المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أرياف العذاب


AshganMohamed
02-03-2020, 09:31 AM
***~~~ أرياف العذاب~~~***






الملخص:


رياح الحب تمر بالانسان وتحمله معها الى الاعالي....
ولكن احيانا يأتي الحب مع ندى الصباح هادئنا حنونا خجولا
مقنعا بقشرة لا تلبث ان تتكسر على شاطئ العواطف والمشاعر المتأججة.
جايك هوارد الجذاب ورجل الاعمال الناجح الذي يكتسح الاخضر واليابس في سبيل مجده وتوفقه
اختار هيلين الجميلة صاحبة النسب العريق ليتمم نجاحه ونصفه الاخر
((اشتراها)) في ظروف مادية صعبة كانت تمر بها.
ومضى قطار الزواج عدة سنوات مغلفا بسعادة زائفة امام المجتمع.....
الاذلال والتحقير اللذان يعاملها بهما جايك وهذا الكابوس المرعب
الذي اسمه النجاح والمال لم تعد هيلين تتحمله....
استفاقت مشاعرها في اول عطلة تمضيها مع زوجها
فأبت العودة الى الوراء والعيش في ظل الظروف الماضية.
اتبقى معه وهو الذي يرفضها فتلملم حبها وتسكت؟
وما هو موقف جايك حين تطلب الطلاق?
1-مرآة الذاكرة

كان القطار السريع يقترب من محطة كينغز كروس في لندن تحيط به على الجانبين ابنية سكنية عالية ليست محببة ابدا الى قلوب مخططي المدينة وضواحيها. كانت ناطحات السحاب الشاهقة الارتفاع اكثر توافقا مع متطلبات العصر الحديث وبالتالي اكثر ازعاجا لمشاعر الذين خططوا في الماضي لكي لا يرتفع اي مبنى في عاصمة الضباب او ضواحيها عن طابقين او ثلاثة.
رفع جايك هوارد نظره عن الاوراق المبعثرة امامه ولاحظ باستغراب انه لم يشعر بانقضاء ساعتين ونصف الساعة تقريبا على مغادرته يورك. كم اصبح التنقل سهلا هذه الايام! كان بامكانه طبعا ان يستقل الطائرة من يورك الى لندن ولكنه يفضل القطار السريع لانه يستمتع كثيرا بالرحلة والسبب الاهم لذلك ان رحلة القطار تذكره بأيام شبابه وبانطباعته الاولى عن المدن الكبيرة وبأنه كان شابا طري العود لم يختبر الحياة ويجربها.
نقر احد مضيفي القطار باصبعه على باب مقصورته الخاصة وحياه بتهذيب وعندما اشار اليه جايك بالدخول فتح المضيف الباب وقال بأدب:
" ربع ساعة فقط يا سيد هوارد ونصل الى كينغز كروس. هل هناك اي شئ اخر تحتاجه يا سيدي؟ هل احضر لك شرابا اخر مثلا؟ "
هز جايك برأسه وتناول من جيبه ورقة الخمس جنيهات وقال للمضيف وهو يعطيه اياها:
" لا شئ شكرا. ولكن يمكنك تأمين ارسال حقائبيالى السيارة لدى وصولنا "
" طبعا يا سيدي. ارجو ان تكون استمتعت بهذه الرحلة "
استوى في مقعده وقال بعظمة مفتعلة:
" الى حد ما شكرا "
ابتسم المضيف بتهذيب واحنى رأسه مودعا ثم غادر المقصورة. اما جايك فقد بدأ بجمع اوراقه المبعثرة على الطاولة امامه ويضعها في حقيبته. وكان خلال هذه الرحلة من يورك الى لندن يقيم ويدرس صفقة هافيلاند التي عقدها في الاونة الاخيرة وشعر جايك من خلال تقييمه بأنه واثق من عدم وجود عثرات او عوائق مفاجئة. فشركة هافيلاند للكيماويات ستصبح قريبا جزءا من مؤسسة هوارد العملاقة. انهى جمع اوراقه وتوضيبها في الحقيبة واشعل سيكارا فخما واخذ يقارن بين الفرق الشاسع بين الطقس الحار في الساحل الغربي للولايات المتحدة والطقس البارد في انجلترا وابتسم جايك قائلا في نفسه انه حقا برنامج غريب وفريد للعودة من كاليفورنيا الى لندن عبر غلاسكو في سكتلندا ومحطة السكة الحديدية في يورك. ولكن هذا هوخط سيره المعتاد فهودائما يمضي الليلة الاولى لعودته الى انجلترا مع امه التي تقيم في سلبي بمقاطعة يوركشاير ولذلك كان يستقل الطائرة من لوس انجلوس في كليفورنيا الى مطار بريستويك في غلاسكو ومن هناك يتجه جنوبا.
وتحولت افكاره الى لندن ةالى اللحظات المزعجة التي يمضيها بين الانتقال في القطار الى سيارته الفخمة التي يقودها سائقه الخاص. وكذلك الى وصوله في نهاية الامر الى منزله الرائع في ميدان كيرسلاند الراقي والى.....هيلين زوجته. . .
برقت عيناه عندما فكر بهيلين من المؤكد انها استلمت الورود الحمراء التي ارسلها اليها من غلاسكو ومن دون شك ستكون مستعدة لاستقباله والترحيب به. وتذكر بسرور تلك الامسيات الرائعة التي كان يمضيها مع زوجته بعد كل رحلة الى الخارج وكيف يمتعها ويبهجها طوال السهرة بأخبار تلك الرحلة وتفاصيلها ووعد نفسه بليلة مماثلة تصغي فيها هيلين الى انباء رحلته الاخيرة. هيلين دائما تصغي. وشعر جايك مرة اخرى بالاستغراب والحيره ذاتهما اللذين شعر بهما قبل ثلاث سنوات عندما قبلت عرضه للزواج منه. ولكنه بعد ذلك بفترة قصيرة بدأ يحتقرها ويزدريها. هورجل كافح وجاهد طوال حياته لتحقيق النجاح. والده كان حائكا صاحب دخل متواضع فاضطر للعمل بكد وتعب حتى يصل الى اي مركز او منصب وكان يمضي جميع ايامه ولياليه ايضا في العمل ومتابعة الدراسة كان مستعدا للذهاب الى اي ابعاد محتملة للوصول الى هدفه ومبتغاه: (( النجاح ))
كان جذابا بشخصيته ساحرا باسلوبه الفذ وكلامه المنمق....وهومستعد في اي وقت لاستخدام هذه الصفات ليصل الى مبتغاه ويحصل على ما يريد. لم يتردد ابدا في اطراء شخص لم يكن يحبه او التملق الى اخر يمقته ويعتبره جديرا بالازدراء. وضمن له ذكاءه الفطري ووعيه المكتسب تجاوز المشاكل والصعاب. ولم يكن جايك كوالده مهتما بالحياكة او بذلك المعمل الصغير والاته القديمة بل كان منذ حداثة سنه مهتما بالكيماويات تبهره دراسة المواد وكيفية تركبيها وكانت شهادة الكيمياء التي نالها من جامعة ليدز اول خطوة رئيسية في انطلاقته العلمية والعملية وساعده الحظ فوجد وظيفة كمساعد مختبر في معمل صغير للكيميائيات قرب سلبي. اعتقد الاصدقاء والاقارب آنذاك انه يرتكب حماقة كبيرة في دفن مواهبه داخل مختبر محلي صغير في حين انه كان قادرا على ايجاد وظيفة افضل في شركة اكبر وانجح ولكن جايك كان بعيد النظر وطموحا للغاية فبالعمل المتواصل والمثمر جعله احدى الركائز الاساسية للشركة وشخصا لا يمكن الاستغناء عنه مطلقا وبتهذيبه الفائق وجاذبيته الساحرة مع زوجة صاحب المؤسسة تمكن جايك بعد فترة قصيرة نسبيا من الوصول الى ادارة الشركة ومن ثم الى ملكيتها .
نفض جايك رماد سيكاره في المنفضة المثبتة قربه وعاد مرة اخرى بذكرياته الى تلك الايام السابقة وشعر بشئ من الخجل بسبب الكيفية التي سيطر بها على تلك الشركة ولانه لم يتردد آنذاك للدوس على تلك المؤسسة الصغيرة ليحصل على مقعد في مجلس ادارة اكبر وتذكر ايضا انه بعد تلك الخطوة الرئيسية في حياته العملية آنذاك اصبحت الخطوات اللاحقة انجح واسهل مع انها فقدت الى حد ما طعم الاكتفاء بالذات ولذة الوصول الى الهدف بالعرق والدم. منذ البداية تعود جايك هوارد على استخدام عقله ودماغه بكل طاقتهما وقدراتهما ومع انه يملك في الوقت الحاضر مؤسسة كبرى واكثر من مليون جنيه استرليني من الاسهم والسندات المالية فهو لم يقرر بعد انتداب احد كبار موظفيه لاستلام اي من مهامه او مسؤولياته اليومية.
عندما كان يبحث منذ ثلاثة اعوام على زوجة تلائمه وتليق به التقى هيلين. كانمحاطا بالنساء طوال فترة صعوده الى القمة موظفات وعارضات ازياء وحتى زوجات بعض زملائه الموظفين كن جميعا يظهرن له استعداد واضحا للزواج منه. الكمية كانت متوفرة بكثرة ولكن النوعية التي يبحث عنها كانت نادرة. جايك لن يقبل الا بالافضل كما في اي مجال اخر ثم....التقى هيلين فورسايث.
كان يعرف والدها جيرارد فورسايث منذ سنوات ويعتبره احد الاوجه الطيفة والمحببة في المجتمع اللندني الراقي مع انه كان يجده انسانا بسيطا وشبه متخاذل. والده ادوين كان يحمل لقب سيد وقد اورثه مع الاسف لشقيق جيرارد الاكبر ومع كل هذا فان لجيرارد كل ما كان سيختاره جايك لنفسه لو سمحت له الظروف بذلك. فهناك العراقة والجاه والاصالة.... والانساب دون عناء الى المجتمع المخملي. ولم يعر جايك اي اهتمام لموضع تبديد جيرارد الاموال التي خلفها له والده مع انه تخيل اكثر من مرة الامكانيات والمجالات الواسعة التي يمكنه هو استخدام تلك الاموال فيها فيما لوكانت له عوضا عن تبديدها وتبذيرها. ولكن افلاس جيرارد لم يغير اي شئ في وضعه الاجتماعي.
وعندما مات جيرارد بحادث سيارة بعد ليلة سيئة جدا من المراهنة والمقامرة وجدت هيلين نفسها وحيدة شبه مفلسة وهي لم تتجاوزالثالثة والعشرين من عمرها ولاحظ جايك انه كان بامكانها طبعا ايجاد عمل تعيش من دخله ولكنها حتى وفاة ابيها والفضيحة التي اثارتها تلك الحادثة ومسبباتها من ميسر وتبذير واستهتار كانت هيلين على وشك الزواج من كيث مانرينغ ابن المحامي المشهور جفري مانرينغ لا تهتم بشئ الا بنفسها ومتعتها. كانت هناك اسابيع تزلج في منتجع سان موريتز السويسري واسابيع سباحة في جزر الباهما بالمحيط الاطلسي واسبوع صيد هنا واسبوع تسوق هناك اما احتمال تحولها اضطرارا اوطوعا الى نمط حياة مختلف فكان امرا لم يرد في تفكيرها على الاطلاق.
ولما توفي والدها وبدأ كيث يتهرب منها بشكل مطول و ملحوظ شعرت بالضيق المادي والنفسي الى ابعد حدود اذ لم يعد لديها سوى دخل بسيط ورثته عن جدتها لامها. كانت هيلين جامعية مثقفة تتقن عدة لغات اجنبية وتتحدث بها بطلاقة الا انها لم تعمل شيئا بحياتها باستثناء تنظيم حفلات عشاء او السهر على راحة الضيوف.
التقى بها جايك صدفة في مسرح شافتسبري كان وبعض اصدقاءه يشربون كأسا اثناء الاستراحة عندما دخلت برفقة زوجين شابين مدعوة من الزوجة التي كانت لفترة طويلة زميلة الدراسة وبما ان الزوج لم يكن الا جايلز سانتجون وهو صديق حميم لجايك ويتعامل معه تجاريا فقد كان من الطبيعي ان يعرفهما على بعضهما.
كان جايك في تلك الليلة بصحبة فتاة برتغالية فاتنة ولاحظ باعجاب مدى برودة اعصاب هيلين عندما حاولت فتاته التمسك به وافهمها انه لها...ولها وحدها. واخذ يتخيل ان هذه الفتاة الانجليزية الشقراء ذات الجمال الهادئ والجسد الطويل النحيل والعينين الزرقاوين الحالمتين يمكن ات تتصرف كزوجة لائقة.
لم يكن وضع هيلين غريبا عنه فالجميع في مجتمعه ومحيطه يعرفون قصتها واوضاعها وعندما تطلع اليها اكثر من مرة تلك الليلة تصور انه شاهد في عينيها نظرات تشبه التحدي ولم يكن جايك معتادا على مثل تلك النظرات فالنساء عادة كن يجدنه رجلا ذو جاذبية ساحرة ولكن هيلين كانت تنظر اليه كنوع من الحيوانات النادرة والبشعة التي احضرت لها لتكشف عليها وتعطي فيها رأيها.
اتصل فيها في اليوم الثاني معربا عن رغبته في مشاهدتها مرة اخرى. رفضت تلك الدعوات...ودعوات مماثلة وجهها خلال الاسابيع التي تلت اللقاء الاول. وفي احد الايام الاحقة عاود الاتصال فشعر بنبرة صوتها ان مشكلة ما قد حدثت وقبلت دعوته لتناول العشاء وعلم منها اثناء الحديث ان المنزل الذي تقيم فيه سوف يعرض للبيع وشكلت تلك المسألة محطة عذاب جديدة في طريقها فدخلها القليل لا يسمح لها بشراء او استأجار شقة لائقة. فماذا تفعل والى اين تذهب؟ عائلة فورسايث نبذت والدها جيرارد بسبب تصرفاته الرعناء واساليبه المتهورة واللامسؤلة وبالتالي فانها ترفض حتى مجرد الاتصال بالعائلة طلبا للمساعدة. اصغى اليها جايك بانتباه وهي تحدثه عنمشاكلها وقد لها بعض النصائح واعر لها عن مدى تأثره وتعاطفه واكتفى بذلك.
اخذ يتصل بها مرة كل يوم طوال الايام الاربعة عشر التي تلت لقاء العشاء وكان يدعوها احيانا للخروج معه فيما يكتفي احيانا اخرى بمجرد السؤال عن صحتها وشعورها ثم بدأ جايك يلاحظ تغيرا واضحا في تصرفاتها وهي انها بدأت تعتمد على تلك الاتصالات الهاتفية اليومية وتتوقعها فتوقف عن الاتصال بها لمدة اسبوع. كانت المسألة بالنسبة اليه كصفقةتجاريةتتطلب استراتجية معينة ومواقف تتراوح بين المد والجزر.
ولم يكترث في انه هذه المرةيتعامل مع انسان وليس مع شركة اومؤسسة. عندما اتصل بها بعد انتهاء فترة المقاطعة كانت تعيسة وبائسة وكرجل الاعمال الذي يستغل مواقف الضعف عند الاخرين ليوجه ضربته عرض عليها جايك الزواج....فقبلت. لم يكن يحبها بل لم تكنتجذبه على الاطلاق كانت باردة وجامدة جدا لا تروق له ولطبيعته التي تعشق الدفء والحركة ولكنها كانت.....مثالية بالنسبة للمواصفات التي حددها لزوجة المستقبل.
اذهلتها طريقة عرضه واثار استغرابها الاسلوب فمع ان فكرةالزواج منه لم ترد في بالها الا انها على ما يبدولم تجد فيها سببا للاعتراض التام والاحتجاج المشدد اما الاسلوب والطريقة فكانا مثار للدهشة فقد اوضح لها بكل هدوء وبرودة اعصاب بأنه لا يريد زوجة الا بالاسم يريدها جزءا من ممتلكاته....يزين بها طاولة الطعام الفخمة وتهتم بالضيوف عن الحاجة وتكون دليلا ممتعا على حسن ذوقه في اختيار النساء.




كان لعرضه والاسلوب الذي قدمه فيه تأثير واحد مؤكد فقد جمد موقفها منه بعد ان كان الثلج قد بدأ بالذوبان وعادت مرة اخرى تلك الفتاة الباردة والغير مهتمة التي تعرف عليها في مقهى مسرح شافتسيري. ولكنها...قبلت كما كان يتوقع ولذلك بدأ يحترقها ويزدريها كانتنظرته اليها ستختلف كثيرا لو انها رفضته لو انها اظهرت شيئا من عزة النفس وبدأت تعمل على تنظيم حياتها وشؤونها ولكن بمجرد ان قبلت وبدون اعتراض رأى فيها تلك المخلوقة التعيسة الضعيفة التي كانت على استعداد للقبول برجل من الواضح انها لا تحبه عوضا عن ايجاد عمل تعيش منه بكرامة وعزة نفس.
صعقت والدته عندما ابلغها بعزمه على الزواج من هيلين. والده توفي اثناء تسلق سلم الشهرة والنجاح وامه رفضت طلباته المتكررة للانتقال الى لندن والعيش معه لانها فضلت البقاء في المنزل الذي عاشت فيه سنوات عديدة من الحب والسعادة مع زوجها وعلى الرغم من الاختلافات الواضحة والعديدة في نظرتيهما للحياةوالمبادئ والمثل وفي وضعيهما المادي والاجتماعي فان جايك ظل يعتبر امه افضل واروع سيدة تعرف اليها في حياته.
التقت هيلين بوالدة جايك اثناء حفلة الزفاف التي كانت رائعةومترفة والتي حضرها جميع اصدقائها السابقين ولاحظ جايك انه كان يبدو عليها بوضوح انها تزوجته لتعود الى ذلك المجتمع الذي تعتبر فيه الممتلكات والاموال اهم وافضل بكثير من قوة الشخصية والذكاء والتضحية. وكانت والدة جايك كما توقع كطائر خارج سربه وكانت هيلين ايضا بالنسبة الى السيدةهوارد امرأة غير جديرة بأبنها وبما ان الوالدة لم تكن متملقة اومعسولة اللسان فقد اوضحت ابنها بصراحة جارحة ومؤلمة انه كان بامكانه اختيار زوجة افضل بكثير من هيلين. وثارت مثلها وقيمها العليا احتجاجا على ما يخطط له ابنها لانها احست بأنه لا يشعر بأي محبة او اهتمام جدي بهذه الانسانة الباردة التي لا تعرف من الحياة سوى القشور التافهة.
ومع ذلك فقد نجح الاتفاق كما وضع اسسه جايك وهاهما بعد ثلاث سنوات يعيشان وفقا لما اتفقا عليه. هو سعيد بملكيته الجميلة الجديدة وهي سعيدة بحياة الترف والغنى واللامسؤولية التي تعودت عليها ولا تعرف غيرها.
اعماله كانت تضطره للسفر كثيرا للخارج وبالتالي فانهما لا يمضيان سوية سوى فترات قصيرة متقطعة لاتزيد في مجملها عن ثلاثة اشهر ولكن هيلين كانت دائما مستعدة وجاهزة عندما يحتاجها لاي مناسبة اجتماعية كحضور حفلة او مسرحية او لاستضافه المتزوجين من الاصدقاء ورجال الاعمال وشخصيات المجتمع. ومع ان علاقتهما لم تكن تتعد حدود اللياقة والتهذيب المتبادلين بين الغرباء فانهما يتصرفان مع بعضهما برقي وانسانية....وهو تصرف مفقود بين معظم معارفهما.
اكتشف جايك ان لهيلين ذوقا رفيعا جدا في التأثيث والديكور فأطلق يدها للقيام بما تراه مناسبا وكانت عند حسن ظنه فقد جعلت من ذلك المنزل الجميل في بلغرافيا متحفا رائعا ومحط انظار الذواقة من شخصيات المجتمع. ولاحظ جايك بارتياح ان اصدقاءه يعتبرونه رجلا محظوظا جدا لان لديه زوجة تتمتع بهذا القدر من الذوق والحس الجمالي المرهف.
تنبه جايك الى ان القطار بدأ يدخل محطة كنغس كروس فهب واقفا وارتدى سترته البنية الجميلة وتهيأ للخروج. كان رجلا ضخم الجثة طويلا وعريض المنكبين ولكنه يتحرك بخفة الفهود ومع انه لم يكن وسيما الا ان الفتيات كن يجدنه جذابا الى ابعد الحدود وكان ذكيا ويعرف أن ثروته الكبيرة تشكل احد العوامل الرئيسية في تلك الجاذبية ونجاحها.
توقف القطار فحمل جايك حقيبته وغادر المقصورة باتجاه الباب الامامي. كان سائقه الخاص لايتمر ينتظره على رصيف المحطة وبمجرد نزوله من القطار حياه لايتمر باحترام وتهذيب فائقيين قائلا:
" اسعدت مساء يا سيدي...هل كانت رحله جيدة؟ "
" لا بأس, شكرا. كيف حالك انت يا لايتمر وكيف هي زوجتك؟ "
وكان الترحيب المعتاد والكلمات القليلة التي تتكرر هي نفسها تقريبا مع كل رحلة وكل عودة. دخل جايك السيارة الكبيرة الفخمة وجلس خلف مقود القيادة ينفث دخان سيكاره الفاخر وينتظر بعصبية انتهاء سائقه من من توضيب الحقائب في صندوق السيارة انه الان في لندن ويتحرق للوصل الى لبيته بعد ان غاب عنه لاكثر من ثلاثة اشهر. صعد لايتمر الى جانب رب عمله الذي انطلق بالسيارة بمجرد سماعه صوت اغلاق الباب. كان جايك يحب قيادة سيارته بنفسه في اوقات فراغه. وفجأةتطلع بسائقه وسأله:
" كيف حال السيده هاورد يا لايتمر؟ هل استلمت الزهور التي ارسلتها لها من غلاسكو؟ "
" نعم يا سيدي وصلت الزهور. واعتقد ان السيدة بخير والحمد لله ولكنها اصيب كغيرها عندما برد الطقس بزكام خفيف وسعال متقطع "
هز جايك برأسه ثم سأله:
" وعائلتك يا لايتمر؟ هل الجميع بخير؟ كيف حال ابنك هذه الايام اعني الابن الموجود في الجامعة؟ هل تعتقد انه سيتخصص في الفيزياء والكيمياء؟ "
ابتسم لايتمر واجاب بحماس وفخر:
" انه يرغب في ذلك يا سيدي واعتقد ان نتائجه حتى ألان مرضية. انه في السنة الثالثة كما تعلم وأنا متأكد من انه يقدر لك اهتمامك يا سيدي "
وصل جايك إلى منزله الواقع في ميدان كيرسلاند الذي يضم أبنية فخمة يملكها رجال أعمال وحرفيون ومهنيون. وكان لايتمر يعيش مع زوجته التي تعمل كمدبرة منزل في بيت جايك وبقية أفراد عائلته في شقة حديثة ملحقة بالفيلا ولكنها خاصة بهم وتثير إعجاب وربما غيرة الأصدقاء والأقرباء. أوقف جايك سيارته أمام البيت فما كان من سائقه إلا أن نزل قبله وفتح له الباب قائلا:
" هل ستحتاجني بعد خلال هذه الليلة يا سيدي؟ "
رفع جايك طوق سترته ليرد عن عنقه هواء الليل البارد وقال:
" لا اعتقد شكرا. بإمكانك الآن أن تضع السيارة في مكانها "
" حاضر سيدي "
صعد جايك الدرجات الست وفتح الباب بمفتاحه الذي لا يفارقه وتوجه نحو القاعة عبر مدخل جميل رائع وهناك لاحظ أن الأبواب التي تؤدي إلى غرفتي الطعام والاستقبال والغرفة التي يستخدمها كمكتب خاص كانت جميعها مغلقة على غير عادتها. اين هي هيلين؟ كانت دائما تحضر لملاقاته واستقباله عندما يعود! الم تسمع صوت السيارة او فتح الباب وإغلاقه؟
رمى سترته دون اكتراث على احد المقاعد وهم بالخروج وفي تلك الآونة فتح الباب المؤدي إلى المطبخ والطابق السفلي حيث يسكن السائق وعائلته ودخلت منه مدبرة المنزل السيدة لايتمر حيته بتهذيب قائلة وهي تأخذ سترته لتعلقها في غرفته:
" مساء الخير يا سيدي وأهلا بك؟ هل كانت رحلتك موفقة؟ "
" شكرا والحمد لله. كيف حالك انت يا سيدة لايتمر؟ "
انهى جملته وتطلع حوله بتساؤل واستغراب. اجابته السيدة لايتمر بهدوء ولكن وجهها كان منزعجا بعض الشئ. انها امرأة مخلصة ولطيفة بدأت تعمل في خدمته منذ عشر سنوات عندما اصبح ابنها الاصغر قادرا على الاعتناء بنفسه. زوجها يعم مع جايك منذ ثلاثةعشر عاما وقد اصبحا بعد تلك السنوات القليلة يعرفان مخدومهما حق المعرفة ولذا شعرت في تلك اللحظة لنه سيسأل عن زوجته.
" اين السيدة هوارد؟ "
ازداد انزعاجها فاحمر خداها وقالت:
" انها خارج المنزل يا سيدي "
الا يعرف ذلك! ضبط اعصابه وحد من غضبه قليلا ثم سألها بانفعال:
" اعرف انها ليست هنا...ولكن اين هي؟ "
" لست متأكدة يا سيدي لم تقل الى اين ذهبت. كل ما اعرفه انها مع السيد مانرينغ "
صعق جايك لسماع هذا الاسم. كان يتوقع سماع اي اسم اخر ولكن. . .
" مانرينغ؟ كيث مانرينغ؟ "
" اعتقد ذلك يا سيدي. العشاء...جاهز يا سيدي. من المؤكد انك جائع. هل تريد....ان....؟ "
حل جايك ربطة عنقه بعصبية ظاهرة وسألها مقاطعا:
" اخبريني...هلكانت زوجتي تعلم انني سأصل هذه الليلة ؟"
" طبعا يا سيدي. الزهور التي ارسلتها من غلاسكو وصلت مساء امس "
" حسنا "
عقد جايك جبينه وضاق اتساع عينيه غضبا ثم قال:
" حسنا يا سيدة لايتمر. سأستحم الان واتناول عشائي بعد. . ."
وتطلع الى ساعته الذهبية الكبيرة ثم تابع جملته:
" . . . بعد عشرين دقيقة تقريبا "
صعد جايك الى غرفته بسرعة وكأنه يهرب من واقع مرير وكان كلما صعد درجة شعر بمزيد من الغضب والاستياء. تألم بشدة وكأنه طعن بالظهر. لماذا اختارت هيلين هذه الليلة بالذات لتخرج من المنزل؟ بعد كل الرحلات السابقة كانت تنتظر وصوله وتستقبله بابتسامة رقيقة واستعدادا لا يضاهى للاستماع الي تفاصيل صفقاته التجارية وكانت تبدي تعاطفا او تقدم نصيحة كلما كان ذلك ضروريا. اللعنة! اليست هذه مهمتها المتفق عليها؟ لقد اشتراها...نعم اشتراها لهذا الغرض لا لكي تمضي وقتا ممتعا مع ذلك اللعين كيث مانرينغ!.
خلع ثيابه ودخل الحمام وظلت افكاره مشوشة ومشاعره غاضبة. كيف تجرؤ على الخروج وملاقاة رجل هجرها قبل ثلاث سنوات في حين انه هو جايك هوارد الذي انتشلها من مصيبتها...وتزوجها...واغدق عليها الاموال بدون حساب


فكيف تسمح لنفسها بلقاء ذلك الشاب اللعين في الوقت الذي يكون فيه زوجها خارج البلاد؟ ماذا سيقول الاصدقاء... وكيف سيفكرون؟
انهى حمامه وارتدى ثيابه وهم بالتوجه الى قاعة الطعام ولكنه شعر فجأة برغبة قوية للدخول الى غرفةهيلين. فتح باب الغرفة واخذ يتأملها بسخرية. اثاث رائع الجمال, الوان اخاذة, ذوق رفيع وغنى فاحش. اغلق الباب بعنف قبل ان يقدم على عمل متهور...مثلا كرمي كل شئ في الخارج او احراق المفروشات والستائر والسجاد! كيف تجرؤ على الخروج من البيت ليلة عودته؟ ومع مانرينغ بالذات! الا تعرف مع من ترتكب مثل هذه الحماقة؟ هل تظن هذه الغبية السخيفة على انه لن يعترض على ان قيامعلاقات بين زوجته ورجال اخرين؟ لا...هذه لا يحد ابدا مع جايك انتوني هوارد فهو عندما يمتلك شيئا يصبح ذلك الشئ كله ملكا له وحده...دائما...وطوال الوقت وليس فقطعندما يختار اخراجه من علبته بين الحين والاخر ليمتع ناظريه به.
" العشاء جاهز يا سيدي "
" حسنا حسنا... شكرا يا سيدة لايتمر"
جلس جايك الى مائدة الطعام وحاول جاهدا اظهار الاهتمام والرضى بنوعية الطعام وطريقة طهوه وكادت مشاعره المتأججة ان تغريه باستجواب مدبرة امنزله حول نشاطات زوجته اثناء غيابه. كان يتحرق لمعرفة كم مرة التقت هيلين فيها بذلك الوغد وما اذا كانت احضرته الى البيت. اه من تلك الفكرة كم هي شنيعة ومرعبة! كيث مانرينغ هنا...في بيته!.
ولكنه لم يقل شيئا ولم يسألها عن اي شئ بل حاول التصرف وكأن غياب هيلين ليس مهما. انهى عشاءه الذي كان سيستمتع به كثيرا لو لم يكن في مثل تلك الحالة من الغضب والانزعاج ثم شكر السيدة لايتمر واذن لها بالذهاب وهو يتوجه حاملا فنجان القهوة الى غرفة الجلوس.
جلس وحيدا وحيدا امام التلفاز يشاهد استعراضا غنائيا راقصا وهو امر قلما فعله في السابق ففي الفترات القليلة التي يمضيها في لندن تكون سهراته مفعمة بالحركة والنشاط فاما ان يحضر حفلة او مسرحية او يقيم حفلة في بيته لاصدقاء وزملاء العمل. وفي المرات النادرة التي لا توجد فيها هذه النشاطات المعتادة يحضر معه الى البيت بعض اوراقه ودفاتره ويعمل بهدوء وسكينة .
الا انه لم يتمكن من العمل هذه الليلة مزاجه لا يسمح له بالتركيزعلى تلك العقود التي كان ينوي العمل عليها بعد العشاء وبعد ان يروي لهيلين تفاصيل الرحله. انه ينتظر عودتها على احر من الجمر ليواجهها ويصب جام غضبه عليها ليفهمها بلهجة صريحة وواضحة ان عليها كزوجة واجبات معينة لا يمكن التساهل بشأنها مهما كانت علاقتهما سيئة وغير مرضية. لقد قبلت عرضه بالشروط التي حددها وهو لن يسمح لها ابدا بأي تجاوزات او تعديلات للاتفاق.
وفجأة تحول تفكيره دون ارادة منه الى تلك الشابة التي التقى بها مرات عديده خلال الاسابيع القليلة الماضية ولاحظ بسرور بالغ ان
((لويز كورللي)) كانت بالتأكيد عاملا رئيسيا في جعل اقامته اقل وحده واكثر متعة وكان عزاؤه لضميره بأن الوضع مختلف فهو رجل...اليس كذلك؟ ورجل له شهية الرجال! وخارج بلاده! يبعد الاف الكيلومترات عن بيته واصدقائه وعن اي شخص يمكن ان يثرر عن تلك العلاقة...اما هيلين فهي هنا في لندن حيث كل خطوة من تحركاتها تكون عرضه للتكهن والاقاويل من جانب الاصدقاء والاعداء على حد سواء .
مرت ساعات المساء بطيئة ومتثاقلة في حين كان غضبه يزداد حدة ويكاد يصل الى درجة الغليان. موسيقاه الكلاسيكية المفضلة لم تساعده كما في السابق على التخفيف من حدة توتره وانقباضه وفجأة سمع صوت الباب يفتح ثم يغلق...انها هيلين! واحس برغبة في الخروج للقاعة ومطالبتها بايضاح فوري قبل ان يبدأ بالصراخ والتحذير والتهديد ولكنه قرر البقاء في مكانه لانها هي ستأتي اليه. وبعد لحظات دخلت هيلين جميلة وفاتنة بشكل خاص. اه انها ترتدي ذلك الفستان الازرق المطرز بالفضة الذي ابتاعه لها من اليابان قبل ستة اشهر والذي لم تلبسه مرةواحدة قبل الان انه يريد تمزيقه لانها لم تلبسه الا لتخرج مع كيث مانرينغ. يا للوقاحة وقلة الحياء .
" مرحبا جايك. انك تبدو في حالة جيدة. كيف كانت رحلتك؟ "
سيطر جايك على اعصابه واجاب بلهجة باردة:
" ناجحة الى حد كبير "
" اوه هذا خبر جيد "
اضطرت هيلين للتطلع فيه مرةاخرى فشاهد القلق والانزعاج في عينيها وسمعها تقول متلعثمة:
" انا...انا اسفة لاني...لاني لم اكن هنا...عندما عدت الى البيت. كنت...كنت مرتبطة...بموعد "
" اعرف ذلك "
احمرت وجنتاها واخذت نفسا عميقا ثم قالت:
" من المؤكد ان السيدة لايتمر اعدت لك عشاء ممتازا و. . ."
انفجر جايك غاضبا وقاطعها قائلا:
" لتذهب السيدة لايتمر وعشاءها الممتاز الى الجحيم "
مدت هيلين راعيها الى الامام متوسلة الهدوء والتفهم:
" جايك ارجوك. . ."
" ارجوك ماذا؟ اللعنة على هذا الرجاء اين كنت يا امرأة؟ "
بلعت هيلين ريقها بصعوبة وتراجعت خطوة الى الوراء وقالت:
" لقد اخبرتك السيدة لايتمر بالتأكيد. . ."
" انا لست مهتما بالسيدة لايتمر وبما قالته انا اريد ان اعرف منك انت بالذات اين كنت ومع من؟ "
لم تجد هيلين بدا من الإجابة فقالت بصوت مرتجف:
" كنت في حفلة...مع كيث مانرينغ "
صرخ جايك بصوت عالي شاتما:
" أيتها الكلبة الحقيرة لا ادري كيف تكون لك الجرأة الكافية لكي تقفي أمامي هكذا وتقولين لي بمثل هذه البساطة انك كنت مع رجل أخر ومع ذلك الوغد بالذات مانرينغ! "
رفعت هيلين رأسها وأرغمت نفسها بصعوبة على التطلع بعيني جايك وقالت له بقلة اكتراث:
" ولم لا؟ "
" لم لا؟ ماذا تعنين بهذا السؤال الوقح الأجوف؟ لم لا؟ انك زوجتي أليس هذا جوابا كافيا ؟"
كانت هيلين في تلك اللحظة تداعب خاتم الماس الذي يقدر ثمنه بآلاف من الجنيهات والذي أهداها إياه جايك يوم إعلان خطوبتهما وكانت عيناها زائغتين وحائرتين ومشاعرها متضاربة وأفكارها مشوشة ثم سألته بهدوء:
" وأنت هل يكفيك أيضا هذا الجواب...بأنك زوجي؟ "
احتار جايك فسألها مستغربا:
" ماذا تعنين بهذا السؤال الارعن؟ "
رفعت هيلين مرة اخرى حاجبيها متضايقة وقالت:
" كنت اظن انه واضح جدا وليس بحاجة الى جواب او تفسير. هل تعتقد انا ما من احد من الاصدقاء سيتبرع بابلاغي انباء مغامراتك وانتصاراتك الغرامية؟ وبأنني لن اشعر بالقرف والاشمئزاز عندما تتكرر هذه الاخبار باستمرار ومن افواه اشخاص يدعون كذبا بأنهم مخلصون ومهتمون بمصلحتي؟ "
" رباه ماذا اسمع؟ وتعتقدين ان....ان تصرفاتي هذه تخولك التصرف على نحو مماثل اهذا ما تحاولين قوله؟ "
" لا! "
قالتها بعصبية وايجاز شديدين لفتا نظره وجعله يستدير لمواجهتها مرة اخرى. اما هي فتابعت قذف حممها باتجاهه:
" لا يا سيد جايك! انا لست مثلك! انا لست حيوانا يطلق لشهواته العنان ويستسلم لمطالب جسده محاولا تلبيتها كيفما كان بغض النظر عن الزمان او المكان.....او الشريك "
" وتعتبرين انني انا.....حيوان؟ "
احمر وجهها وقد حل الغضب محل الخجل والسخط محل اللياقة والهجوم محل الدفاع وقالت بلا اكتراث:
" الحقيقة يا جايك انه لم يعد يهمني من انت. ولكني لا ارى أي مبرر لشكواك من تصرفاتي. وفيما يتعلق بي شخصيا فان هذه الاشهر الثلاثة الاخيرة كانت القشة التي تقسم ظهر البعير. انني لا اجد سببا لاعزل نفسي عن اصدقائي لمجرد انني متزوجة منك و. . . "
هل انا مضطر لتذكيرك بأن من تسمينهم اصدقاء هجروك فور وقوع تلك الحادثة التي اودت بحياة والدك؟ "
وجهت اليه نظرة ثاقبة وقالت بضيق وانفعال:
" هذه ملاحظة تافهة ورخيصة "
هز جايك كتفيه العريضين وهو يتأملها بتفحص وتمعن. كانت تلك المرة الاولى التي يراها عصبية المزاج وقادرة الى حد ما من الدفاع عن نفسها ومواجهته بقوه وثقة بالنفس. ثم قال لها بدون ان يبعد نظراته عن عينيها:
" ولكنها ملاحظة صحيحة في أي حال! ماذا ستفعلين وبماذا ستعلقين عليها؟ ماذا ستقولين ازاء هذه الملاحظة القاسية والجافة؟ انني انسان غير مهذب انسان شبيه بذلك الوغد الوقح مانرينغ ؟ "
" كيث رجل مهذب ويحسن التصرف "
اوه اهذا ما تعتقدين؟ وما هو تفسيرك لكلمة مهذب يا ترى؟ هل الرجل السيد المهذب هو الذي لا يأكل حبوب الزيتون قبل ان يقطعها بالسكين؟ او الذي يذهب الى شاطئ البحر مرتديا سترة سوداء رسمية؟ "
" انت انسان فج ووقح! انا ذاهبة الى النوم "
هجم نحوها بخفة وسرعة وقال لها بعصبية ظاهرة:
" هل انت ذاهبة حقا؟ لا يا صغيرتي...لن تذهبي قبل ان اسمح لك او اطلب منك ذلك "
رفت رأسها ونظرت اليه وهي لا تصدق اذنيها:
" انت مجنون يا جايك! نحن الان في اواخر القرن العشرين...وانت لست سجاني! لا, لا يمكن ان تفرض علي القيام بكل ما تريد في أي وقت تريد "
ضم شفتيه بقوة وقال لها بسرعة وتهكم غاضب :
" لا يمكنني ها؟ لو كنت مكانك لما عولت كثيرا على هذا الشعور "
سارت هيلين نحو الباب ولكنها لاحظت انه لا يحيد عن طريقها فقالت له:
" جايك هذا الحديث لا يعجبني على الإطلاق وأتمنى لو انه لم يبدأ أبدا "
رد عليها جايك بحدة وسرعة:
" وأنا أيضا ولكن هل لي أن أذكرك بأن غيابك عن البيت هذا المساء هو السبب؟ :
" أنا متعبة جدا هل بالإمكان بحث هذا الموضوع غدا صباحا؟ اعتقد ان حديث الصباح سيكون أفضل وأجدى لأننا سنكون...سنكون اقل انفعلا واكثر عقلانية "
تطلعت هيلين بطريقة لا شعورية إلى الطاولة التي كان يجلس قربها ولكنها ندمت على ذلك وقالت بسرعة:
" لا هذا لا يعني شيئا "
تضايق جايك من تلك النظرة العفوية وقد فهم مغزاها والتهمة الصامتة التي كانت تحملها وقال:
" وهل تعتقدين إنني....أوه هيلين! هذا أمر لم يحدث من قبل وان . . . "
قاطعته بتهذيب وهدوء:
" ولا أريده ان يحدث. وألان هل تسمح لي بالذهاب إلى الفراش؟ "
ابتعد جايك عن الباب ولكن ملامحه القاسية والغاضبة لم تهدأ أو تنفرج. ثم سألها قبل ان تتحرك من مكانها:
" الست مهتمة بما أحضرته لك من الولايات المتحدة؟ كنت دائما اعتقد ان هذا هو سبب زواجك مني...أن تحصلي على اكبر قدر من الفوائد المادية من هذه الحياة! "
نظرت إليه هيلين بقسوة وتقزز وشعرت أنها على وشك توجيه صفعة مؤلمة ومخزية الى وجهه الساخر والحاقد ولكنها لم تفعل شيئا سوى شد قبضتها والتطلع إليه شزرا وهي تسرع بسرعة وانفعال إلى غرفتها.



