المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغادة الإسبانية‏


AshganMohamed
02-03-2020, 09:01 AM
الغادة الإسبانية‏
الغادة الإسبانية‏
روكامبول (الجزء الثالث)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده‏

الغادة الإسبانية‏
Une Fille d’Espagne
بونسون دو ترايل
Ponson du Terrail

رقم إيداع ٢٢٠٣٦ / ٢٠١٣تدمك: *٩٧٨ ٩٧٧ ٧١٩ ٥٧٤ ٤‬

مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
جميع الحقوق محفوظة للناشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
المشهرة برقم ٨٨٦٢ بتاريخ ٢٦ / ٨ / ٢٠١٢
إن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة غير مسئولة عن آراء المؤلف وأفكاره
وإنما يعبِّر الكتاب عن آراء مؤلفه
٥٤ عمارات الفتح، حي السفارات، مدينة نصر ١١٤٧١، القاهرة
جمهورية مصر العربية
تليفون: *+ ٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥٢‬ فاكس: *+ ٢٠٢ ٣٥٣٦٥٨٥٣‬
البريد الإلكتروني: hindawi@hindawi.org
الموقع الإلكتروني: http://www.hindawi.org

تصميم الغلاف: إسلام الشيمي.

جميع الحقوق الخاصة بصورة وتصميم الغلاف محفوظة لمؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. جميع الحقوق الأخرى ذات الصلة بهذا العمل خاضعة للملكية العامة.
Cover Artwork and Design Copyright © 2014 Hindawi Foundation for Education and Culture.
All other rights related to this work are in the public domain.
الغادة الإسبانية
١
كانت الباخرة الفرنسية مويت، وهي من البواخر التجارية قادمة من لفربول إلى الهافر.
وكان النسيم بليلًا والجو صافيًا والبحر ساكنًا، هدأت مياهه فباتت كمياه البحيرات، فكان ربَّان تلك الباخرة يسير على ظهرها ذهابًا وإيابًا وهو ينظر إلى ما يكشف الفضاء من الصفاء نظرة رضى؛ إذ لم يكن يكدر ذلك الجو الرائق غير دخان سيكاره الكثيف، ثم كأنه قد تعب من المسير، فجلس على مقعد قرب أحد المسافرين وقال له: إذا لبث الطقس على ما هو عليه الآن فإننا نصل صباح الغد إلى ميناء الهافر، فأرى فرنسا بعد فراقي لها أربعة أعوام.
وكان لباس المسافر وجموده يدلان على أنه من الإنكليز، ولهذا فقد كلَّمَه الربَّان بالإنكليزية، غير أن المسافر جعل يحادثه بالفرنسية الفصحى، فأجابه: إذن أتظن أننا نبلغ الهافر صباح الغد؟
– نعم، إلا إذا ثارت عاصفة أو فاجأتنا الأقدار بمصيبة لا نتوقعها.
ثم أخذ الربَّان منظاره وجعل يُراقب فيه جهات الفضاء الأربع، وقال: إن السماء صافية والمياه هادئة، فسأعهد بقيادة السفينة إلى الربَّان الثاني وأنام الليلة مطمئن البال. وبعد هنيهة ودَّع المسافر وانطلق إلى غرفته، فبقي المسافر وحده على المقعد، فجعل ينظر إلى مغيب الشمس حتى توارت في حجابها، ثم أسند رأسه إلى يده وأخذ يناجي نفسه فيقول: «ما لقلبي قد اضطرب لمغيب الشمس، وما هذا التأثُّر الذي أجده حين أرى أشعة القمر الذهبية ترقص فوق هذه المياه، وقد عهدت قلبي خلوًّا من الإحساس، وما أنا من عالم الخيال أو الشعراء. وبعدُ فما هذا التشوق للوطن، وما هذا الارتياح الذي أشعر به حين قربي من هذا الوطن بعد طول الغربة، فإني أحتقر مَن يشكو وحشة الاغتراب بالحنين إلى الأوطان، بَيْدَ أني أشعر بأن قلبي يخفق سرورًا حين أعلم أننا سنبلغ غدًا إلى الهافر، ألعلي أصبحت شريفًا لطول عشرتي للأشراف، وأصبحت ذا قلب يحن بعد اختلاطي مع ذوي العواطف؟ كلا ولكن هذا القلب الصخري لا يخفق هذا الخفوق لقرب وصولنا من الهافر، إلا لأن هذا الميناء لا يبعد سوى خمس ساعات عن باريس.»
وقد ذكر باريس كما يذكر الطفل اسم أمه، ثم قال: أيتها العاصمة الجميلة، إنك بلد رجال الجرأة والإقدام، فلا يفوز فيك غير رجال المطامع والنوابغ من أهل المكر والدهاء، فلقد أقمت أربعة أعوام في بلد الضباب — أي عاصمة الإنجليز — لا أغمض عيني إلا على رجاء أن تتمثل لي بالحلم باريس، تلك العاصمة الزهراء مرسح المطامع وميدان أصحاب العقول الراجحة.
ثم تنهَّدَ وقال: نعم، إني أقمت في لندرا أربعة أعوام، وقد حان لي الآن أن أعود إلى بلادي، ولقد نسي سكانها أني كنت أُدعَى الفيكونت دي كامبول، والمركيز دون أينجو، ورئيس الجمعية السرية، وتلميذ السير فيليام.
ثم نهض روكامبول وكان هو بعينه، ونزل إلى غرفته في السفينة وأخذ ملفًّا من الأوراق، وجعل يُقلِّب فيها ويقول: أفٍّ للسير فيليام وللغته الهيروغليفية، ومَن لي بحل رموزها! فلقد كان يكتب لشدة دهائه بلغتين، فيُطلِعني على أسرار الواحدة ويكتم عني الأخرى، فلقد مضى بي أربعة أعوام أقرأ هذه الأوراق دون أن أتمكَّنَ من حل طلاسمها، وكلما دنوت خطوة من أسرارها بعدت ميلًا. مثال ذلك أني أقرأ بهذه الأوراق التي سرقتها ما يأتي:
يوجد في باريس في قصر … في شارع …
وقد كتب اسم القصر والشارع باللغة السرية التي لا أفهمها، ثم أقرأ ما يأتي:
إن هذا القصر يسكنه المركيز والمركيزة دي وابنتهما، ويبلغ المركيز من العمر ستين عامًا، والمركيزة خمسين، وابنتهما ثمانية عشر. أما المركيز فهو غني يبلغ إيراده مليونًا في العام، ولهذا المركيز ولد إذا كان لا يزال في قيد الحياة فإن عمره يبلغ الآن أربعة وعشرين عامًا، ولهذا الولد قصة، وهي أنه عندما كان عمره عشر سنوات أُدخِل في سفينة إنكليزية من بواخر شركة الهند بصفة نوتي، ولم يظهر شيء من أثره بعد ذلك، بحيث لا يعلمون إذا كان ميتًا أو هو في قيد الحياة، فإن المركيزة تجهل مصيره، ولا يعلم أين هو سوى المركيز، ولا بد له من أن يدفن هذا السر معه، فإنه لم يفارق ولده في عهد الطفولة ويرسله نوتيًّا في البحار، ويكتم أمره عن امرأته إلا لسبب عظيم، إلا أن أمه لا تزال ترجو أن تراه، فإذا رجع هذا الولد، فإنه يرث ثلاثة أرباع ثروة أبيه حسب نظام تلك العائلة، ويبقى الربع لأخته، وعلى ذلك فيمكن أن …
إلى هنا انتهت الكتابة الواضحة، وقد كُتِبت تتمة الحديث باللغة الهيروغليفية الخاصة بالسير فيليام، فكأنه يقول لي: يوجد في لندرا في منزل مشرف على الشارع كنز مدفون، وأين لي أن أعرف هذا المنزل فأجد ذاك الكنز!
ثم دفع هذه الأوراق مغضبًا لإبهامها، وقال في نفسه: إن غاية ما أعرفه أنه يوجد مركيزة ترجو أن يعود إليها ولدها، وأن ما يمكن الاستفادة به من ذلك أن أكون ذلك الولد، فإننا بعمرٍ واحدٍ، وقد غادرَتْه طفلًا فهي لا تعرفه الآن، ولكن كيف أفعل هذا وأنا لا أعرف اسم المركيزة، ولا أين تقيم؟ ولو ذكر لي السير فيليام اسم الشارع على الأقل لهان الأمر، ولكنه حمل سره معه إلى جزائر المركيز.
ووالله إني أشفق على هذا الرجل وأحسده في حين واحد، أما إشفاقي عليه فلأنه ما شرع في مكيدة إلا بناها على أمتن دعائم الحكمة وحسن التدبير، ولكنه لم يفلح بأمر لما خُصَّ به من نكد الطالع، وأما حسدي له، فلما أوتيه من الدهاء وبُعْد النظر في الأمور. ومن أين لي عقل هذا النابغة!
وما أوشك روكامبول أن يتم هذه المناجاة، حتى سمع صوت ضجيج وتهافت المسافرين إلى ظهر السفينة، وصوت الربان يصدر أوامره الشديدة إلى البحارة، فقال في نفسه: ما هذا الانقلاب؟ إني غادرت الربان منذ ساعة آمِنًا مطمئنًّا، وهو الآن يضطرب وينادي البحارة، فما معنى هذا الانقلاب؟
ثم برح غرفته وصعد إلى ظهر السفينة، فوجده يلقي الأوامر والبحارة يطوون الشراع، وعلائم الذعر بادية في وجوه المسافرين، ومع ذلك فإن البحر كان لا يزال على سكونه، والجو على صفائه، فلم يفقه روكامبول معنى هذا الهياج، ودنا من أول مسافر لقيه وكان يلبس لباس رجال البحرية وسأله: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك عن السبب فيما أراه من ذعر المسافرين واهتمام البحارة بطَيِّ القلوع.
فأجابه المسافر: ذلك لأن العاصفة ستفاجئنا.
– أين العواصف، وأنا لا أجد سحابة في السماء؟
– إنك لا تراها لأنك لست من رجال البحرية، فخُذْ هذا المنظار وانظر إلى أسفل الجهة الغربية من الأفق.
وأخذ روكامبول المنظار ووجَّهَه إلى الجهة المشار إليها، ورأى غمامة صغيرة تُشبِه الشراع، فقال: ما عسى أن يكون وراء تلك الغمامة؟
– ما وراءها سوى العاصفة، فإنها ستتسع وتمتد حتى تعم بعد ساعة جميع هذا الفضاء، فتنقض منها الصواعق، وتزبد مياه هذا البحر الساكنة، فترقص السفينة على أمواجها كما تضطرب أشعة القمر الآن فوقها، بحيث لو أُغفِل شراع دون طي غرقت السفينة لا محالة.
وكان الرجل يتكلَّم بما يدل على خبرته في فن البحار، فعجب روكامبول وسأله: أمثل هذه الغمامة الصغيرة تُحدِث هذه الأنواء العظيمة؟
فابتسم المسافر وأجاب: إني بحري والبحارة يندر أن يخطئوا بما يبدو لهم من أدلة الأنواء.
– إذن فلا بد من العاصفة.
– نعم، وستكون شديدة هائلة.
– أنحن في خطر أكيد؟
– ربما، إلا إذا أراد الله لنا السلامة، فإنه يبدد هذه العواصف، إلا أني أرى الخطر جليًّا، وقد أكون مبالغًا فيما قلت، على أن الذي يحملني على الرجاء ما أراه من اهتمام الربان وحسن طاعة الملاحين ودربتهم، فإني إذا كنتُ الآن مسافرًا فقد كنت بحارًا مثل هؤلاء، وقد تعلمت هذا الفن في سفن شركة الهند.
فاضطرب روكامبول لما سمعه، وتذكر أوراق السير فيليام التي كان يقرؤها منذ حين، فقال للمسافر كي يجره إلى الحديث: أعرفت مدينة الهافر من قبلُ؟
– كلا، وأنا ذاهب إلى باريس لأرى فيها أمًّا وأختًا لم أرهما منذ ثمانية عشر عامًا؛ أي منذ سافرت بحارًا في سفن الهند، ولم يكن لي في ذلك العهد من العمر سوى عشرة أعوام.
فلما سمع روكامبول هذا الكلام نسي العاصفة وأخطار الغرق، بل نسي الوجود وانصرف بجملته إلى التأمل بهذا الشاب، ولم يُصَبْ في حياته بما أُصِيب به من التأثُّر حين كشف له هذا البحار دون أن يعرف أسرار تلك الأوراق، وتراءى له أن أبواب المستقبل قد فُتِحت أمامه، وأن الصدفة أقبلت تبتسم له أجمل ابتسام، ولكنه ضبط اضطرابه وقال له بلهجة سرور: إذن أنت فرنسي؟
وهزَّ البحار رأسه وأجاب: إنك تعجب كيف أشتغل في سفن الهند وأنا فرنسي، إلا أن لذلك سرًّا عائليًّا لا يسعني إفشاؤه.
ثم أمسك منظاره من يد روكامبول وقال: أرجو أن تأذن لي يا سيدي بمبارحتك الآن؛ لأني ذاهب إلى غرفتي كي أجعل أوراقي في مأمن من المياه إذا نكبنا بغرق السفينة، فإني قد وضعتها في حقيبة من الحديد الرقيق وسأتمنطق بها، وإن ألقيت نفسي إلى الماء لا تبتل.
ولما انصرف خاض روكامبول في عباب تصوراته، وقد جعل جل قصده التزلف إلى هذا البحار بصداقة تحمله على الوثوق به والإباحة له بجميع سره، وقد سار في مجال هذا التصور إلى مدى بعيد، حتى إنه خطر له أن يكون بدل هذا البحار عند أمه وأخته، ولكنه اضطرب حين بلغ إلى هذا الحد من التصور، وكأنه لم يجسر على تتمته، ثم اشتدت عزيمته حين تذكَّرَ السير فيليام الذي لم يكن يشفق على أحد، وذكر ما كان يقوله له: «وهو أن الحياة معترك، ولا بد للفوز في المعارك من القتل، وأن عزاءنا على قتل الناس كثرة الناس في الأرض.»
ولبث واقفًا على ظهر السفينة غير مكترث لما يكتنفها من المخاطر، وجعل يردِّد في تفكيره هذه الكلمات: «إنه فرنسي … اشتغل في إحدى سفن شركة الهند … ترك باريس منذ ثمانية عشر عامًا … دخل إلى السفن وهو في العاشرة من عمره كي يتعلم فن البحارة.
إن جميع ما سمعته من هذا الرجل ينطبق أشد الانطباق على ما قرأته في أوراق السير فيليام.»
وفيما كان روكامبول غارقًا في لجج تصوراته، كانت تلك الغمامة التي لم تكن تُرَى إلا بالمنظار تمتد وتتسع، كما تنبَّأ به المسافر، حتى ملأت ذلك الفضاء الوسيع وتوارى القمر في ضبابها المتلبد، ثم هبَّتِ الرياح فكانت خفيفة في بدء هبوبها، ولكنها جعلت تزيد وتضعف تباعًا حتى أوشكت أن تكسر الصواري.
وكان صوت العاصفة يصل من بعيد فيبلغ إلى السفينة كزئير الأسود، والناس قد هلعت قلوبهم، وبات دوي أصواتهم يمتزج بين دوي الرعود وبين رجال يجأرون إلى الله بالدعاء، ونساء تعول وتنتحب، فيطبق صراخها الفضاء، وبحارة يصيحون وهم يتسلقون الصواري ليطووا القلوع، فتصدهم زوابع الهواء.
وكان روكامبول واقفًا بين هذا الخليط مشتَّت البال، منشغلًا عن اضطراب الناس من حوله لما كان يجول في خاطره من أمر هذا المسافر، وبقي على هذا الذهول إلى أن ردَّه إلى هداه المسافر نفسه، فاحتك به قائلًا: أرأيت ما كان من أمر هذه الغمامة؟
والتفت روكامبول ورآه بقربه وقد خلع ما كان عليه من الثياب، فلم يَبْقَ سوى قميصه وبنطلونه، وكانت حقيبة أوراقه مشدودة إلى وسطه بمنطقة من جلد، فقال له: إني أراك قد بالغت في الحذر؛ لأني لا أجد ما تجده من مخاطر الغرق.
– أراك نسيت أننا في بحر المانش، وعلى عشر مراحل من الشواطئ، وقد تدفع الرياح سفينتنا فتلتطم برصيف أو بصخر فتتحطم، ثم أَلَا ترى السرعة التي تسير بها السفينة من الشمال إلى الجنوب مع أن القلوع مطوية؟ أصغِ إلى صوت الربان، وهو قديم في هذه المهنة، كيف أن أوامره التي يُصدِرها تدل على القنوط!
ولم يكد هذا البحار يتم قوله، حتى سمع الربان يقول: اقطعوا الصاري الأكبر!
وجعل البحارة يضربونه بالفئوس حتى سقط، وكان له دوي شديد، وفي الوقت نفسه صاح صيحة رعب: هو ذا الأرض!
أما روكامبول فلم يَبْدُ عليه شيء من علائم الخوف.
٢
ولكنه حين رأى أن الخطر محدق بالسفينة، والخوف سائد على جميع ركَّابها، رأى أن من الحكمة أن يقتدي برفيقه المسافر ويتحذر، فغادره وأسرع إلى غرفته، فخلع ما عليه من الثياب الخارجية، وأخذ ما لديه من النقود وأوراق السير فيليام ووضعها جميعها بمنطقة من الجلد لا ينفذ إليها الماء وشدها إلى وسطه، وصعد إلى ظهر السفينة والتقى برفيقه ولازمه وهو يقول في نفسه: إما أن نغرق معًا أو ننجو معًا.
وكانت السفينة لا تستقر على حالة من القلق، تتقاذفها الأمواج كما تشاء العواصف ومهاب رياحها، فتندفع كالجواد المطلق الجامح لا يثنيه شيء عن اندفاعه، فقال البحار وهو ينظر إلى الجو المريد: لقد قُضِي الأمر.
وأجاب روكامبول: كيف ذلك؟
– انظرْ إلى آخِر الأفق في الجنوب، أَلَا ترى غمامة أقل سوادًا من بقية الغمام؟
– نعم.
– إن الأرض هناك وهي تبعد عنها ثلاث مراحل، ولا بد لسفينتنا من الالتطام بها.
ولم يكد يتم حديثه حتى ارتجت السفينة ارتجاجًا عظيمًا لاصطدامها بأحد الصخور العظيمة الناتئة، فصاح الربان بالبحارة: أسرعوا إلى إنزال القوارب.
إلا أن البحار لم ينتظر إنزالها، بل أشار إلى روكامبول أن يتبعه، وألقى بنفسه إلى تلك اللجج الثائرة، واندفع روكامبول في إثره وجعل الاثنان يسبحان إلى جهة البحر نحو ساعة حتى تعب روكامبول وتأخَّر عن رفيقه، والتفت إليه وشجَّعَه قائلًا: تجلَّدْ، لقد بلغنا إلى صخر قريب نستريح عليه.
فتشجع روكامبول وجعل يبذل ما بقي له من الجهد وهو يؤنب نفسه لتقصيره قائلًا: ما هذا الوهن؟ أأُجعَل طعامًا للأسماك على بعد ميل من البر؟ وأضعف عن اللحاق بهذا الرجل الذي سأكون بعده أغنى مركيز.
إلا أن جهده لم يَطُلْ، فإنه لم يسبح مسافة وجيزة حتى شعر بأن قواه قد نهكت، فصاح يستنجد برفيقه وجعل يغوص تحت الماء ويرتفع فوقها إلى أن شعر بيد قبضت على شعره، ثم أغمي عليه فلم يَعِ على شيء.
وعندما صحا من إغمائه قلب نظرًا حائرًا فيما كان يراه حواليه، فرأى أن أشعة الشمس قد بدَّدَتْ جيش الظلام، وأن العاصفة قد استبدلت بالسكينة، ثم رأى أنه لم يكن غريقًا في أعماق الأوقيانوس، بل كان ممدَّدًا على رمال بلغت إليها حرارة الشمس، وجففت ثيابه المبتلة من الأمواج.
ونهض وجعل يمشي على تلك الرمال، ورأى نفسه فوق صخر عظيم متسع يحيط به الماء من جميع جهاته، وذكر أن رفيقه أشار له إلى هذا الصخر وأنه قبض على شعره حين استنجد به، ولم يَعُدْ يذكر شيئًا، ولكنه أيقن أن رفيقه البحار — أي المركيز — قد أنقذه، ثم قال في نفسه حين لم يجده: ألعله وضعني في هذه الجزيرة وأتَمَّ مسيره إلى الميناء القريبة، فإذا كان ذلك فكيف أجده؟
وكأن هذا الرجل الهائل نسي موقفه الشديد، وأنه في جزيرة صغيرة قد يموت بها جوعًا قبل أن يجد بها أحدًا، فلم يفتكر إلا بأطماعه بالفتك بهذا الرجل الذي أنقذه من الموت.
وجعل يمشي في أرض هذه الجزيرة المقفرة مشي العاجز السقيم لفرط ما لقي من عناء السباحة، ويتفقد هذه الجزيرة كي يعلم مقدار بعدها عن البر، وفيما هو يمشي إذ سمع عن بُعْدٍ صوت إنسان يستغيث، فأسرع إلى الجهة التي خرج منها الصوت حتى بلغ إلى هوة عميقة، سمع أن الصوت صادر منها، وعلم أنه صوت رفيقه البحَّار، فدنا منها ورأى عمقها نحو ستة أمتار.
ولما رأى روكامبول يطل عليه صاح صيحة الفرح وقال: لقد خشيت أن أموت ولا تسمع ندائي.
– معاذ الله أن يحل بك مكروه، فقد أنقذتني من الموت وسأنقذك منه.
ثم جعل روكامبول يتأمَّل بالحفرة وعمقها ويبحث بحث المدقق، فعلم أنه إذا لم ينجده منها فلا سبيل له إلى الصعود، وأنه يموت فيها جوعًا دون شك، فاتقدت عيناه ببارق الفرح الوحشي وقال في نفسه: إن الأقدار خادمة لي والصدفة من عبيدي.
أما المركيز فقد قص على روكامبول السبب في سقوطه، فقال: إني بينما كنت متمددًا بالقرب منك أعالجك كي تستفيق من إغمائك، شاهدت سفينة تسير في عرض البحر، فوقفت وجعلت أركض إلى الشاطى وأنا أشير بيدي إليها وأنادي رجالها.
وبينما أنا أركض غير منتبهٍ وعيناي شاخصتان إلى السفينة، سقطت في هذه الحفرة، ولو لم تسمع ندائي لهلكت من الجوع.
فأجاب روكامبول: طِبْ نفسًا أيها الأخ المشفق، فقد وجدت أخًا مشفقًا مثلك، إلا أنه كيف السبيل إلى إنقاذك؛ فإني لا أستطيع أن أنزل إليك، وليس لدي حبل أرفعك به؟
– إنك تجد على مسافة عشرين خطوة من هذه الحفرة قرب المكان الذي كنتَ نائمًا فيه، غدارتي وحقيبة أوراقي ومنطقة من جلد، وهي طويلة كنت ألفُّ بها وسطي خمس مرات، فاذهَبْ وَأْتِ بها فإنها كافية لإنقاذي، فإنك ترسل إليَّ أحد طرفيها لأتعلق به وتسحبني بالطرف الثاني.
– ليطمئن بالك، وها أنا ذاهب حالًا.
ثم ذهب روكامبول يمشي الهويناء وهو يخاطب نفسه: إن هذا الصخر مقفر قد لا يمر به الصيادون مرة في العام، وإذا لم أنقذه من الحفرة فلا يجد مَن ينقذه، وعلى ذلك فإذا أخذت أوراقه وسبحت إلى هذا البر القريب أصبح مركيزًا غنيًّا لا ريب فيه، وبعدُ هل أنا رميته في الحفرة لأنقذه منها؟ إن الصدفة قد عرضت لي فَلْأتمسك بأهدابها؛ لأنها لا تعرض في كل حين، وفي كل حال فإنه إن كان قد أحسن إليَّ في هذه الحياة وأنقذني من الموت وأعطاني لقبه وماله، فسأنفعه في الآخِرة؛ لأن الله سيسجل اسمه في دفتر الشهداء.
وبعد أن قال هذا القول ذهب إلى المكان الذي دلَّه عليه، فوجد الحقيبة والمنطقة والغدارة، فجلس على الرمال وبدأ يفتح الحقيبة وأخذ يفحص ما فيها من الأوراق مطمئنًّا، فكانت أول ورقة عرضت عليه شهادة مركيز من شركة سفن الهند، وهي مكتوبة باسم فريدريك ألبرت دي شمري، وُلِد في باريس في ٢٥ يوليو سنة ١٨٠٠، وله من العمر ٢٨ عامًا.
فخاطب روكامبول نفسه: لقد علمت الآن أني صرت أُدعَى فريدريك دي شمري، وأني اشتغلت في سفن الهند، فَلْأنظر في بقية الأوراق.
ثم أخذ رسالة طويلة مكتوبة بخط رفيع متطاول، فعلم أنه خط امرأة، وكان عنوان هذا الكتاب «ولدي العزيز» والتوقيع عليه «المركيزة دي شمري»، فقال روكامبول: الحق يقال، إن السير فيليام قد خدمني في حياته وفي مماته، ولولا أوراقه لما غدوت الآن مركيزًا في مقام النبلاء. ثم قرأ تحت التوقيع «شارع فانو نمرة ١٧ في القصر»، وبعد ذلك أخذ في تلاوة هذه الرسالة وهذا نصها:
أرسل هذا الكتاب إلى وزارة البحرية الإنكليزية، ورجائي أن يصل إليك ولو بعد حين، وأن تُسرِع بعد تلاوته إلى أمك وأختك، كما يرجو أبوك الذي ندم عند احتضاره لسوء ظنه، وإني لم أعلم يا ولدي العزيز إلا الآن بذلك السر الذي دفع أباك إلى الإساءة إليَّ وإبعادك عني، وإليك الحديث: كان المركيز دي شمري يقيم منذ ١٦ عامًا بعيدًا عني لا يكلمني، وكان يرسل إليَّ راتبًا في كل شهر أنفقه عليَّ وعلى أختك، وقد طالما بكيت أمامه وتوسَّلْتُ إليه أن يُطلِعني على سر هذا الجفاء، فلم أَفُزْ منه بمراد، على أننا كنا في عيون الناس نتشارك بالسعادة والهناء، وفي الحقيقة كنَّا من أشد الناس نكدًا، حتى حسبنا أن أباك أصيب بضرب من الجنون. أما سر هذا الجفاء فهو أن أباك لم يكن منذ ثلاثين عامًا على شيء من الثروة، سوى أنه كان كولونيلًا في الجيش، وكنتُ أنا فقيرة مثله، فتزوَّج بي زواج غرام، وكنتَ أول ثمرة من ثمرات هذا الزواج، وعندما بلغت الخامسة من عمرك، تغيَّرَتْ حالة أبيك فجأةً، فإن ابن عمه كبير هذه الأسرة كان أغنى الأغنياء فقُتِل في مبارزة.
وقبل أن يموت هذا المركيز ببضعة أعوام، اضطر أبوك إلى السفر في حملة الجرائر، فأقامني عند قريبته المركيزة دي شمري في قصره خارج باريس، ولما عاد أبوك اضطر إلى الاستقالة، بحيث بلغنا بعد استقالته إلى أقصى درجات الفقر، فخدم في إحدى المناجم بصفة كاتب، ولكن عهد شقائنا لم يَطُلْ؛ فإن المركيز هكتور شمري جُرِح جرحًا خطيرًا في مبارزة ضمان بعد أن كتب وصيته، وقد أوصى بجميع ماله إلى أبيك، وحرم أختًا له وهي ابنة المركيز دي شمري من غير زوجه، فحقدت هذه المركيز حقدًا عظيمًا عليَّ، ووشت بي وشاية هائلة لم أعلم بها إلا أمس.
وحكاية هذه المركيزة أنها ترملت وهي في عنفوان الشباب، وكان ابنها هكتور لا يزال طفلًا فلم تستطع الزواج؛ لأن زوجها اشترط عليها في وصيته أن لا تتزوج بعده أو هي تُحرَم من حق الإرث، إلا أنها ارتكبت هفوة ولدت بعدها بنتًا وأخفتها في البدء عن العيون، ثم جاءت بها إلى قصرها، وكانت تقول إنها يتيمة وقريبة لها. أما أخيها المركيز فقد علم سرها، ولهذا فإنه حرم أخته من الإرث وأورث ماله لأبيك، ومن ذلك العهد بدأ انتقام تلك المرأة.
وقد اتفق أنه بعد قتل هذا المركيز بثلاثة أشهر ولدت أنا أختك، وكان عمرك خمسة أعوام، أيضًا ماتت هذه المركيزة فذهب أبوك إليها وحضر ساعة احتضارها، فقالت له أقوالًا أملاها عليها الحقد الدفين، وكانت علة شقائي أعوامًا طوالًا؛ لأنها كانت السبب في إبعادك عني.
فقال روكامبول في نفسه: ما هذا الكتاب؟ إنه يشبه الحكايات الموضوعة، فلأتم قراءة هذه الحكايات. واندفع في قراءة تتمة الرسالة، فقرأ ما يأتي:
اعلم يا ولدي العزيز، أنه بعد أن عاد أبوك من عند المركيزة بثمانية أيام، خطفوك من منزلي وبقي سر اختطافك دهرًا طويلًا مكتومًا عني حتى حسبتك في أعداد الأموات.
وكان عمرك حين اختطافك عشرة أعوام، وكنتَ تحب في ذلك العمر أن تنام في غرفة وحدك.
وفي أحد الأيام دخل الخادم إلى غرفتك كي يُوقظك ويمرنك على ركوب الخيل كما كنتَ تُحب، فلم يجدك فيها، وبحث عنك في الحديقة وفي كل مكان من القصر دون أن يقف على أثرك.
وكان أبوك غائبًا عن باريس في تلك الليلة، وأخبرت البوليس بأمر اختطافك فذهبت أبحاثه عبثًا، وكتبت إلى أبيك أخبره بهذه المصيبة فوردني منه كتاب لم يظهر فيه شيئًا من عواطف الوالدين، على أنه عاد من سفره بعد شهر فرأيت أن شعوره قد ابيضت، وحسبت أن ذلك كان تأثير تلك المصيبة، ولكنه منذ ذلك العهد لم يكلمني كلمةً إلا أمام الناس، ولم ينظر إلى أختك نظرة حنو، ولم يذكر اسمك مرة في خلال هذه المدة الطويلة التي بلغت ستة عشر عامًا.
وفي أوائل العام الماضي لزم الفراش لانحراف ألم به، ثم اشتدت وطأة علته فلم يكن يؤذن لي ولأختك أن ندخل إلى غرفته، إلى أن وسطت في ذلك أحد القسيسين، فأَذِن لي بالدخول إليه وهو في حالة الاحتضار، وقال: لقد دنت ساعة الموت ولا أحب أن ألقى الله وفي قلبي أثر من الحقد، ولذلك فإني أصفح عنكِ.
فاضطربت حواسي وقلتُ له: إن الصفح يكون عن المجرمين، فأي ذنب ارتكبته؟
وقد كانت لهجة الصدق ظاهرة من ملامحي، فتأوَّه وقال: رباه! ألعل المركيزة كانت كاذبة نمامة؟
ثم أخذ رسالة من بين أوراقه كتبتها إليه المركيزة قبل وفاتها بيومين، ودفعها إليَّ وهو يقول: اقرئي هذه الرسالة. فأخذت الرسالة بيد مرتجفة وقرأت فيها ما يأتي:
يابن عمي العزيز
إن ولدي العزيز هكتور قد جعلك وريثًا لجميع أمواله، فحسبت لبساطة قلبك أنه جعلك الوريث الوحيد دون أخته ودوني لأن هذا الإرث من حقك، على أنه لم يخصك بإرثه لهذا السبب، بل إنه أراد أن يحرم أخته التي أربيها في منزلي بصفة قريبة، وما هي في الحقيقة إلا ابنتي، ثم إن هناك سببًا ثانيًا وهو أنه كان يحب امرأتك، وهو لم يدفع أمواله إليك بل لابنته التي تحسب أنها ابنتك. أما وقد اعترفت لك بالحقيقة، فأرجو أن تعتني بأمر ابنتي من بعدي، فإنها باتت صبية، وما تركته لها قد لا يكفيها.
المركيزة دي شمري
أعلمت الآن يا ولدي السبب الذي دعى أباك إلى احتقاري، فقد كان يحسبني من أحط النساء العابثات بالواجبات، ويحسب أن أختك عار عليه لاعتقاده أنها بنت الجريمة، وذلك لأني ولدتها في منزل المركيزة التي أرادت لحقدها عليَّ أن تدنس شرفي قبل موتها، فلقيتُ أشد العذاب لجفاء أبيك في ذلك العهد الطويل.
ولما قرأت هذه الرسالة الكاذبة جثوت راكعةً أمام سرير أبيك، وسألت الله أن يلهمه إلى سبيل السداد، فيثق ببراءتي قبل أن يموت، وقد أراد الله أن يجيب ندائي، فإن أباك أيقن مما رآه وسمعه مني بطهارتي، فسألني الصفح بدلًا من أن يصفح عني، وفاضت روحه الكريمة وهو يباركني.
وقد أخبرني قبل أن تحضره الوفاة أنه هو الذي اختطفك، وسوى ذلك من التفاصيل التي علمت منها محل وجودك، فعُدْ أيها الحبيب إلى أحضان أمك؛ لأنها تنتظرك بفارغ الصبر.
إلى هنا انتهت رسالة المركيزة إلى ولدها، فتناولها روكامبول ووضعها مع أوراق الشهادة، ثم بدأ يقرأ الأوراق الباقية في الحقيبة ورأى بينها مذكرات كتبها البحَّار عمَّا لا يزال عالقًا بذاكرته عن اختطافه، وكيف أن أباه أخذه من الغرفة التي كان نائمًا فيها وذهب به إلى الهافر، وهناك سلَّمه إلى ضابط إنكليزي في إحدي السفن، إلى غير ذلك من المذكرات التي قرأها روكامبول بإمعان شديد.
ولما أتم قراءتها جميعًا قال: إن جميع هذه الأوراق تُثبِت أن هذا البحار هو ابن المركيز دي شمري، ولكنه لا يستطيع الخروج من الحفرة إلا بإذني، ثم إني لا أجد فائدة من قتله، فإن هذا السجن الذي هو فيه كافٍ لقتله.
وعند ذلك أرجع الأوراق إلى الحقيبة وشدَّها بالمنطقة إلى وسطه، وذهب إلى الشاطئ فرأى أن البحر عاد إلى السكون، وأن أرض فرنسا لا تبعد عنه أكثر من ساعة، فألقى نفسه في البحر وراح يسبح مجدًّا إليها.
٣
في الساعة الثالثة بعد ظهر أحد أيام المرافع، كان شارع سانت كاترين بباريس غاصًّا بالناس، إلا أن اجتماعهم في ذلك الشارع لم يكن لفرجتهم على ملك المرفع، ولا على الذين يمرون أفواجًا وهم بملابس تستوقف الأبصار، بل إنهم كانوا محتشدين أمام ملعب صغير يسمعون فتاة حسناء تدعوهم إلى الدخول للفرجة على سلطان القبائل المتوحشة، وتحكي لهم عنه حكاية عجيبة تدفعهم إلى الدخول، فيدخلون ويخرجون أفواجًا.
وقد مرت في ذلك الحين مركبة تقل شابًّا جميل الطلعة عليه ملامح النبل والذكاء، فلما رأى الناس محتشدين على باب هذا الملعب أوقف المركبة، حتى إذا سمع الفتاة تقص حكاية زعيم القبائل المتوحشة، نزل من المركبة ودفع للفتاة ٢٠ فرنكًا دون أن يتدانى إلى إرجاع الباقي مما زاد عن أجرة الدخول، فأعجبت الفتاة بكرمه، ودخل وهو غير مكترث لها إلى حيث كان هذا الزعيم، فرأى منظرًا تتأثَّر له القلوب القاسية.
ذلك أنه رأى على منصة الخشب، رجلًا مشوَّه الخِلْقة تشويهًا عجيبًا، وقد وشم وجهه بنقوش مختلفة الألوان، بين أزرق وأخضر وأحمر، وفي خديه وسائر وجهه ندوب، بل أخاديد تُوشك أن تبرز منها العظام، وفي مكان عينيه حفرتان إحداهما عظيمة ذهبت بعينه بجملتها، والثانية أصغر من أختها إلا أنها أبقت على شيء من العين الأخرى، وقد شقت أنفه فعلقت فيه حلقة نحاسية عظيمة، وهو فوق هذه النكبات أبكم لا يتكلم، ولكن الذي يعرضه للفرجة كان يقول إنه يفهم اللغة الإنكليزية.
ومما زاد في منظره غرابة ذلك اللباس الذي كان يلبسه، فقد كان يلبس ثوبًا مرقعًا جمع بين معظم أصناف الأجواخ والأصواف على اختلاف أصنافها وألوانها، ولبس في رأسه قبعة جُعِلت بشكل تاج وزُيِّنَتْ بريش الطيور وأذنابها، وعلى الجملة إنه كان لا يفرق عن الحيوان إلا بأنه لا ذنب له، ولكن منظره كان يحمل على الإشفاق والذعر معًا، فلا يراه المتفرجون حتى يتراجعوا عنه منذعرين، ويخرجوا من ذلك الملعب مستعيذين.
ولما دخل الزائر الجديد جعل يتأمَّله ساعة، وكلما زاد تفرُّسًا به زاد ذهوله، وبقي يتفرس به والمتوحش منشغل عنه بطعامه إلى أن تفرَّقَ الناس من حوله، فنادى صاحبه وقال: لقد سمعتك تقول إنه يفهم اللغة الإنكليزية، أحقيقة ما تقول؟
– نعم يا سيدي، وإذا شئتَ فامتَحِنْه.
فدنا المتفرج من المتوحش وقال له بالإنكليزية: على أية سفينة عُدْتَ إلى أوروبا، أعلى فيلتون أم برسفرانس أم فولر؟
ولما سمع المتوحش اسم السفينة الأخيرة ارتعش، وتزحزح لاضطرابه عن المنصة التي كان جالسًا عليها، فعلم المتفرج ما أراد أن يعلمه من هذا السؤال، وخرج إلى الفتاة وقال لها: ما يكون منكِ هذا الرجل الذي يعرض المتوحش للفرجة؟
فأطرقت عينيها وقالت إنه زوجها.
فعلم المتفرج أنه خليلها فقال لها: أتريدين أن تكسبي مائتي فرنك؟
– لا أحَبَّ إليَّ من هذا الكسب؟
– متى أراك وأين؟
– تراني في هذا الملعب متى أقفلت أبوابه في الساعة الثانية.
فألقى إليها دينارًا وذهب.
وفي الساعة الثانية عاد إليها فرآها تنتظره في إحدى غرف الملعب، وهي جالسة على كرسي وبالقرب منها المتوحش نائم على الأرض لا غطاء له سوى ثوبه الرقيق، فسألها: أتعرفين اللغة الإنكليزية؟
– كلا!
فدنا عند ذلك من المتوحش وأيقظه وقال له بالإنكليزية: لا تَخَفْ فإني صديق لك، ولا بد أنك تذكر تلميذك القديم روكامبول.
فظهر على المتوحش من علائم السرور ما لا يحيط به وصف.
فقال له المركيز دي شمري أو روكامبول: إني أبكيك منذ خمسة أعوام، ويسوءني أن ألقاك على هذه الحالة، إلا أني أتعزى بأني سأخفف شقاءك.
ثم عاد إلى الفتاة وقال لها: ألعلكم تكسبون من عرض هذا المتوحش كثيرًا؟
– كلا، بل إن إيرادنا منه لا يفي بنفقتنا عليه، لا سيما في هذه العاصمة فإن كل مَن رآه ينفر منه ولا يعود، ولم يَعُدْ لي طاقة بالإنفاق عليه والانتقال به إلى بلدة أخرى.
– إني أكفيكم مئونته، بل أشتريه منكم إذا أردتم بيعه، فإني أشفقت عليه وأحب أن أعالجه علَّه يطيب من هذه الندوب.
ففرحت الفتاة وباعته المتوحش بألف فرنك، دفعها لها على الفور مع المائتي فرنك التي وعدها بها، ثم ألبسه لباسه من ثياب الفتاة وخرج به، فركب معه المركبة التي كانت تنتظره على الباب وأمر السائق أن يسير إلى شارع سيرسانس.
٤
ولما خلا روكامبول بأندريا، لأن هذا المتوحش لم يكن غير السير فيليام؛ أي الفيكونت أندريا، الذي تقدَّمَ ذِكْر عقابه في رواية التوبة الكاذبة، وكان اجتماعهما في أحد منازل روكامبول السرية، فقال له روكامبول: لقد خلا لنا الجو الآن، فأصغِ إليَّ كي أخبرك بأنك إذا كنت وهبتني لقب مركيز مستعار، فقد صيَّرت نفسي مركيزًا ثابتًا لا ريب فيه؛ إذ إني أُدعَى الآن المركيز دي شمري.
ولهذه المركيزة الجديدة حديث طويل، ولكن اعلم أن أخاك الكونت أرمان دي كركاز …
فاضطرب أندريا حين سماعه اسم أخيه، وسُرَّ روكامبول لما رآه من اضطرابه، فقال له: يسرني أن أراك عائدًا من جزائر المركيز بحقدك القديم؛ لأن ذلك يدلني على أنك لا تزال السير فيليام، فلا أعدم فوائد دهائك، فاعلم أيها الصديق القديم أنني عندما بارزت أخاك الكونت وكنت أرجو أن أظفر به بتلك الطعنة الإيطالية، رأيت أنه يعلم دقائقها أكثر مني، فانجلت المبارزة على ظفره بي فجرحني جرحًا بالغًا، وكان من إحسانه أنه عالجني في قصره، فاغتنمت تلك الفرصة وسرقت أوراقك من غرفتك في ذلك القصر، وهي التي أعانتني على الدخول في سلك النبلاء وصيَّرتني كما تراني مركيزًا من أغنى الأغنياء.
ثم قص عليه جميع ما نعلمه من حديث السفينة والغرق، وكيف ترك المركيز الحقيقي في الحفرة إلى أن قال: وعُدْتُ سباحةً إلى أن بلغت الشاطئ الفرنسي وأموالي وأوراق المركيز معي، ولما أعملت الفكرة وجدت أن هذه الأوراق بَعد بُعْد المركيز عن أمه وأخته ثمانية عشر عامًا، ومشابهتي إياه بعض الشبه، وكوننا في عمر واحد، كل ذلك لا يكفي لإثبات مركيزيتي، بل يجب أن أكون بحَّارًا ماهرًا، وأن أعرف الهند وأخلاق قومها وعاداتهم وشيئًا من لغتهم إلى غير ذلك ممَّا كان يعرفه المركيز، فعُدْتُ في اليوم التالي إلى لندرا وهناك اتفقت مع أحد التراجمة الذين يسافرون إلى الهند، سافرت معهم إليها وأقمت فيها ستة أشهر، وكنتُ في كل يوم أختلط مع البحارة والضباط حتى عرفتُ كل ما ينبغي عرفانه، أطلقت سراح الترجمان وعدتُ إلى فرنسا، فوجدت تلك الأم المسكينة قد ماتت قبل وصولي بيومين، ولعلها ماتت من الفرح، فقد كتبت إليها أُخبرها بقدومي، ورأيت شقيقتي وهي غضة الصبى بارعة الجمال، فعانقتها عناق الأخ وعرَّفتني بخطيبها، ثم دفعت إليَّ أموال أبي المركيز، فصرت من ذلك العهد أُدعَى المركيز دي شمري.
أما هذا المنزل الذي أتيت بك إليه الآن فهو أحد منازلي السرية التي استخدمها لأغراضي، وسأقيمك في منزلي الخاص كي تكون بقربي في كل حين، غير أنه لا بد لي من أن أدعو طبيبًا ينظر في وجهك، فعساه يتمكَّن من إزالة هذا الوشم الكريه.
وعند ذلك دعا خادمه وأمره أن يدعو له أحد الأطباء الأخصاء بهذه العاهات.
انطلق الخادم مسرعًا، وذهب روكامبول إلى المطبخ فأحضر لأندريا ما تيسَّرَ من الطعام، جعل يزدرده بشراهة تدل على شدة جوعه، إلى أن حضر الطبيب فلفق له روكامبول حكاية خلاصتها أن هذا الرجل كان بحَّارًا تحت إمرته، وكان له عدو شديد احتال عليه حتى تمكَّنَ من إبقائه على شاطئ إحدى الجزر المتوحشة، ففعل به أهلها ما فعلوه، ثم باعوه إلى أحد البحارة فباعه إلى أحد أصحاب الملاعب، إلى أن عثر به هذه الليلة فعرفه واشتراه وقدم به كي يعالجه، ثم سأله إذا كان يمكن إزالة هذه الندوب والوشم من وجهه، ففحصه الطبيب فحصًا مدققًا وقال: لا ريب أن هذا الوشم من آثار تلك القبائل المتوحشة، وأظن أني أستطيع إزالته.
– والندوب؟
– إن آثارها لا تزول.
– وعيناه؟
– إن إحداهما طفئت فلا رجاء منها، والثانية في أشد حالة من الخطر، وفي كل حال سأعود غدًا في الساعة العاشرة أفحصه على نور النهار.
– حسنًا، وستراني بانتظارك. فودَّعه الطبيب وانصرف.
عاد روكامبول إلى أندريا وقال: إننا سنفرغ جهدنا بإزالة هذه الآثار من وجهك، فلا تطمح أن تعود إلى سابق حالك، فتغوي بجمالك الكونتس حنة دي كركاز امرأة أخيك، ولكننا نحاول أن نخفف شيئًا من قُبْح هيئتك.
ارتعد أندريا عندما سمع اسم شقيقه وابتسم ابتسامًا هائلًا، فقال روكامبول: طِبْ نفسًا، سأصنع لك جميع ما أستطيعه، والآن اسمح لي بفراقك إن للمركيز دي شمري أختًا وصهرًا يسكن معهما، فلا بد له من العودة إلى قصره. فرأى على مائدته رسالةً وردت إليه في المساء وهذا نصها:
إن الدوق والدوقة دي سالاندريرا يتشرفان بدعوة المركيز ألبرت دي شمري إلى طعام العشاء عندهما يوم الأربعاء.
فقال روكامبول في نفسه: إن أعمالي مع هذه الأسرة جارية في أحسن مجرى. ثم نام نوم المطمئن الآمِن من الحاضر والواثق بالمستقبل.
وفي الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي ذهب إلى المنزل الذي أقام فيه أندريا، فوجد الطبيب قد سبقه وفحصه الفحص الدقيق، فقال روكامبول: ماذا شاهدت؟
– إني أستطيع إزالة بعض الآثار من وجهه، بحيث يظهر بعد ذلك كأنه قد انفجر مرجل أمامه، فأصابه رشاش مواده وشوَّهته، إلا أني أخشى أن يذهب ما بقي من بصره ويُصبح أعمى بعد هذه المعالجة.
فتركه روكامبول ودخل إلى الغرفة المقيم فيها أندريا ووضع أمامه أدوات الكتابة وسأله: أَلَا تزال قادرًا على الكتابة؟
فأخذ أندريا القلم وكتب هذه الجملة: إني شديد الظمأ للانتقام، وأذكر كل شيء.
فأجاب روكامبول: إذن أغمض عينك، واكتب لأرى إذا كنتَ تستطيع الكتابة في الظلام؛ إذ لا يمكن أن تحادثني إلا بالكتابة، وقد نضطر إلى المحادثة في الليل.
فأطبق أندريا عينه الوحيدة وكتب: إني إذا عميت أعرف أعدائي باللمس بل بالوحي.
– إذن تمرَّنْ على الكتابة وأنت مغمض العين.
ثم تركه وعاد إلى الطبيب وقال: اشرع في معالجته، فلا حاجة له بالبصر.
٥
بعد هذه الحوادث المتقدمة بشهر كان أندريا في قصر روكامبول الذي يقيم فيه مع شقيقته وصهره، وقد وفَّى الطبيب بما تعهَّدَ به وأصلح وجه أندريا إلا أنه أعماه.
ودخل روكامبول إليه وجعل يعزيه لفقد بصره، غير أن أندريا كان قد قنط من كل شيء، فلم يَعُدْ له عزاء إلا بفوز تلميذه والانتقام له من أعدائه، فقال له روكامبول: إني لا أعلم إذا كنتَ تفتكر كما أفتكر، إلا أني لو كنتُ في مقامك لكنت أقول في نفسي إني قد تمتعت بجميع ملاذ الدنيا، وطالما انتصرت على الناس وفتكت بهم كما شاءت مطامعي، إلى أن ظفر بي أعدائي فشوَّهوا وجهي، وقطعوا لساني، وأعموا عيني مما يحلو معه القنوط والموت، غير أني لا أحب الموت قبل الانتقام من هؤلاء الأعداء.
فهَزَّ أندريا رأسه إشارة إلى الموافقة على هذا الكلام، فتابع روكامبول: إني سأنتقم لك من أعدائك وهم أعدائي أيضًا متى لاحت لنا فرصة الانتقام، والآن فإني أصبحت بفضل أوراقك كما كنتَ أنت في أول عهدك؛ أي رجلًا في مقتبل الشباب، وافر المطامع، لا يروق لي غير المسابقة في حلبة هذه الحياة والبلوغ إلى أقصى ما توحيه إليَّ الأماني، فإذا أرشدتني بمقياس ذكائك وأوضحْتَ لي السُّبُل بدهائك، فزتَ بفوزي وسررتَ لسروري؛ فأكون عزاءً لك وسلوى عما أنت فيه.
فهزَّ أندريا رأسه أيضًا مرات كثيرة إشارةً إلى المصادقة، فقال له روكامبول: إنما يجب أن تعلم أني إذا كنتُ قد أنقذتك من الملعب بصفتي روكامبول، أي تلميذك القديم، فقد أحسنت بعمل ما تدعوني إليه واجبات الإخلاص، فما أسأت أيضًا فيما صنعت بصفتي المركيز ألبرت دي شمري، ولو كان رجل سواي فعل ما فعلتُ لقال في نفسه إني قد أخطأت فيما صنعت؛ إذ لا يجب أن يقف أحد على سري الهائل، إلا أني أرى سوى هذا الرأي، وأقول إن السير فيليام رجل شديد الدهاء وافر الذكاء، فإذا كان مرشدي في ما أطمع بنيله من الآمال بلغت ما أريد، وربما وصلت إلى منصب السفارة والوزارة، بل ربما بلغت إلى العرش، فإن أطماعي لا تقف عند حدٍّ وذكاؤك لا ينتهي عند غاية.
فاختلج أندريا على كرسيه عند سماع هذه الكلمات، وظهرت على وجهه علائم الرضى، فتابَعَ روكامبول: والآن أيها الصديق، بل أيها الأستاذ المرشد، إني سأقص عليك مشروعاتي وأنت تشير عليَّ، ولا أخرج عن آرائك، غير أنه لا بد لي قبل الشروع بذلك أن أبدي لك فكرًا جديدًا ربما كان صوابًا، لقد كنَّا نجري في أعمالنا السابقة على قاعدة تبيَّنَ لنا خطؤها بعد الاختبار، وهي أننا كنا نستعين على الشر برجال الشر، وعندي أن خير كفيل للفوز بصنع الشر أن نستعين على تنفيذه برجال الخير والصلاح؛ فإن ذلك أضمن في الفوز وفي نيل الأغراض لبُعْد الشبهات.
فتهلَّلَ وجه السير فيليام وهزَّ رأسه كأنه يقول أحسنت.
وتابع روكامبول: إني منتحل اسم المركيز دى شمري، ومنذ أربعة أشهر تحيط بي شقيقتي وهي من النساء الأشراف، وزوجها رجل شريف، ومعظم أصحابي من نخبة الأسرات النبيلة، وسأقص عليك علائقي مع هؤلاء الأشراف، فتجد بعد ذلك سبيلًا إلى استخدامهم فيما تريد، فإن الشر والمكائد لا يخطران لهم في بال، وأبدأ بذكر قصتي فأقول: إني حين أتيت باريس ماتت أمي المركيزة، فكان موتها من حسن حظي؛ لأن الأم قد تعرف ابنها ولو غاب عنها عشرين عامًا، وكانت شقيقتي مخطوبة، ولما مضت ثلاثة أشهر على وفاة أمي تزوَّجَتْ شقيقتي خطيبها، وأقام الاثنان عندي إلى أن تنتهي مدة الحداد، أما أنا فإني تصرَّفْتُ تصرُّفَ النبلاء، كأني خُلِقت مركيزًا من بطن أمي، ولا جرم لقد مثلت على مسرحك كثيرًا من الأدوار، وأصبحت علائقي كثيرة مع أشهر أسرات باريس وغيرها من الأسرات العريقة بالنسب، كعائلة الدوق دي ساندريرا الإسباني، فإن هذا الدوق من عظماء الإسبان وليس له سوى فتاة في نضارة العمر، وهي التي سترث أمواله التي لا تُحصيها أقلام الحاسبين.
وقد كثر ترددي على هذا البيت، وفي كل يوم ألقى دليلًا جديدًا من الفتاة على ميلها لي، حتى لقد بِتُّ أحسب أنها تحبني، وكذلك أمها الدوقة فإنها تُرحِّب بي ترحيبًا عظيمًا كلما ذهبت إليهم، ولم يَبْقَ عليَّ سوى هذا الدوق.
فهزَّ أندريا رأسه بشكل خاص كأنه يقول سوف نرى في أمره، فقال: والآن فإن لدي مشروعين خطيرين قد يدعو فوزي بالواحد منهما إلى فوزي بالآخَر، أحدهما مشروع زواجي بهذه الغادة الإسبانية النبيلة، والثاني أن صهري الجديد ربما ورث في عهد قريب إرثًا عظيمًا سنبحث فيه عند نيله، فإن لي فيه مآرب.
وَلْنَعُدِ الآن قليلًا إلى أعدائك بل أعدائي، فإننا بتنا واحدًا كما أرى، وَلْنبدأ بأخيك إرمان دي كركاز.
فظهرت على وجه أندريا علائم الحقد الهائل، كأن إحسان أخيه وتقادم العهد على ما كان بينهما لم يطفئ ذلك الحقد الكامن في صدره كُمُونَ النار في الحجر، فقال روكامبول: إني وجدت إرمان لا يزال من رجال الصلاح، يقضي معظم وقته في صنع الخير، ولا تزال امرأته تحبه ولا يزال ابنه بقربه.
وبحثت أيضًا عن باكارا، فعلمت أنها قد تزوَّجَتْ بالكونت أرتوف، ولكن سبب هذا القران سر غامض لم يقف عليه أحد.
ورأى روكامبول أن علائم الحقد والرعب قد ظهرت على وجه أندريا حين ظهر له اسم باكارا، فقال له: إن حقدك على أخيك وسعيك للانتقام منه كان السبب في هلاكك مرتين، فخير لك أن تتخلى عنه وتنصرف إلى الانتقام من باكارا، فإنها علة مصابك، في حين أن أخاك لم يكن يريد لك إلا الخير، ثم إني لا بد لي من مقاومة باكارا للانتقام منها، ولخوفي من أن تحول دون ما أبغيه من القران بالإسبانية، فإن هذه المرأة قد أحبطت جميع آمالي حينما كنت الفيكونت دي كامبول، فأخشى أن تحول دون مقاصدي وتفسد عليَّ أمري وأنا أُدعَى المركيز دي شمري.
وكان روكامبول يخشى باكارا وهو لا يعلم أنها في باريس، ولا يعلم كيف أنها تستطيع أن تحبط مساعيه في قرانه، وسنوضِّح كل ذلك في مكانه من هذه الرواية الهائلة.
٦
ولا بد لنا قبل الخوض في حديث باكارا أن نذكر شيئًا من حكاية هذا الدوق الإسباني وفتاته، لشدة علاقته بهذه الرواية، فنقول:
كان هذا الدوق من عظماء الإسبان وأعظم أغنياء تلك البلاد، ولم يكن له وريث غير فتاة بارعة في الأدب والجمال، فكان يقدَم بها كل عام وبامرأته إلى باريس، فيقيم فيها ستة أشهر ثم يعود إلى بلاده.
وكان لهذا الدوق ابنا أخٍ، أحدهما يُدعَى الدون بادرو والثاني يُدعَى الدون جوزيف، ولما رأى أنه لم يرزقه الله مولودًا ذكرًا يرث اسمه النبيل، عزم على أن يزوِّج ابنته بابن أخيه الدوق، كي ينحصر الإرث بالعائلة.
وكان الدوق جوزيف يجيء معهم كل مرة إلى باريس، ويزورهم في كل يوم، فكان الناس يتحدثون أنه هو الذي سيتزوج الصبية، غير أنه تعاقب على هذه الزيارات عامان فجعل الناس يقولون إنه لا بد من حائل يحول دون هذا الزواج، فتهافت الخطَّاب على قصر الدوق وكلهم من علية القوم وكبار النبلاء، ولكن الفتاة كانت تردُّ جميع خطَّابها وتعتذر بأنها لا تزال صغيرةً ولا رغبة لها بالزواج.
وكان الحائل بينهما مرض أخيه الدون بادرو، فإنه كان عليلًا منذ أربعة أعوام، وقد أُصيب بمرض غريب عضال عجز عنه الأطباء وقنط الدوق من سلامته، فانصرف بآماله إلى ابن أخيه الدوق جوزيف، وأراد أن يزوِّجه ابنته بعد وفاة أخيه لأنه كان يحبه، إلا أن الفتاة كانت تكرهه؛ لأنها كانت تحب أخاه، وكان كرهها له ظاهرًا لم يخفَ على عين روكامبول النقادة، حتى إنها كانت إذا التقت في منزلها بروكامبول والدون جوزيف تُظهِر ميلها إلى روكامبول، وتنفر من ابن عمها بقدر ما تسمح لها قيود المجاملة وروابط النسب، ولولا حب أبيها له لما اقتصرت في النفور منه عند هذا الحد.
فترجَّحَ لدى روكامبول أنها تحبه، وكان كلما حاول أن يكاشفها بغرامه يستشير أندريا فيقول له: اصبر، فإن الثمرة لم تنضج بعدُ، وإذا كانت تكره ابن عمها وتحبك كما تقول، فلا بد أن يحملها كرهه وحبك إلى أن تكون البادئة في بثك هواها، وعند ذلك أجد لك حيلة لإقناع أبيها.
فيمتثل روكامبول ويقتصر على مناجاتها بلغة العيون، وهي أنفذ رسول إلى القلوب.
