائة وستين يوما، والخمسة أيام وزائدها لا يعتد به فى حساب السنة الشمسية. وفى ذلك بحث دقيق، وحديث طويل أضربت عنه ولم أنسخه.
قال جبريل: فإذا حسبت هذه الثلثمائة وستين يوما على منازل القمر، وهى الثمانية وعشرين منزلة التى يحلها القمر فى طول السنة، كانت كل منزلة تخص بعدة أيام،
(7/224)