2-ضحكة نصفها حزن


أنهت هيلين تسريح شعرها ووضع قليل من المساحيق على وجهها ثم جلست تنتظر جايك الذي الذي كان بدوره يستعد لسهرة تلك الليلة. دعيا إلى حفلة استقبال في إحدى السفارات وتلك أول أمسية سيقضيانها معا منذ عودته قبل أسبوع تقريبا.
الليالي الأربعة السابقة أمضاها في العمل المتواصل لم يتوجه إلى غرفته قبل مضي الجزء الأكبر من ساعات الليل ومع أن هيلين كانت معتادة على ذلك طوال السنوات الثلاثة الماضية إلا أنها لاحظت أن الجو الذي ساد خلال الأسبوع الأول لعودته الأخيرة من الولايات المتحدة اتسم إلى حد كبير بالتوتر والانفعال وكأن تحولا جذريا قد حدث في علاقتهما أو في تصرف كل منهما مع الأخر.
قبل رحلته هذه كانا يتحدثان فترات طويلة ولا بأس أن كان معظم الحديث يتركز حول تجارته وصفقاته المتعددة ولكن العلاقة لم تكن أبدا متوترة على هذا النحو أو إلى هذا الحد. وتساءلت بانزعاج بالغ عما إذا كانت هي وحدها المسؤولية عن هذا التوتر أم أن اللوم يجب أن يقع على عاتقهما معا.!
نظرت إلى المرآة الموجودة أمامها بحزن وتأثر هل من المنطق أو المعقول أن يتوقع منها جايك التخلي عن أشخاص تعرفهم منذ حداثة سنها والاكتفاء بصداقات شكلية وسطحية مع أصدقائه وزوجاتهم صحيح أن لهما أصدقاء مشتركين أمثال جايلز سانت جون ولكن هناك أشخاص تعتبرهم هي مقبولين تماما في حين يجدهم جايك تافهين ومحتقرين وغير جديرين بصداقة أو حتى بمعرفة أو لقاء.
كيث مانرينغ هو واحد من هؤلاء الأشخاص. إنها تعرف كيث منذ سنوات عدة وكانت في إحدى الفترات تتوقع الزواج منه إلا أن هذه المشاعر بالذات أصبحت ملكا للماضي وذكرياته ولم يعد يجمع بينهما سوى الصداقة وفعلا فأي محاولة من جانب جايك لاتهامها بغير ذلك أو للإيحاء بأن ثمة علاقة غير الصداقة العادية البريئة هي محاولة رخيصة وحقيرة. تناولت قلم التجميل وأجرت تعديلا بسيطا فوق عينيها اليمنى ثم عادت إلى التفكير وأحلام اليقظة...والتساؤل. كم من مرة في الأعوام الثلاثة الماضية عانت من التعليقات الجارحة والملاحظات اللاذعة التي كانت تتحفها بها إحدى النساء اللاتي يدعين الاهتمام والصداقة والحرص على المصالح الزوجية...تلك الملاحظات التي تدور في مجملها حول علاقات جايك الغرامية وهذه التي شوهد معها بانتظام وتلك التي كان يغازلها ويجاملها وربما...! وتذكرت هيلين أنها في بادئ الأمر كانت تشعر بالصدمة والحزن...وحتى بالإذلال ولكنها اعتادت بعد ذلك على التأقلم مع الواقع المر لا بل أرغمت نفسها على تقبل ذلك الواقع لأنها لم يكن بإمكانها الحوؤل دونه أو القيام بأي شئ لمنعه أو الحد منه. جايك رجل شبق يتصرف مع النساء كم تفعل النحلة مع الأزهار وهناك الكثير من النساء اللواتي هن على أتم الاستعداد لتلبية حاجاته ومتطلباته وهيلين تعرف أن أيا منهن لا تعني شيئا بالنسبة إلى جايك فبمجرد أن تبدأ إحداهن في وضع شروط أو التقدم بمطالب يطردها من حياته وأفكاره بسرعة وبدون تردد. انه من أولئك الرجال القساة الذين لا يعيرون أي اهتمام لمشاعر النساء أو عواطفهن. ابتسمت هيلين بسخرية عندما لاحظت إنها في بعض الأحيان تأسف لهؤلاء الضحايا.
وقفت وتأملت صورتها كاملة في المرأة الضخمة أمامها إنها بلا شك امرأة جميلة ولا داعي للتواضع و الخجل ولو لم تكن جميلة لما أصبحت زوجة جايك هوارد. كل ما حصل عليه أو يمتلكه يجب أن يكون الأفضل ولكن معرفتها لهذه النقطة الحساسة لم تسعدها أو تمنحها أي شعور بالرضا والسرور. فهي سجينة وهو السجان...هي عصفور جميل رائع يضعه جايك في قفص ذهبي ليسمع صوته عندما يريد ويمتع به نظره عندما يشاء. سمعت طرقا خفيفا على الباب فردت بسرعة وبنبرة حادة عفوية بدون أن تلتفت إلى الوراء:
" ادخل "
فتح جايك الباب ولكنه لم يدخل. كان جذابا في ثياب السهرة الرسمية ومع ذلك فقد ظهر لها من زاوية معينة بدائيا للغاية...ربما كانت طريقة سيره وتحركه أو ربما كانت تلك النظرات المتعجرفة القاسية في عينيه السوداوين الساخرتين. كان يبدو واثقا من نفسه إلى حد كبير وشعرت هيلين بأنه يتوقع سهرة رائعة واستمتاعا بالغا في تلك الأمسية. السهرة بالنسبة إليه كانت نوعا من التحدي...مناسبة لاستخدام مواهبه وشخصيته القوية للتأثير على عدد كبير من الموجودين وخاصة ذوي النفوذ منهم. انه بلا شك ينظر إلى هذه الحفلة كخطوة هامة نحو حصول مؤسسة هوارد على موطئ قدم في تلك الدولة وجارتها الأربعة أيضا. حماس هذا الرجل واندفاعه كانا ولا يزالان وراء نجاحه في قيام تلك المؤسسة العملاقة. ومهما بلغت قوته وثروته
وضخامة مؤسسته فانه سيظل محافظا على ذلك الطموح الجارف والشخصية الفذة.
شعرت هيلين بثروة عارمة داخلها عندما وصل شريط أفكارها إلى هذه النقطة الأخيرة بالذات وتساءلت في تلك الآونة كما كانت تفعل منذ الأسبوع الأول لزواجهما عن الحكمة في قبولها الزواج منه ولماذا قبلت بهذا المنصب الذي تحسدها عليه مئات الشابات والسيدات مع انه منصب مزعج وبارد ومؤلم! لماذا اكتفت بأن لا تكون سوى...زوجة جايك هوارد؟ قسوته, عنجهيته, طبيعته المادية, سحره السريع التأثير, جاذبيته الفتاكة, ثقته التامة بنفسه وقدراته....كلها خصائص تضايقها وترفضها في شريك العمر. ولكنها دأبت على إقناع نفسها دوما بأن عليها تقبل الواقع...على مرارته والحياة الزوجية مع جايك...على صعوبتها. لن تسمح له أبدا بالدخول إلى قلبها وعواطفها لأن من شأن ذلك القضاء على البقية الباقية من أعصابها ومشاعرها...وحتى من كرامتها.
أغمضت عينيها لحظة فسمعته يقول بلهجة توحي بالود والاهتمام:
" انك...جميلة! ولكني متأكد من انك تعرفين ذلك ولست بحاجة لسماعها من الآخرين "
" انه لمن دواعي السرور دائما أن يحصل الإنسان على تأكيدات من الآخرين لما يعرفه أو يشعر به "
هز جايك رأسه بشيء من التهكم ثم اخرج علبة من جيبه قائلا:
" هذه هدية لك "
مشى نحوه ثم سألها وهو يفتح غطاء العلبة أمام عينيها:
" هل يعجبك؟ "
وكيف لا! قالتها لنفسها وهي تتأمل العقد الرائع الجمال المتقن الصنع...والباهظ الثمن ولكنها احتفظت برباطة جأشها وضبطت أعصابها وقالت له بهدوء وبابتسامة خفيفة:
" شكرا...هل تسمح بوضعه حول عنقي؟ "
" طبعا "
رمي جايك العلبة على السرير ووضع العقد حول عنقها بخفة ومهارة قائلا ببروده مماثلة:
" انه جميل عليك وأظنه يناسبك وخاصة مع ما ترتدينه الليلة "
استدارت هيلين نحوه ولأول مرة منذ دخوله غرفتها وقالت له بلهجة أكثر من عادية وتنم عن عدم اكتراث إلى حد ما:
" نعم انه رائع "
تأملها جاك بتمعن وكأنه يحاول بنظراته الثاقبة معرفة رد فعلها الحقيقي على هديته لها ثم هز كتفيه وكأنه هو الأخير غير مهتم أو مكترث بتجاوبها اللامبالي وقال:
" اشتريته لك من نيويورك ظنا مني انه سيعجبك "
" انه يعجبني "
حملت حقيبة يدها المخملية ثم نظرت إليه وسألته بهدوء:
" هل أنت مستعد للخروج؟ "
رفع جايك معطفها الأنيق الذي كان ملقى على حافة السرير وساعدها على ارتداءه وهو يجيب:
" نعم أنا مستعد. لايتمر يحضر السيارة ألان. هل نذهب أم انك تريدين شئ أخر ؟"
لم تجب بل سارت نحو الباب بدون أن تلتفت نحوه أو وراءها وكان لايتمر ينتظرهما بصبر وهدوء قرب الباب الرئيسي.
جايك يحب قادة السيارات ولكنه يفضل الجلوس في المقعد الخلفي عندما تكون هناك حفلات رسمية أو لقاءات عمل أو اجتماعات ضرورية.
أوقف لايتمر السيارة أمام مدخل السفارة وخرج منها مسرعا ليفتح الباب للسيدة في حين تولى احد موظفي الاستقبال فتح الباب الأخر. وبما انه لم يكن هناك أي مكان شاغر لإيقاف السيارة في ذلك الشارع طلب جايك من سائقه أن يذهب إلى البيت على أن يعود إليهما في وقت لاحق.
بعد صعودهما الدرج الرخامي العريض ووصولهما المدخل المؤدي إلى قاعة الاستقبال استأذنت هيلين زوجها وتبعت إحدى المضيفات إلى غرفة جانية مخصصة للسيدات لكي تضع معطفها مع بقية المعاطف وتتأكد من حسن مظهرها قبل الدخول الى القاعة الرئيسية. كانت الغرفة تعج بزوجات الدبلوماسيين والسياسيين وشخصيات المجتمع. علقت هيلين معطفها وألقت نظرة سريعة على نفسها في إحدى المرايا ثم خرجت لملاقاة زوجها والدخول معه إلى الصالة الكبرى. كان جايك بانتظارها ولكنه لم يكن وحده كان يقف مع رجل متوسط العمر يتكلم بحماسه وحيوية فيما كان جايلز سانت جونز وزوجته جنيفر يصغيان باهتمام بالغ. لوحت جنيفر بيدها عندما شاهدت هيلين وتقدمت نحوها بلهفة قائلة وهي تقبلها:
" هيلين...عزيزتي! لقد مضى دهر على أخر لقاء بيننا. أين أنت وماذا كنت تفعلين خلال هذه المدة الطويلة؟ "

حول جايك نظره بسرعة إلى وجه زوجته الذي احمر قليلا وشعرت هيلين فورا بتلك النظرة الحادة وبتأثيرها عليها. جايك قادر تماما على التظاهر بتوجيه كافة اهتمامه إلى مسألة ما في حين انه فعلا يكون مصغيا إلى موضوع أخر يختلف تمام الاختلاف من حيث الشكل والمضمون. وأحست انه يركز اهتمامه ألان على الجواب الذي ستعطيه ومن المحتمل أن يتوقع منها إبلاغ جنيفر بملاقاتها كيث مانرينغ.
ابتسمت هيلين وأجابتها بلهجتها الواثقة المعتادة :
" توقعت أن تكوني منشغلة هذه الأيام. أنا من ناحيتي كنت منهمكة في إجراء عدة تعديلات وترتيبات جديدة في البيت ثم انك تعرفين كيف أن جايك عاد بعد فترة غياب طويلة و. . ."
لم تكمل جملتها عمدا بل عمدت إلى توجيه نظرة باسمة تحمل أكثر من معنى إلى جايلز الذي كان يمد يده لمصافحتها .
" انك تبدين رائعة بشكل خاص هذه الليلة أيتها العزيزة "
قالها جايلز لهيلين وهو يشد على يدها ويرد على الابتسامة بالمثل ثم يده اليسر إلى العقد الثمين في حين أبقى يده اليمنى ممسكة بيد هيلين وقال:
" هذا عقد رخيص ومقلد وأنا متأكد من انه ليس من وولورتز "
كان جايك قد أنهى حديثه مع السياسي المتوسط العمر وحول اهتمامه الكلي لما يجري قربه ثم وجه نظرة طويلة إلى جنيفر وقال لجايلز بدون أن يرفع نظره عن زوجة صديقه:
" وهل أنت حقا مقتنع بما تقول؟ "
ثم تطلع إلى زوجته وسارع إلى القول ولكن بلهجة جافة وقاسية:
" لماذا لا نزيد الجمال جمالا والتحفة روعة وكمالا! "
ازداد احمرار وجه هيلين وشعورها بالضيق والانزعاج وقالت:
" اعتقد أن هذه المحادثة سخيفة جدا. أليس كذلك يا جنيفر؟ "
وقبل أن يتمكن احد من الرد أو التعليق على ما قالته سارعت إلى توجيه سؤال عن موضوع مختلف تماما :
" أوه جايلز! هل وجدت شيئا جديدا بالنسبة إلى تلك القارورة؟ "
جايلز سانت جونز لم يكن مجرد رجل أعمال وعضو مجلس إدارة في عديد من الشركات بل كان أيضا يهوى الأشياء القديمة التي تحمل قيمة تاريخية وأثرية ويمضي الساعات الطوال في إجراء دراسات وبحوث عنها. وكانت هيلين قد أعطته قارورة فضية صغيرة ليتأكد لها من صحة ما يقال عن أنها صنعت خصيصا لليدي هاملتون والقارورة الفريدة هدية لهيلين من جايك في عيد ميلادها الماضي.
اخذ جايلز يشرح مراحل التحقيقات التي يقوم بها فيما كانوا جميعا يتوجهون إلى قاعة الاستقبال. كانت هيلين تستمع إلى شرح جايلز المستفيض وتصغي في الوقت ذاته إلى لتفاصيل حادثة طريفة حدثت لجايك في إثناء وجوده في أمريكا ولضحكات جنيفر المتواصلة. أزعجها الغنج والدلال ولم تعد تسمع محاضرة جايلز أو نكتة جايك. عاد بها تفكيرها إلى تلك المناسبات النادرة التي كان الحزن العميق وحده يضطرها للتذمر لصديقتها جنيفر من تصرفات جايك وكيف أن جنيفر كانت دائما تأخذ جانبها وتتهم جايك بالحقارة والخسة وتذكرت أيضا انه في كل مرة يجتمع فيها الأصدقاء الأربعة تنسى جنيفر اتهاماتها وتتصرف مع جايك وكأنها تجده جذابا وساحرا للغاية. وللمرة الأولى منذ أن بدأت جنيفر تتصرف على هذا النحو شعرت هيلين بضيق وانزعاج شديدين. وفجأة تطلعت إلى الوراء فلاحظ جايك الانقباض الظاهر على وجهها و....في تلك اللحظة بالذات زلت قد جنيفر فأمسكت بذراع جايك محولة انتباهه عن زوجته. هل تعمدت تلك الحادثة البسيطة أم أنها وقعت قضاء وقدرا؟ ازداد تأثر هيلين وشهرت بألم حاد في معدتها. جايك لم يبحث معها تفاصيل رحلته الخيرة...لم يبحث معها أي شئ منذ أسبوع الحقيقة إنهما لم يتبادلا سوى بعض كلمات عادية وتقليدية فلماذا تغضب ألان إن هو اخبر جنيفر بعض ما حدث معه في تلك الرحلة؟ لا لن تغضب. تطلعت إلى جايلز وابتسمت. لم يلاحظ هو أي شئ غريب يزعجه فلماذا تزعج هي نفسها أو تتضايق.
قاعة الاستقبال الكبرى والغرفتان المتصلتان بها كانت تعج بالشخصيات الرسمية والاجتماعية. استقبلهم احد مساعدي السفير بتهذيب واحترام وتولى التعريف بينهم وبين عدد كبير من المسئولين والرسميين ثم تركهم يتحدثون مع بعض الضيوف فيما توجه هو لاستقبال القادمين الجدد. نظرت هيلين إلى زوجها فشاهدت في عينيه نظرات النمر الذي يستعد للانقضاض على فريسته وعلمت أن تفكيره كله مركز ألان على مواضيع العمل
والصفقات التجارية والمالية وفعلا اعتذر جايك منهم بدعوة انه سيتحدث إلى احد السياسيين القدامى الذين يعرفهم ثم اختفى في ذلك الحشد الكبير قبل أن يتسنى لأحدهم التلفظ بشئ. تطلعت جنيفر بصديقتها وكأنها ترثى لحالها وقالت:
" اعتقد إننا لن نرى زوجك قبل ساعة أو ساعتين من ألان. انه حقا لا يطاق...ألا تعتقدين ذلك؟ "
أحنت هيلين رأسها وردت بهدوء:
" بلى اعتقد ذلك "
ابتسم جايلز ووضع ذراعا على كتف كل منهما قائلا:
" خيرا فعل. الم يتركني مع أروع سيدتين في هذه القاعة! "
ابتسمت هيلين ولكن جنيفر هزت كتفيها ضجرا وقالت:
" ولكن أيها الحبيب الغالي ماذا سنفعل ألان؟ اعني...ألا تعرف أحدا جديرا بالاهتمام ضمن هذا الحشد الكبير؟ "
عقد جايلز جبينه وتطلع حوله باهتمام جدي ثم قال:
" ها! اعرف الرئيس (لباري) الذي يقف هناك مع زوجته كان زميلا لي في جامعة كامبردج. زوجته شابة طيبه ولطيفة وهي كانت ممرضة على ما اذكر"
ظلت جنيفر لبعض الوقت متأففة تشعر بالضجر والملل ثم سألت زوجها فجأة:
" من هو ذلك الرجل الذي يحدق بنا؟ ذلك الرجل المتوسط العمر الذي يقف هناك...هل تعرفه؟ "
" أوه اتعنين (برتي مالارد) نعم اعرفه "
ثم تابع حديثه بعد أن الرد التحية لذلك الرجل:
" انه في الحقيقة اللورد مالارد أنا متأكد من إنني ذكرت اسمه عدة مرات أمامك يا جنيفر. انه خبير ممتاز في المفروشات القديمة "
" بحق السماء يا جايلز! أين الإثارة والاهتمام...رئيس لإحدى الجمهوريات الصغيرة الفقيرة وزوجته الممرضة السابقة أو إحدى اللوردات المتخصصين بالمفروشات العتيقة البالية. إلا يحضر مثل هذه المناسبات أناس يفتحون الشهية؟ أشخاص في الثلاثين أو العشرين ويحبون الحياة؟ "
" طبعا, طبعا لنتنقل بين هؤلاء الناس علنا نجد مبتغانا! "
اضطرت هيلين لمجاراتهما في التنقل والمشاركة في الحديث ولكنها كانت متضايقة وتشعر بالانقباض جنيفر على حق جايك لا يطاق لماذا يحضرها إلى مثل هذه الحفلات عندما يكون مصمما على تركها وحدها طوال الوقت؟ مضت ساعة كاملة لم تلمح جايك خلالها ولو مرة واحدة وفجأة شعرت بيد رجل تداعب ذراعها استدارت سرعة ليواجهها كيث مانرينغ بابتسامة ودية
" كيث؟ ماذا...ماذا تفعل هنا؟ "
جايلز وجنيفر استدارا أيضا عندما سمعا صوتها وتلعثمها. جايلز يعرف كيث معرفة وثيقة ولذا حيا كل منهما الأخر بحرارة أما جنيفر فقد وجهت إليه ابتسامة عريضة قائلة له بلهجتها المعتادة:
" كيث أيها العزيز الغالي! ما أروع هذا اللقاء أنا متأكدة أيضا من أن هيلين مسرورة أيضا بلقائك زوجها هجرها منذ بداية هذه الحفلة...وكلنا نشعر بالضجر والسأم "
نظرت إليها هيلين بغضب واشمئزاز. إن أخر شئ تريده في العالم هو أن تتكون لكيث فكرة خاطئة عما تشعر به نحوه صحيح انه يعجبهما وأنهما صديقان ولكن هذا هو كل ما في الأمر. كيث شاب في مقتبل العمر وصاحب شخصية محببة وخاصة مع الفتيات. هيلين تعرف ذلك ولكن علاقتهما اقتصرت حتى ألان على الصداقة البريئة وهي تريدها أن تظل هكذا...صداقة تحتفظ بها دون أن تتطور أو تنقلب إلى عداوة ولكنها سمعته يقول لجنيفر:
" جئت خصيصا للقاء هيلين "
نظرت إليه بتعجب فشاهدته يبتسم ويوجه حديثه إليها قائلا:
" تمكنت من الحصول على بطاقتين للحفلة الموسيقية التي سيقيمها ماهلر والتي كنت ترغبين في حضورها. فما رأيك؟ "
يا للمصيبة! احمر وجهها وقالت بتردد واضح:
" أوه! أوه الحفلة لا ادري...لا اعلم! اعني أننا عندما تحدثنا بشأن هذه الحفلة كان جايك...لا يزال مسافرا. أما ألان...فهو هنا "
كانت جنيفر تصغي بتأفف لاعتذار هيلين ثم قالت لها بشئ من الدهشة والاستغراب:
"بربك يا هيلين! هل تعقدين أن جايك سيأخذك بعين الاعتبار إذا كان يرغب بالذهاب إلى مكان ما أو مرافقة إنسان ما؟ انه ليس سجانك قفي على قدميك بثبات واتخذي موقفا صارما...كوني مستقلة


عضت هيلين بقوة على شفتيها حتى كادت تدميها إنها تعلم أن جنيفر على حق وهذه الليلة بالذات هي خير دليل على عدم اكتراثه بها تركها منذ بداية السهرة وحيدة...برعاية جايلز.
" لا اعلم يا كيث. . . !"
توقفت عن متابعة جملتها وتجمدت في مكانها عندما شاهدت زوجها يقترب منهم وفي عينيه نظرات الرضا والاكتفاء كتلك التي تظهر في عيني هرة انتهت لتوها من تناول طعامها المفضل ولكن تلك النظرات قست وتحولت إلى الغضب عندما شاهد كيث يقف بالقرب من زوجته.
وضع يده على كتف زوجته وشد بقوة وهو يقول بلهجة من يأخذ الأمور بروح رياضية وعدم اكتراث:
" يا للصدفة! انه كيث أليس كذلك؟ قل لي ماذا يفعل محامي نظيف اليد مثلك في مكان كهذا؟ "
كان التحقير واضحا في تلك اللهجة مع أن الكلام بحد ذاته لم تكن فيه اهانة أو شتيمة. ومع أن كيث لم يكن طويلا أو عريض المنكبين كجايك إلا انه أعجب هيلين عندما شمخ برأسه وقال بهدوء ملحوظ:
" الحقيقية يا هوارد أنني جئت للقاء زوجتك لدي بطاقتان لحفلة موسيقية اعرف أنها متشوقة لحضورها "
حولت هيلين نظرها عن وجه الشاب الذي صبغه الاحمرار والانزعاج والانفعال إلى وجه جايك الهادئ والقاسي. وكان واضحا من زيادة شدة قبضته على كتفها انه فوجئ بالتفسير الفوري والصريح الذي صدر عن كيث. إلا أن جايك لا يسمح لمثل هذه المواقف بأن تؤثر على تفكيره أو تصرفاته.
" هكذا إذا! "
اخذ سيكاره قدمها له جايلز في ذلك الوقت بالذات على أمل التخفيف من حدة المواجهة المتوقعة بين الرجلين. وببرودة أعصاب مزعجة تطلع بكيث وسأله:
" وما يحملك على الاعتقاد بأنني لن أتولى هذه المهمة بنفسي إن كانت زوجتي راغبة فعلا بحضور الحفلة المذكورة ؟"
تردد كيث ربما لأنه انتظر جوابا أخر أو سؤالا مختلفا. ثم قال:
" فهمت من هيلين أن الحفلات الموسيقية الكلاسيكية تزعجك وتضجرك "
" أهذا حقا ما قالته لك زوجتي؟ "
وضع السيكاره بين شفتيه في هدوء غريب فسارع جايلز لإشعالها له. وبعد أن نفث سحابة كبيرة من الدخان على مقربة من وجه كيث عاد إلى الكلام:
" يجب أن تخبرني عن الأمور الأخرى التي تحدثك بها زوجتي يا كيث. أنا مهتما جدا لسماع تقييمها الفذ لأنواع الموسيقى التي . . . "
قاطعته هيلين بانفعال وتوسل:
" جايك, أرجوك! أرجوك! "
رد عليها بهدوء مفتعل:
" أرجوك ماذا؟ "
أرجوك ألا تفتعل شجارا لقد أبلغت كيث قبل قدومك انه...انه لا يمكنني قبول دعوته "
" أوه هكذا إذن! ولكن لماذا؟ هل منعتك من قبول دعوة كهذه؟ "
" لا! لا! "
تطلعت هيلين حولها بانزعاج بالغ وقالت:
" جايك أنا لا أريد الذهاب "
" ولكنني أصر على ذهابك إذ ليس من المعقول أن ترفضي بعد أن تعذب كيث إلى هذا الحد للحصول على البطاقتين! بالمناسبة ما هو موعد الحفلة؟ "
اخرج كيث البطاقتين من جيبه بانفعال ثم أجاب:
" يوم الخميس المقبل في الثالث والعشرين من هذا الشهر "
" الثالث والعشرون ها ! أوه تذكرت ألان هناك مؤتمر سيعقد في باريس في الرابع والعشرين ولذلك فعلى الأرجح أن أكون غائبا ليلة الخميس. أنا متأكد من أن هيلين ستكون مسرورة بمرافقتك لها إلى الحفلة المشهورة "
نظرت هيلين إليه بغضب وشعرت بكره شديد نحوه لأنه ينظم لها حياتها بمثل هذه اللامبالاة الكريهة. لماذا يصر ألان على قبولها الدعوة بينما رفضها بعنف وقسوة يوم عودته الأخيرة إلى لندن؟ هذا التناقض الكبير أوقعها في حيرة مزعجة.
تنهدت جنيفر وشعر جايلز بشئ من الراحة والسكينة بسبب النتيجة السلمية للمواجهة. ولتثبيت الهدوء اقترح جايلز أن يتوجهوا جميعا إلى موائد المأكولات العامرة أما كيث فقد اغتنم الفرصة ليستأذن بالذهاب بعد أن قال لهيلين بأنه سيتصل بها لاحقا. على اثر ذلك خيم صمت مزعج على الرجلين وزوجتيهما وكانت هيلين بالطبع أكثرهم انزعاجا وتضايقا فلم تتمكن من تناول لقمة واحدة من تلك المأكولات الشهية المنوعة. كيف لا يكون الجو متوترا إلى هذه الدرجة وجايك لا يقول شيئا ولا يجيب إلا بنعم أو لا عندما يحاول جايلز أو جنيفر التحدث معه ولم يحدث أي انفراج على الرغم من المحاولات المتكررة من جانب الصديقين المشتركين إلا عندما تقدم منهم السفير بنفسه مرحبا ومجاملا عندها فقط انفرجت أسارير جايك وأطلق للسانه العنان ولكنه كان دائما طيبا ولطيف المعشر عندما يتحدث في مواضيع تتعلق بمشاريعه أو صفقاته. بمجرد انتقال السفير إلى مجموعة أخرى من الضيوف أعلن جايك عن رغبته في العودة إلى البيت على الرغم من أن الحفلة كانت لا تزال في أوجها. عاد بسيارة أجرة لأنه لم يشأ البقاء حتى الموعد الذي حدده لسائقه وكانت هيلين متخوفة طوال الوقت مما سيقدم عليه جايك. ماذا سيقول؟ ماذا سيفعل؟ .
ابلغ جايك سائقه بأنه لم يعد بحاجة إليه تلك الليلة في حين توجهت هيلين بعصبية الى قاعة الجلوس وعادت التساؤلات المزعجة تضج في رأسها ماذا كان هدفه عندما دفعها دفعا لا بل أرغمها على قبول دعوة كيث؟ ما هي الأسباب الحقيقية لهذا التحول المفاجئ في تصرفاته؟ لا لن تدع غضبها يسيطر على تفكيرها سترغم نفسها على معالجة الموضوع بهدوء وروية لا داعي لشعورها بالذنب فهي لم ترتكب خطأ أو تقدم على عمل تخجل به.
أعدت لنفسها فنجان من القهوة المرة وجلست ترشفه بهدوء بعد أن خلعت معطفها ورمته على المقعد المجاور. دخل جايك فسألته عما إذا كان يرغب في فنجان مماثل ولكنه رفض بحركة من يده لم يزعج نفسه بالرد عليها أو حتى بالنظر إليها وكأنها غير موجودة. هل تعود إلى الانفعال أم تحتفظ برباطة جأشها!!
ولكن المشكلة أن جايك ليس غبيا وهي تعرف ذلك وتعرف أيضا أسلوبه القاسي في إخراس موظفيه والحك من شأنهم وقدرهم. الشخص الوحيد الذي له تأثير يذكر على جايك يقيم في سلبي على بعد بضعة مئات من الكيلومترات. وهيلين لم تكن راغبة أبدا في طلب المساعدة من والدة زوجها لأنها تعرف مدى احتقار تلك السيدة العجوز لها ولطريقة حياتها.
وضعت فنجان القهوة على الطاولة الصغيرة وبدأت تسير نحو غرفتها وهي تأمل آن يكون صمته علامة غضبه الوحيدة ولكنه اقترب منها مسرعا وقال بلهجة جافة وقاسية:
" والى ابن تظنين انك ذاهبة؟ "
" إنني متعبة يا جايك وأريد التوجه إلى الفراش "
رد عليها بنبرة حادة وكأنه يتهمها بشئ خطير:
" انك دائما متعبة...وخصوصا عندما تضطرين لمواجهة أمور غير سارة أو مستحبة ! "
تنهدت هيلين وردت عليه بروية عناية:
أنا لا أرى أي داعي لتفوهك بكلام غير مستحب. إنني لم افعل شيئا اخجل به...أنا لست طفلة يا جايك تؤنب وتقاصص بعد كل مرة تخرج فيها من البيت. وإذا كنت متضايقا لما حصل مع كيث فما عليك إلا أن تلوم نفسك "
" ألوم نفسي؟ رباه هيلين ماذا تقولين؟ انك حقا وقحة...هل تظنين إنني سأقبل هذه الوقاحة منك؟ "
" جايك ألا تعتقد انك أمعنت في إذلالي بما فيه الكفاية في أمسية واحدة؟ بربك قل لي ماذا سيقول جايلز وجنيفر بعد كل الذي شاهداه هذه الليلة؟ "
رفع حاجبيه غضبا وقال لها بتهكم حاقد وشامت:
" ألا تدرين؟ هذا يعني انك لا تعرفين أصدقاءك حق المعرفة أليس كذلك؟ فأنت لا تتطلعين إلا إلى القشور انك سطحية سخيفة لا تعرفين دوافع هؤلاء الأصدقاء أو مشاعرهم الحقيقية "
جرحتها أهانته وكلماته القاسية الفجة فسألته بتأثر واضح:
" وماذا تعني بهذا القول؟ "
" اعني أن جايلز المسكين يتمنى أن يكون لديه نصف فظاظتي وقلة تهذيبي وان ينجح في استخدام هاتين الصفتين. كما أن جنيفر تشعر بالمقابل بمزيد من الاحتقار له لضعف شخصيته وقلة جرأته "
" جنيفر لا يمكن أن تفكر هكذا. أنها تجدك رجلا جلفا وفظا وهي مثلي لا تحبك أو تطيقك "
ابتسم جايك رغما عنه بسبب حماسها واندفاعها ولكنها لم تكن ابتسامة سارة أو صافية ثم قال لها بسخرية:
" وهل تصدقين ذلك؟ ألا تعلمين أن صديقتك جنيفر مستعدة للتضحية بالغالي والرخيص لتحل محلك؟ "
" وماذا تعني بذلك؟ "
" ما اعنيه أيتها الزوجة الارستقراطية البريئة أن جنيفر هي بالنسبة إلي صيد سهل أتفهمين؟ مجرد إشارة واحدة من زوج صديقتها وصديق
زوجها . . . "




تسارعت نبضات قلبها وأخذت تتنفس بسرعة وعصبية ثم قالت له بكره واشمئزاز:
" انك...انك سافل وحقير وأنا لا أصدقك... جنيفر ليست هكذا أبدا لقد قلت لك أنها...أنها تحتقرك "
" وهل تريدين أن اثبت لك ما قلته؟ "
" أوه, لا. لا. بالطبع لا! "
" ولم لا؟ هل تخشين أن اثبت لك صحة ما أقول ؟ "
هزت هيلين رأسها حزنا ولوعة أنها لا تريد التفكير لا تريد أن تتذكر تلك الضحكات التي سمعتها في بداية السهرة ولا تلك النظرات التي شاهدتها لأنها لو تذكرت....لاضطرت لتصديقه. لا انه يكذب ويدعي باطلا هذا غير صحيح فجنيفر هي صديقتها ولكن. . . .
" أنا ذاهبة إلى الفراش ولا أريد التحدث في هذا الموضوع "
حرك جايك عضلات كتفه بتثاقل وقال:
" وهذا يعني بالطبع إنهاء المحادثة...هكذا "
توقفت عن سيرها باتجاه الباب واستدارت نحوه قائلة:
" الم يكن كافيا ما قيل حتى الان؟ انا لا افهمك يا جايك. تذمرت بعنف عندما صدف انني كنت خارج البيت عند عودتك من الولايات المتحدة ومع ذلك فانك الان تدفعني لا بل ترغمني على حضور الحفلة الموسيقية مع كيث. . ."
" عندما كنت خارج البلاد سهرت مع كيث اليس كذلك؟ لم تهتمي على الاطلاق بما قد يقوله الناس. اما الان فعندما ينتشر الخبر انني انا الذي اعددت هذا اللقاء مع كيث فان الاقاويل والشائعات حول علاقتك معه ستخف الى حد كبير. ما من احد يهزأ بجايك هوارد ويستخف به وينجح...تذكري ذلك"
" وماذا تعني الان بهذا الكلام؟ "
اشعل سيكارة وقال لها ببرود بالغ :
" انك متعبة لن ازعجك بالتفاصيل "
" اوه جايك بحق السماء "
" اذهبي الى الفراش يا هيلين. كما قلت لي انك لا تفهمينني ولكنك ستفهمين صدقيني ستفهمين "
استدارت نحوه غاضبة وكانت على اهبة مواجهته بأعماله المخزية وعلاقاته الغرامية المفضوحة ولكنها لم تتمكن. كانت ستبدو كزوجة تدب فيها الغيرة وهذا شعور لم يزعجها قط ....قبل الان. الا انها في هذه الليلة بالذات وبعد ضحكات الغنج والدلال التي سمعتها من جنيفر شعرت بأن مجرد تفكيرها باقامته علاقة ما مع امرأة اخرى...امر مثير للغضب...والغيرة.

3- الوحدة القاتلة


كان المطعم في هذا الوقت من الصباح غاصا بالزبائن ومعظمهم من سيدات المجتمع الأنيقات اللواتي اخترن هذا المكان للقاء بعضهن بين فترات التسوق الصباحية وفي هذا الجو الذي يعج بالضحكات والثرثرة ويعبق برائحة العطور النادرة والباهظة الثمن كانت هيلين وجنيفر تشربان القهوة وتأكلان الحلوى. وفيما كانت جنيفر على وشك البدء بقطعة كبيرة ثانية من الحلوى تطلعت بقوامها منتقدة وقائلة:
" يجب أن أحاول بجدية حقيقية الحد من تناول الحلويات لن افرح كثيرا إذا أضفت إلى وزني بضعة كيلوغرامات أزياء العصر لا تتناسب مع السمنة "
نظرت إليها هيلين وقالت بلطف:
" لا اعتقد أن هناك خطر على قوامك يا عزيزتي انك نحيلة وذات قد جميل "
" نعم ولكن إلى متى أظل هكذا إذا واصلت التهام هذا القدر من الحلويات؟ "
ثم تنهدت وتابعت حديثها:
" هل تذكرين عندما كنا في المدرسة؟ كنا نأكل كميات ضخمة ولا ترف لنا عين! ولذا أعجب من تزايد وزننا كلما تقدمنا في السن "
قالت هيلين:
" اعتقد أن السبب الرئيسي يعود إلى قلة الحركة والتمارين بالمقارنة مع أيام الدراسة. اذكر أننا كنا نمارس السباحة بكثرة كما كنا نمضي عدة ساعات في الاسبوع في ملاعب كرة المضرب "
ابتسمت جنيفر ثم قالت:
" اوه نعم كرة المضرب! كنت جيده جدا في تلك اللعبة "
هزت هيلين رأسها وتنهدت بارتياح. ذكريات ايام الدراسة اراحت اعصابها نوعا ما. في تلك الايام كانت تربطها بجنيفر صداقة متينة فلماذا تغيرت العلاقة الى هذا الحد؟ بالطبع انهما الان متزوجتان وكل منهما اصبح لها بيتها ومسؤولياتها وواجباتها. ولكن المسألة لا تقتصر على ذلك فالمشكلة انه لم تعد تجمع بينهما تلك القواسم المشتركة وتلك الاهتمامات المتبادلة. وفجأة سألتها جنيفر ببساطة مصطنعة:
" بالمناسبة...كيف حال جايك هذه الايام؟ "
رفعت هلين فنجان القهوة مرة اخرى وقالت:
" بخير, على ما اعتقد...انه مسافر "
" مسافر؟! مرة اخرى؟ "
لم ترفع هيلين نظرها عن فنجان القهوة ولكنها أوضحت بشئ من التردد:
" انه ألان في شمال انجلترا ذهب لتفقد معمل للكيماويات "
" وماذا حدث تلك الليلة بعد حفلة الاستقبال في السفارة؟ هل كان منزعجا كثيرا من ظهور كيث على ذلك الشكل؟ "
كانت هناك حشرية واضحة في أسئلتها ونظراتها وشعرت هيلين أيضا بأن روحا من الشماتة تغلف هذه الأسئلة. نظرتها إلى جنيفر اختلفت كثيرا بعد الكلام الوقح الذي سمعته عنها من جايك بنفسه ومع أنها حاولت أن تقنع نفسها بعدم صحة ما قاله فقد ظلت تراودها بعض الشكوك حول تصرفات صديقة الدراسة ولكن...أليس من الممكن أيضا أن يكون ذلك هدف جايك بالذات؟ فرق تسد...هزت رأسها وأعادت الفنجان الفارغ إلى الطاولة. مهما كان الأمر فالواضح أن جنيفر تبدي اهتماما غير عادي بمجمل القضية وعليها بالتالي أن تدرس جوابها بدقة قبل أن تتفوه بأي كلمة قد يساء فهمها أو تنقلب ضدها:
" ولماذا يتضايق عندما يكون هو ذاته الذي اعد لذهابي مع كيث إلى الحفلة الموسيقية؟ "
بدت جنيفر غير مرتاحة لهذا الرد فعادت إلى السؤال:
" هل تعنين انه لم يكن متضايقا أبدا؟ "
تنهدت هيلين وأجابتها بهدوء:
" أنا لم اقل ذلك بالضبط ما قلته هو أن جايك لا يجب أن يتضايق لأنه هو الذي اعد لحضوري تلك الحفلة مع كيث "
" اعتقد انك أنت المذنبة بحق نفسك عندما تسمحين له بهذا التسلط. أنا لا يمكن أبدا أن ادع جايلز يتصرف بحياتي بمثل هذا الشكل! "
ابتسمت هيلين وقالت:
" جايك ليس هكذا على الإطلاق واعتقد أن الترتيبات المتفق عليها فيما بيننا تسير بصورة حسنه وطبيعية "
" ماذا! ماذا تحاولين قوله يا هيلين؟ جايك مسافر معظم الوقت وأنت قابعة في البيت تنتظرين! هل تعتقدين إنني اسمح لجايلز بالذهاب وحده إلى تلك الأمكنة الرائعة والمثيرة؟ لا, وحقك لا! أني أصر على الذهاب معه كل مرة يغادر فيها لندن "
قررت هيلين الاحتفاظ بالهدوء حتى النهاية لأن الانفعال في مثل هذه الأوقات ضار ومؤذي لذلك قالت لها:
" إن وضعك يختلف قليلا عن وضعي يا جنيفر أنت تحبين جايلز... وهو يحبك "
ردت جنيفر وهو تطفئ سيكارتها بعصبية ظاهرة:
" لم اعد متأكدة من أن هذا القول صحيح. نعم كان هناك حب متبادل في بداية الأمر ولم نتزوج إلا على هذا الأساس ولكن ماذا يبقى لك بعد ان تخف بهجة شهر العسل وفرحته؟ لا يبقى سوى علاقة تختلف في حرارتها وبرودتها بين يوم وأخر وزوج يتخيل أن الحب علاقة تقوم في الليل...ودائما في الظلام "
" جنيفر!! "
هزت جنيفر بكتفيها تململا وضجرا وقالت:
" ما بالك يا هيلين؟ إنها ليست نهاية العالم...أنا لم اكتشف فجأة ما اشعر به بالنسبة إلى حياتي الزوجية هذا الشعور يخالجني منذ سنوات ولكني اضطر للبوح به بين الحين والأخر. والمؤسف انك لم تكوني موجودة في المرات السابقة لكي اكتفي بكشف سري لك دون غيرك "
" ولكن...ولكن لماذا؟ أنا لا أفهمك يا جنيفر! لديك كل شئ! بيت جميل..سيارتك الخاصة..مال كثير..زوج يحبك. . ."
قاطعتها جنيفر بانزعاج قائلة:
" ولكنني اشعر بالضجر يا هيلين! بالضجر...هل تفهمين؟ "
هزت هيلين رأسها نفيا واستوت في كرسيها ثم قالت:
" انك متزوجة منذ خمس سنوات وأظن أن الوقت قد حان لإنشاء عائلة... "
" أوه كم أنت ضيقة ومحدودة التفكير "
قالتها جنيفر بانفعال ثم تنهدت وتابعت حديثها بعصبية واشمئزاز:
" عائلة! بالله عليك يا هيلين هل تظنين إنني أريد طفلا بقربي يصرخ طوال الوقت؟ هل تتصورين أنني أريد المزيد من المسؤوليات؟ "
" لم اعتقد أبدا بأنك تفكرين بمثل هذه الطريقة! "
" أنا لا أفكر هكذا...طوال الوقت على الأقل! وهذا من حسن حظي ألا توافقين على ذلك؟ "
ثم استرخت في كرسيها وأشعلت سيكاره أخرى وهي تسأل:
" هل تريدين المزيد من القهوة؟ "
" ماذا؟ "
كانت هيلين غائبة بتفكيرها وشاردة بذهنها فلم تسجل على الفور المعنى الصحيح لذلك السؤال الذي وجهته جنيفر بصورة طبيعية وكأن شيئا لم يحدث. ثم استجمعت قواها وقالت:
" أوه, أوه نعم بالطبع "
مالت إلى الأمام ورفعت إبريق القهوة صم صبت فنجانين وقالت لجنيفر :
" كيف وصلنا إلى مثل هذه الأحاديث المزعجة لا بل كيف بدأناها! أنا متأكدة من أن هناك مواضيع أكثر فرحا واقل إزعاجا. . . "
قاطعتها صديقتها بلهجة قوية وجافة"
" كنا نتحدث عن نواقص زوجك وعيوبه...وهي كثيرة ومتنوعة لدرجة انك أنت غير قادرة على نفيها أو إخفائها! "
احمر وجه هيلين ضيقا وذكرت نفسها بأن تصرفات جنيفر كانت فعلا تزعجها في بعض الأحيان وان ذلك الصباح لم يكن بالطبع أفضل من غيره وتمنت لو أنها لم توافق على الاجتماع بها ولكن شعرت بالوقت ذاته أن إزعاج جنيفر هو اقل شئنا وتأثيرا من البقاء في البيت وحيدة...وسجينة. ولما لم تعلق بشئ على ملاحظة جنيفر القاسية قالت لها:
" ماذا بك يا هيلين؟ يبدو انك تغيرت بعض الشئ. في البدء لم تكن صديقتي حساسة غالى هذه الدرجة عندما نتحدث سوية في شؤون زوجها. أما ألان...هل هناك مشكلة أخرى يا هيلين؟ هل بدأت تشعرين بأن المال ليس كل شئ؟ "
نفت هيلين تلك التهمة الشنيعة بحدة وحماسة قائلة وهي تكاد تغرز أظافر يدها في عنقها من شدة الغضب:
" أنا لم اعتبر أبدا أن المال هو كل شئ في هذه الدنيا! "
ابتسمت جنيفر بسخرية وقالت بتأفف:
" حسنا, حسنا ولكن بحق السماء لماذا تبدو عليك الدهشة والذهول كلما قلت شيئا؟ كل ما في الأمر أن مزاجي متعكر جدا وان من سوء حظك ان تكوني أنت ضحية لهجتي القاسية وكلماتي اللاذعة "
رشفت هيلين قليلا من القهوة وهي تحاول ضبط أعصابها والحد من انفعالها. ولكن كلمات جايك عن جنيفر وسهولة استسلامها له عادت تضج في رأسها رغما عنها ورأت نفسها تنظر إلى صديقتها من زاوية مختلفة وبمنظار أخر وتألمت كثيرا عندما تخيلت صحة أقوال جايك فيما يتعلق باستعداد جنيفر لإقامة علاقة معه! لا من المؤكد انه كان يكذب. الم يكن مفروضا عليها أن
تعتاد على ميوله ونزعاته الغريبة طوال سنوات الزواج الثلاثة؟ بلى ولكن المفترض شئ والواقع شئ أخر! إلا أن فكرة اهتمام جنيفر بجايك على هذا النحو أمر يستحيل عليها التفكير به أو تصوره. هل من المعقول. . .؟ ولكنها تفترض مسبقا حدوث شئ ربما لن يحدث على الإطلاق! ومع ذلك...فانه لم يعد بإمكانها النظر إلى جنيفر كما كانت تنظر إليها في السابق وما شاهدته وسمعته منها هذا الصباح لا يمكن تبريره أو مسامحته أو حتى...تناسيه.