إلا أن نبوءة أندريا قد صدقت، فإنه لم يمضِ على ذلك أسبوع كان روكامبول لا ينقطع في خلاله عن زيارة الدوق، حتى لقيه خادم الفتاة يومًا وهو خارج من منزلها ودفع إليه رسالة، ففَضَّها روكامبول فإذا هي من ابنة الدوق تدعوه فيها إلى التنكُّر عند منتصف الليل، وموافاتها إلى حديقة القصر من باب سري أرسلت إليه مفاتيحه، فأخذ روكامبول الرسالة وأسرع إلى أندريا، وهو يكاد يطير من الفرح وأخبره بشأنها، فقال له بعد أن تأمَّلَ مليًّا (وكان يخاطبه بالكتابة): ليس هذا اللقاء لقاء غرام، فإن مثل ابنة الدوق لا تدعوك إليها عند انتصاف الليل إلا لأمر خطير، ومن هنا ستبدأ روايتك، فاحرص على أن تظهر أمامها بمظاهر كبار النبلاء، واحذر من أن تبدر منك بادرة أو أن يدفعك غرور الصبى إلى المجاهرة بما لا يُستحَب، فإن عظماء الإسبان شديدو التمسك بالشرف، ولهم فيه كثير من التقاليد، فلا يغفرون زلة.
فاتعظ روكامبول بمواعظ أستاذه، وغادره إلى النادي الذي يجتمع فيه بأصحابه، حتى إذا دنا الأجل المضروب ذهب إلى منزله السري فتنكَّرَ وانطلق إلى الحديقة، ففتح بابها بمفتاحه وجعل يمشي تحت أشجارها مشية السارق حتى بصر بها جالسةً تنتظره على مقعد من الرخام في ظل شجرة، فتعارفا وجلس بالقرب منها وجعل يكلمها بملء الاحترام.
وبعد أن اعتذرت له بصوتها الرخيم عن الخطة التي سلكتها معه واجتماعها به في منتصف الليل في خلوة سرية، قالت له: إني لم أفعل ما فعلتُ إلا لثقتي بنبلك، وقد دعتني هذه الثقة إلى أن أعتمد عليك في أمل جلل، فهل تكون موضع ثقتي؟
– بل سأكون من أخلص خدمك.
– إذن خُذْ هذه الأوراق، فقد كتبتُ فيها تاريخ أسرتي وبعض حوادثها، فمتى وقفتَ عليها وتمعَّنْتَ بها، تعُدْ إليَّ لأخبرك بما أريد منك.
ثم أعطته الأوراق، فتناولها روكامبول قائلًا: ومتى تأمريني أن أعود إليك؟
– غدًا في مثل هذه الساعة.
– أين نجتمع؟
– في هذا المكان.
وقبَّلَ روكامبول يدها ثم انحنى أمامها بملء الاحترام وخرج، فانطلق مسرعًا إلى منزله السري، فخلع ثياب التنكُّر وذهب إلى قصره، وصعد إلى الغرفة التي ينام فيها أندريا فأيقظه وأخبره بما كان، وقال: اسمع كي أتلو عليك هذه الأوراق.
وجعل يقرأ عليه جميع ما كتبته الغادة الإسبانية.
وكانت خلاصة هذه الأوراق أن الفتاة أظهرت فيها أخلاق أبيها، وعزمه على أن تبقى ألقابه وأمواله منحصرة في أسرته، ولهذا فقد أراد تزويجها بالدون بادرو شقيق الدون جوزيف، ثم ذكرت أنها تهوى ابن عمها هذا، وأنه مريض منذ أربعة أعوام، وهنا أخذت تقص حكايةً غريبةً محصلها أن الدون جوزيف حسد أخاه الدون بادرو على خطبته لها وقُرْب تمتُّعه بأموال أبيها، فاتفق مع بدوية يهواها اسمها فاطمة دسَّتِ السم لأخيه في الطعام، فأُصِيب على أثره بهذا الداء العياء، وقد ذكرت كيف وقفت على الدسيسة، فقالت إنها كانت جالسة في ليلة اشتدَّ حرها تحت شجرة في حديقة قصر أبيها في إسبانيا، وبينما هي تستنشق النسيم من حفيف الأوراق، إذ سمعت صوت الدون جوزيف وفاطمة يتحدثان في تلك الحديقة دون أن يرياها، بشأن هذا السم وبدء أعراضه، فكانت تقول له فاطمة: طِبْ نفسًا، إن أخاك قد يعيش أربعة أعوام، ولكنه يعيش عليلًا وتزداد علته في كل يوم إلى أن يتلاشى، فارتاعت الفتاة مما سمعت وأسرعت إلى ابن عمها، إلا أن الدون جوزيف حين رآها وعلم أنها سمعت حديثه مع فاطمة، انفرد بها وقصَّ عليها قصة أفظع من هذه، وهي أن أباها الدوق قتل أخاه، أي والد الدون جوزيف قتلًا سريًّا، وأن أباها لا يريد أن يزوِّجها بابن أخيه إلا ترضيةً له عمَّا فعله بأبيه، ثم قال لها: إنك إذا بُحْتِ بسري بُحْتُ أنا بسر أبيك، فاختاري بين الفضيحتين.
ومما جاء في هذه الأوراق أن الدون بادرو حين رأى نفسه عليلًا، وأن الأطباء عجزوا عن شفائه، التمس من عمه أن يزوِّج ابنته لأخيه الدون جوزيف، فأجابه الدوق إلى هذا الملتمس، وكان بينه وبين ابنته نزاع شديد أسفر عن اضطرار الفتاة إلى قبول الدون جوزيف زوجًا لها بعد وفاة أخيه، وهي تعلِّل نفسها بأن تجد مخرجًا لها من هذا الزواج الشائن، إلى أن علمت أخيرًا بأن بادرو أصبح في حالة النزاع، وأنه لم يَعُدْ لها مناص من الزواج بهذا القاتل، فالتجأت إلى المركيز دي شمري وهي تؤمل أن يجد لها وسيلةً تنقذها مما هي فيه.
هذا ملخص لأوراق الغادة الإسبانية، وكان روكامبول يتلوها معجبًا بهذه الأسرار، وأندريا يصغي إليه أشد الإصغاء، حتى إذا أتم تلاوتها سأله: ماذا ترى؟
فكتب على اللوح الحجري يجيب: أرى أن يجب أن تقصر اهتمامك على اقتفاء أثر الدون جوزيف، والتربُّص له في كل مكان حتى تقف على جميع أسراره، فلا بد أن تكون حياته محاطة بالأسرار، ومتى تمكَّنْتَ من الوقوف على شيء منها أسرِعْ إليَّ وأخبرني.
– وماذا أجيب الفتاة بعد تلاوة الأوراق؟
– اذهب إليها غدًا في الوقت المعين، وأَظْهِرْ لها أنك أهل لكتمان سرها وجدير بإعانتها، وانهج معها أحسن مناهج الاحترام.
فودَّعه روكامبول وولج إلى غرفته ونام نوم المطمئن، وفي الليلة التالية ذهب في الأجل المضروب إلى الحديقة، فلقيها تنتظره فبدأ معها بخطاب طويل أظهر لها فيه تأثُّره من مصابها وإكراه أبيها لها على زواجها برجل سفَّاك قاتل، ثم وعدها بأن ينقذها منه في أقرب حين، فأجفلت الفتاة وقالت: ألعلك تُريد قتله بالمبارزة؟
فتنهَّد روكامبول وأجاب: أمجنون أنا فأقدِم على قتله بمبارزة يتضح أمرها لجميع الناس، فتقصيني عنك؟
فتبسمت الفتاة وقالت: إني إذا كنتُ الآن بإخلاصي أحسن فتاة، فسأكون أحسن امرأة إذا نجوت من هذا القاتل.
– اطمئني يا سيدتي، فلا يمر أسبوعان حتى يلقى جزاءه وتصبحين حرة مطلقة من عهود أبيك.
وإنما توغَّلَ بهذا الوعد لشدة ركونه إلى السير فيليام، واعتماده على قريحته الجهنمية، ثم قبَّل يدها باحترام وودَّعَها وانصرف.
٧
أما هذا الدون جوزيف فقد كان من دهاة الرجال، وكان عاشقًا لامرأتين، إحداهما فاطمة النورية وهي التي شاركته في تسميم شقيقه، وقد أتى بها من إسبانيا إلى باريس، فأقامها في بيت محتجب في أحد الشوارع الحقيرة وحصرها فيه لغيرته عليها، بل لحذره من أن تختلط بالناس فتُفشي سره، وكانت توافقه على هذا الاحتجاب لشدة شغفها به، فإنها لم يدفعها إلى مشاركته بالجريمة غير الحب، فكان يذهب إليها كل ليلة متنكرًا في الساعة العاشرة، فيقيم عندها إلى منتصف الليل، وقد عيَّنَ لخدمتها عبدًا أسود وعجوزًا، فكان هذان الخادمان رقيبين عليها.
أما المرأة الثانية فقد كانت من بنات الهوى، وهي محظية لأحد الأغنياء الروسيين، وقد اضطر هذا الفتى إلى السفر ثلاثة أشهر، وسمعت بإسراف الدون جوزيف وفرط ثروته وشدة دهائه، فأرادت أن تقتنصه بالخدعة واحتالت عليه حيلة غريبة، وهي أنها كتبت إليه كتابًا دونَ توقيعٍ قالت له فيه إن امرأة شريفة مشغوفة به تُريد أن تحاذر أيضًا من أن يعرف منزلها، فإذا أحَبَّ أن يأتي إليها معصوب العينين فَلْينتظر في شارع عيَّنَتْه له، إلى أن يوافيه خادمها الذي يعرفه فيأتي به إليها.
فلما وقف الدون جوزيف على هذا الكتاب هاج به شوق غريب إلى معرفة هذه المرأة؛ فقبل بشروطها وذهب إليها معصوب العينين.
فلما تقابلا رأى من جمالها وأدبها ودلائل انشغافها به ما أدهشه، ثم زاد ميلًا إليها حين أخبرته أنها زوجة كونت روسي شديد الغيرة شرس الطباع، وأنه جاء بها من بلاده إلى فرنسا، وهي بها منذ زمن طويل دون أن تتمكن من معرفة أسرة من أسراتها، لفرط احتجابها وغيرة زوجها، ثم لفقت له حديثًا طويلًا أخبرته فيه أنها رأته في الأوبرا عدة مرات، وأنها علقت به وعرفت اسمه من وصيفتها، فما زالت صابرة على هواه إلى أن سافر زوجها حديثًا فكتبت إليه هذا الكتاب.
وكان من أمره أنه عشقها عشقًا مبرحًا نسي بعده حبه لفاطمة، ولكنه لبث يزور فاطمة متنكرًا كل ليلة، ويزور عشيقته الأخرى معصوب العينين، ويختلف إلى ابنة عمه في النهار لوثوقه بأنها ستكون امرأته بعد موت أخيه، الذي كانت ترد الأخبار عنه في كل بريد مشيرةً إلى أنه أصبح على وشك الموت.
•••
وَلْنَعُدِ الآن إلى روكامبول، فلقد تقدَّمَ لنا القول إن أندريا أشار عليه بمراقبة جوزيف، فامتثل لنصيحته وخرج في تلك الليلة إلى منزله السري، فتنكَّرَ وذهب إلى منزل الدوق الإسباني، فكمن له عند الباب في الزمن الذي يخرج فيه، ولم يَطُلِ انتظاره حتى رأى الدون جوزيف خارجًا من المنزل وهو يمشي مطرق الرأس، فاقتفى أثره وجعل يتبعه إلى أن دخل إلى منزل، وكان هذا المنزل خاصًّا بالدون جوزيف، فصبر روكامبول وهو لا يعرف أنه منزله نحو نصف ساعة، إلى أن رآه خرج منه وقد غيَّر زيَّه فلبس ملابس العمال، ووضع قبعة كبيرة على رأسه سترت بعض وجهه، غير أنه لم يخْفَ على روكامبول وقال في نفسه: لقد صدق أندريا، فإن حياة هذا الرجل مكتنفة بالأسرار، فَلْأتعقبه.
وما زالا يسيران وكلاهما متنكِّر بزي يستر حقيقته عن العيون، حتى بلغ الدون جوزيف إلى منزل في شارع حقير، فأخذ مفتاحًا من جيبه وفتح به باب المنزل، ثم ولج إليه من دهليز طويل، فقال روكامبول: لا شك أن له خليلة في هذا المنزل يغار عليها.
وأقام يتخطر ذهابًا وإيابًا في ذلك الشارع وهو يراقب الباب، إلى أن عِيلَ صبرُه وانتصف الليل، وعند ذلك سمع صرير المفتاح في قفل الباب، فرأى الدون جوزيف خارجًا منه وسمع صوت فتاة تودِّعه ألطف وداع.
فقال روكامبول في نفسه: إن الليل قد انتصف وهو عائد لا شك إلى منزله، فَلْأدعه يذهب في شأنه ولأفحص هذا البيت.
ثم دنا من المنزل، فقرأ نمرته وجعل يرود في أكنافه، حتى علم جميع ما ينبغي أن يعلمه، ثم عاد إلى أندريا وأخبره بكل شيء، وتلقَّنَ منه التعليمات اللازمة.
٨
مضى على ذلك يومان، لم تفتر فيهما همة روكامبول عن تعقُّب الدون جوزيف والوقوف على دخائل منزل فاطمة، وكانت تنتظر عشيقها الإسباني في كل ليلة.
ولقد يتبادر إلى الذهن حين ذكر هذه النورية أنها كانت عجوز شمطاء، ترجم بالغيب وتكشف المخبئات، شأن أمثالها من النوريات، غير أنها كانت فتاة باهرة الجمال غضة الصبى، وكانت في بدء عهدها راقصة في المسارح، فطافت أوروبا ورقصت بمسارح العواصم الكبرى، فكانت تحوم حولها الأبصار إلى أن رآها الدون جوزيف، فعلق بها وما زال بها حتى شُغِفت بهواه وتركت المسارح من أجله، فكانت ساكنة في إسبانيا، وإذا قدم إلى باريس قدمت معه إليها.
وكان الدون جوزيف قد تأخَّرَ تلك الليلة عن ميعادها، فلما جاءها استقبلته عاتبة غضبى لتأخُّره، فأنكر عليها عتابها ودار بينهما الحديث الآتي فقالت النورية: لقد طال غيابك حتى حسبت أنك غير عازم على الحضور.
– أَسَبَقَ لي عهد أيتها الحبيبة بالتخلف عنك؟
– ذلك أكيد، ولكني لا أنكر عليك ما أشعر به من الغيرة.
– أتغارين عليَّ؟ وممَّنْ تغارين؟
– أغار عليك من كل مجتمع تختلط به ولا أستطيع أن أكون معك، بل أغار من خدمك الذين يستطيعون أن يروك في كل حين، بل أغار عليك منك ومن الهواء الذي تتنشقه، بل …
فقاطعها الدون جوزيف وقال ضاحكًا: ما هذا الجنون؟
– هو جنون كما تقول، ولكنك لو كنتَ مثلي سجينًا في هذا المنزل، بل في القفص المذهب، وقد خطر عليك الخروج منه ومُنِعتَ من الوقوف في المشرف ومن الإطلال من النافذة، وكنتُ أنا في مكانك أتنشق الهواء المطلق، وأعاشر مَن أردت، وأعرض جمالي على جميع الناس، أَمَا كنتَ تغار عليَّ؟
– ربما، ولكنك تعلمين أني لا أحب سواك في هذا الوجود.
فقالت له بصوت المتهكم: حتى خطيبتك؟
فهزَّ كتفيه وقال: ألعلك تعلمين أنها تكرهني وتحتقرني، ثم أتظنين بأنها تغفر لي قتل أخي خطيبها، وإذا غفرت لي، فهل أغفر لها ذلك الكره؟
– إني أرجو على الأقل أن لا يحصل هذا الغفران.
– اطمئني أيتها الحبيبة، وثِقِي بأني لا أتزوجها إلا لطمعي بمركز أبيها؛ إذ لا أحب سواك.
– إني أصدقك في جميع ما تقول حين تكون بقربي، وحين تنظر إليَّ عيناك الجميلتان، ولكنك حين تكون بعيدًا عني فإخال أن النساء الجميلات يحطن بك من كل جانب، ولا أتمنى إلا أن يكون لهؤلاء النساء رأس واحد.
فقال الدون جوزيف باسمًا: لماذا؟
– لأقطع هذا الرأس.
– إذن فأنتِ تعيسة في باريس؟
– نعم، ولا سيما حينما أكون بعيدة عنك، فإني أذكر أيامي الماضية وأَسْرِي الحاضر، إلى أن تجهش عيناي بالبكاء، ولكني لا آسف لتلك الأيام الخوالي؛ لأني أحبك، ولا أطلب الخلاص من أسري؛ لأنك بقربي، غير أني لم أَعُدْ أطيق الإقامة في باريس، لشدة ما ألاقيه من متاعب الوحدة والضجر.
– صبرًا أيتها الفتاة، فإننا سنبرحها في القريب العاجل، فتعودين إلى ربوعك.
فسُرَّت البدوية وقالت: أحق ما تقول؟ ومتى نبرحها؟ والى أين نسافر؟
– إلى قاديكس.
فأمعنت الفتاة وقالت: لقد علمت الآن السبب في رجوعك، أليس هو لأن أخاك الدون بادرو على فراش الموت؟
فابتسم الدون جوزيف ابتسامًا هائلًا دون أن يجيب، فقالت له النورية: لو لم أحبك أبلغ حب لما ارتكبت معك جريمة تسميم أخيك.
وفيما هي تكلِّمه نظرت إلى منديل كان يعبث به بيده، ورأت حرفين مكتوبين عليه، فأجفلت أيما إجفال، واستحالت تلك الغزالة الأنيسة إلى لبؤة ثائرة، فاختطفت المنديل من يده، وركضت إلى المستوقد وأخذت خنجرًا كان عليه، فجردته من الغمد وهي تقول: أيها الخائن، قُلْ من أيَّة امرأة وصل إليك هذا المنديل، أو أشك هذا الخنجر بصدرك؟
فاصفرَّ وجه الإسباني وتلعثم لسانه، ثم قال قولًا متقطعًا: إنه منديلي.
– كذبتَ، فإنه منديل امرأة، وما هذان الحرفان المكتوبان فيه من حروف اسمك؟
فتمالك روعه وقال: صدقت، ولكنك لو أمعنت النظر بهما لعلمت مَن هي صاحبة المنديل.
– قُلْ مَن هي وإلا قتلتك، فإنك لم تعرف بعدُ من أنا.
فضحك الدون جوزيف ضحكًا عاليًا وقال: إنك مجنونة دون شك، أَلَا ترين هذين الحرفين يوافقان الحرفين الأولين من اسم خطيبتي؟
فأعادت فاطمة النظر إليهما ثم سقط الخنجر من يدها، وقالت: إنك فزت بإيجاد هذا البرهان، وإلا فإنك كنتَ في عداد الأموات.
– إن البرهان لم أتكلَّفْ إيجاده، فإن ما قلتُه هو الحق، وفوق ذلك فإني لا أخاف وعيدكِ.
– لقد أخطأتَ في عدم خوفك، فإنك تذكر دون شك حين أحببتك، ورضيت أن أودع جميع ملاذ الحياة، وأكون عبدة لك، ذلك القسم الذي قسمته وهو أني متى رأيت دليلًا على خيانتك أقتلك دون إشفاق.
– أذكر.
– أتحسب أني أحنث بيميني؟
– كلا.
– إنكَ مهما انغمست في الشر والخيانة، لا بد أن تكون مؤمنًا بالله، فإذا كان ذلك فأقسم لي بهذا الإله الذي نعبده نحن البدويات، إنك لم تَخُنْ عهدي.
– أقسم لكِ بالله إني ما خُنْتُكِ ولا أخونكِ.
– ولكني رأيت في الليلة السابقة حلمًا لا أزال موجسة شرًّا منه إلى الآن؛ وهو أني رأيتك في مرقص تخاصر امرأةً، وأنك كنتَ تحب هذه المرأة وتهمس في أذنها أحاديث الغرام.
– وهل تصدقين الأحلام؟
– وهل أنا إلا نورية؟
– صدقتِ، فإنكم السابقون في حلبة الأوهام، ولكن هذه الفتاة التي تمثَّلت لكِ أني أخاصرها في الحلم لا يمكن أن تكون إلا أنتِ.
– كلا، فإنها كانت لابسة صليبًا في عنقها، وما أنا بمسيحية فألبس صليبًا!
– إذن فإن حلمك كاذب؛ لأني لا أحب سواكِ.
– يمكن أن يكون كلامكَ صادقًا.
فضاق صدره من كثرة غيرتها وقال: نعم، فماذا تريدين بعد ذلك؟
فاستاءت لجوابه وقالت: أريد أن تعلم أن الوثاق الذي بيننا لا يُحَل.
– ذلك لا ريب، فإنه وثاق الحب.
– كلا، بل وثاق الجريمة، وأصغِ إليَّ الآن فإنك كنتَ مطلقًا من هذا الوثاق إلى اليوم الذي دفعني فيه هواك إلى الاشتراك معك بقتل أخيك، أما الآن وقد غمست يدي في دمه كي تحظى بخطيبته، فلم يَعُدْ لك براح من يدي، وأصبحتَ لي بجملتكَ كما أنا لكَ بجملتي، وذلك إلى آخِر العهود، فإن قيود الجرائم لا تُحَل.
– ما دخل الجرائم الآن بيننا، وما بالك لا تحدِّثيني بأحاديث الغرام؛ إذ هي ألذ للسمع من هذه الأحاديث، وفوق ذلك فما أنا قتلت أخي ولا أنت، بل إخوتك الذين دسُّوا له السم في الدسم.
– صدقت فإنهم أشرار يرتكبون كل ذنب من أجل المال، ثم إنهم لم يقتلوه من تلقاء أنفسهم، بل كان ذلك بمالِكَ وبواسطتي، فنحن القاتلان، وإني إذا أمرتهم أن يقتلوك فلا يتأخرون، وأقول ذلك تحذيرًا لك من خيانتي.
فنهض الدون جوزيف وقال: لا شك أنك جننت لعدم ثقتك بي وباليمين التي حلفتها.
ثم التف بردائه وقبَّل جبينها وخرج، فخرجت معه وشيَّعته إلى الباب، فذهب وهو يقول في نفسه: إن هذه المرأة واقفة على سري، وهي تنذرني في كل حين؛ فلا بد إذن من قتلها.
أما فاطمة فإنها وقفت هنيهة على الباب تشيِّعه بالنظر حتى بعد عنها، فعادت إلى القاعة التي كانت فيها، ولكنها ما لبثت أن دخلت إليها حتى تراجعت منذعرة؛ لأنها رأت فيها رجلًا كأنه قد صعد إليها من جوف الأرض، لأن المنزل ليس له غير باب واحد.
وكان هذا الرجل واقفًا وسط الغرفة، وهو مشهر الخنجر الذي سقط من يد النورية، فذعرت المرأة وقالت له: مَن أنت؟
– صديق.
– وماذا تريد مني؟
– أريد أن أكلمك عن الدون جوزيف.
ثم أشار إليها إشارة الآمِر أن تقفل الباب، فامتثلت فاطمة لما تولَّاها من الرعب، وأقفلت الباب وعادت إليه وقالت: قُلْ ماذا تريد مني؟ إني مصغية.
ثم دار بينهما الحديث الآتي، فقال الرجل الغريب: أَتُدْعَين فاطمة؟ وأنت خليلة الدون جوزيف؟
– نعم، ألعلك تعرفه؟
– إني أعرف المرأة التي يحبها ويخونك من أجلها.
فاحتدمت فاطمة غيظًا وهاجت مكامن غيرتها، فقالت له: إنك كاذب فيما تقول.
– أصغي الآن فإني متى بُحْتُ لكِ بأسرار تحسبين أنك واقفة عليها وحدك، تثقي حينئذٍ بأقوالي.
– قُلْ فإني مصغية إليك.
– فاطمة، إن للدون جوزيف أخًا يُدعَى بادرو.
فقالت وهي تضطرب: أتعرفه أيضًا؟
– ربما، وإن هذا الأخ في حالة النزع الآن وسيموت قريبًا، أي إنه سيموت مسمومًا والناس يحسبون أنه مصاب بمرض شديد.
فرفعت فاطمة عينيها إلى هذا الرجل ونظرت إليه نظرة انذهال وهي تقول: أتعرف هذا السر؟
– أعرف أنك والدون جوزيف قتلتما الدون بادرو.
فركعت فاطمة أمامه وقالت: عفوًا ومرحمة. كأن هذا الرجل قاضيًا، وكأنها في موقف قضاء.
فضحك الرجل ضحكًا عاليًا ثم قال: إن هذا الأمر لا يعنيني، وسيان عندي إذا عاش الدون بادرو أو مات فلا تخافي.
– إذن فماذا تريد مني؟
– أَمَا كنتِ تقولين الآن للدون جوزيف …
– وكيف عرفتَ؟ أكنتَ معنا؟
– لا تهتمي بذلك ويكفي أني عرفت، والآن أَمَا كنتِ تقولين له: إنكَ إذا خنتني أغمد خنجري في صدرك.
– نعم، قلت هذا القول وأقسمتُ على قتله إذا خانني.
– إذن، إذا كنتِ تبرين باليمين التي حلفتيها، فإني أريكِ الدون جوزيف يُخاصِر المرأة التي يحبها.
فهاجت الغيرة في فؤادها وقالت: متى وفي أي مكان؟
– بعد ثمانية أيام في حفلة راقصة.
– ماذا أسمع؟ إن ما تقوله قد رأيته في الحلم، ومَن عسى تكون أيها الرجل، ألعلك شيطان؟
فضحك وقال: ربما.
– أنت الشيطان نفسه.
– وماذا يفيدك أيتها الفتاة أن تعلمي إذا كنتُ الشيطان نفسه؟
وكان يقول هذا القول وهو ينظر إليها نظرات غريبة ويضحك، فخافت الفتاة وحاولت الهرب.
فأسرع وأجلسها على كرسيها وقال: لماذا تخافين مني وأنا صديق لك؟
– أنت صديقي؟
– نعم.
– ولكني لم أَرَكَ في حياتي.
– أما أنا فقد عرفتك منذ عهد طويل، وها أنا أقص عليك أمرك مع الدون جوزيف؛ فإنكِ جئتِ إلى باريس منذ عام؛ لأن الدون جوزيف كان فيها.
– هذا أكيد.
– وكان هذا الإسباني يحبك في هذا العهد ويغار عليك من العيون، فأمرك أن تدخلي إلى باريس في ظلام الليل.
– وهذا أكيد.
– وإنك تقيمين في هذا المنزل مع امرأة عجوز كانت حاضنةً لكِ، ومع خادم أسود، وقد كان الاثنان في خدمتك حينما كنتِ في إسبانيا، وكانا يخدمانك في أغراضك الغرامية قبل أن تحبي الدون جوزيف.
– وهذا أيضًا أكيد.
– والآن فإن الدون جوزيف قد اشتراهما بالمال، فباتا أطوع له من البنان.
– وهل يخدعانني؟
– ستعلمين ذلك فيما بعدُ، والآن فأصغي إليَّ، إنك منذ عامٍ أي منذ دخولك إلى هذا المنزل، لم يدخل إليه إلا الدون جوزيف؛ وذلك لفرط انشغافك فيه، أما حاضنتك فهي تشيع أمام جيران منزلك أنك مصابة بداء السرطان، وأنك جئتِ إلى باريس كي تتعالجي فيه، وهم يحسبون أنك طريحة الفراش منذ ذلك العهد إلى الآن؛ لأنهم لم يَرَوكِ. والآن فهل كفاك ما قلتُه لكِ؟ وهل تثقين بكلامي؟
– لا بد لي من هذه الثقة؛ لأني أراك واقفًا على جميع أسراري.
– وإذا ثبت لك أن الدون جوزيف يهوى سواك ويخونك أتصدقين؟
– ربما صدقتك ووثقت من أقوالك، إلا أنه لا بد من البرهان في كل حال.
– سأقدِّم لك هذا البرهان بعد ثمانية أيام.
فأطرقت فاطمة برأسها إلى الأرض ولم تُجِبْ، فقال لها الرجل باحتقار: لقد أخطأ ظني بكِ، فلقد كنتُ أحسب أن لكِ قلبًا يتأثَّر ويلذ له الانتقام، أَلَمْ تقولي إنك عازمة على قتل الدون جوزيف إذا أثبتُّ لك خيانته، فما بالك الآن ضعفتِ وأصبحتِ على وشك الإغماء؟
– إنك منخدع بي، ولا تعلم مَن أنا.
فابتسم ابتسام الهازئ المستخف وقال: بل أعرفك حق العرفان، فإنك امرأة ضعيفة تقيِّد فؤادها بسلاسل الغرام.
– قلتُ لكَ إن فراستك قد أخطأت بي، فإنك ترى بشرتي تشف عن العروق الزرقاء، ولكن تحت هذه العروق أعصاب قدت من الفولاذ، وإن اليوم الذي تطعن يدي صدر الدون جوزيف بخنجر، يخترق هذا الخنجر صدره النصاب.
– هذا الذي كنتُ أود أن أسمعه منكِ.
– إنما هات برهانكَ على خيانته، وأنا أقتله لا محالة.
– لا أصدقكِ إلا إذا أقسمتِ.
فرفعت النورية يدها باحترام ثم قالت: إننا معشر النور لنا ديانة سرية لا تشبه الدين المسيحي ولا الإسلامي في شيء، وقد تلقَّنْتُ أسرار هذه الديانة التي يجلها جميع الناس لحرص النور على كتمانها، وأنا أجلها كل الإجلال؛ ولذلك فإن كل نوري يقسم بمعتقده السري، وهو لا يحنث بيمينه ولو دفعه البر به إلى الموت، فأنا أقسم لك بمعتقد آبائي وبهذه الديانة السرية التي لا يحق لنا الإباحة بسرها إلا لمَن يعتقد بها، أنني أطعن الدون جوزيف بخنجري حين أراه مع غريمتي.
– إذن، فإني أثق بقولك بعد هذا اليمين.
– وأنا أنتظر البرهان.
– سترينه، غير أنه يجب أن تعلمي أن الانتقام لا يفلح إلا حين يسير مع صفة ينبغي أن تكون ملازمة له وهي الحكمة، ثم إنه يجب أن يكون الانتقام مقرونًا بالكتمان.
– أعرف ذلك.
– وينبغي أن تكوني دائمًا باسمة الثغر طلقة المحيا، كي لا يداخله فيك أقل ريب، واعلمي أنه لم يَرَني أحد دخلتُ إليك، ولا يعرف أحد الطريق التي سلكتها، وسأعود إليك لأراك بعد ثلاثة أيام.
– أتعود إليَّ بالبرهان؟
– ربما.
– إذن، فسأتكل عليك.
– أصغي إليَّ، فإني لم أتم نصيحتي بعدُ، واحذري من الحاضنة ومن هذا الخادم الأسود كما تحذرين من الموت.
– لماذا؟
– ستعلمين ذلك فيما بعدُ؛ إذ لا أستطيع أن أخبرك به اليوم. ثم ذهب إلى المستوقد وكان عليه آنية صينية فرفعها وقال لها: إني سأضع لك في كل ليلة رسالةً تحت هذه الآنية في الوقت الذي تنتظرين فيه قدوم الدون جوزيف، فاقرئيها تجدي بها تعليماتي، والآن فإني منصرف ولا يجب أن تعرفي كيف أذهب وكيف أتيت.
ثم أخذ من جيبه عصابة حمراء وقال لها: يجب أن أعصب عينيك.
وتعاظَمَ ذهول النورية، ولكنها لم يسعها إلا الامتثال فقالت: افعل.
فعصب عينيها وقال لها: عدي على أصابعك إلى المائة والخمسين، ومتى أكملت عدها ارفعي العصابة.
وجعلت تعد على أصابعها إلى أن أتمَّتْ العد، فأزاحت العصابة فما رأت أمامها أحدًا، فرفعت يديها إلى السماء وقالت: لا شك أنه شيطان.
٩
في الساعة العاشرة من الليلة التالية ذكرت فاطمة وصية ذلك الرجل الذي باتت تعتقد أنه الشيطان، ورفعت الآنية عن المستوقد ووجدت تحته رسالةً وحقًّا صغيرًا، فخفق فؤادها ولم يَعُدْ لديها شك أنه الشيطان بعينه، ثم فتحت الرسالة فرأت مكتوبًا فيها ما يأتي:
إنكِ تجدين بجانب هذه الرسالة حقًّا صغيرًا فيه رشاش أبيض، ذوبيه في كأس واشربيه، وإذا لم تفعلي حين اطِّلَاعك على الرسالة وقبل مجيء الدون جوزيف، فإنك مائتة لا محالة.
ففتحت فاطمة الحق ووجدت فيه ذلك الرشاش، فما تردَّدَتْ عن شربه، ولم يكن امتثالها حذرًا من الموت كما جاء في الرسالة، غير أنها قالت في نفسها: إن هذا الرجل الذي تمثَّلَ لي لم يكن إلا الشيطان بعينه، وهو الذي أرسل لي هذا الرشاش لقصد أجهله، ولكن لا شك عندي بأن الشيطان يحميني، فإنه معبودنا نحن معاشر النور الذي لا نعبد سواه.
ولم تكد تشرب الرشاش مندفعة إلى شربه باعتقادها أنه مرسل إليها من معبودها، حتى سمعت وقع أقدام الدون جوزيف فوجف فؤادها؛ لأنها باتت واثقة من أنه يخونها، وخطر لها أن تفتك به، ولكنها ذكرت وصية الذي تعتقده الشيطان، فهدأت روعها واستقبلت عشيقها بمظاهر البشر والسرور.
أما الدون جوزيف فإنه لم يستقر به المقام حتى أخرج من جيبه زجاجة وقال: لقد وردني اليوم هذا الشراب من إسبانيا، وهو من أفخر أنواع الشراب.
ثم نادى الخادم وقال: أحضر كأسين، فإني أريد أن أُشاطِرها الشراب.
•••
وَلْنَعُدِ الآن خطوة إلى الوراء لنبسط ما كان من الدون جوزيف بعد أن غادَرَ فاطمة، فإنه خرج من عندها مغضبًا عليها، وقد عول على قتلها لأمرين: أنه لم يَعُدْ يحبها بعد أن نشبت في فؤاده مخالب تلك المرأة التي كانت تدَّعِي أنها زوجة الكونت الروسي، والثاني أنه بات يخافها خوفًا شديدًا، ولا يجسر على تركها؛ لأنها واقفة على جميع أسراره.
وكان لهذا الإسباني خادم بل مستشار يُدعَى زامبا، وحكاية هذا الخادم أنه حُكِم عليه بالإعدام في إسبانيا لجريمة ارتكبها، ففَرَّ من القضاء والتجأ إلى الدون جوزيف، فأمنه وأدخله في خدمته، وعند ذلك تنكَّرَ هذا الخادم كي لا تعرفه الشرطة، وأصبح مقيَّدًا بجريمته وبات أطوع للدون من بنانه.
وكان الدون جوزيف يثق به ثقة شديدة، لوثوقه من أنه لا يستطيع خيانته حذرًا من أن يسلمه مولاه إلى القضاء، وكان يأتمنه على أسراره ويستخدمه في جميع أغراضه، حتى أصبح مع مرور الأيام مستشارًا في السر، وهو في الظاهر خادم غرفته، وذلك لما لقيه من رجاحة عقله وحسن استنباطه وشدة مقدرته في المكر والدهاء.
ولما برح الدون جوزيف منزل فاطمة ذهب إلى منزله، فلقي فيه خادمه زامبا ينتظره، وحكى له ما كان من أمر فاطمة وتصميمه على قتلها، فأشار عليه زامبا أن يقتلها بالسم، وأعطاه سمًّا قاتلًا مزجه بذلك الشراب الذي حاول الدون جوزيف أن يشرب ويسقي فاطمة منه.
أما فاطمة فإنها أخذت الزجاجة وفضت ختمها بيدها، ثم صبَّتْ شرابها بالكأسين وأخذت كأسها، ولما أدنته من فمها داخلها الشك وقالت في نفسها: إنه ربما كان يريد تسميمي. ولكنها اطمأنت حين رأته قد شرب ما في الكأس وشربت كأسها.
وأقام عندها يحدِّثها بأطيب الأحاديث، وهي تجامله أحسن مجاملة، إلى أن انتصف الليل فودَّعَها وهو يقول: إياكِ والغيرة عليَّ؛ لأني لا أحب سواك في هذا الوجود.
ثم خرج، ولما صار في الطريق رثى لتلك الفتاة وقال: مسكينة، أنها ستموت في عنفوان الشباب، ولكني لم أقتلها إلا عملًا بناموس تنازع البقاء؛ إذ لم يكن بد لأحدنا من الموت.
وكانت فاطمة قد خرجت معه حسب عادتها إلى الباب الخارجي، ولما عادت إلى القاعة التي كان فيها، تراجعت منذعرة لأنها رأت فيها ذلك الرجل الذي كانت تعتقد أنه الشيطان، وكان جالسًا على المقعد ينتظر عودتها، فمَدَّ يده دون أن يحفل بانذعارها إلى الزجاجة وقال لها: أشربت من هذا الشراب؟
– نعم.
وكان معلقًا بالجدار قفص فيه ببغاء جميل، فقام إلى القفص وأخرج منه الببغاء، ثم أخذ قطعة سكر عن المائدة وصبَّ فوقها بضع نقط من فضلة الكأس التي شربت منه فاطمة وقدَّمها للببغاء، فأكلها وقالت له فاطمة وقد عجبت لصنعه: ماذا تفعل؟
ولم يُجِبْها، ولكنه أشار بيده إلى الببغاء، فرأت أنه جعل يصفق بجناحيه برهةً، ثم انقلب مائتًا لا حراك به.
وقال لها الرجل عند ذلك: إن هذا الشراب يقتل الإنسان بليلة، فإن الدون جوزيف قد سقاك أقتل السموم، وهو إنما أراد قتلك كي يخلو له الجو مع التي يحبها.
فصاحت صيحة منكرة ثم قالت: لا بأس، فإني سأحيا إلى الغد وأقتله.
– وأية فائدة لكِ من قتله إذا كان قد شرب السم معك، فلا بد له أن يموت حين تموتين.
– لقد أصبت، ولكن لماذا قتلني إذا كان يريد أن يموت هو أيضًا؟ لقد طاش رأسي في بوادي هذه الأسرار.
فضحك من اضطرابها وقال: إن كَشْف النقاب عن هذا السر سهل ميسور، وهو أنه شرب ضد السم الذي سقاك إياه قبل أن يشربه، فشرب وهو آمِن مطمئن.
– أواه! لقد عرفتُ الآنَ كل شيء، ولكنه لم يحسب حساب خنجري، وإذا لم يكن لي بد من الموت …
فقاطعها وقال: لقد أخطأتِ أيضًا، فإنك لا تموتين.
– كيف لا أموت وقد شربت هذا السم، ورأيت فعله في الببغاء؟
– ذلك لأنكِ شربتِ ضد السم، وهو الرشاش الأبيض الذي وضعتُه تحت الآنية.
فركعت فاطمة وقد رسخ في ذهنها أنه الشيطان، وقالت له: لقد علمت أنك أبي.
– كيف ذلك؟
– ألستَ الشيطان؟
فأدرك في الحال اعتقادها وقال: ربما، وفي كل حال فأنتِ مدينة لي بحياتك وبانتقامك من هذا السفاك.
– سأقتله دون رحمة؛ إذ قد ثبت لي الآن أنه كان يريد قتلي، فبرهن لي عن خيانته، واذكر لي اسم تلك الخليلة التي يهواها لتعلم أني أبر بيميني.
– سترين هذا البرهان قريبًا.
فقالت له بإلحاح: متى؟ فقد نَفِد صبري عن قتل هذا الخائن.
– صبرًا، فإن الساعة قد دنت وأصغي إليَّ، فإن هذا الخائن قد سقاك السم بيده، وعلم أنك مائتة في الغد، ولكنه لم يخجل من أن يمد يده إلى وداعك ويقول لك: إلى الغد. وهو يعلم أنه سيراك جثة باردة، فإذا رآك غدًا حية ترزقين فلا بد له من أن يسعى في قتلك بطريقة أخرى، وإذا رأى أن السم لم ينجح فهو سيلجأ إلى الخنجر، ولكن لا تخشي فإني بقربكِ أحميكِ، إنما يجب أن تتمي تمثيل دوركِ.
– كيف ذلك؟
– ذلك أن تُظهِري له الحنو والانعطاف، وتبالغي بإظهار الغرام كما كنتِ تصنعين من قبلُ.
– ولكنه سيعلم أني شربت ضد السم.
– ذلك لا ريب فيه، وهو سيتهم خادمه؛ لأنه لا يعلم مقدرتي وسلطاني، ولكنكِ ستزيلين شكَّه فتنامي غدًا إلى الساعة الثالثة بعد الظهر، فإذا جاء الدون جوزيف أَظْهِري له أنك تشكين ألمًا في الرأس وتثاقلًا في الأجفان، ثم تقولين له إنكِ شربتِ أفيونًا، وإن ذلك من تأثير الأفيون، فإن الأفيون يكون ترياقًا لبعض السموم. والآن فإني ذاهب فاقتربي مني لأعصب عينيك، ولا تنسي أن تُبْقِي العصابة إلى أن تعدي مائة وخمسين.
ثم عصب عينيها وقال لها: احذري من خادمَيْكِ أشد الحذر.
١٠
كان من عادة الدون جوزيف أنه متى خرج من منزل فاطمة يعود إلى منزله، فيتنكَّر بزي جديد، ثم يأخذ خادمه زامبا ويذهب إلى شارع مقفر، فيرى هناك رجلًا ينتظره بمركبة فيطلق سراح زامبا ويدنو من الرجل، فيعصب عينيه ويسير به إلى تلك المرأة التي كان يهواها، وهي إحدى بنات الهوى كما قدَّمْناه، غير أنها كانت تُوهِم الدون جوزيف أنها امرأة كونت، وأنها تعصب عينيه كي لا يعرف منزلها فلا يزورها إلا حين تدعوه إليها، مغتنمة فرصة خلو المنزل.
وكان الدون جوزيف قد ولع بالفتاة وأحبها حبًّا عظيمًا ليس بعده حب لمعشوق، وقد علمت من سائق مركبتها أن الدون جوزيف كان يأتي إلى الشارع المقفر مصحوبًا بخادمه، فأنكرت عليه صحبة الخادم حذرًا من أن يقف على شيء من سرها، وأكَّدَ لها أنه واثق منه، واندفع مع تيار حبه فباح لها بسر هذا الخادم، وكيف أنه محكوم عليه بالإعدام في إسبانيا، وقد هرب من الموت ولجأ إليه، فدخل في خدمته بعد أن تنكَّرَ بحيث بات آمِنًا منه أشد الأمان.
ويذكر القراء أن روكامبول عندما أخبر أستاذه أندريا بالكتاب الذي أرسلته إليه ابنة الدوق قال له: يجب أن تقتفي أثر الدون جوزيف وتترصده حتى تقف على جميع أسراره، وأن روكامبول تبعه مرة فعلم أنه يذهب متنكرًا إلى فاطمة، ثم تبعه في ليلة أخرى فرآه قد عاد إلى منزله، فتنكَّر بزيٍّ جديدٍ وذهب إلى ذلك الشارع المقفر الذي كان ينتظره فيه السائق، ثم رأى أن السائق قد عصب عينيه وسار به في مركبته، فركب مركبة وسار في إثره حتى عرف المنزل الذي دخل إليه، وفي الليلة نفسها عرف صاحبة ذلك المنزل، وعاد إلى أستاذه فأخبره بجميع ما رآه وتزوَّدَ بتعليماته.
وفي اليوم التالي ذهب إلى تلك الفتاة وهو متنكِّر وأخبرها بما رآه، ثم اتفق وإياها على أن تخدمه في بلوغ أغراضه من الدون جوزيف، وفي مقابل ذلك فإنه يطلق لها السراح بسلبه على ما تشاء ويزيدها من عنده مبلغًا من ماله، فرأت هذه المومس أنه قد وقف على سرها، وأن شروطه موافقة لها، فرضيت بها في الحال وأخبرته بجميع ما عرفت من أسرار الدون جوزيف، وفي جملتها سر خادمه زامبا.
فعلَّمَها روكامبول ما ينبغي أن تصنع، ثم تركها ومضى إلى لقاء زامبا، فترصده أمام منزل سيده إلى أن خرج فناداه وقال له: أنت الذي يُدعَى زامبا؟
– نعم.
– أنت في خدمة الدون جوزيف؟
– نعم.
– وهل أنت مخلص له؟
– دون شك.
– إذن تعال معي إلى هذه القهوة القريبة، فإني أحب أن أحدِّثك بأمر خطير.
فامتثل له زامبا، وسار الاثنان إلى قهوة قريبة فجلسا بمكان منفرد منها ودار بينهما الحديث الآتي، فقال روكامبول: إنك تُدعَى زامبا كما تقول، وأما الدون جوزيف فقد جعلك في خدمته كي تنجو من الإعدام.
فاختلج فؤاد زامبا ووهت رجلاه حتى أوشك أن يسقط على الأرض؛ إذ لم يخطر في باله أن الدون جوزيف يبوح بسره لأحد، فقال روكامبول: إنه لم يَمْضِ على فرارك غير ستة أعوام، وهذه المدة غير كافية لإنقاذك من حكم الإعدام؛ أي إن كلمة واحدة تصدر مني إلى بوليس باريس تدعه يقبض عليك ويسلِّمك مكتوف اليدين إلى الحكومة الإسبانية، فينفذ فيك الإعدام، ومهما يكن من نفوذ مولاك فإنه لا يستطيع إنقاذك.
– قُلْ ما تريد مني. وقد علم أن هذا الرجل لا يبيعه حياته بثمن بخس.
– يوجد اثنان بأيديهما حياتك أو مماتك، الأول هو الدون جوزيف.
– والثاني؟
– هو أنا، اعلم الآن أن الدون جوزيف لم يكتم سرك، ودليل ذلك أني أعرفه.
فتهدَّد زامبا الفضاء بقبضته وقال: سأنتقم شر انتقام.
– إذن فإن إخلاصك له لا يدوم.
– كيف تريد أن يدوم بعد هذه الخيانة؟
– وإذ كنتَ تخلص له في الخدمة، فما ذلك إلا من قبيل الخوف.
– هذا لا ريب فيه.
– وإذا طلبتُ إليكَ أن تخونه.
– أنت؟
فابتسم روكامبول وقال: نعم أنا، إني أشد من الدون جوزيف، وأريد أن أسحقه ولا أستطيع أن أصل إلى هذه الغاية إلا إذا ساعدتني عليها، ولا تحسب أني سأعتمد على هذا السر الذي أعلمه عنك فأبخسك حقك، بل إني أدفع لك فوق ما تطمع به، وَلْنبدأ الآن بالحساب، فقُلْ لي كم يبلغ كسبك من الدون جوزيف.
– ألف ريال في العام.
– وكم تسرق منه؟
– عشرة آلاف فرنك على الأقل.
– وماذا تؤمل منه؟
– إني أرجو متى تزوَّج الدوق أن أكون مدير منزله، فأمر بأمواله كما أشاء.
– إن أملك سيُحبَط؛ لأن الدوق جوزيف لن يتزوَّج ابنة الدوق، وإذا تزوَّجَها فإنه يُقتَل في ليلة الزفاف.
وبرقت عين زامبا وجعل يتأمل روكامبول تأمُّل لص يختبر لصًّا مثله، وأدرك أن محدِّثه أشد منه دهاءً، غير أنه لم يخطر له أن الذي يريد قتل الدون جوزيف هو نفس ذاك الطامع بزواج ابنة الدوق، بل أيقن أن هذا الرجل يخلص إخلاصا عظيمًا لتلك المرأة البولونية التي يهواها الدون جوزيف، وأن الغيرة قد دفعته إلى استخدامه.
وقال روكامبول: إنه إذا بقي الدون جوزيف حيًّا فهو لا يعلم شيئًا من خيانتك، وإذا مات تقبض من المال ما يعزيك عن فقده، واعلم الآن أنه متى أخبرتني بما يصنعه مولاك في شارع روشة كل ليلة أنقدك عشرة آلاف فرنك، ومتى أصبح زواج الدون جوزيف بابنة الدوق مستحيلًا أدفع لك مائة ألف فرنك، وفي خلال ذاك فإني أدفع لك راتبًا قدره ألف فرنك في كل شهر.
ثم أخذ ورقة قيمتها ألف فرنك وقال: هذه الورقة على الحساب.
وعند ذاك أخبره زامبا بحديث فاطمة، فما أبقى على شيء من أسرار العاشقين، وكان روكامبول يصغي إليه أشد الإصغاء، ولما فرغ من حديثه سأله عن المواعيد التي يذهب بها إليها، وعن مداخل المنزل، وأخبره بكل شيء وزاد عليه أنه يوجد في منزلها مدخل سري لا يعرفه غير زامبا والدون جوزيف؛ وذاك لأن الدون جوزيف كان شديد الغيرة عليها حين قدمت إلى باريس، ولم يكتفِ بالخادمين الذين وضعهما في منزلها جواسيس عليها، بل إنه بنى ذاك المنفذ إلى غرفة نومها، وجعل بينه وبين الجدار محلًّا سريًّا يقف فيه فيسمع كل حديث يجري في الغرفة دون أن يراه أحد، وإذا أراد الدخول إلى الغرفة ضغط على زر فينفتح باب يؤدي إلى الغرفة.
وقال له روكامبول: أريد أن تذهب بي إلى هذا المنفذ وتجعلني بذاك المكان السري.
– متى؟
– غدًا حين يكون الدون عند فاطمة.
وقد عرف القرَّاء الآن كيف توصَّلَ روكامبول إلى الدخول إلى منزل فاطمة دون أن تراه، ويسمع كل حديثها دون أن تراه، وينقله إليها حتى باتت تعتقد أنه الشيطان الذي يحميها. أما عزم الدون جوزيف على تسميم فاطمة، فقد عرفه روكامبول من زامبا، وهو الذي أعطاه ذاك الرشاش وهو ضد السم، وقد وجدته فاطمة تحت الآنية وشربته، فأمنت الموت.
في اليوم التالي لتسميم فاطمة ذهب الدون جوزيف إليها ودخل إلى غرفتها حسب العادة قبل أن يرى الخادمة، فأجفل حين رأى خليلته تستقبله باسمة، وهو يحسب أنه سيراها جثة باردة، أما فاطمة فإنها لم تُظهِر شيئًا من انفعالها عملًا بوصية شيطانها، وجلست تنادمه وتمازحه، غير أن الدون جوزيف كان يتكلَّف المباسطة لانشغاله بالسم، وكيف أنه لم يقتلها على ثقة من تأثيره، ونظر إلى وجهها ورأى عليه أثر الضنك، وقال لها: ما بالك متعبة؟ ألعلك لم تنامي ليلة أمس؟
– كلا، بل ذاك من كثرة النوم، فإنك تعلم أني متعودة شرب الأفيون، غير أني أفرطت أمس في شربه فطال نومي، ولما صحوت أُصِبتُ بصداع شديد.
وأقام عندها هنيهة وخرج وهو يحسب أن السم لم يُؤثِّر بها لأنها شربت بعده ذاك الأفيون، وعول على قتلها بطريقة أخرى.
ولما خرج من عندها ذهب إلى منزله، فتنكَّرَ بزيٍّ جديد وانطلق إلى منزل البولونية حسب العادة، فوجدها حَرِدة غضبى، وأجفل من غضبها؛ لأنه كان يحبها حبًّا مبرحًا، وما زال يلح عليها بالسؤال عن سبب غضبها حتى أخبرته بأنها عالمة بحبه لفاطمة، وأنه لا يطمئن لها خاطر، بل لا تقبله في منزلها إلا متى عاد إليها بمنديل مصبوغ بدم الفتاة.
وكان روكامبول قد علمها أن تسأل هذا السؤال، أما الدون جوزيف فلم يستاء لطلبها؛ لأنه كان معول على قتل الفتاة، ولكنه خرج من عندها مفكِّرًا مهمومًا؛ إذ لم يهتدِ لطريقة تضمن له قتلها.
ولما بلغ إلى منزله وجد زامبا ينتظره فيه، فأخبره بما كان من نجاة فاطمة واقتراح البولونية، وسأله رأيه بقتلها، فأشار عليه بإغراء خادمها الأسود على قتلها بالمال، وإعداده له، فوافقه على هذا الرأي.
وفي صباح اليوم التالي دعا إليه الخادم الأسود واتفق معه على قتلها في المساء، وانطلق زامبا إلى المكان الذي يجتمع فيه مع روكامبول وأخبره بجميع ما كان.
أما روكامبول فإنه سُرَّ من هذه الجريمة الجديدة وقال في نفسه: لقد قبضت على الدون جوزيف وفزت بابنة الدوق.
ثم ذهب إلى منزله وتنكَّرَ بالزي الذي كانت تراه فيه فاطمة، وذهب إليها من المنفذ السري، وبينما هي جالسة على مقعدها إذ التفتت فرأته وراءها دون أن تعلم، فاستعاذت منه به وخرت له ساجدة لاعتقادها أنه معبودها.
فقال: قلتُ لكِ أن تحذري من خادمتك وخادمك، والآن خذي هذه الحبة وتدبري في حيلة تستطيعين بها أن تدعي الخادمة تبتلعها عند المساء دون أن تعلم، ثم احرصي أشد الحرص من الخادم، أما أنا فسأعود إليك في المساء واعصبي عينيك حسب العادة لأني أريد الذهاب. فعصبتها وعدت للمائة والخمسين، ثم أزاحت العصابة فلم تجد ذاك الشيطان.
ولما توارت الشمس في حجابها، أخذت تلك الحبة فوضعتها بتينة يابسة أخذتها من صحن كان أمامها فيه تين ونقل، ودعت خادمتها وجعلت تشاغلها بالحديث وهي تأكل، ثم أعطتها التينة التي وضعت فيها الحبة، فأخذتها الخادمة وأكلتها وهي لا تحسب حسابًا لما فيها.
وبعد ذلك بساعة عاد إليها روكامبول وعلم منها أن الخادمة قد نامت من تأثير المخدر الذي شربته، وسألها: وأين الخادم؟
– هو في المطبخ.
– حسنًا، فَلْنحمل هذه الخادمة إلى سريرك.
فانذهلت فاطمة وقالت: ما هذه الأسرار؟
– ستعلمين كل شيء.
ثم ذهب وإياها، فحمل الخادمة ووضعها على سرير فاطمة في غرفتها، وأطفأ روكامبول المصباح وخرج بفاطمة إلى الغرفة المجاورة وقال لها: إن الدون جوزيف أغرى خادمك الأسود على قتلك بالخنجر، والآن فإن هذا الخادم سيدخل إلى غرفتك فيقتل الخادمة شريكته بالمؤامرة عليك وهو يحسب أنه يقتلك ولا يدري، وإنما أطفأت المصباح لأن السود يخافون ارتكاب الجريمة على النور، ويؤثرون القتل في الظلمة، فقفي بإزائي واحبسي أنفاسك إذا استطعتِ، فسترين العجب.
وكانت النار موقدة في المستوقد، فيخرج منها نور ضعيف، ورأيا من نوره هذا العبد الأسود يدخل إلى غرفة سيدته وهو يخفِّف الوطء حذرًا من إيقاظها، وبيده خنجر عريض النصل، فما زال يمشي وعليه ظواهر الخوف إلى أن وصل إلى السرير وسمع غطيط الخادمة، فما شك أنها فاطمة وطعنها بخنجره طعنة شديدة غرق في جنبها إلى النصاب واخترق قلبها، فماتت دون أن تنتبه أو تصيح صيحة أَلَمٍ لتأثير المخدِّر.
أما الخادم فإنه ترك الخنجر مشكوكًا بقلبها وأنار شمعة كي يتحقق قتلها، ويسرق ما يخف حمله من غرفتها، ولكنه ما لبث أن أنارها حتى شعر بيد قوية قبضت على عنقه، وسمع صوت سيدته تقول له: لَمْ تقتلني أيها التعس، بل إنك قتلت شريكتك بالجريمة.
ووضع روكامبول خنجره على عنقه وقال: إذا كنتَ تريد الحياة فقُلِ الحقيقة.
فهلع فؤاده من الخوف وقال: رحماك فإني أقول كل شيء.
– مَن أمَرَكَ أن تقتل سيدتك؟
– الدون جوزيف.
– أتثبت ذلك أمام القضاء إذا وعدتك بالإبقاء عليك؟
– إني أقسم لك بأعظم الأقسام على الامتثال لما تريد.
والتفت روكامبول إلى فاطمة وقال لها: أسمعتِ؟
ثم عاد إلى الخادم وقال له: أَلَمْ يُعْطِكَ الدون جوزيف منديلًا؟
– نعم، وها هو.
ثم أخرجه من جيبه.
فأخذه روكامبول وأراه لفاطمة وقال لها: أليس هذا المنديل شبيهًا بالذي كان معه وقال لك إنه منديل ابنة عمه؟
فتأملته وهي تكاد تتميز من الغيظ وقالت: إنه يشبهه أتم الشبه.
– إذن فاعلمي أنه منديل خليلته، وليس منديل ابنة عمه كما قال.
ثم عاد إلى الخادم فقال: لماذا أعطاك الدون جوزيف هذا المنديل؟
– لأصبغه بدماء سيدتي وأحمله إليه.
– إذن اصبغ المنديل بدماء الخادمة، وإذا أردتَ الحياة فاذهب به الآن إلى الدون جوزيف ولا تَقُلْ له كلمة عما جرى، بل دَعْهُ يعتقد أنك قتلتَ سيدتك، وبعد أن تعطيه المنديل تهرب إلى حيث تشاء، واعلم أنك إذا خالفتني بشيء مما أمرك به، فلا مناص لك من القضاء.
– سأفعل ما تريد يا مولاي.
أما روكامبول فإنه تركه يغمس المنديل بدماء الخادمة وقال لفاطمة: خذي الآن مجوهراتك وكل شيء ثمين لديك في هذا المنزل واتبعيني.
– إلى أين؟
– ستعلمين متى وصلت.
وبعد ذلك بعشر دقائق خرج روكامبول وفاطمة، وتبعهما الخادم فسار إلى منزل الدون جوزيف، ورأى زامبا ينتظره على الباب فقال: ما فعلتَ؟
– قُضِي الأمر. ثم أعطاه المنديل وأركن إلى الفرار.
١١
بينما كان روكامبول يسير بفاطمة إلى حيث لا تدري، وبينما كان الخادم الأسود يذهب إلى منزل الدون جوزيف ليعطيه المنديل المصبوغ بدماء الخادمة، كان الدون جوزيف ينتظر بذاهب الصبر قدوم زامبا إليه بهذا المنديل.
وكان الخوف قد بلغ مبلغًا عظيمًا من الدون جوزيف؛ لأنه كان يعلم شدة غيرة فاطمة، وبات يخشى أن تفاجئه ليلة اقترانه بابنة عمه وتدفعها الغيرة إلى أن تبوح بسره أمام جميع الحضور وتقول: هو ذا قايين الذي قتل أخاه، وأنا كنتُ شريكةً له بهذه الجريمة. لأنه كان يعلم أنها لا تصبر على حبه، وأنها جديرة بأن تقدم على أكثر من هذا الإقرار، فقرَّر قتل فاطمة منذ خطر له هذا الخاطر المخيف.