وبحثت في رأسها عبثا عن كلمات تشق بها الصمت المزعج الذي خيم عليهما. يجب أن تقول شيئا وبسرعة لأنها ن لم تفعل ذلك ستشعر جنيفر بأن هناك أسببا أخرى حملت هيلين على عدم التحدث كثيرا عن زوجها أو بحث تصرفاته معها ولحسن الحظ دخلت في تلك اللحظات سيدة شابة وحيتهما بصورة رسمية أنها (ماري سوليفان) زوجة عضو مجلس العموم البريطاني. دعيت للانضمام إليهما فقبلت الدعوة شاكرة وكالعادة تحول الحديث إلى الطقس وأزياء الخريف وما شابه. وبعد نصف ساعة تقريبا وقفت السيدة سوليفان وشكرتهما على دعوتهما اللطيفة وودعتهما على أمل اللقاء في وقت لاحق واغتنمت هيلين الفرصة وأعربت عن رغبتها في العودة إلى بيتها وفيما كانتا تتوجهان إلى الباب الخارجي سألتها جنيفر بشكل طبيعي جدا وكأن شيئا لم يحدث بينهما:
" متى تتوقعين عودة جايك من السفر؟ أريدكما أن تحضرا للسهرة وتناول العشاء معنا قبل ان يختفي جايك في رحلة أخرى "
حدت هيلين من رغبتها في القول إنها لا تعرف موعد عودة جايك وأجابت بهدوء مماثل:
" شكرا جزيلا يا جنيفر. اعتقد انه سيعود في أواخر الأسبوع إنها مجرد رحلة سريعة إلى معامل الشمال "
" أوه هذا رائع! هل يناسبكما إذا مساء الأحد؟ "
" ولم لا؟ ولكن سأتصل بك للتأكيد "
تأملت جنيفر وجه هيلين بعناية وجدية ثم قالت فجأة:
" كل شئ على ما يرام يا هيلين...أليس كذلك؟ اعني...اعني هل أزعجك ما قلته لك هذا الصباح؟ "
أرغمت هيلين نفسها على الابتسام ثم قالت:
" بالطبع لا يا جنيفر. إني... إني اشعر بصداع قوي اعتقد انه علي التوجه إلى البيت والاستلقاء بعض الوقت "
بدا السرور والارتياح على وجه جنيفر عندما سمعت أن هيلين ليست غاضبة ثم قالت لها:
" لا تنسي أن تتصلي بي بالنسبة إلى سهرة الأحد "
عندما عادت إلى البيت كانت تشعر بالكثير من الارتياح النفسي والفكري وكأنها أقنعت نفسها بأنها جعلت من الحبة قبة وحتى انزعاج السيدة لايتمر الواضح من اضطرارها لإعادة تسخين الأكل نتيجة لتأخر السيدة ساعة كاملة لم يعكر مزاج هيلين. اعتذرت من الخادمة بتهذيب وجلست إلى المائدة لتناول طعام الغداء بهدوء وسكينة.
" اتصل السيد مانرينغ قبل قليل وكان يريد التحدث معك سيدتي "
وضعت هيلين الملعقة من يدها وسألت باستغراب:
" السيد مانرينغ؟ "
ضمت السيدة لايتمر ذراعيها وقالت بلهجة تنم عن الشعور بالأهمية:
" نعم يا سيدتي "
عقدت هيلين جبينها ورفعت الملعقة نحو فمها ثم سألت باكتراث وانفعال اقل من السابق:
" وهل أبلغك بما يريد؟ "
هزت الخادمة كتفيها وقالت:
" لا يا سيدتي...ولكنه تمنى عليك الاتصال بمجرد عودتك الى البيت "
" أوه! "
ماذا يريد منها كيث ألان غير التحدث بشأن الحفلة الموسيقية؟ ولكن لا يزال هناك أسبوع كامل قبل موعد الحفلة! تنهدت هيلين وهزت برأسها وهي تتابع أكلها ثم وجهت ابتسامة خفيفة نحو مدبرة المنزل وقالت:
" شكرا لك يا سيدة لايتمر. سأتصل به في وقت لاحق "
تعكر مزاجها وفقدت شهيتها مع أن الطعام كان لذيذا وحسب رغبتها وطلبها. فبعد حديثها ذلك الصباح مع جنيفر لم تعد راغبة في لقاء احد وان كانت تلك رغبة كيث فانه بلا شك سيصاب بخيبة أمل كبرى. اتصلت به حوالي الخامسة فلم يستطع إخفاء سروره لذلك الاتصال وبعد كلمات الترحيب والسلام التقليدية قال لها من دون إبطاء:
" أخبرتني جنيفر أن جايك مسافر في الوقت الحاضر فما رأيك بتناول العشاء معي هذه الليلة!
تنهدت هيلين بتململ وانزعاج...جنيفر! الصديقة العزيزة! لم تتأخر على الإطلاق بل سارعت الاتصال بكيث وإبلاغه الأمر بمجرد عودتها من المطهم...لماذا يا جنيفر؟ وشعرت فجأة بشئ من الازدراء لهذا التدخل السافر في حياتها وشؤونها الخاصة.ولكن ألا يعقل مثلا أن تكون جنيفر على اقتناع بأن صديقتها ترحب بأي فرصة للاجتماع بكيث؟ آه منك يا جنيفر! متى ستصدقين أن كل شئ بيننا انتهى تماما منذ ثلاث سنوات؟
" متأسفة يا كيث ولكني لم اعد نفسي لأي سهرة الليلة "
" وهذا سبب أخر يجب أن يحملك على قبول دعوتي "
ثم تنحنح وقال بلهجة حازمة:
" اسمعي يا هيلين...هناك مكان جديد في هنلي وقلت في نفسي لماذا لا نجربه سويا يمكننا الاكتفاء بتناول طعام العشاء وإعادتك باكرا إلا إذا رغبت أنت في إطالة السهرة "
ترددت هيلين كثيرا في الإجابة. السيدة لايتمر تعد لها العشاء في السابعة وتذهب الى غرفتها في حين تظل هي وحيدة ضجرة تتململ عدة ساعات قبل الذهاب إلى سريرها. إنها لا تنام باكرا أبدا كما إنها لا تنام كثيرا هذه الأيام فلماذا لا تذهب مع كيث إلى حفلة عشاء بريئة؟.
وفجأة ضجت أفكارها بصور جايك...ماذا يفعل في هذه الأمسية؟ هل سيمضي هذه الليلة وحيدا في جناحه الفخم؟ إنها تشك في ذلك كثيرا فمن الأرجح انه يقيم حفلة طنانة لكبار موظفيه في احد النوادي الليلة هناك تستمر حتى الساعات الأولى من الصباح ثم ينهيها مع...! إذن لماذا تتردد؟
" حسنا يا كيث لم لا؟ متى نذهب؟
"شعر كيث بسعادة بالغة وسألها بلهفة:
" هل السابعة وقت مبكر جدا؟ "
تطلعت هيلين بساعتها الذهبية الرقيقة وإجابته بعد أن قدرت لنفسها الفترة التي ستحتاجها لتأخذ حماما وترتدي ثياب السهرة:
" لا...لا اعتقد ذلك السابعة تناسبني. هل ستأخذني من هنا؟ "
" طبعا, طبعا. إلى اللقاء إذن "
أعادت هيلين سماعة الهاتف بشئ من التردد فمع أنها قطعت على نفسها وعدا بتناول العشاء معه إلا إنها في الحقيقة لنم تكن راغبة كثيرا في مغادرة المنزل هذه الليلة. لو لم يتصل بها كيث لكانت الهت نفسها على الأرجح بمشاهدة بعض البرامج التلفزيونية أو ربما بقراءة ذلك الكتاب الذي ابتاعته قبل بضعة أيام. أما ألان فقد وافقت على تمضية عدة ساعات بصحبة رجل قد يشكل لها وجوده معها مصاعب معينة على الرغم من أن ذلك الوجود يفرحها ويسليها إذ أن كيث شأنه في ذلك شأن جنيفر قد لا يقبل تماما بأن تكون علاقتهما الراهنة مختلفة إلى حد كبير عن تلك التي كانت قائمة قبل بضعة سنوات.
أمضت ساعة كاملة وهي تريح أعصابها وهي غارقة حتى عنقها في ماء ساخن معطر ثم ارتدت ثيابها وسرحت شعرها وجلست تنتظر في غرفتها.
في السابعة إلا خمس دقائق رن الجرس ففتحت الباب السيدة لايتمر التي كانت على علم مسبق بقدوم كيث ودعته إلى الدخول وانتظار السيدة في غرفة الجلوس. وبعد بضع دقائق نزلت هيلين وبادرته بالسؤال:
" هل شربت شيئا؟ "
ابتسم كيث بشئ من السخرية وأجابها:
" في الحقيقة لم اشرب شيئا. خادمتك لا تفرح كثيرا بقدومي وفعلا إني أخشى لمس أي شئ في هذا المنزل إن لم تكوني أنت موجودة...مخافة اتهامي بالسرقة "
ضحكت هيلين وقالت:
" أنت تبالغ كثيرا, أليس كذلك؟ في أي حال هل تشرب شيئا؟ "
تطلع كيث حوله بعصبية وتردد ثم قال:
" هل هناك أي مجال على الإطلاق لانقضاض ذلك الزوج العنيف علينا بشكل مفاجئ؟ اعني...إنني اكره كثيرا لقاء الأسد في عرينه! "
هزت هيلين رأسها بتململ واضح وقالت له:
" ألان تأكد لي انك تبالغ كثيرا. قل لي بربك ماذا تشرب؟ "
تردد كيث قليلا وقال:
" أي نوع من أنواع العصير الموجودة هنا "
ثم اخرج علبة سكائره وعرض واحدة على هيلين فرفضت شاكرة. أشعل سيكاره فلاحظت هيلين أن يديه الثابتتين عادة كانتا ترتجفان قليلا. هل يخيفه جايك إلى هذا الحد يا ترى؟ أليس مضحكا أن يشعر كيث بالخوف من زوجها؟ ولكن تخوفه من جايك أمر طبيعي لقد شاهدت أشخاص كثيرين اشد وادهي من كيث يتحطمون على صخرة تلك الشخصية القوية والفذة التي يتمتع بها جايك...هذا الرجل الذي تزوجته قبل ثلاث سنوات يحطم منافسيه ويسحقهم معنويا لا بالكلام الذي يقوله بل بالأسلوب الذي يتبعه.



كان المطعم الذي أخذها إليه كيث قريبا من النهر وعلى مفترق طرق رئيسية طابعه عصري للغاية وكل شئ فيه حديث إلى ابعد الحدود مع أن هيلين وجدته جميلا جدا إلا إنها كانت تفضل مطعما اصغر حجما ولا يؤمه هذا العدد الكبير من السكان المحليين. ومع ذلك كان الطعام شهيا ولذيذا وأحاديث كيث ممتعة ومسلية انه يتحدث بذكاء وموضوعية عن مسرحيات أو حفلات شاهداها سويا ويتناقش بأسلوب علمي هادئ الكتب الناجحة التي تهم المتعلمين والمثقفين. وكانت هيلين سعيدة جدا بتبادل الآراء مع هذا الإنسان المطلع خاصة أن ظروفها لم تسمح لها بمثل هذه المناسبة منذ زمن طويل فحتى لو أن جايك أمضى معظم وقته داخل البيت بدلا من خارجه فانه لن يعتبر هذه الموضوعات الأدبية والفنية جديرة بالاهتمام انه يعتبرها مضيعة للوقت ومن يعرف تاريخ حياته يعرف السبب ففي صراعه القاسي وكفاحه المرير للصعود إلى قمة النجاح المادي والتجاري لم يجد متسعا من الوقت للآداب والفنون لذا ظل ذوقه الفني بدائيا وخشنا وظل بالتالي يرفض الخوض في أحاديث لا تعود عليه بفائدة مالية أو تجارية.
أوصلها كيث إلى منزلها بعد العاشرة بقليل وعندما أوقف السيارة وأطفأ محركها استدار نحوها ووضع ذراعه على كتفيها ثم سألها مترددا:
" هل ستدعوني السيدة إلى فنجان من القهوة؟ "
تطلعت هيلين بسرعة إلى ساعتها وقالت:
" لا اعتقد ذلك. الوقت متأخر والسيدة لايتمر نائمة منذ بعض الوقت "
رد عليها كيث بمرح ظاهر:
" اعرف ذلك "
تنهدت هيلين وقالت:
" كيث...أرجو أن لا تأخذ فكرة خاطئة عني! فبمجرد خروجي معك مرة أو مرتين لا يعني أنني . ."
قاطعها كيث متبرما:
" اعرف, اعرف انك متزوجة! ما هو الخبر الجديد في ذلك؟ وماذا يؤثر زواجك على علاقتنا؟ الكل يعرف أن . . ."
حان دورها لتقاطعه فقالت له بحزم وإصرار وهي تخرج من السيارة:
" شكرا على العشاء. اتصل بي بشأن الحفلة الموسيقية في الأسبوع المقبل"
ضم كيث شفتيه بشئ من العصبية وسألها:
" ألن تغيري رأيك؟ "
" بالنسبة إلى الحفلة الموسيقية؟ لا, ولماذا أغير رأيي؟ "
" أنا لم اقصد الحفلة واعرف تماما انك تعلمين ماذا اعني. حسنا يا هيلين تصبحين على خير "
" تصبح على خير يا كيث "
أخرجت هيلين مفتاحها من حقيبتها وفتحت باب المنزل في حين أطلق كيث العنان لسيارته. كانت القاعة غارقة في الظلام فأضاءت النور في المدخل قبل أن تغلق الباب وراءها ثم تطلعت بسرعة نحو القاعة وغرفة المكتب لتتأكد من عدم وجود أي إشارة إلى احتمال عودة جايك بصورة غير متوقعة من رحلته إلى الشمال. وضعت معطفها على إحدى المقاعد واتجهت مباشرة نحو المطبخ لتجد ملاحظة من السيدة لايتمر تبلغها فيها عن وجود قهوة وبعض المأكولات الباردة في قاعة الاستقبال فابتسمت هيلين بسخرية.
استدارت هيلين بسرعة عادة إلى قاعة الجلوس. تنهدت بانزعاج عندما شاهدت الكمية الكبيرة من المأكولات التي أعدتها السيدة لايتمر. كان واضحا ان مدبرة المنزل لم تتوقع عودتها بمفردها إلى البيت. اللعنة! وهل تظنها هذه السيدة طفلة صغيرة؟ إذا أرادت أن يكون لها أصدقاء فلماذا لا يحق لها ذلك؟ لماذا يجب أن تكون هناك دوافع وراء كل عمل يقوم به الإنسان؟ إنها تعرف كيث منذ عدة سنوات قبل فترة طويلة من غير انجرافها في علاقة عاطفية فلماذا يجب أن تكون الأمور مختلفة هذه المرة؟ هزت كتفيها وجلست بعد أن صبت لها فنجان من القهوة. لماذا أنهت أمسيتها بهذا الشكل؟ لماذا ساءت هكذا؟ تطلعت إلى ساعتها فلاحظت أن ستين دقيقة تقريبا مرت على عودتها. ماذا يفعل جايك ألان؟ وأين ممكن أن يكون في مثل هذا الوقت؟ شربت قليلا من القهوة وسألت نفسها عن أسباب هذه التساؤلات...فأغضبها اندفاعها يجب ألا تسأل عن مكان وجوده وعما يفعل في هذا الوقت وذاك. لا تهتم ويجب ألا تهتم أم أن من الاصح القول إنها عندما بدأت تعرف المزيد عن أفكاره ومشاعره أخذت أسئلتها وتكهناتها تتزايد يوما بعد يوم! عندما تزوجا كان الوضع مختلف إلى حد ما. كانت آنذاك دفينة الحزن والأسى اللذين غلفاها على اثر وفاة والدها. كانت فترة عصيبة جدا بالنسبة لها...صدمة قوية ومؤلمة وهي التي تربطها بأبيها علاقة وطيدة جدا وكان كلا منهما يعتمد إلى حد كبير على الأخر ربما بسبب قرار عائلته عزلهما والتخلي عنهما تماما. كان لكل منهما بالطبع أصدقاءه ووالدها يبدو دائما مفعما بالحيوية والنشاط, ساحرا, لطيفا, ومنسجما تماما بين أصدقاءها ولم تلاحظ إلا بعد وفاته كيف أن ما من احد أخر بات يعني لها الكثير في ذلك الوجود الغريب المصطنع الذي كانت تشاطره مع أبيها! حتى تهرب كيث منها لم يؤثر عليها كثيرا. كان عليها أن تتقبل واقعا جديدا في حياتها وهو انتهاء مرحلة معينة وبدء أخرى.
صبت لنفسها فنجان أخر من القهوة ولكنها زادت عليها هذه المرة القليل من السكر وعادت بها الذكريات مرة أخرى إلى تلك الفترة من حياتها. ولكنها لم تتذكر طول المدة التي احتاجتها آنذاك للشفاء تماما من تلك المشكلة النفسية والمعنوية. وجاءت بعد ذلك الفترات الطويلة التي يمضيها جايك خارج البلاد وعودته كل مرة بصورة مفاجئة لتشكل فواصل شبه ثابتة في نمط حياتها. وأصبحت كل فترة أكثر واقعية واقل رفضا. وبدأت بعد ذلك بصورة تدريجية تعيش حياتها الجديدة التي اختارتها لنفسها...تكرس نفسها ووقتها لتزيين بيتها وتجميله ولتحويل ذاتها وشخصيتها إلى ذلك النوع من الزوجات الذي يريدها جايك. ولكن الشئ الذي لم تكن تتوقعه كان ذلك الاتساع المتزايد في طبيعة العلاقة وذلك الاختراق المتواصل للقلعة التي بنتها حول نفسها بعد زواجها والتي اعتقدت أن من المستحيل الدخول اليها أو اختراقها. لم تأخذ الطبيعة البشرية بعين الاعتبار عندما صورت لنفسها المستقبل الذي تريده واكتشفت فجأة إنها وجايك يمكن في يوم ما أن يتصرفا مع بعضهما كزوجين عاديين.
شربت هيلين بقية القهوة وسارت نحو تلك الخزانة الخشبية الرائعة التي تضم الأجهزة الالكترونية المختلفة ووضعت شريطا يحتوي موسيقاها المفضلة وعضت على شفتيها بحزن وانفعال...إنها بالنسبة إلى جايك كهذه الأجهزة المتكورة والجميلة...مجرد شئ أخر يملكه لا أكثر ولا اقل! حتى الممتلكات المادية تحتج وتتذمر إذ حملها الإنسان فوق طاقتها تئن وتتعطل أما هذا الشئ الذي أضافه جايك إلى ممتلكاته الكثيرة والذي يسير على قدمين فانه لم يعترض أو يحتج حتى ألان! انه إنسان ألي! .
رفعت رأسها عن تلك الخزانة وتنهدت هل من حقها ان تحتج؟ إنها تأكل أفضل أنواع المأكولات وترتدي أجمل الثياب وأغلاها ثمنا وتشتري ما تريد...حتى بدون طلب الإذن من زوجها أليس هذا ما تتمناه أي فتاة لنفسها؟ ثم...أليس زواجها إقلاقا متواصلا لراحة عمها الذي لا أولاد له والذي يعرف ان أي ابن تلده هيلين سيرث قصر مالينز والأراضي المحيطة به بمجرد وفاة هذا العمّ! أليس ذلك انتقاما ممتعا من الرجل الذي نبذ شقيقه جيرارد وابنته هيلين وتنكر لهما في أتعس أوقاتهما! انه بالتأكيد يتمنى ألا تلد ابنة شقيقه ابنا يرث ممتلكات فورسايث.
وابتسمت هيلين بخبث! إنها وحدها تعرف مدى صعوبة هذا الاحتمال. . .





4- صمت في الأعماق


استيقظت هيلين وهي تشعر بأن أحدا يراقبها وعندما رفعت يدها بكسل لترفع خصلات شعرها عن عينيها شاهدت جايك يقف كالتمثال في باب غرفتها. كان يرتدي بزة زرقاء داكنة تزيد من سحره وجاذبيته. إصابتها رعشة خفيفة لم تعرف على التو سببها فشدت الغطاء الحريري حتى عنقها بطريقة لا شعورية وكأنها تدفع عن نفسها خطرا محدقا.
ابتسم بسخرية لدى مشاهدته رد الفعل العفوي ذلك وقال لها بخبث وتهكم:
" لا تفزعي يا عزيزتي! لم أقد السيارة طوال الليل من نيوكاسل تدفعني رغبة جامحة أو رغبات حيوانية! ولكنني متعب لا بل مرهق وأريد التحدث إليك قبل ذهابي إلى النوم "
حاولت هيلين بسرعة جمع شتات أفكارها ومشاعرها وسألته متلعثمة:
" لماذا...لماذا تريد التحدث معي؟ "
رفع كتفيه المتعبتين ثم حرك رأسه قليلا وقال لها بهدوء بالغ:
" سنمضي عطلة نهاية الأسبوع خارج لندن. تم إعداد كل شئ الليلة الماضية. حاولت الاتصال بك أمس لأبلغك التفاصيل إلا أن أحدا لم يرد على الهاتف. هل كنت خارج البيت؟ "
لم تتمكن هيلين من منع الاحمرار الذي غزا خديها فجأة وشعرت أن وجودها تحت الغطاء وعدم قدرتها على النهوض من دون الكشف عن بعض مفاتنها يجعلانها في موقف دفاعي ضعيف. وتمنت لو أن لها الشجاعة الكافية للخروج من سريرها ولف نفسها بشئ ما فوق قميص نومها الشفاف.
تطلع جايك حوله بعصبية فوقع نظره على فستان السهرة الذي كان ملقى على كرسي قريب. رفع حاجبيه وقال لها بنبرة حادة جافة:
" إذن كنت خارج البيت أمس! هل يمكنني أن أسألك أين أمضيت السهرة؟ "
تنهدت هيلين وردت عليه بعصبية:
" انك لست ولي أمري والقيم على أعمالي يا جايك, وأنت تعرف ذلك "
ضاقت عيناه غضبا وقال لها بشدة:
" إن لم أكن أنا ولي أمرك فمن يكون؟ اخبريني من هو المسؤول عنك؟ "
على الدم ف عروق هيلين غضبا واشمئزازا وقالت له بعنف:
" هل تتفضل بالخروج من غرفتي؟ لا أريد البقاء في سريري طوال النهار "
" هيا اخرجي من سريرك! أنا لا أمنعك من ذلك "
ضم ذراعيه على صدره واخذ يحدق بها بتهكم وكأنه يتحداها للوقوف أمامه شبه عارية. انقلبت هيلين على نفسها وعضت وسادتها وهي تصرخ به:
" أكرهك يا جايك هوارد...أكرهك "
" لماذا أيتها العزيزة؟ الاني عدت فجأة وأفسدت لك مشاريعك مع الصديق كيث؟ الم تكوني معه هو أمس؟ لا تزعجي نفسك بالإجابة فأنا اعرف...أخبرتني السيدة لايتمر "
استدارت هيلين بعصبية نحوه وقالت:
" هكذا إذن...لقد عينت السيدة لايتمر جاسوسة على تصرفاتي وتحركاتي أليس كذلك؟ آه كم أنت حقير وخسيس ووضيع "
قست ملامح جايك وتوترت عضلات وجهه وعنقه ثم قال لها بصوت اقرب إلى الصراخ منه إلى الكلام العادي:
" عندما اتصلت بالمنزل أمس ولم يجبني احد شعرت بالقلق. لم يخطر ببالي شئ أخر آنذاك. وبالطبع اتصلت بالسيدة لايتمر لمعرفة ما بك. الم يكن ممكنا ان يكون هاتفنا معطلا أو أن تكوني أنت مريضة...أو أي شئ أخر من هذا القبيل؟ "
" وحتى إن كان كذالك. . . "
انزل جايك ذراعيه الى جانبيه وقد عيل صبره وقال لها مقاطعا:
" وحتى ان كان لا شئ! هذا غير مهم الان انا لا انوي ابدا اضاعة أي وقت الان بسبب هذا الغبي. سأتولى امره في وقت لاحق "
وصمت لحظة ثم قال لها بعصبية هادئة :
" يبدو انك غير مهتمة لمعرفة المكان الذي سنمضي فيه نهاية الاسبوع "
عقدت هيلين جبينها وقد لاحظت ان شجارها مع جايك انساها سبب عودته قبل الموعد المقرر وقالت:
" بالطبع انا مهتمة "
اقترب جايك من سريرها ووقف يوجه اليها نظرات تحمل الكثير من الغرابة ثم قال:
" هل انت حقا مهتمة؟ اذن اسمعي...اندانا يملك منزلا ريفيا وقد دعانا هو وزوجته لتمضية نهاية الاسبوع معهما "
" اندانا؟ ولكن...ولكن اليس هو...؟ "
" نعم, نعم انه السفير الذي كنت اتحدث اليه فور وصولنا الى حفلة الاستقبال تلك الليلة. والان هل بدأت تلاحظين مدى اهمية هذا اللقاء وانفعالي لتحقيقه؟"
وضعت هيلين يدها على جبينها واجابت بصوت خافت:
" اعتقد...اعتقد ذلك. متى ينتظران وصولنا؟ "
" على العشاء هذه الليلة. ولذا فأنا افضل البدء برحلتنا حوالي الرابعة عد الظهر "
" حسنا "
وعضت هيلين على شفتيها بقوة. فكرة قضاء نهاية الاسبوع في ضيافة سفير وزوجته بمنزلهما الريفي لم تكن سيئة على الاطلاق لكنها كانت تتمنى لو ان لديها المزيد من الوقت لتعد نفسها بطريقة افضل. في الفترة الاخيرة اخذت توجه اليه عدة اسئلة وكأنها تحقق معه او تستجوبه وهذا امر قد يثير شكوك جايك من انها اصبحت غير مرتاحة في حياتها.
لم يفهم جايك معنى النظرة القلقة والمشككة التي شاهدها في عيني هيلين فسالها بحدة وانفعال:
" هل من شئ يزعجك؟ هل اعددت لنفسك ترتيبات اخرى مع كيث؟ هل كنت تفترضين انني لن اعود قبل بداية الاسبوع المقبل؟ "
ارتجفت هيلين غضبا وقالت:
" نعم...لدي ترتيبات اخرى. . . "
وكانت على وشك ابلاغه بدعوة جنيفر الى السهرة مساء الاحد ولكن جايك لم ينتظر لسماع بقية الجملة بل انحنى فوقها وامسك برأسها بين يديه القويتين وصرخ بها وهو يهز ذلك الرأس المسكين بعنف ووحشية:
" هذا انذار لك يا هيلين! انا لن اقبل بالمزيد من هذه التفاهات منك! انا املكك...انا املكك ايتها الغبية...اسميا على الاقل واذا كان اتفاقنا لم يعد يرضيك او انك بدأت تحنين لاقامة علاقة فعليةمع رجل فأنا..انا وحدي سأتولى الاهتمام بذلك! هل تفهمين...هل تفهمين؟ "
فتحت هيلين عينيها وسألته بصوت خائف:
" ماذا تعني بذلك؟ "
انتصب جايك واقفا وقال لها بشراسة ووجهه متجهم:
" أوه, انا متأكد من انك تفهميني تماما "
شعرت هيلين بانقباض شديد في صدرها واحست بأن تنفسها اصبح صعبا ومتقطعا فصرخت به:
" انك...انك تثير اشمئزازي! "
" حقا! حقا! ايتها المرتزقة الفاجرة الصغيرة! انك تتجاوزين حدك برعونة وغباء وهذا خطر عليك "
شهقت هيلين بالبكاء واخفت وجهها بالوسادة. لم تشعر في حياتها ابدا بمثل هذا الاذلال والتحقير كيف ستتمكن بعد الان من النظر الى هاتين العينين القاسيتين وهذا الوجه الفتاك المدمر! في تلك اللحظة استدار جايك نحو الباب بهدف الخروجمن غرفتها ولكنه توقف برهة وسحب الغطاء الحريري الملقى فوقها ثم رماه على الارض وسار نحو الباب متمهلا ومتحديا وقبل خروجه من الغرفة التفت نحوها وقال لها بقساوة بالغة قبل ان يغلق الباب وراءه بعنف:
" منظر امرأة شبه عارية يا هيلين ليس امرا جديدا او غير مألوف "

مضت بضع ساعات قبل ان تتمكن هيلين من استجماع قوتها وشجاعتها لجر نفسها خارج السرير وكان فطورها لايزال كما هو فتلك المجابهة الصباحية مع جايك افقدتها شهيتها حتى عن قهوة الصباح المعتادة. نزلت الى المطبخ لتعيد ابريق القهوة واطباق الطعام التي لم تمس. وكانت السيدة لايتمر انذاك تعد طعام الغداء ولما لاحظت ان سيدتها لم تتناول فطورها او تشرب قهوتها سألتها بقلق:
" هل يزعجك شئ يا سيدتي؟ "
" لا..لم اكن جائعة هذا كل ما في الامر. هل...هل قال السيد هوارد عما اذا كان سيستيقظ لتناول الغداء؟ "
رفعت السيدة لايتمر حاجبيها وفتحت فمها بدهشة وقالت:
" يستيقظ يا سيدتي؟ السيد هوارد ليس في سريره. قد خرج من البيت بعد الفطور بقليل "
شعرت هيلين فجأة بأن صداعا غريبا بدأ يعصر صدغيها ثم سألت خادمتها:
" ومتى...ومتى كان ذلك؟ انا...انا شاهدت السيد هوارد بنفسي حوالي الثامنة"
" نعم يا سيدتي. تناول طعام الافطار في الثامنة والنصف تقريبا ثم غادر البيت وحسبما اعلم فانه لن يعود للغداء "
" اه! من المؤكد من انني اسأت فهمت قصده هذا الصباح. في اية حال لا...لا تزعجي نفسك باعداد غداء عارم لي يا سيدة لايتمر. فأنا لا اشعر بأي رغبة على الاطلاق لتناول الطعام "
نظرت اليها السيدة لايتمر بتشكك ثم بدأت تقول بشئ من التوتر:
" اوه سيدتي اريد. . . "
استدارت هيلين نحوها نحوها بسرعة وقالت:
" نعم؟ "
" ارجو...ارجو ان لا اكون قد اخطأت بابلاغ السيد هوارد بأنك كنت في الخارج مساء امس"
واحمر وجه الخادمة خجلا ثم تابعت حديثها بتردد وتلعثم:
" كان...كان يريد التحدث معك وكان علي ان...ان اقول شيئا "
" لا بأس يا سيدة لايتمر ذهابي مع السيد مانرينغ امس لم يكن سرا بالنسبة الى زوجي "
تنهدت الخادمة بارتياح وقالت:
" كما تريدين يا سيدتي "
خرجت هيلين من المطبخ وتوجهت نحو غرفة الجلوس. تفحصت بقلة اكتراث وشرود ذهن العناوين الرئيسية في صف الصباح ثم اشعلت سيكارة وجلست في احدى الزوايا الهادئة تحاول اراحة اعصابها المشدودة والمتوترة. انها تعرف انها لم تفهم منه غير ما كان يعنيه قال بأنه يريد التوجه الى فراشه بمجرد الانتهاء من الحديث معها فأين هو الان؟ ولماذا غادر المنزل؟ هل دعوة اندانا مازالت قائمة ام الغاها؟ اطفأت سيكارتها بعصبية وتوجهت الى القاعة حيث رفعت سماعة الهاتف وبدأت تطلب احد الارقام الخاصة بالمقر الرئيسي لمؤسسته في هولبورن. كانت اصابعها ترتجف قليلا وهي تدير القرص ولكن صوتها كان ثابتا عندما طلبت من عاملة الهاتف تحويلها الى مكتب السيد هوارد. عرفت مساعدته الخاصة صوتها على الفور وسألتها بتهذيب جم:
" نعم يا سيدة هوارد! هل بأمكاني مساعدتك بشئ؟ "
رطبت هيلين شفتيها الجافتين بلسانها ثم قالت بلهجة حاولت اظهارها قدر الامكان عادية وطبيعية :
" احاول ايجاد زوجي...هل تعرفين ما اذا كان في المبنى الان؟ "
" متأسفة يا سيدة هوارد كان هنا ولكنه خرج قبل قليل "
" أوه, أوه! شكرا "
ترددت قليلا ثم سألتها:
" وهل تعرفين اين . . .؟ "
وفي تلك اللحظة بالذات سمعت صوت المفتاح في الباب ودخل جايك فأكملت جملتها بسرعة :
" أوه لا بأس. هاهو قد وصل الان. شكرا "
اعادت سماعة الهاتف بيد مرتجفة وواجهت زوجها بتوتر وانزعاج. كانجايك لا يزال مرتديا ملابس الصباح ذاتها ولكنه حلق ذقنه وأبدل قميصه. ولولا ملامح التعب والارهاق التي تبدوحول عينيه لما تمكن احد من التكهن بأن هذا الرجل قاد سيارته طوال الليل ثم امضى بضع ساعات في مكتبه وبين اوراقه الهامة. انه بلا شك يتمتع بصحة جيدة وقدرة قوية على تحمل التعب وربما كان ذلك عائدا الى بنيته الصلبة والىممارسته رياضة الغولف وكة المضر والتجذيف عندما تسمح له الظروف بذلك.
تتطلع فيها ببرودة قاسية وسألها:
" ولماذا هذا الذعر والهلع؟ ومع من كنت تتحدثين قبل لحظات؟ "
" لم يكن هناك ذعر أو هلع. كل ما في الامر اني كنت اسأل مساعدتك عنك لأنني اريدمعرفة اذا ما غيرت رأيك بالنسبة الى نهاية ااسبوع ام لا "

اغير رأيي؟ ولماذا يا عزيزتي اغير رأيي؟ "
تنهدت هيلين وتململت في مكانها وقالت:
" اعتقدت انك...ربما...بعد هذا الصباح...اعني..."
رمقها جايك بنظرة ساخرة ثم القى نفسه على احد المقاعد متسائلا بهزء مبطن:
" هل تعنين سوء التفاهم البسيط الذي حدث بيننا؟ ولماذا تؤدي تلك العصبية الخفيفة الى تغيير اي شئ على الاطلاق؟ "
" أوه يا جايك! "
شعرت هيلين رغبة قوية في توجيه صفعة شديدة الى ذلك الوجه الساخر انه يتعمد تسلية نفسه على حساب غضبها وانفعالها...وعدم قدرتها على القيام بأي شئ لمواجهة تهكمه وستخفافه بها.
اشعل سيكاره واخذ يتأمل وجهها المتألم عبر الدخان المتصاعد وعندما شاهد تلك الانفعالات المتبدلة والمتغيرة على وجهها المعبر والمنفعل قال لها بهدوء:
" بربك يا هيلين! لا تأخذي كل شئ بمثل هذه الجدية "
ردت عليه بأستغراب وقد لسعتها نبرته الساخرة:
" ولكني كنت اعتقد ان هذا هو الضبط ما يجب علي القيام به...ان احمل كل ما تقوله على محمل الجد! "
" ربما...ربما انتعلىحق في هذا المجال. في اي حال اعتقد اننا انهينا الموضوع بطريقة مرضية "
صرخت به هيلين غاضبة:
" انهيته انت "
" نعم هذا ما قلته "
" ولكني انا لم انهه! اسمع يا جايك لا اري البدء بشجار جديد معك ولكنني ارفض معاملتي كطفل ابله معتوه! انا امرأة...امرأة متزوجة منك. نعم انا اكل من طعامك وانفق من مالك ولكن حتى مدبرة المنزل لها بعض الحقوق! "
استلقى جايك في مقعده متكاسلا وقد اغمض عينيه ورفع يده الى جبينه وكأنه يبحث عن جواب او رد على تلك الانتفاضة والثورة. وفجأة شعرت هيلين بميل قوي غير متوقع نحوه ازعجتها مشاهدته على هذه الحال مغمض العينين بسبب التعب والارهاق ومعرضا للمزيد من الهجمات التي يصعب صدها. ازعجها ذلك بطريقة لم تشعر بها من قبل كان من الصعب جدا عليها ان تتذكر في تلك الآونة انه في الحقيقة يختلف كثيرا عما تصوره هي الان لنفسها! ولاحظت بمرارة انها تمنحه عطفا لم يطلبه ولم يعط مثله. لا, انه ليس حساسا او سريع التأثر بالانتقاد وهي مجنونة وغبية لانها تخيلته هكذا لبضع لحظات!.
حرك جايك رأسه بهدوء من جانب الى اخر ثم قال بلهجة طبيعية عادية:
" حسنا لن نتجادل بصدد هذا الموضوع بعد الان "
كانت تتوقع جوابا افضل من ذلك جوابا يشفي غليلها ولو قليلا. لقد تجنب النقطة الحساسة بذكاء ومهارة. ولكنها شعرت فجأة بأن قلبها لا يساعدها على اثارته مرة اخرى وعلى العكس من ذلك فقد اجتاحتها رغما عنها موجة من الندم والاسف العميق لانها احست بأن تصرفها الخاطئ حرمه النوم منذ اكثر من اربع وعشرين ساعة. وفيما هي غارقة في تفكيرها لاحظت ان جايك غارق في نومه. حدقت فيه بعض الوقت ثم استدارت لتغادر الغرفة الا ان شعورا ما اوقفها وحملها على التطلع نحوه مرة اخرى. انها لم تشاهد جايك نائما من قبل.
رباه...! شهقت بصمت وقد ادهشها الفارق الكبير في ملامح جايك عندما يكون نائما. بدا الى حد ما اصغر سنا واكثر شبابا ورقة...بدا وكأن الراحة بعد العناء الطويل اضفت على وجهه القاسي مسحة من الحنان والهدوء! تأملته طويلا بدون ان تعرف سبب وقوفها امامه وتأملها له بمثل هذا الاهتمام المتزايد! شعرت برغبة في فك ربطة عنقه وزر طوق قميصه ولكنها خافت ان توقظه...وبالتالي ان يعرف ماذا كانت تفعل. انها لم تلمسه من قبل كما انه هو لم يلمسها في السابق باستثناء تلك المرات القليلة التي يربط لها فيها عقدا او يساعدها على ارتداء معطف! لمتفعل اي شئ على الاطلاق طوال السنوات الثلاثة الماضية يضطرها للمسه ولكنها احست الان بأنها تريد ذلك...وتريده بقوة!.
ارتجف جسمها وكأن قوة كهربائية سرت في عروقها وتمنت في تلك اللحظة لو انها تعرف عدة امور عنه...كرجل! لو ان اصابع يدها تغرز في شعره الاسود الكثيف...او ان يديها تداعبان منكبيه العريضين...او...! انتبهت لنفسها وحدت من انجرافها في تلك الافكار وتذكرت انها لم تفكر بمثل هذه الطريقة وهذه الرغبة الجامحة مع اي رجل اخر. ولكن لماذا اطلقت لمشاعرها العنان؟ انه رجل يسعى وراء اي شئ يريده ويبتغيه بقسوة وبدون شفقة او رحمة متخطيا حدود اللياقة المتعارف عليها ومستهترا بكثير من القيم الانسانية التي قدتقف حجر عثرة في سبيل تحقيق اهدافه ومع ذلك فها هو الان قادر على اثارة مشاعرها وغرائزها في وقت يجب ان تكرهه لعنجهيته واستبداده وتعاليه.

كتمت دهشتها وخرجت مسرعة من تلك الغرفة. التعاطف شئ والبلاهة شئ اخر. انتمنحه القليل من التعاطف فهذا امر مقبول الى حد ما اما ان تسمح لتلك الافكار السخيفة بايجاد جذور عميقة لها في رأسها فهو الجنون بعينه. وابتسمت وهي تعبر القاعة متجهة الى غرفتها اذ تخيلت مدى الترفيه والتسلية وحتى السخرية لدى جايك لو انه يعرف بماذا كانت تفكر فمهما بلغت حدة غضبه من امكانية تورطها مع كيث فانه سيظل يعتبرها باردة لا بل متحجرة عاطفيا وشعوريا.
جايك لا يصدق ان لديها مشاعر قوية او ان بامكانها التفاعل والتأثر سلبا اوايجابا مع الاحداث المحزنة او المفرحة...باستثناء الفترة التي مات فيها والدها. كانموجودا آنذاك ويعرف اخرين في مجموعتها تصادقهم منذ سنوات عديدة ومن المؤكد ان بعضهم اخبره بأنها لا تتحمل تدليلا جديا او اي نوع اخر من المغازلة الحقيقية والمثيرة ويحتمل ان يكون هذا هو احد الاسباب الرئيسية لاختياره اياها زوجه له فكل شئ يمتلكه جايك هوارد يجب ان يكون كاملا وبحالة ممتازة.
وقفت امام المرآة في غرفتها واخذت تتأمل نفسها بدقة وتمعن هل حقا ينظر اليها هكذا؟ وهل فعلا يعتبرها كقطعة جليد؟ وهل هي فعلا من هذذا النوع من النساء؟ ازاحت وجهها عن المرآة بعصبية واشمئزاز فحتى ان كانت باردة المشاعر والعواطف, هل يهم؟ انها زوجة جايك هوارد...وهو من اولئك الرجال الذين لا يتخلون ابدا عن ممتلكاته.
بعد نصف ساعة تقريبا وفيما هيلين كانت مستلقية على سريرها سمعت طرقا خفيفا على الباب ففتحت الباب وشاهدة السيدة لايتمر تحمل لها طعام الغداء.
" احضرت لك الطعام يا سيدتي. السيد هوارد نائم على مقعد في غرفة الجلوس وتصورت انك لا تريدنني ان اوقظه. طبعا انكنت راغبة في تناول طعام الغداء في غرفة. . ."
" لا بأس على الاطلاق شكرا يا سيدة لايتمر "
ثم ابتسمت وتابعت حديثها بهدوء:
" في الحقيقة كنت على وش ابلاغك بعدم ايقاظه او ازعاجه انه مرعق جدا"
" نعم يا سيدتي. هل هناك اي شئ اخر تريده السيدة؟ "
" لا هذا يكفي ويزيد. شكرا "
حيتها السيدة لايتمر بتهذيب وغادرت الغرفة وهي تغلق الباب وراءها وبعد ذهابها تنهدت هيلين ونظرت لى ساعتها فنظرت ان الوقت تخطى الواحدة بقليل. خلال فترة قصيرة يجب ان تبدأ باعداد الثياب والحاجيات التي ستحتاج اليها اثناء عطلة نهاية الاسبوع. عندما يستيقظ جايك فانه يتوقع ان يجدها مستعدة وجاهزة. اما اغراضه هو فسوف تتولى توضيبها واعدادها السيدة لايتمر التي ترعاه كأم وليس كمدبرة منزل والتي تصل احيانا في رعايتها الى حد الازعاج.
فتحت هيلين خزانة الحائط والقت نظرة فاحصة على تلك المجموعة الضخمة من الثياب الانيقة والمتنوعة. كيف ستكون نهاية الاسبوع هذه يا ترى؟ اشخاص عديدون يصفون منازلهم الريفية بأنها عادية جدا في حين انها تكون اشبه بالقصور منحيث الترف والرفاهية. وتذكرت تلك المرات القليلة التي امضتها بضيافة جايلز وجنيفر عندما يكون جايك مسافرا وكيف ان منزلهما الريفي ينافس بيتهما في لندن في حجمه وتجهيزاته الحديثة واناقة اثاثه. جايك لم يخرها الكثير عن السفير اندانا وزوجته فماذا ستختار من الثياب؟ هل يملكان منزلا فخما في الارياف أم مكانا صغيرا ينسيهما المدينة وترفها؟ تنهدت مرةاخرى وشعرت أن الحيرة قد تعطل افكارها وتمنعها من اتخاذ القرار الصحيح ما لم تتحرك فورا وتختار الثياب المناسبة. بالطبع لم يكن لديها أي رغبة في طلب النصح من جايك اذ أن من شأن ذلك على الارجح ان يخلق جدلا هي في غنى عنه تماما. لذلك قررت فجأة ان تأخذ انواعا مختلفة من الثياب تناسب مختلف الاحتمالات والمناسبات.
عادت السيدة لايتمر لتأخذ اطباق الطعام فوجدتها كما كانت تقريبا. عقدت جبينها عندما شاهدت هيلين تضع احد فساتين السهرة في الحقيبة الجلدية الكبيرة وقالت لها بشئ من الاستغراب:
" كان بامكاني ان اقوم هذه المهمة عنك يا سيدتي لو وضعت ما سوف تحتاجين اليه على السرير لكنت اكثر من مستعدة ومسرورة لتوضيبه في الحقيبة "
نظرت اليها هيلين مبتسمة وقالت:
" شكرا لك يا سيدة لايتمر ولكني كما ترين انتهيت تقريبا من هذه المهمة. هل اعددت حقيبة السيد هوارد؟ "
" نعم يا سيدتي اعددتها في الصباح بعدما ابلغني انكما ستمضيان نهاية الاسبوع خارج البيت "
" حسنا...هل استيقظ السيد هوارد؟ "
" لا ادري يا سيدتي اذ انني لم امر بغرفة الجلوس. اعتقد انه سيصعد قريبا ليستحم ويرتدي ثيابه. هل تريدين مني ان اوقظه؟ "
" لا ليسذلك ضروريا. سأوقظ زوجي بنفسي ان كان لا يزال نائما "
ثم هزت كتفيها وقالت وكأنها تشكك في نفسها:
" ارجو ان اكون قد وضعت في الحقيبة كل ما احتاجه لهذه الرحلة! "
ابتسمت السيدة لايتمر وعلقت على هذا التساؤل بالقول:
" انها رحلة ليومين فقط يا سيدتي! وكذلك فأني اشك كثيرا في انهم يحبون الرسميات الى هذا الحد في لاندرانوغ! "
" لاندرانوغ!! "
قالت هيلين بدهشة واستغراب شديدين ثم سألتها:
" أليست لاندرانوغ في مقاطعة وايلز؟ "
" نعم يا سيدتي "
" هل تعنين أن المنزل الريفي الذي سنمضي فيه عطلة الاسبوع... موجود في وايلز؟ "
" نعم يا سيدتي. ألم يخبرك السيد هوار بذلك؟ "
احمر وجه هيلين وقالت بتلعثم:
" لا...لا, لم يخبرني ذلك بالضبط. لم...لم اسأله عن المكان...بالتحديد. كنت أظن...انه في...مكان آخر "
وهزت رأسها وعلامات الدهشة لاتزال بادية على وجهها ثم قالت وكأنها تحدث نفسها:
" لاندرانوغ! لم اعرف اننا سنبتعد الى هذا الحد! "
" انها ليست بعيدة جدا يا سيدتي. اعتقد انكما ستستخدمان الطريق السريع. لن تجدا طرقات ملتوية وكثيرة التعرجات قبل دخولكما مقاطعة وايلز نفسها. طوم وأنا امضينا هناك عطلة جميلة. انها منطقة رائعو وأخاذة "
هزت هيلين رأسها وقالت:
" ربما في الصيف يا سيدة لايتمر. نحن الان في الخريف انظري الى المطر!"
كان الطقس ماطرا والضباب كثيفا الى حد ما وبدا الطقس حزينا ولا يعد بعطلة ممتعة.
ولكن السيدة لايتمر كانت تنظر الى الموضوع من زاوية مختلفة اذ قالت:
" لو كنت مكانك لما قلقت ابدا. السيد هوارد سائق ماهر وباذن الله لن تواجها اي مصاعب على الاطلاق ".
بعد ذلك استحمت هيلين وارتدت ثيابها ثم نزلت الى غرفة الجلوس. كانت الساعة آنذاك تشير الى الثالثة والربع وكانت السيدة لايتمر تضع ابريق الشاي على منضدة صغيرة قرب المقعد المثير الذي استخدمه جايك خلال الساعات القليلة الماضية. اقتربت السيدة لايتمر من هيلين واخذت منها معطفها ثم قالت وهي تعلقه امام الباب:
" طلب مني السيد هوارد اعداد ابريق من الشاي لأنك ربما احببت شرب القليل منه قبل ذهابكما "
" انه دليل اهتمام وعناية من جانبه "

جلست هيلين وصبت لنفسها فنجانا من ذلك الشاي الفاخر. لابد من الاعتراف بأن فكرته لاقت ترحيبا في نفسها فقليل من الشاي الان ينعشها الى حد كبير.
امضت فترة قصيرة تتأمل الاثاث الجميل الذي اختارت معظمه بنفسها والذي انفق عليه جايك أموالا طائلة. وفيما كانت تصب الشاي مرة ثانية دخل جايك الى الغرفة وكانمرتديا ثيابا داكنة بعض الشئ مما اضفى المزيد من الاسمرار على لون بشرته. تأملته هيلين بتمعن قائلة لنفسها انه ربما تجري في عروقه دماء دماء اسبانية أو ايطالية وحملها مجرد تصور ذلك على الابتسام. فوالدته ستشعر بالتأكيد بأهانة كبيرة فيما عرفت ما تفكر به هيلين في هذه اللحظة بالذات لأنها شديدة الفخر والاعتزاز بعراقة انتمائها وانتماء زوجها الراحل الى مقاطعة يوركشاير.
لاحظ جايك الابتسامة الخفيفة في عيني هيلين فعقد جبينه فجأة وسألها بحدة واستغراب:
" ماذا يضحك الأن يا هيلين؟ "
" لا شئ, لاشئ!. هل أنت مستعد للذهاب الأن أم انك تريد قليلا من الشاي؟"
تردد جايك قليلا ثم ارتدى سترته واجابها بايجاز:
" أنا جاهز. أين حقيبتك؟ "
وقفت هيلين وردت عليه باختصار مماثل مشددة على الكلمة الأولى:
" حقائبي فوق "
" حقائبك! "
قالها باستغراب وتململ ثم أضاف
" بحق السماء يا هيلين! وماذا اخترت لنفسك ليستوجب اكثر من حقيبة؟ "
حركت هيلين ذراعيها كطفلة بريئة تدافع عن رغبتها في حمل أكبر عدد من العابها مع انها لن تذهب الا في نزهة قصيرة وقالت:
" بما انك لم تخبرني اي شئ عن السفير اندانا وزوجته أو حتى أن منزلهما الريفي موجود في وايلز أو أي نوع من الاستقبال سنجده هناك فقد اضطررت الى مواجهة كافة الاحتمالات "
" ولكن لابد أن السيدة لايتمر شرحت لك الوضع بكامله! "
هزت برأسها نفيا فتنهد وقال:
" أوه حسنا! هذه نقطة لصالحك سأحضر الحقائب وارجو أن يكون صندوق السيارة كافيا "
" شكرا لك "
ولكنه لم يسمعها اذ توجه مسرعا وصعد الدرج قفزا وكأنه شاب في العشرين من عمره.
وبعد لحظات عاد وهو يحمل الحقيبتين الكبيرتين في يديه ويتأبط الثالثة الاصغر حجما والاقل وزنا. وكانت هيلين قد ارتدت معطفها ووقفت تنتظره قرب الباب. وفي تلك الآونة دلت السيدة لايتمر وقالت له بلهجة تجمع بين الاعتذار والانزعاج:
" آه يا سيد هوارد! الم يكن بامكان طوم أن يحضر حقائب سيدتي! انه جالس في المطبخ يشرب الشاي! "
ابتسم جايك وقال لها بلهجة حنونه يحتفظ بها للاشخاص الذين بخدمونه باخلاص وتفان:
" لا بأس يا سيدة لايتمر فأنا مازلت شابا قوي الجسم "
ثم تطلع بهيلين فجأة وسألها:
" هل من شئ أخر؟ "
" لا, لا اعتقد ذلك...أوه! نعم! الدعوة على العشاء مساء الاحد! يجب أن الغيها "
كان يوما عصيبا ومليئا بالشجار والمشاكسات فنسيت دعوة جنيفر. تغيرت ملامح جايك فجأة وسألها ببرودة اعصاب مفتعلة:
" لديك موعد عشاء مساء الأحد؟ "
ارادت هيلين أن تسخر منه في تلك اللحظة وأن تصرخ بوجهه قائلة أن تلك الدعوة موجهة لهما معا من جنيفر وجايلز ولكنها تعمدت اغاظته اذ اجابت:
" نعم, لدي موعد يجب أن الغيه "
سار نحو الباب بأنفعال وقال لها بعصبية ظاهرة قبل أن يخرج من الباب ويغلقه وراءه بعنف:
" أذن الغه "
نظرت اليها لسيدة لايتمر باستغراب واضح الا أن هيلين لمتكن في مزاج للشرح والتفسير. لا بل العكس من ذلك تماما اذ شعرت برغبة في اغاظة هذه الخادمه التي تتجسس عليها. فقالت لها:
" سأجري اتصالا هاتفيا الان يا سيدة لايتمر. بامكانك الذهاب ثم...اعتقد انك تعرفين اننا نتوقع العودة مساء الأحد "
" نعم يا سيدتي! أوه...عن اذنك يا سيدتي "
هزت هيلين برأسها علامة الموافقة ووقفت تنتظر بتململ وصولها الى الباب واغلاقه وراءها ثم رفعت سماعة الهاتف واتصلت بجنيفر لتخبرها بما حدث وتعتذر لها عن عدم قدرتها على تلبية الدعوة وبعد أن اعربت جنيفر عن اسفها لذلك قالت لها بسرور:
" ولكن يا حبيبتي هذا تحول جديد بالنسبة له, اليس كذلك؟ اعني انها ستكون المرة الاولى حسبما اعرف التي يأخذك فيها خارج لندن! "
" هذا صحيح ولكنمن الولضح أن هناك شئ ما وأنه على ما افترض يريد التظاهر بأنه رجل سعيد في زواجه "
سألتها جنيفر بلهجة يغلب عليها التشاؤم:
" وهل تعتقدين بأنك ستستمتعين بهذه الرحلة القصيرة؟ اعني يا عزيزتي أن تمضية يومين وليلتين في بيت ريفي صغير في وايلز...على بعد مئات الكيلومترات من المدينة...! أوه انها لعطلة تعيسة! "
ردت هيلين عليها بلطف قائلة أن الابتعاد عن مباهج الحياة العصرية أحيانا أمر مريح للأعصاب ولكن جنيفر أصرت على رأيها قائلة:
" ما اعنيه تماما أن هذه العطلة قد تبدو جذابة ومغرية النسبة الى زوجين عاديين أما بالنسبة اليكما...أنت وجايك! اعني أنه بسبب...سوء تصرفاته يجب توقع يومين مزعجين للغاية فعلى الأرجح سيتركك في رعاية المضيفة في حين أنه والسفير سيمضيان طوال وقتهما يتحدثان بالصفقات والمشاريع التجارية وان لم يفعلا ذلك فانهما قد يختفيان في أحد النوادي الليلية...هذا اذا كان في تلك البقعة النائية مرابع ما! "
ثم تثاءبت واعتذرت بسرعة قبل أن تتابع انتقادها لتلك الرحلة:
" في الحقيقية يا عزيزتي لا أدري كيف وافقت أصلا على مرافقته في هذه الرحلة! دعيه يقوم بدعاياته العامة بمفرده "
انتبهت هيلين الى أن جايك اصبح وراء الباب وعلى وشك أن يفتحه فسارعت الى انهاء حديثها مع جنيفر قائلة:
" يجب أن أذهب الأن سأتصل بك عندما أعود "
تنهدت جنبفر بانزعاج وقالت:
" أوه حسنا ولكن لا تلوميني يا هيلين ان عدت مصابة بزكام أو بوجع رأس أو بالاثنين معا "
" لن يحدث ذلك "
وأقفلت الخط فيما كان جايك ينظر اليها متضايقا ويقول:
" والآن؟ هل أنت جاهزة؟ "
رفعت رأسها متحدية وقالت:
" طبعا "
انها لن تسمح له بارهابها بمثل هذا الاسلوب وترفض أن تشرح له ما حدث بتردد وتلعثم كطفلة خائفة لمجرد انه يتوقع منها ايضاحات أو تفسيرات مطولة.
دخلت السيارة بدون أن تقول له شيئا. هل صحيح كما قالت جنيفر أن دعوةجايك لها لمرافقته في تلك الرحلة هو تحول جديد في طريقة حياته وتصرفه معها؟ أم أنه كما قالت هي لنفسها بحاجة لاثبات جديته ورصانته أمام ذلك السفير الذي يحب الروح العائلية ويحترم التقاليد البيتيه والزواج السعيد. لماذا التكهن المسبق لما سيحدث؟ ولماذا لا تنتظر وصولهما الى وايلز لتعرف بالضبط أهدافه ودوافعه؟.
مضت ساعة كاملة كان جايك يركز اهتمامه على قيادة السيارة وربما كان يفكر بما كان سيبحثه مع السفير اندانا ولذلك فأنه لم يلتفت مرة واحدة الى هيلين كما أنه لما يحدثها بشئ أو يتحدث بكلمة واحدة طوال تلك الفترة. عزت هيلين نفسها بأن السبب الرئيسي لصمته المطبق هو المطر الغزير الذي كان يهطل آنذاك بالاضافة الى الأزدحام الخانق في حركة السير لمصادفة خروجهما في موعد عودة الموظفين والعمال الى بيوتهم وفعلا بمجرد وصولهم الى الطريق الواسع وشبه المستقيم استراح جايك في مقعده واشعل سيكارة ثم سأل زوجته:
" وماذا قال مانرينغ؟ "
قررت هيلين أن تغيظه قليلا فاصطنعت الدهشة مكتفية بترديد الاسم كالصدى:
" مانرينغ؟ "
شد جايك بقوة علىمقود السيارة وكأنه يريد تحطيمه بدلا من رأسها. ثم تغيرت لهجته القاسية فجأة وقال لها بصوت هادئ:
" لا تحاولي أستخدام ذكائك معي يا هيلين...يجب أن تعرفي بعد كل هذه المدة أن مثل هذا الاسلوب لا ينجح. سألتك ماذا قال مانرينغ عندما اضطررت لأبلغه بأنك غير قادرة على تناول العشاء معه مساء الاحد "
هزت كتفيها بانزعاج وقالت باستغراب:
" أهذا ما تعنيه؟ "
" نعم هاذا ما أعنيه بالضبط"
" لم يقل شيئا "
" هيلين, اني أنذرك. . . "
تطلعت هيلين نحوه بعصبية بالغة وعينين يكاد الشرر يتطاير منهما وقاطعته صارخة:
" بحق السماء يا جايك! توقف عن تمثيل دور الوالد القاسي. لمعلوماتك ايها السيد لم يكن لدي موعد عشاء مع كيث مساء الأحد "
" وهل تتوقعين مني تصديقك؟ "
" كما تشاء "
عادت هيلين تركز اهتمامها ونظراتها على الطريق الممتد أمامها مسافات شاسعة وكانت تغلي غضبا لأنها سمحت له أن يغيضها الى الحد الذي اضطرت فيه الدفاع عن نفسها. وعاد جايك يسأل:
" اذن مع من كنت تتحدثين على الهاتف؟ "
" أوه بحق السماء ولماذا أخبرك مه من كنت أتحدث؟ ماذا يهم؟ أنا لا اسألك عننشاطاتك وتحركاتك فلماذا أذن تريد معرفة كل حركة أقوم بها أو كل كلمة أقولها؟ "
فجأة تحولت شاحنة ضخمة الى الخط السريع أمام سيارتهما. ضغط جايك على الفرامل وحول بيده سرعة المحرك من الدرجة الخامسة الى الثالثة في حينتولت اليد الأخرى شد المقود بعيدا عن الشاحنة. أدى ذلك الحادث المفاجئ الى الى تخفيف مؤقت في حدة التوتر بينهما اذ كان لابد لهيلين من أن تثني على حسن قيادته وسرعة خاطره وقالت في نفسها أن طريقته في قيادة السيارات يمكن أن تكون ممتعة جدا لو أن ظروفهما كانت مختلفة بعض الشئ. عطلة نهاية الاسبوع ذاتها يمكن أن تكون رائعة لو لم تكن علاقتهما متوترة الى هذا الحد. وتطلعت بجايك وسألت نفسها كم من فتاة تكون مستعدة للقيام بأي شئ والتضحية بالغالي والرخيص لتحل مكانها في تلك الاونة. لا انها تنظر الى الموضوع من زاوية سطحية فقط. ذلك لاحظت من أنها تجري تقييما جسديا بحتا لزوجها الجالس قربها.
حدقت في زجاج السيارة الامامي شاردة الذهن مشتتة الافكار. كانت السيارة منطلقة بسرعة كبيرة والصمت مخيم في داخلها وكأن كلا منهما غارق في أفكاره وتخيلاته وفجأةوضع جايك اشارة وخفف من سرعة السيارة قبل أن يتحول بها الى طريق فرعي يؤدي الى فندق ضخم تتلألأ أضواء غرفه وبعض شرفاته بشكل حالم ودافئ. أوقف جايك السيارة قرب مدخل الفندق واطفأ محركها ثم فكحزام الأمان قائلا:
" هذا أفضل مكان الآن لتناول العشاء أعرف أن الوقت مبكر والساعة لم تتجاوز السادسة والنصف الا أنني أعتقد أن بهذه الخطوة سنوفر على أنفسنا عناء التوقف في وقت لاحق على طرقات لا نعرفها وفي مناطق نجهلها "
هزت هيلين رأسها موافقة وفكت بدورها حزام الأمان ونزلت من السيارةوهي تقول لنفسها انها فعلا فكرة صائبة اولى نتائجها الايجابية كانت طبعا كانت الخروج من السيارة والسير قليلا لاراحة الرجلين وبالتالي لتنشق القليل من الهواء المنعش. دخلا الفندق ووضعا معطفيهما في المدخل وتوجها الى قاعة الطعام ومع أن الوقت لا يزال مبكرا الا أن عددا كبيرا من الأشخاص كانوا يتمتعون بالعشاء اللذيذ والجو الحالم. وبمجرد توجههما الى الطاولة التي خصصت لهما تحولت اليهما معظم الأنظار وقالت هيلين لنفسها بسخرية

ان غرور جايك عائد في معظمه الى هذا الاهتمام القوي الذي يحظى به في أي مكان وزمان وكادت الا تلاحظ أن نظرات الرجال الموجودين في القاعة لم تجذبها شخصية جايك...بل جمالها هي...جمال وجهها الهادئ وجمال قدها الرشيق.
كان جايك يبدو كئيبا طوال الفترة التي امضياها في تناول طعام العشاء لم يتحدث الا نادرا واكتفى ببضع كلمات يرددها بايجاز كلما علقت هيلين بشئ عن الطعام أو الفندق أو المطر وشعرت بأن عليها أن تقول شيئا بين الفترة والاخرى كيلا يظن الأخرون المهتمون بهما أنهما متخاصمان ولا يتكلمان مع بعضهما. واخيرا وعندما كانا يشربان القهوة تطلعت هيلين به فجأة وقالت له بكثير من الحدة:
" الشخص الذي كنت أتحدث معه على الهاتف قبل مغادرتنا البيت ليس الا جنيفر. انها هي التي دعتنا سوية الى العشاء مساء الأحد "
لم يتفوه جايك بشئ فعيل صبرها وسألته مستغربة:
" هل سمعت ما قلته لك؟ "
رفع رأسه قليلا وقال لها بهدوء مزعج:
" نعم سمعتك يا هيلين "
" حسنا! اليس لديك ما تقوله؟ "
" وماذا تريدينني أن أقول؟ "
ضغطت هيلين بشدة على شفتيها عندما لاحظ أنها على وشك البدء بالبكاء. يا للسخرية فلأنه قرر الجلوس عابسا ومقطب الجبين هكذا بسبب جدالهما اضطرت هي الى التفسير والتوضيح مرة أخرى ومنحته بالتالي فرصة جديدة لأذلالها وتحقيرها وبدون أن ترد على سؤاله وقفت فجأة وخرجت من قاعة الطعام. اخذت معطفها والقته على كتفها بلا اكتراث وخرجت الى العراء غير آبهة بالهواء البارد الذي كان يصفعها وبالمطر الغزير الذي كان يبللها بلا شفقة أو رحمة. سارت بسرعة نحو السيارة ولكنها بالطبع وجدتها مقفلة. زررت معطفها ورفعت ياقته ووضعت يديها في جيبي المعطف واخذت تعض شفتيها بقوة لتمنعهما من الارتجاف وأسنانها من الاصطكاك. لمتشعر بطوال حياتها الفتية بمثل هذه التعاسة.
سمعت صوت الباب يغلق ويفتح وشاهدت جايك يسير نحوها بعصبية ظاهرة ويوجه اليها نظرات حادة وقاسية وخاصة بعد أن رأى شعرها المبتل ووضعها المزري. لم يقل شيئا بل فتح باب السيارة بسرعة واخذها بذراعها ودفعها بقوة الى الداخل. أغلق الباب بعنف وكأنه يريد تحطيمه ثم توجه الى الناحية الثانية وفتح بابه وجلس وراء المقود وفجأة استدار نحوها وكانت هيلين تجلس صامتة بدون حراك تنتظر الغضب الصاعق ولكن قبل أن يصل توترها الى أشده سمعته يقول لها بصوت خافت ومتردد:
" حسنا, حسنا أنا آسف "
تطلعت به هيلين وقد أصابتها الدهشة واتسعت عيناها استغرابا ورددت كلماته كالصدى وهي لا تكاد تصدق ما سمعته اذناها:
" أنت...أنت آسف؟ "
" نعم, نعم! اللعنة يا هيلين ماذا تريدين مني أن اقول أكثر من ذلك؟ حسنا لقد تصرفت معك بقسوة ووحشية ولم اصدقك. أما الآن فاني أصدقك "
" أوه جايك! "
وانهمرت دموعها حارة على خديها ولاحظت أنها تبكي مع أنها حاولت جاهدة اخفاء ذلك عنه بوضع يدها على خديها وكأنها تفكر فقال لها باصرار وهو يوجه اليها نظرات ذات معان كثيرة:
" بربك يا هيلين قلت لك انني متأسف. لا تبكي, بحق السماء, لا تبكي! أنا لا استحق هذا البكاء صدقيني "
حركت رأسها ببطء من صوب الى آخر وقالت لهمتمتمة ويدها تشد بقوة على فمها:
" دعني أرجوك...سأشعر بتحسن بعد لحظات "
" كفى يا هيلين! كفى يا امرأة! "
وضمها نحوه واضعا رأسها على صدره ومربتا بيده الأخرى على رأسها بحنان ظاهر. كانت تلك المرة الأولى منذ زواجهما التي تقترب فيها منه الى هذا الحد ولذا ظلت على تلك الحالة عدة دقائق مرتاحة البال وسعيدة بذلك الشعور من الأمان والطمأنينة الذي أوحاه لها قربه منه على هذا الشكل. وعندما دأت دموعها تخف تدريجيا اخذت هيلين تشعر بأحاسيس مثيرة آخرى خافت أن تقلقها وتقض مضجعها في وقت لاحق. اعجبها دفء جسده وقوته عضلاته وطيب الرائحة التي تفوح من جسمه! ومع أنها شعرت انه لابد من الابتعاد عنه قليلا لتجفيف دموعها الا أنها لم تكن راغبة على الاطلاق. كانت تريد البقاء هكذا دهرا...ولكنه افقدها المبادرة فقد ازاحه عنه برقة واعادها بحنان الى وضعها السابق في المقعد المجاور ثم اطفأ النور الداخلي للسيارة واشعل سيكارة قبل أن يدير المحرك وينطلق بهدوء وروية.
لم يقل شيئا بعد ذلك وكانت هيلين مسترخية في مقعدها ترتجف! لقد لاحظت فجأة وللمرة الأولى في حياتها انها لا تجد لمسة الرجل أمرا مستهجنا أو غير مرغوب فيه.

5- مشروع أنصاف ابتسامات


منذ مغادرتهما ذلك الفندق وجايك يلتزم الصمت التام تقريبا الا عندما يطلب منها دراسة الخريطة للتأكد من أنهما لا يزالان على الطريق الصحيح. هل ندم يا ترى على تلك الرقة التي أظهرها أمام الفندق؟ ملامحه القوية الشرسة لم يعد فيها أي أثر لذلك الحنان الذي شاهدته عندما أعتذر منها وضمها الى صدره! ولكن أليس ممكنا أيضا أنه يركزكا اهتمامه وتفيره على الطرقات الصعبة وقيادة سيارته القوية؟.
تمن هيلين في تلك اللحظة أن يصلا الى وجهتهما لتخرج بسرعة من ذلك السجن الصغير المظلم الى مكان أوسع وأفسح وأكثر اضاءة ونورا...لتبتعد مسافة أكبر عن جايك لأن قربه منها الى هذا الحد يزعجها ويضايقها...ويثيرها. لتبتعد عن مشاعر الاغراء والاثارة التي بدأت تلاحقها وتضج في رأسها وقلبها وجسمها كلما تطلعت الى زوجها! كل شئ فيه يثيرها...شعره الأسود الحالم..جفناه..كتفاه...وحتى الخطوط القاسية في وجهه وملامحه! هذه الأمور والتفاصيل كلها كانت بالنسبة اليها في السابق غير جديرة بالاهتمام...لا بل مزعجة وتسبب القرف. وشعرت بأنها تحترق نفسها لأنها سمحت لعاطفتها ورغبتها بالوصول الى هذا الحد. انه قبل ليلتين فقط. . .
ارتجف جسمها بشكل عفوي فالتفت نحوها وسألها:
" هل تشعرين بالبرد؟ "
هزت هيلين رأسها وقالت كأنها تمازحه:
" شاهدت شبحا...هل تظن أننا لا نزال بعيدين عن وجهتنا؟ "
نظر الى ساعته وقال عاقدا جبينه:
" كنت اعتقد أننا سنصل في مثل هذا الوقت. هل أنت متأكدة أننا نتبع الطريق الصحيح؟ "
استوت هيلين في مقعدها واخرجت الخريطة الملونة ثم انارت الضوء الداخلي القريب منها وقالت:
"هذه هي طريق لاندرانوغ بالتأكيد. يجب أن تكون! "
" أرجو ذلك "
قالها بلهجة غير مقتنعة تماما ثم قال متأففا:
" بالله عليهم لماذا لا يكثرون من هذه الأشارات المعدنية التي تظهر بوضوح أسماء المقاطعات والمدن والقرى والمسافات وغير ذلك من المعلومات الضرورية للسائق؟ آخر اشارة تدلنا على المكان الذي نوجد فيه الآن كانت قبل عشرين كيلومترا تقريبا! "
علقت هيلين على سؤاله بهدوء:
" ربما فاتتنا مشاهدة بعض الاشارات نظرا للظلام الدامس وكذلك المطر الذي. . . "
" شكرا لاحظت ذلك "
اطفأت هيلين النور الداخلي مرة أخرى واسترخت في مقعدها مفسحة المجال مرة اخرى امامالصمت المطبق ليخيم بينهما. وفجأة استوت جالسة واشارت الى الامام صارخة بحماس:
" أرى أضواء! انظر...هناك هل تراها؟ "
نظر اليها جايك باستخفاف وقال:
" نعم, أراها. ولكن هذه المنطقة لا تبدو لي كقرية بل كبضعة منازل منعزلة... "
قاطعته بانزعاج:
" يجب أن تكون لاندرانوغ فالخريطة تظهر. . . "
جاء دوره لمقاطعتها فقال متبرما:
" حسنا! حسنا! "
وفي هذه الأثناء اصبح بامكانهما مشاهدة تلك الأضواء بوضوح ولكن كما قال جايك قبل لحظات كانت الأضواء قليلة ومتقاربة جدا بحيث لا تدل على وجود قرية أو ماشابه. تلعثمت هيلين وقالت:
" ربما ذهب الجميع الى النوم! "
تطلع جايك بها باستخفاف وحدة قائلا:
" في التاسعة والنصف؟ اني أشك في ذلك قليلا الا توافقينني عل ذلك؟ "
ازعجتها سخريته فقالت له غاضبة:
" ربما كان من الأفضل أنتتولى أنت قراءة الخريطة "
" ربما كان ذلك ضروريا "
ثم ضغط بقدمه على الفرامل وأوقف السيارة الى جانب الطريق وسألها:
" هل ترين ما أرى؟ "
كانا الأن على مقربة من تلك البيوت القليلة وأصبح بامكانهما مشاهدة الأشياء بوضوح أكبر. وفجأة اشارت الى أحد البيوت قائلة بفرح:
" انظر! هناك اسم على البوابة الخارجية "
تنهد جايك ونظر اليها طويلا ثم هز رأسه وقال:
" حسنا, حسنا سأذهب للتحقق من الاسم "

فتح جايك باب السيارة ونزل منها متمهلا وما أن شعر بأن قدميه غرقتا في الوحل حتى سمعته يشتم بغضب وعصبية وهو يتوجه نحو ذلك المنزل. ضحكت بصوت خافت لأنها لم تكن تتصور من قبل أن جايك يقبل بالسير في أرض وعرة كهذه تغطيها اوحال بمثل تلك السماكة وحبست ضحكاتها بسرعة فمهما كان الأمر يجب أن لا يراها جايك مسرورة لازعاجه أو فرحة بتعاسته وتمنت فقط أن لا يكون غضبه كبيرا عند عودته. الا أن تمنياتها تبخرت بسرعة وحلت محلها خيبة الأمل فقد عاد وهو يكاد ينفجر غضبا وصعد الى سيارته بدون أن يفكر حتى بتنظيف حذائه قليلا. ثم سألها وهو ينظر اليها شزرا:
" هل لديك أي فكرة على الاطلاق عما تقوله تلك اللوحة؟ انها تقول...أه منك يا هيلين! تقول...هنا مزرعة لانغرانوغ! هل تسمعين؟ مزرعة لانغرانوغ! "
اصابتها الحيرة والدهشة وسألته بسذاجة:
" هل تعني أن هذا هو المنزل الريفي الذي نقصده؟ "
رفع جايك نظره الى السماء متضايقا ومنفعلا وقال لها باشمئزاز:
" لا! لا اعني أبدا أن هذا هو منزل اندانا الريفي اعني أن هذا المنزل هو مزرعة لانغرانوغ وليس لاندرانوغ! "
فتحت فمها دهشة واستغرابا واتسعت عيناها حيرة وسألته بتردد:
" تعني...تعني أن هذه...هي الطريق الى لانغرانوغ...وليس الى لاندرانوغ؟"
نقر جايك بأصبعه على مقود السيارة وقد عيل صبره وقال لها بتهكم غاضب:
" اعني...اعني! أنت التي يجب أن تعرف. ألم تكن الخريطة معك وكنت أنت مساعد الطيار أو الملاح المسؤول عن توجيه السفينة في المسار الصحيح؟ "
سحبت هيلين الخريطة ووضعتها على ركبتيها وأخذت تلاحق باصابع مرتجفة الخطوط الصغيرة المتعرجة التي تنطلق من الطريق الرئيسي باتجاه لاندرانوغ واكتشفت بسرعة انها كانت تتبع خطأ الخطوط المؤدية الى لانغرانوغ. لم تكن تتوقع اسميين متقاربين الى هذا الحد في المنطقة ذاتها! وبما أن الطريق المؤدية الى لانغرانوغ هي الاساسية فقد أغفلت الخط الفرعي الذي يؤدي الى لاندرانوغ.
كان جايك آنذاك يراقب أصابعها بكثير من الأهتمام...والأنزعاج ثم سألها بلهجة طبيعية تقريبا:
" هل أبتعدنا كثيرا عن طريقنا؟ "
دلته باصبعها الى مكان الأنعطاف وقالت بخجل وحياء:
" حوالي...حوالي خمسةوعشرين كيلومترا "
تنهد جايك واسترخى في مقعده قليلا ثم اشعل سيكارة وقال لها بهدوء:
" حسنا...سنعود الآن "
قطبت هيلين حاجبيها وقالت له معتذرة:
" أنا...أنا آسفة لم أكن أظن أن ثمة اسمين متقاربين الى هذا الحد "
ابتسم جايك نصف ابتسامة وقال:
" وأنا أيضا لم أكن أعرف. كذلك فانه لا يمكنني القاء اللوم كلع عليك لأنني أنا أيضا كنت اقرأ اشارات الطرق "
ردت هيلين الأبتسامة بالمثل وشكرته بكلمة واحدة. هز برأسه متضايقا من الحالة التي وصلا اليها ثم أدار المحرك وضغط على دواسة البنزين الا أن العجلتين الخلفيتين اخذتا تدوران على نفسيهما بدون فائدة. سماكة الوحل كثيفة! حاول الرجوع الى الوراء ولكن السيارة ظلت في مكانها وغطى الصفير الذي كانت تطلقه العجلتان الغاضبتان على صوت المحرك القوي. شد بأصابعه على المقود صارخا:
" أوه, يا الهي! كيف سنخرج من هذا المأزق؟ "
عضت هيلين على شفتيها بقوة حتى كادت تدميها. شعرت أنها هي المذنبة وتمنت لو كان بامكنها القيام بأي شئ لاخراجهما من هذه الورطة. فتح جايك باب السيارة ونزل منها ليغوص مرة آخرى في ذلك الوحل الكريه ولكنها هذه المرة لم تضحك بل كانت متأثرة وحزينة. شعرت به يركل العجلة الخلفية بعصبية ثم يعود ليقول لها:
" اجلسي وراء المقود يا هيلين "
اطاعته على الفور وبدون تردد فيما كان يوجه اليها التعليمات الضرورية.
" هل بامكانك تطبيق هذه التعليمات بدقة؟ "
" نعم...سأحاول "
توجه الى مؤخرة السيارة وطلب منها أن تبدأ فصرخت بلهفة:
" انتظر! "
عاد نحوها وقد اصبح آنذاك كقطعة قماش مبللة وسألها بتبرم وايجاز:
" ما بك الأن؟ "
اشارت الى رجليها وقالت بحياء واسى:
" المقعد بعيد جدا بالنسبة الي. هل بالامكان سحبه قليلا الى الأمام؟ "
تنهد جايك ولكنه لم يقل شيئا بل فتح الباب ودفع المقعد الى الأمام بسرعة وسهولة قائلا:
" هل هذا يكفي؟ "
" شكرا اعتقد أنني الأن على ما يرام "
" حسنا. لننفذ الآن ما اتفقنا عليه قبل قليل. تذكري أن تبدأي عندما اطلب منك ذلك "
عاد الى مؤخرة السيارة ووضع ذراعيه القويتين عليها مستعدا للدفع بكامل قوته. ثم صرخ بها:
" هيا...الآن "
الا أن السيارة لم تتحرك وسمعته يناديها بأعلى صوته:
" لا بأس, لا بأس! اوقفي المحرك! "
اخرجت هيلين رأسها من النافذة فشاهدت جايك يتقدم نحوها وقد غطاه الوحل من رأسه حتى أخمص قدميه لم تتمالك نفسها من الضحك بمثل هذه الطريقة الغبية التي تمكنت في المرة الأولى من كبتها. وفجأة شعرت بالاشمئزاز من نفسها وبالخوف من جايك فسارعت الى وضع يدها على فمها الا أن السيف سبق العذل فقد شاهد ضحكتها...اقترب منها ونظر اليها طويلا ثم سألها بلهجة تنذر بعواقب الأمور:
" هل تجدين الأمر مسليا ومرفها عن النفس؟ "
هزت هيلين رأسها نفيا وارغمت نفسها على الاجابة بعد أن شعرت أن الكلمات علقت في حلقها:
" انك...انك مغطى بالوحل! متأسفه جدا يا جايك ولكن منظرك يدعو الى الضحك "
" هل هذا صحيح؟ "
رفع يديه المبللتين ومسح الوحل عن وجهه ثم قال لها:
" طيب, ايتها الجميلة! الآن جربيه أنت "

________________________________________
تطلعت به غير مصدقة وسألته بانزعاج:
" أنا؟ انك تمزح! "
" ولماذا أمزح؟ هذه الورطة الشنيعة من صنع يديك, وأنت الآن ستعملين على اخراجنا منها "
عادت هيلين مسرعة الى مقعدها وقالت له باصرار:
" انني لن أغطي نفسي بالوحل لمجرد منحك فرصة للضحك! "
تردد جايك قليلا ثم استدار ناحية المزرعة وقال وكأنه يحدث نفسه:
" لابد أن صاحب المزرعة ستكون عنده معدات قد تساعدنا على الخروج من هذه المحنة "
ارتاحت هيلين كثيرا وشعرت أن حملا ثقيلا ازيل عن صدرها عندما تأكد لها انه لن يرغمها على الخروج الى الوحل ودفع السيارة. وقالت له مشجعة:
" أوه, نعم ربما كان لديه بعض المعدات...جرار زراعي وحبل مثلا أو أي شئ أخر يمكنه أن يسحبنا قليلا الى الأمام! أوه انها فكرة جيدة "
فتح جايك باب السيارة قائلا:
" عظيم كنت أعرف أنك ستفكرين هكذا...الآن اذهبي واسأليه "
دهشت هيلين مرة أخرى وقالت باستغراب:
" أنا؟ أذهب الى المزرعة؟ "
اشعل جايك سيكارة وأجابها بهدوء غريب:
" نعم. سأنتظر في السيارة بحال مرور احد من هنا "
ضمت هيلين شفتيها بانفعال وقالت باصرار:
" لا يمكنني الذهاب الى المزرعة. انها هناك في نهاية هذا الطريق الترابي! ربما كان فيها الآن شخص ينتظر ضحية مثلي! "
رد عليها جايك بهدوء ولطافة:
" في مثل هذا الطقس الماطر؟ أشك كثيرا في ذلك "
حدقت فيه وقد علت فمها نصف ابتسامة وقالت له:
" أوه انك لست جادا! انك تطلب مني الأقدام على مثل هذه الخطوة لمجرد افزاعي! هذا تصرف لئيم "
خلع جايك سترته وقال لها بلهجة الآمر الواثق من نفسه ومن اطاعة أوامره:
" لا يا هيلين...اني أطلب منك بكل جدية وأنت ستنفذين الطلب "
رفعت رأسها بتحد صارخ قائلة:
" اني أرفض! "
" ترفضين؟ حقا ترفضين؟ "
وفجأة انحنى صوبها وفتح بابها ثم دفعها الى الخارج وأغلق الباب بقوة واقفله من الداخل .
صعقت, وخافت, وغضبت, وأخذت تضرب بيديها على زجاج السيارة وهي تصرخ:
" جايك, جايك كفاك حقارة ونتانة! دعني أدخل...البرد شديد وأنا مبتلة كثيرا"
" اذن اركضي نحو المزرعة...هيا بسرعة التمرين يساعدك كثيرا "
ترددت هيلين طويلا قبل أن تتحرك من مكانها انها تعرف جايك جيدا وتعرف أنه يعني ما يقول. ولكن قبولها بما يطلبه صعب للغاية. كيف ستتمكن من الذهاب الى بيت غريب في مثل هذا الوقت المتأخر والجو الماطر لتسأل صاحبه مساعدتهما على اخراج السيارة! أليس ممكنا أن يكون صاحب البيت رجلا يعيش بمفرده...مجرما...مجنونا أو أي شيئ آخر! شعرت برجفة قوية ونظرت الى جايك شزرا وقد بلغ منه الغضب حده الأقصى. كان مستلقيا في مقعده الذي احنى مسنده الى الوراء يدخن سيكارة ويستمع الى الموسيقى الهادئة. آه انها تكرهه...تكرهه.
لم تكن هناك أي فائدة من البقاء قرب السيارة بانتظار أن يغير جايك رأيه. انها تعرف جايك حق المعرفة وتعرف انه لا يتبع الا قواعده هو في أي لعبة يلعبها وتعرف أيضا أنمجرد كونها امرأة...أو زوجة لا يخولها بالضرورة الحصول على ميزات أو افضليات. استدارت نحو تلك المزرعة ومشت ببطء يغلفها شعور بالسخط والغضب والاذلال...وحتى بالخوف الحقيقي. وانهمرت دموعها بغزارة.
وعندما اقتربت من المبنى الرئيسي للمزرعة سمعت أصوات حيوانات في زريبة قريبة ونبلح كلب يعلن قدومها ولكن الذي زاد انزعاجها وخوفها أنها سمعت بوضوح وراءها لهاثا قويا وصوت أقدام. دب فيها الرعب وبدأت تركض بأتجاه الشرفة الأمامية للمنزل ولكنها شعرت قبل وصولها بخطوات قليلة بيد تمسك بذراعها. التفتت مذعورة فشاهدت جايك الذي أزاحها آنذاك واندفع قبلها نحو الباب. صرخت به بصوت مكبوت:
" أيها...أيها النتن الحقير! هل كنت تتبعني طوال الوقت؟ "
رفع جايك حاجبيه الاسوديين وقال لها بهدوء:
" طبعا... وهل كنت تظنين أنني سأدعك تأتين الى هذه المزرعة بمفردك؟ هل كنت تظنين ذلك؟ "