ومما زاده إصرارًا على قتلها أن البولونية التي يهواها طلبت إليه قتل فاطمة، ثم إنها أرسلت إليه في اليوم التالي تقول فيها:
إن المركبة ستنتظرك عند منتصف الليل حسب العادة، فإذا أعطيت سائقها المنديل مصبوغًا بدم، فاصعد إليها واحضر إليَّ، وإلا فعُدْ من حيث أتيت.
وبينما كان الدون جوزيف غارقًا في لجج هواجسه، إذ دخل عليه زامبا فأعطاه المنديل وهو يقول: قُضَي الأمر وستحظى بلقاء امرأة الكونت.
ففرح الدون جوزيف فرحًا وحشيًّا، وأخذ المنديل بلهف وطواه مع الرسالة التي وردت إليه، ووضعهما بجيبه، ثم ترك خادمه وذهب إلى لقاء السائس الذي كان ينتظره حسب الاتفاق، فقال له السائس: ما لون منديلك؟
– أحمر.
– إذن فاصعد.
ثم عصب عينيه حسب العادة وانطلق به إلى منزل البولونية، فلما وصل إليها لم يجدها فيه، بل وجد وصيفتها، فدفعت إليه كتابًا من مولاتها كتبت إليه فيه ما يأتي:
لا أعلم إذا كنتَ وفَّيْتَ بوعدك فقدرتَ أن تأتي إليَّ في الموعد المعين، وفي كل حال فإنه يستحيل عليَّ أن أراك في هذه الليلة؛ لأن زوجي الظالم قد عاد فارْثِ لحالي، واعلم بأن حبي لك يفوق كل حب، ثم إني لا أعلم إذا كنتُ أستطيع أن أراك غدًا، ولكني أرجوك أن تبقى في منزلك ولا تخرج منه من الصباح إلى الساعة الخامسة، ولا تستقبل أحدًا من زائريك، وأطلق سراح جميع خدمك طول النهار؛ لأني إذا رأيتُ أنك وفَّيْتَ بوعدك، وأحضرتَ إليَّ ذلك المنديل، فقد أزورك مبرقعة الوجه، فتفتح لي باب منزلك بيدك، وإذا لم أحضر في النهار في الساعة الخامسة، فاذهب حيث تشاء وعُدْ في الساعة العاشرة، فقد يمكن أن أزورك في الليل، وفي كل حال أطلق سبيل خدامك في النهار والليل.
فاختلج فؤاد الدون جوزيف عند قراءة الكتاب وقبَّلَه مرارًا، ثم وضعه في جيبه ودفع المنديل إلى الوصيفة، ورجع إلى منزله فأخبر زامبا بما كان وأمره أن يطلق الخدم غدًا وينطلق معهم.
ذاك ما كان من الدون جوزيف، أما روكامبول فإنه أخذ فاطمة التي كانت تنقاد إليه انقياد الأطفال، فركب معها مركبة وعصب عينيها وهما على الطريق، وذهب بها إلى منزله السري، ولما دخل بها إلى القاعة أزاح العصابة عن عينيها وقال لها: انظري إلى ما حولك، فإنك في حبس جميل.
– ألعل إقامتي تطول في هذا المكان؟
وجعل روكامبول يحسب ويعد على أصابعه ثم قال: أربعة أيام.
– لماذا؟
– كي تنتظري فيه ساعة الانتقام، واحذري من أن تخرجي من المنزل أو تطلي من النافذة، وسآمر خادمي أن يقتلك إذا فعلتِ شيئًا من ذلك.
– سأفعل كما تريد، ولا يصعب عليَّ سجن أربعة أيام، فقد تعوَّدْتُ الحبوس في عهد الدون جوزيف.
وتركها روكامبول ودخل إلى غرفته، وأقام فيها ربع ساعة ثم خرج متنكِّرًا بزي جديد، ولما رأته فاطمة أنكرته، ولكنه تبسَّمَ لها وكلَّمَها فعرفته من صوته، وزادت وثوقًا من أنه الشيطان بعينه، فقبَّلَتْ يده قبلة عبادة وقبَّلَها في جبينها قبلة حنوٍّ، ثم حذَّرها ثانية من الإطلال من النافذة، وخرج فنادى خادمه وأوصاه بالعناية بها والاحتراس عليها، وأن لا يجيبها بشيء إذا سألته عنه، بل يقول إنه حديث العهد بخدمته، ثم سأله إذا كان ذهب إلى قصره وأحضر له رسائله فقال: نعم ولا يوجد غير رسالتين.
فأخذهما روكامبول وفضَّ الأولى وكانت من ابنة الدوق، فقرأ ما يأتي:
سيدي المركيز
إننا سنسافر بعد ثمانية أيام إلى إسبانيا، وربما حضرنا فيها مأتم ذلك المريض المنكود، ولما كان لا بد لنا من وداع معارفنا في باريس، فقد قرَّر أبي أن يدعو جميع أصحابنا إلى مأدبة في يوم الأحد، وأنت من جملة المدعوين، فأرجوك أن تحضر لأني أحب أن أراك.
فوضع روكامبول الرسالة في جيبه وقلبه مفعم فرحًا، ثم فتح الرسالة الثانية فكانت من البولونية التي يهواها الدون جوزيف تخبره فيها بأنها لم تستقبل الدون جوزيف في هذه الليلة كما أمرها، وأنها تنتظره في الساعة الحادية عشرة حسب الاتفاق. فكشف روكامبول عن ساعته ورأى أن الوقت قد دنا، فأسرع إلى لقائها فوجدها تنتظره، فقال لها: أسرعي وأرسلي السائس إلى لقاء الدون جوزيف.
– لعله قتلها وعاد بالمنديل؟
– إنه عاد بالمنديل مصبوغًا بدم كلب، وهو يظن أنه دم فاطمة، وسأخبرك بكل شيء، أما الآن فاكتبي ما أمليه عليك.
ثم أملى عليها الرسالة التي أخذها الدون جوزيف من الوصيفة كما قدمناه، وخلا بها فقال: لا بد لي الآن أن أُطْلِعك على السر فاسمعي.
ولم يكن تلميذ السير فيليام من الذين يبوحون بأسرارهم لبنات الهوى، ولكنه بعد أن حملها بالمال والوعيد على أن توافقه بالمؤامرة على الدون جوزيف لفق لها حديثًا فقال: إننا بعد أن بلغنا إلى ما نحن عليه الآن لم يَعُدْ يخلق بأحدنا أن يكتم شيئًا عن الآخَر، فاعلمي إذن أن الذي يدفعني إلى كيد الدون جوزيف هو أنه سلبني مرةً خليلةً لي كنتُ أحبها فأغواها بالمال، فأقسمت في البدء على أن أنتقم منه، ثم إني لما علمت أنه عازم على الزواج بابنة عمه، راهنت أحد الأغنياء بمائة ألف فرنك على أن أُبطِل هذا الزواج، وإذا فزتُ وكسبت الرهان كان المبلغ لكِ وعشتِ به سعيدة مدى الحياة دون أن أكون خسرت شيئًا، ثم إنك تذكرين أني أنا الذي علمتك كيف تحتالين عليه وتغرينه على قتل فاطمة.
وقاطعته البولونية قائلة: ألعلها المرأة التي كنتَ تحبها؟
– ربما، ولما عولت على الانتقام منه رشوت جميع خدامه، وهم الآن خدامي بالباطن، يطلعونني على أعماله، فلما أُغرِي الخادم الأسود أخبرني الخادم بالأمر وأمرته أن يقتل كلبًا ويغمس المنديل بدمه، ففعل وهو الذي ساعدني على اختطاف فاطمة.
فضحكت البولونية ضحكًا عاليًا وقالت: إنها خير خدعة، ولكنك لم تقل شيئًا عن غرضك من هذا الكتاب الذي أمليته عليَّ للدون جوزيف.
– أردتُ به أن يبقى في منزله بانتظارك، ولا يعلم شيئًا مما جرى في منزل خليلته، ثم أردتُ أن يزيد ولوعه بك حين يضطر إلى انتظارك، فما هاج الحب مثل حدوث المصاعب فيه.
– هو الحق ما تقول، غير أن الدون جوزيف لا بد له أن يعلم أن خليلته لم تُقتَل وأن الدم كان دم كلب.
– إنه سيعلم ذلك، أما أنتِ فيجب أن تبقي واثقة من قتل فاطمة.
– أأراه غدًا؟
– نعم، وسأخبرك غدًا بما يجب أن تفعليه.
– ولكني لا أعلم إلى الآن كيف يكون انتقامك؟ وكيف تستطيع إبطال زواج الدون جوزيف؟
– ذلك أن فاطمة أسيرة عندي الآن، وقد وعدتها أن أريها الدون جوزيف يرقص معكِ في الليلة الراقصة التي سيحييها الجنرال الإسباني، فإذا رأَتْه فاطمة يخاصرك تنقَضُّ عليه بغدارتها.
فأجفلت البولونية وقالت: إن هذا الانتقام لا يوافقني؛ لأني أخشى أن تدور الدائرة فيه عليَّ.
– لا شك أنكِ بلهاء، إني لا أريد بالانتقام القتل، بل أريد به الفضيحة، ولذلك فإني سأحشو الغدارة بيدي ولا أضع فيها غير البارود.
فاطمأنت وقالت: إنها ستكون فضيحة هائلة.
– وأية فضيحة أبلغ من أن يوجد الرجل أمام خطيبته في محفل حافل بالسيدات النبيلات، وهو محاط بخليلتين تتنازعان وتتخاصمان عليه، والآن إني ذاهب وسأراك غدًا كي أخبرك بما يجب أن تفعليه.
ثم تركها وذهب إلى منزله ودخل إلى غرفة أندريا وأخبره بكل شيء، وبعد أن تلقَّنَ تعليماته دخل إلى غرفته ونام.
وفي اليوم التالي ذهب في الساعة الخامسة إلى قصر الدوق إجابةً للدعوة، ووجد هناك معظم نبلاء باريس، وكان فريق منهم ملتفًّا حول ابنة الدوق وبينهم الدون جوزيف، فدخل روكامبول وجلس بالقرب من ابنة الدوق مع الحاضرين، وكان الحضور يتحدثون بأحاديث مختلفة إلى أن قطع الحديث أحدهم وقال: أعلمتم بالمقتل الفظيع الذي جرى أمس في الشارع المجاور لهذا القصر؟
فحدقت عيون الجميع بالمتكلم وقالوا: كلا، لا علم لنا بشيء! وأي مقتل تعني؟
فأخرج المتكلم جريدة من جيبه وقال: اسمعوا، إني سأتلو عليكم تلك الحكاية الغريبة.
فنظر روكامبول نظرةً سريةً إلى ابنة الدوق وأشار إليها إشارة خفيفة كأنه يقول لها: أصغي إلى الحديث.
واندفع الرجل يتلو حديث فاطمة والقتل الذي جرى أمسِ في منزلها، وكانت هيئة الدون جوزيف تستلفت الأنظار، وكان كلما اندفع الرجل بالقراءة يشير روكامبول إشارةً إلى ابنة الدوق التي علمت أن للدون جوزيف علاقةً عظيمة بالحادثة.
وما زال الرجل يقرأ عليهم إلى أن قال: ولم تكن القتيلة تلك الفتاة النورية المقيمة في ذلك المنزل، بل كانت خادمتها، وقد وُجِدت مضرَّجة بدمائها على سرير مولاتها.
وعند ذلك اضطرب الدون جوزيف اضطرابًا شديدًا، حتى أوشك أن يسقط لفرط ما ألَمَّ به من ذاك الخبر الذي انقضَّ عليه انقضاض الصاعقة؛ لأنه كان يحسب أن فاطمة قد زجَّتْ في هوة الأبدية، فإذا هي لا تزال حية تسعى.
وكان روكامبول قد تمكَّنَ في ذلك الوقت من الدنو من ابنة الدوق، فقال لها همسًا: إن القتيلة هي وصيفة فاطمة، وإن القاتل هو العبد الأسود، وإن المغري على القتل هو ابن عمك، وقد طعن الخادمة في الظلام وهو يحسب أنه يطعن فاطمة.
ثم اختلط المدعوون وتمكَّنَ روكامبول من الاختلاء مع ابنة الدوق هنيهة قال لها فيها: إن الدون جوزيف قتل أخاه بالاشتراك مع فاطمة كي يصل إليكِ، وأراد قتل فاطمة كي لا تحول بينه وبينك، فإذا أردتِ أن أنقذك ينبغي عليك أن تطيعيني طاعةً لا حدَّ لها.
– إني أقسم لكَ أن أطيعكَ بكل شيء.
– إذن يجب أن تحضري الليلة الراقصة التي سيحييها الجنرال الإسباني.
– إني مدعوة إليها وسأحضر.
– وتصحبين معك هذا الوحش المفترس الذي يسمونه الدون جوزيف.
– سأفعل كل ما تريد.
وفي الساعة التاسعة تفرَّق المدعوون، فخرج الدون جوزيف وهو ضائع الرشد واجف الفؤاد، تتمثل له فاطمة وخناجرها وإخوتها بكل مخيل، إلى أن بلغ إلى منزله ودخل إلى غرفته، وأول ما رآه على طاولته كان كتابًا عرف من عنوانه أنه من فاطمة، فأسرع إلى فضه وقرأ فيه ما يأتي:
لا تضطرب ولا تَخْشَ تلك الفتاة التي أردْتَ قتلها، والتي أحبتك حبًّا لا يحيط به وصف، وأنك وإنْ كنتَ قد أسأتَ إليَّ إساءتين بانشغالك عن حبي وبعزمك على قتلي، ولكني أحبك ولن أحب سواك. وإذا كنتُ لا أنتقم منك، فذلك لأن حبي القديم يشفع فيك، ثم إني أصفح عنك لأنك لم تعتمد قتلي إلا لخوفك من أن أقتلك، وذلك لما بدا لكَ من غيرتي حين شهرت عليك خنجري.
والآن، إني سأكتم عنك كيف تخلَّصْتُ من الموت، وسأحمل معي هذا السر؛ لأنك لن تراني بعدُ في هذا العالم، وعندما يصل إليك كتابي أكون برحت باريس، وبعد ثلاثة أيام أكون قد غادرت فرنسا ولا أعود إليها، فإذا أردتَ أن تبقى حيًّا وأن تعيش سعيدًا، فلا تبحث عني ولا تحاول أن تعرف أين أنا، بل اقتدِ بي لأني لا أبحث عنك، وإذا بدر منك شيء مما حذرتك منه، فإن خناجر إخوتي لا تزال مسنونة.
الوادع وكُنْ سعيدًا مع التي أحللتها محلي من قلبك، أما أنا فسأحاول أن أنساك. واطمَئِن فإن السر الذي كان يوثقنا بقيوده لا يخرج من صدري، ولا يعلم أحد أننا اشتركنا في تسميم أخيك الدون بادرو.
الوداع إلى الأبد.
فاطمة
فقرأ الدون جوزيف هذا الكتاب مرارًا وهو غير مصدِّق أن هذه الفتاة التي كانت تغار عليه من النسيم تصفح عنه هذا الصفح، إلى أن وثق أخيرًا من أنها لا تزال تحبه، وأن هذه الرسالة لم تكن خدعة، فطمأَنَ باله ونظر عرضًا إلى الساعة المعلقة أمامه، فرأى أنها قد أوشكت أن تبلغ الحادية عشرة، فخطرت له حبيبته البولونية، وخشي أن تكون قد أتت في مدة غيابة، فأسرع وهو واجف القلب إلى البواب، وسأله إذا كانت قد أتت امرأة مبرقعة.
– لا.
– ألم تَرَ مركبة وقفت بقرب الباب؟
وفيما هو يقول ذلك، إذ سمع صوت مركبة قادمة، فوقف ينتظرها إلى أن دنت من المنزل، فوقفت وخرجت منها فتاة مبرقعة علم الدون جوزيف أنها صاحبته، فطار لبه سرورًا وصاح صيحة فرح، ثم تأبَّطَ ذراعها ودخل وإياها إلى المنزل، وقد نسي فاطمة وجميع حوادثها.
ودار بينهما حديث طويل، وأقامت عنده هنيهة ثم خرجت بعد أن اتفقت معه على أن يحضر لها تذكرتين لحضور الحفلة الراقصة التي يحييها الجنرال الإسباني لها ولوصيفتها؛ لأن الدون جوزيف كان لا يزال يعتقد أنها امرأة كونت روسي.
١٢
في الليلة المعينة لتلك الحفلة الراقصة التي كان يحييها الجنرال الإسباني، كان قصره غاصًّا بالمدعوين، وكانت الجموع تفِدُ إليه من الرجال والنساء وجميعهم بملابس التنكُّر، غير أنه لم يكن بدٌّ للداخل من تقديم ورقة الدعوة على الباب، فما كان يقرأ مَن تولَّى استلامَها غيرَ أسماء الكونتات والبارونات والدوقات وأعظم نبلاء الباريسيين.
ولم يكن أحد يعرف الآخَر بتلك الأزياء الغريبة، إلا مَن كان منهم على اتفاق مع صديق أو صديقة فيخبره عن الزي الذي سيتنكر به فيعرفه به.
وكان روكامبول قد اتفق مع البولونية على اللباس الذي تلبسه، وعلم من ابنة الدوق لباسها ولباس الدون جوزيف، فلما كانت الساعة العاشرة وقد تكامَلَ عدد المدعوين، جاء روكامبول مع فاطمة وكان متنكِّرًا بزي امرأة، وهي متنكرة بزي غريب يستلفت الأنظار، فأدخلها إلى المرقص وأوقفها في مكان وقال لها: لا تبرحي هذا المكان حتى أعود إليك.
وذهب إلى البولونية وقال لها: هو ذا الدون جوزيف، وقد عرفتيه لا شك من لباسه الذي أخبرتكِ عنه.
– نعم.
– اذهبي إليه وخذيه إلى هذا الرواق وعاتبيه عتابًا غراميًّا، فإذا رأيتِ هذه الفتاة (وأشار إلى فاطمة) مرَّتْ بكما، فارفعي صوتك ودعي أحاديث عتابك تصل إلى مسامعها.
– أهذا كل شيء؟
– نعم.
فتركته وانصرفت إلى الدون جوزيف.
أما روكامبول فإنه ذهب إلى فاطمة وقال لها: انظري إلى هذين المجتمعين في الرواق، فإن أحدهما الدون جوزيف، والثاني هي خليلته التي تخلَّى عنك من أجلها، فإذا أردتِ أن تشفي غليلك من الانتقام فأطيعيني في كل ما أريد.
– إني لا أخالفك بشيء بعد أن علمتُ أنك معبودي.
– إذن اذهبي ومري بالقرب منهما كي تسمعي بأذنك ما يقولان، وإياك أن تصنعي شيئًا قبل أن يصل إليك أمري.
فامتثلت فاطمة وذهبت تسمع ما يقوله العاشقان، ولما دنت منهما رأتها البولونية، تذكرت وصية روكامبول فجعلت تعاتب الدون جوزيف بصوت مرتفع عتابًا هاج كوامن الغيرة والحقد في صدر فاطمة حتى أوشكت أن تبطش به، ولكنها ذكرت قول شيطانها فابتعدت عنهما وجعلت تنتظر روكامبول وهي تكاد تجن من القنوط.
أما روكامبول فإنه حين تركها ذهب إلى ابنة الدوق وقال لها: انظري يا سيدتي إلى ابن عمك الدون جوزيف، أَلَا ترينه يتكلم مع امرأة في ذاك الرواق؟
– نعم.
– إنها خليلته، ثم انظري إلى المرأة الثانية الواقفة بقربهما، أَلَا ترين علائم الجزع واليأس بادية عليها من حركاتها وتململها؟
– نعم.
– إنها خليلته الثانية التي هجرها، والتي أراد قتلها؛ أي إنها فاطمة، وهي آتية للانتقام منه.
فتأففت ابنة الدوق واشمأزت من هذا الرجل السافل الذي يمد يده لقرانها وهو منغمس في الرذائل، فقال لها روكامبول: أستحلفك بالله يا سيدتي أن تدعي الاعتلال وتبرحي القصر، لأنه ستحدث فيه أمور هائلة لا طاقةَ لكِ باحتمالها.
فارتعشت ابنة الدوق وقالت: ما عسى أن يجري؟ ألعله يُقتَل؟
– كلا، بل ستضربه يد الله ضربة قاضية.
– رباه! إني أغفر له، فاصفح عنه أنت.
– لقد فات الأوان يا سيدتي وقُضِي القضاء المبرم.
ونظر روكامبول إلى فاطمة فرأى أنها تنظر إليه كأنها تقول له: لَمْ يَعُدْ لي طاقة على الصبر، فقال لابنة الدوق: أستحلفك بالله يا سيدتي وبكل عزيز لديك أن تعودي إلى منزلك في الحال.
– ليكن ما تريد، وها أنا ذاهبة إلى أمي فأعود بها في الحال.
فشكرها روكامبول وافترقا، فذهبت ابنة الدوق إلى أمها وشكت لها صداعًا مؤلمًا أصابها، وأنها لم تَعُدْ تستطع البقاء، فأخذتها أمها وخرجت بها عائدةً إلى منزلها.
ولما رأى روكامبول أنها خرجت دعا إليه فاطمة وقال لها: ماذا سمعتِ من هذين العاشقَيْن؟
– سمعت ما كنتُ أؤثر ألف موت على سماعه، ولو لم يصدر إليَّ أمرك بالصبر لما صبرت لحظة على قتله، فقد سئمتُ الحياة.
– إن ساعته قد دنت فاتبعيني.
فتبعته فاطمة إلى إحدى الغرف، فأخذ من جيبه زجاجة فيها سائل أحمر وقال: اشربي ما في هذه الزجاجة، فإنها تشدِّد ساعدك.
– إن ما بقلبي من الانتقام يغنيني عن كل شدة، ولكني أشربه لأني لا يخلق بي أن أخالف لك أمرًا.
ثم أخذت الزجاجة فشربت ما فيها جرعةً واحدةً وألقتها على الأرض، وعند ذلك أخذها روكامبول وسار بها يبحث عن الدون جوزيف حتى رآه في قاعة منزويًا مع البولونية، وفي هذه القاعة بعض المدعوين فقال لها: إني أسلمك إياه الآن، فافعلي به ما تشائين.
ثم تركها وهرول مسرعًا، فبرح القصر عائدًا إلى منزله وهو يقول في نفسه: لقد ساءني قتل هذه الفتاة، فإنها كانت تطيعني طاعةً لا حد لها، فجرعتها سمًّا يقتل شاربه بربع ساعة، ولا أنكر أنه عمل وحشي، ولكن الحوادث قد قضت عليها؛ لأنها إذا قُبِض عليها بعد قتل الدون جوزيف فقد تقر أمام المحاكم بأنه قتل أخاه كي يتزوَّج بابنة الدوق، وهو إقرار شائن لأسرتها يقصيني عنها، أما إذا ماتت على إثر قتلها الدون جوزيف، يموت هذا السر معها وأتزوج أنا ابنة الدوق.
١٣
في اليوم التالي لهذه الحفلة الراقصة كان المركيز دي شمري — أي روكامبول — يتناول طعام الغداء في النادي الذي يجتمع فيه مع أصحابه، وهو جالس على مائدة وعلى مائدة أخرى أربعة من أعضاء هذا النادي، وقبل أن يتم طعامه دخل شاب جديد من أعضائه فجلس على مائدة روكامبول وقال له بصوت سمعه الجميع: ألعلك كنتَ أمس في مرقص الجنرال الإسباني؟
– نعم، وأنت؟
فقال له الشاب: كيف تسألني هذا السؤال، ولا يبدو عليك شيء من أثر الاهتمام؟
– لماذا تريد أن أهتم؟
– كيف ذلك؟ ألعلك لم تعلم بما جرى؟
– علمت أن الحفلة كانت حافلة.
– أهذا كل ما علمته؟
– وأن امرأة الجنرال أزاحت البرقع هنيهة عن وجهها، فكانت من أبدع ما تراه العيون.
– أبقيت في الحفلة إلى انتهائها؟
– كلا، بل إني بارحتها عند منتصف الليل.
– لقد علمتُ إذن.
– أما أنا فلم أعلم.
– أريد أن أقول إني علمت السبب في جهلك لما حدث.
– ماذا عسى أن يكون حدث؟ ألعل صاحبة الحفلة أُغمِي عليها، أم أن زوجها غار من أحد الملتفين حولها فأظهر هذه الغيرة؟
– بل حدث ما هو أبلغ من ذلك، والحق أيها المركيز إني لا أرى أبسط منك، ولا أكثر سلامة من قلبك.
فصاح الجميع وقد فرغ صبرهم: قُلْ لنا ماذا حدث؟
– حدث أن الدون جوزيف ابن أخ الدوق سالاندريرا قد قُتِل أمس في تلك الليلة الراقصة التي انقلبت إلى مأتم.
فصاح الجميع منذعرين: كيف قُتِل؟ ومَن قتله؟
– قتلته امرأة، وتفصيل هذه الحكاية أن الدون جوزيف كان يهوى امرأتين، وكل منهما تغار من الأخرى عليه، وقد اتفق أن الاثنتين كانتا في المرقص، فبينما كان الدون جوزيف يكلم إحداهما، إذ دنت منه الأخرى وأزاحت البرقع عن وجهها وقالت له: أعرفتني أيها الخائن؟ ثم استلت خنجرًا وطعنته به في قلبه طعنةً نجلاء خرَّ على أثرها صريعًا على الأرض دون أن ينبس بكلمة، فأسرع الناس واحتاطوا بها من كل جانب، وقد حسبوا في البدء أنها مجنونة، وبينما هم يسألونها أسئلة مختلفة إذ اصفرَّ وجهها وصاحت صيحة عظيمة، ثم سقطت على الأرض لا تعي.
فقال روكامبول: ألعلها أُغمِي عليها؟
– كلا، بل إنها ماتت مسمومة، فقد وُجِدت زجاجة فارغة فيها بقية من سائل أحمر، حكم أحد الأطباء الذين كانوا في الحفلة، أنه سم نقيع قاتل.
فقال روكامبول ببرود: لقد عاقبت نفسها كي لا يعاقبها القضاء.
– ولكن الغريب في هذه الحادثة التي تشبه الروايات المحزنة أنها خُتِمت بفصل مضحك.
فقال الجميع: كيف ذلك؟
– إن الفتاة الأخرى التي كان يحدثها الدون جوزيف عندما رأت قتل حبيبها سقطت مغميًّا عليها، فلما فرغ الناس من الاهتمام بالقاتلة عادوا إليها ونزعوا الحجاب عن وجهها، فأجفل بعض مَن عرفها من الشبان وصار كل واحد منهم يقول للآخَر: البولونية … البولونية. ولم يكن النساء يعرفنها، وكنَّ يعجبن لعجب الشبان حتى أخبرهن أوقحهم بأنها أشهر بنات الهوى، واتصل خبرها بالجنرال فغضب غضبًا شديدًا وقال لها: كيف تجاسرت على الدخول إلى منزلي وأنت كما يقولون؟
قالت: إنك أنت الذي دعوتني إليه. وأخبرته أن الدون جوزيف أحضر لها ورقة الدعوة.
فطردها من القصر، ثم حضر البوليس فحُمِلت القتيلة إلى دار الحكومة وحُمِل القتيل إلى قصره، ثم تفرَّقَ الناس ونزل الستار على آخِر فصل من هذه الرواية.
فعجب الجميع لهذا الاتفاق الغريب، أما روكامبول فإنه نهض وقال: إذن لا بد لي من تعزية الدوق لوفاة ابن أخيه العزيز.
ثم تركهم يتحدثون بهذا الحديث وذهب إلى قصر الدوق كي يعزيه على قتل ابن أخيه، فأخبروه أنه لا يُقابل أحدًا، فترك رقعة الزيارة وانطلق إلى أستاذه السير فيليام.
١٤
عندما وصل روكامبول إلى منزله رأى صهره الفيكونت فابيان، وهو زوج أخته المركيزة، فقال له الفيكونت: أَمَا علمت بما جرى في حفلة الجنرال الإسباني؟
– نعم، وقد كنتُ في الحفلة.
– عجبًا أتكون عارفًا مثل هذه الحوادث الخطيرة، ثم تكتمها عني وأنا وإياك في منزل واحد؟
– إنما كتمتها عنكَ لأني برحت الحفلة قبل الحادثة، ولم أعلم بها إلا الآن!
– إن الدون جوزيف قُتِل قتلًا فظيعًا، غير أن عزاءك في موته أنه خطيب ابنة الدوق. قُلْ لي أَلَا تزال تحب تلك الفتاة؟
فتظاهر روكامبول بالخجل وقال: إنكم تتهموني بحبها، وأنا لم يخطر لي حبها في بال.
– إني أعلم منك أكثر ما تعلمه عن نفسك، وسواء أنكرت هذا الحب أم بُحْتَ به، فسننظر في أمرك؛ لأن الخطيب قد مات موتًا شائنًا بين خليلتين وخلا لك الجو.
فأطرق روكامبول وقال: ولكن قبره لا يزال مفتوحًا.
فابتسم الفيكونت وقال: إنه سيُغلَق فاطمئن، فسأخدمك أجلَّ خدمة.
ثم دخل الاثنان إلى المنزل، فذهب صهره إلى امرأته، وذهب روكامبول إلى أندريا فأوقفه على جميع ما حدث وسأله تعليماته، فكتب له على اللوح الحجري: «اصبر إلى أن يَرِدَك كتاب من ابنة الدوق أو تقابلها.»
فدخل روكامبول إلى غرفته وأقام ينتظر فيها هذا الكتاب إلى الساعة الثامنة، فلم يحضر، فذهب إلى النادي ولبث فيه إلى منتصف الليل، ثم خرج منه فلقي عند بابه رجلًا عرف أنه خادم ابنة الدوق، فأعطاه رسالة وانصرف، فأخذها روكامبول والفرح ملء قلبه، وركب مركبة وسارت به تنهب الأرض إلى المنزل، حتى إذا بلغه ذهب توًّا إلى غرفة أندريا ففضَّ الكتاب وتلاه عليه.
وخلاصة هذا الكتاب أنها ذكرت فيه كيف أنهم أتوا بالدون جوزيف قتيلًا إلى القصر، وأنها وإن كانت تعتقد أنها القاتلة؛ لأنها أغرت روكامبول على قتله، فإنها لا تستطيع أن تخفي ما نالها من التأثُّر الشديد، ثم ذكرت له أنهم وجدوا في جيب الدون جوزيف كتابًا من فاديكس يشير إلى موت أخيه الدون بادرو، وأنها لا تنكر على الدون جوزيف أن يحضر إلى المراقص في الليلة التي يرد فيها نعي أخيه؛ لأنها تعلم أنه سفَّاك أثيم، وأنه هو الذي قتل أخاه بالسم فلا يكترث بموته، ثم طلبت إليه أن يحضر إليها لأنها تريد أن تراه.
ولما أتم روكامبول تلاوة الكتاب قال لأندريا: ماذا ترى؟
فأخذ أندريا لوحه الحجري وكتب عليه: لقد خطوت خطوة كبيرة، فإن ابنة الدوق تحبك وخطيبها قد مات، ولكن …
وهنا قطع الكتابة وجعل يفتكر، فقال له روكامبول: ولكن ماذا؟
فكتب أندريا: «إن الدون سالانديرا من عظماء الإسبان ومن كبار الأغنياء، لا سيما وأن ثروته ستزيد أضعافًا بما سيرثه من الدون بادرو والدون جوزيف، أما أنت فإنك مركيز وغني، ولكن شتان بين ثروتك وثروته، ومقامك ومقامه.»
فقال روكامبول: وما عليَّ من التباين بين الحالتين إذا كانت تحبني؟
– أصبت، إنما أحب أن أعلم إذا كان قد تقدَّمَ لطلبها أحد غيرك من النبلاء.
فقال روكامبول: نعم، فلقد خطبها من قبلُ رجل عرفناه في أدوارنا السابقة، وهو الرجل الذي كنتَ تغريه على إغواء هرمين؛ أي الكونت دي مايلي الذي أصبح الآن دوقًا بعد موت قريبه الدوق الذي مات دون أن يتزوَّج الأرملة، غير أن طلبه قد رُفِض.
فقال أندريا: ذلك لأن الدون جوزيف كان خاطبًا للفتاة وكان لا يزال في قيد الحياة، أما الآن فقد يمكن بعد شهر أو شهرين أن يعود إلى هذا الطلب ويفوز، وهنا كل الخطر.
فقال روكامبول: لقد أصبتَ، غير أني لا أخشى الدوق دي مايلي، بل إني أخشى باكارا لاتصالها بأسرته.
فاضطرب أندريا عندما سمع اسم باكارا، وبدت علائم الغضب على وجهه المشوَّه، فقال روكامبول: لقد قلتُ لكَ إن باكارا باتت تُدعَى الكونتس أرتوف، وهي الآن في روسيا مع زوجها، غير أنها ستعود في أوائل الشهر القادم، ولقد رأيتُ كثيرين من الناس الذين عرفوني حين كنتُ أُدعَى الكونت دي كامبول وحادثتهم، فما عرفني منهم أحدٌ وأنا أحمل لقب المركيز، إلا أني أخشى أن تعرفني باكارا؛ فإن تنكُّري لا يخفى عليها، أما باكارا وزوجها فقد عرفا الدوق سالانديرا منذ سنتين في مياه ويسبادن، وبات الكونت أرتوف صديقًا للدوق، وباتت باكارا صديقة لابنة الدوق وأمها، وعلى ذلك فإني أخشى أن يكون الكونت أرتوف هو الذي طلب ابنة الدوق للدوق مايلي، وأن تحبط باكارا مساعينا كما أحبطتها من قبلُ إذ لم نبالغ في الحذر؛ لذا فإني أرى أن الاهتمام بشأن باكارا أولى من كل اهتمام، فإن الدوق وامرأته وابنته لا بد أن يسافروا بجثة الدون جوزيف إلى إسبانيا.
فوافقه أندريا بهز رأسه مرات متوالية، فقال روكامبول: واعلمْ بأني لا أخرج عن أمرك في شيء، بقي أن تعلم أني لا أستهجن كرهك لأخيك الكونت دي كركاز، فقد كان السبب الأول في شقائك، غير أنه يجمل بك الآن أن تتخلى عنه مؤقتًا، فإنك لو تدبَّرْتَ في ماضيك لعلمت أن كرهك له ومحاولتك الانتقام منه كانا علة حبوطك في جميع مساعيك، ولو كنتَ قد تخلَّيْتَ عنه من قبلُ وجعلت كل اهتمامك في باكارا لما فقدت لسانك وبصرك، ولكنتَ ظفرت بتلك الفتاة اليهودية التي أحللتها في أعظم محل من قلبك.
فاصفرَّ وجه أندريا عند ذكر اسم اليهودية، ورأى روكامبول ذلك الاصفرار، فعلم أنه لا يزال يحبها، فقال له: إذا ساعدتني على الانتقام من باكارا ومنعها عن التعرض لي، فُزْنَا عليها وكانت لك تلك اليهودية مكافأةً لأعمالك.
فظهرت على وجه أندريا علائم الفرح الوحشي ووافق روكامبول على كل ما قال، فغادره روكامبول ومضى وهو واثق من الفوز.
وفي اليوم التالي ركب مع صهره مركبة مجلَّلة بالسواد، وذهب إلى قصر الدوق لحضور جنازة الدون جوزيف، فقد تقرَّر أن يُصلَّى عليه في الكنيسة، ثم تُحنَّط جثته كي تُدفَن في إسبانيا.
ولما كانوا في الكنيسة والناس منشغلون برش المياه المقدسة على الميت، دنا خادم ابنة الدوق من روكامبول وأعطاه رسالةً منها، فأخذها روكامبول ودسَّها في جيبه، ثم انتظر إلى أن انتهت المراسيم.
ثم عاد مسرعًا إلى أستاذه أندريا وقرأ عليه هذه الرسالة؛ وهي كما يأتي:
إننا مسافرون غدًا إلى سالاندريرا نحمل جثة الدون جوزيف إليها لدفنها في مدفن العائلة، ولا أريد بل لا أطيق السفر قبل أن أراك، فأحضر الليلة عند منتصف الليل إلى الحديقة في المكان المعهود.
فلما أتم قراءتها قال: ماذا ترى؟
– أرى أنه يجب أن تذهب للقائها.
– ما هذا الذي أعنيه، بل إني أسألك رأيك في الرسالة. فكتب أندريا: إن رأيي هو أنه يجب أن تحتفظ بجميع هذه الرسائل، حتى إذا نستك وهي في إسبانيا أو تزوَّجَتْ بالدوق مايلي أو دوق سواه، تضع له هذه الهدايا في العلبة التي تضع فيها هدية العرس. فضحك روكامبول وتحدَّث معه هنيهة ثم تركه وانصرف إلى النادي، فأقام فيه إلى انتصاف الليل، وعند ذلك ذهب للقاء ابنة الدوق، فوجد أنها تنتظره في الحديقة.
ودار بينهما حديث طويل افتتحته ابنة الدوق بشكر روكامبول عن خدمته الجليلة، ثم أخبرته أن أباها بات يمقت البلاد الإسبانية لكثرة ما لقي فيها من المصاعب، وأنه سيقيم في باريس، وما زالا ينتقلان من حديث إلى حديث ويتناجيان باللحاظ إلى أن ناب اللسان عن العيون، فتشاكيا وتناجيا وتوافقا على الحب إلى الموت، ثم افترقا وقد اتفقا على المراسلة، فودَّعها روكامبول وهو يمسح دمعة عن خده لا ندري من أين نزلت، فشهقت ابنة الدوق بالبكاء وهي تقول: أحبك. وذهب روكامبول وهو يتأوَّه ويتنهَّد.
١٥
خرج روكامبول والفرح ملء قلبه وهو يقول في نفسه: لقد ظفرت بما ابتغيته، وأصبحت هذه الأموال الإسبانية في قبضة يدي، ثم جعل يمشي وهو غارق في بحار هذه الهواجس غير مكترث بالمطر المتساقط عليه، ولا زال يمشي إلى أن أيقظه من سبات تصوراته صوت امرأة تستغيث، فأسرع إلى المكان الذي خرج منه الصوت، فرأى امرأة تحاول أن تتخلص من رجل وهو يمسك بها فيجرها تارةً، ويضربها بحمق كلما امتنعت عن اللحاق به، ولا ندري ما دفع روكامبول إلى إنقاذ تلك الفتاة، وما هاج في صدره تلك المروءة إلا أن يكون قد طمع بغنم من هذا الانتصار، فجرد خنجره وصاح بالرجل صيحة أرهبته، فذعر كما يذعر اللصوص عندما يفاجئهم مفاجئ، ثم لما رأى الخنجر يلمع في الظلام بيد روكامبول ترك الفتاة وأركن إلى الفرار، فدنا روكامبول منها وقال: اطمئني، لا خوف عليك وأنا بقربك.
فقالت له الفتاة بصوت الخائف: بربك لا تتخلف عني ولا تدعني وحدي، فإنه يعود إليَّ ويقتلني دون شك.
فارتعش روكامبول عند سماع صوتها وقال في نفسه: إني سمعت هذا الصوت قبل الآن، غير أن الظلام كان مُدْلَهِمًّا فلم يستطع أن يرى وجهها، ولكنه مسك يدها وقال لها: لا تخشي وهلمي معي فأوصلك إلى محل تأمنين فيه. فمشت المرأة معه إلى أن بلغا إلى مركبة واقفة في الشارع، فتبين وجهها على نور مصباحها، وارتجع منذعرًا إلى الوراء وهو يقول: باكارا!
وكان ذهول روكامبول عظيمًا حتى إنه لم يتمالك رشده، ونسي أنه إذا تظاهر بمعرفة باكارا أمامها فكأنه يدعوها إلى أن تعرفه، غير أن المرأة أجابته وهي منذهلة أيضًا: إنك واهم يا سيدي، فما أنا بصاحبة هذا الاسم الذي ذكرته. فجعل روكامبول يتفرَّس في وجهها بإمعان، فرأى أنها باكارا بعينيها وشفتيها وطولها وشعرها وصوتها وكل ملامحها، غير أنها كانت أهزل من تلك التي تُدعَى منذ أعوام بالكونتس أرتوف، وهي لابسة أحقر الملابس، فوقف روكامبول بإزائها ساكنًا باكتًا وهو يقول في نفسه: إما أن تكون تشابهها وهو من غرائب الاتفاق، وإما أن تكون هي باكارا بعينها، فإنها كانت تتنكر أحيانًا حين تحوجها بعض الأعمال الخيرية إلى التنكُّر، ولكنها إذا كانت باكارا فما شأنها مع ذلك الرجل السكير الخامل الذي كان يكلِّمها كمَن له السلطان عليها، مما يدل على علائق سابقة بينهما، وكانت ظواهره تدل على الاضطراب الشديد، غير أن المرأة لم يظهر عليها أنها انتبهت إلى شيء من ذلك، ففتح روكامبول باب المركبة ودفعها إليها وهو يقول: لقد خُدِعتُ، فإنك تشبهين شبهًا غريبًا امرأةً عرفتها من قبلُ.
– لا شك بانخداعك؛ لأني ما رأيتك مرة في حياتي.
ثم دخل في إثرها إلى المركبة وقال لها: إلى أين تريدين أن أذهب بك؟
فاحمرَّ وجه تلك المرأة وقالت: ليس لي منزل يا سيدي، فقد كنتُ مقيمة مع هذا الرجل الذي أنقذتني منه، ولكنه كان يسيء إليَّ إساءة لا تُحتمَل حتى اضطررت إلى الفرار منه في هذه الليلة، وجعل يبحث عني حتى لقيني، وكان بيني وبينه ما عرفت.
– لا بأس!
ثم همس في أذن السائق اسم الشارع الذي كان فيه منزله السري، فسار بهما وعند ذلك سألها روكامبول عن اسمها فقالت: ريبيكا.
– أيهودية أنت؟
– كلا، غير أن أمي كانت يهودية.
– وأبوك؟
فتلجلج لسانها وقالت: ما عرفتُ أبي غير مرة واحدة، فإني ابنة الحب الشائن، وقد أرتني إياه أمي مرة وكان معه امرأته الشرعية وفتاة صغيرة شقراء تشبهني أتمَّ الشبه، وربما كانت المرأة التي عرفتها وحسبتني إياها.
– أكان أبوك غنيًّا؟
– كلا، بل كان من العمَّال، وكانت أمي تحبه كثيرًا، وكأن تماديها في غرامها أساءه، فغادرها مع طفلتها وهي أنا وتزوَّج بسواها زوجة شرعية.
وكان روكامبول يعرف حقيقة تاريخ باكارا وسريز فقال في نفسه: لا يبعد أن تكون ريبيكا هذه أخت باكارا. ثم قال لها: قلتِ إن أباك كان من العمَّال، أتعلمين ما كانت مهنته؟
– نعم، فقد كانت تقول لي أمي إنه حفار.
– أتعلمين أين كان يشتغل؟
– في معمل أنطوان.
– لم يَعُدْ شك عندي الآن بأن تلك الفتاة الشقراء التي أخبرْتِني عنها هي أختك.
– أهي المرأة التي تعرفها؟
– نعم!
فهاج مكامن حقد دفين في صدر ريبيكا ظهر باتقاد عينيها وقالت: إذن فاعلم أن تلك التي تدعوها باكارا هي أختي حقيقةً، وهي التي جرَّدت أبي من كل عاطفة حب لي، وهي التي زجَّتْني إلى الحضيض الذي أنا فيه، فأصبحت من بنات السبيل وسِرْتُ إلى ذلك السير الشائن؟
– كم عمرك الآن؟
– ٣٢ عامًا.
وقال روكامبول في نفسه: إنها أكبر من باكارا بعامين، وسنرى ما يقول أندريا، وكيف يستفيد من هذه اللقطة العجيبة.
وعند ذلك وقفت المركبة عند باب منزله، فنزل وأنزلها وقال لها: ادخلي معي فإني سأحدثك بأمور تسرك. ثم دخل بها إلى قاعة فاخرة الرياش فأجلسها بإزائه، ودار بينهما الحديث الآتي، فقال روكامبول: قُصِّي عليَّ الآن تاريخ حياتك بجملته، فقد بات يهمني كثيرًا.
فابتسمت ابتسام الحزين وقالت: إن مَن كان مثلي لا يروق سماع قصته.
– لا بأس، فقصي عليَّ كل شيء؛ إذ قد أكون عونًا أرسلني إليك الله، فلقد قلتِ إنك ابنة غرام، وإن أمك كانت تحب أباك حبًّا شديدًا.
– بل كانت تعبده عبادة، ولما هجرها كنتُ طفلة لا يزيد عمري عن عام، ثم ماتت أمي وعمري خمسة أعوام، فتولَّتْ تربيتي جارة لنا إلى أن بلغت الخامسة عشرة من عمري.
– وبعد ذلك؟
– نهجت في مناهج أمي، وسِرْتُ في ذلك السبيل الشائن الذي تسير فيه كل فتاة تربَّتْ في مهد الرذيلة ولم تجد مَن يردعها، فأحببت أول شاب ابتسم لي وقال: إنك حسناء.
– مَن كان هذا الشاب؟
– تلميذ من التلامذة الأغراب، فكنتُ أذوق حلاوة العيش مرةً وأمج علقمها مرات، ثم جعلت أنهض من هوة فأسقط في غيرها حتى صرت إلى هذا الرجل الذي أنقذتني منه.
– إذن أنت تكرهين أختك باكارا التي تشبهك هذا الشبة الغريب؟
– كما أكره الموت.
– وأنا أيضًا.
– أنت تكرهها أيضًا؟
– لأني أحببتها كثيرًا وقد داستني بقدميها، فإذا كنتِ تكرهينها كما تقولين وهيَّأتُ لك وسيلةً للانتقام منها، أَتقبلين؟
فقالت وقد ظهرت عليها مظاهر الفرح الوحشي: كيف لا أقبل وإذا لم أستطع أن أحب فإني أريد أن أكره، وإنما يعيش المرء كيما يضر وينفع، ولكن كيف لي أن أنتقم؟
– سأساعدك وأخدمك أجلَّ خدمة.
– أَتُقْسِم بشرفك؟
– سأفعل خيرًا من ذلك، وهو أني سأهبك هذا المنزل الذي أنتِ فيه الآن، ومتى عرفتِ ذلك فلا يبقى لديك شيء من الريب.
فنظرت إليه نظرةَ المنذهل قائلةً: أصحيح ما تقول؟
– إني أُعيد عليك ما قلتُه، وهو أن هذا المنزل لكِ، والخادم الذي فيه تحت مطلق سلطانك، وأنا سأزورك في كل يوم.
– كيف ذاك؟ ألكَ منزل آخَر غير هذا تُقيم فيه؟
– نعم، فإني غني وستذوقين معي حلاوة العيش. ونهض وقال: إني ذاهب الآن وسأعود إليك غدًا.
ثم دعا الخادم وقال له: إنك ستكون طوع أمر هذه الفتاة، إنما تكون مسئولًا عنها، فلا تدعها تخرج من هذا المنزل.
فانحنى الخادم إشارةً إلى الامتثال، ووقفت ريبيكا حائرة لا تعلم كيف أرسلت لها الأقدار هذا الرجل، أما روكامبول فإنه ركب مركبة وانطلق إلى منزله، ودخل إلى غرفة أندريا الذي كان ينتظر عودته بذاهب الصبر، ليعلم ما جرى بينه وبين ابنة الدوق، فقصَّ عليه روكامبول جميع ما كان بينهما، وما حدث من تبادل العهود، وسفرها إلى إسبانيا واتفاقها على المكاتبة بالسر إلى أن تعود مع أبيها إلى باريس، فكانت علائم السرور تبدو على وجه أندريا، ولما فرغ من حديث ابنة الدوق أخبره بأمر ريبيكا، وأنها تشابه أختها باكارا كما تتشابه نقط الماء، وأنه حصرها في منزله السري إلى أن قال: والآن فقد أتيت أستشيرك في شأنها؛ لأني لا أعلم كيف أستفيد من هذه اللقية، وما حبستها في منزلي إلا لعلمي بأنك من رجال القرائح النابغة، وأنك لا بد أن تجد فائدة عظيمة من هذا التشابة الغريب، لا سيما وأن ريبيكا تكره أختها باكارا، ولا أحَبَّ إليها من الانتقام منها.
فأطرق أندريا يُفكِّر وقد خاض في بحار تأملاته عدة دقائق وروكامبول لا ينبس بحركة؛ كي لا يقطع عليه تصوُّره، إلى أن فرغ أندريا من التفكير فأخذ اللوح الحجري وكتب فوقه: اذهب الآن ونَمْ مطمئنًّا، وعُدْ إليَّ عند الصباح.
– ألعلكَ اهتديتَ إلى السبيل؟
– إني لا أزال في الطريق، ولا بد لي من الوصول.
فانصرف روكامبول طائعًا ممتثلًا لأستاذه، وهو واثق أشد الوثوق من قريحته الجهنمية، وعاد إليه في صباح اليوم التالي، فوجد أن أندريا لم يَنَمْ بعدُ وقد صرف ليله بالإمعان والتفكير، فقال له: ألعلك اهتديتَ؟
– نعم.
ثم كتب على لوحه يسأله متى تعود باكارا من روسيا.
– بعد ثمانية أيام.
– أأنت واثق مما تقول؟
– بعض الثقة.
– إذن فاعلم أنه لا بد من إيجاد شاب حاد المزاج ضعيف العقل، بحيث يمكن أن يحب امرأة الكونت أرتوف؛ أي باكارا، حبًّا صادقًا شديدًا، ومتى وجدت هذا الشاب نبلغ من باكارا ما نُريد.
فأجاب روكامبول: يخال لي أني حزرت خطتك الهائلة، أما هذا الشاب فسأجده دون شك، وأنا ذاهب لأراه عند أختي في ساعة الغداء.
١٦
إن الذي جعل روكامبول يفتكر بأخته وبهذا الشاب الذي يتغدى عندها، هو أنه عندما كان عائدًا أمس مع صهره من جنازة الدون جوزيف قال له صهره: إن صديقك رولاند دي كايلت هو الآن في باريس، وقد أرسل لي كتابًا اليوم يقول فيه إنه سيزورني غدًا ويتغدى عندي، فلا تأكل غدًا في النادي حسب عادتك.
فأجابه روكامبول بالقبول دون أن يفتكر بهذا الشاب؛ إذ لم يخطر له في باله اقتراح أندريا، فلما غادر أندريا ذهب إلى أخته، فوجدها مع زوجها ورولاند في قاعة الاستقبال، فقال له صهره: لقد جئتَ في الوقت المناسب، فإنك ستسمع قصة رولاند وهي جميلة دون شك كجميع حكايات غرامه، ألم تقل لي بالأمس إن العشاق لا يكتبون إلى أصدقائهم؟
– نعم، وهذا ما أرتاب به؟
– ولكنك مخطئ، فإن رولاند كتب لي.
فالتفت روكامبول وقال له: أَلَا تزال عاشقًا أيها الصديق؟
فتنهَّدَ قائلًا: نعم، وا أسفاه!
فقال الفيكونت فابيان: ولكنه لا يعشق أميليا كما تعهد، بل إن حبًّا جديدًا طرد ذلك الحب القديم.
فقال روكامبول: مثل المسمار يدفع المسمار ويحل محله.
– هذا ما جرى لصديقنا رولاند، فإنه برح باريس واليأس ملء قلبه علَّه يجد سلوى عن غرامه بالسياحة والأسفار، فشفي من هذا الداء بعد ثلاثة أشهر، غير أنه شعر في بدء الشهر الرابع أن قلبه بات خليًّا، وأنه لا يستطيع أن يحيا دون غرام، فعاد من ألمانيا مكبَّلًا بقيود حب جديد.
فقال روكامبول: ألعله شغف بإحدى الألمانيات؟
– كلا، فإن التي يحبها روسية، ولا أعلم التفاصيل، ولكن رولاند سيقصها علينا.
فاختلج فؤاد روكامبول عندما سمع كلمة روسية، وقال رولاند: يسوءني أني في حاجة إلى هذه التفاصيل أكثر منك.
فقال روكامبول: ألعلك تهزأ بنا؟
– كلا، فإن المرأة التي أحبها …
ثم توقَّفَ مترددًا إلى أن قال: إن هذه المرأة لم أَرَها غير مرة.
– أأحببتها من نظرة؟
– نعم، حبًّا يشبه العبادة!
فقال روكامبول بلهجة الهازئ: إنك هربت إلى روسيا كي تنسى حب الفرنسية، وقد رجعت إلى باريس كي تنسى حب الروسية.
– إني لم أكد أراها حتى جننت بها، ولم أكلمها كلمة واحدة.
– لا أجد لك شبهًا إلا الإناء ملؤه البارود، إذا دنت منه الحرارة هبَّ والتهب، وأنت كذلك فإن نظرة واحدة تثير منك مثل هذا الغرام، والحق أن مثل هذا الحب لا يوجد إلا في الروايات.
– وإن حبي حكاية.
– أيمكن أن أقرأها؟
– بل إنك تسمعها لأني سأقصها عليك وهي بسيطة محزنة كسائر حكايات الغرام؛ فإني كنتُ قادمًا من حديقة بادن فرأيتها فيها، وكنتُ قد شفيت من غرامي القديم وعزمت على الرجوع إلى باريس، فدعاني أحد أصدقائي إلى حفلة راقصة وقال لي: تعالَ معي فسأريك الليلة أجمل امرأة، وهي الكونتس أرتوف.
فاضطرب روكامبول اضطرابًا شديدًا لم ينتبه إليه أحد، وأتم رولاند حديثه فقال: ثم أخبرني صديقي بحديث هذه الكونتس، فقال لي إنها كانت تُدعَى باكارا، وهي من أشهر مومسات باريس، وقد قُدِّر لها أن تنقلب من الشر إلى الخير، فأحبها الكونت أرتوف الروسي وتزوَّجَ بها، فلما سمعت اسم باكارا وكنت سمعت بشهرتها، أحببت أن أراها في تلك الحفلة، ورقصت معها، فما انتهى الرقص إلا وقد ذهبت بعقلي.
فقال روكامبول وقد أخفى اضطرابه: أهذا كل الحديث؟
– كلا، فإني عندما خرجت من تلك الحفلة سكرت كأني مصاب بحمى شديدة، فلم أَنَمْ طول ليلتي وهي تتمثل لي بكل مخيل حتى خشيت أن أكون جُنِنت.
فقال فابيان: لا يجب أن تخشى شيئًا، فإنك منذ عهد بعيد محسوب من المجانين.
فابتسم رولاند وعاد إلى حديثه فقال: وفي اليوم الثاني أقسمت على أن ألحقها حتى أحملها على حبي، ولو اضطررت إلى أن أصيغ النجوم لها عقودًا، فأخذتُ أطوف في ذلك اليوم المنتزهات عَلِّي أراها، فما وقفت لها على أثر، وفي الساعة الخامسة ذهبت إلى الفندق الذي كانت مقيمة فيه، فقيل لي إنها سافرت إلى هلدبرج، فذهبت إليها في ذلك المساء.
فقال روكامبول: ألعلك رأيتها؟
– بل أنقذتها من الموت!
فقاطعة روكامبول قائلًا: لقد تقدَّم لك القول إنك ما رأيتها غير مرة، وإنك لم تكلِّمها كلمة واحدة، فكيف تقول الآن إنك أنقذتها من الموت؟
– إن ما أقوله حقيقة لا ريب فيه.
فقال فابيان: وأنا أقول إن جنونك لم يَعُدْ جنون غرام، بل جنون أكيد.
– إنك عندما تسمع حكايتي ترجع عن كلامك هذا.
فصاح الجميع: إذن لنسمع الحكاية.
وجعل بعضهم يهزأ وبعضهم يُسكِت الهازئين، إلى أن استرعاهم روكامبول السمع وقال: لنسمع الحكاية، فقد قلت أيها الصديق إنك لم تكلِّمها كلمة.
– لم أُرِدْ بذلك أني لم أكلِّمها على الإطلاق، فقد كلَّمْتُها بضع كلمات حين كنت أُراقِصها.
فقال روكامبول: ولكنها كلَّمَتْك دون شك؛ فقد سمعت عن هذه المرأة أنها كانت كثيرة الكلام حين كانت تُدعَى باكارا.
– لقد كانت كذلك حين كنتُ أراقِصها، ولكنها لم تَفُهْ بكلمة حين أنقذتها من الموت؛ لأنها أُغمي عليها.
– وعندما عادت إلى رشدها ألَمْ تشكرك؟
– لم تجدني لأنني سافرت، ولكني لم أسافر طائعًا مختارًا، بل إنهم طردوني.
فعجب الجميع ببدء قصته وطلبوا إليه أن يقص عليهم الحديث بجملته، فقال: إن باكارا أو الكونتس برحت مدينة بادن في صباح الليلة الراقصة، وذهبت مع زوجها إلى هدلبرج فاقتفيتُ أثرها في الحال، وذهبت إلى تلك المدينة وعلمت أن زوجها قد سافر إلى فرنكفورت، وأنها مقيمة في منزل جميل على شاطئ البحر، ثم علمت أنها ستنتظر هناك زوجها مدة شهر إلى أن يعود.
وقد رأيت أنه لا يليق أن أزورها؛ لأني ما رأيتها غير مرة واحدة في تلك الحفلة الراقصة، فجعلت أترقب الفُرَص كي أراها، فعلمت في اليوم التالي أنها تخرج إلى قارب صغير تتنزه فيه، ومعها اثنان من القوزاق هائِلَا الجثة، تلوح عليهما ملامح الفظاعة والشراسة، فعلمت أن زوجها قد جعلهما حارسين عليها.
فذكر روكامبول هذين الرجلين اللذين قد وضعاه في الكيس وألقياه إلى النهر، واختلج جسمه لهذه الذكرى، وتابع رولاند قائلًا: وقد ترصدتها عدة مرار وتصديت لها في طريقها، فإذا سلمت عليها من بعيد ردَّتِ السلام ببرود وقلة اكتراث، فصبرت وجعلت كل يوم أركب قاربًا وأتنزه مثلها بإزاء قاربها، إلى أن اتفق يومًا أن الرياح عصفت فجأةً، فانقلب القارب وسقطت منه باكارا إلى البحر ومعها الرجلان، فألقيت بنفسي وقلت هو ذا الفرصة قد دنت، وما زلت أصادم الأمواج حتى بلغت إليها قبل البحَّارة، فأنقذتها وهي موشكة إلى الغرق، وسبحت بها مغميًّا عليها إلى القارب.
وكان البحَّارة قد أسرعوا إلينا جميعًا، فاحتملوا القوزاقين وباكارا إلى قارب، وسبحت أنا إلى قاربي وقد أنقذتها من الموت.