" ولكن...ولكن...لماذا أجبرتني على المجئ الى هنا في المقام الأول؟ لماذا لم تدعني أبقى في السيارة؟ "
" وهل كنت ستقبلين بأن أتركك هناك؟ بمفردك؟ في مثل هذا الوقت؟ وفي هذه المنطقة النائية؟ "
" اعتقد. . . "
" قررت اعطاءك درسا وهذا كل ما في الأمر "
ثم أبتسم قليلا وقال:
" واعتقد أنني نجحت أليس كذلك؟ "
" أوه...أوه اني أكرهك! أكرهك! "
وفي تلك اللحظة بالذات فتح رجل باب المنزل واندفعتمنه عدة كلاب من أنواع مختلفة وأخذت تقفز نابحة حولها. أمر الرجل كلابه بالدخول ثمنظر بفضول الى هذين الضيفين المتسخين بالوحل وقال مقطبا جبينه:
" نعم؟ "
حياه جايك يتهذيب وقال له:
" أنا متأسف جدا لأزعاجك في مثل هذا الوقت المتأخر ولكن سيارتي انزلقت قليلا الى قناة بجانب الطريق ولم يعد بامكاني اخراجها فهل تتكرم بمساعدتي لسحبها؟ "
وتنحنح قليلا ثم تابع بسرعة:
" أعرف...أعرف أن الوقت متأخرا جدا وأنها ليلة مزعجة ولكن... كما ترى...فاننا مبتلان حتى العظام "
نظر الرجل مليا الى هيلين ووجهها المتعب وجسمها المرتجف ثم أستدار فجأة نحو الداخل وقال:
" الأفضل أن تدخلا. يبدو أن زوجتك بحاجة الى فنجان من الشاي "
" أوه شكرا لك "
قالتها هيلين بحماسة واخلاص فيما كانتتدخل مسرعة وهي تبتسم للمضيف امتنانا وتقديرا. واستقبل المزارع الكهل دخولهما محييا بتهذيب وتواضع:
" لا شكر على واجب "
أغلق الباب وسار أمامهما حتى غرفة الجلوس الفسيحة والمريحة حيث كانت مدفأة جميلة تملأ الغرفة بالدفء الممتع والضوء الساحر ورائحة الحطب الطبيعية اللذيذة. زوجة الرجل امرأة قصيرة وبدينة الى حد ما ولكنها بادية النشاط والصحة كمعظم زوجات المزارعين. وبعد أن قدما نفسيهما على أنهما السيد والسيدة مورغان وعرفا أن ضيفاهما هما جايك وهيلين هوارد توجهت السيدة مورغان الى المطبخ لتعد الشاي فيما أخذ زوجها يستفسر عما حدث وعندما أخبره جايك عن المشكلة التي وقعا فيها بسبب تشابه الاسمين لاندرانوغ ولانغرانوغ ابتسم صاحب المزرعة وقال:
" أنك لست أول من يقع في مثل هذه المشكلة يا سيد هوارد فكثيرون قبلك وقعوا في الخطأ ذاته. ولكن هذا ليس مهما الآن...المهم هو محاولة اخراج سيارتك من المكان الذي علقت فيه "
تنهد المزارع وتابع حديثه مع جايك قائلا:
" بالطبع يمكنني أستخدام الجرار لسحب سيارتك ولكن هذه العملية ستستغرق بعض الوقت والأصدقاء الذين ينتظرونكما سيقلقون بسبب تأخيركما ولذلك فاني أعتقد أن من الأفضل الأتصال بهم وابلاغهم عما حدث ثم تمضيان الليلة هنا وتذهبان اليهم في الصباح. فمن الصعوبة في مثل هذا المطر والظلام أن تجدا الطريق الفرعي الذي يؤدي الى لاندرانوغ! "
تطلع جايك بهيلين ثم قال لمضيفه الكريم:
" هذا لطف وكرم منك يا سيد مورغان ولكن لا يمكننا ازعاجكما. . . "
ابتسم المزارع الطيب وقال له مقاطعا:
" لا ازعاج على الاطلاق وأنا متأكد من أن السيدة مورغان أيضا تشاطرني هذه الرغبة. اننا لا نحظى هذه الأيام بكثير من الزوار أو الضيوف وأولادنا كبروا وتزوجوا وأصبحت لهم عائلاتهم ولم نعد نراهم الا أثناء أوقات العمل أو بين الحين والأخر. كذلك فأنا متأكد من أن السيدة هوارد تفضل البقاء هنا الليلة على العودة في هذا الطريق الوعر والطقس الماطر. أليس كذلك يا عزيزتي؟ "
عضت هيلين على شفتيها وتطلعت ناحية جايك لا تعرف بما تجيب. فهي شخصيا لا تجد شيئا أفضل من البقاء أطول فترة ممكنة قرب المدفأة ثم الذهاب الى النوم في سرير مريح عوضا عن مواجهة المطر والظلام والأوحال مرة أخرى في الليلة ذاتها ولكن القرار يعود الى جايك! هل سيصر يا ترى على الذهاب الى لاندرانوغ أم أنه سيقبل دعوة السيد مورغان؟
نظرت الى جايك فوجدته مقطب الجبين ويفكر ولكنه من ناحية أخرى يبدو مرتاحا ومسرورا قرب المدفأة وتمنت في تلك اللحظة أن يقول شيئا لينقذها من ذلك التردد. وبما أنه ظل صامتا فلا بد لها من أن تجيب الرجل الذي كان يتطلع فيها منتظرا:
" أنا...أنا لا أعرف ماذا أقول. . . "
تدخل جايك عندها فجأة وقال لصاحب المنزل :
" اعتقد أن علينا متابعة رحلتنا يا سيد مورغان. اعلم أن ذلك سيشكل لك ازعاجا كبيرا و. . . "
دخلت السيدة مورغان في تلك اللحظة وهي تحمل الشاي وبعض الأجبان والحلوى. وفيما كانت توزع الشاي وأطباق المأكولات الخفيفة أخذ زوجها يشرح لها ما قاله لضيفهما. وقبل أن تصب لنفسها فنجانا من الشاي قالت لجايك وهيلين برقة وحنان:
" يجب أن تعلما أن ما من ازعاج على الاطلاق وكما قال اوين فانه يسعدنا كثيرا استضافتكما والتحدث معكما... اعني أنه لا يمكنكما التفكير جديا بمتابعة رحلتكما في مثل هذا الوقت المتأخر والطقس الردئ "

نظرت هيلين الى جايك وسألته بشئ من التردد:
" هل يوجد هاتف في منزل...اصدقائنا؟ "
حدق بها جايك واجابها باقتضاب:
" أجل لديهم هاتف "
ارغمت هيلين نفسها على الأبتسام قليلا وقالت:
" اذن...الا يمكننا قبول دعوة السيد مورغان الكريمة والمشكورة والاتصال باصدقائنا لابلاغهم بما حدث؟ اعتقد أن ايجاد منزلهم سيكون اكثر سهوله في الصباح "
" طبعل, طبعا ولكن...كنت اعتقد أنك أنت تريدين متابعة الرحلة "
عقدت حاجبيها وسألته باستغراب:
" أنا؟ ولماذا أنا؟ "
برقت عيناه فجأة وقال لها بلهجة ودية:
" حسنا ان كان هذا ما تريدين "
حاولت هيلين السيطرة على تململها ونبرمها من تعمد جايك دفع الكرة الى ملعبها وحملها هي على اتخاذ القرار...لماذا يا ترى! وارادت أن تؤكد له رغبتها في البقاء فقالت له بدون تردد:
" اعتقد أنني سأكون سعيدة جدا في البقاء هنا هذه الليلة "
انتصب واقفا وهو يقول:
" عظيم! سأذهب لاحضار الحقائب "
وقف السيد مورغان وقال له معترضا:
" لا يا بني...يكفيك بردا ومطرا ووحلا هذه الليلة! ديليس يمكنها ايجاد شئ ترتديه زوجتك كما أنك ستجد ما يناسك في مجموعتي المتواضعة "
" حسنا. اننا بالتأكيد نقدر لكما جدا حسن ضيافتكما ولطفكما. أليس كذلك يا هيلين؟ "
هزت هيلين برأسها علامة الايجاب بعد أن فرضت على نفسها ابتسامة مهذبة. انها فعلا تقدر جدا ما يقوم به مورغان وزوجته ولكنها ليست مسرورة ابدا من تصرفات زوجها وأساليبه الملتوية وشعرت انه يدبر لها مقلبا أو يتمتع بنكته هي ضحيتها ولم تتمكن من فهم ذلك التحول السريع والمفاجئ في ملامحه ونظراته.
أخذ السيد مورغان معطفيهما الى غرفة الغسيل لتجفيفهما فيما كانت زوجته ترشد جايك الى مكان وجود الهاتف أما هيلين فظلت جالسة قرب المدفأة مرتاحة ومسرورة وقد جف شعرها وأحمر خداها ولما عادت السيدة مورغان وجلست قربها. أخذت هيلين تحدثها عن منزلها في لندن وعن حياة الصخب والضجيج في المدن أما المضيفة فقد تحدثت عن أولادها الخمسة وأحفادها التسعة عشر. ولما انهى جايك مكالمته الهاتفية المطولة عاد الى غرفة الجلوس ليجد هيلين مندمجة مع السيدة مورغان وزوجها في تصفح مجموعة كبيرة من الصور العائلية التي يعود تاريخ بعضها الى الثلاثينيات والأربعينيات. ابتسم جايك وقال:
" كل شئ على ما يرام. سيكون صديقانا بانتظارنا بعد الفطور بقليل "
" عظيم, عظيم "
رددها السيد مورغان وهو يهز رأسه مبتسما ثم قبل شاكرا السيكار الفاخر الذي قدمه له جايك. وبعد قليل استأذنت السيدة مورغان لتعد لهما سريرهما ولاحظت هيلين بدهشة أن الساعة تخطت الحادية عشرة. تطلعت بالمضيف وقالت له بلهجة يغلب عليها الأعتذار:
" يجب أن لا نبقيك الى هذا الوقت المتأخر يا سيد مورغان فمن المؤكد أنك مضطر للنهوض باكرا "
هز الرجل رأسه قائلا:
" ليس كما تتصورين يا سيدة هوارد. أبنائي الثلاثة يقومون حاليا بمعظم الأعمال الصعبة "
ثم ابتسم وهو يضيف قائلا:
" انني أعمل الآن كمشرف أو رئيس ورشة "
شاركته هيلين الأبتسامة وقالت:
" أتصور أن الحياة ممتعة جدا هنا "
" أوه أنها رائعة في الصيف...هل زرت المناطق الجبلية في وايلز قبل الآن يا سيدة هوارد؟ "
" مع الآسف لم أزر أيا من مناطق وايلز سابقا. ولكن اذا كان اهالي هذه المقاطعة بمثل لطفكما وحسن ضيافتكما أنت والسيدة مورغان فاني بالتأكيد سأزورها عدة مرات في المستقبل "
تأثر الرجل بهذه الملاحظة الحساسة التي أبدتها هيلين بصدق واخلاص. وعندما نظرت ناحية جايك رأته يبتسم بخبث ومكر. ومرة أخرى عادت تسأل نفسها عن قصده وعما يرمي اليه. وفي تلك اللحظة عادت السيدة مورغان وقالت للمضيفين الشابين بوجه بشوش وابتسامة رقيقة:
" الغرفة جاهزة ولقد وضعت لكما ثياب النوم على السرير "
ثم رفعت حاجبيها وأضافت وهي تغمز بعينيها :
" الغرفة دافئة جدا وقد لا تحتاجان اليها! "
عندئذ فقط فهمت هيلين ماذا يحدث. طبعا! كيف لم تخطر هذه الفكرة في بالها؟ فبالنسبة للسيد مورغان وزوجته هي وجايك زوجان عاديان! نظرت الى جايك شزرا فابتسم ابتسامة خفيفة ذات مغزى. ارادت أن تصرخ بوجهه غاضبه وتقول له أيها الوحش كنت تعرف! هذا كان قصده بالطبع وهذا كان هدفه عندما استدرجها للقبول...لا بل للاصرار على البقاء! لماذا لم تلاحظ هي ذلك؟ كيف تصورت أن السيدة مورغان ستعد لهما غرفتين منفصلتين وهما زوجان شابان تبدو عليهما السعادة والمحبة المتبادلة؟
ولأن من الواضح أن السيدة مورغان كانت تتوقع ذهابهما الى الفراش. وقفت هيلين وهي تحاول اخفاء عبوسها وتعاستها ثم تمنت ليلة سعيدة للضيف الكريم وسارت نحو الباب تبعها جايك بعد أن كرر التمني ذاته للسيد مورغان الذي رد عليهما بالمثل وهو لا يزال في كرسيه الهزاز قرب النار.
كانت الغرفة التي اعدتها لهما السيدة مورغان واسعة وذات سقف عال وتضم سريرا عريضا من الطراز الذي لم يعد له وجود الا في المحال النادرة المتخصصة بالمفروشات القديمة.

" اتصور أن هذه الغرفة مريحة ودافئة والسرير متين وقوي. في أي حال توجد هنا أغطية اضافية ان شعرتما بالبرد "
ثم ابتسمت المضيفة المرحة واضافت مازحة:
" ولكني متأكدة انكما لن تشعرا بالبرد على الاطلاق أليس كذلك؟ شابان في مقتبل العمر مثلكما لا يمكن أن يشعرا بالبرد! عندما كنا أنا واوين في سنكما لمنكن بحاجة الا لبعضنا لكي ننعم بالدفء والراحة أما الآن فيا حسرتنا اصبحنا بحاجة الى المدفئة والتدفئة المركزية وأكياس الماء الساخن. . . "
ابتسم جايك وقال لها:
" اعتقد أنك قمت بترتيبات رائعة يا سيدة مورغان "
هزت سيدة المنزل رأسها اعتزازا وقالت:
" الحمام في نهاية الممر...الى الجانب الأيمن وكذلك يوجد ماء ساخن وبكمية وفيرة ان اردتما أخذ حمام الآن أو في الصباح "
ارغمت هيلين نفسها على الأبتسام لهذه السيدة اللطيفة وشكرتها على كل ما قامت به نحوهما. ردت السيدة مورغان بابتسامة مماثلة وتمنت لهما ليلة سعيدة ودافئة قبل أن تغادر الغرفة وتغلق الباب وراءها.
عند ذاك التفتت هيلين نحو جايك وقالت بلهجة غاضبة ولكن بصوت خافت وهامس:
" كنت تعرف! كنت تعرف أن صاحبي البيت سيعدان لنا غرفة واحدة "
نظر اليها ساخرا وقال:
" طبعا كنت أعرف. ولو كنت تفهمين لتوقعت ذلك أيضا. كنت غارقة في مقعدك الدافئ تفكرين بما حدث فلم تنتبهي الى ما يتم اقتراحه. أنت المذنبة! والآن...ليس لدينا فقط غرفة واحدة...بل سرير واحد أيضا. وأنا من جانبي لست مستعدا للنوم على الأرض "


6- الدفء الجديد!


حدقت به هيلين وهي لا تكاد تصدق أذنيها وسألته بأنفعال:
" وماذا تعني بذلك؟ "
سار أمامها باعتزاز وكبرياء كالطاووس ثم أجابها بهدوء بالغ:
" وماذا تعتقدين أنني أعني؟ ألم أقل لك بوضوح ما أعني؟ "
أحمر خداها وتلعثمت وهي تسأله:
" هل تعني...أنك...ستستخدم...السرير؟ "
استدار نحوها وكان قد وصل آنذاك الى جانب السرير ورفع بيده ثياب النوم المخصصة له ثم سألها مازحا:
" هل لهذه الثياب هدف ما؟ "
" بربك يا جايك! دعك من هذه السخافات وقل لي ماذا سنفعل الآن؟ "
جلس الى جانب السرير وبدأ يخلع قميصه ويقول:
" لا أدري ماذا ستفعلين أنت يا هيلين ازاء هذا الموضوع..أما أنا فسوف أنام. أنك تذكرين انني لم أنم أبدا الليلة الماضية ولذا فأنا غير مستعد على الاطلاق لمواجهة المصير نفسه هذه الليلة "
فتحت هيلين ذراعها دهشة واستفسارا وهي تسير في الغرفة ذهابا واياباً ثم قالت له لاهثة:
" ولكن...جايك! لا يمكننا...النوم...سوية...في هذه الغرفة! "
هزجايك كتفيه وخلع القميص فكشف عن عضلات قوية مفتولة وصدر عريض أسمر مغطى بالشعر الكثيف. أزاحت هيلين وجهها سريعا لأنه لم يسبق لها أبدا أن شاهدته عاري الصدر فهما لم يذهبا مرة واحدة معا الى شاطئ البحر وبالتالي فهي لم تشاهده من قبل مرتديا ثياب السباحة. ولكن بدا أن السباحة والشمس لعبا في رحلته الأخيرة دورا كبيرا في اضافة هذا اللون البرونزي الى جسمه. وسارعت هيلين الى مطالبته بارتداء القميص المخصص للنوم.
رمي جايك القميص بعيدا باستهتار واستلقى على السرير قائلا لها بكسل:
" البسيها أنت أنا عاة لا ألبس أشياء كهذه أثناء النوم "
" انك...انك لا تعني...ان...ان..."
استدار جايك نحوها وتطلع بعينيها الحائرتين والزائغتين وقال لها مبتسما بسخرية:
" لا أعني ماذا؟ أن أنام عاريا؟ لا...لن أسبب صدمة أو احراجا لطهارتك أيتها العزيزة "
وضعت هيلين حقيبة يدها على الطاولة المجاورة وجلست أمام المرآة تسرح شعرها...وتفكر. جلس جايك في السرير وسألها ببرودة أعصاب:
" هل تريدين أستخدام الحمام الآن؟ "
ردت عليه بصوت غاضب خافت وبلهجة قاسية:
" انكتجد في وضعنا هذا متهة ولذة أليس كذلك؟ انك لا تهتم بمشاعري اطلاقا "
قست ملامح جايك بعض الشئ فقام من السرير وتوجه نحوها وهو يقول:
" اسمعي يا هيلين...أنت أوقعتنا في هذه المشكلة فلا تضيفي هموما ومشاكل جديدة "
" ولكن...لا يمكننا النوم في سرير واحد! "
" لم لا؟ "
وعندما شاهد احمرار وجهها تابع حديثه بدون انفعال:
" بعكس ما تعتقدين يا هيلين فانني أعتبر بعض الأمور أكثر أهمية من...رغباتي الحيوانية. ألم تستخدمي هذه الصفة في شجار سابق؟ "
ثم عقد حاجبيه وقال بجدية بالغة:
" كل ما يهمني الأن وما أريده حقا هو النوم "
مشت هيلين ببطء وتردد نحو السرير وتأملت قميص النوم بتشكك. انه واسع جدا فهو لسيدة بدينة تحب الثياب الفضفاضة. هز جايك رأسه بتململ وقال لها :
" اقترح عليك أستخدام سروال النوم المخصص لي. على الأقل ان له حزاما يمكن شده حول وسطك "
شدت هيلين على شفتيها بقوة وقالت بعجلة:
" وأنت ماذا سترتدي؟ "
هز جايك بكتفيه وأجابها بهدوء:
" لا تقلقي نفسك بسببي! سأتدبر أمري "
تنهدت هيلين وقالت:
" لا أريد الذهاب الى الحمام. لم لا تذهب أنت...وأدخل أنا الى الفراش؟ "
تأملها مليا ثم هز رأسه موافقا وقال:
" حسنا أيتها الخجولة المتواضعة...ولكن رجاء لا تمضي وقتا طويلا في اعداد نفسك للنوم. سأعود سريعا "
انتظرت هيلين حتى خرج من الغرفة واغلق الباب وراءه وبدأت تخلع ثيابها على عجل. السروال كان كبيرا وواسعا الى درجة الازعاج ولكنه على الأقل كما قال جايك يمكن شده حول الوسط وبعدما لبست القميص بسرعة مماثلة قفزت الى السرير وشدت الغطاء فوقها حتى العنق...فعلا انه سرير قوي ومريح! ولو كانت في موقف آخر وحالة نفسية مختلفة لشعرت بالراحة والسعادة والرضى .
عاد جايك بعد دقائق قليلة ودخل بدون أن يطرق الباب. نظرت اليه شزرا لأنه أقدم على تلك الخطوة غير المتوقعة. هز رأسه قليلا وقال لها بلهجة طبيعية منطقية:
" هل يجب علي فعلا أن اطرق الباب لأدخل غرفةنوم زوجتي؟ "
لم تعلق هيلين بشئ بل أستدارت الى الناحية الأخرى. هز كتفيه غير مكترث ثم اطفأ النور ودخل الى السرير. ابتعدت عنه الى أبعد حد حتى كادت تقع وكانت متوترة الأعصاب مشدودة العضلات وكأنها ستنفجر.
هل هو الخوف من انه قد يتجاهل ما قاله قبل قليل ويقدم على أمر تخشاه وتشمئز منه؟ الا أنها سمعت بعد لحظات وجيزة صوت تنفسه يهدأ ويتبع وتيرة واحدة فلاحظت بخجل فائق انه...يغط في نوم عميق.
مرت بضع ساعات وهي مستيقظة فالتمسك بحافة السرير ليس بالوضع الصحي المريح الذي اعتادت عليه طوال حياتها وزاد أنزعاجها من جايك عندما انقلب على ظهره بكسل ومد ذراعيه ورجليه ليملأ الفراغ الكبير الذي تعمدت ابقاءه بينهما ولم يتحرك عندما لمست يده أحد أجزاء جسمها المتشنج أما هي فقد ابقت عينيها مغمضتين بقوة متمنية بكل جوارحها أن يتحول عنها ويعود الى وضعه السابق. بدا وكأنه لا يشعر بوجودها وفكرت بازدراء بأنه ربما غير معتاد على مشاطرة سريره مع امرأة. ولسعت وجهها مرة أخرى دموع حارة سببها الشفقة على النفس والرثاء للذات.وأخيرا أرغمها الارهاق والبكاء على النوم.
لم تستيقظ هيلين الا عندما سمعت الباب يطرق. قالت نعم قبل أن تفكر فدخلت السيدة مورغان وهي تحمل الشاي الساخن محيية ومبتسمة. تضايقت من نفسها ومن السيدة مورغان. وعندما فتحت عينيها واكتشفت لماذا تشعر هكذا بالدفء والراحة وازداد انقباضها وشعورها بالضيق. لابد أنها شعرت بقليل من البرد أثناء نومها فدفعتها الغريزة الى الاتصاق به! وهاهي الأن تلفه بذراعها وتضع رأسها على كتفه!.
شهقت بصوت خافت وسحبت ذراعها بسرعة وبقوة ثم جلست وأرغمت نفسها على رد الابتسامة للمضيفة الكريمة. جايك لم يتحرك فقالت لها السيدة مورغان بوجه بشوش ولكن بصوت هامس:
" توقف المطر يا سيدة هوارد...والآن اخبريني هل ارتحت في نومك؟ "
احمر وجه هيلين عندما لاحظت أن السيدة مورغان تنظر بمرح الى قميص النوم ولكنها تمكنت من تهدئة نفسها والرد عليها قائلة:
" نعم. جيدا. شكرا لك. وشكرا أيضا على الشاي. انك تزعجين نفسك كثيرا يا سيدة مورغان "
" لا ازعاج على الاطلاق يا عزيزتي. بالمناسبة ماذا يفضل زوجك للفطور؟ البيض وللحم المقدد؟ السجق مثلا؟ "
" نعم, نعم شكرا جزيلا يا سيدة مورغان "
وتمنت في تلك اللحظات أن تغادر ربة البيت تلك الغرفة لكي تتمكن من الخروج من السرير وارتداء ملابسها قبل أن يستيقظ جايك من نومه ولكنها فوجئت بها تقول مازحة:
" أرى أنكما تتقاسمان ثياب النوم الرجالية "
انها بلا شك تعتقد أن جايك يرتدي الجزء الأسفل أي السروال! فجايك يبدو عاري الصدر في حين انها تبدو هي وكأنها أكتفت بالقميص! لم لا...لتفكر بما تريد...ابتسمت لها هيلين وانتظرت خروجها. ولكن تبين لها أن السيدة مورغان لم تكن على عجلة من أمرها اذ بدأت تنتقل من مكان الى آخر بدون ضرورة أو سبب. تفتح الستائر...ترفع شيئا من هنا وتنقله الى هناك ثم تعيده الى مكانه الأصلي أو الى مكان ثالث. وشعرت هيلين برغبة في الصراخ ولكنها حبست انفاسها وركزت أهتمامها على شرب الشاي ومراقبة جايك والتمني الا يستيقظ قبل خروج السيدة مورغان من الغرفة الا أن الحركة المتواصلة والتنقلات المستمرة في الغرفة ادت خلال دقائق قليلة الى النتيجة التي كانت هيلين تتمنى عدم حدوثها.
استيقظ جايك وتطلع بهيلين مستغربا بعض الشئ ولكنه أبتسم بمكر وغرابة عندما أستدار الى الناحية الأخرى ووقع نظره على السيدة مورغان التي قالت له على الفور:
" آه استيقظت أخيرا يا سيد هوارد! "
ثم أشارت الى فنجان الشاي الموجود قربه وقالت:
" احضرت لكما الشاي قبل قليل وزوجتك تقول أنك تحب البيض المقلي واللحم المقدد. هل هذا يكفي أم. . . ؟ "
قاطعها جايك بابتسامة مهذبة قائلا:
" هذا هو بالضبط ما أريده يا سيدة مورغان ان لم يكن في ذلك ازعاج كبير"
" لا يوجد أي ازعاج على الاطلاق. هل نمت مرتاحا؟ "
نظر جايك ناحية هيلين فتفادت نظراته الاستجوابية بالانحناء قليلا الى جانبها لوضع فنجان الشاي على الطاولة المجاورة. رد على السيدة مورغان بجملة تقليدية مناسبة ثم خيم صمت مزعج وظلت المضيفة تتطلع بهما وكأنها تنتظر أيا منهما أن يقول شيئا آخر ولما لم يتفوها بشئ حيتهما بتهذيب ثم قالت وهي تتجه نحو باب الغرفة :
" سيكون فطوركما جاهزا خلال نصف ساعة. هل يناسبكما ذلك؟ "
ترددت هيلين قليلا وقالت لها:
" هذا رائع ولكن أرجوك الا تزعجي نفسك باعداد أي شئ لي يا سيدة مورغان أنا عادة أكتفي بقطعة خبز محمصة. . . "
" ولا شئ آخر؟! وأنت بمثل هذه النحافة؟ انك بحاجة الى فطور دسم يا عزيزتي. هذا ما أقوله دائما "
" حقا يا سيدة مورغان اني لا أشعر بالجوع "
لم تفهم السيدة مورغان كيف أن ضيفتها ترفض الفطور الدسم الذي يحتاجه جسم الانسان ولكنها قررت احترام آراء الأخرين فهزت كتفيها قائلة:
" حسنا يا عزيزتي ان كان هذا ما تريدين ولكن تذكري أن هناك كمية وافرة من الخبز المحمص والزبدة والعسل "
" رائع "
قالتها هيلين وهي ترغم نفسها مرة آخرى على الابتسام. وشعرت بانفراج كبير عندما حيتها ربة المنزل وغادرت الغرفة. تنهدت هيلين بارتياح وهمت بالنزول من السرير الا أن جايك أمسكها من ذراعها قائلا لها:
" مهلا...لم العجلة؟ لابد أن الجو بارد في الخارج "
لم تعجبها الملاحظة والطريقة التي استعملها وقالت له غاضبة:
" كان يجب أن أغادر الفراش قبل أن تستيقظ ولكن السيدة مورغان اصرت على البقاء "
سألها جايك ببرودة أعصاب مذهلة وهو لايزال ممسكا بذراعها ومستلقيا بارتياح على وسادته:
" وما منعك من مغادرة السرير؟ "
احمر وجه هيلين وقالت بتلعثم:
" اعتقدت السيدة مورغان أننا نتشاطر ثياب النوم الرجالية ولو أني غادرت الفراش لاكتشفت الحقيقة "
ابتسم جايك قليلا وقال:
" ومن شأن هذا الأكتشاف طبعا أن يحرج السيدة مورغان..لا, لا أعتقد ذلك أبدا "
ضغطت هيلين بشدة على شفتيها ضيقا وقالت له باقتضاب:
" انه يحرجني أنا...ثم هل تسمح بترك ذراعي؟ "
تجاهل جايك طلبها وقال لها منزعجا بعض الشئ:
" هذا وضع جديد وغير مألوف أبدا, أليس كذلك؟ أعني وجودنا في سرير واحد للمرة الأولى بعد ثلاث سنوات من الزواج "
نظرت هيلين اليه شزرا وشعرت برغبة قوية في توجيه صفعة مؤلمة الى ذلك الفم الساخر. وكانت آنذاك تحاول تحرير ذراعها من قبضته ولكن بدون جدوى فصرخت به قائلة:
" لم أكن أعلم بأن الوضع سيكون غير مألوف بالنسبة لك! "
برقت عيناه غضبا من لهجتها القاسية ونظرات الأزدراء والتحقير التي كانت توجهها له كسهام سامة وسألها صارخا:
" ولم لا؟ "
" هكذا! "


وحاولت مرة أخرى تخليص ذراعها وهي تصرخ:
" اتركني..اتركني "
هز رأسه بعصبية ثم قال لها بهدوء واصرار:
" أريد أن أعرف لماذا تعتقدين أن هذا الأمر ليس جديدا أو غير مألوف بالنسبة الي "
حدقت به هيلين مستضعفة ومتضايقة وتمنت لو أنها لم تعلق بتلك الجملة السخيفة على ملاحظته المؤذية لأنها فتحت له بها جبهة هجوم جديدة. حاولت السيطرة على أعصابها وأستخدام اسلوب آخر معه عندما قالت بلهجة هادئة:
" جايك أرجوك انك تؤلمني! وقتنا قصير...السيدة مورغان قالت أن الفطور سيكون جاهزا خلال. . . "
" اللعنة على السيدة مورغان "
قالها بحدةوعصبية وهو يرفع بنفسه على مرفقه ويضغط على ذراعها ليرغمها على الاستلقاء. ثم سألها بغضب هادر:
" والآن...ألن تخبريني عما كان يفكر به هذا الرأس الصغير البعيد الى حد ما عن الطهر والبراءة؟ "
هزت هيلين رأسها بعنف من جانب الى آخر قائلة:
" انك...انك متوحش! اتركني والا...والا صرخت بأعلى صوتي "
" بامكانك أن تصرخي ولكنك ان تفعلي ذلك...تصوري ماذا سيكون تفكير السيدة مورغان "
" جايك أرجوك...اتركني هذه...هذه. . . "
أختنق صوتها ولم تتمكن من انهاء جملتها. كان قريبا جدا منها...لا بل ملتصقا بها تقريبا! وفي حين انها كانت تريد الهرب منه والابتعاد عنه الا أن بعضا من رغبتها ومشاعرها كان يعارض ذلك الحل العقلي والمنطقي!.
تأمل جايك وجهها بقساوة ثم قطب جبينه وسألها ببرودة قاتلة:
" هذه ماذا يا هيلين؟ هذه تصرفات متهورة أم ربما خطرة؟ "
وضحك باستفزاز وتململ ثم قال:
" بحق السماء يا هيلين من تظنين أنك تخدعين؟ هل تعتقدين حقا أنني لا أعرف ماذا يدور في رأسك الجميل من أفكار وأراء؟ هل تظنين انني لم أدرك بما كنت تشعرين به امس عندما وضعت رأسك على صدري وحاولت تهدئتك بعد خروجك المنفعل من مطعم الفندق؟ "
ثم تابع اطلاق سهامه الحادة وقد تحولت لهجته الى الازدراء والتبرم:
" وهل تتصورين انني لا أعرف النساء بما فيه الكفاية كي يفوتني أمر اهتمام احداهن بي؟ كل هذه النقمة المنفعلة...والسخط المصطنع...والغضب الوهمي! هذا كله تمثيل يهدف الى تحقيق غرض واحد...وواحد فقط وهو أن تجعليني أحس بوجودك كما تحسين أنت على ما يبدو بوجودي "
صعقت هيلين وشعرت برعب وهلع وقالت له وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة:
" يا للوقاحة! كيف تجرؤ على التفوه بهذه الكلمات؟ أو الايحاء بأمر تافه ورخيص كهذا؟ "
وتململت بانفعال وغضب وأضافت :
" لا تظن أبدا يا سيد هوارد أن مستويات الأخرين كمستواك وتفكيرهم كتفكيرك ورغباتهم كرغباتك! "
تطلع فيها وكأنه يريد التهامها ثم ابتسم وقال:
" ولم لا؟ اليست هذه الحقيقة؟ "
انتفضت منزعجة من تلك النظرات الجائعة وشعرت بأنها تريد...ولكنها لاحظت أن جايك تركها فجأة وخرج من السرير ليرتدي سرواله البني فوق ثيابه الداخلية. رفعت ذراعها بسرعة وغطت عينيها اشمئزازا وشعرت بأن دموع اليأس والخيبة والاذلال تكاد تنهمر بغزارة من عينيها المغمضتين. وقالت لنفسها أنه مهما حاولت وكيفما حاولت الاحتجاج والاعتراض فان عليها الأعتراف بأن بعض ما قاله صحيح وحقيقة واقعة. انها بكل تأكيد تشعر بوجوده الآن بطريقة لم تشعر بها من قبل تجاه أي رجل آخر وبسبب ذلك الاحساس أخذت تشعر...بالغيرة! نعم بالغيرة! آه من تلك الكلمة اللعينة ومعناها المزعج والمؤلم. شعرت بألم يأكل قلبها ومعدتها فأخفت رأسها بالوسادة كيلا ينتبه جايك الى...الى شعورها بالخجل. وفي تلك الاونة بالذات كان جايك ينتهي من ارتداء ثيابه ويضع يده على ذقنه ويقول:
" اني بحاجة الى حلاقة ذقني "
آه كم هو بليد! وشعرت مجددا بأنها تكرهه لقدرته الفائقة على تناسي ما يحدث بسرعة وسهولة ولكن مشاعره واحاسيسه لم تكن في الميزان. وتألمت مرة أخرى عندما شعرت انه قادر على النوم معها في سرير واحد بدون أن يحاول حتى مغازلتها أو لمسها وشعرت باذلال مزدوج لأنها اعتبرته رجلا بدائيا ويحب النساء وهاهو قد أثبت العكس أم أنها قبيحةوغير جذابة الى الحد الذي يتجاهل فيه حقيقة أنها من لحم و دم كأي امرأة أخرى! ثم سمعته يقول فجأة وهو يقف قرب السرير وينظر اليها بسخرية:
" أتردد كثيرا في تذكيرك بأن السيدة مورغان حددت لنا نصف ساعة. كنت أعتقد أنك تصرين على مغادرة الفراش "
" اليك عني "



" حسنا. ولكن كنت أنوي السماح لك باستخدام الحمام قبلي "
" أذهب الى الجحيم "
واخفت نفسها بالوسادة فهز كتفيه ومشى متكاسلا نحو الباب ثم قال لها وهو يهم بفتح الباب:
" بالمناسبة من الأفضل ان تصبي لنفسك فنجانا آخر من الشاي...وان تستخدمي فنجاني لهذا الغرض والا ستعتبرك السيدةمورغان زوجة مهملة لا تكترث بأمر زوجها أو تهتم به "
اصابت وسادتها باب الغرفة في اللحظة التي خرج منها جايك مقفلا الباب وراءه وركعت في السرير غاضبة تضغط على شفتيها بعنف وتمرد. لم يخرج قبل أن يتأكد من أن الكلمة الأخيرة دائما له. نزلت بسرعة من السرير وارتدت ثيابها على عجل كانت آخر رغباتها في تلك اللحظة أن يعود الى الغرفة ويجدها نصف عارية ولما رجع بعد بضعة دقائق كانت هيلين تسرح شعرها أمام المرآة وقف قربها وأخذ يمرر أصابعه في شعره وعلى ذقنه الذي لم يحلقه ثم قال:
" يجب أن تسرعي اذ لم يعد لدينا وقت طويل "
تحولت عنه بحدة ومشت نحو الباب وكأنها تقول له هيا. هز جايك كتفيه بلا مبالاة وذهب الى السرير لترتيبه قبل مغادرة الغرفة. تقلبات هيلين وقفزاتها في السرير جعلته كأرض معركة...غطاء هنا ووسادة هناك وسمعته فجأة يقول بسخرية لاذعة:
" أكره كثيرا أن أترك انطباعا خاطئا عما حدث ليلة أمس ".
التهم جايك كمية كبيرة من الطعام وكانت السيدتان تراقبانه بنظرات مختلفة تماما. فالسيدة مورغان كانت مسرورة جدا وتشجعه بحماسه أما هيلين فقد كادت تغص بقليل من القهوة وقطعة صغيره من الخبز المحمص كان منظره وهو يحرث طريقه في الأطباق المتنوعة مزعجا ومثيرا للقرف والاشمئزاز وتمنت في تلك اللحظة أن تتمكن مره من التصرف معه بمثل هذا الهدوء الممميز والسيطرة القوية على الاعصاب...واللامبالة. لم يكن هناك أي شئ يزعجه أكثر من فترة مؤقته ووجيزة وقد بدا واضحا هذا الصباح أن النوم المريح أخفى من تحت عينه تلك الخطوط السوداء التي خلفها التعب والارهاق وعاد الى وجهه الأسمر نشاطه وبريقه...وجاذبيته.
دخل السيد مورغان بعد دقائق من انتهاء جايك وهيلين من تناول فطورهما وكانت السيدةمورغان تجمع الصحون وتنقلها الى المطبخ بعد أن اصرت على هيلين الا تزعج نفسها بمساعدتها.
وقال لهما بينما كان الثلاثة يتوجهون الى السيارة:
" طلبت من ابني جيم أن يحضر الجرار الزراعي. لا أعتقد اننا سنواجه أي صعوبة على الاطلاق فالمطر توقف منذ فترةطويلة والشمس تكاد تجفف الأوحال المتراكمة منذ فترةما بعد الظهر "
تطلع فيه جايك وشكره بحرارةقائلا:
" انني أقدر كثيرا كل ما قمتما به نحونا أنت والسيدة مورغان فقد جعلتما بداية عطلتنا القصيرة سعيدة ورائعة أليس كذلك يا هيلين؟ "
" أوه...أوه, نعم "
سحب جيم مورغان السيارة القوية الرائعة من القناة الجانبية الوحلة فشهق والده وهو يتأملها:
" هذه فقط تسمى فعلا وقولا...سيارة "
وبعد أن تفحصها من الداخل نظر الىجايك مبتسما وقال:
" اراهن أنك تقودها بسرعة مئتين وخمسين كيلومترا في الساعة بدون أن ترف لك عين! "
أبتسم جايك ورد عليه بتواضع:
" على هذه الطرقات؟ لا يمكن "
" هل كانت السرعة سببا في انزلاق سيارتك الى جانب الطريق؟ "
تردد جايك قليلا قبل أن يوافقه بايجاز قائلا:
" الى حد ما "
ثم وجه نظرة ذات معنى الى هيلين وقال:
" يجب أن نذهب الأن "
وبعد تبادل كلمات الشكر والترحيب انطلق جايك بسيارته مسرعا فيما كان الجميع يلوحون مودعين. استرخت هيلين في مقعدها وقد شعرت فجأة بأنها ضعيفة ومتعبة وكيف لا وقد جرى لها ما جرى من ارهاق جسدي وانزعاج نفسي طوال الاثني عشرة ساعة الماضية.
كان الصمت مخيما عليهما بشكل قاس عندما بدأت هيلين تفكر بما ستواجه خلال الست والثلاثين ساعة المقبلة. كيف سيكون موقفها اذا كان السفير وزوجته من الأشخاص الذين لا ترتاح اليهم! ماذا ستفعل ان لم تتمكن من التجاوب معهما؟ ماذا لو صحت توقعات جنيفر واختفى جايك مع السفير تاركا اياها مع سيدة لا تعرفها؟ عم ستتحدث معها؟ .

في أي حال لن تدعه يلاحظ ضيقها وانزعاجها فهو نفسه غارق في افكاره وتصوراته ومع أن مضيفاهما يعرفان مسبقا انهما أضطرا لتمضية الليلة في احدى المزارع الا أنها شعرت بشئ من التململ عندما أنتبهت الى أنها لم تستحم أو تتبرج وأن جايك أيضا لم يستحم أو حتى يحلق ذقنه ولكن...شاهدت هيلين فجأة اللوحة التي تحمل اسم لاندرانوغ فأشارت اليها بشئ من العصبية وكأنها افاقت فجأة مننوم عميق.
قال جايك:
" بما أننا وصلنا الى ساحة القرية فان منزل السفير يجب أن يكون الى اليمين "
شهقت هيلين عندما شاهدت البيت وقالت بعفوية:
" أوه, أنه رائع, رائع يا جايك "
ابتسم جايك بخبث ومكر ظاهرين وهو يسألها بهدوء مزعج:
" وكم غرفة نوم تظنين أنه يحتوي؟ "
أحمر وجهها بسرعة وهي تتذكر الاحراج الذي شعرت به في الليلة السابقة وقالت له بتلعثم وانفعال:
" هل تعني...هل سيظنان...هل...؟ "
ضاقت عيناه وقست ملامحه وهو يقاطعها بحدة قائلا:
" ما هي المشكلة ان ظنا ذلك؟ ماذا في الأمر؟ لم يحدث شئ الليلة الماضية ولم تكوني منزعجة أبدا في السادسة من هذا الصباح عندما أيقظني نباح الكلاب! "
خرجت هيلين مسرعةمن السيارة وفي تلك اللحظة بالذات أطل السفير وزوجته يرحبان بهما ببشاشة وحرارة وبدون تصنع أو مجاملة وتبخرت على الفور مخاوف هيلين وتوقعاتها المزعجة. أقترب السفير ناحية جايك وقال له وهو يبتسم ابتسامة عريضة ويمد يده لمصافحة ضيفه الذي كان يخرج بدوره من السيارة ويغلق بابها:
" وأخيرا وصلتما أيها الصديق! كنا بدأنا نشكك في أنكما ستحضران "
هز جايك يدي مضيفه بحرارة وربت على كتفه بطريقة شعرت معها هيلين أن الرجلين يعرفان بعضهما معرفة وثيقة مع أنهما يتصرفان بكياسة ولياقة عندما يوجد آخرون معهما أو قربهما وكان جايك يقول آنذاك مازحا:
" كانت رحلة طويلة ومرهقة يا لوسيان. بربك أيها العزيز الم يكن بامكانكما أنت و روز أن تجدا لنفسيكما مخبأ جميلا كهذا في ضواحي لندن؟ "
ضحك لوسيان أندانا بمرح وقال:
" أه! تعرف يا جايك أننا نحب الحياة القاسية ونسعى اليها كلما سنحت لنا الفرصة لأنها تذكرنا بطبيعة بلادنا "
انفجر جايك ضاحكا وأشار الى روز اندانا التي انضمت اليهما بدون تردد. ولبضع لحظات شعرت هيلين بالوحدة والانزواء فمن الواضح أن جايك والسيدة اندانا أيضا يعرفان بعضهما حق المعرفة ولم يكن من الصعب أكتشاف ذلك اذ أن نظراتها اليه كانت...تبا لهذه الغيرة السخيفة! انها امرأة حامل وهذه نظرات يوجهها أي انسان يحب المرح والطرائف.
وفي تلك الآونة تطلع لوسيان اندانا ناحية هيلين فما كان من جاي الا أن اقترب منها وأمسك بذراعها ثم قدمها اليهما بأسلوبه المميز. تأمل لوسيان هيلين بعض الوقت ثم قال لصديقه:
" انها جميلة يا جايك ولكنني لا أستغرب ذلك مطلقا...فأنت لا تختار أبد الا الأفضل "
وتخلى بتردد عن يد هيلين التي كان يصافحها بحرارة قائلا لها:
" آمل أن تمضي وقتا ممتعا خلال هذه الزيارة القصيرة يا هيلين. نعدك بأننا لن نتحدث في التجارة والصفقات أكثر من...نصف الوقت! "
ابتسمت هيلين وقالت:
" أنا متأكدة من أنني سأكون سعيدة جدا خلال وجودي هنا. ان بيتكما رائع جدا ويعجبني الى حد كبير "
روز اندانا لم تتحدث كثيرا ولكنها كانت تبتسم على الدوام وبمجرد دخولهما المنزل اقترحت روز على هيلين أن تريها غرفة النوم المخصصة لهما في حين كان لوسيان يعد شرابا لجايك. تطلع جايك بهيلين مستوضحا فهزت برأسها موافقة فقالت:
" اعتقد أنها فكرة جيدة. جايك يمكنه احضار الحقائب في وقت لاحق "
" لا داعي لذلك أبدا (موجاري) سيحضر الحقائب "
قالتها روز بهدوء وبدون تكلف وهي تصعد أما هيلين على درج من الخشب المحفور متوجهة الى غرفة الضيوف وتطلعت هيلين فرأت جايك يعطي مفاتيح السيارة لرجل ضخم الجثة عريض المنكبين يرتدي ثيابا عادية. توقفت روز لحظة وقالت لهيلين وكأنها سمعت استفسارتها الصامتة:
" موجراي يقوم بكافة الأعمال المنزلية. انه حقا رائع ومتعدد المواهب وهو أيضا سائق السفير وحارسه الشخصي "

رفعت هيلين حاجبيها استغرابا وسألت مضيفتها:
" وهل زوجك بحاجة لحارس شخصي؟ "
هزت روز بكتفيها قائلة بهدوء:
" جميع المسؤولين في بلادنا يحتاجون الى مرافقين مسلحين. بالطبع ان وجودهم لا ينفع دائما فالقتلة المأجورون يختارون أوقاتا معينة وأماكن معينة لتنفيذ مهامهم "
صعقت هيلين وقالت بهلع:
" أنه لأمر مرعب "
أجابتها روز بلهجة عادية وبساطة ملحوظة:
" لأشخاص الذين يصليون الى مراكز عالية يعتادون مثل هذه الأمور...أه هذه غرفتكما "
تسارعت دقات قلب هيلين وهي تدخل وراء روز الى غرفة فسيحة جذابة يغمرها ضوء النهار من جهتين وكان الأثاث من خشب السنديان الرائع والستائر والأغطية من لون واحد و...أجمل من هذا كله انه كان هناك سريران متشابهان .
" هل تعجبك الغرفة؟ "
تنهدت هيلين بقوة وقد شعرت بأن أنفاسها تضيق عليها وقالت بعد لحظات:
" انها...انها...رائعة "
ابتسمت روز وقد ظهر على وجهها علامات الرضا والسرور ثم قالت لها:
" يسرني جدا أنها أعجبتك. الآن تعالي لأعرفك على الأولاد "
تأملتها هيلين مليا وقد أصابتها الدهشة من كلمة أولاد. انها لا تزال صغيرة السن ولا يمكن أن تكون أما الا لطفل سيأتي بعد بضعة أشهر! اولاد! لا أنها تمزح. قالت:
" وهل لديك أولاد؟ "
" نعم. الم يخبرك جايك؟ انهم ثلاثة...طبعا هذا رابعهم "
صعدت الدماء بقوة الى وجه هيلين وقالت:
" لا...لا, لم يخبرني جايك بذلك. أين هم الآن؟ "
" أنهم في غرفة الحضانة مع المربية ليزا. تعالي سيفرحون كثيرا بلقياك "
تبعتها هيلين بصمت الى غرفة جانبية حيث كانت مربية شابة حمراء الشعر تلاعب أطفالا ثلاثة وتحاول قدر المستطاع منعهم من الاشتباك فيما بينهم أو التصرف بأساليب لا يقرها الوالدان. وقالت روز مبتسمة:
" ادخلي يا هيلين...هذه ليزا, ليزا هذه السيدة هوارد زوجة جايك هوارد "
ظلت ليزا واقفة في مكانها ولكنها حيتها بأدب ظاهر. ولاحظت هيلين أن ليزا شابة جميلة وطويلة الجسم ولكنها نحيلة القد وضيقة الكتفين. وكان يمسك بيدها آنذاك صبيان أحدهما طفل لم يتجاوز قطعا الأحد عشر شهرا ويكاد يقع على الأرض لولا تمسكه بيد المربية في حين أن الثاني كان في عامه الثالث أما الطفل الثالث فكان بنتا في الرابعة أو الخامسة من عمرها وقد ركضت نحو أمها فور دخولها غرفة الحضانة.
" كيف حالك؟ "
سألتها المربية بتهذيب مع أن عينيها لم تعكسا ترحيبا حقيقيا أو على الأقل استقبالا ودودا. وأكثر من ذلك أنها كانت توجه الى الضيفة نظرات عدائية وقاسية ولم تفهم هيلين على الفور أي سبب لهذا التصرف. وبدا أن روز لم تلاحظ التوتر الذي ساد بين الشابتين فسألت هيلين وهي تشير باعتزاز ومحبة الى أولادها:
" ما رأيك بأطفالي يا هيلين؟ هذه المتعلقة بفستاني هي ( روث) وهذا الشقي الممسك بيد ليزا هو (جورج) "
ثم أخذت الطفل الأصغر من يد المربية ورفعته قائلة:
" وهذا المدلل الصغير هو (جايمس) "
ثم قبلته وداعبته قائلة بحنان:
" كيف حالك يا حبيبي؟ هل تتصرف كصبي مهذب وعاقل مع ليزا؟ "
حاولت هيلين الاحتفاظ بملامح عادية وهادئة على الرغم من النظرات القاسية والانتقادية التي توجهها اليها المربية ثم ردت على روز بالقول:
" انهم أولاد رائعون يا روز "
" انهم حقا رائعون أليس كذلك؟ أنا ولوسيان فخوران جدا بهم وطبعا فان ليزا كنز حقيقي "
" أنا متأكدة من أنها فعلا كذلك "
ثم رطبت شفتيها الجافتين بلسانها وسألتها بهدوء مصطنع:
" هل تعملين مع السيدة اندانا منذ فترة طويلة يا ليزا؟ "
هزت ليزا كتفيها واجابت بدون اكتراث:
" منذ عامين "
" أنها معنا منذ قدومنا الى انجلترا يا هيلين وستعود معنا باذن الله عندما تنتهي مهمة لوسيان في لندن. أليس كذلك يا ليزا؟ "



تطلعت الحاضنة بمخدومتها وقالت لها بحنان ظاهر بعد أن تغيرت ملامحها القاسية واختفت نظراتها العدائية:
" آمل في ذلك من كل قلبي "
" يجب أننذهب الأن والا فان الزوجين سيعتقدان اننا اختفينا "
وفيما كانتا تغادران الغرفة في طريقهما الى قاعة الجلوس تذكرت هيلين فجأة الطريقة التي قدمتها بها روز الى مربية الأطفال الشابة. الم تقدمها على انها السيدة هوارد...زوجة جايك هوارد! وكأن ليزا تعرف جايك حق المعرفو وتعرف اسمه الأول...وتناديه به! شعرت هيلين بألم عميق يأكل احشائها. هل تلك...تعرف زوجها؟ وهل تعرفه الى هذا الحد؟ وبما أن جايك على مايبدو قد زار لوسيان وروز بمفرده عدة مرات في السابق فلماذا احضرها معه هذه المرة؟؟
7- سرير لم يمس!


كان الرجلان يجلسان قرب المدفأة يتبادلان الأحاديث الودية والنكات. ووقفا عندما دخلت السيدتان غرفة الجلوس الا أن هيلين تجنبت النظر الى زوجها بالتطلع فورا الى لوسيان وسؤاله عن تاريخ المنزل معربة له عن اعجابها بهندسته واثاثه.
لبى المضيف الطلب بكل سرور وأخذ يشرح لها كل شاردة وواردة عن هذا المنزل الذي يحبه ويعتز به وخاصة كيفية تحويله الى ما هو عليه الان من مطحنة يعود تاريخها الى القرن التاسع عشر. ومع أن هيلين كانت تصغي اليه بكل انتباه واهتمام الا انه كان من الصعب عليها منع نفسها من التفكير بطبيعة العلاقة القائمة بين جايك وعائلة اندانا ولماذا اختار احضارها الى لاندرنوغ هذا الاسبوع بالذات! وعلى ما عكس ما توقعته جنيفر فمن الواضح ان جايك ليس بحاجة للتظاهر بشئ امام هذين الشخصين اللذين يعرفانه جيدا كما انه لم تكن لديه ابدا في السابق أي رغبة في التعريف عنها الى أي أحد من أصدقائه باستثناء اولئك الذين يلتقيهم في حفلات عشاء رسمية يقيمها في منزلهما بحي كريسلاند. فلماذا هذه الدعوة اذن؟ ألأن علاقته بالمربية بدأت تضمحل وتفتر؟ ألأنها بدأت كغيرها من صديقاته تطالبه بأكثر مما يجب؟
زمت هيلين شفتيها بعصبية ووجهت نظرة سريعة ناحية جايك واستغلت فرصة انشغاله عنها باشياء اخرى فأخذت تتأمله بتفحص ودقة. لماذا يحظى بتلك الجاذبية التي تسحر هذا العدد الكبير من النساء وتشدهن اليه كالفراشات حول النار؟
بدون وعي وانتباه قبلت هيلين سيكارة من لوسيان اندانا الذي اشعلها لها باحترام وهدوء وبدأ يحدثها عن بعض الأمور الحياتية في بلاده ومع أنها أرغمت نفسها على التركيز على مايقوله المضيف المهذب الا أنها كانت تراقب باستمرار الأهتمام الذي يبديه جايك وهو يستمع الى ما تحدثه به روز.
ماذا تقول له الآن يا ترى؟ ولاحظت فجأة بانزعاج أن رغبتها القوية لمعرفة ما تقوله روز في تلك اللحظات لم تكن الا بداعي الغيرة القوية!
يجب أن تفعل شيئا...أن تبعد تفكيرها واهتمامها عن تلك الغيرة القاتلة. تطلعت الى لوسيان وقالت له:
" هل بالامكان أن اتمشى قليلا في الخارج؟ الطقس جميل جدا هذا اليوم و...بالمناسبة هل مازالت عجلة الطاحونة القديمة موجودة؟ "
هز لوسيان رأسه موافقا وقال:
" نعم لاتزال في مكانها "
ثم تنحنح وأجاب مبتسما:
" يجب أن أحذرك مسبقا بأن العجلة اصبحت شبه محطمة ولكن اذا كان هدفك الخروج الى الطبيعة الجميلة فلم لا نذهب جميعا؟ جايك...هل ترغب في تمرين رجليك قليلا؟ "
ابتسم جايك ورد بلهجة طبيعية وبدون تردد:
" لا مانع على الاطلاق. ما رأيك يا روز؟ "
ربتت روز على بطنها بحنان وقالت معتذرة:
" لا اعتقد ذلك. اني متعبة قليلا. سأنتظركم هنا قرب النار حتى موعد الغداء "
وضع جايك يده في جيبه وقال بهدوء:
" اذن سأبقى كيلا نترك مضيفتنا بمفردها "
شعرت هيلين بانه ينظر اليها ولكنها رفضت التطلع نحوه هز كتفيه غير مكترث وسأل ربة البيت:
" هل تريديني أن ابقى يا روز؟ "
ابتسمت السيدة السمراء بود وحنان واجابته قائلة:
" يجب الا ابقيك بعيدا عن زوجتك الجميلة "
قست ملامح جايك فجأة وقال لها بلهجة جافة الى حد ما:
" لا تدعي هذا الامر يقلقك ايتها العزيزه. هيلين يسرها كثيرا عدم وجودي معها بين الحين والآخر "
نظرت اليه هيلين عندئذ ولما شاهدت ابتسامته الساخرة تعلو شفتيه علقت بمرح ظاهر:
" كم أنت على حق يا جايك "
وشعرت أنها سجلت هدفا في مرماه عندما شاهدت انزعاجه وتململه ولو مؤقتا من وقاحتها وقلة حياتها. أما لوسيان اندانا فقد بدا أنه لا يجد ضيرا فيما يجري اذ أنه أحضر معطف هيلين وساعدها على أرتدائه ثم خرج معها الى شمس الخريف الدافئة. وعندما عادا الى البيت كانت هيلين غارقة في نقاش حول الأمور الثقافية والتعليمية في تلك المنطقة من العالم التي يمثلها في انجلترا هذا الرجل المهذب والمحدث اللبق.



حان موعد الغداء فجلس الضيفان والمضيفان الى المائدة وقام على خدمتهم موجاري الذي شعرت هيلين بأنه يعبر كأحد افراد العائلة. كان الطعام لذيذا وشهيا ولم يخف جايك وهيلين اعجابهما به. أما بالنسبة الى أحاديث المائدة المعتادة فقد كان من حسن حظ الجميع أن بينهم دبلوماسيا يتقن فن الكلام ولباقة الاسلوب ومع أن جايك وجه بعض الجمل والكلمات الى روز الا انه لم يقل شيئا لهيلين لا بل أنه لم ينظر نحوها وشعرت هيلين أن ذلك التصرف يسرها.
بعد الغداء توجه الرجلان الى الغرفة المخصصة كمكتب خاص للسفير ليبحثا المشروع التجاري الجديد كما اعتذرت روز من هيلين وذهبت الى غرفتها لانها بحاجة الى الراحة والاستلقاء على ظهرها بعض الوقت وبما أن هيلين لمتكن تشعر بتعب أو نعاس فقد ارتدت معطفها وذهبت الى بقالة القرية حيث اشترت بعض الحلوى للاطفال الثلاثة وفي اللحظة التي عادت فيها الى المنزل كانت روز تحضر الشاي الى غرفة الاستقبال. سألتها هيلين:
" هل ارتحت جيدا؟ "
ردت روز الابتسامة بالمثل وقالت:
" نعم, شكرا. واكرر اعتذاري يا هيلين لتركك بمفردك هذه الفترة الطويلة. أين كنت؟ "
" ذهبت الى متجر القرية واحضرت بعض الاشياء الصغيرة للاولاد "
" هذا لطف كبير منك يا هيلين. تعالي واجلسي قربي لنتحدث قليلا فهذه فرصة سانحة للانفراد عن الرجال "
ثم ابتسمت وتابعت حديثها بعد أن جلست هيلين على الطرف الآخر للمقعد الكبير:
" اخبرني يا هيلين متى تنويان أنت وجايك البدء بانشاء عائلة؟ "
احمر وجه هيلين بسرعة وردت عليها بتلعثم وصعوبة بالغة:
" أوه! اننا...آه لم نفكر...جديا بعد...بهذا الموضوع "
" ولكنكما متزوجان منذ ثلاث سنوات, أليس كذلك؟ الا تريدين أن تكون لك عائلة؟ "
" طبعا...طبعا أريد. ولكن الوقت...الوقت ليس...مناسبا...حاليا! "
" لماذا؟ "
سألتها روز بدون خجل أو تكلف وقد زاد فضولها الى حد كبير. هزت هيلين رأسها وقد شعرت بأنها محاصرة من جميع الجوانب ولا مفر من اعطاء مضيفتها جوابا شافيا يضع حدا لتلك الأسئلة المتواصلة وذلك الفضول الصريح ولكن بماذا تجيب وماذا تقول؟ اخذت فنجان الشاي الذي قدمته لها روز وأخذت تفكر بعصبية بالغة عما ستقوله روز لو عرفت الحقيقة عن زواجها وجايك. أليس من الممكن أيضا أنها تعرف...وانها لا تستفسر بل تمتحن وتحلل ردود الفعل؟ لا, لا يمكن ذلك! روز ليست من هذا النوع من النساء. أنها أم وتعتبر الأمومة واجبا مقدسا لكل زوجة قادرة وترى أن أي تمنع مقصود مهما كانت أسبابه أمرا غريبا ويدعو الى الأستهجان والاستنكار.
شعرت هيلين بارتياح بارتياح كبير عندما انقذها من حيرتها وحرج موقفها دخول جايك ولوسيان المفاجئ الى غرفة الاستقبال. وبرقت عينا لوسيان عندما شاهد الشاي والكعك وقال بسرور وانشراح:
" ارى أننا وصلنا في الوقت المناسب. تعال يا جايك وتذوق هذه الكعكات اللذيذة. انها من صنع موجاري وموضع فخره واعتزازه. صدق أو لا تصدق"
تقدم جايك بتمهل من الكرسي الهزاز القريب من هيلين بعد أن أخذ كعكة وصب لنفسه فنجان شاي وكان باديا بوضوح أنه يشعر وكأنه في بيته مع أن هذه هي المرة الاولى فعلا التي يزور فيها هذا المنزل. وافاقها من شرود افكارها صوت لوسيان وهو يقول:
" اقترحت على جايك أن يذهب معي في الشهر المقبل لانه يصادف الموعد الذي اجري فيه عادة مشاورات مع حكومتي "
تضايقت هيلين كثيرا عندما سمعت ذلك الاعلان المفاجئ. هذا يعني أن جايك سيتركها مرة اخرى ولفترة قد تستمر...وسمعت روز تسأل زوجها بهدوء:
" وهل تنوي البقاء طويلا يا لوسيان؟ لا أحب أن تكون بعيدا عني عندما يحين موعد ولادتي "
ابتسم الزوج وقال:
" أوه, روز! أنت تعرفين أن الولادة لن تتم الا بعد ثلاثة أشهر من الان. سأعود قبل هذا الموعد بفترة طويلة "
نظرت روز ناحية هيلين وقالت لها متعجبة:
" آه منهم هؤلاء الرجال! دائما يسافرون ويبتعدون! لماذا لا يفكر الرجل بأن زوجته ستكون وحيدة وتعيسة عندما يسافر هنا وهناك؟ "
شعرت هيلين بأن مضيفتها تردد أفكارها وتتفوه بلسانها الا انها لم تقل شيئا بل ظلت جالسة بدون حراك. تطلع بها جايك محدقا وسألها بلهجة الآمر:
" حسنا! أليس لديك شئ تقولينه يا هيلين؟ "
رفعت هيلين حاجبيها وقالت له بلهجة وصوت يدعوان الى الاعجاب نظرا لمشاعر الغضب والانفعال والازدراء التي كانت تضج في رأسها وقلبها:
" أنا متأكدة أن هناك اسبابا هامة تضطرك الى الذهاب مع لوسيان.متى تتوقع البدء بهذه الرحلة؟ "
ابتسم لوسيان بمرح ظاهر وقال لزوجته متشجعا:
" أترين؟ أترين نتائج التدريب الجيد؟ لا اثارةولا انفعال حتى انها لم تعترض بشئ مع أن زوجها سيمضي ستة أسابيع في قارة أخرى! ما رأيك بهذا يا سيدتي؟ "

احمر وجه هيلين غضبا هل هكذا حقا بدا رد فعلها؟ وهل فعلا يعبر لوسيان عدم اعتراضها خضواعا واذعانا كحيوان بيتي مدلل دربه سيده تدريبا جيدا على اطاعته طاعة عمياء؟ اللعنة...لقد اذلها جايك مرة اخرى مع أنه لم يقل شيئا. ولاحظت أنها ليست وحدها التي يغمر قلبها الغضب والانفعال اذ شاهدت روز تهب واقفة لتقول لزوجها:
" لا تقارن بين هيلين وبيني يا لوسيان فهي حرة كالفراشة تذهب وتجيئ متى تشاء وتلتقي بمن تشاء نت الاصدقاء. بينما أنا امرأة حامل في شهرها السادس وأم لثلاثة أطفال اعتني بهمواهتم بشؤونهم ومطالبهم واحتياجاتهم "
تطلع فيها لوسيان مؤنبا الى حد ما وقال:
" ليزا مؤهلة وقادرة على الاعتناء بالاولاد لذلك لست مضطرة للبقاء طوال الوقت في البيت "
انتفضت روز وهي تسأله بانفعال:
" وأين أذهب يا سيد اندانا؟ وكيف يمكنني ارتداء ثياب جميلة وانا في مثل هذا الانتفاخ؟ "
هز لوسيان رأسه وقال:
" كفى يا روز "
كان طلبه كافيا فتوقفت روز عن ابداء أي احتجاجات أو اعتراضات كانت تتفاعل في رأسها وأفكارها. أما هيلين فقد وضعت فنجانها على الطاولة وهي تشارك مضيفتها شعور الاشمئزاز والازدراء الذي تولده هذه الرحلات والتصرفات. خيم صمت مزعج لفترة طويلة ولم يكسر ذلك الجمود الا عندما وقفت هيلين وسألت روز:
" هل يمكنني أن استحم الآن؟ "
فرحت روز كثيرا بسؤال هيلين الذي غير الموضوع المزعج وفتح المجال أمام تناسي الشجار الهادئ الذي جرى قبل دقائق. فاجابتها بسرعة وهي تبتسم بارتياح:
" طبعا, طبعا. موجاري احضر حقائبكما الى الغرفة. هل تذكرين أي غرفة هي غرفتكما؟ "
فرضت هيلين عى نفسها الابتسام قليلا وهي تهز برأسها علامة الموافقة والايجاب ثم خرجت بسرعة من تلك القاعة الكبيرة. الحمام الساخن في هذا الوقت بالذات هو أروع شئ تحلم به لمثل تلك اللحظات. فهي بحاجة ماسة الى الراحة الجسدية والنفسية...الى تنظيف جسمها وشعرها بعد عذاب الامس وأوحاله والى الابتعاد قليلا عن نظرات جايك وأفكاره التي تخجلها وتغضبها وتذلها. وعندما خرجت من الحمام كانت عتمة ليالي الخريف قد بدأت تزحف ثقيلة وقوية لتحل محل ضوء النهار بسرعة ونجاح. وتذكرت أن روز قالت انها وزوجها يتناولان طعام العشاء عادة حوالي الثامنة أي بعد اطعام الاولاد في السادسة وتمضية ساعة تقريبا في اللعب معهم ووضعهم في اسرتهم لذلك فانه لايزال أمامها متسع من الوقت. لفت نفسها بمنشفةحمام كبيرة ورأسها بمنشفة صغيرة وعادت الى الغرفة لتفاجأ بجايك مستلقيا بكسل على أحد السريرين. أحمر وجهها خجلا وأغلقت الباب بسرعة ثم استدارت نحوه غاضبة لتحتج أو تعترض فسمعته يقول بدون أن ينظر اليها:
" تأخرت كثيرا في الحمام "
نزعت المنشفة الصغيرة عن رأسها وعلقتها قرب المغسلة في زاوية الغرفة ثم قالت له ببرود وتهذيب:
" آسفة, لم أعرف أنك تنتظر عودتي لتستخدم الحمام "
" هناك حمامان فلو أردت الاستحمام لاستخدمت الآخر "
ثم حول نظره اليها وقال:
" لا, ليس الحمام هو السبب. انني أنتظرك لأحدثك...على انفراد "
" حقا؟ "
وحملت هيلين فرشاتها وأخذت تسرح شعرها وكأنها لا تشعر بوجوده أو أنها لا تكترث بهذا الوجود. وقد اغضبته هذه اللامبالة اذ قال لها بانفعال:
" اللعنة عليك يا هيلين! نعم, حقا أريد التحدث معك. أريد أن اعرف ماذا حدث معك منذ وصولنا الى هذا المنزل "
ثم هب واقفا وتابع هجومه واستجوابه:
"لا تقولي أنها الرحلة المقترحة مع لوسيان! فأنت تتصرفين بغرابة قبل فترةطويلة من اثارة موضوع الرحلة. اضافة الى ذلك كان عليك توقع مثل هذا التطور منذ البداية "
هل ترميه بالفرشاة أو تقترب منه وتصفعه بقوة! كيف يجلس الآن بهدوء على السرير ويسألها عن غرابة تصرفاتها في حين أنه يجب أن يعرف أن دوافعه لاحضارها الى وايلز تثي شكوكها وريبتها. وقررت مواجهته فسألته بهدوء:
" أنت اخبرني أولا لماذا اصررت على مرافقتي لك في هذه الرحلة بالذات؟ كنت اعتقد في البداية انك كنت ترمي الى اعطاء انطباع جيد عن استقرارك العائلي ولكن من الواضح أنك صديقهما الحميم ولست بحاجة الى هذا الانطباع أو ذاك. فلماذا احضرتني اذن؟ للحماية مثلا؟ "
قفز من السرير غاضبا وهجم نحوها بعصبية فائقة ثم امسكها من كتفيها وسألها صارخا:
" ماذا تعنين بذلك؟ وما هي حاجتي للحماية؟ اجيبي؟ "
فزعت هيلين ولكنها تمكنت من الاحتفاظ برباطة الجأش وشئ من هدوء الاعصاب عندما قالت له بايجاز:
" أنت اجب! "
بردت أعصاب جايك قليلا وقال لها بلهجة شبه عادية:
" ليست لدي أي فكرة على الاطلاق عما تتحدثين أو تفكرين به! "
ارتجف صوتها قليلا هذه المرة عندما سألته شبه هامسة:
" الا تعرف؟ اعتقد أنك ستنكر أي علاقة بمربية الأطفال...ليزا! "
عقد جبينه بقوة وقال:
" ليزا؟ ليزا هاردينغ؟ لا...بالطبع لن أنفي انني اعرفها "

هزت هيلين رأسها وقالت بتأثر:
" أوه, لا...بالطبع لا. كان علي أن أدرك أنك مستعد لمثل هذا السؤال. ان من السخافة بمكان نفي معرفتك لاي انسان في هذا المنزل وقد مضى على وجودنا فيه عدة ساعات! "
" هيلين, بحق السماء! لنصل الى صلب الموضوع "
" ليزا تكرهني يا جايك. كان ذلك واضحا تماما عندما التقيتها هذا الصباح. انها تكرهني الى حد كبير وليس هناك سوى تفسير واحد فقط وهو... "
" رباه, ماذا تقولين؟! "
ثم أمسكها بكتفيها بقوة قائلا:
" حسنا! حسنا! نعم أعرف ليزا وأعترف أني دعوتها الى العشاء والسهرة مرتين أو ثلاث مرات ولكن هذا كان قبل فترة طويلة. ولمعلوماتك فاني أنا الذي أقترحت على لوسيان وروز استخدامها ومنذ ذلك الحين بالتأكيد لم يعد لدي أي اهتمام بها "
تلاحقت أنفاسها بسرعة وهي تقول له:
" وهل تنتظرني أن اصدق ما تقول؟ الواضح أنك...أنك زرت لوسيان وروز عدة مرات في بيتهما في لندن. وهذه هي المرة الاولى...التي أكون فيها معك... "
رفع جايك رأسه الى السماء ثم ركز نظراته على عينيها مباشرة وقال:
" اسمعي يا هيلين...ليزا هاردينغ لا تعني لي شيئا على الاطلاق وهذه هي الحقيقة. أنا لست مضطرا الى الكذب! ثم...انك لا تعيرين هذه القضية اهتماما حقيقيا. كل ما في الأمر أنك تستخدمينها كسلاح ماض كيلا اعترض أنا على تورطك مع ذلك المتزمت الحقير مانرينغ "
رفعت هيلين رأسها بقوة وأجابت بحدة وعفوية:
" انا لست متورطة على الاطلاق مع كيث مانرينغ "
سألها جايك بلهجة قاسية:
" ألست حقا؟ هل تقولين لي أنه لم يطوقك مره بذراعه...أو أنه لم يقبلك مطلقا؟ "
" طبعا لا! طبعا لا! "
" اذن كيف ستتمكنين من ابقائه هكذا معلقا بين الارض والسماء؟ ماذا سيستفيد من هذه الدعوات المتكررة لك؟ "
في تلك اللحظة حل الغضب مكان الخوف والازدراء مكان الاذلال والسخط محل الانكماش والانزواء وصرخت به قائلة:
" قد يهمك أن تعرف أن بالامكان قيام علاقة بين رجل وامرأة بدون أن يون أي شئ ثالثهما أو الوسيط بينهما "
اتسعت عينا جايك وقست ملامحه عندما سألها متضايقا:
" حقا؟ اذن يجب الافتراض بانه ليس بينكما سوى رابط فكري بحت! "
" يمكنك اطلاق هذه التسمية على علاقتنا "
" وماذا يستفيد مانرينغ من مثل هذه العلاقة الفكرية؟ "
" انه لا يحصل على شئ...مادي أو ملموس على الأقل. اننا نكتفي بتبادل الآراء. . . "
لمعت عيناه ببريق مخيف وهو يقاطعها قائلا:
" عوضا عن الاسرة أليس كذلك؟ "
" كل شئ تريد تحويله الى علاقة حسية؟ الا يمكنك أن تتخيل امكانية تبادل ارآ وأفكار بين رجل وامرأة؟ وهل تعتقد أن الرجال وحدهم هم أصحاب الامتياز في بحث أي مواضيع تروق لهم بذكاء وتعمق؟ "
" لا, لا أعتقد ذلك. ولكني أعرف مانرينغ ويمكنني التأكد انه ليس سعيدا بهذه العلاقة العذرية كما تبدين أنت سعيدة بها! ما بك يا هيلين؟ ماذا ينقصه جسمك الرائع هذا حتى لا يمكنك القبول بعلاقة طبيعية سليمة؟ "
" الهذا تعتبر ارتباطاتك بنساء مثل ليزا هاردينغ علاقة طبيعية وسليمة؟ "
تأملها جايك بنهم وقسوة من رأسها حتى أخمص قدميها ثم رفع اصابعه التي كانت غارقة في كتفيها وامسكها في عنقها وتمتم له بصوت اجش:
" لقد تحملت منك ما يكفي "
بلعت هيلين ريقها بصعوبة وقالت بصوت اشبه بالهمس:
" انك تؤذيني...تكاد تخنقني! "
ضاقت عيناه وشعرت هيلين أن نظراته الحادة تخترق عظامها. وسمعته يسألها بهدوء:
" هل حقا أنا أؤذيك؟ "
" جايك! أرجوك...أرجوك! "
" أنك ترتجفين. . . "
وعانقها...ارادت مقاومته..ارادت الفرار من ذراعيه...ارادت أن تثبت له أنها لن تتأثر بهذه الطريقة وهذا الاسلوب ولكن الادعاء والتظاهر كانا بدون فائدة أو جدوى. حملها الى السرير وكانت عينيها مغمضتين. ولكنها عندما فتحتهما بعد قليل وشاهدت عينيه فزعت وخافت. لم تعد عيناه دافئتين ومزعجتين بل اصبحتا باردتين وقاسيتين...وغريبتين تماما عنها. شعرت بموجة عارمة من التحقير والاذلال تغمرها وارادت أن تغمض عينيها مرة أخرى لتعيش ثانية سعادة الدقائق الماضية ولكنها سمعته يسألها بعنف وهو ينتصب واقفا:
" والآن أخبريني...الم يلمس مانرينغ أبدا من قبل؟


هزت هيلين رأسها من جانب الى آخر وهي ترتجف على رغم حرارةجسمها المرتفعة وهمست متعذبة:
" لا...لم يمسني أبدا. لم يمسني انسان آخر قبلك "
حدق بها جايك طويلا ثم سألها بوحشية :
" ماذا تحاولين؟ الى ماذا تهدفين؟ أتحاولين دفعي الى اثبات ما تقولين؟ "
ردت عليه بهلع وخوف قائلة:
" أنا لا أكذب يا جايك, لا أكذب "
" رباه! "
ثم رفع يده الى جبينه وأدار ظهره وغادر الغرفة بدون أن يتفوه بـكلمة آخرى.
ظلت هيلين مستلقية على السرير متألمة حزينة ومتضايقة سلفا من اللحظة التي سيعود فيها جايك لارتداء ثياب نظيفة قبل جلوسه الى مائدة الطعام. وتسارعت الأفكار في رأسها ومخيلتها تحلل دلائل ما حدث بينهما لأول مرة منذ زواجهما. ولكنه كان من المستحيل عليها التوصل الى أي نتيجةعقلية أو منطقية. شعرت بأنها فعلا ولدقائق معدودة كانت تريده كما ارادها! وحتى الآن فمع أنها تشعر بأن جسمها قد جف من كل حرارته وطاقته الا أن المشاعر والاحاسيس التي أثارها قبل قليل لاتزال تهيمن على تفكيرها وجسمها .
يجب أن تنهض من السرير وتعد نفسها لتناول العشاء فآخر شئ في الدنيا تريده في تلك اللحظات هو أن يعود جايك فجأة ويتصور بأنها مستلقية على السرير لا لسبب الا لانتظاره. من المحتمل أن يحتقرها ولكن ليس كما تحتقر هي نفسها...يا للسخرية! هي هيلين فورسايث التي شعرت دائما بالاحتقار نحو أي امرأة ترمي نفسها أمام الرجل الذي لا يريدها اثبتت أنها ليست أفضل من الاخريات.
نهضت من السرير بعزم واصرار لأنها ترفض البقاء مستلقية هكذا لا تفعل شيئا سوى الأنغماس في الاسى والحزن و...الشفقة على النفس. ولأن آخر شئ ينتظره جايك منها هو المجابهة فانه سيحصل منها على مفاجأة كبيرة. انها لن تدع الأمور تسوء باعطائه أي سبب للأعتقاد بأنها تلومه عما حدث بينهما. سوف تتصرف معه وكأن النصف ساعة الأخيرة كانت خيالا وليس حقيقة...كأنه لم يكن أبدا.
ولذا امضت وقتا طويلا في التبرج والتزيين وتسريح الشعر ولبست أجمل ما لديها من ثياب وحلي وعندما تفحصت نفسها أمام المرآة قبل نزولها الى قاعة الاستقبال لاحظت أنها لم تكن مرة واحدة في حياتها بمثل هذه الروعة والسحر. ولذلك شعرت أنها قادرة على التظاهر بمظهر الواثق من نفسه مع أن هذا الشعور كان أبعد شئ عنها في ذلك الوقت بالذات.
لم يكن جايك قد عاد الى الغرفة عندما بدأت تنزل الدرجات التسع التي تؤدي الى القاعة الرئيسية ومع أنها كانت متضايقة من قرب اللقاء الا أنها كانت متحمسة لمراقبة رد فعله وهو يشاهدها في تلك الحالة الاخاذة. وعندما وصلت الى غرفة الاستقبال لم تجد سوى ليزا هاردينغ التي كانت ترتدي عباءة خضراء جميلة. دهشت ليزا لرؤية هيلين الا أن الضيفة عقدت العزم على التصرف بشكل طبيعي فحيت الفتاة بمودة وسألتها:
" أين البقية؟ "
ضمت ليزا ذراعيها بتكاسل واضح وضوح العداء الذي تظهره لها بدون خوف أو خجل وردت عليها بتهذيب:
" الجميع مع الأطفال. السفير والسيدة اندانا يمضيان عادة هذا الوقت من المساء مع الاولاد ويبدو أن زوجك وجد الوقت الكافي للانضمام اليهما. أنه يحب الأطفال كثيرا "
هزت هيلين رأسها ثم تمتمت موافقة وأخذت تجول بنظراتها في أنحاء الغرفة في محاولة للمحافظة على رباطة جأشها والسيطرة على أعصابها.
" هل أحضر لك شيئا؟ أنا متأكدة من أن السيدة اندانا لن تعترض على ذلك "
تردد هيلين قليلا ثم قالت:
" لا شكرا...هل تحبين العمل مع عائلة اندانا؟ "
" كثيرا. جايك هو الذي حصل لي على هذه الوظيفة "
دهشت هيلين من وقاحتها ولكنها حافظت على هدوئها وقالت:
" نعم. نعم أخبرني بذلك "
سألتها ليزا مشككة:
" هل حقا أخبرك بذلك؟ أوه اني اعرف جايك منذ سنوات عديدة. أنا من ليدز وقد التقينا في أحد الحفلات هناك قبل عشرة أعوام "
" منذ عشر سنوات؟ "
سألتها باستغراب واضح فهي لم تكن نفسها آنذاك قد بلغت الخامسة عشرة من عمرها.
" نعم. وأعرف والدته أيضا "
تطلعت هيلين حولها وهي ستفكر بما ستقول أو ستسأل ولكنها سمعت ليزا تسألها:
" اخبريني يا سيدة هوارد الا تشعرين أبدا بالضجر؟ "
" الضجر؟ ولماذا أشعر بالضجر؟ "
هزت ليزا كتفيها وهي تقول:
" جايك يمضي أوقاتا طويلة في الخارج ويتركك...وحدك. الا تشعرين أحيانا برغبة في الحصول على وظيفو ما؟ "
" أوه اعتقد أحيانا أنني أشعر بالملل. وأقوا أحيانا لانني اقرأ كثيرا...أذهب الى المسارح...الى المعارض الفنية. أظن أن وقتي منظم بطريقة لا تترك لي مجالا للشعور بالضجر "
ابتسمت ليزا وقالت بتهكم:
" من بين كل النساء اللواتي كن زوجات محتملات لجايك لم يختر الا زهرة برية مثلك! "
نظرت اليها بتمعن وقالت لها بهدوء بالغ:
" أظن أنك وقحة جدا يا آنسة هاردينغ "
هزت ليزا كتفيها غير مكترثة وقالت:
" لا يهمني ماذا تظنين. كان جايك أن يكون أكثر وعيا وواقعية. وأمه توافقني تماما الرأي "
رفعت هيلين حاجبيها استغرابا:
" هل هذا حقا هو رأيها؟ في أي حال الأمهات لا يخترن زوجات أبناهن أليس هذا صحيحا؟ انك يا آنسة تتجاهلين حقيقة هامة جدا وهي أن جايك رجل يعرف تماما ما يريد. ولا يمكنني بالتالي أن اتصوره يقدم على أمر لا يريده الا توافقيني الرأي يا آنسة؟ "
احمر وجه ليزا وردت عليها بانفعال:
" أنه أراد اسمك وحسبك ولم يردك أنت كأنت "
أرغمت هيلين نفسها على توجيه ابتسامة ساخرة وقالت بلهجة تعمدتها لاذعة وقاسية:
" ربما كان ذلك صحيحا في وقت من الاوقات يا ليزا. ولكن هل تعتقدين انه لا يزال صحيحا حتى الأن؟ "
وكان تحريك شفتيها بذلك الاسلوب الساخر الى حد ما كافيا لجعل الفتاة الاخرى تضم قبضتها حنقا وغضبا. ولاحظت هيلين بسرور انها أختارت الطريقة الصحيحة والمناسبة لصد هجوم ليزا وردها على أعقابها. ثم مررت يدها بمكر وخبث على جسمها وسألتها بلهجة المنتصر المسامح:
" اخبريني يا ليزا هل تعتقدين أن هذا النوع من القماش يناسبني؟ "
تأففت ليزا بسخط وغادرت الغرفة على عجل. وعندها تنهدت هيلين بارتياح فائق فعلى الأقل خرجت من تلك المواجهة البسيطة منتصرة ورابحة. آه كم تتمنى الفوز بجولات مماثلة مع جايك!
خلال دقائق قليلة دخل لوسيان وروز وحيا هيلين بمودة وسرور فسألتهما:
" هل أصبح الأولاد على استعداد للنوم؟ "
ابتسم لوسيان وأجابها مازحا:
" ليزا ستتولى أمرهم فهي دائما صاحبة الكلمة الأخيرة معهم "
وقبل أن تفتح هيلين فمها لتسأل المزيد عن الأطفال ومربيتهم دخل جايك وكان حليق الذقن ويرتدي بزة سهرة داكنة وقميصا زرقاء وربطة عنق مناسبة. وارتجفت هيلين وهي تتأمل أناقته وسحره وجاذبيته. انه رجل بكل ما في الكلمة من معنى! تطلع نحوها بلا مبالة تقريبا ولكنها شعرت أثناء العشاء أنه يوجه اليها بين الحين والأخر نظرات الفضول وحب الاستطلاع. ترى ماذا سيقول لها عندما سينسحبان الى غرفتيهما ويصبحان بمفردهما؟ وقالت لنفسها بأصرار انها لن تكون قادرة على تحمل المزيد من احتقاره لها.
لم تنضم ليزا اليهم وأوضحت روز لزوجها وضيفيها أن المربية فضلت تناول العشاء في غرفتها مع أنها تلقت دعوة للانضمام اليهم. ارتاحت هيلين لسماع الخبر فعداء ليزا أمر غير مستحب ويسعدها بالتالي عدم وجودها معهم.
بعد العشاء أعتذر الرجلان وانسحبا الى مكتب لوسيان بحجة أنهما سيلعبان الشطرنج. وظلت هيلين مرة أخرى وحدها مع روز ولكن لحسن حظها جذب برنامج في التلفاز انتباه روز فأنساها اسئلتها الشخصية المحرجة. ومضت ساعات الليلة متثاقلة ومتكاسلة وشعرت هيلين بأنها تعاني المزيد من الضيق