فلما كان اليوم التالي لبست أفخر ملابسي وتطيبت وذهبت لأزور تلك التي كانت مدينة لي بحياتها وأنا واثق من حسن استقبالي، فلما طرقت الباب فتح لي أحد هذين الرجلين، فما لبث أن رآني حتى أقفل الباب بوجهي ولم يرُدَّ عليَّ بحرف، على أني عدتُ إلى منزلي وأرسلتُ إليها رسالة هنَّأْتُها فيها بالسلامة، فكتبت لي تقول: إن الكونتس أرتوف لا تنسى أنها مدينة بحياتها للمسيو رولاند دي كايلت، وأنها تؤمل أن يزورها بعد أسبوعين في باريس لتفيه تشكراتها. فلما قرأتُ رسالتها علمت أنها تقول بعبارة صريحة إنها لا تريد أن تراني في هدلبرج، وفي الوقت نفسه ورد لي كتاب من عمي يستعجلني فيه بالحضور إلى باريس، فلم أجد بدًّا من الحضور، وها أنا الآن بينكم أنتظر رجوع هذه الفاتنة بفارغ الصبر، ولكنها ستعود قريبًا ولا بد لي أن أراها، ولا بد لها أن تحبني.
ولما انتهى من حكايته وعلم روكامبول أنه مغرم مفتون بباكارا، ترك الحفلة وأسرع إلى أندريا، وقال: لقد وجدت الرجل المطلوب.
– الرجل الذي سيحب باكارا؟
– بل الذي يحبها.
فابتسم أندريا ابتسامًا هائلًا وقال: وأنا وجدتُ أيضًا، فاسمع.
ثم خطَّ له خطة هائلة سيقف عليها القراء في الفصول التالية.
١٧
بعد أن خلا روكامبول بأندريا خلوة طويلة سرية، تركه وانصرف إلى ريبيكا أخت باكارا، وكانت هذه الفتاة لا تزال بين مصدقة ومكذبة لما رأته، فإنها بعد أن كانت تجول في الأزقة تلتمس قوت ليلة من طرق النكد، وبعد أن كاد عشيقها السكير يقتلها أصبحت في منزل أنيق وفرش فاخر، ولديها خادم يقف أمامها بملء الاحترام ويناديها بألقاب السيادة.
وكان روكامبول يقول في نفسه وهو قادم إليها: إنني إذا ألبست هذه الفتاة شالات باكارا وملابسها الثمينة، فلا تعود تفرق شيئًا عنها لشدة ما بينهما من التشابه، وهي ذكية الفؤاد مثلها، فلا بد لخدعة أندريا أن تنجح.
فلما وصل إليها استقبلته شاكرة فَرِحة، فسألها عمَّا إذا كانت قد سُرَّتْ بهذا المنزل، فقالت: إني سررت سرورًا لا يُوصَف، ولا أتمنى إلا أن يكون لي مثله.
– إني أعددت لك خيرًا منه، فهلمي معي إلى المنزل الجديد.
فوجف قلب الفتاة وخشيت أن يكون هازئًا بها، ثم تبيَّنَتْ من وجهه الصدق وقالت في نفسها: قد يكون وقع في غرامي.
فاطمأنت وسارت معه حتى بلغ بها إلى منزل في شارع باسي، تكتنفه حديقة صغيرة وعليه ملامح الجلال، ثم دخل بها إليه وأدخلها إلى قاعة الاستقبال، فإذا هي مفروشة من أجمل فرش، وجعل يذهب بها من غرفة إلى غرفة، وهي منذهلة لما تراه وتحسب أنها حالمة، إلى أن ذهب بها إلى غرفة خاصة بملابسها، فجلس وإياها وقرع جرسًا، فأسرعت خادمة بارعة في الجمال وقالت: ألعل مولاتي تدعوني؟
– نعم، إنها تريد أن تلبس ثيابها، وغدًا تأتي إليها الخياطات.
ثم نهض وقال لريبيكا: إنك الآن في منزلك وأنا ذاهب، ولكني سأعود إليك في المساء فأتعشى معك، واعلمي الآن أنه لديك في هذا المنزل طبَّاخة ووصيفة وخادم وسائق مركبة وجوادان.
ثم قبَّل جبينها وخرج، فبهتت ريبيكا وقالت: لا شك أنه فُتِن بي وسأخلص له الحب؛ لأنه يعرف طرق قلوب أمثالي.
•••
وَلْنسبق الآن روكامبول وندخل قبله إلى منزل الدون جوزيف الذي استقبل فيه البولونية قبل أن يُقتَل، فنقول إن جثته لم تُرسَل إلى منزله كما يعلم القرَّاء، بل أُرسِلت إلى منزل الدوق.
وكان زامبا ينتظر مولاه في تلك الليلة التي قُتِل فيها، حتى إذا انتصف النهار ولم يَعُدْ، ذهب إلى قصر الدوق ليسأل عنه، فأخبروه أنه قُتِل، فعلم للحال أن ذلك من صنع الرجل المتنكر؛ أي روكامبول، وجعل يقول في نفسه: إنه لو عاش سيدي وتزوَّج ابنة الدوق، لكان جعلني وكيل منزله، أما الآن وقد مات ماذا أصنع؟ أأسرق ما في منزل الدون جوزيف وأفر هاربًا؟ ولكني قد لا أنجو من القضاء، وهَبْ أني نجوت فليس في منزله مما يُسرَق أكثر من عشرة آلاف فرنك، وهي لا تكفيني شر العوز في المستقبل، وخير لي أن أتزلف للدوق فإنه كان يحب الدون جوزيف، فربما أبقاني في خدمته، فقد أستفيد فائدة عظيمة لوقوفي على سر هذا الرجل المتنكر، الذي لم يَعُدْ لدي شك أنه هو الذي أغرى على قتل الدون جوزيف كي يتزوج ابنة الدوق، ولكن ما بال هذا الرجل المتنكر لم أره منذ ثلاثة أيام؟ ألعله لم يَعُدْ في حاجة إليَّ بعد أن أدرك قصده؟
وفي كل حال فلا بد لي من البقاء في منزل الدون جوزيف أتولى حراسته إلى أن أرى ما يكون.
وكان قد عاد إلى المنزل وجعل يفتش في خزائن القتيل ويسرق ما فيه من المال، وفيما هو على ذلك إذ سمع قرع الباب الخارجي، فبادر إلى إقفال الخزائن، وأسرع إلى الباب ففتحه فرأى ذلك الرجل المتنكر الذي كان يُفكِّر فيه.
ولم يكن هذا الرجل غير روكامبول، فإنه عندما ترك ريبيكا ذهب إلى منزله السري فتنكَّرَ وقدم إلى منزل الدون جوزيف كي يرى زامبا، فلما رآه انحنى مسلِّمًا عليه حتى كاد يبلغ الأرض، فقال له روكامبول: هل أنت وحدك؟
– نعم.
فدخل وأمره أن يُوصد الباب، فأحكم إيصاده ودخل الاثنان إلى إحدى الغرف ودار بينهما الحديث الآتي، فقال روكامبول: أتقدر أن تخبرني عن قتل الدون جوزيف؟
– عجبًا كيف تسألني هذا السؤال وأنت أعلم بالتفاصيل مني!
– لا بأس أخبرني بكل شيء.
– إن الدون جوزف مات قتيلًا بخنجر فاطمة، وأظن أنك أنت الذي وضعت في يدها هذا الخنجر.
– ربما كان ذلك، ولكن أتعلم السبب فيه؟
– كلا.
– ذلك لأن الدون جوزيف كان يبغي الزواج بابنة الدوق.
– إذا كان هذا الزواج قد ساءك فأنت تخدم دون شك رجلًا آخَر يريد أن يتزوَّج بها؛ إذ لا أظن أنك أنت الراغب بزواجها.
– أرى أنك رجل نبيه ذكي الفؤاد، فقد أصبت، وأنا أخدم سواي في هذه المهمة كما كنتَ تخدم سواك، فَلْنتفق إذن إذا أمكن الاتفاق.
فجلس زامبا جلسة الواثق من شدة الحاجة إليه وقال: كل اتفاق ممكن بين عاقلين.
– إنما أسألك قبل كل شيء أن لا تنسى أني واقف على سرك، وأنك محكوم عليك بالإعدام، وأني أستطيع أن أبعث بك إلى المشنقة حينما أريد.
– وأنا ألتمس منك أن تكون كريمًا ورحيمًا.
– سأكون كما تريد، فاعلم الآن إنْ طمعت أن تكون وكيل منزل ابنة الدوق، وستكون وكيلها بعد زواجها، غير أنه يجب من أجل ذلك أن تخدم في الوظيفة التي سأعينها لك إلى أن يتم هذا الزواج.
– أخدم أينما أردتَ.
– لي صديق يثقل وجوده عليَّ، وأحب أن أضع في منزله مَن يراقبه، وهو الدوق دي مايلي.
– عرفت هذا الدوق بالنظر.
– وغدًا ستذهب إليه، ويكون لديك كتاب توصية من ابنة الدوق.
– من ابنة الدوق، وكيف لي أن أحصل على هذا الكتاب؟
– سأرسله لكَ بالبريد.
ثم تركه روكامبول ومضى إلى منزله السري، فدعا خادمه وقال: لقد أعفيتك من خدمتي وضاعفت راتبك.
فأجفل الخادم وقال: كيف ذلك يا مولاي؟
– ذلك أني سأعينك في خدمة رولاند دي كايلت لمراقبة أحواله، وستذهب إليه بهذا الكتاب.
ثم كتب إليه كتابًا إلى صديقه رولاند يوصيه بهذا الخادم الأمين وأعطاه للخادم، وقال له: انصرف بهذا الكتاب إليه وعُدْ إليَّ غدًا لأخبرك بما يجب أن تصنع.
فأخذ الخادم الكتاب وهرول فرحًا بهذا المورد الجديد.
وفي الساعة السادسة من المساء ذهب روكامبول إلى ريبيكا، فوجدها تنتظر وقد أصبحت بملابسها الجديدة فتنةً للعيون، وفيما هما يتعشيان قال لها: لا بد أن يكون قد خطر لك بأني أحببتك، وأني أريد أن أتخذك لي خليلة.
فعجبت ريبيكا وقالت: ما عسى أن يكون قصدك إذن مما تُنفقه عليَّ؟
– إني أريد أن أجعلك من النساء النبيلات، وأن تكوني جديرة بالاسم الذي تدعين به؟
فزاد عجب الفتاة وقالت: ألعلي تقمصت وصار لي اسم جديد؟
– نعم، فإنك تدعين منذ الآن الكونتس أرتوف؛ أي باكارا شقيقتك العزيزة.
١٨
كان رولاند دي كايلت فتيًّا لم يتجاوز عشرين عامًا، وكان على حداثة سنه كثير الغرور بجماله، وشديد الإعجاب بنفسه ومقدرته على فتنة النساء، ولكنه كان على هذا الغرور ضعيف العقل كثير الخيلاء، لا يراعي حرمة النساء، حتى إنه يندر إذا كلَّم امرأة أو رأى منها ابتسامة أن يَسْلَم عِرْضها من فلتات لسانه، فيتباهى أمام إخوانه بأن فلانة تتمنى رضاه، وفلانة تذوب هيامًا به، شأن كثيرين ممَّن يأخذ بهم الغرور من الشبَّان فيجعلون فضيلات النساء مضغة الأفواه وسمر النوادي، والويل لمَن تبسم لهم ابتسامة رضى، وتكلِّمهم كلمة حلوة، فإنها لا تنجو من مخترعات غرورهم.
وهذا كان شأن رولاند؛ فإنه عندما عاد إلى باريس يحمل بفؤاده حب باكارا الجديد، جعل يطوف على أصحابه، وكلما عثر بواحد منهم حدَّثه بحديث الكونتس أرتوف بجملته، وقال له: إنه سر أودعك إياه فلا تَبُحْ به لأحد، وما زال على ذلك حتى شفى غليله، واتصل هذا السر بنحو ثلاثين من أولئك الأصحاب.
وكان يقيم وحده في منزله، وليس معه فيه غير الخادم جرمين الذي أرسله إليه روكامبول، وقد طاف يومًا كاملًا فلم يجد صديقًا جديدًا يبوح له بغرامه الجديد، حتى إذا عاد إلى منزله لم يجد أمامه غير خادمه، فجعله في زمرة أصدقائه وباح له بسره، ثم عهد إليه أن يراقب مجيء الكونتس، فجعل الخادم يذهب كل يوم بحجة الاستفسار عن رجوعها من خدَّامها، ويذهب إلى روكامبول فيأخذ منه التعليمات اللازمة.
وقد مضى على دخوله في خدمته سبعة أيام دون أن يُحدِّثه بأمر جديد عنها، إلى أن عاد رولاند إلى منزله في اليوم الثامن وسأل خادمه إذا كان علم أمرًا جديدًا، فقال: لقد علمت من خدَّام الكونت أنهم ينتظرون عودته بعد ثمانية أيام.
– والكونتس؟
– لو كنتَ تعلم يا سيدي بما أتيتك به من الأنباء لكنت تجازيني خير جزاء؛ فإن الكونتس لا تعود مع زوجها.
– ويحك ماذا تعني؟
– أعني أنها الآن في باريس وحدها.
فاختلج فؤاد رولاند سرورًا وقال: أين أقامت؟ أفي قصرها؟
– كلا، بل إنها استأجرت منزلًا في شارع باسي وأقامت فيه متنكِّرة، وقد علمت ذلك من وصيفتها التي تحبني وأحبها، ولكنني لا أزال أجهل نمرة المنزل، ولا بد لي أن أعرفها في هذا المساء.
فطار فؤاد رولاند سرورًا وقال لخادمه صنيعة روكامبول: إنك إذا عرفت نمرة المنزل أجازيك خير الجزاء.
وفيما هما على ذلك إذ طرق الباب ودخل صديق جديد يُدعَى أوكتاف كان غائبًا عن باريس، وكان من أخص أصدقائه، فسُرَّ رولاند بقدومه وأخبره بجميع أمره مع باكارا إلى أن أخبره بحديث خادمه، فقال له صديقه: إنها لم تتنكَّر وتأتي إلى باريس قبل زوجها إلا بقصد أن تراك، وفي جميع ذلك مما يدل على أنها مفتونة بك، وكيف لا تحبك بعد أن أنقذتها من الموت، بل كيف لا تهواك وقد خصَّكَ الله بجمال بتَّ فيه فتنةَ النساء. فسُرَّ رولاند وجعل يفتل شاربيه مختالًا.
وفيما هما يتحدثان إذ دخل الخادم يحمل كتابًا إلى مولاه، فأخذه رولاند وفضَّه على عجل، فقرأ فيه ما يأتي:
إذا كان رولاند دي كايلت هو ذلك الرجل النبيل الذي تدله عليه ظواهر أعماله، وإذا كان خليقًا باسمه وبذلك الحب الذي غرسه في قلب المرأة المدينة له، فَلْيركب جوادًا في الساعة الحادية عشرة من المساء، وَلْيذهب إلى شارع باسي وينتظر.
فلما أتمَّ قراءته عرف أنه من باكارا، فدفعه إلى صديقه وهو لا يصدِّق ما يراه من الفرح، فقرأه أوكتاف وقال: لم يَعُدْ شك أنها مفتونة بك.
– نعم، غير أن الخط ليس خطها.
فهزأ به أوكتاف وقال: أَلَا تظن أن لها وصيفة تأتمنها على سرها وتستكتبها مثل هذه الرسائل الخيرة؟ فاقتنع رولاند وخرج مع صديقه إلى النادي لمناولة الطعام.
وكان هناك روكامبول وصهره فابيان، فدار الحديث بين الحضور على أبحاث شتى، إلى أن عاد رولاند إلى حديث غرامه، فجعل يخلو بكل واحد من أصدقائه ويخبره بحديث الرسالة، إلى أن أفضى الدور إلى فابيان، ولما باح له بكل شيء جعل يؤنبه لما يبديه من الطيش والغرور، وقال: إنك والكونت من أصدقائي، وقد بُحْتُ لي بسرك مع امرأته فأوقفتني أصعب موقف، على أني لا أزال أشكِّك في هذه الرسالة، وأعتقد أن أحد أصدقائك أراد أن يمازحك فكتبها إليك، وفي كل حال فإن الكتمان أجدر بك، وإلا فإنك تعرِّض نفسك لمبارزة الكونت أرتوف.
فهاجت الكبرياء بصدر رولاند وقال: أتحسب أني أخشى مبارزته؟
– كلا، ولكنك تخشى مقابلة تلك المرأة بعد أن تقتل زوجها، وفي كل حال فإنه يجدر بك صيانة عرض تلك المرأة إذا كنت تحبها كما تقول، وإلا فأي حب هذا؟
فأطرق رولاند وهو لا يعلم بماذا يُجيب، وما صدق أن دخل بعض أعضاء النادي إلى الغرفة التي كان فيها حتى غيَّر الحديث، ثم أفلت من فابيان ونصائحه واندمج مع أصدقائه الآخَرين وهو لا يلويه شيء عن الافتخار بهذا الحب الجديد، وما زال في النادي إلى أن حان الموعد المضروب، فخرج من النادي وركب جواده وانطلق للقاء باكارا وهو موجس خيفة من تحذير فابيان، وهو أن هذه الرسالة قد يكون كتبها له أحد أصدقائه على سبيل المزاح.
١٩
وكانت الليلة ممطرة، ولكن رولاند لم يبالِ بالمطر لما كان يتأجج بصدره من نار الوجد، فجعل يسير مسرعًا بالجواد إلى أن وصل إلى الشارع المعين، فوقف ينتظر فلم يَرَ أحدًا وقد أقفر الشارع من المارة لانهمار المطر.
وما زال يسير ذهابًا وإيابًا في مسافة محدودة لا يتعداها إلى أن حان منتصف الليل، أخذ يرجح ظنون فابيان وسئم من نفسه لإباحته بسره لجميع أصدقائه، حتى جعلهم يهزءون به هذا الهزء، ولكنه بقي له شيء من الرجاء فلم يخب رجاؤه، ففيما هو واقف في الطريق والمطر ينهمر عليه، إذ لقي مركبة تدنو منه حتى وصلت إليه فأوقفها سائقها ونزل منها رجل، فدنا منه، وقال له: ألعلك رولاند دي كايلت؟
– نعم.
– تفضَّلْ إذن بالتخلف عن جوادك والركوب في هذه المركبة إلى حيث ينتظرونك، أما جوادك فسأحتفظ به إلى حين عودتك. فامتثل رولاند وهو لا يصدق ما يسمع، ودخل في تلك المركبة فأقفل بابها من الخارج، وانطلقت به مسرعة إلى منزل الحبيب.
وبعد مسير عشر دقائق وقفت المركبة على باب منزل كبير، فأراد رولاند أن يفتح باب المركبة فوجده مقفلًا من الخارج، فحاول أن يرى من زجاج نافذتها، فرآه مصبوغًا بدهان بحيث لا يستطيع أن يرى شيئًا، فعلم أن باكارا أرادت بهذا الحذر أن لا يعرف طريق منزلها.
ولم يَطُلِ انتظاره، فإن باب المركبة فُتِح من الخارج ورأى رولاند خادمًا يقول له: تفضَّلْ يا سيدي واتبعني. فتبعه إلى قاعة مفروشة بأجمل الرياش منورة بنور ضعيف، فأدخله الخادم إليها وانصرف، فرأى رولاند ريبيكا التي تمثِّل دور باكارا جالسة قرب المستوقد، فلم يشكِّك رولاند أنها امرأة الكونت لشدة الشبه بينهما، ودنا منها فأخذته بيدها البيضاء فقبَّلها باحترام وقال لها: ما أرق قلبك! وما ألطف شعورك!
فابتسمت له ابتسام الحزين بعد أن جذبت يدها من يده باضطراب وقالت: تفضَّلْ يا سيدي بالجلوس بقربي. وكان رولاند يعتقد أنه يحب امرأة الكونت أرتوف حبًّا شديدًا، فتلجلج لسانه عن الكلام حين رآها، كذلك ريبيكا فإنها كانت تمثِّل دور الغرام، فلم تنبس بحرف كأنها لا تجسر أن تفتح الحديث.
وكان روكامبول قد علَّمها دورها حتى أتقنته، فلما رأت رولاند يضطرب ولا يجسر أن يتكلم بدأت هي بالحديث، فقالت باسمة: إذن أنا مدينة لك بحياتي.
فقال رولاند وقد حُلَّتْ عقدة لسانه: حبذا يا سيدتي لو تمكَّنْتُ من أن أجعل حياتي في كل ساعة فداءك.
فابتسمَتْ وقالَتْ: إنك لا شك مجنون.
– ذلك لأني جننت بحبك.
فتنهَّدَتْ وقالَتْ: أريد أن أقول إن كلينا مجنون، إني أحبك أيضًا. ثم غطت وجهها بيدها، فخُيِّلَ لرولاند أنه رأى دمعة نفذت من خلال أصابعها، ثم مسحت تلك الدمعة وكأنها ذكرت أنها امرأة الكونت أرتوف، وأنها مقيَّدة بقيود الواجبات، فقالت لرولاند وكان لا يزال واقفًا أمامها: اجلس على هذا الكرسي بجانبي، واحذر أن تبدو منك ما أنكره عليك وإلا …
– وإلا ماذا؟
فقالت بلهجة الممازح: وإلا أقصيتك عني فلا تعود تراني.
فاطمأن رولاند للهجتها وامتثل لها فجلس بقربها، فوضعت يدها بيديه وقالت: لنتحدث.
– أي حديث يا سيدتي يفصح عما أجد من غرامك؟
– تريد أن تقول إنك منذ لقيتني لم تعرف طعم الرقاد، وإنك لم تَنَمْ إلا على أمل أن ترى طيفي في الأحلام.
فوضع يده على قلبه وقال: هو ما تقولين أيتها الحبيبة، فإنني لقيت ما لا تقوى النفوس على احتماله.
– وقد وصلَتْكَ رسالتي، فتلوتَها مرارًا وأتيتَ إليَّ وأنت كالثمل من شدة الرجاء، إنك تريد أن تقول لي جميع هذه الجمل التي أسبقك إلى قولها، فإنك ترى أني جربت في حلبة هذا العمر شوطًا بعيدًا، وقرأت جميع تواريح الغرام، فباتت فقراته وفصوله في محفوظي.
– لا أرى إلا أنك فتنة العيون، وأني أحبك.
فابتسمت وقالت: لو لم أكن واثقة من حبك أكنتَ تراني في خلوة معك، أما وقد عرفتَ سر قلبي فلا بد لي من أن أوقفك على شيء من أسرار حياتي؛ فاعلم أني لم أُخلَق نبيلة كما تراني، بل إنني قبل أن أكون امرأةً الكونت أرتوف كنت أُدعَى باكارا، ألَمْ تسمع بباكارا؟
– ذلك سيان عندي، فإني أحبك.
– أصغِ إلى تتمة حديثي، فإن باكارا عرفت أنها لا قلب لها يشعر بالحب، ولكن الحب نفذ إلى قلبها يومًا كما تنفذ أشعة الشمس إلى الآنية فتملؤها شعاعًا، فلما تُبْتُ عن عيشي السابق وأصبحت امرأة الكونت أرتوف، أقسمت على أن أحترم اسمه الشريف، وأن أكون من أطهر النساء فما نكثت بهذا العهد، وأحببت زوجي أربعة أعوام حبًّا يشبه العبادة.
ثم غطت رأسها بيديها وتظاهرت أنها تضطرب، وبعد حين نظرت إليه بعين يترقرق الدمع فيها وقالت: كيف اعترضتني في سبيلي؟ وكيف لقيتك؟ وما لقيت منك؟ فإني ما لبثت أن رأيتك حتى اختلج فؤادي وعلمت أن لك سلطانًا عليَّ لا يُغلَب، فبينما أنا الكونتس أرتوف إذ غدوت فجأةً باكارا، وبات هذا الكونت النبيل الذي طالما أحبتته سمجًا في عيني حتى لم أَعُدْ أطيق النظر إليه. ثم جعلَتْ تبكي بعد هذا القرار بكاء شديدًا وتقول: رباه! ما هذا الحب وما أصعب مواقف الغرام!
فذهب عقل رولاند ولم يَدْرِ ما يقول، فجثا أمامها وجعل يقبِّل يدها وهو يقول بلسان متلجلج: أحبك.
غير أن ريبيكا رأت أنه يجمل بها الاندفاع، فجذبت يدها من يده بلطف وقالت: رولاند، إن زوجي سيحضر بعد ثلاثة أيام.
فتنهَّدَ وقال: ثلاثة أيام فقط؟
– نعم، وا أسفاه! فقد أصبحت أمقته أشد المقت، فارْثِ لحالي فإن هنائي بصحبته أربعة أعوام سينقلب إلى شقاء شديد لا قِبَل لي باحتماله.
فتحمَّسَ رولاند وقال: أتهربين معي؟
– إلى أين؟ فإننا لو ذهبنا إلى آخِر المعمورة لأدركني وقتلني شر قتلة.
– أتخشينه وأنا بقربك؟
– إنه يقتلك أيضًا، وأنا لا أريد لكَ الموت، بل أن تعيش لي وتحبني، فَلْنَبْقَ هنا إلى أن أجد سبيلًا يجمعني وإياك، ولكنكَ ستدفن سري في أعماق قلبك، أليس كذلك؟
– أعندك شك بهذا؟
وقد نسي في تلك الساعة أن سره يتحدث به ثلاثون من أصدقائه.
قالت: ولا تأسف حين يكون زوجي في باريس إذا لم أستطع أن أراك كل يوم، بل اصبر كما أنا صابرة.
– سأصبر إلى أن نجد وسيلة كما تقولين.
– إذن فاذهب الآن وسنجتمع غدًا.
– أين؟
– في هذا المنزل، فتأتي إلى الشارع على جوادك، وتنتظر إلى أن توافيك المركبة التي وافتك اليوم.
فامتثل رولاند وقبَّل يدها بلهف ثم خرج، فشيعته باسمة إلى الباب، فلقي المركبة تنتظره فركب فيها وانطلقت به إلى حيث كان ينتظره الخادم بجواده، فامتطى الجواد وانطلق يعدو به إلى النادي حيث كان يرجو أن يجد فيه أحدًا من أصدقائه، فيبوح له بهذا السر الذي كاد ينفجر بقلبه، ولكنه لم يجد أحدًا منهم، فانقلب راجعًا إلى منزله يمشي مشية الحزين لضيق صدره بهذا السر، مع أنه لم يكن في حياته على ما هو عليه من الفرح بهذا الاجتماع.
ونام فلم يحلم تلك الليلة إلا بباكارا، وظل نائمًا إلى الظهر، فلما فتح عينيه سمع جرس الباب الخارجي يدق، فظن أن صديقه أوكتاف قام لزيارته، ولكن ظنه أخطأ فإن القادم كان المركيز دي شمري؛ أي روكامبول، فدخل إلى غرفته وقال باسمًا: أتدري لماذا أتيتُ لزيارتك؟
– كلا!
– إني أتيتُ لظني بأنك في حاجة إلى صديق، وفيمَن يكتم سرك ويعينك بإخلاصه على ما أنت فيه.
– لقد أحسنت، فإن لدي سرًّا سيقتلني دون شك إذا بقي مدفونًا في قلبي.
فجلس روكامبول على طرف سريره وجعل رولاند يقص عليه ما جرى له في ليلة أمس.
٢٠
وكأن الصدفة أرادت أن تخدم روكامبول أجلَّ خدمة؛ وذلك أنه في اليوم التالي لتلك الليلة التي كانت ريبيكا تمثِّل فيها دور الكونتس أرتوف، كانت هذه الكونتس؛ أي باكارا، سبقت زوجها إلى باريس بيومين، فقدم هو عن طريق الرين وبلجيكا لقضاء بعض المهام، وقدمت هي عن طريق ستراسبورج ولورين، وهي أخصر الطرق إلى باريس، وقد ذهبت توًّا إلى قصرها، وكان الخدم متأهِّبين لاستقبالها، وجلست هنيهة إلى أن استراحت من مشاق السفر، ثم طلبت رسائلها التي وردت، فجعلت تطالعها حتى رأت بينها ورقة نعي الدون جوزيف الذي كان يحول بين الدوق مايلي وبين ابنة الدوق دي سالاندريرا، فاختلج فؤادها عند تلاوتها هذا النبأ، وقامت في الحال إلى مكتبها فكتبت إلى الدوق مايلي تعلمه بقدومها وتدعوه إليها، وأرسلت كتابها مع أحد الخدم، ثم كتبت كتابًا آخَر إلى أختها سريز تخبرها بحضورها، وجعلت تنتظر حضور الدوق.
وكان الدوق مايلي يبلغ الثلاثين من العمر، وهو وافر الثروة عريق النسب جميل الطلعة، وكان يحب ابنة الدوق سالاندريرا حبًّا عظيمًا، وتعرَّض لخطبتها غير أن أباها رفض لعزمه على تزويجها بالدون جوزيف.
فلما أتى الدوق مايلي وجد باكارا تنتظره في غرفة أشغال زوجها، وأمامها منضدة عليها دفتر مُلِئت صفحاته بخط تدل ثخانة حروفه على أنه خط رجل، فقال لها: كنتُ أحسب يا سيدتي أني سأرى معك الكونت.
– إن زوجي لا يحضر إلا بعد ثلاثة أيام، ولولا هذا النبأ الذي علمته منذ ساعة لكنتُ انتظرت حضوره فدعوتكَ إليَّ. ثم أعطته ورقة نعي الدون جوزيف، فاصفرَّ وجهه ولم تخف حالته على باكارا، فقالت له: أَلَا تزال تهوى ابنة الدوق؟
– نعم وا أسفاه! وإنما أتأسف لأنه حب لا رجاء فيه.
– إني أراك قانطًا على أنك لو قرأت هذا الدفتر الذي تراه أمامي لتبدَّلَ يأسك بالرجاء.
فذهل وقال: ما هذا الدفتر؟
– صبرًا الآن وأجبني على أسئلتي، أليس لعائلتك فرع في روسيا؟
– نعم في أودسا، إن أخا جدي وهو الشفاليه دي مايلي ذهب في عهد لويس الخامس عشر مع الدوق دي شوازيل الذي تعيَّن سفيرًا لفرنسا في بطرسبرج، فأحب فتاة من حاشية الإمبراطور كانت وافرة الثروة وتزوَّج بها، فعُيِّنَ عند ذلك كولونيلًا في الجيش الروسي، وقد وُلِد له ثلاثة بنين استوطنوا روسيا ونسوا أنهم فرنسيون، فلم يَعُدْ لهم أقل علاقة بنا، وأذكر أن عمي لقي في حربها مع روسيا سنة ١٨١٢ كولونيلًا روسيًّا يُدعَى باسم عائلتنا وتقاتل معه.
– إني أريد أن أحدثك عن هذا الكولونيل نفسه، فإنه هو الذي أعطاني هذا الدفتر إليك، وقد لقيناه هذا العام في أودسا، وقد دعانا إلى حفلة راقصة في قصر الحاكم، فلما سمعنا باسمه ذهلنا، فأخبرنا أنه من أصل فرنسي، وحكى لنا هذا التاريخ الذي حكيته.
ثم استحكمت حلقات الصداقة بينه وبيننا، وبعد زيارات كثيرة أخبرته بأمرك وأنك تحب ابنة الدوق سالاندريرا، ولكنهم يرفضون طلبك، فانذهل عمك وقال: كيف يرفضون طلبه؟ قلتُ: لأن الدوق سالاندريرا لم يخلف مولودًا ذكرًا، وهو يود أن يورث ألقابه واسمه لابن أخيه الدون جوزيف. قال: إنه مصيب في ما يرتئيه، ولكن الدوق مايلي هو قريب الدوق سالاندريرا.
ارتعش الدوق وقال: أنا قريب سالاندريرا؟
– ربما. ثم أتمت حديثها متبسمة وقالت: ألَمْ يكن أحد أجدادك من أركان الحرب في عهد لويس الخامس عشر.
– نعم.
– ألَمْ يكن من فرقة الشرف التي سارت إلى إسبانيا مع الملك فيليب الخامس؟
– يظهر أنك تعرفين تاريخ عائلتي كما أعرفه.
– بل أكثر مما تعرفه؛ فإنك لم تكن تدري أن أحد أجدادك هذا تزوَّج في العاصمة الإسبانية.
– كلا.
– إذن اقرأ هذا الكتاب الطويل الذي كتبه إليك عمك الروسي قبل سفرنا؛ فتعلم ما كنت تجهله.
أخذ الدوق مايلي الدفتر وجعل يقرأ ما فيه بلهف شديد حتى أتمه، وهي حكاية طويلة يظهر منها أن لعائلة مايلي اتصالًا شديدًا بعائلة سالاندريرا، غير أن هذا النسب مكتوم عن الناس، ولكن عمه الروسي قال له في آخِر كتابه: إن لديه كتابًا بخط والده الدوق دي سالاندريرا، وكتابًا آخَر بخط رئيس الأساقفة يثبتان هذا النسب، وأنه مستعد لإرسال الكتابين إليه إذا كان زواجه بالتي يحبها متوقفًا على إثبات هذا النسب.
فلما أتمَّ الدوق قراءة هذه الحكاية لبث هنيهة مفكِّرًا مطرقًا ثم قال: إذن لم يَبْقَ حائل بيني وبين هذه الفتاة بعد موت خطيبها؟
– إن هذا لا ريب فيه، فإن الدوق لم يرفض طلبك إلا لوجود مَن هو أقرب إليه منك وهو الدون جوزيف، والآن فلم يَبْقَ لدينا غير أمر واحد، وهو الحصول على هذين الكتابين اللذين أشار إليهما عمك لإثبات النسب، ومتى وردا إليك أتعد بنيل ما تبتغيه من زواج ابنة الدوق، فاذهب إلى منزلك واكتب لعمك عن اضطرارك إلى هذين الكتابين، ثم أرسل لي كتابك هذا فإني أبعث به مع واحد من خدَّامي القوزاق.
– متى يرد الجواب؟
– بعد أسبوعين، ومتى ورد الكتابان وعادت عائلة سالاندريرا إلى باريس أتولى المخابرة عنك في هذا الشأن الخطير على ثقة من النجاح فيه.
فودَّعَها الدوق وخرج وهو يحسب نفسه حالمًا لقرب تحقيق آماله.
أما باكارا فإنها عادت إلى قاعة الاستقبالات، فرأت أن أختها سريز تنتظرها، فكان سرور الأختين بالتقائهما لا يحيط به وصف، فلما سكنت عوامل شوقهما قالت لها سريز: عجبًا كيف تكتبين لي أنك وصلت منذ ساعة وأنا رأيتك أمس؟
فذُهِلت باكارا وقالت: أين رأيتني؟
– رأيتك أو خُيَّلَ لي أني رأيتك أمس في الساعة الثانية في الشارع الكبير، وكنتِ راكبةً في مركبة يجرها حصان واحد، فما تمالكت حين رأيتك من أن أصيح صيحة دهش واستغراب.
– إني كنتُ في هذه الساعة قادمة من نانسي، وكان بيني وبين باريس عدة أميال، ولا بد أن تكوني رأيت امرأةً تشبهني، فقد كان منذ ستة أعوام يوجد امرأة تشبهني أتم الشبه.
فأطرقت سريز وقالت: ربما كانت «هي».
وقد أشارت بقولها هي إلى أختها دون أن تجسر على التصريح باسمها، فلم تكترث باكارا لذلك وقالت: إن الخلق يتشابهون.
ولم يخطر لها في فكر ما ستجره عليها هذه المشابهة من بلاء.
٢١
وفي اليوم التالي لاجتماع باكارا بالدوق مايلي، بينما كان روكامبول جالسًا في المكان السري، وهو متنكِّر بالزي الذي كان يلقى به زامبا، إذ طرق الباب ففتح للقادم، وكان زامبا الذي عيَّنَه روكامبول في خدمة الدوق، كما عيَّن خادمة في خدمة رولاند؛ كي لا تخفاه خافية من أعمال الاثنين.
فدخل زامبا وهو يبتسم تبسُّم الظافر، فأدرك روكامبول معنى هذا الابتسام وقال له: ما وراءك من الأخبار؟
– جئتُكَ بخبر هام.
– ما هو؟
تعلم أنه بات للدوق ثقة عظيمة بي بعد أن أعطيته كتاب توصية الغادة الإسبانية، فجعلت أدرس طباعه منذ ثلاثة أيام حتى عرفته حق العرفان، فهو يحب ابنة الدوق يا مولاي حبًّا شديدًا، وأصبح كل ما لقيني يسألني عنها أسئلة متواترة تدل على شغفه، غير أني كنت أتبيَّنُ من أسئلته أنه لم يكن طامعًا بزواجها، وبقي على هذا اليأس إلى ليلة أمس.
فوجف قلب روكامبول وقال: ماذا حدث أمس؟
– وردته أمس رسالة من الكونتس أرتوف تدعوه فيها إليها، فاضطرب الدوق عند تلاوتها وهرول مسرعًا إلى زيارتها، وعاد بعد ساعتين وعليه ملامح التأثير، ولكنه تأثير فرح وصفاء.
– ألعلك عرفت لماذا؟
– كلا، ولكننا سنعرف السبب إذا فتحنا هذا الكتاب الذي عهد إليَّ الدوق بإرساله إلى الكونتس أرتوف قبل أن ينام، ولا يزال نائمًا إلى الآن فإنه صرف ليلته بالقراءة.
– وماذا كان يقرأ؟
– دفترًا ضخمًا ربما جيء به من عند الكونتس.
– سوف نرى.
ثم أخذ الكتاب من زامبا وفتح درجًا، فأخذ منه غلافًا يشبهه، فكتب عليه عنوان باكارا مقلِّدًا خط الدوق أتَمَّ التقليد، وفضَّ الكتاب فرأى في طيِّه كتابًا آخَر إلى ابن عمه في أودسا، وكان فحوى كتاب باكارا أنه يسألها فيه مراجعة كتابه إلى ابن عمه، حتى إذا رأته موافقًا أرسلته مع خادمها إلى أودسا كما وعدَتْ، وكان فحوى كتابه إلى ابن عمه أنه يطلب إليه إرسال الشهادتين الدالتين على نسبه وقرباه من عائلة سالاندريرا.
فلما قرأهما روكامبول اصفرَّ وجهه، ولكنه لم يعلم حقيقة هذا اللغز، فقال لزامبا: لا بد لي من قراءة هذا الدفتر الذي أتى به من عند الكونتس.
– غدًا يكون عندك؛ لأن لدي مفاتيح جميع خزائن الدوق.
فاطمأنَّ روكامبول وأعطاه كتاب باكارا وذهب به إليها، وفي اليوم التالي عاد إليه بالدفتر فأخذه روكامبول وانطلق به مسرعًا إلى أستاذه أندريا فتلاه عليه، وأخبره بكتاب الدوق إلى باكارا، ففكَّر أندريا مليًّا، ثم كتب على لوحه الحجري: لا بد للدوق مايلي من فوزه مع حليفته باكارا، إلا إذا استحال على باكارا مساعدته، وبذلك يجب أن تتم الدور الذي شرعنا بتمثيله.
– سنتمه كما تريد.
– لا ينبغي أن يموت الكونت أرتوف؛ لأن موته يدفع باكارا إلى الاهتمام بأمر الدوق كي تتعزى عما هي فيه.
– إذن فما نفع الدور الذي تريد أن نمثِّله؟
– ستعلم النتيجة يوم مبارزته مع رولاند.
فنظر روكامبول إليه نظرة ارتياب وقال: أرى أن الحزن والشقاء قد ذهبا بصوابك.
فابتسم أندريا ابتسام الساخر وقال: إنك لم تغيِّر عهدي فيك، فإنك لا تزال غرًّا أبله جاهلًا بدقائق أسرار المهنة على طول تمرُّنك فيها.
فاستاء روكامبول وأجاب: إذا كنتَ لا تريد قتل الكونت أرتوف، فلماذا تريد حمله على المبارزة؟
– ذلك أني أريد أن أصيره مجنونًا في ساعة المبارزة.
– أرى أني أنا الذي سيغدو مجنونًا لأني لا أفهم شيئًا من هذه الألغاز.
– ستفهم كل شيء حين الأوان، والآن فإن باكارا لا بد أن تكون أرسلت رسولًا إلى أودسا للحصول على أوراق نسب الدوق مايلي، ولا بد لهذا الرسول أن يعود بالأوراق قبل شهر، فلما يرجع لن تستطيع باكارا أن تهتم بالدوق مايلي لانشغالها بزوجها وجنونه وتلطيخ سمعتها، غير أنها حين ترد إليها الأوراق ترسلها إلى الدوق، ومتى وصلت إليه عرضها على الدوق سالاندريرا، إذن فلا بد من الحصول على هذه الأوراق.
– لا نستطيع الحصول على الأوراق إلا إذا قتلنا الرسول.
– إن الكرة الأرضية غاصة بسكانها، فلا تؤثر عليها نقص واحد أو اثنين.
– حسنًا وبعد ذلك؟
– يجب قتل الدوق مايلي.
فأجفل روكامبول وقال: ألعلك تريد إرسالي إلى المشنقة؟
– حقك أن تكون معلقًا عليها منذ عهد بعيد، ولكنك ستنجو منها الآن كما نجوتَ من قبلُ، وما عليك الآن إلا أن تنفذ أوامري دون أن تعترض عليَّ في شيء.
– ماذا تريد أن أفعل؟
– أريد أن تذهب إلى ريبيكا وتملي عليها هذا الكتاب:
حبيبي رولاند
لا أستطيع — وا أسفاه — أن أكون حرة في هذه الليلة، غير أني أرجوك أن تكون في منزلك غدًا في الساعة الخامسة، فسأزورك فيه.
التي تحبك
فأجاب روكامبول: هذا كل ما ترومه؟
– هو كل ما أطلبه إليك الآن، فاذهب عني لأني أحب أن أستريح.
٢٢
فتركه روكامبول ومضى إلى ريبيكا، فأملى عليها الكتاب المتقدم وأرسله إلى رولاند، فذهب رولاند حسب عادته إلى جميع أصحابه، وجعل يخبرهم بأمر الرسالة، وكان من الذين أُطلِعوا على هذا السر روكامبول؛ أي صديقه المركيز دي شمري، فلما ذهب روكامبول إلى منزله لمناولة الغداء، لقي صهره فابيان فخلا به وقال له: أتحب رولاند؟
– إني أحبه حبًّا شديدًا، وفوق ذلك فإني مسئول عنه أمام والده، فإنه يكتب إليَّ في كل أسبوع يوصيني بالعناية به والحرص عليه.
– إذن فاعلم أنه سيوقفك بعد أسبوع في أشد موقف؛ لأنه سيدعوك لتكون أحد شاهديه في قتاله مع الكونت أرتوف.
فهزَّ فابيان كتفيه وقال: إني لا أصدق حرفًا من حديث حبِّه للكونتس.
– إنك مخطئ في زعمك، فقد زارها أمس في منزل سري في شارع باسي، ثم إنها ستزوره اليوم في منزله، فإنها كتبت إليه.
– لا شك أن الكتاب مزوَّر.
– ربما كان ذلك، وفي كل حال يجب ردعه عن تماديه، فقد جعل عِرْض الكونت مضغة الأفواه، ومتى عاد الكونت واتصل به شيء من هذه الأحاديث يقتله لا محالة، والذي أراه أنه يجمل بك الآن أن تذهب إليه في منزله؛ فإنه ينتظرها فيه وتردعه عن هذه الخطة المنكرة، فإنك مسئول عنه كما تقول.
– أحسنت، وها أنا ذاهب إليه الآن، وعسى أن أُوَفَّق لردعه.
ثم افترقا فذهب روكامبول إلى النادي، وانطلق فابيان إلى منزل رولاند، فوجده وعلائم الجزع بادية عليه، فقال له: ما بالك قلقًا، ألعلك تنتظر زيارة أحد.
– إني أنتظرها (أي الكونتس).
– لقد قلت أيها الصديق إنك منخدع، فإن التي تحبها وتزعم أنها تحبك ليست الكونتس أرتوف.
– ومَن عسى تكون؟
– ربما تكون إحدى بنات الهوى لقيتك في بادن، فانتحلت هذا الاسم كي تتمكن من إغوائك.
وكأن رولاند قد مُسَّتْ كبرياؤه فقال له: أتريد أن تعلم الحقيقة؟
– نعم.
– إن الكونتس أرتوف ستكون هنا بعد عشر دقائق، وسأجتمع بها في هذه القاعة التي نحن فيها، فإذا أردت أن تتأكد بأني غير منخدع فادخل إلى هذه الغرفة المجاورة وانظر إليها من ثقب القفل، فتعلم الحقيقة إذ تراها مرأى العين.
وما أوشك أن يتم حديثه حتى قُرِع الباب الخارجي، فارتعش رولاند وقال: إنها أتت، فإذا شئتَ أن تراها فأسرع إلى هذه الغرفة المجاورة.
– نعم أريد أن أراها، فأُظهِر لك انخداعك.
– إذن أسرع بالاختباء.
فامتثل فابيان ودخل إلى الغرفة، ثم أغلق بابها ووضع عينه على ثقب القفل.
وبعد هنيهة دخلت إلى القاعة امرأة مبرقعة الوجه وقالت لرولاند: ألعلك وحدك؟
فاختلج فابيان لسماعه هذا الصوت وحدق النظر من ثقب الباب، وكانت قد أزاحت البرقع عن وجهها، فكاد يسقط على الأرض لدهشته ولشدة تأثيره؛ لأنه رأى الكونتس بعينها، ولم يَعُدْ لديه شك بما كان يقوله رولاند، وإنما خُدِع لشدة الشبه بين باكارا وريبيكا، حتى إن الناقد البصير لا يستطيع التمييز بينهما إلا إذا كانتا بإزاء بعضهما. فلما أيقن من أنها امرأة الكونت، رجع عن الباب فجلس على كرسي في آخِر الغرفة كي لا يرى ولا يسمع، وهو يقول في نفسه: إن المرأة إذا سقطت في هوة الرجس وتدنَّسَتْ بالآثام فلا رجاء بإصلاحها، ولا تكون مظاهر توبتها غير كاذبة، فما أشد شقاء مَن ينخدع بهذه المظاهر ويتزوَّج إحدى هؤلاء التائبات، فإن الوحل يجف إذا أصابته أشعة الشمس فيستحيل إلى تراب، ولكنه لا يلبث أن يعود وحلًا عند أول رشاش يصيبه من المطر.
أما ريبيكا فإنها جلست بإزاء رولاند، وهو يوشك أن يطير سرورًا بها، وقالت له: أتعلم أن الكونت سيحضر غدًا؟
فهدَّد رولاند الفضاء بقبضتيه وقال: يا ويله إذا اجتمعنا، فلا يُلاقي غير الموت.
– حبذا ما تقول! ولكن أتدوم على حبي متى أصبحت مطلقة القياد.
– بل أعبدك عبادة، وكيف لا أحبك وأنا أريد أن أقتله من أجلك.
فأخذت يده بين يديها وقالت: لعلني أجد طريقة تجمعني وإياك إلى الأبد، أما الآن فليس لي من سعادة لقياك غير ليلة واحدة سأصرفها برمتها معك، ولأجل هذا أتيتك فاذهب الآن إلى الأوبرا واستأجر اللوج الأول فيها، وأنا أوافيك إليه في الساعة العاشرة، ثم نعود سوية إلى محل نستر به حبنا عن العيون.
– ألعلك ذاهبة الآن؟
– نعم، فقد صحبتني امرأة تنتظرني على الباب بالمركبة، وما هي إلا رقيبة عليَّ، فلا أحب أن أحملها على الريبة بي إذا أَطَلْتُ الإقامة عندك.
ثم أفلتت من يديه إفلات الظبي وخرجت وهي تقول: لا تَنْسَ الأوبرا.
وبعد ذلك دخل فابيان، فقال له رولاند: أسمعت بأذنك ورأيت بعينيك؟
– نعم، وبئست الساعة التي علمت فيها هذه الحقيقة الهائلة، والآن فلم يَبْقَ لي إلا أن أسديك النصيحة، وهي أن تكتم هذه الحقيقة عن جميع إخوانك، لا إشفاقًا على عِرْض هذا الكونت المسكين، بل رحمة لنفسك فإنه رجل شديد.
ثم خرج دون أن يسلم عليه لفرط تأثيره، فلما وصل إلى منزله رأى فيه المركيز ألبرت فريدريك دي شمري، فسأله عما رأى، وكأنه لا يعلم شيئًا عن هذه الحوادث.
فأجاب رأيت أن رولاند لم يكن منخدعًا، وأن امرأة الكونت أتت بنفسها إليه، وستجتمع به هذه الليلة في الأوبرا في لوج واحد، وربما رفعت برقعها وعرضت وجهها لجميع الحضور.
فردَّ روكامبول: إنها قد تقدم على أكثر من هذا، وعندي أن رولاند بات مقضيًّا عليه لا محالة، فإن الكونت أرتوف سيدري بخيانة امرأته إثر عودته، فيقتلها ويقتله ثم يقتل نفسه، غير مكترث بالحياة بعد فقد الشرف.
وعند ذلك دخل الخادم ودفع كتابًا لروكامبول فاصفرَّ وجهه؛ إذ رأى عليه طوابع أجنبية وعلم أنه من ابنة الدوق، فاستأذن صهره وذهب إلى غرفته ليطالع هذا الكتاب.
وكان الكتاب من ابنة الدوق وهو يتضمن تفصيل سفرها، وشدة تأثر أبيها لفقد قريبيه وانقسام حبل أسرته، ثم ذكرت له أنه بعد أن خفت لواعج أبيها كاشفتها أمها بأمر الزواج، ووصفت لها الدوق دي مايلي مثنية على آدابه، واشترك معها أبوها فذكره أمامها بالخير، مما يدل على رضاه عنه، غير أن ابنة الدوق ختمت كتابها بتجديد علائق الحب مع روكامبول، وعادت إلى شكره لإنقاذها من الدون جوزيف كأنها تطلب إليه إنقاذها من الدوق مايلي أيضًا.
فلما أتم تلاوته ذهب به لأندريا وقرأه عليه، فأخذ لوحه الحجري وكتب عليه: يجب أن تُسرِع بشأن باكارا، وأن لا تهتم بشأن ابنة الدوق إلى أن تعود.
– ماذا يجب أن أصنع بشأن باكارا؟
– يجب أن تجد ذلك الطبيب الذي عالجني، فإنه خبير بجميع أنواع السموم، وإن بين هذه السموم سمًّا لا يقتل شاربه، ولكنه يذهب بعقله إلى حين، فإذا تمكَّنْتَ من الحصول منه على هذا السم بلغتك ما تريد.
– ماذا تبغي أن أصنع بهذا السم؟
– ستعلم ذلك حين إحضاره.
فذهب روكامبول ممتثلًا وهو يفكِّر في حيلة تمكِّنه من إغراء هذا الطبيب على إعطائه السم المطلوب.
٢٣
وَلْنَعُدِ الآن إلى رولاند، فإنه ذهب في الساعة التاسعة إلى الأوبرا، وأقام في اللوج الذي اتفق مع ريبيكا أن ينتظرها فيه، وكان جميع أصحابه قد علموا بهذا الموعد فجاءوا إلى الأوبرا كي يتأكدوا صدق رولاند، فلما كانت الساعة العاشرة رأوا أن امرأة أدخلت إلى لوجه وجلست بإزائه، ولكنهم لم يتبيَّنوا وجهها لأنها أقامت إلى انتهاء التمثيل دون أن تزيح برقعها، غير أن الفضول دفعهم إلى معرفتها، فتصدوا لها ولرولاند عند خروجهما من اللوج ووقفوا في ممرهما، وكان معهما روكامبول، فلما خرجا ونظرت إليهم أشار إليها روكامبول إشارة خفية، فأزاحت البرقع كأنها تريد إصلاحه، فرآها الجميع وأيقنوا أنها الكونتس أرتوف لشدة ما كان بينها وبين باكارا من الشبه، ثم اقتفوا أثرهما إلى أن رأوهما دخلا إلى منزل رولاند، فرجعوا وكلهم يعجبون بما رأوه ويتوقعون لرولاند القتل العاجل.
أما روكامبول فإنه انفصل عنهم، وفي اليوم التالي تنكَّر وذهب إلى منزله السري، وأقام فيه ينتظر قدوم زامبا إليه بخبر جديد، فما طال انتظاره حتى جاءه هذا الخادم وأخبره أن الكونت أرتوف وصل إلى باريس في هذا الصباح، وأن امرأته أرسلت إلى الدوق مايلي هذه الرسالة، فتصفَّحَها روكامبول فإذا هي تخبره فيها بقدوم زوجها، وأنهما ينتظرانه في هذا المساء، وأن زوجها طال اشتياقه إلى باريس ونواديها، فهو ينتظر زيارة الدوق مايلي ثم يذهب وإياه إلى ناديه، فلما أتم قراءتها ردَّها إلى زامبا وقال له: يجب أن أقف على أخبار سيدك كل يوم بالتفصيل، وإذا تعذَّر عليك القدوم إليَّ فاكتب لي.
فانصرف زامبا ممتثلًا، وبقي روكامبول فجعل يضحك ويقول في نفسه: لقد كنتُ أبحث عن طريقة أتمكَّن بها من جمع رولاند بالكونت أرتوف، وقد وجدت هذه الطريقة نفسها، فإن الدوق دي مايلي ورولاند مشتركان في نادٍ واحد، وسيأخذ الكونت صديقه الكونت أرتوف إلى هذا النادي فيجتمعان.
ثم غيَّر زيَّه وذهب إلى ريبيكا، فجلس إلى منضدة وأخرج من جيبه رسالةً من خط باكارا، فقلَّد خطها تقليدًا عجيبًا، وكتب رسالة بهذا الخط المقلد إلى رولاند وأعطاها لريبيكا وقال لها: اذهبي بها في الساعة العاشرة إلى منزل رولاند.
– أيكون فيه؟
– كلا، بل يكون في النادي، لكنك تعطين هذه الرسالة إلى خادمه وتأمرينه أن يذهب بها إلى سيده في النادي فيمتثل، أما أنتِ فإنك تدخلين إلى المنزل وتنتظرينه فيه إلى أن يحضر فتقيمين معه ساعة، ثم تذهبين دون أن تحددي له موعد آخَر.
– أهذا كل شيء؟
– نعم، وتقولين أيضًا إن زوجك الكونت أرتوف قد ذهب إلى النادي مع الدوق مايلي، فاغتنمتِ هذه الفرصة للحضور إليه.
ثم أعطاها الرسالة وعاد إلى منزله، فتلبس بلباس المركيز ومضى إلى منزل أخته المركيزة.
وفي الساعة العاشرة من المساء ذهب مع صهره فابيان إلى النادي، وكان فيه رولاند وأوكتاف ومعظم أعضاء ذلك النادي الذين كانوا واقفين على سر رولاند، وفيما هم جالسون على طاولة اللعب إذ ورد كتاب إلى فابيان من الكونت أرتوف، يقول فيه إنه قادم إلى النادي مع الدوق دي مايلي وهو يرجو أن يراه فيه، فأوقف فابيان روكامبول على هذه الرسالة وقال له: إن الكونت سيلتقي الآن برولاند، وعندي أنه يخلق بنا إبعاد رولاند تلافيًا لهذا اللقاء.
فأجاب روكامبول: وماذا عليه من هذا اللقاء، أتحسب أن رولاند سيقول للكونت إني أحب امرأتك؟
– كلا، ولكنه سيقف معه موقف الوقح المنتصر، فيثير منه الظنون، فخير له أن نحتال في إبعاده.
– إن ذلك محال، فإنه يلعب الآن، وفوق ذلك فإنه يخسر فلا سبيل إلى إخراجه.
فالتفت فابيان إلى جهة الباب وقال: لم يَعُدْ سبيل إلى ذلك، فإن الكونت قد حضر.
ولم يتم كلامه حتى دخل الكونت أرتوف والدوق دي مايلي، فأقبل الجميع يهنِّئون الكونت أرتوف بعودته، وينظر بعضهم إلى بعض ويتغامزون، وقام فابيان فسلَّمَ عليه وقام له روكامبول فاحتفل به الكونت احتفالًا عظيمًا، وقد تنكَّرَ عليه فلم يعلم أن هذا المركيز الجديد قد وضعه منذ خمسة أعوام في كيس وألقاه في النهر. ثم جاء به الدوق مايلي إلى طاولة اللعب التي كان عليها رولاند، وعرَّفه بجميع مَن كان حولها حتى انتهى إلى رولاند، فحيَّاه الكونت باحترام وقال له: إني أغتنم هذه الفرصة لشكرك يا سيدي باسم امرأتي التي أنقذتها من الموت، فإنها مدينة لك بحياتها.
فتناظر الحضور نظرات الهزء، أما رولاند فإنه اكتفى بأن يقول له: إني عملت واجباتي.
وعاد إلى اللعب وعلائم عدم الاكتراث بادية عليه، فهمس روكامبول بأذن صهره وقال: ما هذا الأبله؟
فتنهَّدَ فابيان وقال: إنه يسعى إلى حتفه بظلفه؛ إذ لا بد أن يقتله الكونت.
ولما رأى فابيان قحة رولاند خشي وخامة العاقبة، فاقترح على الكونت — كي يشغله عن مراقبة الحضور — أن يدخل معه ومع روكامبول والدوقة إلى غرفة ثانية يلعبون بالورق، فقبل الكونت شاكرًا ودخلوا جميعهم إلى الغرفة وبدءوا باللعب.
وخلا الجو لرولاند ورفقائه، فجعلوا يبحثون في شأن الكونت ورولاند كما يريدون، من هازئ به ومشفق عليه، كل ذلك ورولاند يبتسم ابتسام المنتصر إلى أن قال أحدهم: لا شك أن الكونت غير مرتاب بشيء، وإلا لما وقف الأمر عند هذا الحد.
فقال آخَر: ولكن رولاند اصفرَّ وجهه عندما رآه حتى يقال إنه اضطرب وخشي من أن ينظر إليه.
فتحمَّس رولاند وقال: لقد أخطأت أيها الصديق، بل إني سأبحث عنه وأجلس وإياه على طاولة واحدة كي تعلم أني لا أهاب نظراته.
ثم ترك اللعب وذهب يبحث في غرف النادي حتى انتهى إلى الغرفة التي كان فيها الكونت، فدنا من الطاولة التي كانوا يلعبون عليها وجلس تجاه روكامبول واشترك معهم باللعب، وكان الكونت جالسًا في الجهة المقابلة له، غير أنه كان منهمكًا باللعب، فلم ينتبه إلى ما كان يُظهِره رولاند من القحة والميل إلى إظهار العداء، ولم يكن يخشى سوء عاقبة هذا الاجتماع غير فابيان.
وفيما هو يلعب مع اللاعبين إذ دخل خادم النادي وقدَّم له كتابًا ففضَّه وألقى الغلاف إلى الأرض، ثم ما لبث أن تلاه حتى ابتسم ابتسام الظافر وأعطاه لروكامبول وهو يقول له بصوت منخفض: إنه منها. كأنه نسي أن الكونت مقيم بينهم.
فعلم فابيان أن الكتاب من باكارا، فنهض عن كرسيه وأسرع فاختطف الكتاب من يد روكامبول وقال لرولاند بصوت المؤنب المازح: إنك لا تشفق على أحد، أليس من الظلم أن تَثْلِم عِرْض هذه الممثلة، وأنت تعلم أنها ذات زوج؟
وبينما رولاند في انذهاله من هذه المفاجأة، ولا يعلم أيغضب أم يضحك لقول صديقه، أدنى فابيان الرسالة من الشمعة وأحرقها بحيث لم يَبْقَ من أثرها غير الغلاف الذي ألقاه رولاند على الأرض، ثم قال له: اذهب أيها الصديق إلى موعدك، وكن حريصًا على الأعراض.