والأنزعاج. وبعدما شربت القهوة التي احضرها موجاري حوالي العاشرة استأذنت مضيفتها للذهاب الى غرفتها. وبدت روز بدورها أكثر استعدادا للذهاب هي أيضا الى غرفتها. وقالت وهي تهز رأسها:
" آه منهم هؤلاء الرجال! انهم لا يسألون عنا أو يهتمون بنا على الاطلاق "
ولكنها ضحكت وهي تطلق هذا الاتهام الكبير فعلمت هيلين أنها لمتكن جادة في كلامها. ابتسمت لها متمنية ليلة مريحة ونوما هنيئا وصعدت الى غرفتها.
وهناك ارتدت ثياب النوم وقفزت الى سريرها. ولكنها شعرت بالتأكيد أنها لن تتمكن من النوم بسبب الأمور الغريبة والمتعددة التي حملها ذلك النهار. وفعلا لم تنم...أخذت تفكر برحلة جايك المرتقبة مع لوسيان وبحديثها مع ليزا هاردينغ وتصرف جايك الهادئ طوال المساء وأهممن ذل كله...تصرفه قبل بضع ساعات في غرفة النوم! وتنهدت بصوت مسموع. هل من الممكن أن تكون هي المسؤولة عما حدث في هذه الغرفة؟ اثارته فرد عليها بأسلوب اثبت لها بما لا مجال للشك انها لم تعد غير مكترثة أو مهتمة به!
تقلبت في السرير عمدا وحاولت طرده من تفكيرها ولكن جميع محاولاتها باءت بالفشل. ركزت انتباهها على صوت الريح يصفر بين الشجر...صوت الجدول المتدفق...صرخة طائر ليلي وفجأة سمعت أصوات أبواب تفتح وتغلق فعلمت أن كلا من لوسيان وجايك في طريقه الآن الى غرفته. توقفت تماما عن الحركة وعندما فتح باب الغرفة اخذت تتنفس بعمق كي يظن انها نائمة ولكن جايك اضاء النور الموجود بين السريرين. فتحت احدى عينيها نصف فتحة فلاحظت أنه بدأ يخلع ثيابه. اغمضت عينيها بقوة مرة أخرى وانتظرت أن يطفئ النور ويصعد الى سريره.
اطفأ النور بعد لحظات فتنهدت بارتياح. ولكنها شعرت انه يتوجه نحو سريرها بدلا من سريره واحست بأنه يقف قربها ويراقبها في الظلمة. ظلت ساكنة الحركة بعض الوقت ولكن تسارع انفاسها فضح تظاهرها بالنوم.
" ابتعدي قليلا "
شهقت هيلين وشعرت أن قلبها توقف عن الخفقان. قالت له متلعثمة:
" سرير...سريرك...هناك! "
رد عليها بصوت أجش:
" هذا هو سريري "
ولم ينتظر منها تعليقا أو اذنا بل رفع الغطاء واندس تحته قربها و......
وعندما اتى الصباح وغمر نور الشمس الذهبي أ رجاء الغرفة كان جايك قد ذهب.
فقط سريره الذي لم يمس كان شاهدا على أنه امضى الليلة...معها...في سرير واحد.
8- فراغ الحب


تحركت هيلين متكاسلة ونظرت الى ساعتها لتجد انها تجاوزت العاشرة والنصف. نزلت بسرع من سريرها وتوجهت الى الحمام حيث استحمت وعادت الى الغرفة لترتدي سروالا ضيقا وقميصا فوقه سترة رقيقة. وتوجهت الى غرفة الاستقبال لتجد موجاري وحدة يغذي المدفأة بقطع خشب جديدة.
حياها بابتسامة مهذبة بعد أن احنى رأسه قليلا علامة الاحترام للسيدات. ترددت قليلا ثم سألته:
" أين الجميع يا موجاري؟ "
قطب جبينه قليلا وقال:
" السيدة روز في المطبخ والسيدان لوسيان وجايك في الخارج "
ثم ابتسم مرة اخرى وهو يسألها:
" هل تريدينني أن ابلغ السيدة روز بقدومك؟ "
" لا داعي لذلك يا موجاري فها أنا هنا "
ودخلت روز القاعة بهدوء ثم قالت موجهة حديثها الى هيلين:
" سمعت أصواتا فعلمت أنك استيقظت أخيرا يا عزيزتي. يبدو أنك نمت جيدا. جايك طلب منا عدم ازعاجك "
احمر وجهها بسرعة ملحوظة ولكن روز اكتفت بهز اصبعها في وجه ضيفتها مازحا وهي تقول:
" لا تبدأي بتقديم اعتذارات لي. أنا افهم الوضع تماما صدقيني "
ثم أطلقت ابتسامة عريضة ومضت تقول:
" جايك رجل جذاب للغاية وأنا يمكن أن اقع في شباكه "
لم تعرف هيلين بماذا تجيب ولكنها حاولت الظهور بمظهر عادي وطبيعي فسألت مضيفتها بهدوء:
" أين هما لوسيان وجايك الآن؟ "
فتحت روز ذراعيها كمن يجهل الواقع وقالت:
" ذهبا في نزهة قصيرة للتفرج على القرية كما قالا. أنا شخصيا اعتقد أنهما يتحدثان مرة اخرى عن مشروعهما التجاري. لوسيان متحمس جدا لاقامة معمل من معامل مؤسسة هوارد في ضواحي عاصمة بلادنا لأنه يؤمن عددا كبيرا من الوظائف لعدد كبير من الاشخاص كما أن بلادنا ستجني منه أموالا هي بأشد الحاجة اليها بالاضافة الى المكانة المرموقة التي ستحظى بها بين جاراتها "
هزت هيلين برأسها بدون أن تعي شيئا لأن تفكيرها كان في مكان آخر وقالت:
" آه هكذا! وهل أخبرك لوسيان متى يتوقعان مغادرة لندن؟ "
هزت روز كتفيها وقالت:
" خلال الأيام القليلة المقبلة على ما أعتقد. لماذا تسألين؟ الا تريدين أن يسافر جايك مرة آخرى وخلال هذه الفترة القصيرة أيضا؟ "
حتى الآن لم تجرؤ على التفكير بما تريد. لم تكن تعرف ابدا ماذا سيحدث. كيف يمكنها شرح مخاوفها وتشنجاتها لروز التي من الطبيعي أنها تفترض أن زواج جايك وهيلين طبيعي وسليم! انها تعرف شهرة جايك لدى النساء اللواتي يطالبنه بأي شئ. واكثر من ذلك لم يقل لها أنه يحبها. قال لها أنه...يريدها ولكن الامرين مختلفين الى حد كبير. ولبضع لحظات سمحت لنفسها بتذكر الساعات القليلة الماضية التي امضتها بين ذراعي جايك. كانت تلك بالنسبة اليها اكتشافا على الطبيعة لما يمكن ان تكون عليه العلاقة بين رجل وامرأة. لم تحلم من قبل أنمثل هذه الافآق يمكن الوصول اليها أو أن جاي يمكن أن يكون صبورا الى هذا الحد ليدربها على التخلي عن جمودها و...احمر خداها مرة أخرى وهي تتذكر. وكانت روز تراقبها باهتمام بالغ ثم قالت لها:
" من الواضح انك لا تريدينه أن يذهب. لماذا لا تصحبينه في هذه الرحلة؟ "
حدقت بها هيلين وهي شادرة الذهن وسألتها:
" " ماذا قلت؟ "
" قلت اذهبي معه. لم لا؟ لست مضطرة للبقاء في انجلترا أليس كذلك؟ ليست لديك أي ارتباطات أو التزامات أليس هذا صحيحا؟ "
" صحيح ولكن. . . "
توقفت لحظة ثم تابعت كلامها بتردد:
" ولكن...لا أدري! لا أدري! "
هزت روز كتفيها مرة أخرى وقالت:
" لو كنت مكانك لما ترددت لحظة واحدة لولا هذا. . . "
وربتت بحنان على بطنها واضافت:
" لولا هذا لذهبت مع زوجي بدون تردد "
" هل كنت تذهبين حقا؟ "
وعندما شعرت بأن تساؤلاها في غير محله اضافت بسرعة:
" ولكنك ستذهبين الى بلادك...الى موطنك "
رفعت روز حاجبيها وقالت:
" نعم. ولكني أتيت معه الى هنا. لم اكن مضطرة لذلك. كان بامكاننا أن نظل في العاصمة حيث نعيش. كان ممكنا أن اظل هناك مع الأطفال يأتي لوسيان لزيارتنا بأنتظام "
" ولكن زوجك سفير! يجب عليك أن تكوني معه "
تنهدت روز وقالت:
" ربما نعم وربما لا! ولكني لا أرضى بابتعاده عني! "
ابتسمت هيلين. آراء روز بسيطة وعادية جدا ولكن لم يكن لديها أي فكرة على الأطلاق عن المصاعب والمضاعفات التي كانت تواجهها طوال السنوات الثلاثة الماضية.
عاد الرجلان وقت الغداء وكانت هيلين وحدها في قاعة الجلوس في حين ذهبت روز الى المطبخ لتشرف على اعداد الطعام. دخل لوسيان أولا وهو يفرك يديه بسرعة لتحريك الدماء في الأصابع الباردة. وحيا هيلين بمرح قائلا:
" اسعد الله أوقاتك أيها الجمال النائم! متى استيقظت؟ "
ردت عليه هيلين بهدوء وهي تتوقع دخول جايك بين لحظة واخرى:
" حوالي العاشرة والنصف "
" العاشرة والنصف! يا للفضيحة "
وأخذ يعلق ضاحكا على موضوع النصيحة المشهورة التي تدعو الى النوم باكرا والنهوض باكرا. وفجأة دخل جايك الغرفة نظرت اليه هيلين بأعصاب متوترة ولكنها لم تتمكن من قراءة أفكاره أو فهم أي شيئ من خلال نظراته أو ملامح وجهه. انه ينجح دائما في اخفاء مشاعره ولا يفسح مجالا للتكهن أو الاستنتاج. وشعرت بألم حاد يعصر قلبها وفؤادها. كم كانت سخيفة عندما تخيلت أن ما حدث بينهما الليلة الماضية يعني شيئا خاصا ومميزا بالنسبة اليه! ابعدت نظرها عنه وركزت انتباهها على يديها اللتين وضعتهما على ركبتيها بانفعال وتأثر.
ذهب لوسيان لمساعدة زوجته فتوترت أعصاب هيلين. ماذا سيفعل الآن؟ ماهي التعليقات اللاذعة أو الباردة التي سيطلقها في اللحظة التالية؟ ماذا...؟ ولكن جايك لم يقل شيئا على الفور بل أشعل سيكاره وسار نحو المدفأة وأخذ يراقبها بهدوء واهتمام. وعندما لم تقل شيئا أو حتى لم تنظر اليه تأفف بانزعاج ظاهر وقال لها بانفعال:
" هيلين...يجب أن اكلمك "
ولكن في تلك اللحظة بالذات دخلت ليزا غرفة الجلوس وابتسمت بحرارة لجايك قائلة:
" جايك! واخيرا عدت! السيدة اندانا قالت انك ذهبت في نزهة مع زوجها. يبدو أنني لم أشاهدك الا قليلا خلال هذه العطلة الاسبوعية "
هز جايك كتفيه متظاهرا عدم الاهتمام واجابها بلهجة عادية جدا:
" كانت زيارة قصيرة هذه المرة. لم نصل الا حوالي وقت الغداء أمس وسنذهب فور الانتهاء من تناول طعام الغداء بعد قليل "
ابتسمت ليزا بغنج ودلال وقالت:
" أوه جايك! ولكن ستأتي لزيارتنا مرة أخرى في لندن أليس كذلك؟ لم نتحدث عن الأيام الماضية منذ زمن طويل "
" عن اذنكما "
قالتها هيلين وهي تهب واقفة وقد شعرت فجأة بصداع قوي يضرب مؤخرة رأسها. وعلى الرغم من محاولة جايك الامساك بذراعها فقد تخلصت منه وهرعت الى الغرفة حيث القت نفسها على السرير بدون أي اعتبار لثيابها الانيقة أو لأي شيئ آخر. وتمنت في تلك اللحظة لو أنها...تموت! ولكن ما هي الا دقائق معدودة حتى أرغمها صوت روز على العودة الى الواقع. كانت ربة البيت تناديها لتبلغها بأن الغداء جاهز. فلابد عليها من النزول الى القاعة ومحاولة التصرف بشكل طبيعي وعادي.
بدا لها وكأن الغداء لن ينتهي. ولكن بعد شرب القهوة شعرت بسعادة بالغة عندما شاهدت موجاري ينقل الحقائب الى السيارة. تصافح الرجلان وقال لوسيان بحرارة:
" جايك سررت جدا بحضورك. سأتصل بك صباح الاثنين ان شاء الله عندما أعود الى لندن ونتفق عندئذ على التفاصيل النهائية للرحلة "
" حسنا يا لوسيان. الى اللقاء يا روز وشكرا جزيلا لكما "
" الى اللقاء يا جايك. الى اللقاء يا هيلين. لا تسرع كثيرا يا جايك بحق السماء "
تحركت السيارة بتمهل وظلت هيلين تلوح بيدها حتى غاب المنزل عن ناظريها. وعندها استرخت هيلين في مقعدها ووضعت يدها على جبينها بعد أن اغمضت عينيها وقررت الاستراحة لبعض الوقت. انها مرهقة نفسيا ومتوترة الاعصاب نتيجة الجهود المضنية التي بذلتها للتصرف بشكل طبيعي.
قاد جايك السيارة عدة كيلو مترات بدون أن يتفوه بكلمة واحدة ولكنه بمجرد وصوله الى الطريق الرئيسي قال لها:
" الآن يمكننا التحدث أليس كذلك؟ "
هزت هيلين رأسها متضايقة وسألته بلهجة باردة جدا :
" وهل هناك شئ نتحدث عنه؟ "
شتم جايك بصوت هامس ثم قال لها:
" توقفي عن التظاهر بالغباء يا هيلين أنت تعرفين تماما ما يجب التحدث عنه...ليلة أمس! "
تنهدت هيلين وقالت بتردد:
" أنا...أنا أفضل عدم...الخوض في حديث كهذا ان لم يكن لديك أي مانع. . ."
قاطعها بقساوة قائلا:
" بلى أمانع...بربك يا هيلين اعطني على الأقل فرصة للأعتذار "
حدقت به بضياع ورددت كلمته الأخيرة كالصدى:
" الاعتذار؟ "
" نعم اللعنة عليك الاعتذار! رباه لا أدري ماذا اصابني! وحتى عندما وجدت...انك فعلا لم تشعري من قبل...لم أتمكن من تركك بمفردك "
وشد بقوة على مقود السيارة وتابع لامه قائلا:
" لا أعرف هل ستصدقين أن هذا الأمر لن يتكرر أبدا في المستقبل! "
التقطت هيلين أنفاسها وقالت له:
" جايك أرجوك! توقف عن تحويل ما حدث الى قضية عالمية! أنا...أنا لست طفلة. أنا زوجتك وكنت...كنت اعرف...ما أقوم به "
" هل كنت تعلمينن؟ حقا تعلمين؟ لا تزعجي نفسك بمحاولة التخفيف عن شعوري بالذنب والضيق...أنا اعلم انني حيوان حقير ولكن صدقيني أنا لست فخورا بما حدث "
" أرجوك! هذه سخافة! لا داعي أبدا لهذه. . . "


تطلع بسرعة الى وجهها المتعب وقال:
" لماذا لا تشتمينني أو...أي شيئ آخر من هذا النوع؟ أني استحقه. لماذا تواجهين الأمر بهذه الامبالاة الكريهة والمزعجة؟ "
حولت نظرها بسرعة عنه تفاديا لنظراته الثاقبة. انه يعتقد أنها لا تكترث! أوه يا الله لوكان بامكانها فقط أن تشعر هكذا لكانت أرتاحت!
وخيم الصمت بينهما فترة طويلة. وعندما وصلا الى الطريق العريض الواسع اطلق جايك لسيارته العنان وما هي الا فترة قصيرة حتى أقتربا من ضواحي المدينة.
كانت السيدة لايتمر في استقبالهما عندما وصلا الى المنزل وسألتهما انهما تناولا العشاء. هز جايك رأسه نفيا وهو يقول:
" لا لمنتعشى بعد. ولكنلا تزعجي نفسك باعداد أي شئ لي. أنا...أنا سأخرج من لبيت بعد قليل "
توترت أعصاب هيلين فجأة. انه ذاهب. الى أين سيذهب؟ وأرادت أن تطالبه بعدم الخروج من البيت...بالبقاء معها...! ولكنها بالطبع لم تتمكن من التفوه بأقوال كهذه بل اكتفت بتوجيه كلام هادئ الى مدرة المنزل:
" وأنا أيضا يا سيدة لايتمر لا تعدي لي شيئا على الاطلاق. اعتقد...اعتقد انني سأنام باكرا. ربما بعض القهوة والفاكهة "
ذهبت مدبرة المنزل لتحضر ما طلبته سيدتها فيما ظل جايك واقفا بتردد في منتصف القاعة. كان قد أوصل الحقائب الى غرفتي نومهما وعاد يقف بدون حراك وهو يتأملها بدقة وتفحص ثم قال لها بهدوء:
" ان التعب والارهاق باديان عليك...اني آسف "
" أوه توقف عن هذه السخافات! "
قالتها بصوت مرتفع ومنزعج ثم أدارت وجهها عنه وهي تقول:
" بحق السماء يا جايك أذهب واتركني وحدي "
حدق بها جايك وهو لا يدري ماذا يفعل وقال:
" هيلين لا تدعي هذا...يفسد الأمور. . . "
" يفسد الأمور؟ ماذا تقول؟ يفسد الأمور؟ "
وتعمدت صبغ صوتها بألوان التأنيب والتجريح عندما اجابت بعصبية واضحة:
" يفسد أي أمور؟ وهل هناك أي امور يفسدها هذا...الشئ الذي تتحاشى ذكر اسمه أو وصفته؟ بربك يا جايك! في أي زمن تعيش؟ تخيل ما قمنا به على أنه. . . "
" هيلين هذا يكفي "
كانت نبرته آمرة وقاسية ولكن هيلين تابعت هجومها:
" يكفي ماذا؟ يكفي التحدث بتعقل عن أمر يحدث كل يوم بظروف أقل غرابة؟ جايك أنك متزمت جدا لم أكن لاصدق أنك متزمت الى هذه الدرجة! "
" هيلين! توقفي! "
وامسك بكتفيها يهزها بعنف ويقول :
" لا تظني بأنك ستخدعينني بمثل هذه التصرفات! أنا أعرف أكثر من غيري فداحة عملي. كل ما أريده الآن هو أن اكون بمفردي "
ابتعدت هيلين عنه خطوتين وقلبت شفتها قائلة:
" افعل ما تريد فأنا غير مهتمة "
" ماذا ستفعلين أنت؟ "
" أنا؟ "
كانت هيلين تكافح أنهيار دموعها بصعوبة بالغة ثم اضافت قائلة:
" ابلغت السيدة لايتمر انني سأنام باكرا "
احنى جايك كتفيه وقال:
" وهل يمكنني الوثوق بأنك ستكتفين بذلك؟ "
" ولم لا؟ فليست هناك أشياء كثيره يمكنني القيام بها الان "
سرح جايك شعره بأصابع يده وهو يفكر بأمر ما. وشعرت أنه يبدو أصغر من سنه وأقل تحصينا مما يظهره. طردت تلك الفكره السخيفة بسرعة وقوة من رأسها فجايك هوارد يعيش ضمن قلعة حصينة لا يمكن اختراقها.
" حسنا ان كنت متأكدة من انك ستكونين على ما. . . "
رفعت هيلين رأسها بعزم واصرار وقاطعته قائلا:
" طبعا أنا متأكدة! أوه, أوه بالمناسبة! متى ستذهب في رحلتك مع لوسيان؟"
" يوم الأربعاء على الأرجح لماذا؟ الا تريدينني أن أذهب؟ "
مدت هيلين يدها بطريقة تدل على عدمالاكتراث وقالت بلهجة تعمدت فيها الاذلال الى حد ما:
" لا يهمني أبدا ما تفعل "
وكأن تلك الجملة القاسية كانت كافية فقد استدار عنها وخرج من الباب ثم اغلقه وراءه بعنف.


* * * *

كانت هيلين تحلم وكان حلمها مزعجا ومرعبا. انها تركض على طريق موحل والمطر ينهمر بغزارة. وجهتها مزرعة مورغان...ولكنها عندما أقتربت من المكان لاحظت أنه ليس المزرعة بل بيتها في حي كيرسلاند وكأن قوة خارقة نقلته كما هو الى مقاطعة وايلز. توقفت ووضعت يدها على جبينها وأخذت تحدق مذهولة! سيارة جنيفر كانت هناك...تملكها شعور بالغيرة والأنزعاج.
صعدت درجات السلم راكضه ودخلت القاعة وعند ذلك سمعت أصوات ضحك وقهقهة نسائية تصل من الغرف العليا. صعدت الدرج الداخلي بمهل وهي خائفة مما ستجده أو ستواجه به! ومع ذلك فقد كانت تدفعها رغبة جامحة في معرفة الحقيقة. فتحت باب غرفة جايك فجأة...فكان هناكومعه امرأة! وعندما أستدارت المرأة نحوها صعقت هيلين! لم تكن جنيفر...بل كانت ليزا هاردينغ!
" لا! لا! لا! "
انبهت هيلين لنفسها وهي تصرخ بعنف وعذاب غير مصدقة في حين كانت ليزا تهزها وتهزها بقسوة ووحشية. . .
" هيلين! هيلين! مهلا, مهلا! أنت بخير. لا تخافي! أنت هنا...في البيت "
فتحت هيلين عينيها بصعوبة وكان الضوء الأصفر ينير وجه رجل يهزها برفق وحنان لايقاظها. كانت تتنفس بانزعاج وكأنها تكاد تختنق...أو انها كانت تركض أو تقوم بعمل مرهق. وكان وجها مبتلا بالدموع الحارة. اغمضت عينيها وفتحتهما على نحو غير ارادي عدة مرات ثم همست بصوت خافت بعد أن لاحظت ملامح جايك القلقة:
" ماذا...ماذا حدث؟ ما المشكلة؟ "
رفع جايك رأسها قليلا ووضع وسادة اضافية تحته لترتاح بطريقة أفضل. ثمجلس قربها وقال لها وهو يبعد خصلات من شعرها المبتل الى وراء اذنها:
" كنت تحلمين ومما لا شك فيه أنه كان كابوسا مزعجا للغاية. ظننت للوهلة الأولى أن لصا دخل غرفتك "
ولاحظت أن ابتسامته ونظراته كانت أرق وأنعم من أي وقت مضى. وضعت يدها على رأسها وقالت باعتذار:
" اني...اني آسفة! لم...لم يحدث معي من قبل أمر كهذا "
" اعرف. ربما كان هذا نتيجة لتلك الطلة الاسبوعية اللعينة "
ثم هز رأسه وسألها برقة:
" هل أنت بخير الآن؟ "
" نعم...أعتقد ذلك "
كانت عيناها تأكله...تحبه...تراقب أدنى حركه يقوم بها. انه زوجها...ورجلها...وحبيبها. ثم...وقف جايك فجأة وقال لها:
" اذن سأذهب. تصبحين على خير يا هيلين "
" أنتظر! "
قالتها بلهفة وهي ترفع نفسها على مرفقها. ثم امسكت بيده قائلة:
" جايك...لا تذهب "
اندفع الدم الى خدي جايك بقوة وقال:
" اعتقد أنك قلت أن كل شئ اصبح على ما يرام وأن. . . "
وعندما لاحظ تلك النظرات الخاصة في عينيها الزرقاوين الحالمتين تابع حديثه بعد أن غير لهجته قليلا:
" بحق السماء يا هيلين! انك لا تعرفين ما تطلبين "
" بل أعرف "
ورفعت يده الى شفتيها ولكنها سحبها بقوة ومشى بسرعة نحو الباب. لم يتطلع وراءه بل خرج من الغرفة وهو يغلق الباب بقوة. وتردد صدى عميق عمق الفراغ الذي كانت تمر به مشاعرها في تلك اللحظات بسبب رفضه لها. . .


* * * * *


لم تكن محطة السكك الحديدية في سلبي المكان المفضل بعد ظهر ذلك اليوم البارد من أيام الخريف الأخيرة. وكانت هيلين تحمل حقيبة صغيرة وبعد أن اعطت تذكرتها الى الموظف المسؤول غادرت المحطة وأوقفت سيارة أجرة. اعطت السائق المهذب عنوان والدة جايك واستراحت في زاوية المقع الخلفي تتمتع بالدفء وتنتظر الوصول الى ذلك العنوان الذي حصلت عليه نتيجة لبعض المراسلات القليلة بينهما.
من أو ماذا وضع في رأسها فكة الاستعانة بوالدة جايك! هل هو ربما تصرف جنيفر...انها لا تدري فعلا. كل ما تعرفه أنها استيقظت هذا الصباح وكان رأسها يضج بشعور مزعج ينذر بالسوء. وتذكرت بألم ماذا حدث معها في الليلة السابقة واجتاحتها موجة من الاذلال القاسي نتيجة رفض جايك الفوري لها. وعندما لاحظت أنه غادر المنزل شعرت بارتياح كبير. خلال فطورها الذي اقتصر على القهوة والسجائر حاولت هيلين جاهدة تقييم موقفها بأسلوب علمي وموضوعي فتوصلت الى نتيجة واحدة فقط...لا يمكنها بع الآن أن تعيش مع جايك تحت سقف واحد لأنها تعرف أنه يحتقرها...ولأنها تخشى أن يخلق لها ضعفها تجاهه مزيدا من الاذلال والتحقير. طبعا هناك احتمال التقدم منه بطلب الطلاق...هذه نتيجة يمكن التوصل اليها بشئ من السهولة. الطلاق في بلادها لم يعد بمثل الصعوبة التي كان عليها في السابق. كما انه لا يهمها من منهما سيعتبره القاضي مذنبا بحق الآخر كي يتم الطلاق.
ولكن اذا تم الطلاق بسرعة فعليها أن تجد لنفسها مكانا تقيم فيه. أين؟ ومع من؟ فكرة تحولها الى انسانة وحيدة منزوية على نفسها كانت مرعبة ومزعجة. ولكنها لا يصح ان تتوقع منه الأهتمام بها أو رعايتها. فهي انسانة صحيحة الجيم والعقل وليس هناك من سبب منطقي يمنعها من ايجاد عمل تعيش من دخله.
تذكرت رحلته المقترحة الى افريقيا. لو كان بامكانها فقط أن تتجنبه تماما لحين عودته فانها قد تتمكن من السيطرة على أعصابها وتتناسى طلب الطلاق أو الانفصال. أما الأن فشعورها هو أنها غير مستقرة عاطفيا...غير قادرة على تحمل المزيد من الاذلال أو الجدل والشجار. اتصلت بجنيفر وابلغتها بما تنوي القيام به. اصيبت جنيفر بصدمة حقيقية ولكنها لمتتمكن من مساعدتها بشئ لأنها لمتكنلديه أدنى فكرة عن التفاصيل الفعلية للوضع القائم.
" ولكن يا عزيزتي أنت تعرفين جايك وتصرفاته منذ سنين! لماذا القرار المفاجئ بالطلاق؟ كنت أعتقد دائما بأنك غير مهتمة بما يفعل "
بلعت هيلين ريقها بصعوبة وقالت لصديقتها ذلك الصباح بكلمات مختارة بعناية:
" ربما لأنني لم أعد اتحمل مثل هذه العلاقة الاصطناعية! ربما لأنني أريد...زواجا حقيقيا...عائلة "
" رباه هيلين! ماذا تقولين؟ لا يمكن أن تكوني جدية "
" لم لا؟ "
" لم لا! لأنك يا حبيبتي لست من هذا الطراز. لا يمكنني ابدا أن أتخيلك تقبلين ضرورات الأمومة الأقل جاذبية وسحرا! تخيلي نفسك وأنت حامل!...دعيني
اسألك أيتها العزيزة من يريد تمضية تسعة أشهر وهو يزيد قباحة على قباحة يوما بعد يوم واسبوع بعد اسبوع وشهرا بعد شهر! "
وتذكرت هيلين وهي نصف نائمة في سيارة الاجرة أن اصابعها شدت بقوة على سماعة الهاتف عندما سمعت تلك الكلمات الحاقده وأنها كانت على وشك أن تصرخ بها قائلة:
" أنا...نعم أريد ذلك...ما دمت أنني أحمل طفل جايك "
ولكنها لم تقل شيئا من هذا النوع وسمحت لجنيفر أن تستمر في محاولة أقناعها بالعودة الى عقلها ومنطقها. ثم اقفلت الخط وظلت مدة طويلة تحدق في سماعة الهاتف الصماء. وبعد لحظات خطرت في بالها فكرة الذهاب الى سلبي بلدة جايك التي ولد وترعرع فيها. تنهدت هيلين بشئ من التحسر والاستغراب فطوال السنوات التي أمضتها معه لم تزر هذه البلدة مرة واحدة من قبل. كيف ستستقبلها والدته يا ترى؟ أنها لم توافق أصلا على زواجه منها ولذلك كان من الطبيعي أن تسر برؤيتها هناك وهي على وشك الانفصال عنه. ولكن هل يمكن لوالدته أن تشعر بقلق هيلين من أن جايك قد يحاول ايجادها في لندن واقناعها بالعودة اليه؟ وهل من الممكن أن تفهم السيدة العجوز أنها الآن أكثر استعدادا بكثير لتلبية هذا الطلب فيما لو قدمه اليها وهي بمثل هذه الحالة من الضعف والأنزعاج؟ وهل ستساعدها على الاختفاء في بيتها لحين وصول جايك الى افريقيا وبالتالي منحها فترة شهرين تقريبا لاعداد حياة جديدة لنفسها؟
كانت السيدة لايتمر تنظر اليها بغرابة ذلك الصباح وخاصة بعد أن خرجت من البيت وهي تحمل حقيبة في يدها. ابلغتها بانها ذاهبة الى المستشفى للتبرع ببعض الكتب ولكنها شهرت أن مدبرة المنزل لم تصدقها. الا انه لم يعد بامكانها القيام بأي ترتيبات اخرى الآن باستثناء التأكد من أن أحدا لم يسمعها وهي تعطي سائق سيارة الأجرة اسم محطة السة الحديدية في كنغز كروس.
عا بها تفيرها الى الوقت الحاضر عندما انتبهت أنها اصبحت على مقربة من المكان الذي تسكن فيه والدة زوجها. أخذت تقرأ اسماء الشوارع وأخيرا برز الاسم الذي تنتظره...هاريسون تيراس. وهاهي السيارة تتوقف خلال لحظات وتنزل هيلين متأملة البيت الصغير الضيق الذي ولد فيهجايك فيما كان السائق يحمل حقيبتها ويضعها أمام الباب.

ضغطت هيلين جرس الباب وأخذت تنتظر السيدة العجوز بقلق وترقب متوتر. وماهي حتى لحظات وفتح الباب وأطلتمنه سيدة في السبعين من عمرها.
" نعم؟ "
قالتها بلطف وهي تفتح الباب بهدوء وروية ثم شهقت وهي تضع يدا على فمها وهي تتمتم:
" رباه! هيلين...أليس كذلك؟ ما المشكلة؟ ما الخبر؟ هل وقع حادث؟ هل جايك مريض؟ "
هزت هيلين رأسها بقو قائلة:
" لا, لا لم يحد شئ من هذا. جايك بخير...ولكنه لا يعرف انني هنا "
عقدت السيده هوارد جبينها محتارة ومستغربة ثم تراجعت خطوتين الى الوراء قائلة:
" اذن اعتقد من الأفضل أن تدخلي! "
" شكرا لك "
اغلقت ربة البيت الباب الخارجي ثم فتحت آخر في نهاية الممر وهي تقول:
" يمكننا الجلوس هنا "
كانت نلك الغرفة على ما يبدو المكان المخصص لاستقبال الزوار الذين ليسوا مقربين الى صاحبة المنزل. وهي غرفة نظيفة جدا ومرتبة جدا ولكنها باردة لا حياة فيها ومن الواضح أنها لا تستعمل الا نادرا.
دهشت هيلين وقالت لها:
" أوه أرجوك أنا متأكدة من أنك لم تكوني جالسة هنا قبل وصولي. الا يمكن أننذهب الى هناك؟ "
ترددت السيدة العجوز وسألتها بصراحة:
" وهل حديثنا سيطول؟ "
تنهدت هيلين وقالت:
" نعم أخشى ذلك "
عضت والدة جايك شفتيها بتململ وقالت بتذمر ولهجة تحمل شيئا من الضغينة:
" أوه حسنا. لنذهب الى المطبخ. أنه بالتأكيد أفضل مكان من حيث الدفء "
كان المطبخ واسعا كالغرفة الاخرى وفيه مدفأة جميلة وكرسيان هزازان. اشارت السيدة هوارد لهيلين كي تجلس على أحد الكرسيين ثم قطبت حاجبيها عندما لاحظت على ما يبدو أن زوجة ابنها تحمل حقيبة سفر في يدها وقالت:
" سأغلي الماء الآن "
ابتسمت هيلين وجلست في ذلك الكرسي المريح بعد أن خلعت معطفها وعلقته الى جانبها. وشعرت فجأة بأنها منهكة ومرهقة وبأن تلك الغرفة المليئة بالدفء والحياة هي أفضل مكان في العالم. أحست بأنها آمنة هنا...ومطمئنة أيضا. عادت السيدة هوارد ووقفت أمامها تفرك يديها بتردد وشك ثم سألتها:
" والآن يا صبيتي! ماذا في الأمر؟ "
تنهدت هيلين وقالت لها بتهذيب:
" ألن تجلسي أنت أيضا؟ "
" لا بأس...حسنا أخبريني الآن ما بك
فكرت هيلين لحظة بأفضل بداية لحديثها ثم قالت:
" في بداية الأمر يجب أن أخبر أن جايك وأنا مقبلان على الطلاق "
" ماذا؟! "
قالتها السيدة الرصينة باستغراب وعصبية ثم مضت الى القول:
" ولكنه لم يقل لي أي شئ بهذا الخصوص "
" لا ولكن...تقرر هذا الأم بصورة مفاجئة...في الحقيقة ان جايك لم يوافق تماما. . . "
" ماذا تقولين يا هيلين؟ كيف يمكنك الحصول على الطلاق ان لم يكن جايك موافقا؟ "
" بالفعل يا سيدة هوارد أنا التي تريد الطلاق وهذا قرار نهائي. أنت تذكرين بلا شك أنك لم توافقي في المقام الأول على زواجه مني. كنت على حق يا سيدتي اننا لا نناسب بعضنا مطلقا "
تمتمت السيدة هوارد بكلمات غير مفهومة ثم نهضت لاعدادا الشاي وسألتها:
" ولكن لماذا حضرت الى هنا؟ "
رطبت هيلين شفتيها الجافتين وقالت بتردد:
" ليلة أمس...ليلة أمس حدث...شجار عنيف بيننا. خرجت...خرجت من البيت اليوم...لأني اريد أن أكون خارج لندن الى أن يسافر الى تسابا واعرف أنه لن يفكر أبدا في البحث عني...هنا "
" تسابا؟ "
وعادت السيده هوارد ومعها الشاي ثم سألت مرة أخرى:
" وما هي تسابا هذه؟ "
" دوله افريقية صغيرة يعرف جايك سفيرها في لندن "
قطبت العجوز جبينها لحظة ثم قالت:
" أوه نعم, نعم. أليس اسمه اندانا أو ما شابه؟ انه هو الذي وظف جايك ليزا هاردينغ مربية أطفال لديه "
شعرت هيلين بألمحاد في أمعائها وكأنها طعنت بالسكين. ثم ارغمت نفسها على الرد ولو بصوت مخنوق ومتقطع:
" هذا...صحيح. و...ثم...جايك سيسافر الى تسابا يوم الأربعا على ما أعتقد. فاذا...اذا كان بامكاني...البقاء هنا...لحينمغادرته لندن. . . "
" البقاء هنا؟ "
قالت بدهشة واستغراب بالغين واضافت متسائلة:
" ولكن لماذا هنا؟ من المؤكد أن لك أصدقاءك الذين يمكنهم استضافتك أليس كذلك؟ أنا لم اسمع في حياتي بمثل هذا الأمر! تأتين الى بيتي وتطلبين مني أن أقف الى جانبك ضد ابني! "
ازاحت هيلين فنجان الشاي وقد عيل صبرها ثم ردت بسرعة وعصبية:
" لا, لا ليس الأمر هكذا على الأطلاق. الا ترين! كنت أعتقد أنك ستفرحين "
" لماذا؟ لأن ابني على وشك الأنهيار؟ "
" زواجه مني أنا نعم "
ردت السيدة العجوز بشئ من التأثر:
" كنت أعتقد أن جايك سعيد في زواجه. كان دائما يبدو لي مرتاحا ومسرورا كلما اتى الى زيارتي "
وقفت هيلين فجأة وقالت بعصبية:
" اذن فانك لن تساعديني "
وقفت والدة جايك أيضا بهدوء وروية:
" اهدأي يا ابنت أنا لم أقل أبدا كلام كهذا...ولكن كيف تتوقعين الحضور الى هنا وتفجير مثل هذه القنبلة ولا تحصلين على رد فعل مطلقا؟ بحق السماء يا هيلين نحن لسنا من طبقتكم اللندنية الارستقراطية. هنا في سلبي الزواج يعني أكثر بكثير من مجرد اسطر قليلة على ورقة صغيره! "
احتجت هيلين بسرعة قائلة:
" انه يعني أكثر من ذلك بالنسبة لي أيضا ولهذا أريد الطلاق "
هزت ربة البيت رأسها بتعجب قائلة:
" ولكني لا أفهم. كان لدي دائما أنطباع بأنك تزوجت جايك لأنه...لنقل لأنه يضمن لك حياة لائقة طوال العمر فماذا حدث الآن؟ هل برز شاب أخر يقدم عرضا أفضل؟ "
تضايقت هيلين من هذا السؤال فخجلت السيدة المسنة وقالت:
" حسنا, حسنا اني أسحب كلامي. ولكن عليك الأعتراف بأنك لم تكوني تحبين جايك عندما تزوجته "
جلست هيلين في كرسيها وقالت:
" اعرف ذلك. واعتقد انني تزوجته للأسباب التي ذكرتها قبل لحظات. ولكني أخترته أيضا لسبب خاص جدا...وهو ترويع أقرباء والدي واغضابهم "
ثم رفعت رأسها نحو والدة جايك ومضت تقول:
" عزلوا والدي ونبذوه لأنه لم يكن مثلهم. انهم متزمتون جدا ومن المدرسة الارستقراطية القديمة. جايك كان يمثل النقي التام لكل معتقدات عمي وأفكاره البالية. وهذا هو أحد الأسباب الأساسية لقبولي الزواج منه "
" هكذا اذن! "
وجلست صاحبة البيت أيضا وتنهدت وقالت:
" ولكنك الآن تريد الحصول على حريتك مرة أخرى؟ "
بلعت هيلين ريقها بصعوبةوقالت:
" يمكنك قول ذلك "
" اذن لماذا لمتنتظري ذهابه الى تسابا؟ من المؤكد أن يومين فقط لن يحدثا فرقا كبيرا بعد فترة تزيد عن ثلاث سنوات؟ "
" لا! لا! "
كررتها هيلين بعناد واصرار ثم مضت الى القول بتأثر وانفعال:
" كنت...كنت مضطرة للذهاب. أنا آسفة ولكن...لم يكن ثمة مجال آخر "
وقفت السيده هوارد مرة آخرى وأخذت فنجان الشاي متجنبة الى حد كبير النظر الى وجه هيلين الشاحب الحزين. وعندما عادت كانت هيلين سيطرت على اعصابها وخف انفعالها. تأملتها والدة زوجها مليا ثم قالت لها فجأة:
" يمكنك البقاء...استخدمي غرفة جايك فهو لن يحتاج اليها "
هبت هيلينواقفة وقد لمعت عيناها فرحا وسرورا وقالت:
" أوه شكرا لك! شكرا جزيلا "
هزت السيدة العجوز رأسها بأسى وقالت:
" لا تشكريني. أنا لا أعلم هل أقوم بخطوة سليمة أم لا...من الواضح أنك متضايقة جدا الآن وغير قادرة على مناقشة الموضوع بهدوء وروية. تعالي سأريك الغرفة ثم سأعد القليل من الطعام "
هزت هيلين رأسها بدون أن تتفوه بكلمة واحدة. اعجبتها السيدة هوارد. ففي طريقة تصرفها وسرعةحسمها للأمور شئ من القوة واعادة الطمأنينة. وهي مثل جايك من حيث أن لا وقت لديها للتظاهر أو الادعاء.
9- العسل يذوب الليلة