فقام رولاند وقد نسي كل شيء عند ذكر الموعد، وسلَّم بملء القحة وخرج، فذهب للقاء ريبيكا التي يحسب أنها باكارا، وعاد اللاعبون إلى اللعب غير أن الكونت كان مقطب الجبين لا سيما من كل ما أجراه رولاند.
وبعد ساعة فرغوا من اللعب، فذهب فابيان والدوق دي مايلي إلى منزليهما، وبقي روكامبول والكونت فأخذ كل منهما جريدة من جرائد المساء وجعل يطالع أنباءها، وكان روكامبول يقرأ ويراقب الكونت، فيراه ساهي الطرف والجريدة بيده كأنه يفكِّر بتلك الرسالة، وإسراع فابيان إلى اختطافها وإحراقها إلى أن أبعد كرسيه ورجع بها إلى الوراء، فالتفت وهو يصلحها إلى الأرض، فرأى غلاف الرسالة فانحنى وأخذه، وما كاد يقع نظره على خطه حتى اصفرَّ وجهه اصفرارًا شديدًا، وأوشك أن يسقط من اضطرابه، فقال روكامبول في نفسه: لقد قُضِي الأمر وعرف الخط.
ثم ترك الغرفة وانصرف وهو فرح القلب بنجاح مساعيه وهو يقول في نفسه: إن الليل قد انتصف، فإذا لم يحدث شيء فوق الحسبان فإن الأمور تجري على ما أريد؛ وذلك أن باكارا إما تكون قد عادت من عند أختها، أو أن تكون باقية عندها، فإذا كانت قد عادت فإن الكونت قد تدفعه الغيرة والغضب إلى قتلها، وإذا كانت لم تَعُدْ فلا بد للكونت من الذهاب إلى رولاند، وفي كلتا الحالتين فإن الفوز لي.
أما الكونت أرتوف فإنه كان كلما أعاد النظر إلى خط الغلاف يزيد اضطرابًا، فإنه أيقن أن الخط خط امرأته، وإنها هي التي راسلت رولاند، ثم أيقن أن هذا الرجل أنقذها من الغرق، وأنه كان يراسلها، وقد حاول أن يزورها عدة مرات، وأن فابيان بل جميع أعضاء النادي واقفون على سر علائقها مع رولاند، وخطر له أن فابيان لم يحرق الرسالة إلا لأنه يعلم بما فيها، وأن نظرات أصحاب رولاند وتغامزهم لم تكن إلا عليه، فهاجت به الغيرة حتى أوشك أن يُجن، وأسرع إلى الخروج من النادي إلى منزله.
ولما وصل إليه رأى مركبة على الباب، فسأل البواب: لمَن هذه المركبة؟ فأخبره أنها لامرأته.
– متى عادت؟
– الآن.
فصعد الكونت إلى غرفتها، وكانت لا تزال بالملابس التي كانت فيها عند أختها سريز، وهي باسمة الثغر طلقة المحيا، وعليها جميع دلائل السرور، ولكنها ما لبثت أن نظرت إلى زوجها حتى راعها اصفراره، فقالت له: ما بالك؟ ألعلك لعبت فخسرت؟
– ألعل نقص مالي ينقص من حبك لي.
ثم وضع يده على جبينه كمَن يُريد أن يفتكر قبل أن يُقدِم على أمر هائل، فأعاد هذا التفكير بسكينة وقال لها: أتسمحين لي أن أضع يدي على قلبك؟
فلم تفهم باكارا شيئًا من مراده وأخذت يده ووضعتها على قلبها، فكان ينبض النبض العادي، وكانت شفتاها تبسمان فقالت له: ما بالك أيها الحبيب، وما هذه الأمور التي تجريها؟ ألعلك جننت؟
– كلا، ولكني على وشك الجنون، أتسمحين لي أن أسألك بعض الأسئلة؟
فابتسمت وقالت: سَلْ ما تشاء يا حضرة قاضي التحقيق، وَلْنَرَ فلعلي مذنبة!
فقال الكونت ببرود: لا أعلم، فقولي لي متى عُدْتِ؟
– الآن.
– من عند أختك؟
– دون شك. فأطرق الكونت يُفكِّر، ثم نظر إلى باكارا فرآها هادئة ساكنة لا أثر في وجهها للاضطراب، فقالت له باكارا: يظهر أنك غيور.
– هذا أكيد.
– إذن فتصرف بما أُعطِيتَه من سلطة الزواج، وسَلْ ما تشاء.
– أَمَا قلتِ لي مرة إن رولاند دي كايلت أرسل لك عدة رسائل كاشفك فيها بغرامه؟
– نعم، وقد فعل ذلك في بادن، ثم عاد إليه في مدينة هلدبرج حين أنقذني من الغرق.
– يظهر أنه بات له عليك حق إنقاذك من الموت.
– إني أعرف هذا الشاب، فهو في مقتبل العمر كثير الغرور، فقد لا يبعد أن يكون روى حادثة غرقي وإنقاذي رواية خدشت سمعتي واتصلت إليك، غير أني ألتمس منك أمرًا.
– سَلِي ما تشائين.
– إنك دعوت بعض الأصدقاء إلى شرب الشاي عندك في مساء غد، فَأْذَنْ لي أن أدعو هذا الفتى فنشكره لإنقاذي من الغرق، وبعد ثمانية أيام يرسل إليك بطاقة زيارته حسب العادة، فترسل له رقعتك وينقضي كل شيء كما أرجو، فإننا مدينون لهذا الرجل.
– أهذا كل ما تريدين أن تقوليه؟
– وما أقول غير هذا؟
– ألَمْ تنظريه بعد عودتك إلى باريس؟
فقالت بملء السكينة: كلا.
فاقتنع الكونت بعض الاقتناع لما رآه من سكينتها، ولكنه قال: إنه أمر غريب.
فأخذت باكارا يده بين يديها وقالت: أوضح لي كل شيء أيها الحبيب، إنك طاهر القلب نبيل، وأنت تعلم أني أحبك حبًّا شديدًا، فلا يخلق بي أن أقف أمامك موقف المجرمين.
– وهذا الذي يسوءني.
فأجفلت باكارا وقالت بلهجة السيادة: إني أسألك بدوري فأجبني من أين أتيت؟ وماذا سمعت؟ وماذا قيل لك؟
– إني أتيت من النادي الذي ذهب بي إليه الدوق دي مايلي، وقد لقيت فيه رولاند دي كايلت، ولقيت من قحته ما لا أنساه.
– لا ينبغي أن تعجب من قحته، فقد تجاسر أن يرسل لي رسائل غرامه وهو لا يكاد يعرفني. أهذا كل شيء؟
– كلا فقد كان هذا الفتى مع فريق من أصحابه وكلهم على شاكلته، فكانوا ينظرون إليَّ نظرات تهكُّم ويتغامزون.
– إنه لأمر خطير كما يظهر، فلا بد أن يكون رولاند قد اختلق عني ما يمسني، وفي هذه الحالة فلا بد من تأديبه. وبعد ذلك؟
– وبعد ذلك فإنه بينما كان رولاند جالسًا على طاولة اللعب، أحضر له خادم النادي رسالة ففضَّها وقال: إن هذا الكتاب ورد إليه من سيدة لها مقام كبير، وهي تنتظره في منزله. ثم رمى الغلاف إلى الأرض، وأعطى الرسالة إلى المركيز دي شمري الذي كان في جواره، فأسرع فابيان إلى اختطافها وإحراقها، وبعد ذلك ذهب اللاعبون وذهب رولاند، فلما وجدت نفسي وحيدًا في الغرفة أخذت المغلف عن الأرض وعدت به إليك وهذا هو.
فأخذته باكارا وما أوشكت أن تقرأ العنوان وتتبين الخط حتى اصفرَّ وجهها، ثم وثبت عن كرسيها منذعرة كأنما لسعتها أفعى وقالت: رباه ماذا أرى! فإن الخط خطي لا ريب فيه، فمَن زوَّر هذا العنوان؟ ومَن كتب بيدي؟ ثم سقطت على كرسيها وهي قريبة الإغماء، وكانت جميع مظاهر انذعارها واضطرابها صادقة لا سبيل إلى الارتياب فيها؛ حتى إن الكونت جثا أمامها على ركبتيه وقال: أسألك العفو، فإني تجاسرت على إساءة الظن بك.
فأنهضته باكارا وقبَّلته بجبينه ثم قالت له: وكيف لا تشك وبيدك مثل هذا البرهان؟
– مهما كان من أمر هذا البرهان، فما كان ينبغي أن أشك بكِ، على أن هذا الرجل التعس لا بد أن يموت غدًا، وها أنا ذاهب لأعين شهودي ونتفق على موعد المبارزة.
فأوقفته باكارا وقالت: بل ابقَ هنا وأصغِ إليَّ فتعلم أني غير مخطئة.
– قولي ماذا تريدين أن أصنع؟
فأخذت باكارا الغلاف وقالت: إن هذا الخط يشبه خطي شبهًا غريبًا، فإما أن يكون رولاند قد تمكن من تقليد خطي كي يفتخر أمام إخوانه بعلائقه معي، وإما أن يكون هذا التشابه من قبيل الاتفاق كما يتفق تشابه الوجوه، ويكون رولاند يحب امرأة يشبه خطها خطي من قبيل هذا الاتفاق.
– إن هذا مستحيل.
– لا شيء مستحيل في الأرض.
– إذا كان رولاند يحب امرأة يشبه خطها خطك؛ فما معنى هذه النظرات من إخوانه؟ وما معنى تغامزهم عليَّ؟
– هل انتقدت على هذه النظرات قبل أن تعثر بالغلاف؟
– كلا.
– إذن فقد أثار بك الغلاف هذه الهواجس، ومثَّلَ لك هذه النظرات تغامزًا عليك، على أني لا أزال أقول إن رولاند إما أن يكون تعسًا مجرمًا، وفي هذا المقام فلا بد من عقابه شر عقاب بعد إظهار جريمته للجميع، وإما أن تكون هذه الخيانة من عند الصدفة والاتفاق … انظر إليَّ أيها الحبيب، وسَلْ نفسك: أيمكن لامرأة رفعت مقامها حتى بلغت إليك وتجاسرت على حمل اسمك الشريف، أن تبلغ من نكران الجميل إلى حد الخيانة؟
ثم شهقت بالبكاء، فحَنَّ الكونت إليها وضمها إلى صدره وقال: إني أريد أن أعرف العالم أجمع أنك خير امرأة على الأرض.
ثم سكت الاثنان سكوتًا قصيرًا إلى أن بدأت باكارا الحديث فقالت: أتأذن لي أن أتولى هذا الأمر بنفسي كما كنتَ تأذن لي من قبلُ.
– نعم، فافعلي ما تشائين.
– إني سأدعو رولاند إلى شرب الشاي عندنا غدًا، وأنت تراقبه كما تُريد حتى إذا تجاسر على أن يخرج عن حدود الاحترام سلَّمتُه إليك.
– حسنًا فَلْيكن ما تريدين.
فقامت عند ذلك إلى منضدة وكتبت إلى رولاند هذه الرسالة:
سيدي
لم أنْسَ أني مدينة لك بالحياة، فَأْذَنْ لي أن أشكرك بذلك وأن أدعوك إلى زيارتنا مساء كي تشرب الشاي عندنا مع بعض الأصدقاء؛ كي أظهر لك شكري وامتناني.
الكونتس أرتوف
ثم طوت الرسالة وتركتها على المنضدة كي يأخذها الخادم صباحًا إلى رولاند، وبعد حين ترك الزوجان الغرفة التي كانا فيها ودخلا إلى غرفة النوم، وكلٌّ منهما يفكر في شأن.
وفي الوقت نفسه فُتِح باب ودخل منه زامبا، فانقضَّ على الرسالة وقرأها ثم نسخها، وخرج دون أن يشعر به أحد، فذهب توًّا إلى منزل روكامبول السري؛ إذ قال له إنه ينتظره فيه إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فلما رآه روكامبول علم أنه يحمل خبرًا جديدًا، فقال له: ما وراءك من الأخبار؟
فأطلعه زامبا على نسخة الرسالة، فسُرَّ روكامبول سرورًا عظيمًا بها؛ لأنه لو لم يقف عليها لذهبت جميع مساعيه أدراج الرياح، ثم أطلق سراح زامبا وواعده إلى الغد، وانطلق بعد ذلك إلى ريبيكا، فأملى عليها كتابًا لرولاند وانصرف.
٢٤
وفي اليوم التالي أقبل أوكتاف على صديقه رولاند قبل أن يخرج من منزله، فقال له: إني أراك باسم الثغر فرح القلب، فما شبهك إلا فرنسوا الأول الذي كان ينام على مركبة المدفع ليلة القتال.
– كيف ذلك؟
– ذلك لأني أراك قرير العين ناعم البال، كأنك غير خائف من شيء.
– ومما أخاف؟
– من الكونت أرتوف.
– لا أعلم لماذا يجب أن أخافه.
– لأنه سيعلم قريبًا بكل شيء فتتبارزان، وقد رُوِي عنه أحاديث كثيرة تدل على شدة هوله في المبارزة، فإنه ما بارز خصمًا إلا قتله.
– أنا سأقتله، فإن الشواذ من لوازم كل قاعدة.
وفيما هما على ذلك إذ دخل الخادم يحمل كتابًا إلى رولاند، فأخذه وفضه مسرعًا لأنه عرف الخط، وقرأ ما يأتي:
حبيبتي رولاند
إني أكتب إليك في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، مغتنمة فرصة رقاد زوجي الظالم لأخبرك بأنه قد ثارت عاصفة وستنقض على رأسي، كأن الليالي قد غيظت من تساقينا الهوى فدعت بأن نغص، وذلك أني أخطأت خطأ عظيمًا حين كتبت لك أمس بخط يدي لحذري من وصيفتي التي أستكتبها فحرقت رسالتي، ولكنك أبقيت الغلاف فوقع بيد زوجي الكونت وعرف الخط، وجاء إليَّ وهو يتميز من الغضب، وكنت قد رجعت من عندك حتى خشيت أن يقتلني، ولكني قد تشجعت وهبت لي قوة عظيمة تجاه هذا الموقف الخطر، فكذبت وأنكرت وقلت تشابه الخط من قبيل الاتفاق، وهو يتشابه كما تتشابه الوجوه فصدقني، ولكنه بقي له شيء من الريبة بي، فطلب إليَّ أن أدعوك كي تشرب الشاي عندنا مساء غد وغرضه من هذه الدعوة أن يراقبنا، ويتمعن بحركاتنا ونظراتنا، فاحذر من أن تبدر منك بادرة أيها الحبيب، فإن نظرات المحبين لا تخفى على الحاذقين، ولا تتجاوز معي حد الاحترام وأنا سأكون كذلك، فأمثل البساطة والطهارة خير تمثيل، فإذا اقتديت بي وكنت حكيمًا نجونا وعدنا إلى ما كنا فيه.
والآن فإني أستودعك الله إلى الغد، كلا فإني سأكون غدًا غريبة عنك، إذن أستودعك الله إلى لقاء تمهِّده لنا الصدفة … أحبك.
وكانت هذه الرسالة خالية من التوقيع، فلما أتم رولاند تلاوتها دفعها إلى أوكتاف، فقرأها وقال: إني أود أن أخسر سنة من حياتي وأكون مدعوًّا إلى تلك الحفلة كي أرى ما يكون منك فيها.
وعند ذلك طُرِق الباب مرةً ثانيةً ودخل الخادم بكتاب آخَر، وكان هذا الكتاب من باكارا الحقيقية تدعوه فيه إلى شرب الشاي في منزلها كما اتفقت على ذلك مع زوجها.
وفي الساعة التاسعة من المساء ذهب رولاند إلى منزل الكونت، وكان عدد المدعوين قد تم وبينهم روكامبول وصهره، فكان روكامبول خائفًا من أن تعرفه باكارا، ولكنه اطمأن لأنه حين قدم لها باسم المركيز دي شمري حادثته بأمور كثيرة، فلم يظهر منها شيء يدل على ريبتها به. أما رولاند فإنه كان يعامِل باكارا بملء الاحترام والكونت يراقبه، فلم يَرَ منه ما يدل على شيء من آثار الحب، فلما انقضت السهرة وانصرف المدعوون كان رولاند آخِر المودعين، فقبَّل يد باكارا في أشد حيرة؛ لأنها لا تعلم ما كان يعنيه بهذا الامتثال إذ لم تأمره بشيء، ولكنها قالت في نفسها: إنه ربما كان يريد بذلك أنه لم يزرني في مدينة هدمبرج؛ لأني لم أدعه فعَدَّ ذلك امتثالًا.
ولما انصرف الجميع عادت إلى زوجها فقالت له: ماذا رأيت؟
– رأيت أننا ظلمنا هذا الشاب بريبتنا به، فإني لم أَرَ منه إلا كل احتشام وأدب.
وفي اليوم التالي خرج الكونت يتنزه بعد الظهر على جواده حتى وصل إلى محل تُباع فيه أشهر المرطبات، وهي حديقة مقسَّمَة إلى غرف صغيرة يفصل بينها خشب رقيق، فدخل إلى إحدى هذه الغرف وطلب كأسًا من الشراب، وفيما هو يشربها سمع صوتًا من الغرفة المجاورة لغرفته عرف أنه صوت أوكتاف الذي تعرَّف به أمس في النادي، فأصغى بالرغم عنه إلى حديثه مع رفيقه، فسمع أوكتاف يقول: كنتُ أود أن أكون أمس في الحفلة التي كانت في منزل الكونت أرتوف.
فأجاب رفيقه: لا بد أن يكون رولاند قد تصرَّف بحشمة وأدب.
فارتعش الكونت وقال في نفسه: لماذا يتكلمان عن رولاند في معرض الكلام عني؟
فقال أوكتاف يحادث رفيقه: إني لقيت رولاند اليوم، فأخبرني أن كل شيء قد تمَّ على مرامه.
– كيف ذلك؟
– ذلك أن رولاند كان يمثِّل رواية في ما أبداه من مظاهر الحشمة، ولكني أعجب من الكونتس كيف أنها كانت باسمة الثغر ماهرة بإظهار عدم الاكتراث وإخفاء مظاهر الخجل، حتى إنها كانت تحادث رولاند كأنها قد رأته للمرة الأولى.
فقال له رفيقه: لا تثق بأقوال رولاند، فإنه كثير الغرور مهذار.
– بل أنت ثِقْ بأن الكونتس تحبه.
– أرأيتها في منزله؟
– كلا، ولكني رأيتها معه في الأوبرا.
– أكانت مسفرة عن وجهها؟
– كلا، ولكنها عند خروجها من اللوج الذي كانت فيه مع رولاند تصديت لهما في الممر، ورأيتها قد أبعدت البرقع عن وجهها فعرفتها.
فشعر الكونت أرتوف عند سماعه هذا الكلام أن العرق البارد ينصب من جبينه، أما أوكتاف فإنه أتم حديثه فقال: وفوق ذلك فإني صديق رولاند وهو لا يكتم عني أمرًا، ويطلعني على جميع رسائله، وقد علمت منه أن الكونتس كانت تستقبله في منزل في شارع باسي، ثم إني كنتُ عنده في صباح أمس، فورد إليه كتاب أوقفني عليه، وكان من الكونتس وقد قالت له فيه: إنها أرسلت كتابًا آخَر غير هذا يتضمن دعوته إلى منزلها، غير أن هذا الكتاب كان بخط وصيفتها، والكتاب الآخَر المتضمن للدعوة كان بخطها، فإن باكارا تعرف أن تحذر.
– ولكن رولاند يسعى إلى حتفه بظلفه، فإن خصمه قوي شديد.
فقال أوكتاف: لقد قلتُ مثل هذا القول لرولاند، وأن مَن يجسر على الزواج بباكارا لا بد أن يكون من الأشداء.
غير أن أوكتاف قبل أن يتم كلامه سمع من ورائه صوتًا شديدًا صُعِق له، فالتفت فرأى أمامه الكونت أرتوف وقد اصفرَّ وجهه فأصبح كالأموات، وجعل الشرر يقذف من عينيه وانقض على أوكتاف وشد عليه فألقاه على الأرض راكعًا، ثم قال له بصوت يتهدج من الغضب: أنا هو الكونت أرتوف، ولا يمنعني عن قتلك الآن غير ما أجده من حداثة سنك، وأنه لا بد أن يكون لك أم تبكي عليك، ثم لا ينقذك من قبضتي غير أمر واحد.
وكان هياج الكونت شديدًا حتى إن هذين الغلامين باتا يرتجفان أمامه كما يرتجف التلميذ المسيء أمام معلمه، وجعل أوكتاف يعتذر فأنهضه الكونت وقال له: إنك لا تنجو مني إلا إذا أقسمت لي بأنك تذهب إلى منزلك، فتقيم فيه يومًا وليلة لا تخرج منه ولا ترى رولاند.
فأقسم أوكتاف، فقال الكونت: احذر من أن تنكث عهدك إذا أردت أن تسلم من الموت، فإني لا أريد قتلك بل قتله.
ثم أطلق سراحه، فانصرف مع رفيقه وهو يقول: لقد قُضِي على رولاند القضاء المبرم.
٢٥
يذكر القراء ذلك الطبيب الذي عالج أندريا وأزال عن وجهه آثار ذلك الوشم الذي كان يشوهه أيما تشويه، وقد كان لهذا الطبيب شهرة بعيدة في باريس وفي المنتديات العلمية، ولا سيما بالسموم؛ إذ كان من أشد الأطباء خبرةً بها، وكان هذا الطبيب واسمه صموئيل يقيم في منزل واسع تكتنفه حديقة غنَّاء، فيصرف معظم أوقاته بالبحث والمطالعة والوقوف على الدقائق العلمية.
ففي اليوم نفسه الذي كان فيه الكونت أرتوف يتنزه وقد لقي أوكتاف، وسمع منه تلك الكلمات الهائلة كما تقدَّم، كان روكامبول قد ذهب لزيارة صموئيل الطبيب، فأوقف مركبته خارج الحديقة ودخل به الخادم إلى الغرفة التي كان يشتغل فيها الطبيب، وكان يدعوها غرفة السموم لوجود جميع أنواعها فيها بين قاتل ومشوه ومغن وذاهب بالعقل إلى غير ذلك.
ولما دخل روكامبول كان الطبيب جالسًا على طاولة وعليها كثير من الكتب صفَّ بعضها فوق بعض، بحيث باتت تحجبه عن عيون الداخلين، وكان يفحص بنظارة إحدى الأوراق السامة فحصًا مدققًا حوَّل انتباهه إليها، بحيث لم يشعر بدخول المركيز إليه إلا حينما نبَّهه الخادم وأعلن له اسم المركيز دي شمري، فأسرع الطبيب لاستقباله وقابله مقابلة تدل على علو مكانته عنده، فقال له روكامبول: أسألك المعذرة عن مضايقتي لك في أشغالك، ولكني مررت ببابك فذكرت أني مدين لك بإصلاح هذا البحري المسكين (يشير إلى أندريا)، وأني تأخرت عن إظهار امتناني لك إلى الآن، فأتيت كي أصلح هذا الخطأ.
ثم أخذ من جيبه ورقة مالية بقيمة ألف فرنك ووضعها بلطف واتضاع على الطاولة، ثم لما انتهى من حديث المجاملة قال له روكامبول: أَلَا تزال عاكفًا على طلب العلم والتنقيب عن غوامضه؟ أَلَمْ يكفك ما بلغت إليه وأنت اليوم إمام العلماء وحجة الأطباء؟
فأجابه الطبيب باتضاع ورفق: إن هذا العلم يشبه أعماق الأوقيانوس الهندي التي يطلبها الغواص لاستخراج اللؤلؤ، فهو كلما غاص فيه يزيد عثوره على مخبآته، ثم يخرج لسطح الماء وقد كادت أنفاسه تنقطع، فلا يلبث أن يملأ رئتيه من الهواء ويستريح حتى يعود إلى ما كان فيه من الغوص واستخراج اللؤلؤ الثمين، وهكذا العلماء فإنهم يغوصون في لجج هذا العلم، فكلما اكتشفوا شيئًا بدت لهم أشياء لم يروها من قبلُ، فلا يزالون على ذلك إلى أن تتلاشى قواهم ولا يستطيعون أقل جهد.
فقال روكامبول: إذن فما نقول نحن الجهلاء إذا قضي علينا أن نندمج معكم ونغوص في هذه اللجج كل يوم؟
فابتسم الطبيب وعاد روكامبول إلى الكلام فقال: لقد كنتُ أمس في مجلس دار فيه الحديث على العلم والعلماء، فجعلتك سمر هذا الحديث وقلتُ إن لديك مجموعة من السموم الهندية لا يوجد منها في أوروبا، منها ما يُميت ومنها ما يُشفي من الموت.
فابتسم الطبيب وقال: بل منها ما يذهب بالعقل، ومنها ما يشفي من الجنون.
– إني أعرف هذا السم الذي يذهب بالصواب.
– إن هذا الذي تعرفه مشهور في أوروبا، ثم إن الجنون الذي يُحدِثه لا يكون إلا وقتيًّا.
– وقد سمعت أحدهم يذكر سمًّا هنديًا من مدينة جافا، يقول إنه إذا شربه المرء جن جنونًا طويلًا.
– إن لدي منه في مجموعتي، أتريد أن تراه؟
– لا بأس فقد رُوِيت حكاية عن تأثير هذا السم تشوَّقْتُ بعدها أن أراه.
فقام الطبيب إلى واجهة معلقة في الجدار، وأخرج الزجاجة الثالثة من الصف الأول وجاء بها إلى روكامبول، فرآها تحتوي على رشاش يشبه الدقيق، فحكى له الطبيب تاريخ هذا السم وقال: إنه ورق شجرة لا تنبت إلا في جافا، يُؤخذ ورقها فيُجفَّف ويُسحَق حتى يغدو كما تراه، فإذا وُضِع درهم من المسحوق في كأس ماء أو شراب وشربه المرء جُنَّ وبقي مجنونًا مدى الحياة، غير أن الغريب في هذا السم أنه الداء والدواء في حين واحد، فإن شاربه لا يُشفَى منه إلا به، وذلك بأن يُسقى منه ثانيةً مقادير لا سبيل إلى بيانها لتعلُّقها بحالة المسموم به وأعراض جنونه ومدتها، إلى غير ذلك مما لا يفهم تفصيله غير الأطباء.
فأظهر روكامبول عجبًا شديدًا بملء البساطة، وذهب الدكتور فأرجع الزجاجة إلى محلها، وفيما هو عائد إلى روكامبول إذ فُتح باب الغرفة بعنف ودخل إليها خادم الطبيب ووراءه اثنان عليهما ملامح الذعر وهما يصيحان: أدركنا!
– ماذا حدث؟
فقال أحدهما: إن أحد خدم البيوت الكبيرة لطمته مركبة فسقط على باب منزلك وهو لا يعي.
فاعتذر الطبيب وقال له: لقد عيَّنتُكَ حارسًا لغرفتي إلى أن أعود.
ثم خرج في إثر الجماعة لمعالجة الخادم المغمي عليه على باب الحديقة الخارجي حتى وصل إلى هذا الرجل المغمي عليه، فنزع عنه ثيابه وفصحه فحصًا مدققًا، فلم يجد به أثرًا لرض أو جرح، فأمر أن ينضحوا وجهه بالماء البارد ويدلكوا صدغيه بالخل، ففعلوا ووقف بينهم ينتظر النتيجة، ولم تمضِ هنيهة حتى استفاق الرجل كأنه لم يُصَبْ بشيء، ولم يكن هذا الماكر إلا زامبا، صنيعة روكامبول.
بينما كان الطبيب يعالج هذا المريض الكاذب كان روكامبول وحده في غرفة الطبيب، وقد عرف موضع الزجاجة، فأسرع إليها وأخذ منها المقدار الكافي لجرعتين أو ثلاث، ثم وضع هذا الرشاش في ورقة وطواها كما يطوي الصيدلي مثل هذه الأوراق ووضعها في جيبه، وبعد ذلك أرجع الزجاجة إلى موضعها وجلس على كرسيه ينتظر عودة الطبيب، وهو يقول: لقد أجاد زامبا غاية الإجادة في تمثيل دوره، ولا سيما أنه ترك لي الوقت اللازم لمباحثة الطبيب، وسأجازيه خير جزاء، ومهما أعطيته يكون قليلًا بالقياس إلى ما سأقبضه من ملايين ابنة الدوق، فإن درهمًا واحدًا من هذا الرشاش يشغل باكارا بزوجها وجنونه.
وما زال يعلِّل النفس بهذه الأماني إلى أن عاد الطبيب، فجالسه ساعة وانصرف عائدًا إلى منزله وهو يحسب أنه نال السعادة بهذا الرشاش، حتى إذا وصل إلى منزله رأى على بابه مركبة، فسأل الخادم: مَن الذي قدم فيها؟
– الكونت أرتوف جاء لزيارتك وهو الآن في القاعة مع صهرك.
فأسرع روكامبول إلى القاعة وقد أيقن أن الكونت قد عرف كل شيء، فلما دخل رأى الكونت واقفًا وعيناه متقدتان، ورأى فابيان مضطربًا أشد الاضطراب، ولكنه سُرَّ عندما نظر روكامبول كأن عينيه كانتا تقولان لقد أتيت في حين الحاجة إليك، فوقف روكامبول في باب القاعة وجعل ينظر إلى الاثنين نظر الفاحص المنتقد، وإليك السبب في زيارة الكونت.
بعدما لقي الكونت أرتوف أوكتاف، وعرف منه خيانة امرأته على ما تقدَّم، خرج من الحديقة فأمر الخادم أن يذهب بجواده إلى منزله، وركب مركبة وأمر سائقها أن يذهب به إلى منزل المركيز دي شمري، وكان غرض الكونت أن يرى فابيان؛ لأنه تذكَّرَ أن فابيان اختطف الرسالة التي وردت لرولاند في النادي وأحرقها، فقال في نفسه: إنه لا بد أن يكون فابيان واقفًا على سر رولاند، فإن هذه الحادثة وما علمته من أوكتاف وتغامُز أعضاء النادي؛ جميع ذلك كان يثبت خيانة باكارا أتم الثبوت.
ولكنه كان لا يزال يحب امرأته حبًّا عظيمًا، فأراد أن يقف على الحقيقة من فابيان لشدة وثوقه بنبله، ولهذا فإنه لم يذهب إلى منزله بعد ما علمه من أوكتاف حذرًا من أن يدفعه الغضب إلى قتلها، وكان لا يزال يحبها إلى الآن ولكن حب قنوط.
وكان فابيان في ذلك الحين مقيمًا في غرفته يكتب فيها بعض الرسائل، فلما دخل عليه الكونت أرتوف ورأى ما كان عليه من الاضطراب أجفل لرؤيته وخف لاستقباله، غير أن الكونت بقي واقفًا في مكانه وقال له: إني أتيت لأحدثك بشأن خطير أيها الصديق، فقل لي: ألست بصديق رولاند دي كايلت؟
فاختلج فؤاد فابيان لذكر اسم رولاند وقال: نعم ولا، وذلك لأن بيني وبين هذا الفتى عشرة أعوام فلا يصح أن يكون عشيري، ولكن أباه صديق لأبي وقد أوصاني به خير وصاية.
– لكنك صديقي الحميم منذ سبعة أعوام.
– هذا لا ريب فيه وسأحفظ لك عهد الصداقة ما حييت، ولكن ما بالك مضطربًا إلى هذا الحد؟
– ذلك لأن الكونت أرتوف ورولاند سيُقتَل أحدهما غدًا، في مثل هذه الساعة.
فوقف فابيان وقد بدت عليه علائم الاضطراب وقال: ماذا حدث؟
– أحب قبل أن أجيبك أن أسألك بعض أسئلة، ورجائي أن تجيبني عليها لما بيننا من روابط المودة.
– سأجيبك فسَلْ عمَّا تشاء.
– إنك أول أمس اختطفت رسالةً وردت إلى رولاند في النادي وأحرقتها، فلماذا تصرَّفْتَ هذا التصرف؟
– ذلك لأن رولاند فتى كثير الغرور.
– ليس هذا الجواب الذي أطلبه أيها الصديق.
– إن رولاند كان يحاول مس عِرْض امرأة، بعَرْض رسالتها إليه على أصدقائه.
فقال الكونت وقد سكن جأشه، ولكن كما يقر الأسد قبل الوثوب، وكما يسكن الجو قبل انقضاض الصاعقة: لا شك أنك عرفتَ تلك المرأة أيها الصديق، ولولا ذلك لما تعرَّضْتَ لإحراق رسالتها.
– ذاك أكيد.
– وليس أنت وحدك الذي عرفتها، بل كان يعرفها كلُّ مَن كان يلعب معنا من أعضاء النادي.
– ذاك أكيد أيضًا، فإن رولاند لا يعرف أن يكتم سرًّا.
– إذن لم يَعُدْ فائدة من إحراق الرسالة ما دام جميع الحضور يعرفون تلك المرأة، بقي أن زوج تلك المرأة كان بينكم وهو لا يعلم أمرًا من خيانة امرأته، أليس ذلك أيها الصديق؟ إني أستحلفك بشرفك أن تقول الحق.
فأطرق فابيان استحياءً وقال: هو الحق ما تقول.
– إني لا أسألك اسم هذا الزوج التعس المنكود الذي أصبح شرفه وعرضه مضغة في أفواه الصبيان، بل أسألك أن تصغي إليَّ فاسمع، إنني بعد ذهابك من النادي بقيت فيه وحدي، فأخذت غلاف الرسالة الذي ألقاه رولاند إلى الأرض، وتمعنت في خطه فرأيت أنه خط امرأتي، فذهبت إلى منزلي وأعطيتها هذا الغلاف فذعرت له وصاحت صيحة دهش بدت فيها علائم الصدق التي لا تنقض حتى وثقت من براءتها، وأيقنت أن هذا المنافق قد قلَّدَ خطها لغرض سافل دنيء.
فحسب فابيان أن الكونت ليس له غير هذا البرهان فقال: إن هذا ممكن، فإن رولاند يُقدِم على كل شيء.
فقال الكونت: أصغِ إليَّ فإني لم أتمم بعدُ. ثم قص عليه جميع ما علمه من أوكتاف بالتفصيل إلى أن فرغ من الحكاية.
فقال: إني كنتُ منذ ساعة مشككًا أحسب أن رولاند قد زوَّر الخط، أو أن تشابه الخطين من قبيل الاتفاق، ولم يكن يشكل عليَّ غير السبب في إحراقك للرسالة، أما الآن فقد علمت أنك عارف الحقيقة بجملتها، وقد أتيت إليك كي أقف منك على هذه الحقيقة بتفاصيلها.
قال فابيان: أتراني مضطرًّا مكرهًا إلى قول كل شيء؟
– هذا ما أراه، وإلا فإنك تدعوني إلى قتل رولاند دون مبارزة.
فصاح فابيان صيحة إنكار.
فقال الكونت: إذن أثبت لي أنت الذي أحترمه وأجله خيانة امرأتي، فإني أقاتل رولاند قتال مبارزة وأقتله قتل الأشراف، وإذا قلت إنها بريئة فإني أثق بكلامك وأرجع عن كل شيء.
فأصبح فابيان في شر موقف يتصارعه عاملان من الشرف والإشفاق، ولكن الشرف تغلَّبَ عليه فقال بصوت مختنق: أرسل شاهديك إليه أيها الكونت.
جمد الدم في عروق الكونت ووهت رجلاه؛ إذ انقض عليه هذا التأكيد انقضاض الصاعقة، ولكنه ضبط نفسه وقال: إني واثق مما تقول أيها الصديق، ولكن أليس لديك برهان تقوله لي؟
– وا أسفاه أيها الصديق! إني رأيت الكونتس في منزل رولاند.
وفي هذا الموقف الحرج وقبل أن يتم فابيان جملته المتقدمة، دخل روكامبول، فلما رآه الكونت كظم غيظه ومد يده فسلَّم عليه متكلفًا الابتسام، ثم ارتد إلى فابيان وقال: إنك كنتَ صديقي وقد برهنتَ لي الآن أنك لا تزال ذلك الصديق.
– بل سأكون صديقك إلى آخِر العمر.
– إذن لا أسألك لتأييد هذا القول برهانًا مستحيلًا، كأن أطلب إليك أن تكون شاهدي في مبارزتي لرجل هو من أصحابك.
فقال فابيان باشمئزاز: لقد كان صديقي من قبلُ، أما اليوم فإني أحتقره بقدر ما كنتُ أميل إليه.
– بل أطلب إليك ما هو أيسر من ذلك، فإني لا أحب أن أعود اليوم إلى منزلي، وأرجوك أن تخفيني هنا إلى الغد.
فقال له روكامبول: إنك يا سيدي في منزلك ونحن الضيوف فيه.
فشكره الكونت وجلس أمام طاولة، فكتب إلى امرأته ما يأتي:
سيدتي
كنتُ بالأمس مشكِّكًا والآن فلم يَبْقَ في نفسي أثر للريب، فلا تنتظري عودتي إلى المنزل؛ إذ لا أعود إليه، بل لا تنتظري أن تريني إلى الأبد، فإني أرجو أن أقتل غدًا رولاند دي كايلت، وإذا سلمت من الموت فإني أغادر فرنسا بعد ساعة.
إني أحببتك من قبلُ وأنا أصفح عنك الآن.
كونت أرتوف
ثم طوى الرسالة فأعطاها لفابيان وقال له: إني سأغيب ساعة وأعود، وتركهما وانصرف ذاهبًا إلى منزل رولاند.
وكان رولاند في منزله وقد وصلت له رسالة من ريبيكا وهو يحسبها من باكارا حسب العادة، تثني عليه فيها لحسن تصرفه في حفلة أمس وتدعوه إلى انتظارها في منزله إلى الساعة الخامسة؛ إذ إنها ترجو أن تزوره، فبقي في منزله حتى إنه أطلق سراح خادمه كي يخلو له الجو، وفي الساعة الثانية طرق باب منزله فرقص فؤاده سرورًا لاعتقاده أن باكارا قادمة إليه، فأسرع وفتح الباب، ولكنه ما لبث أن رأى الكونت أرتوف حتى ذعر وتراجع إلى الوراء، فقال له الكونت: إني أتيت يا سيدي لأباحثك في شأن هام، فَأْذَنْ لي أن أدخل إلى منزلك، فإن مثل حديثي لا يُقال على الأبواب.
ثم دخل قبل أن يجيبه، فدخل أول غرفة لقيها مفتوحة، ووقف ينتظر فيها رولاند الذي تأخَّر عنه لإقفال الباب.
وكان رولاند ثاب من دهشته وذهب اضطرابه بزوال أعراض الدهشة الأولى، فعاد إليه رشده وعلم من لهجة الكونت ومن اتِّقَاد عينيه أسباب زيارته له، وأنه عارف بكل شيء، فأدخله إلى الغرفة التي كان فيها وهو شامخ الرأس وسلَّم عليه وهو يبتسم ابتسام الاحتقار، ثم قال له: أيريد سيدي الكونت أن يُعلِمني بالسبب الذي شرفني من أجله بهذه الزيارة؟
فأجابه الكونت: كلمة واحدة تفصح عن السبب، وهي أني عارف بكل شيء.
فلم يتكلف رولاند الاحتجاج أو الإنكار، بل قال له: إني رهن أمرك وسأقبل كل شروطك.
– شرطي أن نتبارز أولًا بالمسدسات، ثم بالسيف إذا اقتضت الحال؛ أذ لا يخفاك أنه يجب أن ينطرح أحدنا ميتًا في ساحة القتال.
– ليكن ما تريد.
– وسنتبارز غدًا في الساعة السابعة صباحًا، وسنلتقي في غابة فانسان بدلًا من غابة بولونيا.
– حسنًا وستجدني مع شهودي.
وعند ذلك أحنى الكونت رأسه مودعًا وخرج، فشيَّعه رولاند إلى الباب، وهناك نظر كل واحد منهما إلى الآخَر نظرة حقد كانت أنفذ إلى قلبيهما من السهم المسنون.
أما رولاند فإنه كتب إلى صديقه أوكتاف بما حدث، وكلَّفه أن يدعو صديقًا له فيكونان شاهدَيْه.
وأما الكونت أرتوف فإنه ذهب إلى صديقه الدوق دي مايلي وقال له: أرجو أيها الصديق أن تكون غدًا شاهدي، فإني سأبارز رولاند دي كايلت.
فذعر الدوق وقال: لماذا هذه المبارزة؟
– لا بد أن تعلم السبب، فهو أني كنت أحسب نفسي أمس إلى صباح اليوم من أسعد البشر، فعلمت الآن أني من أشقاهم.
– ما هذا اليأس؟ وأي شقاء تعني؟
– لا شيء سوى أني محب غير محبوب، وقد كنتُ أحسب أن المرأة إذا تابت عن ذنوبها تصبح من ملائكة السماء، ولكني أخطأت في هذا الزعم؛ فإن المرأة متى سقطت في هوة الفساد، فلا بد لها مهما بلغ من توبتها أن تعود إلى هذه الهوة.
– رباه! ماذا أسمع أيمكن ذلك أن يكون؟ أيمكن أن الكونتس …
فقاطعه الكونت بإشارة وقال له: لا تذكر اسمها أمامي، فقد محتها الجريمة من صفحات قلبي.
٢٦
بينما كانت هذه الحوادث تتوالى، كان يجري في قصر الكونت أرتوف حادث أشد تأثيرًا منها، وذلك أنه بعد أن خرج الكونت أرتوف من منزله يتنزه كما تقدَّم، خرجت باكارا في إثره لشراء بعض حاجات لها، ولم تَعُدْ إلا في الساعة الثالثة، فوجدت فيه رسالة لها.
ولم تكن هذه الرسالة من الكونت أرتوف كما يتبادر إلى أذهان القراء، بل كانت من رولاند، فقد كتب لها ما يأتي:
يا ملاكي المحبوب
إن الذي يحبك ويحبك إلى الأبد يقيم منذ ساعة على أحر من جمر الغضا، ولولا خوفي من أن تكوني قتيلة لأسرعت إليك، فقد خرج زوجك الآن من عندي وقد عرف كل شيء، وسنتبارز غدًا مبارزة لا تنتهي إلا بموت أحدنا، وكنتُ أتمنى أن أموت من أجلك لولا ما أخشاه عليك من انتقام هذا الظالم، على أني سأحيا كي أحميك، فاكتبي لي كلمة كي أطمئن عليك، كلمة واحدة بحق السماء.
رولاند دي كايلت
وكان أحضر هذا الكتاب خادم رولاند وهو خادم روكامبول، فجاء به إلى المنزل وأعطاه إلى الخادم، فقال له: إن هذا الكتاب إلى الكونتس من أختها سريز، ولكنها أوصتني أن أسلِّمه لها يدًا بيد، فهل تتعهد عني بتسليمه على هذا الشرط؟
– لا شك في ذلك، فإن سيدتي قد وصلت الآن، وهي وحدها في المنزل.
ثم أخذ منه الكتاب وأعطاه لباكارا بعد أن قال لها إنه من أختها سريز، ولكنها قبل أن تفض ختمه وتقرأ ما فيه سمعت صوت مركبة وقفت على الباب، فأطلت من النافذة وهي تحسب أنها مركبة الكونت، ولكنها انذهلت أشد الذهول لأنها رأت أختها سريز نزلت من المركبة، فانشغل قلبها لزيارتها وأسرعت لاستقبالها، والكتاب لا يزال مختومًا بيدها، فقالت لها: ويحك أجننت؟
– لماذا؟
– أتكتبين لي كتابًا ثم تجيئين في إثر الكتاب؟
فانذهلت سريز وقالت: أي كتاب تعنين؟ فإني لم أكتب لكِ شيئًا.
– هذا الكتاب الذي في يدي، أَمَا أنت أرسلتيه إليَّ وأمرت الخادم أن يُسلِّمني إياه يدًا بيد؟
– كلا، فلم يكن شيء من ذلك.
فأسرعت باكارا إلى فض الكتاب، وأول ما وقع نظرها على توقيع مرسله، وقرأت اسم رولاند دي كايلت، ثم قرأته فانذعرت، ووقع الكتاب من يدها وهي تقول: رباه! أفي يقظة أنا أم في حلم؟
فأخذت سريز الكتاب من الأرض وقرأته أيضًا وقالت: إني لا أفهم شيئًا من هذه الألغاز يا أختي، ومَن هو رولاند هذا؟
– إني ما رأيته غير مرتين، وما كلمته أكثر من جملتين، فماذا يعني بهذا الكتاب؟
– ومَن هو هذا الرجل الذي سيبارزه ويخشى عليك منه؟
فلم ترد عليها باكارا وجعلت تقول: رباه! ما هذا المصاب، فلقد أوشكت أن أُجَن!
وعند ذلك فُتِح الباب ودخل الخادم برسالة وقال: إنها من الكونت.
فأخذتها باكارا بيد ترتعش، فلما تلتها صاحت صيحة القانطين وسقطت مغميًّا عليها، وقد عرف القراء فحوى هذه الرسالة التي كتبها الكونت في منزل فابيان.
وبعد ربع ساعة أفاقت من إغمائها، ولكنها كانت شبيهة بالمجانين، فقالت لأختها بصوت مختنق: هلمي معي فإني أريد أن أذهب إلى هذا الرجل الذي قلَّد خطي، وبلغ من السفالة إلى هذا الحد.
ثم خرجت معها فركبتا مركبة وسارتا إلى منزل رولاند، وكانت باكارا في الطريق لا تفوه بكلمة، فلما وصلت المركبة إلى منزل رولاند نزلت سريز وقال لأختها: انتظريني فسأقابل هذا الرجل وأعود إليك بما يكون.
ثم تركتها وصعدت إلى منزل رولاند، فطرقت بابه وهي تضطرب.
ولم يكن خادم رولاند في المنزل، ففتح لها رولاند وانذهل حين رآها، فقالت له: إني أُدعَى يا سيدي مدام ليون رولاند، وأنا أخت الكونتس أرتوف.
فاندهش رولاند لهذه الزيارة واستقبلها خير استقبال، فقالت له: إن أختي يا سيدي تنتظرني في المركبة الواقفة على بابك الخارجي.
فظهرت على رولاند علائم السرور وقال: أَلَمْ يقتلها؟ أسلمت من شره؟ الحمد لله وألف شكر لك يا سيدتي، فلقد كدْتُ أجن من الخوف عليها.
فقالت سريز كأنها لم تسمع ما قاله: إن أختي في المركبة، وهي لا فرق بينها وبين المجانين؛ لأنها لم تعلم شيئًا من رسائلك.
– ألعل زوجها لم يَعُدْ إلى المنزل؟
– إنها لم تفهم شيئًا من كتابك ولا من كتاب زوجها.
ثم عرضت عليه كتاب الكونت فقرأه وقال: لقد عرفت سبب اضطرابها، ولكن لتعلم يا سيدتي أني سأحميها لأني أحبها.
فقالت سريز وقد طاش رأسها: اعلم يا سيدي أنه إما أن يكون هناك اتفاق غريب خُدِعت به، أو أنك من أشد الناس حطة ونذالة، فإن أختي ما نظرتك غير مرتين وما أحبتك، ولم يكن لها بك أدنى اتصال.
فقال رولاند ببرود: عفوك يا سيدتي، فلقد كنتُ أحسب أن أختك أوقفتك على أسرارها بدليل قدومك إليَّ، وأنها تنتظرك على باب منزلي، وفي كل حال فلا يسعني أن أتغاضى عن شتمك لي، فما أنا بنذل، وإن أختك تستقبلني في منزل لها في باسي منذ ثمانية أيام، وقد أتت بنفسها إلى منزلي هذا ثلاث مرات.
فصاحت سريز صيحة اشمئزاز وهي تحسب أن الرجل قد جُنَّ، كأنما هذا الإقرار قد أثَّر بها تأثيرًا شديدًا، حتى إنها لم تَعُدْ تدري ماذا تجيب، ولكنها أسرعت إلى الخروج من غرفة رولاند، ونزلت على السلم مهرولة حتى بلغت إلى حيث أختها، فأمسكتها بيدها وجَرَّتْها وهي تقول: اصعدي معي إلى هذا الخسيس؛ فإنه يقول إنه ذهب إليكِ في باسي وأتيت إليه في منزله، أسرعي فإن الرجل لا شك مجنون.
فهاجت هذه التهمة بباكارا ووثبت من المركبة، فصعدت السلم مقتفية أثر أختها، وكان رولاند لا يزال واقفًا على باب منزله الداخلي، فلما رأى باكارا صاح صيحة الفرح وأسرع إليها وقد فتح ذراعيه لضمها إليه، فصدته باكارا بعنف وقالت له: إنك رجل سافل أو إنك معتوه لا عقل لك، ويحك! بأي حق تريد معانقتي؟
فتراجع رولاند وقال: عفوًا أيتها الحبيبة! فما أنا بسافل وما جُنِنتُ إلا بهواكِ، وخطئي الوحيد هو أني كنت أحسب أختك واقفة على سرنا.
– وأي سر تعني؟ ومتى كان بيني وبينك أسرار أيها الرجل؟
فأطرق رولاند لحظة ثم نظر إليها وقال: إني أسألك بدوري إذا كنتُ قد جُنِنْتِ أم أنك تمثِّلين دورًا لا يخطر لي ببال.
فسقطت باكارا واهية القوى على كرسي وغطت رأسها بين يديها وهي تقول: يا لك من رجل سافل!
فدنا منها رولاند وهو واثق أشد الثقة من أنها المرأة التي يهواها؛ لأنها لا تتميز عن ريبيكا إلا بصفاء عينيها، غير أنه لقيها بحالة اضطراب شديد لم يَعُدْ بعده سبيل إلى معرفة ذاك الفرق، ثم قال لها بصوت منخفض: اذكري أيتها الحبيبة اجتماعنا في باسي، بل اذكري أنك كنتِ أول أمس جالسة على نفس الكرسي الذي أنت جالسة عليه الآن، وأني كنت جاثيًا على ركبتي أمامك.
فاتقدت عينا باكارا بلهيب الغيظ ورفعت يدها تريد صفعه.
وعند ذلك خطر خاطر لسريز، فأمسكت يد أختها وقالت: لقد علمتُ كلَّ شيء يا أختي، فاطمئني واذكري تلك المرأة التي تُشبِهك، والتي خُدِعْتُ بها فحسبتها إياك حين رأيتها.
فانتعش فؤاد باكارا وقالت: رباه! عسى أن يكون ذاك صحيحًا.
وعند ذلك استحالت إلى السكينة بعد ذاك الغضب، وأخذت يد رولاند وقالت له بلهجة الاستعطاف: هو ذا وجهي مُعَرَّض للنور، فتمعَّنْ فيه جيدًا تعلم أنك عشقت امرأة تُشبِهني، وأن هذه المرأة قد قلَّدَتْ خطي، انظر إليَّ جيدًا … إني أتوسل إليك وألتمس منك هذا التمعن راكعة أمامك على ركبتي.
وكانت نبرات صوتها تشف عن صدق أكيد، حتى إن رولاند تأثَّر وارتعش، ولكنه ما لبث أن قال: كلا، إن التشابه إلى هذا الحد محال، فإن الصوت والوجه والشعر واحد، وفوق ذلك فهذه الرسائل التي أرسلتيها إليَّ بخطك، وهذه التي أرسلتيها بخط وصيفتك، ألم تكتبي لي في هذه الرسالة جميع ما حدث بينك وبين زوجك حين عودته من النادي.
ثم أعطاها الرسالة، فلما قرأتها باكارا علمت أن كل شيء يدل على أنها مجرمة، وأن فكرًا حاذقًا قد دبَّر هذه المكيدة، فصاحت صيحة يأس وسقطت مغميًّا عليها، فأسرع رولاند وسريز إلى إنهاضها عن الأرض، وجعلت سريز تصيح وتستغيث، أما رولاند فقد تزعزع اعتقاده لما رآه من دلائل الصدق على الأختين.
وقد أسرع خدَّام المنازل المجاورة عندما سمعوا صوت الاستغاثة، فطلبت إليهم سريز أن يساعدوها بنقل أختها قبل أن تستفيق إلى المركبة، فحملوها إليها، وعند ذلك قالت لرولاند: ألتمس منك يا سيدي أن تأتي إلى منزلي بعد ساعة، فإنه لا بد من وجود سر هائل يجب أن نكشفه.
فوعدها رولاند بالذهاب وقد اشتد اضطرابه، حتى إنه خشي أن يكون قد أساء إلى هذه المرأة إساءةً لا تُغتفَر.
أما سريز فإنها ذهبت إلى منزلها بأختها وهي مغمي عليها؛ حذرًا من أن يفتك بها الكونت حين يراها.
•••
بينما كانت المركبة تسير بسريز وأختها، خرج رجل من مركبة كانت واقفة منذ حين على مسافة ٥٠ خطوة من منزل رولاند، فدفع أجرة المركبة ودخل إلى منزل رولاند، ولم يكن هذا الرجل إلا روكامبول، وكان باب رولاند لا يزال مفتوحًا، فدخل روكامبول وهو يقول في نفسه: إن المقابلة كانت من غرائب المضحكات.
وتقدَّمَ إلى القاعة التي يجلس فيها رولاند، فألقاه ضائع الرشد مشتَّت البال، فقال له: لقد عرفتُ كل شيء أيها الصديق، فإن الكونت أرتوف زارك في منزلك، وإنكما ستتبارزان غدًا، فلم أجد بدًّا من زيارتك، وقد علمت من حكاية الكونت أرتوف، أن صديقك أوكتاف كان علة هذه الفضيحة.
فقال له رولاند دون أن يهتم لحديثه: لقد علمت كل شيء كما تقول، فهل علمت أن الكونتس أرتوف خرجت من هنا قبل دخولك.
فتظاهر روكامبول بالانذهال وأجاب: رباه! ماذا أسمع أتبلغ جسارتها إلى ذاك الحد؟
– بل قد حدث ما هو أشد من ذلك.
ثم قصَّ عليه ما جرى بينه وبين باكارا وسريز وهو يميل بحكايته إلى تصديق الأختين إلى أن أتم حديثه، وكان روكامبول يصغي إليه أتم الإصغاء، فلما رأى اعتقاده قد تزعزع قال له وهو يبتسم: كم عمرك يا رولاند؟
– أربعة وعشرون عامًا.
– إذن فإن عذرك ظاهر؛ لأنك لا تزال صغيرًا تجهل مكائد النساء، فإذا كنتَ عرفتَ شيئًا من حبهن فقد غابت عنك من مكائدهن أشياء.
– ماذا تريد بهذا القول؟
– أريد أن باكارا وأختها قويتان وأنهما قد عبثتا بك؛ إذ لا يوجد شبيهة لباكارا كما تزعمان، وهي نفسها التي أحبتك ثمانية أيام باتت عدوة هائلة لكَ في مدة ساعتين.
فذهل رولاند وقال: كيف ذلك؟
– ذلك حين علم الكونت كل شيء لم يذهب إلى منزله، بل كتب إلى امرأته، فأسرعت باكارا مع أختها إليك، وقد اتفقتا على تمثيل هذا الدور ونجحتا فيه كما يظهر؛ لأنك أصبحت تعتقد — كما أرى — أنه يوجد شبيهة لباكارا، ولو لم يتفق قدومي إليك لكنت تماديت في اعتقادك هذا حتى تحسب نفسك مخطئًا إلى الكونت، فتعتذر إليه غدًا، ثم تقول له: إني ما عرفت الكونتس ولم يكن لي بها اتصال غرام، بل كنتُ منخدعًا بامرأة تشبهها، فإذا شئتَ أن تقتلني فافعل، ولكني أقسم لك بشرفي أن امرأتك طاهرة بريئة! وعند ذاك يلقي الكونت حسامه إلى الأرض، وتبطل المبارزة، ثم تبحث وإياه عن تلك المرأة، التي لا توجد إلا في مخيلة باكارا، فلا تجدانها.
– ومنزل باسي؟
فأجاب روكامبول بلهجة الاستغراب: ألعلك عرفتَ هذا المنزل؟ أَمَا كنتَ تذهب إليه في مركبة مقفلة مسدودة النوافذ، أَلَا يمكن أن يكون المنزل في غير هذا الشارع؟
فأطرق رولاند وقال: لقد أصبت.
فقال روكامبول متمِّمًا حديثه: إنه بعد أن تبحث أنت والكونت ثلاثة أو أربعة أيام دون أن تجدا شبيهة باكارا، يخف غضب الكونت ويعود إلى الثقة بطهارة امرأته.
– ولكننا لا نجد شبيهة باكارا فتراجعه الظنون.
– كلا، فإن باكارا تكون في خلال هذه المدة قد أثبتت لزوجها براءتها، كما تكون قد أثبتت له أيضًا أنك أنت المذنب، وأنك أنت الذي أردْتَ إخفاء شبيهتها كي تبقى الشبهات متمكنة في نفوس أصحابك من أنك تحب الكونتس حقيقة، وأنك اختلقت هذه الحكاية كي تنقذها.
– ولكن ذلك عمل سافل لا تُقدِم عليه باكارا.
– بل إنك فتى غِرٌّ لا تعرف شيئًا من مكائد النساء وأحقادهن، فإن باكارا لا تصفح عنك إلى الأبد، ولا تنسى أنك أنت الذي دنَّسْتَ سمعتها بإفشاء سرها أمام أصحابك.
فأطرق رولاند هنيهة يفتكر ثم أجاب: لقد أصبتَ أيها الصديق، فإنها تلعب بي كما يلعب الغلمان بالكرة فاطمئن؛ لأني قد وقفت في مواقف الحذر.
وبعد أن تركه روكامبول كتب رولاند إلى سريز يعتذر إليها عن عدم حضوره، ثم أعطى الكتاب لخادمه وذهب إلى النادي كي يرى أصحابه، بل يخبرهم بجميع أمره.
٢٧
أما روكامبول فإنه ذهب إلى منزله، فوجد فيه الكونت أرتوف وصهره فابيان، وكان الكونت بعد أن ذهب إلى رولاند والدوق دي مايلي، وبعد أن كتب إلى باكارا ذاك الكتاب الذي صعقها، عاد إلى فابيان فكتب عدة رسائل وفابيان جالس أمامه لا يجسر أن يفتح الحديث، فلما فرغ الكونت من كتابه قال لفابيان: إني أحب أن أجعلك منفذ وصيتي، أَلَك ما يمنعك عن قضاء هذه المهمة أيها الصديق؟
فنظر إليه فابيان منذهلًا وقال: ماذا يدعوك إلى كتابة وصيتك الآن، وأنت واثق من قتل خصمك؟
– ولكني قد أُقتَل.
– إن الله أرحم من أن يُجازيك هذا الجزاء؛ إذ لا بد للفضيلة أن تنتصر ولو بعد حين.
– أصبت على أن كتابة الوصية محمودة في كل حال.
فأجاب فابيان وقد تبيَّن قصدًا هائلًا من ملامحه: إنك لا تزال تحب هذه المرأة يا كونت.
– نعم، وعلى الكره مني.
– وإذا لم يقتلك خصمك فماذا تصنع؟
– أقتل نفسي!