انفجرت الآنسة فرايزر باكية في حين كان جايك يضع مرفقه على مكتبه الخشبي ويسنده رأسه الى يده مفكرا. وبعد تأمل الفتاة بانزعاج هادئ تنهد بضجر وتململ قائلا:
" لا بأس يا آنسة فرايزر, لا بأس. سنعيد الكرة مرة آخرى. هل وصلت الى موضوع التحاليل الكيميائية؟ "
هزت برأسها علامة الايجاب فتابع حديثه بهدوء:
" عظيم لنبدأ اذن من هذا الموضوع "
تفحص الأوراق الموجودة أمامه وعاد يملي عليها بتمهل نص مذكرة هامة يريد ارسالها ذلك اليوم. سكرتيرته ليندا هولند كانت غائبة واضطر بالتالي استدعاء سكرتيرة مساعدة. ومع أن شيلا فرايزر موظفة قديرة وذات مؤهلات جيدة الا أنها ليست بمقدرة ليندا. ولسوء حظها كان جايك يريد أنهاء عمله ومغادرة مكتبه على عجل وبالتالي لم يكن قادرا على تحمل الأخطاء المتكررة. كان يكرر الجملة القصيرة عدة مرات وأسماء المواد الكيميائية بصبر وأناة. ولكنه تضايق كثيرا في احدى الفترات وصرخ بها مؤنبا ومتبرما فانهمرت الدموع غزيرة من عينيها.
عندما انهى جملته الأخيرة أزاح أوراقه بعصبية قائلا لها:
" دعي السيد ماينوارينغ يوقع المذكرة ويرسلها قبل الظهر. ستكونين قادرة على قراءة اختزالك, أليس كذلك؟ "
وقفت شيلا فرايزر حزينة مستاءة وأجابته بصوت خافت:
" أعتقد...أعتقد ذلك يا سيد هوارد. هل هذا كل شئ يا سيدي؟ "
كان شارد الذهن ويفكر بأمور أخرى. وفجأة انتبه لنفسه وقال:
" ماذا؟ أوه, أوه! نعم, نعم هذا كل شئ. يؤسفني أنني اسأت اليك "
ابتسمت الشابة بارتياح ظاهر وقالت:
" لا بأس يا سيد هوارد. شكرا "
هز جايك رأسه واخذ يراقبها الى أن خرجت من الباب المؤدي الى غرفة سكرتيرته واغلقت الباب وراءها. ثم نهض فجأة وتوجه الى نافذة مكتبه الفسيح التي تطل على احدى الساحات العامة في المدينة. استداربعد قليل وراح يتأمل ذلك المكتب الفخم بشئ من الانقباض والأنزعاج. مساحة كبيرة وأنارة مدروسة, سجاد أزرق داكن وأثاث من خشب الماهوغاني المحفور, وأجهزة اتصال سلكية ولا سلكية من أحدث ما توصل اليه العلم. انه ذروة ما يجب أن يكون عليه مكتب كبار رجال الأعمال في العالم. وكان جايك يفخر بهذا المكتب ويعتز به. أما اليوم فما من شئ يسره أو يفرحه. أنه متضايق جدا جسديا ومعنويا...أوجاع رأسه الحادة ليست نتيجة للساعات الطويلة التي امضاها مستيقظا ليلة أمس ولكن لشعوره بأن ثمة شيئا يريده وبدا انه ليس في متناول يده. السلطة, القوة, المركز, النجاح, المال...كلها كانت اهدافا سعى اليها. وحصل عليها الا هذا الشئ!
شتم بصوت عالي والقى بنفسه مجددا على كرسيه متأثرا ومنفعلا. اغمض عينيه بقوة محاولا طرد الصور والتأملات التي كانت تضج في رأسه ومخيلته... ولكندون جدوى. جايك هوارد الذي كان يعتز دائما بانه قادر على مواجهة أي انسان ومعالجة أي مشكلة جعل من زواجه قضية متشعبة لا يمكن تحليلها أو حلها. حاول أن يفهم لماذا لم يدرك أبدا ما كان يحدث له ومعه الا عند فوات الآوان! عندما عاد من الولايات المتحدة ووجد أن هيلين كانت تسهر مع كيث مانرينغ غضب وثار. ولكنه اعتقد أن الأمر أقتصر على ذلك وأن القضية لمتكنأكثر من شعور بالغضب. لم يحلم أبدا أن مسألة كتل كان يمكن أن تشكل منطلقا لعذابه المؤلم الذي يسميه الناس غيرة. ولكن الأمر ازداد وضوحا مع مرور الأيام والأسابيع وتأكد له أن حياته كلها تهزها تلك القوة البدائية المسماة غيره. كان يرفض تلك الفكرة كليا آنذاك. ولكن لماذا؟ كانيتصور دائما أن هيلين متحفظة وباردة وغير مبالية للنواحي الأخرى للزواج. ولكنمشاعره هو بدأت تتحول تدريجيا وبطريقة تتعارض تقريبا مع رغبته وارادته. بدأ يلاحظ انه يراقبها, يريدها, يحتاج اليها. وازدادت تلك المشاعر الى درجة لم يعد يتمكن معها من التصرف بطريقة عقلية ومنطقية. غير أن هذا كله لا يبرر تصرفاته. ما من شئ يبرر مثل هذه التصرفات.
في العطلة الاسبوعية انفجر كل شئ ووجد نفسه في وضع لا يمكن التخلص منه. اعماله وتصرفاته قطعت الخيط الرفيع والضعيف الذي كان يربط أي علاقة يمكن المحافظة عليها. ولما تذكر اللوم والتوبيخ اللذين شاهدهما صباح الأمس في عينيها تجدد احتقاره لنفسه وندمه لتصرفاته. اغرق وجهه بين يديه انفعالا عندما تذكر خوفها ليلة أول أمس. أي كابوس مرعب كان ذلك الذي جعلها تصرخ أثناء نومها؟ لاشك أنه كان الوحش الذي ارعبها وأفزعها! ومما هو أسوأ من ذلك كله انه لم يكن قادرا على البقاء حتى عندما توسلت اليه خائفة ومذعورة. كان يعرف تماما انه لم يعد يثق بنفسه بعد الآن عندما تكون هي صاحبة العلاقة.
هز رأسه بعنف وهب واقفا بعصبية بالغة. لم يعد قادرا على البقاء في المكتب. يريد الذهاب الى البيت الى هيلين ليحاول أن يشرح لها ما دفعه لدق اسفين في العلاقة بينهما.هل بامكانه يا ترى أن يفهمها أن تورطها مع مانرينغ يؤذيه ويقض مضجعه؟ وانه بالرغم مما حصل في السنوات الثلاثة الماضية فقد وقع في حبها وأصبحت حياته بدونها تافهة ولا تعني له شيئا على الاطلاق!.
وتذكر بعض النساء اللواتي تعرف عليهن في حياته وعض على شفته سخطا وغضبا. منذ عودته الأخيرة الى لندن لم يعاشر امرأة اخرى حتى أنه لم ينظر الى امرأو اخرى بهذا الهدف. وهاهو جايك هوارد المغامر الجذاب يجد قلبه عالقا فجأة في الشباك ذاتها التي عاهد نفسه على عدم الأقتراب منها أو التورط بها.
نزل في المصعد وكان يرد على تحيات موظيفه المهذبة بطريقة شبه آالية. قاد سيارته بنفسه الى بيته بحي كريسلاند وابتسم بفتور عندما شاهد أزهارا جديدة في الاناء الزجاجي الجذاب الموجود في مدخل القاعة الرئيسية للبيت. وحضرت السيدة لايتمر بمجرد دخوله وابتسمت له بتهذيب وهي تحييه قائلة:
" أهلا يا سيدي. أتيت باكرا اليوم! "
" أهلا بك يا سيدة لايتمر "
وتطلع بسرعة الى ساعة يده الذهبية فلاحظ أن الوقت لم يتجاوز الثانية عشرة بكثير. ثم سأل مدبرة المنزل بتبرم:
" أين زوجتي؟ "
" السيدة هوارد ليست في المنزل يا سيدتي. خرجت حوالي العاشرة "
وتنهد بعصبية فم عاد يسألها :
" هل أخبرتك أين ذهبت؟ أو في أي وقت تعود؟ "
" كانت تحمل حقيبة سفر يا سيدي. قالت أنها آخذة بعض الكتب القديمة الى المستشفى. . . "
قاطعها جايك بعصبية وقد شعت عيناه ببريق حاد:
" أي كتب؟ وأي مستشفى؟ "
" لا أعلم يا سيدي. شاهدتها وهي خارجة فقالت لي ما قلته لك الآن "
" رباه! رباه! "
رفع يديه وأخذ يفرك جبينه وصدغيه بقوة وعصبية. وأخذت مشاعر الترقب والقلق تزحف بسرعة وكثافة الى رأسه وأفكاره وشعر باحساس غريب...وبأنه مريض.
" هل أحضر لك الغداء يا سيدي أم. . . ؟ "
" الغداء! الغداء! لا أريد شيئا على الاطلاق "
ولما لاحظ قلقها وتألمها رق قلبه وقال لها:
" حسنا, حسنا. سأكتفي بثلاث قطع صغيرة من الجبنه والقليل من الخبز المحمص "
" كما تريد يا سيدي "
اخذت معطفه الذي كان قد القاه لدى وصوله بدون أكتراث على مقعد بجانبه وعلقته في المكان المخصص له ثم ذهبت الى المطبخ لاعداد الوجبة الخفيفة. أما جايك فظل واقفا بعض الوقت دون حراك ثم رفع سماعة الهاتف فجأة وبدأ يطلب رقم جنيفر. ردت خادمتها فطلب منها أبلاغ سيدتها بأنه على الهاتف.
" جايك يا عزيزي ما أروع هذا الاتصال! هل تريد دعوتي على الغداء؟ أنا جاهزة "
انتظر جايك الى أن انتهت من ضحكتها ثم قال لها بلهجة جادة:
" هل تعرفين أين هيلين؟ "
" هيلين؟ هيلين؟ أليست معك؟ "
أجابها بشئ من الحدة:
" هل كنت اتصل بك لو كانت معي؟ "
" لا طبعا لا. آسفة يا عزيزي. وبالنسبة الى هيلين أيضا فأنا لا أعرف أين هي. هل اضعتها؟ "
تمالك نفسه وحد من غضبه عندما اجابها:
" يبدو ذلك "
" يا للغرابة! "
قالتها بلهجةوكأنها تريد الايحاء بشئ ما. فسألها بسرعة:
" وماذا يعني ذلك؟ "
" ماذا تعني يا عزيزي؟ "
" اعني ذلك الأسلوب الايحائي بقولك يا للغرابة. ماذا تقصدين من وراء تلك اللهجة؟ "
" أوه, لا شئ "
ثم اضافت قائلة وكأنها تتعمد اثارة فضوله وحب الاستطلاع لديه:
" هناك...هناك بعض الأمور "


شعر جايك بغضب عارم وبأنه كان سيخنقها بيديه المتشنجتين لو كانت قربه. وسألها بعصبية:
" وما هي هذه الأمور؟ "
" مجرد أمور حدثتني بها هيلين هذا الصباح "
" هل أتصلت بك هيلين هذا الصباح؟ "
" نعم يا عزيزي الم تخبرك؟ "
رد عليها جايك منفعلا وقد عيل صبره:
" لم اكنهنا هذا الصباح. في أي حال ماذا قالت لك؟ "
" لست أدري ما اذا كان علي ابلغك بالامر يا عزيزي. اعني...أنها ربما لا تريديني أن اكشف لك هذا السر "
" جنيفر انني أحذرك. . . "
ضحكت بغنج ودلال وقاطعته بنعومة مزعجة:
" أوه يا جايك كم أحب تلك اللهجة الآمرة في صوتك "
ثم تنهدت واستعادت جديتها عندما قالت له وكأنها تفجر قنبلة في وجهه:
" في الحقيقة. قالت أنها...تفكر بالانفصال عنك "
لم يصدق ما سمعته أذناه فقال في ذهول:
" تفكر بماذا؟ "
" بالانفصال عنك أيها الحبيب. أنا أيضا أصبت بالدهشة "
شعر جايك بأن حدة غضبه تتصاعد وتتزايد واراد أن يعرف السبب فسألها:
" وهل قالت لك لماذا تريد الانفصال؟ "
ردت جنفير بلهجة من لا يعرف الحقيقةتماما:
" لا ليس تماما يا عزيزي. اعتقد انها كانت تشعر بالانهيار.يبدو لي أن تمضية العطلة الاسبوعية في وايلز لم تفدها كثيرا. ماذا حدث هناك؟ هل كانت عطلة مملة جدا؟ "
شد على سماعة الهاتف وكأنه يريد تحطيمها بين اصابعه وقال:
" ربما "
ثم أشعل سيارة وسألها بلهجةجافة نوعا ما:
" اذن ليس لديك أي فكرة عن مكان وجودها, أليس كذلك؟ "
" لا أبدا...أبدا...الا اذا...الا اذا... "
" الا اذا...ماذا؟ "
" الا اذا كانت في...منزل كيث! "
" مانرينغ؟ مانرينغ؟ "
كرر ذلك لاسم الكريه بسخط واشمئزاز وشعر بأن الألم يزداد في رأسه وسمعها تقول بخبث:
" انه مجرد أحتمال يا عزيزي. انها...مولعة به أليس كذلك؟ "
رد عليها ببرودة أعصاب فائقة:
" هل هي حقا؟ لا علم لي بذلك "
فوجئت بجوابه الهادئ والبارد فقالت لهمشككة معلومتها:
" جايك لا تعتمد على كلامي. اعني انها...ربما ذهبت الى مزين الشعر. أليس ذلك ممكنا؟ "
شاهد جايك السيدة لايتمر تعود بوجبته الخفيفة فتنهد وقال لجنيفر:
" نعم, نعم. أعتقد أنها هناك "
" ستخبرني عندما تعود أليس كذلك؟ "
لم يجب على الفور فتمتمت:
" جايك...جايك! هل سمعت؟ "
" نعم, نعم. حسنا سأخبرك يا جنيفر. وداعا "
وأقفل الخط قبل أن تغريه نفسه بمواصلة الحديث أو قول شئ لا يريده. وضعت مدبرة المنزل الصينية على طاولة صغيرة أمام المدفأة وهمت بالخروج من القاعة ولكن جايك انتبه لمشاعر القلق المنطبعة على وجهها فسألها:
" هل أنت متأكدة تماما أن السيدةهوارد لم تقل أين ذهبت؟ "
نعم يا سيدي. ولكن لا داعي للقلق فهي كثيرا ما تتناول طعام الغداء في الخارج "
قطب جايك جبينه وسألها بايجاز:
" ومع من؟ "
" مع السيدة سانت جونز معظم الوقت ومع...مع السيد مانرينغ بين الحين والاخر "
" أوه نعم! مانرينغ "
وتحولت لهجته الى السخرية الناجمة عم الألم والغضب ثم سألها:
" اخبريني يا سيدة لايتمر ما هو باعتقادك مدى العلاقة القائمة بين السيدة هوارد والسيد مانرينغ؟ "
صعقت السيدة لايتمر وبدت عليها الدهشة والاستغراب فتمتمت:
" أوه, أوه سيدي. . . "
رفع جايك حاجبيه الاسودين وسألها متبرما:
" حسنا؟ "
" أنا لست في مركز يخولني بالتحدث بامور كهذه يا سيدي "
" هذا صحيح ولكن يجب أن تكون لك آراؤك الخاصة بك...اذن؟ "
كان جايك مصمما بعناد وقسوة على معرفة الجواب بغض النظر عن حدود المثل والقيم الاخلاقية التي يتخطاها. اجابته السيدة لايتمر بجدية:
" انها لا تكاد تعرفه يا سيدي "
" عندما كنت في الولايات المتحدة هل امضت زوجتي أي ليلة خارج المنزل؟ "في ويلتشاير فقط يا سيدي مع السيد والسيدة سانت جون وتركت لي آنذاك رقم الهاتف في حال اتصالك من الخارج "
" حسنا "
والقى جايك بنفسه على مقعد قريب وهو يهز برأسه من شدة الألم ثم سألها:
" اذن فأنت تعتقدين انها لا يمكن أن تكون هناك "
" أين يا سيدي؟ "
" مع مانرينغ "
بدا الذهول والرعب على وجهها وقالت:
" مع السيد مانرينغ يا سيدي؟ بحق السماء يا سيدي لماذا تعتقد انها قد تكون هناك؟ "
" لا أعرف, لا أعرف. رباه انني متعب جدا "


لماذا اذن لا ترتاح الآن يا سيدي؟ بامكاني ابلاغ السيده هوارد لدى عودتها. . . "
قاطعها رنين جرس الهاتف وقبل أن تبدأ بالتحرك كان جايك قد هب واقفا وركض باتجاه المدخل.
" نعم؟ هوارد يتكلم "
" جايك! اهذا أنت؟ لوسيان معك "
" أوه, أوه لوسيان! نعم, نعم! هل من شئ يمكنني القيام به؟ "
قلق لوسيان من لهجته وتردده فسأله بجدية:
" هل لديك مشكلة يا رجل؟ "
" لا....لا, لا شئ "
" حسنا ان كان هذا ما تقوله. اتصلت بك الآن لابلغك أن سكرتيرتي اعدت تذاكر السفر والحجز وما شابه. سنغادر لندن ان شاء الله في السابعة من صباح الأربعاء و. . . "
تنهد جايك مقاطعا:
" اسمع يا لوسيان...لا أدري ان كان بامكاني التقيد بهذا الموعد "
" ماذا؟ ماذا؟ انك لن تتخلى عن مساندتي في هذا المشروع يا جايك؟ "
" لا, قطعا لا! ولكن اسمع...ما رأيك لو انتدبت مارتندايل لمرافقتك في هذه الرحلة؟ "
" ولكني كنت أعتقد أنك متحمس لمشاهدة المكان المخصص للمعمل بنفسك؟"
" كنت متحمسا...وما زلت. ولكن أمرا ما طرأ فجأة "
" أمر أهم من مشروعنا؟ "
" نعم يا لوسيان انه في غاية الأهمية. هيلين...اختفت "
" ماذا؟ "
" قلت أن هيلين. . . "
" سمعتك...سمعتك. ولكن لماذا؟ ما الأمر؟ "
تطلع جايكحوله ليرى ما اذا كانت السيدة لايتمر تصغي الى حديثه ولكنها كانت قدتوجهت الى المطبخ عندما رد بنفسه على الهاتف .
" لا يمكنني أن اشرح لك الموضوع الآن. أسمع...سأتصل بمارتندايل وأطلعه على القضية "
أجابه لوسيان بدهشة:
" لا يا جايك لا يمكنك اطلاعه على كافة التفاصيل خلال يومين فقط! لا يا جايك لا تتعب نفسك بدون جدوى. سألغي الرحلة في الوقت الحاضر اذ يمكنتأجيلها لمدة أسبوعين أو أكثر بك تأكيد. ولكن بالنسبة الى هيلين...هل من شئ يمكنني المساعدة به؟ "

" لا شئ على الاطلاق. ولكن شكرا يا لوسيان. انني أقدر لك اهتمامك وشعورك "
" لا شكر على واجب يا جايك "
ختم جايك الحديث بجملة تقليدية مهذبة ثم أقفل الخط وصعد مباشرة الى غرفته. حل ربطة عنقه قائلا لنفسه أن حماما سريعا ربما انعشه وساعده على التفكير بروية ومنطق.وفجأة وقع نظره على رساله موضوعةعلى وسادته. اخذ الورقة وفتحها بهدوء وحذر. كانت رسالة وجيزة للغاية:
(( لم أعد اتحمل بعد الذي حدث. لا تحاول ايجادي. سأتصل بك عندما أجد مكانا اقيم فيه.هيلين. ))
قرأ جايك هذه الكلمات القليلة مرتين ثم مزق الورقة بعصبية فائقة وهو يحدق بأسى خارج النافذة. اخذت كلماتها تضج في رأسه كقرع الطبول. لا يمكن أن تتحمل البقاء معه بعد ما حدث بينهما! كان يجب أن امرأة عصبية المزاج مثل هيلين لن تقبل أي أعتذار يقدمه. فهو بالنسبة اليها رجل متسلط يأخذ ما يريد بغض النظر تماما عن المضاعفات المحتملة. وبالتالي فهي لن تثق به بعد الآن.
رمي ربطة عنقه على الأرض بدون اكتراث أو اهتمام ثم خلع بقية ثيابه ودخل الى الحمام ليقف فترةطويلة تحت زخات المياه الساكنة التي كانت تصب بقوة فوق رأسه وجسمه على السواء. وبعد ساعة كاملة خرج جايك من الحمام وهو يشعر بكثير من الراحة الجسدية والنفسية. ومع ذلك فقد ظل رأسه يعاني أوجاعا حادة وكانت افكاره قلقة على هيلين ومكان وجودها.
ارتدى ثيابه ونزل الى القاعة الرئيسية وقد صمم على مواجهة كيث مانرينغ. فبغض النظر عما اذا كانت هيلين متورطة معه أم لا فانه شعر برغبة قوية لمعرفة ما قالته هيلين لكيث عن زواجها منه.
كان كيث في مكتبه عندما دخل جايك. فابدى انزعاجه قائلا بشئ من التململ:
" ليس لدي متسع من الوقت. والدي يتوقع حضوري خلال. . . "
قاطعه جايك بتهذيب قائلا:
" ما اريد قوله لا يستغرق وقتا طويلا. هل شاهدت هيلين منذ عودتنا من وايلز؟ "
" وايلز؟ لم أعرف حتى انكما ذهبتما الى وايلز "
" حسنا, حسنا. سأقبل ذلك "
ثم اشعل سيكارةوسأله بصراحة وبرودة أعصاب:
" اخبرني اذن ماهو بالضبط مدى اهتمامك بزوجتي؟ "
احمر وجه كيث ضيقا واجابه بشئ من الحدة:
" كنت أتصور انك تعرف. اننا صديقان وهذا كل ما في الأمر. صديقان حميمان "
" وليست لديك أي خطط آخرى لما هو أبعد من مجرد الصداقة؟ "
رد عليه كيث بتشنج:
" انها متزوجة منك يا يسد هوارد! "
نفخ جايك دخان سيكارته عاليا وهو يتصنع قلة الأكتراث وضبط الأعصاب. ثم مد ذراعه فجأة وأمسك بقميص كيث وجره نحوه بعنف وقسوه. احتج مانرينغ وهو يحاول الافلات من قبضة مهاجمه:
" لا يمكن أن تأتي. . . "
" يمكنني أن افعل ما أريده واذا علمت أنك وضعت يدك على زوجتي فأنني سأمزقك اربا. هل أوضحت لكموقفي بما فيه الكفاية؟ "
أفلته فجأة كما كان قد أمسك به فجأة. وترنح كيث قليلا قبل أن يستعيد توازنه ويقول لجايك بانفعال:
" يمكنني الادعاء عليك بتهمة الاعتداء علي داخل مكتبي "
" حاول "
قالها جايك مبتسما ثم ادار وجهه وغادر المكتب بشموخ واباء. وقرر متابعة طريقه الى مكتبه لالهاء نفسه بالعمل. ومع انه جلس هناك يعالج بهدوء وروية يحسد عليها عدة أمور بالغة الأهمية الا أن أفكاره ظلت حائرة لمعرفة مكان وجود هيلين. وفي بعض الأحيان كان يشعر بأنه على وشك أن يكرهها لمغادرة المنزل بتلك الطريقة السخيفة وبدون أن تزعج نفسها بترك عنوان أو أي معلومات أخرى. وأخذ ستعرض في رأسه بسرعة أسماء الأصدقاء الذين قد تلجأ اليهم هيلين لبعض الوقت ولكن باستثناء جنيفر ليس هناك أي شخص آخر في تلك المجموعة الارستقراطية التي ينتميان اليها يمكن أن



تلجأ اليه هيلين في مثل هذه الظروف. فهيلين ليست من الطراز الذي يفرض نفسه بسهولة على الآخرين.
اسوأ وقت في ذلك اليوم بالنسبة اليه كان بعد الغداء. اذ تركته السيدة لايتمر لتقوم بما عليها من أعمال منزلية وجلس هو وحيدا يفكر ويتألم. يقوم بتضرم وضجر ثم يجلس ثانية وبعدها يرفع شيئا من هنا ويضعه هناك...ثم ينقله الى مكان ثالث. لم يلاحظ أبدا من قبل مدى الفراغ الذي يمن أن يكون عليه منزل كهذا. وتساءل بكثير من الواقعية والنقد الذاتي عما اذا كانت هيلين تواجه مثل هذه الحالات عندما يكون هو مسافرا. لا! لا! ان الوضع مختلف تماما. فهي تريد البقاء عنه نفسيا وجسديا وأكبر دليل على ذل انه بمجرد حدوث تلك التطورات بينهما أثناء نهاية الأسبوع تخلت عنه وهجرته بدون اهتمام أو اكتراث لمشاعره واحاسيسه.


* * * *

دخلت هيلين البيت في حي كريسلاند بشئ من الأنقباض ةالأنزعاج. ولكنها أقنعت نفسها بأنه يتحتم عليها الحضور آجلا أم عاجلا. وبما أن اسبوعا بكامله مر على موعد سفر جايك الى تسابا فقد شعرت بالطمأنينة والأمان الى حد كبير. السيدة هوارد لم تكن راضية على قدومها الى كريسلاند. فبعد النفور الأولي المتبادل بينهما بدأت السيدتان هوارد تشعران بازدياد الاحترام والمحبة الخالصة بينهما. وبدأت هيلين تشعر أن والدة جايك حزينة جدا لأنها لا تريد الطلاق لأبنها.
في الأيام الأولى من وصولها لسلبي كانت السيدتان تتحدثان بكثرة عن جايك اثناء صغره وسنوات مراهقته. واعطت تلك الأحاديث هيلين فكرة واضحة وجديدة عن شخصية زوجها. والدته فخورة جدا به ولكنها لم تتغير أو تتبدل. وعرفت منها هيلين كيف تعذبت هي وزوجها لارسال ابنهما جايك الى الجامعة. وتبين لها لماذا لم يعجب جايك يوما بأبناء الطبقة الغنية الذين يحصلون على كل شئ يريدونه بدون تعب أو عذاب. ولكن على الرغم من ذلك فقد كان محظوظا. كان يحضر الى المكان المناسب في الوقت المناسب وساعده دماغه الفذ الى حد كبير. نجح عندما اخفق الآخرون لأنه يتبع خطا واحدا في تحقيق أهدافه ومراميه...لم يسمح لأي انسان أو أي شئ بالوقوف في وجهه أو أعتراض طريقه. لم تتحدث السيدة العجوز الا قليلا عن النساء
في حياة جايك. اخبرت هيلين عن فيرونكا كوارتون والطريقة التي رمت فيها نفسها عليه. كان الزوجان لا يزالان في سلبي. السيد كوارتون متقاعد وزوجته فيرونكا تتابع مغامراتها مع الشبان العازبين.
كل هذه الأمور صاغت شخصية جايك وآراءه بالنسبة للنساء. كما علمته أن يأخذ ما يعرض له والا يعرض شيئا في المقابل. وفجأة تحولت اسئلة العجوز في اليومين الاخيرين من عادية الى شخصية. بدأت تحاول معرفة السبب الحقيقي لقرار هيلين المفاجئ للانفصال عن جايك. ولكن هيلين لم تتمكن من الادلاء بأي تفاصيل حتى لوالدة زوجها. ولذا اعدت الترتيبات بهدوء ولكن بعناد واصرار على مغادرة سلبي. ولم تحاول السيدة هوارد منعها من ذلك.

اغلقت هيلين باب منزلها بأقل صرير ممكن. آخر شئ تريده الآن هو التقاء السيدة لايتمر قبل أنتتمكن من جمع أغراضها وحاجياتها. انها لنتتحمل موجة الاسئلة التي ستوجهها مدبرة المنزل. همها الآن هو ايجاد غرفة لها في أحد الفنادق بدون ابلاغ أحد من الاصدقاء أو الاقرباء ثم البحث بعد ذلك عن شقة لائقة تكون مقرا دائما لسكنها.
صعدت الدرج بهدوء بالغ وساعدها في لك طبعا وجود السجادات التي تملأ أرجاء البيت بأكمله. وعندما وصلت الى الطابق العلوي وقفت بتردد أمام غرفة جايك. كانت لديها رغبة جامحة في رؤية غرفته مرة واحدة أخيرة قبل مغادرتها ذلك المنزل الى الأبد. ولكنها لما فتحت الباب أصيبت بدهشة عارمة.
كانت الغرفة في فوضى مزعجة. الثياب مرمية هنا وهناك, الستائر مقفلة حتى في هذا الوقت المتأخر من الصباح, ورائحة السكائر تعبق بقوة وحدة. هزت رأسها أسفا وخطت خطوتين الى الداخل. وفي تلك اللحظة سمعت صوتا قاسيا يصرخ:
" اخرجي...قلت لك يا سيدة لايتمر الا تزعجيني...اللعنة عليك أخرجي "
صعقت هيلين وتسمرت في مكانها وهي تضع يدها بسرعة الى فمها كيلا تنطلق من حنجرتها صرخة خوف ورعب. اقتربت خطوتين لتشاهد جايك مستلقيا بانزعاج وقد بدا انه لم يحلق ذقنه أو يستحم منذ عدة أيام.
رفع نفسه قليلا على مرفقه وهو يصرخ مرة أخرى:
" اخرجي من هنا! قلت لك أخرجي.... "
وفتح عينيه بتكاسل وضيق بالغين ثم توقف فجأة عندما شاهد هيلين. لم يصدق عينيه ففركهما بيدين مرهفتين وهو يتمتم:
" رباه! اني ارى أشياء...انه كابوس! "
ترددت هيلين بضع لحظات ثم اقتربت من السرير وهي تنظر اليه بقلق وذهول. وقالت بهدوء:
" انك لا ترى أشياء ولست تحلم "
ثم استجمعت قواها وقالت له باهتماما وتأثر:
" ما بك يا جايك؟ كم مضى عليك وأنت على هذه الحالة؟ "
فتح جايك عينيه مرة أخرى وتنهد بقوة. ثم انقلب على صدره واخفى رأسه في وسادته وتمتم بلهجة قاسية وعنيفة:
" اذهبي يا هيلين...اذهبي. لا أريد رؤية أحد. اخرجي من غرفتي...انك لا تسكنين في هذا البيت أم هل نسيت ذلك؟ "
ترددت هيلين لحظة ثم تحركت بقوة وعزم وكأنها عقدت النية على أمر ما. خلعت معطفها ورمته على أحد المقاعد القريبة ثم توجهة الى النافذة وفتحت الستائر لتغزو شمس الخريف الحالمة ارجاء الغرفة بأكملها. وفتحت الجزء السفلي من النافذة فدخل الهواء البارد ليطرد رائحة الدخان المقرفة وينعش تلك الغرفة وجوها الخانق. ثم عادت نحو جايك فسمعته يكرر بغضب:
" قلت لك أخرجي من هنا...أنا لست بحاجة الى شفقتك "
ردت عليه هيلين بانفعال:
" انك لن تحصل على شفقة مني! بربك يا جايك ماذا فعلت بنفسك؟ "
عاد جايك للاستلقاء على ظهره وغطى عينيه وهو يأمرها قائلا:
" اغلقي هذه الستائر واخرجي من هنا! "
" لا لن افعل ذلك "
تجاهلت هيلين اعتراضاته وواصلت جمع حاجاته المبعثرة في عدة انحاء من الغرفة. ثم استدارت فجأة نحو السرير وقالت بلهجة الآمر الناهي:
" انهض من السرير لكي ارتبه قليلا "
جاهد قليلا ليتمكن من الجلوس في سريره ثم قال لها بلهجة غلب عليها التعب والارهاق:
" لن تفعلي شيئا من هذا القبيل...كل ما أريد معرفته منك الآن يا هيلين هو
سبب مجيئك الى هنا "
هزت هيلين بكتفيها واجابته بصدق وأمانة:
" أتيت...أتيت لآخذ امتعتي وأغراضي. كنت أظن انك الآن في تسابا "
حدق بها بتأثر وغضب وسألها منفعلا:
" وأين كنت طوال هذه الفترة؟ "
" الحقيقة انني...كنت في يوركشاير...في سلبي على وجه التحديد. الآن انهض من السرير "
تأملها طويلا وكأنه لم يصدق ما سمعته اذناه وسألها:
" هل تحاولين القول انك كنت مع والدتي طوال هذه المدة؟ "
" نعم. ولكني لا أوي الخوض في تفاصيل الآن "
ثم استدارت نحو الباب وحملت معطفها وقالت له وهي تهم بالخروج:
" سأكون في غرفة الجلوس اذا كنت تريد مني شيئا "
" هيلين...انك لن...لن تختفي...مرة أخرى؟ "
وقفت هيلين أمام الباب وقد أثرت فيها لهجته الحزينة المعذبة. واحمر وجهها رغما عنها عندما شاهدت نظراته اليائسة ومنظره التعيس واجابته بهدوء وبلهجة شبه مازحة:
" لا ليس قبل أن ترتدي ثيابك في أي حال "
وخرجت من الغرفة وهي تضع يديها على وجهها الذي ازدادت حرارته وتوتر عضلاته. وفي غرفة الاستقبال اخذت تسير على غير هدى حول الغرفة. ثم توقفت فجأة وشعرت بأنها فقدت أنفاسها عندما فوجئت بصوت السيدة لايتمر:
" أوه, السيدة هوارد! كم أنا مسرورة لمشاهدتك! "
ابتسمت هيلين وردت عليها بخبث متعمد:
" هل أنت حقا مسرورة يا سيدة لايتمر؟ "
" أوه, نعم يا سيدتي, نعم "
ثم أضافت بلهفة وهي تكاد لا تصدق عينيها:
" السيد جايك كاد يفقد عقله قلقا عليك. نحن...طوم وأنا...لم نتمكن من الاقتراب منه. انه في غرفته منذ عدة أيام...لا يأكـل شيئا ولا يتحـدث مع أحـد. . . "
واغرورقت عيناها بالدموع وهي تصف وضع مخدومها الأليم:
" أوه يا سيدة هوارد! لا يمكنك أن تتخيلي الوضع التعيس الذي يمر فيه. كنت على وشك الاتصال بوالدته ولكنه أقسم بانه سيطردنا أنا وطوم ان نحن حاولنا التدخل "
اقتربت منها هيلين بحنان وتأثر:
" كان وضعا مزعجا بالنسبة اليكما "
بكت مدبرة المنزل بحرارة وهي تقول:
" متأسفة يا سيدة هوارد ولكنك تعرفين مدى تعلقي بالسيد جايك. ان اشاهده هكذا لعدة أيام...وحيدا, تعيسا, حزينا, يقتل نفسه بذلك. . . "
قاطعتها هيلين وقد بلغ بها التأثر حدا كبيرا بسبب العواطف المخلصة:
" لا بأس يا سيدة لايتمر. اذهبي الآن وانسي قلقك. اعدي لنا القليل من الشاي "
" لنا يا سيدتي؟ لك و...و... "
" ولي أنا "
وتطلعت السيدتان بدهشة الى الباب لتشاهدا جايك يقف في باب الغرفة وقد استحم وحلق ذقنه. الا انه لم يرتدي ثيابه بل اكتفى بارتداء المعطف الابيض الخاص بالحمام. ارتجف صوت السيدة لايتمر وهي تقول:
" أوه, أوه سيدي! "
" اذهبي واعدي لنا الشاي "
قالها جايك بهدوء فهرعت السيدة لايتمر الى المطبخ مطيعة و...مبتسمة. أما هيلين فقد شعرت بقليل من الضيق والانزعاج. لقد تخيلت انها لن تجد صعوبة على الاطلاقعندما ستشرح له ما يدور في ذهنها منذ عدة أيام. أما الآن وعندما نزل من غرفته فقد شعرت بأنها غير قادرة على الكلام. دخل جايك الغرفة وهو غارق في أفكاره وتأملاته ثم اشعل سيكاره وتطلع ناحية هيلين ليسألها فجأة بلهجة هادئة وقوية:
" لماذا لم تخبريني الى أين قررتي الذهاب؟ "
ازاحت وجهها عنه بتردد واجابته:
" لم...لم اكن أريد أن تجدني. كنت اظن انني لو تمكنت من الابتعاد حتى موعد سفرك الى تسابا. . . "
قست ملامح وجهه وتشنج صوته قليلا وهو يقاطعها :
" ولكن لماذا؟ هل كنت خائفة مني الى هذا الحد؟ "
احنت هيلين رأسها وحاولت تغير الموضوع بسؤالها اياه فجأة ولكن بلطف وهدوء:
" كم...كم مضى عليك وأنت في مثل هذه الحالة؟ "
رمي جايك بنفسه على احد المقاعد متكاسلا وغير مكترث واجابها باختصار:
" هل يهمك ذلك؟ "
" ماذا تعني؟ "

تنهد جايك طويلا وهو يلاحق بنظراته دخان سيكارته:
" اسمعي يا هيلين...كنت أفكر في هذا الموضوع طوال فترة استحمامي. في البداية اصبت...بصدمة أو ربما بالدهشة لرؤيتك. أما الآن فالمرحلة الاولية انتهت وبدأت افكر جديا بسبب حضورك الى هنا. اعني...حسنا اتيت لاعداد أغراضك ولكن لا تدعي وضعي الحالي يقلقك. انني في أحسن حال كما ترين و. . ."
انفجرت هيلين غاضبة وهي تقاطعه قائلة:
" انك لست ابدا على ما يرام وانت تعرف ذلك. السيدة لايتمر. . . "
قاطعها وهو غاضب:
" السيدة لايتمر! السيدة لايتمر! انها سيدة عجوز ولا تفهم "
تحولها غضبها الى ألم وثورتها الى اسى وقالت:
" اعتقد انها تفهم جيدا وتعرف ما حدث "
اشعل جايك سيكارة ثانية وقال ببرودة أعصاب مصطنعة:
" هذا رأيك أنت ولن اجادلك في هذه المسألة "
صرخت هيلين بصوت يمزج بين الالم واللهفة والتأثر:
" جايك! ارجوك! لا تتحدث بهذه الطريقة "
" لماذا؟ وكيف تنتظرين مني ان اتصرف يا هيلين؟ تتسللين الى هنا كاللصوص في الليل "
" لم يكن الأمر هكذا "
" اذن لماذا ذهبتي الى والدتي؟ اجيبي "
ثم هز رأسه بعنف وتابع بانفعال:
" لا, لا تزعجي نفسك بالرد. انا أعرف. ذهبت اليها لأنك تعرفين ان بيتها هو أخر مكان ابحث فيه عنك. اللعنة عليك يا هيلين! هذه هي الحقيقة أليس كذلك "
تنهدت هيلين وهزت رأسها قائلة:
" ثم ماذا؟ والدتك كانت طيبة جدا معي "
ضحك جايك بعصبية وتهكم:
" طبعا, طبعا! أنا متأكدة من ذلك. وماذا قلت لها؟ ماذا كانت حجتك لها للهرب مني؟ "
" لم اعطها أي حجج أو أعذار. قلت لها أني أريد الطلاق "
قفز جايك من كرسيه صارخا:
" ماهذه التفاهات؟ وماذا عني أنا؟ الا تستشيرينني أبدا؟ كنت تنوين اعداد كافة الترتيبات اثناء غيابي في تسابا؟ "



لم تتمكن هيلين من التفوه بشئ بل ظلت واقفة تحاول كبح جماح الغضب الذي يعتريها والانقباض الذي يملأ قلبها ورأسها ومشاعرها. وعندما استدار جايك فجأة متوجها الى الخزانة القريبة قفزت هيلين من مكانها ووقفت أمامه صارخة بتوسل وهي تمسك بذراعه:
" لا يا جايك! ارجوك! اسمع! "
تأمل يدها النحيلة الممسكة بقوة في ذراعه وقال لها:
" استمعت اليك بما فيه الكفاية يا هيلين. اولا تقولين لجنيفر انك ستنفصلين عني ثم تذهبين الى أمي! كم تظنين انني على استعداد لتحمل مثل هذه التصرفات؟ "
" ولكن يا جايك...كنت أظن انها الطريقة الأفضل "
" لماذا؟ لماذا؟ هل كان تصرفي السبب؟ "
"صرخت هيلين بصوت حزين ومتألم:
" لا, لا! بل تصرفي أنا يا جايك "
نظر اليها جايك ماليا بعينين معذبتين وقال لها بدهشة فائقة:
" تصرفك أنت؟ "
هزت هيلين رأسها بتأثر وردت عليه بالايجاب. احمر وجهه وسألها بانفعال:
" عما تتحدثين يا امرأة وماذا تعنين؟ هل أنت متورطة مع مانرينغ؟ "
" أنت تعرف حق المعرفة انني لست متورطة معه أو مع أي رجل آخر "
افلت ذراعه من قبضتها ورفع يده الى جبينه شارد الذهن منقبضا ومتضايقا ثم سألها بلهفة:
" اذن عم تتحدثين بحق السماء يا هيلين؟ "
بللت شفتيها الجافتين بتردد واجابته بهمس وتأثر:
" تلك...تلك الليلة...عندما...عندما أتيت الى غرفتي "
اغمض جايك عينيه وسألها:
" تعنين هنا...في هذا المنزل؟ "
كانت هيلين ترتجف آنذاك فاجابته بدون أن تنظر اليه:
" أوه جايك! أنت بالتأكيد تعرف ما جرى! "
قطب جايك جبينه وقال:
" نعم أعرف. تجاهلت رغبتك...ورفضتك! "
اندفع الدم الى وجهها عندما تذكرت مشاعر الذل والتحقير الذاتي التي عصفت بها آنذاك وتمتمت قائلة:
" صحيح هذا ما حدث! "
هز برأسه متململا ومتبرما وقال بانفعال:
" ولكن يا هيلين, أنا رجل...انا انسان ولست قديسا! لقد طلبت المستحيل! "
نظرت اليه والألم يعصر قلبها والدموع تكاد تنهمر من عينيها وسألته بحزن وأسى:
" وهل فعلا طلبت منك المستحيل؟ اذن انتهى كل شئ بيننا أليس كذلك؟ "
تنهد جايك بانفعال بالغ وسألها ياصرار:
" هل يجب أن ينتهي كل شئ هكذا؟ هيلين أنا اعرف انك تحتقرين تصرفاتي. ولكن أعلمي انه ان كان لك من عزاء فهو قولي انني...احبك. وانني لم اقل ذلك لأي امرأة من قبل "
حدقت به هيلين غير مصدقة وتمتمت بأنفاس متقطعة:
" أنت...تحبني؟ تحبني...أنا؟ "
تأملها لحظات طويلة ثم جذبها نحوه بقوة واحتضنها بشدة وحنان وهو يصرخ متأثرا:
" ماذا تفعلين ي يا هيلين, ماذا تفعلين؟ ان لم تكوني على استعداد لتقبل المضاعفات فالأفضل لك ان تخرجي من هذا البيت...بسرعة...والى الأبد "
ظلت هيلين تحدق به وهي لا تصدق عينيها وأذنيها...وجسمها المرتعش. ثم قالت له بهمس الحبيب:
" لا لن تتخص مني بهذه السهولة "
" لا تريدين الذهاب؟ هيلين لا تلعبي معي مثل هذه الألاعيب! "
" أنا لا العب معك يا حبيبي. أنا أحبك...أحبك بكل جوارحي وأحاسيسي. كانت غلطة جسيمة وفادحة. ظننت أنك...انك رفضتني. . . "
" تلك الليلة في غرفتك؟ هيلين لو تعرفين كيف شعرت تلك الليلة...لمت نفسي كثيرا بسبب ذلك الكابوس المزعج الذي راودك. احتقرت نفسي الى أبعد حد لأنني حاولت استغلالك وحاولت فرض نفسي عليك "
" ولكنك في الصباح التالي كنت باردا. . . "
ابتسم جايك ابتسامة خفيفة وهو يقاطعها:
" أي انسان آخر كان سيتظاهر بالبرودة. قلت لنفسي آنذاك انني وصلت الى ذروة الحماقة وتحقير الذات. كنت اريد الركوع امامك والاعتذار اليك متعهدا بعدم تكرار ذلك الخطأ الشنيع ولكنك أصررت على القول ان الأمر لم يكن ذا أهمية فجن جنوني "
وأغرق وجهه في شعرها وهو يردد بصوت خافت:
" كانت الأيام التسعة الماضية جحيما حقيقيا بالنسبة لي! لم أتناول طعاما ولم أنم الا قليلا! شعرت بأنني انتهيت وبأني فقدت كل شئ "

ضغطت هيلين رأسها على صدره وقالت:
" عندما اتيت اليوم وشاهدتك على تلك الحالة التي كنت فيها شعرت فعلا بأنك حزين ومتأسف جدا لفراقي. ولا اكتمك سرا انني صليت وتمنيت أن تكون حقيقية كهذا. ولكن عندما نزلت قبل قليل ببرودة وعدم اكتراث أو اهتمام شعرت بأنني اتمنى الموت لنفسي "
هز جايك رأسه بعطف وحنان وقال:
" انك لا تعرفينني بعد تماما يا هيلين. أنا مضطر لاخفاء مشاعري واحاسيسي. كنت أخشى من عدم تحملي شعورك بالشفقة. أوه هيلين! عندما دخلت غرفتي كنت مقتنعا في بادئ الأمر بأني أحلم أو أني أمر في كابوس مزعج "
" جايك! جايك! كم كنا غبيين ومجنونين "
" نعم ولكن ليس بعد الآن يا حبيبتي ليس بعد الآن "
ثم أبعدها عنه برفق ومحبة وقال:
" سأصعد لأرتداء ثيابي ثم نذهب لتناول طعام الغداء في أفخم المطاعم في المدينة... يجب أن نحتفل "
ردت عليه هيلين بغنج ودلال قائلة:
" افضل الا نذهب...افضل الأنفراد بك بعض الوقت. هل يمكننا ذلك؟ "
" ان كانت هذه رغبتك فلم لا...يا حبيبتي "
" أوه, نعم, نعم أرجوك "
ثم ابتسمت وسألته بهدوء:
" جايك...هذه الرحلة الى تسابا. . . "
امسك بها ثانية وشدها الى صدره مقاطعا:
" لا رحلات بعد الآن...أو بالاحرى لا سفر الى الخارج بدونك "
وتأملها لحظة بمحبة وحنان وهو يمسك وجهها بيديه القويتين وسألها مبتسما بعدما عانقها بحرارة:
" ما رأيك بتمضية شهر العسل في أفريقيا؟ "
اخذت هيلين نفسا عميقا وردت عليه متمتمة:
" ولكننا ذهبنا في رحلة شهر العسل عندما تزوجنا! "
" لا, لا, لم يكن ذلك شهر عسل يا حبيبتي, لم يكن...شهر العسل الحقيقي يبدأ الليلة. . .




***تمت***
قامت بكتابتها الاخت ...لورا