ثم تنهَّدَ وقال: أصغِ إليَّ فإني قسمت تركتي إلى قسمين: القسم الأول وهو أملاكي في روسيا وسيرثها أهلي من بعدي، والقسم الثاني أملاكي في فرنسا فإن إيرادها يبلغ مائة ألف فرنك في العام، وأنا أريد أن أجعلك منفذًا لوصيتي عن هذا القسم … لا تقطع عليَّ الحديث أيها الصديق؛ لأني أعلم ما تريد أن تقوله لي، واعلمْ أني إذا لم أُقتَل في المبارزة غدًا فسأقتل نفسي؛ لأن سعادتي كانت متعلقة بهذه المرأة التي ما أحببت سواها، فملأَتْ جميع فراغ قلبي، فلم يَعُدْ لهذا القلب رجاء بالحياة بعد أن سحقته تلك الخيانة، فإذا قتلتُ غدًا هذا الفتى فإنه قد قتلني قبل أن أمد له يدًا، فاعجب لقاتل يقتله مقتول! أما الموت فهو أشهى الأمور لديَّ وكفى به معزيًا عما أنا فيه، والآن فهل تكون منفذ الوصية؟
فتنهَّد فابيان وقال: نعم.
– إذن سأدع هنا وصيتي وجميع رسائلي، فإذا كان الغد …
وعند ذلك دخل روكامبول، فأجاب فابيان بإشارة يريد بها أنه فهم المقصود.
أما روكامبول فإنه دنا من الكونت وقال له: لقد أمرت الخدم يا سيدي أن يهيئوا لك غرفة بإزاء غرفتي.
فشكره الكونت وقال: إذن لنذهب إليها وَلْندع فابيان مع امرأته، فقد حان وقت العشاء، ولا أحب أن أظهر أمامها بمظهر الاضطراب.
ثم خرج روكامبول بالكونت وصعد به إلى منزله، فقال له: أتريد أن نجلس على مائدة الطعام؟
فابتسم الكونت ابتسام الحزين وقال: لا أجد شهية للأكل.
– إنه لا يجمل بك أن تبيت فارغ المعدة، وأنت مضطر إلى المبارزة في الصباح.
– أصبت، وامتثل امتثال الأطفال.
ولما فرغا من الطعام أتاهم الخادم بالقهوة، فقال له روكامبول: أنصحك نصيحة، وهي أن لا تشرب هذه القهوة، بل اشرب كأسًا من هذا الشراب.
وأشار إلى زجاجة على المائدة، فقال الكونت: لماذا اخترْتَ ذاك الشراب دون سواه؟
– لأنه يساعدك على النوم، وأنت محتاج إلى الرقاد في هذه الليلة للراحة.
– بل للنسيان، فهات من شرابك.
فصبَّ له روكامبول كأسًا وصبَّ لنفسه من شراب آخَر، فسأله الكونت: لماذا لا تشرب أنت من شرابي؟
فضحك روكامبول وقال: لأني لستُ محتاجًا للنوم مثلك.
ثم شرب الاثنان، وعند ذلك نظر روكامبول إلى الساعة المعلقة وقال في نفسه: إننا في الساعة السابعة الآن، وفي الساعة السادسة من الصباح ستكون المبارزة.
وبعد أن أقاما على المائدة هنيهة، دخل الكونت إلى الغرفة التي أُعِدَّتْ له، وذهب روكامبول إلى أستاذه أندريا فقال له: لدي أيها الأستاذ كثير من الأمور التي تحب أن تقف عليها، فإن باكارا شبيهة بالمجانين، وقد قابلت رولاند، ولولاي لكان اعترف ذاك الأبله للكونت بأنه يهوى شبيهة امرأته.
ثم قصَّ عليه جميع ما جرى، فلما أتم حديثه سأله: أواثق أنت من تأثير السم الذي سقيتُه للكونت أرتوف، وأنه يتم جنونه بعد اثنتي عشرة ساعة؟
فهزَّ أندريا برأسه إشارة المصادقة.
– وإذا اتفق أن المبارزة حدثت قبل الجنون؟
فكتب أندريا على لوحه الحجري: يكون ذلك لنكد رولاند، ألعلك مشفق عليه؟
– إنك لم تعلِّمني الإشفاق.
فكتب أندريا: كُنْ مطمئنًّا، فإن أعراض الجنون تظهر في الساعة السابعة، وتحول دون المبارزة.
وفي صباح اليوم التالي نهض روكامبول باكرًا وأيقظ الكونت، فشكره الكونت وارتدى ثيابه مسرعًا، ولكنه شعر بدوار في رأسه فلم يكترث له، وخرج فركب مركبة وذهب بها إلى الدوق دي مايلي شاهِده في المبارزة، وسار الاثنان إلى المكان المعيَّن فلَقِيَا رولاند وشاهدَيْه، فسلَّمَ كل فريق على الآخَر بإحناء الرأس، وبعد اتفاق الشهود وقف الخصمان موقف القتال.
وكان روكامبول قد سبقهما إلى محل المعركة متنكِّرًا، ووقف بحيث يرى جميع ما يجري دون أن يراه أحد، وكانت عند ذلك الساعة السابعة، بينما كان الشهود ينتظرون بدء القتال رأوا أن الكونت قد حمل سلاحه ومشى إلى رولاند، فظن الجميع أنه سيقتل خصمه دون شك، ولكنه بدلًا من أن يطلق عليه النار جعل يكلِّمه خلافًا للقواعد المعروفة في المبارزات، فكان أول ما قاله: إننا يا سيدي في موقف لم يَعُدْ ينفع فيه الاعتذار، ولا بد لأحدنا من الموت.
فأجفل روكامبول وخاطب نفسه: ألعل أندريا والطبيب يهزأان بي، فإن الوقت قد حان ولا أرى عليه شيئًا من أعراض الجنون.
فقال رولاند مجيبًا الكونت: لقد صدقت يا سيدي، وها أنا مستعد لقتالك.
فقال الكونت بسكينة وأدب: ما تظن يا سيدي بفتى ضعيف العقل أحَبَّ امرأة لم تهواه على الإطلاق.
فأنكر عليه رولاند هذا الكلام وقال: ما لنا وللعود إلى تلك الأبحاث؟
– عفوك يا سيدي ودَعْني أتم كلامي.
فهزَّ رولاند كتفيه إشارةً إلى عدم المبالاة وقال: قُلْ ما تشاء.
– إن تلك المرأة لم تكن تهواه، فعول على الانتقام منها بالنميمة عليها وتخديش سمعتها، فجعل يُظهِر لجميع إخوانه الأغرار أن المرأة تهواه.
فأوقفه رولاند وقال: إنك تتمادى في القول يا كونت، فقِفْ عند حدك.
فأجابه الكونت بصوت الملتمس: بالله دعني أُتِمَّ حديثي.
فانذهل رولاند وجميع الشهود؛ لأن الكونت كان يُخالف نظام المبارزة مخالفةً ظاهرةً لا تخفى على أحد، فدنا الشهود منه بضع خطوات، أما الكونت فإنه أتم كلامه فقال: لحسن الحظ يا سيدي أن الرذيلة مهما تمكَّنَتْ من النفس؛ فإن أضعف شعاع ينفذ إليها من أشعة الفضيلة يتغلَّب عليها ويلقي صاحبها في مهاوي الندامة.
فنفد صبر رولاند وقال له مغضبًا: ماذا تريد بهذه الأقوال؟
فتحمَّس الكونت وقال له: أصغِ إليَّ بحق السماء، فإن تتمة حديثي يتعلَّق عليها شرف امرأتك.
فجمد رولاند من الذهول وقال له: امرأتي!
فسقطت الدموع من عيني الكونت وقال: نعم يا سيدي الكونت أرتوف، فلقد وشيت بامرأتك الكونتس أسفل الوشايات، فاصفح عني.
فوقعت هذه الكلمات الأخيرة وقع الصاعقة على رولاند وعلى الشهود، أما الكونت فإنه عاد إلى حديثه فقال: إني يا سيدي الكونت أُدعَى رولاند دي كايلت، كما أنك تُدعَى الكونت أرتوف، وكلانا شريف ونبيل و…
فقاطعة رولاند وقال: أنا الكونت أرتوف وأنت رولاند دي كايلت؟ لا شك يا سيدي أنك مجنون!
لقد كنتُ يا سيدي في عداد المجانين حين تجاسرت أن أرفع نظري إلى تلك المرأة الجميلة النبيلة، ولكنك ستصفح عني دون شك فتصافحني وتقبل اعتذاري.
ثم جثا على ركبتيه أمام رولاند وهو يقول: عفوك يا سيدي الكونت.
فصاح الشهود منذعرين: إنه مجنون!
وفكَّرَ روكامبول في نفسه: لا شك أن أندريا من الأنبياء، فها هو قد جُنَّ عند الساعة السابعة تمامًا كما قال.
ودنا الدوق دي مايلي من رولاند وهمس في أذنه قائلًا: اقبل جميع أعذار هذا المسكين، فإنك لم تَعُدِ الآن أمام الكونت أرتوف، بل أمام تعس منكود، ذهب صوابه بذهاب شرفه، وداست امرأته على عقله بأقدام حبها السافل.
وبعد ذلك ببضع ساعات كان روكامبول يحدث أندريا بجميع ما رآه من جنون الكونت أرتوف الغريب، فقال له: إنه لا يزال يعتقد أنه رولاند وقد ركب إلى جنبه رولاند في مركبة واحدة، وأراد الذهاب معه إلى منزله كي يعتذر إلى باكارا التي يعتقد أنها زوجة رولاند، فكان يعتذر إليه طول الطريق إلى أن بلغوا إلى منزل الكونت أرتوف، فلم يجدوا باكارا فيه، فحبسوه في قصره وذهب كلٌّ في شأنه، والآن فقُلْ لي أيَّة فائدة لنا من جنون الكونت أرتوف؟
فأجابه أندريا بلوحه الحجري: إن الأطباء سيصفون له السفر مداواة لجنونه، فلا بد لباكارا من السفر معه ومغادرتها باريس، فيخلو لك الجو وتأمن شرها.
– وبعد ذلك؟
– بعد ذلك تضعف قوة الدوق دي مايلي ونستطيع التفرغ له آمنين مطمئنين.
– ألعلك قررت أمرًا بشأنه؟
– نعم.
– أتطلعني على الخطة التي رسمْتَها؟
– كلا، فاكتفِ الآن بتنفيذ أوامري ولا تناقشني في شيء، بل اطمئن … فليس الدوق دي مايلي الذي سيمنعك عن الزواج بغادتك الإسبانية.
٢٨
بعد ذلك بثلاثة أيام ورد إلى الكونت مايلي من باكارا الكتاب الآتي:
أيها الدوق العزيز
إن امرأة دنس بنو الشر شرفها، وضربتها يد القضاء ضربة لا قيام لها بعدها، تكتب إليك لتودعك وداعًا ربما كان أبديًّا، ولستُ أدري إذا كنتَ في عداد الذين يثقون بخيانتي، ولكنك رجل نبيل طاهر القلب عف الضمير، إذا كنتَ تتهمني كما يتهمني الناس بتلك الخيانة التي اختلقتها قريحة جهنمية، فإنك تحفظ لي دون شك شيئًا من العهد القديم، لا سيما حين تعلم أنك كنت الرجل الوحيد الذي افتكرت به حين خروجي من باريس.
إننا نسافر غدًا، فقد وصف الأطباء السفر لزوجي العزيز، وقالوا إن هواء سويسرا ومناظر جبالها قد يعيدان إليه صوابه، وما أسعد ذلك اليوم الذي تصدق فيه ظنون الأطباء، على أني عالمة بأن زوجي حين يعود إليه صوابه يطردني من داره طرد المجرمات، ويأنف من أن ينظر إليَّ؛ لأني لم يَعُدْ لي أقل أثر في قلبه، بل ربما قتلني أيضًا، ولكني لا أهتم لحياتي وسأخاطر بكل شيء في سبيل شفائه؛ لأنه لا يزال في عنفوان الشباب، ولا بد لجرحه أن يندمل بتقادم الأيام.
ومع كل ما أنا فيه أيها الصديق — أواه! دعني أرجو أن تسمح لي بأن أناديك بهذا اللقب — فلا أحب أن أغادر باريس دون أن أهتم بأمرك، فقد وردني اليوم كتاب من قريبك في روسيا يقول فيه إنه وصل إليه رسولي الذي يحمل كتابي، وأنه سيرسل معه بعد ثلاثة أيام الأوراق التي تُثبت علاقة نسبك بالدوق سالاندريرا.
وعلى ذلك، فسيصل هذا الرسول قريبًا إليك، ويعطيك هذه الأوراق التي تبلغك ما تريد من الزواج بابنة الدوق، أما أنا فسأكتب للدوق سالاندريرا وأخبره بأمر نسبك، وأعيد عليه ما كتبته من قبلُ؛ وهو أن تكون زوجَ ابنته، ولا شك أن الدوق لم يصل إليه بعدُ نبأُ شقائي، وسأكتب إليه بلهجة المرأة التي لا تزال سعيدة، فانتبه لنفسك واعمل ما يجب عليك، فقد علمت أنا ما يجب عليَّ.
الوداع أيها الصديق فارثِ لحالي، ولا تحتقر دعائي لك؛ فإني لا أزال طاهرة بالرغم عن المرجفين.
الكونتس أرتوف
فتأثَّر الدوق عند قراءته هذا الكتاب وقال في نفسه: إن قلبي يحدِّثني أنها غير مجرمة، وفي كل حال فإني لا أسمح لأحد أن يهينها أمامي.
وكان الدوق يحاول الخروج من منزله عندما ورد إليه هذا الكتاب، فلما فرغ من تلاوته أعاده إلى غلافه ووضعه على طاولته وانصرف، وكان زامبا يراقبه، فلما خرج سيده دخل إلى غرفته، فنسخ الكتاب وذهب بنسخة إلى روكامبول في منزله السري الذي كان هذا الأخير ينتظره فيه وهو متنكر بالشكل الذي يعرفه فيه زامبا، وكان منهمكًا بتلاوة كتاب ورد إليه من ابنة الدوق تقول فيه إن أباها يعهد إليها بعد موت الدون جوزيف اختيار الزوج الذي ترضاه، وإنهم عائدون من إسبانيا فيصلون إلى باريس بعد ثلاثة أيام، وفي الختام طلبت إليه أن يجيئها إلى الحديقة عند منتصف الليل حسب العادة.
فلما دخل زامبا أخفى روكامبول كتاب ابنة الدوق، فأطلعه على نسخة كتاب باكارا إلى الدوق دي مايلي، فأجفل لهذا الخبر وقال في نفسه: لقد أخطأ ظن أندريا، فإن باكارا لم يشغلها جنون زوجها عن خدمة الدوق، ولكنه أخفى اضطرابه وقال لزامبا أن يعود إليه في الساعة الثامنة، فانصرف وبعد ذهابه غيَّر روكامبول شكله وذهب يستشير أستاذه أندريا.
وبينما مركبته تسير به وهو يمعن الفكرة بكتاب باكارا، إذ قطع خيط تصوُّره صياح السائق بقوله: احذر ورجوعه بالمركبة إلى الوراء، فالتفت روكامبول عندما تبيَّن هذا الرجل؛ لأنه عرف أنه فانتير وكيل منزل الأرملة مالاسيس، الذي خان أندريا وأفشى سره للكونت أرتوف، فكان السبب في قطع لسان أندريا كما تقدَّم في رواية التوبة الكاذبة، فجعل فانتير يشتم السائق دون أن يرى مَن فيها؛ لأن روكامبول احتجب في داخلها حذرًا من أن يعرفه، واستمر السائق يمشي هنيهة فأوقفه روكامبول ونزل وقال له: اذهب بالمركبة إلى المنزل، أما أنا فسأعود ماشيًا. ذاك لأنه خطر له أن يقتفي أثر فانتير كي يعلم حقيقة حاله.
ولما شفى فانتير غله من شتم السائق جعل يمشي في الشارع، واقتفى روكامبول أثره حتى بلغ إلى منعطف الطريق، فأسرع إليه وسأله أن يولع سيكارته من سيكارته، قد أراد بذلك أن يعلم إذا كان يعرفه بالنظر إليه، فأعطاه فانتير سيكارته ونظر إليه دون اكتراث، فأيقن روكامبول أنه لم يعرفه، وما زال يتعقبه حتى وصل إلى منزله في شارع حقير، فأخذ مفتاح غرفته من البواب وصعد إليها، وبعد حين عرف روكامبول من هذا البواب أن فانتير يدعو نفسه جوناتس، وأنه في أشد حالة من الشقاء، حتى إن صاحب الغرفة طرده منها عدة مرات لامتناعه عن دفع الأجرة.
ولما عرف روكامبول جميع ما يريد معرفته عاد إلى منزله وذهب توًّا إلى أندريا، فأخبره بكتاب الغادة الإسبانية، وبكتاب باكارا إلى الدوق مايلي، وبلقائه بفانتير، فأمعن أندريا الفكرة طويلًا ثم قال له بلوحه الحجري: يجب أن يكون فانتير من رجالنا؛ كي نرسله بشأن خطير إلى إسبانيا.
فدهش روكامبول وسأله: ماذا يصنع في تلك البلاد؟
– يذهب لسرقة كتاب باكارا إلى الدوق سالاندريرا من كيس البوسطة قبل وصوله إلى الدوق.
– وإذا كان الكتاب قد وصل إلى الدوق؟
– ذلك غير ممكن، فإنه قد برح إسبانيا أمس، أما الكتاب فإنه يسير إلى إسبانيا والدوق خارج منها فيتقابلان على الطريق.
– لقد فهمت قصدك، وسيكون ما تريد أن يكون.
٢٩
بينما كان فانتير عائدًا إلى منزله في اليوم التالي، ناوله البواب كتابًا باسمه عليه علامة المركيز، فانذهل فانتير وقال: ألعل أحد النبلاء في حاجة إليَّ؟
ثم فضَّ الكتاب بلهف وأسرع بنظره إلى التوقيع، فاصفرَّ وجهه وخارت قدماه، ذلك أنه قرأ «السير فيليام»، وبعد أن ملك روعه أخذ يقرأ الكتاب فقرأ ما يأتي:
عزيزي فانتير
بل أيها اللص القديم الخبير بأساليب المهنة، إني عدتُ إلى باريس من سفر طويل بعد أن طفت حول الأرض، وأنا الآن في خير حالة بفضل مؤازرة بعض إخوان، غير أني أصبحت بعين واحدة، ولكن إذا كانت باكارا قد قطعت لساني، فإن ذلك لا يمنعني عن أن أصدر الأوامر بالكتابة، فاعلم الآن أن عصابتي تهتم منذ شهرين في البحث عنك، وقد بحثت في جميع أنحاء لندرا وباريس حتى عثرت بك، وأصبحتَ الآن في قبضتي بحيث أستطيع أن أبلغ منك ما أشاء وأشويك شيًّا على النار، وأقطع لسانك انتقامًا منك؛ لأني أعلم ما يعانيه المرء من الشقاء بعد قطع لسانه، ولكني لا أصفح عنك بعد خيانتك لي إلا إذا رضيت أن تدخل في خدمتي وتكون لي عبدًا، فإذا قبلتَ فتنزَّه الليلة أمام باب منزلك، وإذا أبيْتَ فاستعد لما أنذرتك به.
السير فيليام
فضعضع هذا الكتاب رشد فانتير لشدة خوفه من أندريا، وأول ما خطر له أن يهرب من انتقامه، ولكنه قال في نفسه: لا بد أن يكون قد وضع الجواسيس من حولي، فلا سبيل إلى الفرار، ثم إنه لو لم يكن في حاجة إليَّ لكان قتلني دون أن يرسل إليَّ مثل هذا الإنذار.
وعندما خطر له هذا الخاطر اطمأن باله وجعل يتمشى أمام منزله ذهابًا وإيابًا كما أوصاه السير فيليام في الكتاب.
وبعد ساعة أتى رجل من ورائه وهمس في أذنه: السير فيليام!
وكان هذا الرجل روكامبول، فالتفت إليه منذعرًا، وجعل يحدِّق به دون أن يعرفه، فخاطبه روكامبول بلهجته العادية: هلم بنا يا فانتير إلى هذه القهوة نتحدَّث فيها.
فعرفه فانتير من صوته وصاح منذعرًا: روكامبول؟
– أجل أنا هو، وقد بعثني إليك السير فيليام لترصيد حساب قديم بيننا.
ورأى فانتير المسدس بيد روكامبول، فخاف خوفًا شديدًا وجعل يعتذر إليه عن الخيانة السابقة بأنه اضطر إليها مكرهًا، وأنه مستعد للدخول في سلك العصابة متعهدًا أن لا يخونها حتى الموت.
فتظاهر روكامبول بقبول عذره وذهب به إلى قهوة منعزلة، فأخبره بالمهمة التي ينتدبه إليها، وهي سرقة الرسائل الذاهبة من فرنسا إلى إسبانيا باسم الدوق سالاندريرا، وأرشده إلى طريقة سرقتها من كيس البريد، ثم أعطاه ألفي فرنك ليستعين بها على رشوة حامل البريد إذا تعذَّرَتْ لديه الوسائل، ووعده بعشرة آلاف أخرى إذا نجح في مسعاه، ففرح فانتير بهذه المهمة الجديدة التي أنقذته من مخالب أندريا ومن نكد الفقر، وقال له: أقتل إذا اضطررت إلى القتل؟
– لا بأس، ولكن تجنَّبْ إهراق الدماء ما أمكنك.
فسافر فانتير لساعته إلى إسبانيا، وعاد روكامبول إلى أندريا، فأخبره بما كان ثم قال له: إني لا أعلم إلى الآن أيَّة فائدة لنا من سرقة هذا الكتاب!
– ذلك أن الدوق مايلي يضطر بعدها إلى أن يُخبِر الدوق سالاندريرا بنسبه الجديد، وبالشهادات التي تثبت قرابته منه.
فرد روكامبول منذعرًا: وإذا وصلت هذه الشهادات إلى الدوق مايلي؟
فضحك أندريا وأجاب: إن الذي سيحضر بها من روسيا خادم باكارا، إذا شئت أن يصل إليه سالمًا فافعل.
فأدرك روكامبول قصده وأجاب: حسنًا، فسنكمن له منذ الليلة في الطريق.
•••
بعد ذلك بثلاثة أيام عاد فانتير يحمل كتاب باكارا وهو فرح القلب بنجاح مسعاه، وفي اليوم نفسه دخل روكامبول إلى أندريا يحمل جريدة وسأله: أتريد أن أقرأ فصلًا من هذه الجريدة؟
فهزَّ أندريا رأسه إشارة إلى الرضى، وقرأ روكامبول ما يأتي بعنوان جريمة هائلة:
حدثت جريمة هائلة منذ يومين في غابة سنارت، وذلك أنهم وجدوا في الطريق العام جثةً منطرحة على بطنها، وهي جثة رجل ظهر من ملابسه أنه قوزاقي، وقد حسبوا في البدء أن الموت لحادث أو مرض، غير أنه تحقَّق بعد ذاك أن الرجل كان مطعونًا بخنجر في قلبه، وأنه مات على الأثر، وقد ثبت أن قاتله من اللصوص؛ لأنه لم يوجد شيء في جيوبه من النقود، فأخذ البوليس في البحث عن الجاني … إلخ.
ولما فرغ روكامبول من تلاوة هذه القطعة أخذ من جيبه ملفًّا من الأوراق وخاطب أندريا: اسمع لأقرأ لك هذه الأوراق التي تُثبِت نسب الدوق دي مايلي وقرابته من الدوق سالاندريرا قبل أن أحرقها.
وبعد أن أتم قراءتها قبض أندريا على يده بيسراه، وكتب باليمنى على لوحه الحجري: احفظ هذه الأوراق وإياك أن تحرقها.
فانذهل روكامبول وسأله: وأية فائدة لنا من إبقاء الدلائل على قرابة العائلتين؟
فابتسم أندريا وكتب: إن العاقل يجب أن يتوقع كل شيء، فإن ابنة الدوق مهما كانت تحبك الآن فقد تتغير عليك، بل قد تضطر إلى عدم الزواج بك، وعدا ذاك فإن الدوق مايلي يدفع أكثر من مليون فرنك ثمن هذه الأوراق.
– لقد أحسنت، ولكن ماذا أصنع بالأوراق؟
– احفظها.
– وإذا فتَّشوا منزلي وعثروا عليها عندي، أَلَا تثبت جريمة القتل عليَّ؟
– إنك قد نسيت أنك تُدعَى الآن المركيز دي شمري لا روكامبول، وأنك بعيد عن الشبهات.
فاقتنع روكامبول ووضع الأوراق بجيبه، ثم خرج من عند أندريا كي يخبئ الأوراق بمحل أمين في منزله، ولكنه قال في نفسه: إني قد أموت فجأةً أو أُقتَل في حادث، ولا أحب أن يُهان اسمي بعد الموت، وخير لي أن أخبئها في منزلي السري، فإني معروف فيه باسم آخَر. فعزم على تخبئتها في المنزل السري.
وفي المساء عاد روكامبول إلى منزله، فوجد فيه رسالة من ابنة الدوق تخبره فيها أنها وصلت في الصباح مع أبيها وأمها إلى باريس، ودعته إلى موافاتها في الحديقة في الموعد المعين، فلما انتصف الليل ذهب إلى لقائها فوجدها تنتظره على مقعد خشبي تظلله شجرة كبيرة، فأسرع إليها روكامبول وأخذ يدها فقبَّلها قبلة حارة مزج فيها الحب بالاحترام، وجعل الاثنان ينظر كلٌّ منهما إلى الآخَر، وهو لا يعرف كيف يفتح الكلام، إلى أن تظاهر روكامبول بأنه تغلَّبَ على تأثُّره من هذا اللقاء فقال: هذه أول ساعة منذ شهر شعرت أن لي قلبًا يعرف لذة الحياة، فإني لم أكن عاشقًا إلا بالتذكار.
فضغطت ابنة الدوق على يده، بينما تابع كلامه: إني بعد سفرك كنت أعد الأيام، ثم لما علمت بعزمك على الرجوع صرت أعد الساعات، ثم لما وردني كتابك اليوم أصبحَتِ الدقائق عندي أعوامًا، فما أتعب الحب وما أهناه!
– مهما كان من جزعك فأنت لم تبلغ به بعض ما كان؛ وذاك لأنه كانت تردك رسائلي في كل بريد فتعلم كل أخباري، أما أنا فلم يردني شيء منك، وكنتُ في أشد حالة من الجزع لانقطاع أخبارك، حتى كنت أتمادى في ظنوني عندما كنت أناجيك في خلواتي، وأحسب أنك قد نسيت عهدي.
فقال روكامبول بلهجة العاتب: أهكذا تسيئين ظنك بمَن يموت من أجلك وهو باسم الثغر؟
وجرت بين العاشقين معاتبات حلوة، إلى أن ختما على هذا الحديث بقبلات الغرام، ثم تنهَّدَتِ الفتاة وقالت: إني أتيت إلى باريس وأنا أتقلب بين الخوف والرجاء، وهما رجاء لقياك والخوف من ذلك الخطر الجديد الذي يتهددني.
فأجاب روكامبول بلهجة المتحمس: أي خطر تخافين وأنا بقربك؟
– إنك أنقذتني من مخالب الدون جوزيف، ولكنك لا تستطيع إنقاذي من إرادة أبي، فإنه بعد أن سمح لي أن أختار الزوج الذي تميل إليه روحي كما كتبتُ لك، رجع عن عهده، وهو الآن يرغِّب إليَّ أن أقترن بالدوق دي مايلي؛ لأنه شديد التمسك بالألقاب، والحرص على الاتصال بالأسرات القديمة.
فتنهَّد روكامبول وأجاب: لقد فهمت أيتها الحبيبة، فإنه لا ينظر إليَّ بالعين التي ينظر بها إلى الدوق دي مايلي، فما أنا دوق، وبيني وبينه تفاوت عظيم في مراتب الثروة.
– إني أهواك وكفاني بقلبك النقي ونفسك الطاهرة ثروةً لا تنضب ومجدًا لا يُبارَى.
فأجاب روكامبول، وقد رأى أن الوقت قد أزف للتظاهر بالكرم والمروءة: أصغي إليَّ يا سيدتي وافحصي في أعماق قلبك، فلعلك لا تجدين فيه سوى حب ولَّدَه حب الاعتراف بالجميل.
فأنكرت الفتاة قوله وقالت: أتجسر على هذا الظن؟
– أجل، فقد تكونين حسبت أنك مقيدة بحبي لأني أنقذتك من رجل تكرهينه. لا تنظري إليَّ هذه النظرات أيتها الحبيبة، وكوني حكيمة عاقلة، فإذا كان أبوك يريد أن يزوِّجك بهذا الدوق النبيل، فلا تُخالفيه.
فذعرت الفتاة من كلامه وقالت: ما هذه القسوة؟ أَلَا تعلم أني أهواك؟
– اجتهدي أن تنسيني، أيتها الحبيبة، كما أني سأجتهد لإكراه قلبي على نسيانك.
فأخذت الفتاة يده على يدها وقالت: إني أهواك هوى لا يُنسَى، فاحفظ عهدي كما أنا حافظة عهدك. أَلَا تعلم أني أقسمت يمينًا على هواك ما حييت، وأني لا أتزوج سواك.
ثم فاضت عيناها بالدموع، فركع روكامبول أمامها وأقسم لها مثل يمينها، فجدَّدَ العاشقان العهود، وأقسما على أن يهربا إلى أقصى البلاد إذا لم يكن بد لهما من الافتراق.
وبعد ساعة خرج روكامبول وسار وهو مطرق الرأس يفكر بهذه السعادة الجديدة، ولا ينظر إلى شيء مما حوله حتى بلغ إلى ضفة نهر السين وهو سائر إلى منزله.
وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فانتبه لغناء بعض النوتية في قارب، ثم نظر أمامه فرأى امرأة عجوزًا تسير وهي تحمل مصباحًا، فأخرج سيكارة من جيبه ودنا من تلك العجوز وسألها أن يولع سيكارة من مصباحها، فلما سمعت العجوز صوته ورأت عينيه صاحت صيحة فرح قائلة: ولدي روكامبول! كيف عدت؟ ومن أين أتيت؟
فذعر روكامبول وعرف أنها مدام فيبار، ثم أيقن أنها عرفته من صوته ومن عينيه، فلم يجد سبيلًا للإنكار ولفَّق لها حكاية طويلة عن حاله، ثم سألها عن حالها فأخبرته أنها لا تملك قوت ليلة، وأنها تشتغل مع فانتير، ولكنهما لم يُرزَقَا شيئًا منذ أمد بعيد لشدة تيقُّظ الشرطة.
فأجفل روكامبول من ذكر علائقها مع فانتير، لا سيما وقد عرفته بهيئة المركيز، فخاطبها: لا بأس عليك يا أماه، فسأنقذك مما أنت فيه من العسر!
ثم أخرج من جيبه دينارين وقال: خذي الآن هذه النقود، وسأزورك غدًا فأنظر في أمرك.
وبينما كانت مدام فيبار تأخذ الدينارين مبتهجة بهما وتضعهما في جيبها، قبض روكامبول على عنقها وضغط عليه ضغطًا شديدًا، فصاحت صيحة اختناق ثم سكتت فحسب أنه قضى عليها، وكان قريبًا من ضفة النهر فحملها بين يديه وألقاها فيه، ثم أسرع الخطى إلى أن بلغ إلى شارع فركب مركبة وانطلقت به مسرعة إلى المنزل.
٣٠
في اليوم التالي لاجتماع روكامبول بابنة الدوق، دخل زامبا على سيده الدوق دي مايلي ولفَّق له حديثًا خلاصته أن ابنة الدوق سالاندريرا كانت تكره الدون جوزيف كرهًا عظيمًا، وأنها كانت إذا ذُكِر لها الدوق دي مايلي يعبق وجهها إشارةً إلى أنها تهواه، وقد أنهى هذه القصة الملفقة بقوله: إن الدوق قد وصل إلى باريس مع امرأته وابنته منذ أمس.
فسُرَّ الدوق سرورًا عظيمًا وقام من مكتبه فكتب إلى الدوق سالاندريرا الكتاب الآتي:
سيدي الدوق
إني أكتب إليك هذا الكتاب وفي يقيني أن الكونتس أرتوف قد كتبت إليك عن القربى التي تصل بيني وبينك، وهو ما أرجو بعده أن تسمح لي بزيارتك لأوقفك على حقيقة هذا النسب الجديد.
الدوق دي مايلي
ثم أعطى هذا الكتاب لزامبا وقال له: أسرع به إلى الدوق، وائتني بالجواب.
فأخذه زامبا وانطلق به مسرعًا إلى روكامبول في منزله السري، فاطلع عليه روكامبول وقال له: يجب أن تجري مع ابنة الدوق على ما علمتك، ثم يجب أن تحرق ذاك الدفتر الذي أعطته باكارا للدوق دي مايلي، فإنك تعلم أين خبَّأه سيدك.
– نعم، فإنه وضعه في صندوق خشبي صغير، يضعه عادة فوق طاولة الكتابة.
– إذن، فاذهب الآن إلى الدوق الإسباني بجوابه، وارجع إليَّ لأخبرك ما يجب أن تصنع، ولا تَنْسَ ابنة الدوق.
فذهب زامبا تاركًا روكامبول ينتظر عودته إلى منزل الدوق الإسباني، فطلب إليه خادم الغادة الإسبانية أن يستأذن له مولاته بمقابلتها، ففعل وأذنت له، فدخل ورأى عندها وصيفتها، ونظر إليها نظرة فهمتها ابنة الدوق فصرفت الوصيفة، وعندها وقف زامبا أمامها موقف الخشوع والاحترام وقال: أتأذنين لمجرم أن يسألك العفو والرحمة؟
ثم ركع أمامها فقالت مندهشة: أي ذنب ارتكبته؟
– إني خنتك يا سيدتي.
– كيف تستطيع خيانتي وما أنت بخدمتي؟
– ذاك أني كنتُ خادمًا للدون جوزيف وقد جعلني رقيبًا عليك، لا تأنفي من النظر إليَّ يا سيدتي فإن الخيانة عظيمة، ولكني كنتُ مخلصًا لمولاي وقد وجب له عليَّ الخضوع.
– أراقبتني؟
– أجل وإذا سمحت لي سيدتي أخبرتها كيف كان ذلك.
– تكلَّمْ.
– إن الدون جوزيف كان يعلم أنكِ لا تحبينه، وأنكِ لم ترضي به خطيبًا إلا امتثالًا لإرادة أبيك، ثم إنه كان يعلم أو كان يظن بأنك تهوين سواه فعهد إليَّ أن أراقب الطريق في جوار المنزل؛ لأنه كان يعتقد أنك قد تكونين تهوين الدوق دي مايلي.
فظهرت على وجه الفتاة علائم الاشمئزاز، غير أن زامبا لم يكترث لذاك وأتم كلامه قائلًا: بينما كنتُ ليلةً أراقب حسب عادتي، رأيت رجلًا دخل من باب الحديقة وقد قاده خادمك إلى داخلها.
فغضبت وقالت: اسكت أيها الشقي، كفى!
– ألتمس من سيدتي أن تسمع حديثي إلى نهايته، فقد تصفح عني متى علمت كل شيء. وإني رأيت هذا الرجل فأقام ساعة وخرج منها يسبقه خادمك كما دخل.
فاصفرَّ وجه الفتاة وقالت: أعرفت الرجل؟
– كلا، ولكنه لم يكن الدوق دي مايلي.
ولما رأى زامبا أنها تنهَّدَتْ تنهُّد الفرج تابع: فأخبرت الدون جوزيف في اليوم التالي بما شاهدت فقال: ما دام ذاك الرجل هو غير الدوق الذي أكرهه كرهًا لا يُوصَف فلا أخاف مزاحمًا، غير أني آمرك أن تراقبه وتعرفه، غير أن الدون جوزيف قُتِل في اليوم الثاني ولكن …
ثم توقف عن الكلام فقالت: أتم حديثك.
– ولكني عرفت الرجل الذي قتل سيدي وسأنتقم منه شر انتقام.
فاصفرَّ وجه الفتاة وخشيت أن يكون واقفًا على حقيقة السر، فقالت: مَن هو القاتل؟
– هو الدوق دي مايلي يا سيدتي.
فكادت الفتاة تقول له: كلا ليس هو القاتل!
ولكنها خشيت عاقبة هذا الإنكار، وأن يعلم هذا الخادم أنها واقفة على سر القتل، فأطرقت برأسها إلى الأرض وسكتت، فقال زامبا: إني حين أيقنت أن الدوق قتل سيدي أقسمت أن أنتقم منه؛ ولذا ترينني جاثيًا على ركبتي أمامك.
فذهلت وقالت: إنك لم تخدعني في شيء أيها الرجل، فإنك خدمت سيدك، ولا أعلم عن أي خطأ تريد مني أن أصفح عنك.
– سيدتي، إني تجاسرت على تزوير كتاب توصية لي إلى الدوق دي مايلى، كي أتمكن من الدخول في خدمته.
– أقَبِلَ أن يستخدمك؟
– أجل، وأنا الآن خادم غرفته.
فاشمأزت وحاولت أن تطرده، ولكنها فكَّرت أن ذاك الرجل مضطلع على بعض سرها، وأنه رأى رجلًا يدخل إليها من الحديقه، فسكتت هنيهة دون أن تجيبه بشيء، ثم قالت: حسنًا، إني لا أنكر ذاك الكتاب، إنما قُلْ لي ماذا تريد أن تصنع بالدوق؟
– أريد أن أنتقم منه وأمنعه عن القران بك.
فوجف فؤادها وقالت: ألعله لا يزال يفتكر بي؟
– بل إنه لا يشغله شاغل عنك، ولا يحلم إلا بقرانك، وإذا أذنت لي يا سيدتي أن أتمادى بالكلام أظهرت لك من دناءة هذا الرجل ما ينفر منه كل طبع شريف.
– قُلْ.
– إن الكونتس أرتوف وذاك الدوق قد اتفقا من ثمانية أيام على طريقة تسهِّل للدوق أسباب الزواج بك، وذلك قبل نكبة الكونتس الأخيرة.
– أيه نكبة تعني؟
– الحق أنت لا تعلمين شيئًا لأنك كنت مسافرة، وحكاية هذه النكبة أن زوجها علم بأنها تخونه مع شاب يُدعَى رولاند دي كايلت، فاتفقا على المبارزة، واشتهرت الفضيحة في جميع باريس، غير أن المبارزة لم تحدث لأن الكونت أرتوف أُصِيب بالجنون في ساحة القتال.
فأجفلت الفتاة لأنها كانت تعتقد أن باكارا مثال الصلاح، وقالت: ما ذاك الأمر الهائل؟
– أصغي إليَّ يا سيدتي، فستعلمين من أحوالها ما هو أشد منه، فإن هذه المرأة كانت مرتبطة أشد الارتباط مع الدوق دي مايلي كما يظهر، وقد أتت إلى منزله من ثمانية أيام، وكنتُ أنا في الغرفة المجاورة للغرفة التي كانت فيها مع الدوق بحيث سمعت بعض حديثها، فإنها حين دخلت جلست قربه دون كلفة، وقالت له: لقد خطر لي اليوم خاطر عجيب، وهو أن أجعلك دوقًا إسبانيًّا.
– لقد حاولتِ هذا الأمر مدةً فلم تنجحي.
– ذاك لأن الدون جوزيف كان في قيد الحياة، أما وقد زال هذا الحائل الآن، فقد خطر لي خاطر غريب، وهو أن أجعلك من أنسباء الدون سالاندريرا، وذلك أني أُلفِّق حكاية سرية عائلية، بلسان عمك المقيم في روسيا.
ثم اقتربت منه وجعلت تكلِّمه بصوت منخفض، فلم أَعُدْ أسمع شيئًا.
فارتاعت ابنة الدوق لما سمعته من هذه الأسرار ولم تُجِبْ بشيء، فقال لها زامبا: إذا كنتِ تثقين بي يا سيدتي، فإني أفضح هذا الدوق أعظم فضيحة.
وعند ذلك دخلت الوصيفة وقالت لزامبا: إن سيدي الدوق يأذن لزامبا بالذهاب إليه.
فانحنى زامبا أمام ابنة الدوق وقال لها: سترينني مرة أخرى.
وذهب بكتاب مولاه إلى الدوق، فأخذ الدوق الكتاب منه وقرأه مرارًا وهو يظهر العجب والاستغراب؛ لأنه لم يفهم شيئًا، وبعد ذلك أرسل إليه الكتاب الآتي:
سيدي الدوق
لم يصلني كتاب من الكونتس أرتوف كما تقول، وقد يكون كتابها قد أُرسِل إلى إسبانيا، ثم يعود إليَّ منها إلى باريس، وفي كل حال فإني لا أعلم أي قرابة تعني، وأنا أنتظرك في منزلي للوقوف منك على هذه التفاصيل.
الدوق ساندريرا
فأخذ زامبا هذا الكتاب وانطلق به إلى روكامبول الذي كان ينتظره، فلما قرأه قال له: هل كان الدوق دي مايلي لابسًا ثيابه حينما تركته؟
– كلا، بل كان بلباس النوم.
– أين يضع مفاتيحه عادة؟
– على مائدة الكتابة.
– اذهب إذن وأعطه هذا الكتاب واغتنم فرصة انشغاله بتلاوته ولبس ثيابه؛ فاسرق المفاتيح، حتى إذا شاء أن يأخذ الدفتر لا يجد مفتاح الصندوق الموجود فيه، فيذهب إلى الدوق ويعده بإطلاعه عليه, وبعد ذهابه تحرق الدفتر والصندوق, ثم تضع النار في جميع أثاث غرفته وتخرج فتصبح النار؛ كي لا يشك بك ويعلم أن احتراق الدفتر كان قضاء وقدرًا.
– فهمت كل شيء وسأمتثل لكل ما تريد، ثم تركه وانصرف مسرعًا بالرسالة إلى مولاه.
وكان الدوق دي مايلي ينتظر زامبا بفارغ الصبر، فلما عاد إليه بكتاب الدوق اضطرب وقال: أسرع بإعداد ملابسي وقُلْ للسائق يعد المركبة، ثم دخل إلى غرفته فلبس ثيابه بسرعة، فسرق زامبا المفاتيح في خلال ذلك، غير أن الدوق لم يفطن للمفاتيح والدفتر، بل ركب مركبته وأمر السائق أن يسرع به إلى منزل الدوق الإسباني، فخلا الجو لزامبا وأخذ صندوق مولاه فسرق ما فيه من الأوراق المالية وأخذ الدفتر فألقاه في المستوقد، وأضرم النار في الصندوق وفي ستائر الغرفة وأثاثها، ثم أقفل باب الغرفة وخرج إلى حيث كان يقيم الخدم، فجعل يحادثهم مطمئنًّا نحو ربع ساعة إلى أن تصاعد الدخان وعلموا باحتراق غرفة الدوق، فأسرع بعضهم إلى إطفائها، وهرع آخرون لإخبار رجال المطافئ وفي مقدمتهم زامبا.
أما الدوق دي مايلي فإنه لما وصل إلى منزل الدوق الإسباني استقبله خير استقبال، فأخبره الدوق دي مايلي بجميع ما عرفناه من نسبه الجديد، فأظهر الدوق الإسباني دهشًا عجيبًا وسُرَّ سرورًا عظيمًا للنبأ، غير أنه بقي مشككًا لعدم وجود أثر له في أوراق فانتير، فقال: إني أخشى أيها الدوق أن تكون منخدعًا، وحبذا لو أطلعتني على كتاب قريبك الروسي.
– إن ذلك سهل ميسور فإن الكتاب في منزلي، ثم أستأذنه وخرج لإحضار الدفتر، فلم يَطُلْ غيابه وعاد مصفرَّ الوجه وعلائم الاضطراب الشديد بادية عليه، فذعر الشيخ لهيئته وقال: ما أصابك؟
– ذهبت إلى منزلي لإحضار الدفتر فرأيت النار ملتهبة فيه، ورجال المضخات يشتغلون بإطفائه، فلم يحترق منه غير تلك الغرفة التي وضعت فيها ذلك الدفتر.
وكان الصدق باديًا في لهجته، فطيَّبَ الدوق خاطره وقال: لا بأس من احتراق الدفتر، فإن عمك الروسي لا يزال على قيد الحياة، وهو سيرسل إليك سواه.
– بل إني أنتظر منه ما هو خير من ذلك؛ أي الأوراق المثبتة هذا النسب، ويسوءني أن الرسول قد أبطأ، فقد كان ينبغي أن يكون هنا منذ يومين.
– لا بد له أن يحضر، فأقام عنده ساعة وكانت الفتاة حاضرة اجتماعهما، فلما انصرف ودَّعَه الدوق الإسباني إلى الخارج وقال له: متى وردت هذه الأوراق أَسْرِعْ وأخبرني بها.
ولما خلا الدوق بابنته أخبرها بحديث الدوق وقال لها: إذا ثبتت هذه الأوراق كنت من أسعد البشر، وكنتِ امرأة ذاك الدوق.
فظهر النفور منها وأوشكت أن تبوح بما حدَّثها به زامبا، غير أنه دخلت إحدى الزائرات فكفتها مئونه الإباحة؛ لأنها أخبرت الدوق الإسباني وامرأته بحكاية باكارا وجنون الكونت أرتوف.
فأجفل الدوق للحكاية الغريبة وبدأ الظن بالدوق دي مايلي، وحسب لعلاقته مع باكارا ألف حساب.
أما ابنة الدوق فإنها دعت إليها روكامبول وأخبرته بجميع ما جرى، وحكت له حكاية زامبا، فطيَّبَ خاطرها وقال: إذا كان ما قاله زامبا صحيحًا، فلا بد لي من إظهار خداع ذاك الدوق.
٣١
وَلْنَعُدِ الآن إلى فانتير الذي أرسله روكامبول لسرقة كتاب باكارا إلى الدوق من البريد الإسباني، فإنه بعد أن تمكَّنَ من سرقة ذاك الكتاب وعاد به إلى باريس، جعل يفكر بأمره ويقول في نفسه: إن روكامبول لا يدفع عشرة آلاف فرنك في سبيل الحصول على ذاك الكتاب إلا إذا كان يتضمن سرًّا عظيمًا يعود عليه بفائدة تساوي أضعاف هذه القيمة.
فخطر له أن يفتحه وهو في المحطة، ولكنه ذكر أندريا، فوجف فؤاده من الخوف، وجعل يتردد في أمر فتحه وهو سائر إلى منزله حتى بلغ إليه ودخل إلى غرفته، فدهش لأنه رأى امرأة ممددة في سريره.
فلما شعرت المرأة بوقع أقدامه انتبهت جالسةً في السرير، فصاح فانتير مندهشًا: مدام فيبار، كيف أنتِ نائمة في سريري؟ ومن أين أتيت؟
– إني آتية من نهر السين، وقد قمت من بين الأموات؛ إن روكامبول ذاك الشقي الخائن الذي ربَّيْتُه وأحسنتُ إليه إحسان الأمهات قد ألقاني في النهر، وهو يحسب أنه أماتني خنقًا، فلما سقطت فيه أسرع إليَّ بحارة كانوا يصيدون في قارب فأنقذوني، فكتمت أمر روكامبول وجئتُ أختبئ في دارك كي لا يشك في موتي؛ لأني أريد أن أضربه الضربة القاضية.
– أنت تقولين ما لا تفعلين، فإنك لا تلبثين أن تريه حتى يعاودك الحنو وتنسي جميع إساءته إليك.
– كلا، فلقد ذهب كل حنو من قلبي بعد ما لقيته من خيانته، لا سيما وأنه حسن الحال، فقد رأيته متختمًا بالماس، وعليه دلائل الثروة الواسعة، لا شك أنه مُقدِم على أمر عظيم، وقد خشي مني حين رآني عرفته.
– أحادثته؟
– بلى، فلقد ذكر لي أنه عاد بثروة واسعة من لوندرا، وأن أندريا قد مات.
فقاطعها فانتير، وقد بدت على وجهه ملامح السرور وسألها: أقال لكِ إن أندريا مات؟
– نعم.
فأطرق فانتير هنيهة ثم قال: لا بأس، فسنجد طريقةً للانتقام منه، والآن فاطمئني لأن لدينا ما ننفق مدة طويلة، وخذي الآن فاشتري لنا ما نأكله فإني أكاد أموت جوعًا.
ولما خلا المكان بفانتير قال في نفسه: إن أندريا قد مات وروكامبول لا أخافه، فلأفتح هذا الكتاب فقد يكون لي منه خير جزيل.
ثم فتح الكتاب وقرأ فيه جميع ما كتبته باكارا إلى الدوق الإسباني، ففكَّرَ في نفسه: يظهر أن باكارا تريد تزويج الدوق دي مايلي بابنة الدوق سالاندريرا، وأن روكامبول يريد منع هذا الزواج بدليل اهتمامه بسرقة الكتاب، وأنه لا شك باذل جهده بالحصول على الأوراق التي تثبت حقيقة نسب الدوق دي مايلي وقرابته من الدوق الإسباني، ولا يبعد أن يكون روكامبول قد تقمَّصَ كونتًا أو مركيزًا، وأنه يريد الزواج بابنة هذا الدوق؛ إذن فإن الحرب ستكون شديدة بين باكارا وروكامبول، أما أنا وقد وقفت على هذا السر فإلى أي الفريقين أنضم؟ لنبدأ بروكامبول، فإني لو ختمت هذا الكتاب وعُدْتُ به إليه، فإنه لا يعطيني إلا بقية العشرة آلاف فرنك، هذا إذا لم ينتبه إلى أني فتحت الكتاب، وإذا انتبه فلا يعدم وسيلة يتمكَّن بها من قتلي بعد أن يعرف أني اطِّلَعْتُ على سره.
وأما باكارا، فإنها قد تكون جاهلة عودة روكامبول، وأنه يحاول الانتقام منها، فإذا انضممت إليها وأطلعتها على السر، فقد أكسب منها ثروة تغنيني عن هذه الأعمال الشائنة.
ولما رأى أن كفة باكارا قد رجحت، وضع الكتاب في جيبه، وعند ذلك عادت مدام فيبار فأكل معها وتركها على أن يعود قريبًا، ثم ذهب توًّا إلى منزل الكونت أرتوف، وسأل بواب المنزل عنه فعلم فانتير منه نكبة باكارا وجنون الكونت، وقنط قنوطًا شديدًا لذهاب آماله أدراج الرياح وفكَّرَ في نفسه: لا بد أن يكون لروكامبول يد في جنون الكونت وحادث باكارا.
ثم قال في نفسه بعد الإمعان الشديد: إنه إذا كانت باكارا مسافرة، فخير لي أن أرى الدوق دي مايلي نفسه وأُطلِعه على ذاك السر.
ولكنه رجع عن هذا العزم وقال: إني أنفقت العمر وأنا أشتغل لغيري، فَلْأشتغل الآن لنفسي؛ لأن هذا الدوق قد يعلم مني السر، ثم ينفحني بقليل من النقود لا يسد عوزًا ولا يغني من فقر.
وعند ذلك دخل إلى قهوة في الشارع الذي كان فيه، وخطر له أن يبدأ بالكُمُون أمام منزل الدوق سالاندريرا؛ كي يعلم إذا كان روكامبول يزوره، ثم أخذ جريدة وجعل يقرأ فيها فأصاب نظره إعلانًا مفاده أن الدوق دي مايلي يحتاج إلى سائق إنكليزي لمركبته، فصفَّقَ بيديه سرورًا وقال: هو ذا الصدفة قد بدأت تخدمني، فإني أعرف اللغة الإنكليزية كأبنائها، وقد احترفت هذه المهنة عشرة أعوام، فَلْأذهب الآن إلى الدوق، وربما قُدْتُ يومًا مركبة عرسه.
ونهض في الحال وذهب إلى الدوق مايلي، بعد أن تنكَّرَ وتقلَّدَ الإنكليز، فعرض عليه خدمته وقَبِلَه على سبيل التجربة، فنزل فانتير إلى الإصطبل يفحص الجياد، وذهب الدوق في زيارته الخصوصية.
وبعد ذلك دخل زامبا غرفة مولاه وجلس فيها يتأوَّل بما صار إليه أمره، وفيما هو على ذلك إذ دخل عليه أحد خدم المنزل، فقال له: يوجد رجل على الباب يريد أن يراك.
– مَن هو ذاك الرجل؟
– لا أعلم!
ثم وصفه له، فعلم زامبا أنه سيده الحقيقي؛ أي روكامبول، وأمر الغلام أن يُدخِله في الحال، فجاء به الغلام وانصرف.
فلما خلا روكامبول بزامبا قال له: إني جئتكَ لأمرين خطيرين عندي؛ أحدهما أن تطرد السائس من الإصطبل، وتعيِّن السائس الجديد الذي سأرسله إليك.
– هذا سهل، فما أمرك الآخَر؟
– الثاني هو أن تستلفت أنظار الدوق حينما يعود إلى هذا الفصل المنشور بهذه الجريدة.
ثم أعطاه الجريدة، فأخذها زامبا وأجاب: وبعد ذلك؟
– بعد ذلك تنظر ما يكون من أمر الدوق بعد تلاوته هذا الفصل، وتأتي إليَّ فتخبرني بجميع ما يحدث.
ثم تركه وانصرف، فشيَّعه زامبا بملء الاحترام إلى الباب الخارجي.
وبعد هنيهة عاد الدوق فلقي زامبا وبيده الجريدة فسأله: ما هذه الجريدة التي بيدك؟
فتظاهَرَ زامبا بالاضطراب وأجاب: قد اشتريتها لكَ يا سيدي خاصةً؛ لأنها تتضمن مقالة عن تفصيل مقتل رجل في غابة سنارت، بين ميلين وباريس.
– ولماذا يهمني هذا القتل؟
– ذلك لأني أخشى أن يكون ذاك الرجل المقتول نفس الرسول الذي ينتظره مولاي الدوق من روسيا.
فاضطرب الدوق اضطرابًا شديدًا، وأخذ الجريدة وجعل يقرأ المقالة بملء الاهتمام.
وكانت خلاصة تلك المقالة أن هذا الرجل قُتِل بخنجر، وأن جثته عُرِضت في ليو سانت فلم يعرفها أحد، وأنه يوجد في صدره وعلى يديه وشم، وأنه كان قادمًا من روسيا، ولكنه لا يوجد في جيوبه من النقود مما يظهر على أن اللصوص قتلوه.
فلما أتم الدوق تلاوتها تأمَّلَ برهة ثم قام إلى مائدة الكتابة، فكتب إلى الدوق الإسباني ما يأتي:
لا أعلم كيف أحاطت المصائب بهذه الأوراق التي أنتظر ورودها من أودسا؛ لأني حين عدت إلى منزلي قرأت في جريدة المحاكم أن رجلًا قُتِل في غابة سنارت، وأخشى أن يكون رسولي؛ ولذا فإني مسافر إلى ليو سانت حيث تُعرَض الجثة الآن، وأرجو في كل حال أن أعثر على هذه الأوراق وأرسلها إليك غدًا صباحًا؛ لأني مسافر وأعود دون أن أتوقف.
ثم ختم الرسالة وأعطاها لزامبا قائلًا: اذهب بهذه الرسالة إلى الدوق.
ثم ركب جوادًا من الإصطبل وانطلق يعدو به إلى روكامبول.
أما فانتير فإنه صعد إلى الدوق فرآه على أشد حالة من الاضطراب وبيده جريدة المحاكم، فحفظ اسم الجريدة ووقف ينتظر أمر مولاه، فقال له الدوق: تأهَّبْ للسفر في الحال إلى ليو سانت.
فامتثل فانتير وخرج، فأمر السائس أن يعدَّ المركبة، وأسرع إلى بائع جرائد بالقرب من القصر، فاشترى منه تلك الجريدة وقرأ فيها تلك المقالة، فقال في نفسه: إن يد روكامبول منغمسة في هذا الدم المسفوك دون شك، وهو الفصل الثاني من الرواية؛ لأني أنا مثَّلْتُ الفصل الأول بسرقة الكتاب، وهو مثَّل الفصل الثاني بسرقة الأوراق.
وبعد هنيهة أقبل الدوق وكانت المركبة قد أُعِدَّتْ، فركب بها وأمر السائق أن يسير، حتى إذا مر بمنزل الكونت أرتوف أوقفه ودعا البواب إليه وسأله: أعرفت الرسول الذي بعثَتْه الكونتس إلى روسيا؟
– أجل، وهو لم يَعُدْ إلى الآن.
– أتعرفه جيدًا؟
– أجل، إني أعرفه منذ عشرة أعوام، وأنا أدخلته في خدمة الكونت.
– أرأيت صدره عاريًا في مدة عشرتك له؟
– أجل رأيته مرات كثيرة وفيه كثير من الوشوم، وعلى جنبه الأيسر وشم آخَر يمثِّل رجلًا عاريًا إلى وسطه وهو يحمل مدفعًا بيديه.
فاكتفى الدوق بما سمع وأمر فانتير أن يواصل السير، فما زال يسير حتى وصل إلى ليو سانت بعد منتصف الليل، فدخل إلى فندق وسأل صاحبه عن الجريمة التي حدثت وعن المكان الذي عرضت فيه الجثة، فذهب به يدله عليها وذهب فانتير في إثرهما.
فلما رآها الدوق وفحصها رأى ذلك الوشم الذي أخبره به بواب منزل الكونت أرتوف، فأيقن أنه رسوله ووقف وقفة الحائر المضطرب، وهو لا يعلم إذا كان هذا القتل بسبب الأوراق أم أنه كان من قبيل الاتفاق، غير أن فانتير لم يدع له وقتًا لإطالة التمعُّن، فإنه ما أوشك أن نظر الجرح حتى عرف الخنجر، فدنا من الدوق وقال له بالإنكليزية: لقد عرفتُ الجرح وعرفت السلاح.
فارتعش الدوق وحاول أن يسأله، غير أن فانتير أوقفه بإشارة وخاطبه بصوت منخفض: لا تقل كلمةً أمام هؤلاء الحراس.
ثم خرج الدوق وفانتير، فقال فانتير: لم يَعُدْ لنا شغل في المكان فَلْنَعُدْ إلى باريس. فأجفل الدوق من لهجة فانتير؛ إذ كان يكلِّمه بدون كلفة، ونظر إليه نظرة المستغرب، فقال فانتير: لا يستاء مولاي أني أكلمه بهذه اللهجة، وإذا أَذِنَ لي أن أكلِّمه بحرية وأراد أن ينسى هنيهة أني سائق مركبته، إنه لا يندم عمَّا فعل.
– إذن تكلَّمْ.
– ليس هنا يا سيدي؛ فإن الحديث يطول. فزادت دهشة الدوق ومشى أمامه إلى المركبة.
ركب فانتير بإزائه وسارت بهما المركبة يقودها الدوق، فبدأ فانتير الحديث وتكلَّم باللغة الفرنسية، قال: لم يَمْضِ عليَّ ليلة في خدمتك بعدُ، ومع ذلك أني أعرف سرك وأول ما أبدأ به هو أنك عاشق لابنة الدوق سالاندريرا.
فقال له الدوق بعظمة: ماذا تقول؟
– ليعلم مولاي أننا نسير في ظلام ليل دامس، فإذا كلَّمَني دون كلفة فلا يجد مَن يؤاخذه؛ إذ لا يجد مَن يراه، ولو سمح لي أن أتكلَّم لشرحتُ له حقيقة موقفه، وربما فرجت أزمته الحاضرة.
– قُلْ ما تشاء.
– قلتُ لك يا سيدي إنك تعشق الغادة الإسبانية.
– هذا أكيد.
– وإن الكونتس أرتوف التي كانت تُدعَى من قبلُ باكارا خطبتها لكَ فرفض أبوها.
– وهذا أكيد أيضًا.
– ولكن باكارا عرفت بعد ذلك قريبًا لك في روسيا، فعرفت منه أنه يوجد قربى بينك وبين الدوق سالاندريرا.
فزاد انذهال الدوق وقال: كيف عرفتَ جميع هذا؟
– من الكتاب الذي أرسلته باكارا إلى الدوق الإسباني، فوصل إليَّ قبل أن يصل إليه، وهو لا يزال معي.
فذعر الدوق وقال: كيف هذا؟ ومَن أنت أيها الرجل؟
– إني يا سيدي ذاك الرجل الذي سينقذك من خطر عظيم، فعندك أعداء لا تعرفهم جعلوا أقصى مرادهم أن يحولوا دون زواجك بابنة الدوق.
– مَن هم أعدائي؟
– ستعرفهم بعد حين، وأرجو أن تكتفي الآن بأن تعلم بأنهم هم الذين سرقوا كتاب باكارا، وهم الذين قتلوا الرسول القادم من روسيا وسلبوه الأوراق.
فغضب الدوق وقال: أتعرف هؤلاء الأسافل وتشاركهم في سرقة الكتاب، ثم تدخل في خدمتي؟
– إني ما دخلتُ في خدمتك وما تنكَّرْتُ بهذا الزي الذي تراني فيه إلا لأفضح أمرهم، إنهم أشداء يجب معهم الحرص الشديد.
– وأية غاية لك من فضيحتهم بعد أن كنتَ في عدادهم؟
– لا غاية لي غير أن أحصل منك على مكافأة تغنيني في مستقبل أيامي عن مثل هذه الأعمال الشائنة، واعلم يا سيدي أنك الآن لا تعلم سوى أن لك أعداء، ولكنك لا تعرف شيئًا من أمرهم، ولا تدري كيف تتقيهم، فإذا كنت لا أخلص في خدمتك فإنك لا تتزوج ابنة الدوق، على أنك إذا عملت بما أقوله لك واتبعت مشورتي فلا بد لك من الزواج.
– قُلْ ما تريد أن يكون جزاؤك؟
– قبل أن أعيِّن المال أسأل مولاي أن يتعهد لي بإبقائي في خدمته سائقًا لمركباته، وأن لا يعلم أحد من الناس بما يدور بيني وبينك، وأن تتبع مشوراتي، وأن لا تسألني أقل سؤال عما أجريه.
– إني أتعهد لك بجميع ذلك.
– إذن فَلْنبحث بأمر الجزاء، اعلم يا مولاي أني كهل قد ناهزت الخمسين، وقد فطرت على الكسل بحيث لا أستطيع احتمال تعب الأعمال، فأنا أطلب من مولاي إيرادًا سنويًّا قدرة ٢٦ ألف فرنك.
– أي إنك تريد خمسمائة ألف فرنك.
– هو ذاك يا سيدي، غير أني لا أقبض منك فرنكًا قبل ليلة زفافك، فإذا بلغت مرادك من هذا الزواج دفعت لي هذا المال، وإلا فإني لا أُطالِبك بشيء.
– لك ما تريد على شرط أن ترجع لي الأوراق المسروقة.
– سأجدها.
– كيف ذلك؟
– ليذكر مولاي ما تعهَّدَ به، فإذا كان يريد أن يصل إلى نتيجته المطلوبة فلا يسألني عن شيء.
– ليكن ما تريد، ولكني أسألك مسألة واحدة فقط، وهو أيطول الزمن الذي تجد فيه هذه الأوراق؟
– لا أستطيع أن أعيِّن الزمن، غير أنه لا يقل عن أسبوع.
وهنا انقطع الحديث إلى أن بلغت المركبة إلى مكان تظهر منه مياه نهر المارن على أشعة القمر، فقال فانتير: انظر إلى هذا النهر يا سيدي، فإن أحد أعدائك أُلقِيَ فيه ضمن كيس منذ خمسة أعوام، ولكنه مزَّق الكيس بخنجره قبل أن يبلغ إلى العمق، وتمكَّنَ من النجاة، ومثل هؤلاء الأعداء الأشداء ينبغي معهم كل حذر، فإني ما أقدمت على مقاومتهم والانضمام إليك إلا وأنا مخاطر بحياتي أشد الأخطار.
٣٢
ولما وصلت مركبة الدوق إلى منزله كان جميع مَن في القصر نيامًا، فدخل فانتير إلى الإصطبل بعد أن قال للدوق: احذر من جميع مَن في منزلك.
– أأحذر من زامبا أيضًا؟
– منه على الأخص، فإن جميع ما أراه منه يحملني على الريبة به.
فتركه الدوق وصعد إلى غرفته، فرأى على مائدته كتابًا عرف أنه من الدوق الإسباني، ففضَّه للحال وتلا فيه ما يأتي:
سيدي الدوق
اضطررت إلى السفر سفرًا فجائيًّا مع عائلتي بضعة أيام، وإنه قد عرض لنا من الحوادث التي لا يسعني ذكرها ما يدعوني إلى الرجوع عن ذلك الاتحاد الذي نوينا على إجرائه، أرجوك لا تلح عليَّ بعدُ في هذا الشأن وأن تقبل احترامي.
الدوق سالاندريرا
وقد دعا الدوق الإسباني إلى قطع علائقة مع الدوق مايلي ما رآه من كذبه في أنبائه، فقد أخبره أن باكارا أرسلت إليه كتابًا فلم يصل الكتاب، وأخبره أن عمه أرسل له دفترًا حكى له فيه قصة اتصاله بعائلة سالاندريرا، فلما طلب إليه الاطلاع على هذا الدفتر قال له إنه احترق، وأخبره أخيرًا أنه أرسل رسولًا إلى روسيا ليحضر له الأوراق التي تثبت نسبه، ثم قال إن الرسول قُتِل، فدعت جميع هذه الأسباب مع ما عرفه أخيرًا من خيانة باكارا، وأنها كانت في سابق عهدها من بنات الهوى، إلى أن يرسل الدوق الإسباني هذا الكتاب إلى الدوق مايلي، أما ما أشار إليه في كتابه من أمر السفر، وهو أنه عازم على شراء أرض في ضواحي باريس من فابيان صهر روكامبول فهو حقيقي.
فلما اطلع الدوق مايلي على هذا الكتاب، ورأى أن قطع العلاقة ظاهر فيه لا يحتمل الشك؛ سقط الكتاب من يده لفرط تأثره، ولكنه ما لبث أن عاد إليه الأمل بفانتير، فأخذ الكتاب ونزل إلى حيث كان فانتير، فأشار إليه أن يدنو منه.
ثم لما خرجا من الإصطبل ناوله الكتاب دون أن ينبس بكلمة، فأخذه فانتير وقرأه، ثم جعل يتأمل الغلاف والختم بإمعان وقال: لا بأس، فلا بد أن تحين ساعة تعرف فيها الحقيقة، ولكني أرجوك أن تخبرني عن الذي أحضر لك هذا الكتاب.
– زامبا دون شك.
– إذن اعلم أن هذا الرجل يخونك، إن الكتاب قد فُتِح قبل أن يصل إليك، وهي حقيقة لا تخفى على مَن كان مثلي من أرباب المهنة، ولكنها تخفى عليك.
فأجفل الدوق وقال: أترى لأجل مَن يخونني؟
– لا أعلم، ولكني أرجح أنه يخدم أعداءك الذين سرقوا كتاب باكارا وقتلوا الرسول؛ لأن أعداءك لا يمكن أن يعلموا بكتاب باكارا، وبأنك تنتظر الرسول من روسيا إلا من رجالك.
– لقد أصبت. ثم خطر له في الحال إحراق غرفته وإحراق الدفتر فيها، فأيقن أن زامبا يخونه وقال: لا بد لي من طرد هذا الخائن وعقابه.
– كلا، بل يجب أن تبقيه.
– كيف أُبقِي هذا الخائن في منزلي بعد ثبوت خيانته؟
– نعم، ولو عشت مثلي بين أولئك الأشرار لعلمت الفائدة التي يمكن نيلها من عدو متستر وهو يحسب أنك واثق به.
– إذن افعل ما تريد.
– بل أنت افعل ما أقوله لك، اصعد الآن إلى غرفتك واجلس في سريرك، وعندما يدخل زامبا أَظْهِر أمامه أنك بأشد حالة من اليأس، وأنا أتكفَّل بالباقي.
– أَلَا أكتب للدوق الإسباني؟
– كلا.
– لكنه يسافر.
– ليسافر.
فاضطرب الدوق وقال: إني لا أفهم شيئًا من هذه الألغاز.
– لا ينبغي أن تفهم، فإني قد وضعت خطتي، وليعلم مولاي أن نفعي لا يكون إلا بزواجه.
فرجعت ثقته بفانتير وأجاب: لقد أصبت، افعل ما تشاء.
ثم تركه وانصرف فانتير لينام.
•••
وفي الساعة نفسها التي أحضر فيها زامبا كتاب الدوق الإسباني إلى الدوق دي مايلي المتضمن لقطع العلائق، كان روكامبول جالسًا أمام أستاذه أندريا يخبره بشأن الكتاب وبعزم الدوق الإسباني على السفر، فقال له أندريا بلوحه الحجري: لقد أحبطت مساعي الدوق، ولكنك لم تخبرني شيئًا عن فانتير، أَلَمْ يَعُدْ بعدُ؟
– كلا، فإن غيابه يشغل بالي.
ففكَّرَ أندريا هنيهة ثم تابع: إن هذا الرجل قد خاننا كما خاننا من قبلُ، ولكنه لا يستطيع أن يستفيد بشيء من الكتاب؛ لأن باكارا سافرت، على أنني أخشى أن يتصل إلى غيرها، وفي كل حال فإنه يجب أن نفرغ من أمر الدوق دي مايلي.
فارتعش روكامبول وقال له: أَلَا تقول لي شيئًا عن خطتك التي أنفذها كالآلة الصماء؟ وماذا تبغي من إدخالي سائسًا في إصطبل الدوق دي مايلي؟
– إني لا أقول لك شيئًا؛ لأنك لا تزال على غرور الصبى ولم تمرنك التجارب بعدُ، اكتفِ بتنفيذ أوامري.
– ليكن ما تريد، فماذا أفعل غدًا؟
– تتناول أولًا الطعام مع أختك وصهرك.
– وبعد ذلك؟
– تذهب وتتنزه.
– وبعد ذلك؟
– تتوجه إلى النادي وتسلي نفسك بالمقامرة.
– أراكَ تهزأ بي!
– هو ما تقول، ولكن بعد أن تعود من النادي وقبل أن تذهب لوداع ابنة الدوق، تعال إليَّ لأخبرك لماذا يحتاج الدوق دي مايلي إلى سائس مثلك في إصطبله.
فانصرف روكامبول ففعل كما أوصاه، وفي اليوم التالي عاد إليه وسأله: إني فعلتُ جميع ما أوصيتني به، فهل تقول لي الآن لماذا يحتاج الدوق إلى سائس؟
– أجل، فهل سمعت بهذا المرض الذي يسمونه «الجمرة الفارسية»؟
– إنه مرض قتال يصيب الخيل والأبقار فيفتك بها.
– وهو إذا أصاب الناس قتلهم أيضًا.
٣٣
لقد تركنا الدوق جاعلًا كل اعتماده على فانتير في أزمته التي ضاق صبره عن احتمالها، أما فانتير فإنه لما أصبح وحده جعل ينظر في موقفه ويقول: إن اثنين يتنازعان على هذه الغادة الإسبانية، وهما الدوق دي مايلي وروكامبول، ولكني لا أدري إذا كان روكامبول يشتغل لغيره أو لنفسه، فقد تعوَّدَ هذا الجسور أن يتقمص كل يوم في نفوس الكونتية والبارونات، وهنا السر، إذا كان يشتغل لنفسه فأي مركيز هو الآن؟ وماذا يُدعَى؟ وكيف لي أن أعلم ذلك؟ وإذا كان يشتغل لغيره فإني أبحث منذ يومين ولا أهتدي لشيء، ولا يعلمون أن أحدًا طلب ابنة الدوق غير الدوق دي مايلي، على أن مدام فيبار أخبرتني أنها رأت روكامبول قادمًا من الطريق المؤدية إلى منزل الدوق الإسباني، وأنه كان لابسًا أفخر لباس، إذن لا بد أن يكون قادمًا من ذلك المنزل حين رأته، وقد يتفق أن ابنة الدوق أحبته، وأنه يكيد هذه المكائد من أجل زواجها، وعلى ذلك لا بأس من أن أكمن له في تلك الطريق ليلتين أو ثلاثًا لعلِّي أهتدي إلى حل ذاك اللغز.
ثم قام لساعته فتنكَّرَ وذهب إلى الشارع الذي كان فيه منزل الدوق، فجعل يسير فيه ذهابًا وإيابًا وهو يراقب الباب، ولبث في مكمنه إلى منتصف الليل، فرأى رجلًا قدم إلى باب الحديقة ففتحه بمفتاح خاص ودخل وأقفله من ورائه، فقال فانتير: لا أعلم إذا كان هذا الرجل روكامبول أو سواه، ولكنه عاشق ابنة الدوق دون شك، وسنعلم مَن هو هذا المزاحم.
وبعد ساعة خرج الرجل نفسه كما دخل من باب الحديقة، فرأى فانتير أن رجلًا شيَّعه إلى الباب فمَدَّ الرجل — وكان روكامبول — يده إلى جيبه وأخرج منها نقودًا فأعطاها للرجل الذي شيَّعه، فسمع فانتير أن الرجل شكره ودعاه بمركيز، ثم أقفل الباب ومضى روكامبول في شأنه ذاهبًا إلى منزله السري، فدخل إليه وأوقد شمعة، فقال فانتير في نفسه: لقد عرفت الآن أين تسكن أيها المركيز وسنرى في أمرك، ثم صبر هنيهة إلى أن أُطفِئ النور، فحسب أنه دخل إلى سريره لينام، فذهب في شأنه، أما روكامبول فإنه أطفأ الشمعة وخرج من باب آخَر يؤدي إلى شارع آخَر غير الشارع الذي كان واقفًا فيه فانتير.
وفي اليوم التالي ذهب فانتير متنكِّرًا بملابس الخدم إلى منزل روكامبول السري، وقال للبواب: أين حضرة المركيز إني أحمل كتابًا له؟
– أي مركيز تعني؟ فليس في هذا المنزل مَن يُلقَّب هكذا.
– أريد به ذلك الشاب الذي يسكن في الطابق الأول.
– إنه يُدعَى المسيو فريدريك.
– لا بأس، فهو الذي أعنيه ألعله في منزله؟
– كلا، لقد سافر منذ ساعة، وهو لا يعود إلا بعد ثلاثة أيام.
وكان فانتير يكلِّم البواب ويفحص المنزل، فرأى أن له منفذين، فترك البواب وهو يقول في نفسه: لا شك أني أبله، لقد حسبت أمس أنه نام حين أطفأ الشمعة، ولكنه خرج دون شك من الباب الآخَر، فإن مَن يطمع بزواج ابنة الدوق سالاندريرا لا يسكن مثل هذا البيت الحقير، ولا يكون اسمه المسيو فريدريك.
•••
وَلْنَعُدْ إلى روكامبول، فإنه بعد أن أمر زامبا أن يطرد السائس من إصطبل الدوق مايلي، وبعد أن امتثل زامبا كما أمر، قَدِم روكامبول بزي سائس فأدخله زامبا في الخدمة بدلًا من السائس المعزول، فلما تقرَّر قبوله استأذن السائق وهو فانتير كي يذهب لإحضار ملابسه، فأذن له ولم يعرف أحدهما الآخَر لمبالغتهما في التنكُّر.
أما روكامبول، فإنه ذهب إلى منزله فغيَّرَ زيَّه وانطلق إلى أندريا فأخبره بما فعل، وسأله تعليماته فقال له: ينبغي عليك الآن أن تذهب إلى غرفتك فتأخذ دبوسًا غليظًا وتضعه في علبة، ثم تذهب في الصباح فتتنزَّه في جهة مونتفوكون.
فظن روكامبول أنه يهزأ به، فقطب جبينه وقال: ما علاقة الدبوس وتنزُّهي في هذه الجهة بدخولي في صفة سائس في إصطبل الدوق؟
– سوف تعلم، فإنك تذهب إلى تلك الجهة التي يلقون فيها الخيول المصابة بالجمرة الفارسية، ولا بد أن تلقى فيها جوادًا أُصِيب حديثًا بهذا الداء، فإذا عثرت به خذ الدبوس من العلبة وشكه ببطن الجواد، ثم أرجعه إلى العلبة واقفلها، واحذر أن يكون في يدك أقل خدش حين تمس هذا الدبوس المغموس بدم الجواد.
فبرقت عينا روكامبول وقال: أظن أني علمت مرادك.
– كلا إنك لا تعلم شيئًا فاسمع؛ إنك بعد أن تغمس الدبوس بدم الجواد المريض تذهب به إلى منزل الدوق دي مايلي.
– أأشك به الدوق؟
فهز أندريا رأسه هازئًا وأجاب: كلا، بل تشك به بطن الجواد الذي يفضله الدوق على سائر جياده.
– لماذا تريد أن يسري ذاك المرض إلى جواده دونه؟
فغضب أندريا وقال له بلوحه الحجري: قلتُ لك مرارًا لا تسألني عن شيء، بل اكتفِ بتنفيذ أوامري.
فأجاب روكامبول: إني لا أصفح عنك لاحتقارك لي، إلا إذا تزوَّجْتُ ابنة الدوق.
– إنك لا تُحرَم زواجها إلا إذا قُضِي عليَّ بموت فجائي، والآن اذهب لم يَعُدْ لي ما أقوله لكَ.
فذهب روكامبول ممتثلًا إلى تلك الجهة، فلقي جوادًا مصابًا بهذا الداء وغمس دبوسه بدمائه، ثم عاد مطمئنًّا فذهب إلى النادي وأقام فيه إلى أن حان موعد اجتماعه بابنة الدوق فذهب إليها، وأخبرته أنها مسافرة مع أبيها وأمها إلى قرية في جوار باريس؛ وذلك أن أباها يريد شراء أرض في تلك الضواحي.
– لقد عرفت هذا، فإن الأرض أرض صهري، وهو سيذهب معكم تصحبه أختي.
فسُرَّت سرورًا عظيمًا وسألت: إذن ستذهب معنا؟
– كلا، بل سأتبعكم بعد أربعة أيام؛ كي يكون صهري وأختي قد رشَّحَاني لخطبتك لدى أبيك وأمك، فقد علمَتْ أختي بسرنا.
ولبث العاشقان ساعة ثم افترقا، وفيما كان روكامبول عائدًا يسير على ضفة النهر، إذ رأى كثيرًا من الناس محتشدين في المكان الذي ألقى فيه مدام فيبار، فأسرع الخطى واختلط بين المحتشدين؛ فرأى أن فريقًا من البحارة مجتمعون حول فتاة أنقذوها من الغرق، فسأل أحدهم: ما شأن هذه الفتاة؟
– لا ندري، سوى أن هذا الأسبوع قد بات موسم الانتحار عند النساء، فإننا خلصنا الآن تلك الفتاة، ومن ليلتين خلصنا امرأة عجوزًا كانت مشرفة على الاختناق.
فأجفل روكامبول وسأله: وكيف انتحرت تلك العجوزة؟ وما هي صفاتها؟
– لقد قالت لنا إنها انتحرت لفقرها ويأسها، فجمعنا لها من النقود ما تيسَّرَ. ثم وصف له صفاتها فوجف قلب روكامبول، وأيقن أنها مدام فيبار، وقال في نفسه: إني لم أجهز عليها حين خنقتها لثقتي أنها ستموت غرقًا.
ثم أسرع إلى أندريا وكان نائمًا، فأيقظه وأخبره بما سمع عن مدام فيبار، فأطرق أندريا مليًّا ثم قال: ألم تعلم شيئًا عن فانتير إلى الآن؟
– كلا، وقد بِتُّ أخشى أن يلتقي بمدام فيبار وهي تعرفني إذا رأتني.
– لا بأس، إنك سوف تجدها؛ لأن الشارع الذي تقيم فيه غير متسع الأرجاء، والآن قُلْ لي أَذَهَبْتَ إلى مونتفوكون؟
– نعم.
– أَغَمسْتَ الدبوس بدماء الجواد المصاب؟
– نعم.
– إذن فاذهب الآن ونَمْ، وعند الصباح اذهب إلى إصطبل الدوق وشُكَّ دبوسك ببطن جواد الدوق.
وفي صباح اليوم التالي ذهب روكامبول بعد أن تنكَّرَ بزي سائس إلى إصطبل الدوق، وفعل ما أمره به أندريا.
٣٤
في الساعة العاشرة من الليلة نفسها كان فانتير كامنًا أمام منزل روكامبول السري، وفي جيبه حلقة علَّق بها عدة مفاتيح مختلفة، وبعض الآلات التي لا يستغني عنها اللصوص لفتح الأبواب، ثم جعل يخطر ذهابًا وإيابًا أمام ذلك المنزل يترقب غفلة بوابه للدخول إليه، بعد أن أيقن أن روكامبول قد سافر منذ الصباح كما أخبره البواب، إلى أن دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فوثق أن روكامبول قد سافر حقيقة؛ إذ لم يَعُدْ حسب عادته، واغتنم فرصةً موافِقةً فدخل إلى المنزل وفتح بابه بأحد المفاتيح التي كانت معه، ودخل فرأى الظلام سائدًا ولا أثر لوجود أحد في البيت، ولكنه قال في نفسه: لا بد أن يكون في هذا البيت خادم أو طبَّاخ.
فأخذ من جيبه شمعة فأشعلها، وأخذ بيده الأخرى غدارة وجعل يمشي على رءوس أصابعه فيفحص كل غرفة حتى تفقَّدَ جميع البيت، وأيقن أنه لا يوجد فيه أحد، فأضاء مصباحًا نقَّالًا وجده في غرفة المائدة وأطفأ شمعته، ثم قال في نفسه: لأبحث الآن عن هذه الأوراق التي تُثبِت نسب الدوق مايلي، لا بد أن يكون روكامبول قد خبَّأها في هذا المنزل.
وعاد يتفقَّد الغرف حتى بلغ إلى غرفة المكتبة، فلقي فيها صندوقًا ضخمًا، فعالجه حتى فتحه، وبحث فيه فوجد كثيرًا من النقود وأشياء مختلفة فلم يحفل بها، ولكنه لم يجد أثرًا للأوراق، فشغل قلبه وجعل يفتش في جميع الخزائن دون أن يعثر على شيء، حتى خطر له أن يفتش المكتبة، وقال في نفسه: إني أعرف كثيرين من الذين يخبئون الأوراق المالية بين صفحات الكتب، ولا يبعد أن يكون روكامبول فعل مثل ذلك.
فأخذ يفتِّش كل كتاب في المكتبة فيمسكه من طرفيه ويهزه فلا يسقط منه شيء، وفيما هو على ذلك إذ سمع صرير مفتاح في قفل الباب، فأقفل المكتبة في الحال وأطفأ المصباح، واختبأ وراء ستارة الغرفة، ثم سمع وقع أقدام في الرواق، ثم سمع احتكاك عود من الكبريت، فأُشعِلَتْ شمعة ودخل بها ذلك القادم إلى المكتبة وهو يغني، فعرف فانتير من صوته أنه روكامبول، وكان ينظر إليه من خلال الستارة وبيده الغدارة محشوة فحار في أمره؛ لأن صوته يدل على أنه روكامبول وهيئته لا تدل على شيء من ذلك؛ إذ إنه كان متقمصًا بهيئة المركيز دي شمري.
أما روكامبول فإنه وضع شمعته على المائدة وفتح المكتبة، فأخرج منها كتابًا ضخمًا أحمر الجلد، ففتح أول ورقة منه فتفقدها ثم أعاد الكتاب إلى محله، فقال فانتير في نفسه: لقد فتَّشْتُ الكتاب فلم أجد فيه شيئًا، ولا بد أن تكون الأوراق فيه، وقد تفقَّدَه ليطمئن على كنزه الثمين.
وبعد أن اطمأن روكامبول على الأوراق أطفأ الشمعة وخرج وهو يغني، فلما سمع فانتير إقفال الباب صبر هنيهة إلى أن تحقَّق بُعْد روكامبول، ثم أضاء الشمعة وأخرج ذلك الكتاب وهزه فلم يسقط منه شيء، فجعل يقلب صفحاته بيده صفحة صفحة، حتى وصل إلى الصفحة البيضاء في آخِره فرأى أنها ثخينة غير متناسبة مع أوراق الكتاب، فرقص فؤاده من الفرح، وأيقن أن الأوراق مخبوءة بين ورقتين.
وعند ذلك أخرج مدية رقيقة الشفرة من جيبه وحاول أن يفصل بينها، ولكنه خشي أن يخدشها، وخطر له أن لا يبقي أثرًا لسرقته، فأسرع إلى المطبخ وغلا الماء على النار حتى تصاعد بخاره، فوضع ورقة الكتاب فوق البخار هنيهة حتى سال غراؤه، ففصل الورقتين وأخرج من بينهما تلك الأوراق المثبِتة لنسب الدوق؛ وهي شهادتان مكتوبتان على ورق رفيع، فخفق قلبه سرورًا وهو يحسب أنه ملك زمام السعادة، وقرأهما حتى إذا أتمَّ قراءتهما وضعهما في جيبه، وأخذ ورقتين تناسبهما من الورق الأبيض ووضعهما بين صفحتي الكتاب بدلًا من الشهادتين، ثم ألصقهما بصمغ كان على الطاولة، وأعاد كل شيء إلى مكانه، وخرج من ذلك المنزل بعد أن أطفأ النور وبلغ منه ما يريد.
وكانت الساعة الأولى بعد منتصف الليل، فأسرع إلى قصر الدوق كي يعطيه الشهادتين، غير أنه لم يستطع أن يراه لأنه كان نائمًا، فقال في نفسه: لا بأس، فسأعطيه إياها في الصباح.
ودخل إلى الإصطبل ليتفقد الجياد، فرأى جوادًا نائمًا على الأرض والزبد يغطي شدقيه، فنادى أحد البيطريين وقال له: ماذا أصاب الجواد؟
فأجاب: لا أعلم؛ لأنه أُصيب بعارض فجائي منذ خمس ساعات، وهو يعض نفسه ولا يستقر على حالة، وقد أتى الدوق بنفسه فتفقَّدَه عدة مرار.
فدنا فانتير منه، وفحص الجواد فحصًا مدققًا دون أن يمسه بيده، فعلم أنه مصاب بالجمرة الفارسية، وقال: لا خير منه ولم يَعُدْ يصلح إلا للمجزرة.
وكان روكامبول قد شك بطن هذا الجواد بالدبوس الحامل لمكروب هذا الداء، كما ذكر القرَّاء.
•••
لنَعُدْ الآن قليلًا إلى ذِكْر ما حدث على إثر ذلك، فإنه بعد أن فعل روكامبول بهذا الجواد ما فعل قَدِم زامبا وأمر السائس — أي روكامبول — أن يُسرج للدوق جوادًا، فأسرج له في الحال الجواد المطعون، فركبه الدوق وذهب ليتنزه، وبعد ذلك دنا روكامبول من زامبا وقال: سِرْ بي إلى الغرفة التي يقيم فيها الدوق عادةً لكتابة رسائله.
فامتثل زامبا وسار أمامه حتى دخل إليها، فرأى طاولة للكتابة وأمامها كرسي ضخم مجلل بالمخمل، فقال: أيجلس على هذا الكرسي حين يعود؟
– نعم، وهي عادة مطردة له في كل يوم حين يعود من النزهة بهذا الجواد الذي حبَّه حبًّا عظيمًا، يدخل إلى هذه الغرفة فيجلس على هذه الكرسي ويكتب رسائله.
– أفي كل يوم يفعل هذا؟
– هي قاعدة باتت مطردة لديه لم يتحول عنها منذ عرفته.
– حسنًا، ثم أخرج من جيبه علبة ملأى بالدبابيس وجعل يشكها في أطراف الكرسي من الجهات التى تسند إليها الأيدي حتى فرغ، ثم خرج مع زامبا وعادا إلى الإصطبل.
وعند الظهر عاد الدوق من نزهته وجلس على كرسيه يكتب رسائل، فلما فرغ منها وضع يديه على طرفي الكرسي مستندًا عليها كي ينهض، فشكت الدبابيس يديه فصاح صيحة ألم، ثم نادى خادم غرفته زامبا وقال له مغضبًا: كان ينبغي أن تضع هذه الدبابيس في مكانها حين تفرغ من استعمالها لا أن تشكها في ساعدي الكرسي، فأطرق زامبا متظاهرًا بالخجل، ورأى أن كف الدوق قد خُدِش وجالت منه نقطة دم.
أما روكامبول بعد أن وثق من أن الدوق خُدِشت يده قال في نفسه: لم يَعُدْ لي ما أعمله في هذا المنزل الآن، فَلْأذهب للتفتيش عن مدام فيبار وعن فانتير فإنهما أصبحا خطرًا عليَّ، ثم خرج وذهب إلى داره وأقام فيه إلى أن أقبل الليل، فسار إلى منزل مدام فيبار فلم يجدها، ثم ذهب إلى المنزل الذي يقيم فيه فانتير فطرق الباب كمَن يستأذن في الدخول؛ لأنه كان مفتوحًا من الداخل، فسمع صوت مدام فيبار وهي في سريرها تقول: ادخل. فوَلَجَ وأقفل الباب من الداخل، ثم أسرع إليها وهي في سريرها وقبض على عنقها وهو يقول: أنا روكامبول فاحذري من أن تصيحي؛ لأني لا أريد بك سوءًا، بل أريد أن أتباحث معك. فلم تستطع العجوز أن تقول كلمةً لما تولاها من الرعب، فقال روكامبول: قلتُ لكِ إني لا أريد بك سوءًا، بل أريد لك كل خير، فقد ندمت لما ظهر مني من قبلُ وذكرت ما لك عليَّ من حق التربية؛ فأتيت أستغفر منك، إذا كنتِ لا تريدين أن أسيء إليك احذري من الصياح، وإلا قتلتك في الحال.
فحُلَّتْ عقدة لسانها وقالت: رحماك لا تقتلني.
فلطَّف روكامبول لهجته وقال: لا تخشي يا أماه وانظري إليَّ، أَلَا تجدين بين عيني ما يدل على الندم؟ وها أنا أرفع يدي عن عنقك، ولكني أحمل بيدي هذا المسدس واحذري من الصياح.
فهدأ روعها قليلًا وقالت: ماذا تريد مني بعد أن أردت قتلي وألقيتني في النهر؟
إنك تعلمين يا أماه أني أحبك حبًّا صادقًا، ولكنك حينما لقيتيني تلك الليلة ناديتني بصوت مرتفع وأنا الآن مركيز.
فصاحت العجوز منذهلة: كيف ذلك؟ أتكون مركيزًا ثم تترك أمك تعضها أنياب الجوع، بل تقتلها كي تتخلص منها؟
– بالله يا أماه لا تذكري لي تلك الجريمة فقد بكيت كثيرًا، ولا أزال كلما ذكرتك أبكي، ثم طوَّقَها بذراعيه وجعل يقبِّلها.
فحنَّ قلبها وقالت: إذن ندمت؟
– كل الندم.
– وبكيت أيضًا؟
فتهدَّجَ صوت روكامبول وقال وهو يجهش بالبكاء: نعم ولا أزال أبكي.
وكانت هذه العجوز التي عاشت بين الدماء والجرائم لا يحن قلبها إلا لروكامبول، ولا تحب سواه في الوجود؛ لأنها ربَّتْه وهو في المهد وتبنَّتْه فغذته بلبانها، فلما سمعت أقواله حملها حبها له على تصديقه وغلبها الحنو وبَكَتْ، فقال لها روكامبول: إذن فقد صفحتِ عني؟
فقبَّلَتْه بدورها وقالت: كل الصفح. والآن قُلْ لي هل أنت حقيقةً مركيز؟
– نعم، وفوق ذلك فإن ثروتي تُعَدُّ بالملايين.
– أرجعت عن العيش السابق؟
– وأي فائدة لي بعدُ من ارتكاب الموبقات وإني غني نبيل.
– أتحبني دائمًا؟
– لولا ذلك لما أتيتُ إليك، وسأهبكِ ثروةً تعيشين بها أرغد عيش مدى الحياة.
– إذن اسمع، إني سأحدِّثك بأمر هذا الخائن فانتير الذي يتعقبك ويحاول تسليمك للشرع.
ثم قصت عليه جميع ما عرفناه من أمر فانتير معها، وكيف أنه قدم منذ ثلاثة أيام، وفض ختم كتاب كان معه، وكيف أنه عاهدها على الفتك بروكامبول.
وكان مما قالته له إنه دخل سائقًا في منزل الدوق، فاضطرب روكامبول وذكر في الحال أن السائق الذي رآه في إصطبل الدوق دي مايلي يشبه فانتير بالقامة وضخامة البطن وتقاطيع وجهه بعض الشبه، وأنه رآه يعرج بالرجل اليمنى عرجًا خاصًّا بالذين يُحكَم عليهم بالليمان والقيد بالسلاسل، ثم ذكر أيضًا أن ذاك السائق لم يدخل في خدمة الدوق إلا منذ يومين، فأيقن أنه فانتير.
ولما أتمت العجوز حديثها قال لها روكامبول: لا بأس يا أماه، فسننظر في أمر هذا الرجل الذي يريد قتلي، فإذا جاء انتبهي من أن تقولي له شيئًا عني، بل تجاهلي أمامه أنك رأيتني، وكوني معه على ما يريده، والآن خذي هذه النقود واشتري بها خير ما تحتاجين إليه من اللباس، وسأشتري لك في هذا الأسبوع منزلًا كبيرًا تعيشين من إيراده مدى الحياة.
ثم أعطاها ورقة بنك قيمتها ألف فرنك وقبَّلها مودعًا، ثم وعدها أن يزورها في الغد وخرج وهو واثق منها.
وكان الليل قد انتصف فذهب توًّا إلى منزله السري حين كان فانتير فيه يبحث عن الأوراق، فلم ينتبه روكامبول إليه كما تقدَّم، وغادر المنزل فسرق فانتير الأوراق وذهب آمنًا كما قدمناه.
غير أن روكامبول قبل أن يصل إلى منزله خطر له أن يعود إلى منزله السري لبعض الشئون، فدخل إليه بعد خروج فانتير، وأشعل عودًا من الكبريت كي ينير به المصباح، فرأى أن المصباح في غير الموضع الذي تركه فيه، فأجفل وخطر له أن سارقًا دخل إلى البيت، فأخذ المصباح وأسرع إلى غرفة المكتبة فرأى نقطة ماء على المائدة، وهي من الماء الحار الذي استعان فانتير بحرارته على فتح صفحتي الكتاب، فطاش برأسه وأيقن من السرقة، فبادر إلى المكتبة في البدء وأخرج الكتاب الذي كان مختبئًا فيه الأوراق وفتحه، فرأى أثر الصمغ الذي فيه، ففتح الصفحتين وأخرج الورقتين اللتين كانتا بينهما، فإذا هما من الورق الأبيض وُضِعتا بدلًا من الشهادتين؛ فكاد يضيع صوابه من الغيظ، ولا شك أن السارق فانتير، ولا شك أنه سائق مركبات الدوق، والآن لم يَبْقَ لي غير رجاء واحد، وهو أن يكون الدوق نائمًا لئلا يصل إليه فانتير.
عند ذلك أسرع إلى غرفة الملابس وتنكَّرَ بزي السائس وانطلق — بعد أن تسلَّحَ بغدارتين وخنجر — إلى منزل الدوق دي مايلي، فلقي في الإصطبل فانتير واثنين من السياس منهمكين بشأن الجواد المصاب، وسمع فانتير يقول لأحدهما: إن الجواد مصاب بشر الأمراض، ولكني لا أدري كيف اتَّصَل به هذا الداء؛ لأنه لم يخرج من الإصطبل منذ يومين.
فوافقه السائس على استغرابه وقال له: ربما كان ذلك من صنع السائس الذي طردتموه أخيرًا، ففعل ما فعل بالجواد على سبيل الانتقام.
ولم يحفل فانتير بتعليله وأجاب: أأتى الدوق لتفقُّدِ الجواد؟
– نعم، إنه حضر مرتين في المساء.
– وهل مسَّه بيده؟
– جملة مرار؛ لأن الجواد لم يكن يأنس إلا به، فكان يمسح الزبد عن شدقيه بمنديله، ويمسح جلده بيده.
فارتعش فانتير وقال: ألَمْ يعضه؟
– بل كان يلحس يده بلسانه.
وكان روكامبول يسمع كل هذا الحديث فقال في نفسه: لا شك أن فانتير لم يقابل الدوق بعدُ، ولا شك أن أوراقي لا تزال معه، وفي ذلك الحين دخل زامبا إلى الإصطبل وسأل عن الجواد، فأجاب فانتير: إنه على وشك الموت، قُلْ لي أنام الدوق؟
أجاب زامبا: إن الدوق مريض.
– أهو الذي أرسلك لتسأل عن الجواد؟
– نعم.
– أيمكن أن أراه لأخبره بحقيقة أمره؟
– إنه في سريره، وسأسأله إذا كان يريد أن تذهب إليه.
ثم خرج من الإصطبل، ولما بلغ إلى الرواق رأى روكامبول قد تصدَّى له وأمره بصوت منخفض: اتبعني.
فامتثل وسار معه حتى اجتازا الرواق ولم يَعُدْ يراهما أحد، فخاطبه روكامبول: إذا لم تنفِّذ أوامري في الحال خسرنا كل شيء.
فأجفل زامبا وسأله: ماذا حدث؟
– حدث أنه إذا قابل هذا السائق الدوق، ذهبت أتعابنا أدراج الرياح!
– إن ذلك ميسور، سأعود إليه وأقول إن الدوق مريض لا يستطيع أن يقابل أحدًا.
– قُلْ لي كيف حاله؟
– إنه مصاب بحمى شديدة وقد تورَّمَتْ يده.
– أدُعِي إليه طبيب؟
– كلا.
فوقف روكامبول يفتكر هنيهة ثم قال له: إنه يوجد ثلاث غرف متسعة قبل غرفة الدوق، إذا تكلَّمَ أحد بصوت مرتفع في الغرفة الأولى أيصل كلامه إلى غرفة الدوق؟
– كلا، إن المسافة بعيدة.
– حسنًا، اصعد إلى مولاك وقُلْ له إن الجواد بحالة حسنة، ولا تذكر كلمة عن السائق، وخُذْ بي إلى الغرفة الأولى.
فامتثل زامبا وصعد أمامه السلالم حتى وصل إلى الغرفة، ففتح بابها وقال له: ادخل. فدخل روكامبول قائلًا: اذهب الآن إلى الدوق، وعُدْ إليَّ في الحال.
وبعد هنيهة عاد زامبا فخاطبه روكامبول: انزل إلى الإصطبل وقُلْ للسائق إن الدوق يريد أن يراه، واصعد به إليَّ وامشِ أمامه وبيدك شمعة منورة، فمتى دخلت إلى هذه الغرفة أطفِئ الشمعة وألقها إلى الأرض، ثم اقبض على ذراعه على هذا النمط كما أفعل بك الآن. وهنا علَّمَه كيف يقبض عليه، وتابَعَ: اذهبْ في الحال قبل أن تفوت الفرصة.
وانطلق زامبا مسرعًا فوجد فانتير ينتظر عودته بفارغ الصبر، فقال له: هلم معي لأن الدوق ينتظرك.
ولم يكن فانتير يعرف بعدُ مداخل القصر ومخارجه، فسار في إثر زامبا حتى دخل به إلى الغرفة التي كان فيها روكامبول، فأطفأ الشمعة وانقض عليه فقبض على ذراعيه كما تعلَّمَ، وفي الوقت نفسه، وقبل أن يتمكَّنَ من الصياح شعر بيد وُضِعَتْ على فمه، وخنجر وضع على عنقه، وسمع صوتًا منخفضًا يقول له: أنا روكامبول أيها الأبله، فإذا نطقت بكلمة فإنك مقتول.
٣٥
لما سمع فانتير صوت روكامبول وشعر بوخز خنجره في عنقه، وهت ركبتاه من الخوف، وضاع رشده حين أيقن بالخطر المحدق من حوله، فجعل يقول: بالله اعف عني ولا تقتلني.
أجاب روكامبول: اصمت ولا تَفُهْ بحرف.
وقال لزامبا: أمسكه جيدًا.
ثم عاد يخاطب فانتير بتهكُّم قائلًا: إن مَن كان لصًّا خائنًا مثلك فهو لا يخلو من السلاح.
وجعل يفتش في جيوبه وأخرج منها مسدسين، ثم أخرج من حزامه خنجرًا عرفه من قبضته، فقال له: إن هذا الخنجر لي وقد سرقته مني منذ ساعة، أما الآن وقد جردتك من سلاحك فَلْنتحدَّث قليلًا.
فعاد فانتير إلى التوسل والاستعطاف وهو يختلج من الرعب، فقال له روكامبول: إذا فُهْتَ بكلمة دون أن أأمرك بالكلام قتلتك في الحال. ثم خاطب زامبا: أطلق الآن إحدى يديه وخُذْ الخنجر وضعه بين كتفيه، وإذا بدرت منه حركة اقتله بسرعة.
ووضع روكامبول خنجره في فمه كي يستخدم كلتا يديه، ثم أخذ قماش الستائر ومزَّقه قطعًا طويلة وربط بها رجلي فانتير ويديه، وأخذ منديله فكمَّ به فمه كي لا يستطيع الاستغاثة، وبعد أن انتهى من جميع ذلك قال لزامبا: دَعْه الآن وأَنِر المصباح.
فلما أضاءه قال له: ضع المصباح على المستوقد، واقفل جميع الأبواب واذهب بسلام وانتظرني خارج الباب.
فامتثل زامبا وأقفل الأبواب وخرج.
ولما خلا المكان بهذين اللصين دنا روكامبول من فانتير وخنجره بيده، ففكَّ رباط فمه وقال بلهجة الهازئ المتهكم: يجب قبل كل شيء أن أخبرك بحقيقة الحالة؛ إن الدوق دي مايلي الذي لا بد أن يكون قد وعدك بمبلغ جزيل ثمن الرسالتين اللتين سرقتهما من عندي لا يستطيع أن يستفيد منهما بشيء؛ لأنه لم يَعُدْ له في الحياة غير ساعات معدودة؛ إذ إنه مصاب بالجمرة الفارسية كجواده، فخير لك أن ترد لي الرسالتين حالًا لتشتري بهما حياتك، ثم إني أخبرك أيضًا أن زامبا هو عبد لي يخضع لي في جميع ما أريده، ولهذا تراني أتصرَّف في المنزل كأنه منزلي، فإن لم تسلِّمني الأوراق التي سرقتها من عندي منذ ساعة أقتلك وأذهب في شأني، ولا خوف عليَّ من أحد؛ لأن زامبا وبوَّاب منزلي السري لا يعلمان مَن أنا.
أجاب فانتير: إنك مركيز.
ولما سمع روكامبول كلمة مركيز رفع خنجره وقال: قُلْ مَن أنا، أسرع وقُلِ اسمي إذا شئتَ أن تسلم من الموت.
فذعر فانتير لما رآه من اضطراب روكامبول وأجاب: مولاي عفوك، فإني أعلم أنك مركيز، ولكني لا أعرف اسمك.
فتنهَّدَ روكامبول تنهُّد المنفرج بعد ضيق وقال له: لقد عرفت ما أريد أن أعرفه منك، وما دمت تجهل اسمي فإنك تجهل منزلي، وعلى ذلك فإن الوقت فسيح أمامي وسأقتلك حينما أشاء.
فزاد اضطراب فانتير وقال: ماذا تريد مني؟
– الأوراق.
– خذها، إنها في بطانة صدرتي.
فظل روكامبول ماسكًا الخنجر بيده اليمنى، ومد يده اليسرى إلى بطانة صدرة فانتير وأخرج منها الأوراق، وبعد أن فحصها فحصًا مدققًا قال له: أتريد أن أبرهن لك عن أن دي مايلي لم يَبْقَ له غير ساعات معدودة في الحياة، انظر إليَّ.
ثم أدنى الشهادات من الشمعة فأحرقها، وقال: إن هذه الشهادات لا قيمة لها إلا عند دي مايلي، وحرقي لها دليل على أنه مائت، ولم يَعُدِ الآن ما يمنعك عن الإقرار التام.
– إني أعترف لك بكل شيء على شرط أن تصفح عني ولا تدعني وشقائي، سلني عما تريد.
– ماذا فعلت في إسبانيا؟
– قتلت مأمور البريد وسرقت الكتاب، ثم عدت إلى باريس وفتحته فعلمت كل شيء.
– كيف عرفت أني مركيز؟
– من مدام فيبار.
ثم قصَّ عليه جميع ما دار بينه وبين مدام فيبار من الحديث والمؤامرة عليه، فلما وثق روكامبول من صدقه قال له: لم يَبْقَ عليك إلا شيء واحد وهو أن تنضم إلى أتباعي، فإن مَن لا يستطيع أن يكون قائدًا، فخير له أن يعود جنديًّا.
– ألعلك تستفيد مني بشيء؟
فضحك روكامبول ضحك الساخر وأجاب: لو لم يكن لي فائدة منك لقتلتك بسرعة؛ لأنك تستحق القتل لخيانتك لي ولرئيسي.
– إذا كان ذلك إني أقسم بالله إني لا أخونك بعد ذلك.
وعند ذلك دنا روكامبول منه ففك قيوده وقال: هلم بنا.
أما فانتير فإنه رأى بعينه أن الشهادتين قد أُحرِقتا، وأن الدوق في حالة النزع، فعلم أنه لم يَعُدْ له بد من الانقياد إلى روكامبول، فسار في إثره حتى بلغ به إلى منزله السري فقال له: لو تنبَّهْتَ قليلًا وأرجعت المصباح إلى مكانه لما علمت بسرقتك.
فتنهَّدَ فانتير، ولكن روكامبول أشفق عليه وقال: اطمئن إن سرقتك لم تكن لتنفعك؛ لأن الدوق مسموم منذ يومين.
– والآن اجلس على المائدة واكتب ما أمليه عليك إلى مدام فيبار.
ثم أملى عليه ما يأتي:
إن مسألتي مع روكامبول تمنعني عن أن أراك اليوم، ولكني سأزورك في هذا المساء، فنامي في سريرك ودعي المفتاح على الباب؛ لأني سأحضر بعد منتصف الليل.
ولما انتهى من الكتابة ووقَّع باسمه على الرسالة أظهر انذهاله، وقال: ماذا تريد بهذه الرسالة الغريبة؟
– سترى ما هو أغرب من ذاك؛ لأني سأعود إلى ربط رجليك ويديك وكم فمك لتبقى في هذا المنزل أسيرًا إلى مساء غد.
فذعر فانتير وبدت عليه ملامح العصيان، فاستلَّ روكامبول خنجره وقال له: أتريد أن تعود إلى ما كنَّا فيه من الخلاف بعد أن اتفقنا؟
فخاف فانتير وقدَّم يديه للتقييد، فشدَّ روكامبول وثاقه وأقفل الباب عليه وخرج.
٣٦
في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي دخل روكامبول إلى غرفة أستاذه أندريا وقال: أتذكر حين لقيتك وأنقذتك مما كنتَ فيه ما قلتُ لك بعد اجتماعنا؟ إني قلتُ لك يومئذٍ إنك من النوابغ، ولكنك على سمو عقلك وشدة دهاك، ليس لك غير عيب واحد كان السبب في جميع ما تقدَّم لكَ من الفشل والخذلان؛ وهو أنك تستخدم رجال الشر لتنفيذ الشر، ولو كنتَ تستخدم رجال الخير لهذا القصد السيئ لكنتَ من الفائزين؛ لأن الكريم الشريف لا تخطر له المفاسد في بال خلافًا للماكر الشرير، فإنك إذا استخدمته لغرض فطن لقصدك، وكان أول ما يجول في خاطره أن يستأثر بالنفع دونك، مثال ذلك: فانتير؛ إنك ركنتَ إليه في المرة الأولى فخانك وقطع لسانك وذهب ببصرك، ثم ركنتَ إليه في المرة الثانية فكاد يصعد بي إلى المشنقة لو لم أنتبه له ويخدمني الاتفاق في إحباط سعيه.
ثم قصَّ عليه حكاية فانتير ومدام فيبار بجميع تفاصيلها إلى أن أخبره بأنه غادره عنده مكبلًا موثقًا.
فضحك أندريا ثم افتكر هنيهة وأخذ لوحه الحجري، وكتب عليه ما يأتي: إن الدوق دي مايلي في حالة النزاع ولم يَعُدْ لك حاجة بزامبا، وفانتير خائن وقد أحبطت جميع مساعيه فلا نستطيع أن نأمنه بعد الآن، ومدام فيبار عرفتك ولا يجمل بك أن تكون عبدًا لها؛ أيْ يجب أن تتخلص من هؤلاء الثلاثة مرةً واحدةً.
فصفَّق روكامبول بيديه وأجاب: هذا ما خطر لي، وإني أفتخر أن يتوارد خاطري مع خاطرك، غير أني لا أعلم كيف يكون هذا القتل وأين تُمثَّل هذه الرواية.
– إنها ستُمثَّل في غرفة مدام فيبار، أما طريقة قتلهم سأخبرك عنها، اذهب الآن إلى مدام فيبار وانظر إذا كان يوجد تحت غرفتها قبو، وتفقَّدْ ذلك القبو ثم أخبرني بتفاصيله؛ لأن عهدي بهذه المنازل أن يكون فيها أقبية واسعة.
فامتثل روكامبول وذهب توًّا إلى مدام فيبار فألقاها تنتظره، فلاطفها وجدَّد وعده لها بشراء البيت الذي باتت ليلتها طامعة به، ونفحها بمبلغ آخَر من النقود، فبكت من سرورها، ثم حادثها بشأن الانتقام من فانتير.
واتقدت عيناها بشر الغضب، وقالت: أين هو الخائن الذي يريد أن يفجعني بك لأمزِّقه بأسناني؟
– سنرى، والآن افتحي لي هذا القبو الذي في غرفتك؛ لأني أحب أن أتفقَّدَه.
فقامت مدام فيبار وأزاحت خشبة كبيرة كانت تُغطي مدخل القبو عند باب الغرفة، فانكشف عن هوة عميقة فقال لها: هاتي السلم إني أحب أن أنزل إليه.
فامتثلت وأحضرت السلم، فأنزله روكامبول حتى استقر على أرض القبو، وأسنده إلى الحائط وأضاء شمعة ونزل وحده وجعل يتفقَّده.
وكان القبو خاويًا خاليًا؛ إذ لا مئونة لهذه العجوز لتخزنها فيه، وبينما كان روكامبول ينظر في جدرانه؛ إذ رأى أحدها مبتلًّا بالماء دون سواه، فقال في نفسه: لا بد أن يكون لهذا الجدار شأن.
وأقبل يفحصه فحصًا دقيقًا فرأى الماء يخرج من ثقب رفيع في أنبوبة في جوف الجدار يسيل منها إلى المجاري العمومية، فخطر له في الحال خاطر هائل وأخذ خنجره وأزاح الطين المتلبد فوق الأنبوبة حتى انفرجت له وظهر ثقبها الرفيع، فشق تلك الأنبوبة بخنجره ووسع ثقبها، فجعل الماء يخرج منها بقدر ثخانة الإصبع.
وأقام في ذلك القبو ساعة يفحص انصباب الماء فيه حتى غمرت المياه قدميه، فقال في نفسه: إذا دام انصباب الماء على هذا القياس ولا بد أن يدوم، فإنها ستبلغ عند منتصف الليل إلى نصف علو القبو؛ أي علو مترين، وهذا القدر يكفي.
ثم صعد السلم مطمئنًّا حتى بلغ إلى الغرفة، فأخرج السلم وأعاد الخشبة — وهي باب القبو — إلى ما كانت عليه.
أما مدام فيبار فإنها كانت منذهلة لا تعلم شيئًا من قصد روكامبول، ولم يتوانَ روكامبول إلى إخبارها، بل قال لها: انتظريني الليلة، فسأحضر إليك وأخبرك عن الذي سنصنعه بفانتير.
– وإذا أتى قبل أن تحضر، فما أخبره؟
– إنه لا يحضر، وكوني واثقة من ذلك، إنما لا تخرجي من غرفتك.
ثم تركها وعاد لمنزله، فغيَّر ملابسه وعاد إلى أندريا وأخبره بجميع ما صنع، فأخذ أندريا لوحه الحجري وكتب عليه سطورًا كثيرة كان روكامبول يقرؤها وهو واقف وراءه، ولما أتم كتابته كتب تحتها: أفهمت؟
– نعم، ويا له من فكر هائل!
فابتسم أندريا معجبًا بأفكاره الجهنمية، وذهب روكامبول مطرق الرأس يتمعَّن بإنفاذ هذه الخطة.
وفي الساعة السادسة من المساء قابل روكامبول زامبا وسأله عن حالة الدوق، فأجاب: إنه في أسوأ حالة، وقد قنط الأطباء من شفائه.
– اعلم الآن أن سيدي الذي يريد أن يتزوَّج بابنة الدوق أمرني أن أبلغك رضاه عنك، وهو سيجعلك وكيله بعد الزواج دون شك، ثم أمرني أن أمنحك ألفي فرنك على سبيل المكافأة عن حادثة الدوق والدبابيس، ذلك عدا عن المكافأة العظيمة التي ستنالها بعد الزواج، غير أنه يسألك أيضًا قضاء أمر لا بد منه.
– إني مستعد لكل أمر، فقُلْ أَطِعْ.
– إنه يريد الانتقام من هذا السائق الإنكليزي الذي دخل في خدمة مولاك وكاد يحبط جميع مساعينا.
– أيريد قتله؟
– ذلك لا بد منه.
– متى وأين؟
– اذهب بعد ثلاث ساعات إلى القهوة التي كنَّا نجتمع فيها، فأذهب بك لأخبرك بما يجب أن تصنع، ولا تنسَ أن تحضر معك أحسن خنجر عندك.
٣٧
وفي الساعة الثامنة من مساء تلك الليلة قَدِم روكامبول إلى بيت مدام فيبار وطرق بابها، فدنت من الباب وقالت بصوت منخفض: مَن أنت؟
فذكر روكامبول اسمه، ففتحت ودخل يصحبه زامبا فقال لها: لقد أحضرتُ هذا الرجل لأنه يريد أن نتحدث قليلًا مع فانتير.
ثم أقفل الباب وقال لزامبا: أطلعك على المهمة التي انتدبتك إليها، والتي تكون بعدها وكيل مَن يتزوَّج ابنة الدوق.
فقالت مدام فيبار متحمسة: إن المهمة هي قتل فانتير.
فرد زامبا منذهلًا: أيُدعَى السائق فانتير؟
أجاب روكامبول: نعم، إنه اسم لا يشير إلى أن صاحبه من أصحاب النفوذ، غير أنه إذا بقي في قيد الحياة فهو يحول دون تحقيق أمانيك، وربما ألقى بك في هوة السجن المؤبد لتعيش بقية عمرك مقيَّدًا بالسلاسل.
فهلع قلب زامبا لهذا الإنذار ورد: إذن سيموت.
وأمر روكامبول مدام فيبار أن تضيء المصباح وتحضر سلم القبو، فامتثلت وهي لا تعلم شيئًا من خطته، ففتح روكامبول باب القبو وأنزل السلم إليه، ثم أخذ المصباح بيده ونزل درجات السلم حتى بلغ إلى نصفها وشعر بالماء وقال في نفسه: إن علو الماء قد بلغ مترين وهو يكفي لإغراق إنسان. ورأى أن الماء لا يزال يخرج من الأنبوبة بمعدله الأول، فاطمأن خاطره وصعد وقال لزامبا: إنك ترى هذا القبو الذي نزلت إليه، أصغِ إليَّ الآن، إنك ستقتدي بي وتنزل إلى هذا القبو كما نزلت، وهو ملآن بالماء لأن الأمطار الأخيرة نفذت إليه وجعلته بئرًا.
فأجفل زامبا وقال: أيمكن للمرء أن يغرق فيه؟
أجاب روكامبول مبتسمًا: إنه يغرق ولا يغرق، وذلك أنك ستنزل إلى القبو أنت وفانتير، فيغرق هو، وأما أنت ستصبح وكيل مَن يتزوج ابنة الدوق.
– إني لا أفهم شيئًا مما تقول.
– إني موضِّح لك هذا اللغز، أَلَا ترى السلم في القبو؟
– نعم.
– أَلَا ترى أن مدخل القبو عند عتبة الباب؟
– نعم.
– إنه عندما يأتي فانتير يكون الظلام سائدًا وباب القبو مفتوحًا، فإذا فُتِح الباب ودخل سقط في الهوة، أعلمت الآن؟
– نعم علمت، وأما أنا فماذا أعمل بالقبو؟
– إنه شديد المهارة بالسباحة، وإذا تُرِك وشأنه في القبو فهو يعوم فوق المياه عدة ساعات ويستغيث بصوته العالي إلى أن يَرِدَه المدد؛ ولذلك ينبغي أن تخمد أنفاسه ولا تُبْقِ له مطمعًا في الحياة.
– سأعمل، ولكن بأية وسيلة أخمد أنفاسه؟
إنك تقف على آخِر درجة متصلة بالماء من درجات هذا السلم، فمتى سقط فانتير في الماء، أول ما يخطر له أن يلتمس ما يتمسك به ولا يجد غير السلم، وإذا دنا منه ومسك به تطعنه بخنجرك طعنة نجلاء تقضي عليه، ثم تصبر هنيهة إلى أن تعلم أنه مات فتناديني، وعند ذلك أنير لك الطريق لتصعد.
– إذن إني مستعد للنزول، وهذا خنجري بيدي، وكن واثقًا من قتله.
وعند ذلك أنار له روكامبول منفذ القبو، ونزل زامبا درجات السلم حتى بلغت رجله إلى الماء فنزل درجة ووقف، وعند ذلك أطفأ روكامبول المصباح وانزوى في الغرفة مع مدام فيبار، فقالت له: أأنت واثق أن فانتير سيحضر؟
– كل الثقة، فقد كان أسيرًا عندي أطلقت سراحه ووعدته أن أعطيه خمسين ألف فرنك.
– لماذا يأتي إليَّ؟ ولماذا تعطيه خمسين ألف فرنك؟
– جزاء قتلك؛ إذ إنه يحسب بأنه آتٍ لقتلك.
ارتعشت العجوز وقالت: يقتلني أنا؟
– أَلَا تعلمين أنه خائن يبيع بنيه بالمال، قد وعدك بجزاء حسن إذا ساعدتيه على فضيحتي، وأنا وعدته بجزاء حسن إذا ساعدني على قتلك، فانطلت عليه الحيلة، ووقع في الفخ الذي نصبه لي.
وفيما هما على ذلك إذ سمعا وقع أقدام، اضطرب فؤاد روكامبول وقال: اسكتي، ها هو قد حضر، ثم سمعا صوت المفتاح في القفل، ثم فُتِح الباب فمشى فانتير ثلاث خطوات وكانت خطوته الرابعة في الهوة المفتوحة، فسقط في القبو وصاح صيحة عظيمة، أسرع روكامبول إلى باب القبو ووضع أذنه على مدخله ونام فوقه كي يسمع ما يجري بين زامبا وفانتير.
كان أول ما سمعه أن فانتير جعل يقذف الشتائم واللعنات لا يجيبه غير صدى هذا القبو المتسع المظلم، ثم جعل يسبح بيديه ورجليه وقد قنط من بلوغ صوته إلى المسامع لما سمعه من تجاوب الصدى، وبقي يسبح ويقذف نحو عشر دقائق، ثم انقطع الصوت ووقفت الحركة، قال روكامبول في نفسه: إنه قد عثر بالسلم وسنرى ما يكون من زامبا، ولكنه لم يكد يتم مناجاته حتى سمع صرخة قوية عقبها صوت سقوط جسم ضئيل في المياه، ثم انقطع الصوت، قال روكامبول: لقد قُضِي أمره وانتهى الفصل الأول من هذه الرواية، فَلْنباشِر تمثيل الفصل الثاني.
ثم نهض فلقيته مدام فيبار فقالت: ماذا جرى؟
– لقد مات دون شك، إني لا أسمع له حسًّا، وبعد حين وجيز سمع صوت زامبا يناديه، أمر العجوز أن تضيء المصباح، ففعلت ثم ذهب به إلى باب القبو وفتحه، وقال لمدام فيبار: تعالي وانظري يا أماه، قرفصت العجوز على حافة الهوة وجعلت تحدِّق على نور المصباح لتنظر جثة فانتير، لما رأتها قالت: لقي هذا الخائن جزاء خيانته.
وضع روكامبول المصباح أمامه وقال: لم أقتله لهذا يا أماه، بل لأنه كان واقفًا على أسراري.
فذعرت العجوز وحاولت أن تقف لما تولاها من الخوف، غير أن روكامبول كان أسرع منها، فإنه ضغط على عنقها بيديه ضغطًا قويًّا وهو يقول: إنك لا تسلمين هذه المرة. وبعد أن أتم خنقها قذف بها إلى القبو، سقطت في الماء جثة جامدة لا حراك فيها.
وعند ذلك قال لزامبا: اصعد الآن فقد انتهى كل شيء. فجعل زامبا يصعد درجات السلم وهو فرح القلب بنجاح مهمته، وكان روكامبول من ورائه فلما ظهر رأسه من القبو بادره روكامبول بطعنة خنجر قوية بين كتفيه، صاح صيحة ألم وانقلب يهوي فوق رفيقه، وتم بذلك تمثيل الفصل الثالث من هذه الرواية.
أما روكامبول فإنه أخرج السلم من القبو بأتم سكينة فوضعه في مكانه، ووضع الباب فوق القبو، ثم أطفأ المصباح وخرج من الغرفة، وانسل إلى الشارع العام دون أن يراه أحد وهو يقول: إني لم أجد بين هؤلاء الثلاثة أشد بلهًا من زامبا؛ لاعتقاده بأني أرضى أن يكون وكيلي بعد أن أتزوَّج بابنة الدوق وأغدو من عظماء الإسبان.
وذهب إلى منزله السري فغيَّر زيَّه وعاد مركيزًا نبيلًا، ثم انطلق إلى النادي ودخل وهو يغني غير مكترث لشيء كأن يده الأثيمة لم تنغمس بقتل ثلاثة منذ ساعة، وهناك علم أن الدوق دي مايلي قد مات مسمومًا، ورأى الأسف باديًا على جميع الوجوه، فلم يسعه إلا إظهار الأسف معهم، وأقام بينهم إلى الساعة الأولى بعد منتصف الليل، ثم برح النادي إلى منزله، فوجد على المائدة كتابًا من الغادة الإسبانية أرسلته إليه من القرية التي ذهبت إليها مع أمها وأبيها وصهره فابيان وأخته، وكانت خلاصة الكتاب أن أخت روكامبول قد ذكرته أمام الدوق الإسباني، ولمحت تلميحًا عن حب أخيها لابنته، فأظهر الارتياح وهي تدعوه إلى موافاتهم في تلك القرية، راجيةً أن يعودا منها زوجين شرعيين.
ففرح روكامبول بهذا الكتاب فرحًا لا يُوصَف، ودخل إلى غرفة أندريا وأخبره بجميع حوادث الليل وبموت الدوق مايلي وبكتاب الغادة الإسبانية، فظهرت علائم السرور على وجه أندريا وقال لتلميذه الهائل بلوحه الحجري: تأهَّبْ للسفر صباحًا، واعلم أنه يجب أن أسافر معك.
– ما شأنك معي في هذا السفر؟
قال: ذلك كي أوقِّع على شروط زواجك، وإن قلبي يحدِّثني أنه إذا لم أكن معك لا يُعقَد هذا الزواج.
فلم يعبأ روكامبول بكلامه وأجاب: أتظن أن حديث قلبك يصدق؟
– لا أظن بل أؤكد، وخُذْ عني هذه الكلمات واطبعها على ذاكرتك بحروف من نار، وهي أنا النور الذي يضيء نجمك، فإذا لم أكن موجودًا ينطفئ نور هذا النجم.
٣٨
بينما كانت هذه الحوادث التي رويناها تتوالى في باريس، كانت تجري في مدينة نيس حادثة لها علاقة شديدة بهذه الرواية.
ويذكر القراء أن باكارا قد ذهبت بزوجها المنكود إلى تلك المدينة كما وصف له الأطباء، فاستأجرت منزلًا جميلًا على شاطئ البحر، وكان يصحبهما طبيب خاص حكم على الكونت أرتوف أن يعتزل الناس ما أمكن، وأن لا يفارِق امرأته لاعتقاده أن هذه الطريقة تُعجِّل في شفائه، على أن حالة الكونت لم تتغير، وما زال يعتقد أنه يُدعَى رولاند دي كايلت، وليس الكونت أرتوف، ثم اتسع هذا الاعتقاد منه حتى بات يحسب أن الكونت أرتوف طلَّقَ امرأته، وأن باكارا تبعته بعد طلاقها من زوجها إلى نيس لشدة شغفها به.
وكان بين الأجانب المقيمين في نيس ضابط إنكليزي خدم مدة طويلة في الهند، وكان يرى باكارا وزوجها كل يوم حين خروجهما للنزهة، فتوصَّلَ الضابط إلى السلام عليهما لكثرة التقائه بهما.
وبينما كانت باكارا جالسة في غرفتها صباح يوم، إذ دخلت خادمة غرفتها تحمل إليها رقعة زيارة الضابط الإنكليزي، فدهشت لهذه الزيارة، ولكنها خرجت لمقابلته واستقبلته في القاعة الكبرى وجلست بإزائه، فبدأ هذا الضابط بالحديث وقال: أرجو ألَّا يسوء سيدتي ما تراه من إقدامي على زيارتها، ولم يدفعني إليها غير الرجاء بنفعها لما علمته من جنون زوجها، واعلمي يا سيدتي أن هذه المدينة لا يأتي إليها غريب حتى تتجه إليه الأنظار، ولا يمضي عليه زمن يسير حتى يعلم الغرباء أمثاله بجميع أمره.
قالت باكارا: إذن لقد عرفوا حكايتي.
– نعم يا سيدتي، لقد عرفوها بتفصيلها، وانقسم الناس بشأنك قسمين بين مصدق ومكذب، وخاضوا في تأويل أسباب جنون الكونت إلى أن قَدِم أمس أحد الأعيان من باريس فأخبرنا …
ثم توقَّفَ عن الحديث وقال: عفوك يا سيدتي، فإنك لو بحثتِ في أعماق قلبي لما رأيت غير الاحترام.
فقالت باكارا وهي لا تعلم إلى أين يريد أن يصل بحديثه: إني أعلم بما حدَّثوك، واسمح لي قبل إتمام حديثك أن أقول إن رجلًا شقيًّا لا مبدأ له ولا شرف زجَّ بنا إلى هذا الشقاء بنميمة كاذبة.
– لم أشكِّك لحظة يا سيدتي بما تقولين، واسمحي لي أن أكلمك عن زوجك وجنونه، فلقد ذكر لنا هذا الباريسي أمرًا غريبًا، وهو أن جنون الكونت كان فجائيًّا لا يتقدَّمه شيء من العوارض المعروفة، وقد ظهر الجنون في ساحة المبارزة.
– ذاك أكيد.
– وأن جنونه حمله على الاعتقاد بأنه هو خصمه، وأن خصمه يُدعَى الكونت أرتوف.
– وا أسفاه يا سيدي! إنه لا يزال يعتقد هذا الاعتقاد.
– ولكن الغريب في هذا الجنون أنه غير عادي.
– إنه كان يحبني، وقد اعتقد أخيرًا أنني …
فقاطعها الضابط قائلًا: كلا يا سيدتي، فإن زوجك قد سُقِي سمًّا فجُنَّ.
فاندهشت باكارا وأجابت: كيف عرفت ذلك؟ ثم أيوجد بين السموم ما يُذهِب بالعقل؟
– نعم يا سيدتي، إني خدمت بالهند وأقمت سنةً في مدينة جافا، وعلمت أنه يوجد في هذه الجزيرة شجرة إذا جُفِّفَتْ أوراقها وطُحِنت كان شربها داعيًا إلى الجنون، وقد رأيت كثيرين من الذين جنُّوا بهذا السم، ومن أخص ما رأيته من الأعراض أن المجنون به ينكر نفسه ويحسب أنه سواه، وهذا ما أصاب زوجك.
فارتعدت باكارا وقالت: إن زوجي لم يذهب إلى الهند، ولا يعرف أحدًا في باريس من الهنود.
– أعرف ذلك يا سيدتي، غير أن مَن تجاسَرَ على النميمة بك وكاد مثل هذه المكائد لك، فهو يجسر أيضًا على تسميم زوجك.
فوجف قلبها وقالت: إذا صحَّ ما تقول فإني أخشى أن لا يكون لهذا التسمم دواء.
– بل إني أعرف طبيبًا حاذقًا بشفاء هذا الجنون، وهو طبيب نال شهرة واسعة في الهند، وقد لقيته منذ شهر في باريس، وعلمت أنه يقيم فيها منذ عهد طويل، وأن له شهرة عظيمة في فرنسا أيضًا، وقد اشتهر خاصة بمعالجة تشوه الوجوه وإزالة الوشوم والشفاء من الجنون شهرة خاصة، وهو يُدعَى صموئيل ألبرت، فإذا دعوته يا سيدتي لمعالجة زوجك، فإني أرجو أن يشفيه سريعًا.
فظهرت علائم الرجاء على محيا باكارا وقالت: كلا لا أدعوه إليَّ، بل أنا أسير إليه كي لا يطول انتظاري.
– لقد أحسنت يا سيدتي، واحذري من أن تثقي بغير هذا الطبيب، واعلمي أن الأطباء يتحاسدون، ولا تقولي شيئًا أمام طبيب الكونت، بل اختلقي حجةً أمامه للسفر بزوجك إلى باريس.
فشكرته باكارا شكرًا جزيلًا، وودَّعها الضابط وذهب في شأنه.
وفي اليوم التالي ركبت باكارا مع الكونت مركبة البريد وبرحت نيس إلى ليون، وركبت منها السكة الحديدية إلى باريس.
•••
بينما كانت باكارا ذاهبة بزوجها إلى باريس، كان رولاند دي كايلت عازمًا على السفر من باريس إلى الريف؛ إذ قد ورد إليه نعي عمه، فرأى أن الفرصة موافقة للبعد عن باريس بعدما رآه من ابتعاد الناس عنه إثر حادثة الكونت، واحتقار أصحابه له بحيث لم يَبْقَ له بينهم غير أوكتاف لاتفاقه وإياه في مبادئ الغرور.
ولما وصل إليه نعي عمه تأهَّبَ للسفر وذهب لوداع صديقه أوكتاف قبل الرحيل، وفيما هو سائر بمركبته شعر أن المركبة وقفت لازدحام المركبات ووقوفها عن المسير لمرور موكب، حتى إن معظم الذين كانوا في تلك المركبات نزلوا منها، فأطل رولاند من مركبته وجعل ينظر إلى الناس وإلى ازدحام المركبات، ورأى بالقرب منه ريبيكا التي يحسبها الكونتس أرتوف، فصاح صيحة دهش سمعتها الفتاة، والتفتت إليه فما وسع رولاند إلا أن يحني رأسه مسلمًا عليها، فردت تحيته بابتسام ولم يَعُدْ لدى هذا المسكين من شك أنها تحبه حبًّا أكيدًا، وأنها اضطرت أمام أختها أن تمثِّل دورها، ثم رآها وضعت سبابتها على فمها تشير إليه بالصمت، غير أن رولاند تجاهَلَ قصدها ونزل من المركبة للقائها، فأسرعت إلى مركبة في الطريق، فصعدت إليها وقالت للسائق بصوت مرتفع كي يبلغ إلى مسمع رولاند: إلى شارع باسي نمرة ٤٣.
فارتجف رولاند وقد علم أنها تريد أن يزورها في ذلك المنزل، وذهب إلى صديقه أوكتاف وأخبره بهذا الاتفاق حين اضطراره إلى السفر، فقال له صديقه: خير لك أن تسافر لتقضي مهمتك وتعود بعد غد؛ لأن ابتسامتها لك يدل على أنها لا تزال تهواك فهي تنتظرك الليلة، ومتى رأت أنك لم تحضر فلا بد لها أن تكتب إليك، وتكون في ذلك الحين قد عدت إلى باريس وقضيت شئونك التي لا يمكن تأجيلها.
فامتثل رولاند لنصيحة صديقه أوكتاف وركب القطار الذي يخرج من باريس في الساعة الثامنة، ولما بلغ إلى المحطة الأولى وصل إليها أيضًا في الوقت نفسه القطاران الخارج من باريس والداخل إليها في أول محطة، ووقف القطاران دقيقتين لنزول الركاب وصعودهم.
وكان هذا القطار قادمًا من ليون، فجعل رولاند ينظر إلى الركاب دون اكتراث، حتى أصاب نظره ركاب الدرجة الأولى، فصاح صيحة منكرة لأنه رأى بين أولئك الركاب باكارا وزوجها الكونت، وهو قد رآها منذ ساعة تسير إلى شارع باسي، فأوشك أن يضيع رشده وأسرع إلى النزول من القطار الذي كان عائدًا بباكارا إلى باريس، ولكن القطار كان قد سار فلم يستطع إدراكه.
٣٩
وصاح منبه القطار يدعو الركاب إلى الصعود إليه، ثم نظر إلى رولاند فرآه محدقًا بذلك القطار المسافر، فنبَّهَه إلى الصعود، غير أن رولاند قال له: إني عزمت على الرجوع إلى باريس، وسأنتظر القطار القادم في هذه المحطة.
فصفَّرَ المنبِّه بصفارته وانطلق القطار سائرًا إلى الريف.
أما رولاند فإنه انتظر هنيهة إلى أن قدم قطار، فركب به وعاد إلى باريس، ولما وصل إلى المحطة سأل عن رئيس القطار الذي قَدِم رأسًا من ليون، فأُرشِد إليه فقابله رولاند وقال له: أأنت رئيس القطار الذي قَدِم الآن من ليون؟
– نعم، وقد وصلت به منذ نصف ساعة.
– أرأيت بقطارك امرأة شقراء وجميلة كان معها رجلان؟
– نعم، وهم الكونتس أرتوف وزوجها وطبيبه.
فاضطرب رولاند وقال: إني أرى على صدرك إشارة تدل على أنك مُنعَم عليك بوسام، وأنك من رجال الشرف؛ ولهذا فإني أستحلفك بهذا الوسام الذي تتقلده أن تقول لي: هل الكونتس أرتوف حضرت بهذا القطار من ليون؟
– نعم يا سيدي، وأنا الذي أعنتها على الصعود إليه في محطة ليون.
فشكره رولاند وخرج وهو شبيه بالمجانين، فركب مركبة وأمر سائقها أن يسرع به إلى شارع باسي نمرة ٤٣، فذهب السائق إلى ذلك المنزل، فأطلق رولاند سراحه ودخل، فقرع الباب وأجابه صوت امرأة من الداخل: مَن أنت؟
فلم يجب بل جعل يقرع الباب إلى أن فتحت له خادمة، فقال لها: أين سيدتك؟
فتلجلج لسانها وأجابت: إنها لم تَعُدْ بعدُ.
– لا بأس، فسأنتظرها.
غير أنه رأى من عين تلك الخادمة أنها غير صادقة في قولها، فنظر إليها نظرة المتوعد وقال لها: اختاري بين أن أنقدك عشرة جنيهات، وبين أن تذهبي معي إلى رئيس البوليس حيث يسألك عن بعض الشئون.
فتظاهرت الخادمة بالخوف وقالت: إن سيدتي تطردني من المنزل إذا أدخلتك إليها دون إذنها، غير أني سأخاطر لأجلك هذه المخاطرة فاتبعني.
فسار رولاند في إثرها وصعدا إلى الدور الثاني من هذا المنزل، حتى انتهت به الخادمة إلى غرفة نوم ريبيكا، فقال لها: دعيني وحدي واذهبي بشأنك. فتركته وانصرفت.
أما رولاند فإنه دخل إلى غرفتها دون استئذان فوجدها نائمة، فوضع يده على كتفها فهبَّتْ من رقادها منذعرة، ثم ثابت إلى رشدها حين رأت رولاند فقالت: كيف أتيت؟ وكيف جسرت على الدخول إلى غرفتي دون إذني؟
– ذلك أيتها الحبيبة لأنك أخبرتني اليوم بنمرة منزلك حين ذكرتيها للسائق بصوت مرتفع.
فأنكرت ريبيكا ثم قالت له: لا بأس، وحيث قد أتيت فاجلس أمامي.
فجلس رولاند أمامها وقال لها بلهجة المتهكم: أتريدين يا سيدتي الكونتس أن تخبريني بشيء عن حالة زوجك الكونت؟
– إنه لا يزال مجنونًا، وقد أرسلته إلى نيس.
– أيقيم فيها زمنًا طويلًا؟
– لا أعلم، فإن ذلك مناط بطبيبه.
– لقد أصبتِ، ويظهر أن طبيبه استحسن أن يعود به إلى باريس فعاد في هذا المساء.
– مَن الذي عاد؟ زوجي؟
– كلا، بل الكونت أرتوف، وكانت تصحبه امرأته الكونتس.
وكانت ريبيكا شديدة الجرأة غير أنها لم تستطع أن تقاوم نظرات رولاند، وجعل وجهها يحمرُّ ويصفرُّ في آنٍ واحد لما تولاها من الاضطراب، وعند ذلك نهض إليها رولاند وقال لها: لقد انقضى زمن التضليل، وأصبحتُ عالمًا الآن أنك لستِ الكونتس أرتوف، بقي عليَّ أن أعرف مَن أنت، فاذكري اسمك.
وكان رولاند ينظر إليها نظرات إنذار، علمت بعدها أنه لم يَعُدْ لها حيلة، وأن الإنكار لا يجديها نفعًا، فضحكت ضحكًا شديدًا دون أن تجيب، فصاح بها رولاند صيحة شديدة وقال: أيتها الشقية اذكري اسمك أو أقتلك في الحال دون إشفاق.
ثم قبض على عنقها وضغط عليه، فصاحت: رحماك لا تقتلني، إني أُدعَى ريبيكا.
فرفع رولاند يديه من على عنقها وقال: من أية عائلة؟
– لا عائلة لي، وأنا من بنات الهوى.
– مَن الذي دعاك إلى تمثيل هذا الدور الشائن؟
– رجل لا أعرفه.
فاحتدم رولاند غيظًا وعاد إلى التهديد فقال: لقد كذبتِ.
– أقسم بالله إني لا أعرفه.
ولكن رولاند لم يبالِ بقسمها فقال: إذن إنك تريدين الموت.
ثم عاد إلى الضغط على عنقها فصاحت الفتاة وقالت: دعني فسأخبرك بكل شيء، ولكني أقسم لك إني لا أعرف اسم هذا الرجل، فقد لقيني ليلة فقادني إلى منزل لا أعرفه، ثم جاء بي في اليوم التالي إلى هذا المنزل، وقال لي: ينبغي أن يكون اسمك من الآن فصاعدًا الكونتس أرتوف.
فأفرج عنها رولاند وقال لها: أتقولين جميع ذلك للكونتس الحقيقية؟
فذعرت الفتاة وقالت: كلا.
فلما قالت هذا القول نظر إلى ما حوله، فرأى سكينًا على المائدة بقرب سريرها واختطفها وأسرع إليها فوضعه على صدرها، وقال: اختاري بين الموت وبين أن تذهبي معي إلى منزل الكونتس.
وكانت صحة وعيد رولاند بادية في عينيه، فأيقنت الفتاة أنها لا ينقذها منه غير الامتثال فقالت: ليكن ما تريد، هلم بنا.
وبعد هنيهة خرج الاثنان فركبا مركبة سارت بهما إلى منزل الكونت أرتوف، وكانت ريبيكا تقص على رولاند جميع ما تعلمه من أمر روكامبول إلى أن وصلت المركبة إلى منزل الكونت، فنزل منها رولاند مع ريبيكا وسأل الخادم عن الكونتس، فقال له: إنها أتت في هذا المساء، وهي الآن عند أختها، فإنها لم تَعُدْ بعدُ.
– لا بأس، فسأنتظر عودتها مع هذه السيدة؛ لأني أتيت إليها بشأن خطير.
فأدخلهما إلى قاعة الانتظار، وكان على وجه ريبيكا نقاب كثيف.
٤٠
أما باكارا فإنها بعد أن وصلت إلى باريس غادرت زوجها في المنزل مع طبيبه الخاص، وذهبت إلى أختها سريز فأخبرتها بالسبب الذي دعاها إلى الرجوع إلى باريس، ثم ذهبت وإياها إلى الطبيب صموئيل، فاستقبلهما خير استقبال.
وكان الطبيب عالمًا بحكاية باكارا وجنون زوجها، فقال لها: أظنك يا سيدتي آتية إليَّ بشأن زوجك.
– نعم وا أسفاه! لأنه لا يزال على حاله ولم يفده الطب إلى الآن في شيء، وأنا أرجو أن تتمكن من شفائه لما بلغت إليه من الشهرة.
– لا أستطيع أن أحكم في شيء قبل أن أرى الكونت، وأعلم بالتفصيل كيف بدأَتْ معه أعراض الجنون.
إن جنونه كان فجائيًّا، وهو يعتقد أنه ذات الرجل الذي كان يريد مبارزته، ولا يزال ينكر نفسه إلى الآن.
ثم أخذت باكارا تذكر جميع أعراض الجنون إلى أن انتهت إلى قصة الضابط الإنكليزي، فأخبرته أن هذا الضابط يعتقد أن زوجها مسموم، وأنه هو الذي أشار عليها بعرض أمره على الطبيب صموئيل.
فارتجف الطبيب عندما سمع لفظة التسمم، وقال: إنه لا يوجد غير نوعين من السموم يُحدِثان الجنون أحدهما مشهور في أوروبا، ولكن الجنون الذي يحدث عنه لا يكون خطرًا، ولا تنطبق أعراضه على ما ذكرته لي من أعراض جنون زوجك، والنوع الثاني غير معروف إلا في الهند، ولا يوجد منه في أوروبا إلا في منزلي، وعجيب أن تلك الأعراض تنطبق على أعراضه، فهل ذهب زوجك إلى الهند؟
– كلا.
– ألعله يعرف أحدًا فيها؟
– كلا.
ففكَّر الطبيب هنيهة ثم قال: إذا صحَّ ما قاله الضابط الإنكليزي، فلا بد أن يكون الكونت قد شرب السم قبل زمن المبارزة بليلة، ثم لا بد أن يكون بات تلك الليلة في المنزل.
– كلا يا سيدي، إنه لم يبت في المنزل، ولكني أرجِّح أنه بات في منزل الدوق دي مايلي، فإنه كان شاهده في المبارزة، وهو يقول لنا كل شيء.
– ألعلك تجهلين يا سيدتي أن الدوق مات أمس؟
فهبت باكارا منذعرة وهي تقول: كيف مات الدوق وهو غض الصبى وفي ريعان شبابه؟
فلم يُجِبها الطبيب، ولكنه أخذ جريدة كانت أمامه ودلَّها على خبر نعيه فيها، فقرأته باكارا ثم ضغطت على الجريدة وقالت والدمع يجول في عينيها: كيف مات هذا المنكود؟
– بالجمرة الفارسية، وقد سرت إليه العدوى من جوادٍ كان يحبه.
وساد السكوت هنيهة إلى أن عاد الطبيب إلى محادثتها بشأن زوجها فقال: مما يزيد عجبي أن هذا السم الذي شربه الكونت لا يوجد منه إلا في جافا وعندي، وليس لدي منه غير ثلاث أوراق طبية، فكيف توصَّلَ هؤلاء الأَثَمَة إليه؟
ثم نهض إلى الخزانة الزجاجية الموجود فيها هذا السم، وأشار بيده إلى حق فيه رشاش ناعم، فقال: هذا هو السم.
– إذا كان لا يوجد منه إلا عندك كما تقول، أَلَا يمكن أن يكون قد سُرِق من منزلك؟
– إن هذا مستحيل؛ إذ لا يدخل هذه الغرفة إلا أنا وخادم لي به ثقة شديدة، وفوق ذلك فإني حين أخرج من الغرفة أقفل بابها بحيث لا يمكن الدخول إليها، ومع ذلك فقد قلت لكِ إن لديَّ من هذا السم ثلاث أوراق، وسأَزِن ما في هذا الحُقِّ فأعلم إذا كان مسروقًا.
ثم أخرج من درج مكتبه ميزانًا صغيرًا، وأحضر الحُقَّ من الخزانة، فأفرغ ما فيه في ورقة وزن السم، فاضطرب واصفرَّ وجهه لأنه وجد أنه ينقص ستة عشر غرامًا، وقال: لقد سُرِقْتُ!
فوقع هذا القول عليهما وقع الصاعقة، وجعل الطبيب ينظر تارةً إلى باكارا وتارةً إلى السم نظر البلاهة وهو لا يصدِّق، إلى أن قال: إن هذا السم لا يمكن أن يُسرَق إلا إذا نسيت أن أقفل الخزانة وتركت باب الغرفة مفتوحًا وخرجت منها، ولم يحدث شيء من هذه الأسباب الثلاثة.
ثم قرع الجرس يدعو خادمه فأقبل الخادم، وهو رجل عجوز يناهز الستين كان يثق به الطبيب ثقةً لا حدَّ لها، ولكنه سأله: أتعلم ما كان في هذا الحُقِّ؟
– نعم، فقد كان فيه سم قاتل.
– لقد سرقوا منه ستة عشر غرامًا فاستخدموها لجريمة هائلة.
أجاب الخادم بلهجة تبين منها الصدق: إن ذاك مستحيل.
فالتفت الطبيب إلى باكارا وقال: أسمعتِ يا سيدتي؟
– أنا لا أتهم هذا الرجل.
فعاد الطبيب إلى الخادم وسأله: تذكَّرْ جيدًا، أَلَا تذكر أنه دخل أحد إلى الغرفة في مدة غيابي منذ شهر؟
– كلا.
– أَلَمْ تلاحظ أني نسيت مفاتيح الخزانة على الطاولة في حين من الأحيان؟
– كلا.
– أَلَا تذكر أنه دخل أحد إلى غرفتي ثم خرجت منها وبقي فيها؟
– نعم أذكر شيئًا من ذلك، فلقد زارك رجل منذ أسبوعين أو ثلاثة، وفيما هو مقيم معك اضطررت إلى الخروج لمعالجة خادم صدمته سيارة، وكانت الخزانة مفتوحة، وأسرعت إلى الذي صدَمَتْه المركبة ولم يكن مصابًا بشيء.
– غير أن زائري يستحيل عليه سرقة السم.
فقالت باكارا: لماذا؟
– لأنه خيرة النبلاء وهو المركيز دي شمري.
– عرفته، فهو ابن عم الكونت فابيان، وهو قد خدم دهرًا طويلًا في الهند.
– هو بعينه.
– إن هذا الرجل شريف لا يمكن اتهامه.
– هو ما قلتِه يا سيدتي.
ثم غرق الطبيب في هواجسه، وخطرت له مباحثته مع روكامبول بشأن هذا السم خاصةً، فقال: لقد ذكرت الآن يا سيدتي أني قد تباحثت مع هذا المركيز بشأن السموم عامةً وهذا السم خاصةً، وأنه سألني أسئلة كثيرة عن تأثيره وطريقة استعماله وزمن فتكه، إلى غير ذلك، حتى إنه طلب إليَّ أن يراه فأريته إياه.
ففكَّرَتْ باكارا وقالت: إن جميع ذلك يشير إلى أنه هو السارق، غير أن ذلك مستحيل.
– ليس من مستحيل في الأرض، وإذا صدق فإن المركيز هو الذي سقاه للكونت، على أنه إذا كان جنون زوجك من هذا السم، فإني أتعهد بشفائه شفاءً عاجلًا مضمونًا.
فأظهرت باكارا من الفرح ما لا يُوصَف وشكرت الله، فقال لها الطبيب: عودي يا سيدتي إلى منزلك وسأزورك غدًا عند الظهر لأفحص الكونت فحصًا مدققًا، وسنجد من الله معونة لمعرفة الأثيم الجاني.
فودَّعَتْه باكارا وانصرفت، فأوصلت أختها إلى بيتها، وعادت إلى منزلها وهي تقول في نفسها: إن المركيز دي شمري لا يمكن أن يُقدِم على هذه الخيانة، ومهما يكن فإن ثقتي بهذا الطبيب باتت عظيمة، حتى إني أصبحت واثقة من شفاء زوجي العزيز.
ولما بلغت إلى منزلها أخبرتها الخادمة أنه يوجد في قاعة الانتظار شاب وسيدة ينتظران عودتها.
– ما اسمهما؟
– لا أعلم، غير أني أكرر أني رأيتُ الشابَّ مرةً في هذا المنزل.
– والمرأة؟
– لم أستطع أن أتبيَّنَ وجهها لأنها مبرقعة الوجه، ولكن قامتها تشبه قامتكِ أتمَّ الشبه.
فتركتها باكارا ودخلت إلى القاعة، فرأت رولاند.
وكأنما حية لسعتها حين رأته، فصاحت صيحة الدهش وتراجعت منذعرة إلى الوراء، غير أن رولاند دنا منها وركع أمامها، فنظرت باكارا إليه وإلى هذه المرأة التي تشبهها أتم الشبه وقالت لرولاند: قُمْ يا سيدي، فقد عرفت الآن كل شيء.
غير أن رولاند بقي راكعًا، فعادت باكارا إلى ريبيكا وقالت لها: مَن أنت يا مَن تشبهيني هذا الشبه العجيب؟ وكيف تجاسرتِ على سرقة اسمي؟
فقالت ريبيكا ببرود: إني يا سيدتي ابنة أبيك، واسمي ريبيكا.
فسكن غضب باكارا وقالت بلهجة الحنو والإشفاق: إذن أنت أختي؟ نعم، فلقد ذكرت الآن، فقد حكَتْ لي أمي حكايتك عدة مرات.
فقالت ريبيكا: يسرني منك ما أراه من إشفاقك عليَّ بعد أن سبَّبْتُ لكِ من المصائب ما لا يحمل معه من الإشفاق، فأصبحتُ أقرب إلى عيشة التوبة والصلاح بفضل هذا الحنو، ولا سيما بعد أن دعوتني أختك.
ثم ركعت أمامها بجانب رولاند وقبَّلَتْ يدها وهي تشرق بالدموع، فتأثَّرَتْ باكارا لما رأته وقالت لها: انهضي أيتها الأخت العزيزة فقد صفحتُ عنكِ، وأنتَ يا سيدي فإنك لا تزال في مقتبل الشباب ولا شك أنهم خدعوك، فإن قلبك الصغير لا يسع مثل هذ الشر العظيم، فأنا أسامحك أيضًا، غير أن هذه المصيبة التي نكبتني بها لا تُذكَر بإزاء مصيبة هذا الرجل النبيل الذي لقَّبَنِي باسمه، فيجب علينا أن نتعاون للوصول إلى معرفة ذلك الجاني الأثيم الذي مثَّل هذا الدور الهائل وخدعنا جميعنا على السواء.
فنظر رولاند إلى ريبيكا وقال: أنتِ التي حضرت بك إلى هذا المنزل بعد الإنذار الشديد قولي الحقيقة الآن.
– نعم سأقول كل شيء.
ثم قصَّتْ على باكارا جميع حكايتها مع روكامبول ورولاند بالتفصيل، وكانت باكارا مصغية إليها أتم الإصغاء، فلما أتمت حديثها سألت باكارا رولاند: كيف كانت تصلك رسائلي؟
– كان يحملها إليَّ خادم كان عندي وكان يقول لي: إن له علاقة مع وصيفة الكونتس أرتوف، فهي تعطيه رسائل سيدتها وهو يوصلها إليَّ.
– لقد قلتَ إن الخادم كان عندكَ، ألعلك طردته؟
– كلا، بل إنه سرقني وهرب.
– ومَن أدخله في خدمتك؟
– أوصاني به صديق لي يُدعَى المركيز دي شمري.
فذعرت باكارا وقالت في نفسها: ما شأن هذا المركيز؟ وبماذا أسأتُ إليه؟ فإن جميع القرائن تدل على اشتراكه بهذه الجرائم!
وبعد أن افتكرت هنيهة قالت لرولاند: إنك يا سيدي إذا كنتَ لا تزال في طيش الصبى، فإن لكَ قلبًا شريفًا ورثت دماءه من أبيك، فهل تُقسِم لي بهذا الشرف بأنك تمتثل لي في جميع ما أريد؟
– إني أقسم لك بشرفي وبشرف آبائي أني أكون أطوع لك من البنان، وسأنشر حديث غروري وانخداعي بين جميع سكان باريس كي …
فقطعت باكارا حديثه وقالت: أول ما أسألك إياه أن لا تفوه بكلمة عن جميع ما علمته، وأن تدع الناس على اعتقادهم الأول بي؛ ولذلك فإن أختي ريبيكا ستبرح باريس في صباح غد مبرقعة الوجه بحيث لا يراها أحد، فإن ساعة براءتي لم تَحِنْ بعدُ.
٤١
في صباح اليوم التالي هبَّ الدكتور صموئيل من رقاده فدخل إلى غرفة شغله، وبدأ بمطالعة جرائد المساء، فاستلفت نظره مقالة بعنوان «جريمة عظيمة» بدأت كما يأتي:
كثرت الجرائم في هذه الأيام دون أن يتمكَّن رجال الأمن من معرفة الأثيمين؛ فقد نشرنا من قبلُ حادثةَ مقتل القوزاقي الذي كان قادمًا من روسيا إلى باريس، أما اليوم فإننا ننشر حادثةً أشد فظاعةً، وهي أن سكان إحدى الحارات في شارع مونتمارتر رأوا في المساء أن المياه تخرج بغزارة من باب غرفة تسكنها امرأة تُدعَى مدام فيبار، وبعد أن أيقنوا أنه لا يوجد أحد في الغرفة وخافوا خطر المياه المتدفقة، أسرعوا إلى استدعاء الشرطة.
فأقبل رجال الشرطة وكسروا الباب، فوجدوا أن المياه تخرج من قبو بعد امتلائه، ورأوا رجلًا منزويًا في إحدى زوايا الغرفة والدماء تسيل من كتفه وهو يحدق بعينيه تحديق المجانين، فأخرجوه ونضحوا المياه من القبو، فظهر لهم قتيلان أحدهما مدام فيبار صاحبة الغرفة وقد وُجِدت مخنوقة، والآخَر يُدعَى فانتير، وهو مطعون بخنجر، أما الرجل المجنون فقد عُرِف بعد التحقيق أنه يُدعَى زامبا، وقد كان خادم غرفة الدوق دي مايلي … إلخ.
فلما أتم الطبيب تلاوة المقالة شغل باله أمران، أحدهما جنون زامبا الناتج عمَّا لقيه من الرعب، والثاني مقتل هذا الرجل في نفس اليوم الذي مات فيه سيده الدوق دي مايلي، فذهب إلى المحل الذي عُرِضت فيه جثتا القتيلين، ففحصهما فحصًا دقيقًا، ثم ذهب إلى المستشفى الذي نُقِل إليه زامبا وطلب أن يراه، فما أوشك أن ينظره حتى تراجع منذعرًا؛ إذ علم أنه نفس الخادم الذي ادَّعَى أن العربة صدمته حينما كان المركيز دي شمري عنده، فخرج لمعالجته تاركًا المركيز في غرفته كما عرف القراء.
وعند ذلك غادر المستشفى وذهب إلى منزل الكونت أرتوف، فاستقبلته باكارا وأخذته إلى الحديقة، حيث كان الكونت جالسًا على مقعد وهو يرسم على الرمل بعصاه الحرف الأول من اسم باكارا، غير مكترث بشيء مما حوله، فإذا أتم رسمه محا الحرف نفسه، وهكذا دون انقطاع.
وكان الطبيب يراقبه، فلما أيقن أنه لا يهتم إلا بأمر واحد، علم أنه مسموم لا محالة بذلك السم الهندي، فالتفت إلى باكارا وقال: اطمئني يا سيدتي فإني سأشفيه بإذن الله، واسمحي لي أن أسألك سؤالًا واحدًا، وهو هل كانت علاقاتكم وطيدة مع الدوق دي مايلي؟
– نعم.
فأخرج الجريدة من جيبه وطلب إليها أن تقرأ ذلك الفصل الذي قرأه، فلما قرأته قرأت اسم فانتير ومدام فيبار، جمدت عيناها وقالت: كل ذلك من صنع أندريا.
وكان الكونت لا يزال يرسم رسمه على الرمل، فلما ثابت باكارا من دهشتها أشارت إلى الطبيب أن يتبعها، وخلت به فقالت: إن كل ما قرأناه وعلمناه يدل على حدوث الجريمة، ولكن الظلمات تكتنفنا فلا نعلم شيئًا أكيدًا، وينبغي أن نخرج من هذه الظلمات إلى النور، وَلْنبدأ بما عثرنا عليه أمس، فلقد ثبت لنا أن السم قد سُرِق من غرفتك.
– هذا لا ريب فيه.
– ثم إنكَ أصبحتَ واثقًا أن السارق هو المركيز دي شمري.
– لم يَعُدْ لدي أقل شك، فلقد ذكرت إلحاحه عليَّ بالحديث بشأن هذا السم.
– وقد ثبت لكَ اليوم أن جنون زوجي كان لشربه السم.
– وذاك أكيد أيضًا.
– إذن اسمع ما حدث لي.
ثم قصَّتْ عليه حديث رولاند وريبيكا بالتفصيل، إلى أن قالت له: إن ريبيكا لا تعرف الرجل الذي كان يغويها، ولكنها عرفت المنزل الذي كان قادها إليه في أول ليلة لقيها، وهو في شارع سوسانس.
فأجفل الطبيب وقال: إن للمركيز دي شمري منزلًا في الشارع يُستقبَل فيه باسم فريدريك.
– ألعلك ذهبتَ إلى ذاك المنزل؟
– عدة مرات، فقد كان يدعوني إليه لمعالجة رجل بحَّار مقطوع اللسان، وشوَّهَتِ القبائل المتوحشة وجهه بالوشوم.
فارتعدت باكارا عند سماعها قول الطبيب وقالت: أتقول إنه مشوَّه مقطوع اللسان؟
فتعجَّبَ الطبيب لاضطرابها وقال: هل تعرفين الرجل؟
كيف لا أعرفه وأنا التي قطعتُ لسانه بعد أن لاقيت منه الأهوال الشداد، فإن الرجل الذي قال عنه المركيز دي شمري إنه بحار إنكليزي ما هو إلا الفيكونت أندريا؛ أي السير فيليام.
وعند ذلك قصَّتْ باكارا عليه حكاية أندريا إلى أن قالت: إن فانتير ومدام فيبار كانا من أعوانه، ولقد حاربت هذا الرجل أربعة أعوام حروبًا هائلة كنتُ المنتصرة في ختامها، ولا شك أن فانتير وتلك العجوز لم يُقتَلَا إلا بأمره، ولا شك أيضًا أن المركيز دي شمري كان آلةً بيد أندريا، فانتقم مني بما صنعه بزوجي وبثلم شرفي، غير أنه إذا كانت فائدة أندريا الانتقام، فأية فائدة لهذا المركيز من هذا الانتقام؟
انذهل الطبيب مما سمع وقال: إن هذا سر غامض!
– أنتَ واثق من أن زامبا الذي رأيته في المستشفى هو نفس الخادم الذي عالجته عند باب منزلك حين سُرِق منك السم؟
– أتم الثقة.
– إذن لنبدأ به، إنه لا شك شريك السارق، ولم يَعُدْ لديَّ ريب الآن أن الدوق دي مايلي سيد هذا الخادم قد مات مسمومًا باليد نفسها التي دسَّتِ السم للكونت أرتوف، ولا أعلم الآن حقيقة هذا الرابط السري الذي يوثق بين أندريا والمركيز وزامبا، غير أن هذا الخادم كان يُدعَى زامبا حقيقة، فقد كان قبل أن يخدم الدوق خادم الدون جوزيف الذي قتلته خليلته في مرقص الجنرال الإسباني منذ شهرين، وقد كان الدون جوزيف هذا خطيب ابنة الدوق سالاندريرا.
فقال الطبيب: نعم، لقد سمعت بشيء من هذا.
– لا أعلم الآن لماذا دخل زامبا في خدمة الدوق بعد قَتْل سيده، ولكن هذا اتفاق غريب؛ وهو أن سيده كان خطيب ابنة الدوق، وكان الدوق دي مايلي يحبها أيضًا وقد طلب الاقتران بها، وكان ينتظر أوراقًا خطيرة من روسيا تحمل الدوق الإسباني على الرضى بتزويجه ابنته متى اطِّلَع عليها، على أننا مع جميع ما عرفناه لا تزال تحيط بنا الظلمات، أتعرف أين نجد النور الذي يبدِّد هذا الظلام ويكشف لنا الغامض عن هذه الأسرار؟
– أين؟
– في عقل الرجل المفقود الذي يُسمَّى زامبا، أتظن أن شفاءه من الممكنات.
– نعم، وقد يُشفَى بسرعة، فإن جنونه لم يحدث إلا على أثر الرعب الذي تولَّاه.
– إذن اعلم أنه إذا كان هذا البحري المشوَّه هو أندريا، وإذا كان المركيز دي شمري آلةً بيد أندريا، وإذا كان الدوق دي مايلي قد مات مسمومًا؛ فإن الدقائق تعد بالساعات.
– ولماذا؟
– يجب السرعة، فإن قريحة أندريا الجهنمية لا تقف عند حد فضيحة امرأة وقتل رجل.
– إذن فَلْنسرع، وأول ما أطلبه إليك أن تسألي أحد أصحابك من ذوي النفوذ أن يساعدني لدى الحكومة، فتأذن لي بمعالجة زامبا في منزلي.
– إن ذلك سهل ميسور. ثم قامت من ساعتها وكتبَتْ كتابًا مطولًا بهذا الشأن إلى الكونت أرمان دي كركاز وأعطته للطبيب، فأخذه وودَّعها وصار به إلى الكونت أرمان.
وبعد ثلاث ساعات ورد إليها كتاب من الطبيب يقول فيه إنه فاز بمراده، وإن الكونت ذهب بنفسه معه إلى دار الحكومة، وإن زامبا عنده في بيته.
فلما قرأَتْه قالت في نفسها تخاطِب أندريا: إنك قد عُدْتَ إلى القتال، ولكني سأظفر بك أيضًا، وفي هذه المرة لا أُبقِي عليك، ولا أكتفي بتشويه أعضائك، بل أريح الأرض من وجودك.
غير أن باكارا أخطأت، فليست هي التي ستقتل السير فيليام.
٤٢
بعد ثلاثة أيام من الحوادث المتقدمة قَدِمت باكارا إلى منزل الطبيب صموئيل، فأخبرها أن زامبا قد عاد إليه صوابه، وأنه عازم على أن يبوح بكل شيء، فدعوه إلى غرفة السموم، وجعلت باكارا تسأله وهو يجيبها، ثم لما انتهت من أسئلتها جعل يخبرها بما عرفه من شأن هذا الرجل المتنكِّر، وكيف أنه تنكَّرَ بزي سائس وشكَّ الدبابيس بكرسي الدوق دي مايلي، فأدمى يديه وسرت إليه العدوى من جواده.
ثم ذكر لهم بالتفصيل جريمة المؤامرة على فانتير، وقتل مدام فيبار، وكيف أنه سمع تلك العجوز دعته روكامبول.
فصاحت باكارا صيحة منكرة، وذكرت دون أن تريد اسم أندريا، غير أنها ما لبثت أن ثابت من دهشتها حتى انكشفت تلك الأسرار بعض الانكشاف، وأيقنت أن روكامبول أراد قتل هؤلاء الثلاثة خشيةً على سره من الافتضاح، فقالت للطبيب ولرولاند الذي كان يصحبهما: دعاني أسأل هذا الرجل، فإني أعلم من هذه الأسرار ما لا تعلمان.
ثم التفتَتْ إلى زامبا وقالت له: اعلم أيها الرجل أنك في قبضة الحكومة التي عهدت إلى الطبيب صموئيل معالجتك، فمتى شاء الطبيب ردَّكَ إليها، أصغِ إليَّ الآن فإنك قد اعترفت بإقرارك أنك أنت الذي قتلتَ فانتير، ويكفي أن يشهد الطبيب والمسيو رولاند عليك، فلا يكون جزاؤك إلا الإعدام.
فاصطكت أسنان زامبا من الخوف وأجاب: عفوك يا سيدتي!
– إن العفو مناط بإقرارك بكل شيء.
فيأس زامبا عند ذلك ولم يجد له منقذًا إلا الإقرار التام، فحكى لها كيف أن روكامبول اطِّلَعَ على سر جريمته التي ارتكبها في إسبانيا، فاستعبده من أجلها، وذكر لها جميع ما كان يحدث بينهما في شارع سرسانس.
فقالت باكارا عند ذلك لرولاند: أعرفت الكونت فابيان؟
– نعم، إنه من خير الناس.
– وكيف علائقه مع ابن عمه المركيز شمري؟
– إنها على أحسن حال، فإن الكونت يحبه حبًّا شديدًا.
فعجبت باكارا من ذلك وقالت لزامبا: أعرفت المركيز شمري؟
– نعم، رأيته مرتين، إحداهما في منزل الدوق سالاندريرا، والثانية في جنازة الدون جوزيف.
فسألت باكارا الطبيب عند ذلك أن يتحفظ على زامبا في منزله، فأمر خادمه بالذهاب به إلى الغرفة المعدَّة له، بعد أن وعده خيرًا، ولما خلت باكارا برولاند والطبيب قالت لهما: إني أرى أن تسميم زوجي وتسميم الدوق دي مايلي وقتل الدون جوزيف جميعها صُنْع يد واحدة، وأن صاحب هذه المكيدة كان يحاول أمرًا واحدًا، وهو إبعاد هذين الخطيبين عن ابنة الدوق الإسباني ليزوِّجها برجل ثالث، أما هذا الرجل فلا أعرفه، ولا أخشى إلا أن يكون روكامبول الذي لا يقف بجرائمه عند حد، ولكني لا أدري كيف يجسر هذا اللص على الطمع بزواج ابنة دوق من أعظم عظماء الإسبان، ولكني أرجح أنه يخدم سواه في هذه المهمة.
أما أَوْجُه تهمة المركيز دي شمري فهي متعددة: منها أنه أرسل خادمًا إلى رولاند فمثَّل دورًا مهمًّا في الخيانة التي اتُّهِمْتُ بها، ومنها أنه هو الذي سرق السم الذي تسمَّم به زوجي، ومنها أنه كان يقيم في منزل سري له في شارع سرسانس، وهو المنزل الذي كان يعالج فيه البحار الإنكليزي، وقد كان زامبا يجتمع به في ذلك المحل نفسه؛ أي إن الطبيب عرفه فيه باسم المركيز دي شمري كما عرفه زامبا باسم روكامبول في اليوم الأخير، فهل حدثت جميع هذه الجرائم لخدمة المركيز دي شمري؟ وإلا فأية علاقة بينه وبين روكامبول؟ وهل يمكن أن يكون الاثنان واحدًا؟ إن ذلك لا يُصدَّق.
فقال رولاند: إن للمركيز دي شمري شهرة واسعة، وليس بين أصحابه مَن يذكره بسوء، وعندي أنه يستحيل أن يكون له أدنى اتصال بمثل هؤلاء اللصوص.
– لم يَبْقَ إذن إلا أن يكون روكامبول قد تقمَّص بالمركيز دي شمري؛ لأن هذا المركيز فارَقَ أهله صغيرًا وعاد بعد أعوام طويلة، فلا يبعد أن يكون هذا اللص وقف على سر هذه العائلة وجاءها بصفة ابنها وهو واثق من موته، أو أنه قتله واطَّلَعَ على أوراقه، فإني أعرف كثيرًا من أمثال هذه الحكايات.
فقال رولاند منكرًا عليها هذا الظن: إن كل شيء ممكن، ولكنكِ يا سيدتي رأيتِ المركيز وأنت تعرفين روكامبول كما تقولين.
– نعم، ولكني ما رأيته غير مرة ولم أنتبه إليه، ولم يَعُدْ لي بدٌّ من أن أراه؛ لأن هذا الشك قد تمكَّنَ مني فلا يزول.
أجابها رولاند: إن ذلك سهل، فإني أدعوه إلى منزلي للطعام، وتختبئين في غرفةٍ لترينه وتسمعين كلامه كما تشائين.
فقال الطبيب: إن ذلك غير ميسور الآن؛ لأن المركيز قد غادر باريس منذ ثلاثة أيام.
فقالت باكارا: ألعله سافر وحده؟
– كلا، بل صحب معه ذلك البحَّار المشوَّه الذي تقولين إنه أندريا.
– إنه أندريا دون شك، ولكن أعلمتَ أين سافر؟
– نعم، إنه ذهب إلى أرضٍ لصهره يريد بَيْعَها للدوق سالاندريرا، وقد ذهبت العائلتان منذ أسبوع، ولحق بهما المركيز منذ ثلاثة أيام.
فقالت باكارا: إني أعرف هذه الأرض، ولا بد لي أن أرى المركيز.
ثم قالت لرولاند: احضرْ إليَّ في صباح غد، واحرص أشد الحرص على أن تبوح بشيء مما سمعتَ؛ لأن كلمةً واحدةً تخرج من فمك، تُفسِد جميع ما أنا شارعة فيه.
ثم ودَّعَتْهما وعادت إلى منزلها.
وفي اليوم التالي جاء رولاند حسب الاتفاق، فذهل إذ رأى باكارا مرتدية بملابس الغلمان، ومتأهبة للسفر، فقالت له: إني تنكَّرْتُ بهذا الزي كي يسهل اختلاطي بخدَّام الكونت فابيان، فأرى المركيز كل حين.
– ألعلكِ ذاهبة إلى تلك الأرض؟
– بل إني ذاهبة معكَ إلى أرض عمك المجاورة لها، فهلم بنا إليها، وإني أرجو أن أتبيَّن فيها وجه المركيز على ما أشاء.
فامتثل رولاند لها وخرج الاثنان فركبا مركبة وسارت بهما إلى تلك الأراضي، غير أنهما ذهَبَا بعد الأوان؛ لأن أندريا وروكامبول سبقاهما بأربعة أيام جرى في خلالها من الحوادث ما سنقصه على القراء.
٤٣
وليس في هذه الأراضي التي أراد الدوق سالاندريرا شراءها من صهر روكامبول سوى أنها زراعية طيبة المناخ، وفيها قصر قديم البناء تنبسط أمامه مروج خضراء، تنتهي بوادٍ عميق هائل نشأت الصخور في جوفه، واشتهرت تلك الأرض بذلك الوادي.
وكان فابيان وامرأته والدوق وابنته أقاموا جميعًا في هذا القصر المتسع، وجعلوا يخرجون كل يوم للصيد في الأراضي الفسيحة، فيقضي الدوق الإسباني حاجتين؛ وهما النزهة وفحص تلك الأرض التي عزم على شرائها.
وقد تمكَّنَتِ الصداقة في هذه الأيام القلائل بين امرأة فابيان وبين الغادة الإسبانية، حتى أفضت إلى أن الغادة باحت لها بحبها لأخيها، وأنها تخشى معارضة أبيها.
وكانت امرأة فابيان تحب روكامبول حبًّا شديدًا لاعتقادها أنه أخوها، وهي لم تصحب زوجها بهذه الحيلة إلا تمهيدًا لزواجه بابنة الدوق بما تبذله من المساعي في هذا السبيل، فكانت تؤنس الشيخ وتلاطِفه حتى مال إليها ميلًا عظيمًا، وباحثته مرارًا بشأن أخيها بأحاديث مزوَّقة جعلت لروكامبول مكانةً عظيمةً في نفس الدوق، فرضي عنه كل الرضى.
وكانت تكتم جميع هذه الأحاديث عن الغادة الإسبانية، ولكنها كلما خلَتْ بها أملتها خيرًا إلى أن قالت لها ابنة الدوق يومًا: أراكِ تكتمين عني أمورًا كثيرة، وكلما سألتكِ عما يجري بينك وبين أبي تدعينني إلى الصبر وتحملينني على الرجاء.
– نعم، ولا أزال أدعوك إلى الرجاء.
– سأرجو كما تشائين، ولكن أَلَا تقولين لي على أي أمر تعتمدين في هذا الرجاء؛ لأن أبي لم يقل لي كلمةً بعدُ عن المركيز.
– إذن، أصغي إليَّ لأني سأخبرك بكل شيء، إن أباك يحبك حبًّا يقرب من العبادة، ولا أكتمك الآن ما يحملني على هذا الرجاء ما قاله لي، وهو أنه سيدع لك الخيار في انتقاء الزوج الذي تهواه نفسك.
فظهرت علائم السرور على محيا ابنة الدوق وقالت: أهو الذي قال لك هذا الكلام؟ وبأية مناسبة جرى الحديث؟
– أتذكرين يوم ذهبت مع أمك وزوجي للنزهة، وبقيت أنا مع أبيك في القصر.
– نعم.
– بينما كنتُ أتنزَّه وإياه في الحديقة سألني: إني أعجب كيف أن أخاك المركيز لم يحضر معنا؟ فاضطربتُ عند ذلك اضطرابًا لم يخْفَ على الدوق، وسألني عن أسباب اضطرابي، فقلتُ له عند ذلك إن أخي يحب حب يأس، وإن هذا الحب الذي لا رجاء فيه حال دون قدومه إلى هذه القرية، فعجب أبوك وقال: كيف ذلك؟ ألعل تلك الفتاة التي يهواها مقيمة في القرية؟ قلت: كلا، بل إنها أتت إليها منذ ثلاثة أيام. فلما قلتُ هذا الكلام الصريح اضطربتُ اضطرابًا عظيمًا، وكنتُ أحسب أن حياتي متعلقة بتلك الكلمة التي ستخرج من فم أبيك، بل كنتُ أخشى أن يقول لي: إن أخاك عظيم الجسارة. غير أنه لم يقل شيئًا من ذلك، ولكنه دهش لسؤالي ثم قال: أأنت واثقة مما تقولين؟ قلتُ: كل الثقة يا سيدي لأني أخته. قال: أيحبها حبًّا شديدًا؟ قلت: ليس وراء حبه حب؛ لأنه عاش في بلاد الهند ولم يعرف الهوى قبل أن يرى ابنتك، فملكت شغافه وتمكَّنَ حبها من فؤاده أي تمكُّن، حتى بِتُّ أخشى عليه من الهلاك؛ لأنه يكتم أمره في صدره، وهو يعلم أن عائلة سالاندريرا أعرق نسبًا من عائلته وأبعد شهرةً.
فقاطعني أبوك قائلًا: إن عائلتي يا سيدتي أكثر شهرةً غير أنها ليست أعرق نسبًا. قلتُ: وفوق ذلك يا سيدي إن التباين عظيم بين ثروتك وثروته. فابتسم الدوق وقال لي بانعطاف: إننا متى اشتركنا زال التباين. ثم أضاف بكآبة: إني عزمت يا سيدتي عزمًا أكيدًا أن أطلق لابنتي الحرية باختيار الزوج الذي تريده، وذلك لأني اخترت لها ثلاثة خطَّاب فقُضِيَ عليهم جميعًا حتى تشاءمت من نفسي، وبِتُّ أشفق على مَن يقع عليه اختياري من الخطَّاب.
فاختلج فؤادي عند هذا القول وقلتُ: إذن إذا كانت ابنتك تحب أخي أيمكن أن … فقاطعني قائلًا: إنها تغدو دون شك المركيزة دي شمري في أقرب حين، ولكني أخشى أن لا يكون هذا الحب متبادَلًا بينهما، وأن تكون ابنتي تحب سواه.
فصحت صيحة فرح وقلت: سترى أنها تحبه، وإذا شئتَ أن تمتحن ذلك فاذكر اسمه عرضًا ونحن على المائدة، ثم انظر إليها فترى ما يكون. أجاب: حسنًا سأمتحن هذا الامتحان.
وقد فعل ذلك، فإنكم بعد أن رجعتم من النزهة وجلسنا جميعًا على المائدة، ذكر أبوك اسم أخي، ثم نظر إليك ونظرت معه، فرأيت أن وجهك قد احمرَّ احمرارًا شديدًا، وابتسم لي أبوك ابتسامًا خفيًّا أشار فيه إلى اقتناعه من تبادل الحب، وبعد أن قمنا عن المائدة خلا بي وقال لي: لقد أصبتِ فيما قُلْتِه لي، فاكتبي لأخيك أن يحضر. وقد كتبتُ له أمس.
فنهضت ابنة الدوق وأكبت على عنق امرأة فابيان تقبِّلها، فجعلتا تتعانقان وكلٌّ منهما تنادي صاحبتها بأختي.
وكان الكتاب وقد وصل إلى روكامبول، كما يذكر القراء، فأخذ أندريا وسافر معه.
وفي اليوم التالي خرج الدوق وامرأته وابنته وفابيان وامرأته من القصر للنزهة، فلم يمشوا بضع خطوات حتى سمعوا صوت مركبة قادمة، فوقفوا ينتظرون قدومها لندور قدوم المسافرين إلى هذه القرية، وكانوا كلهم يتكهنون عن القادمين بها ما عدا ابنة الدوق وامرأة فابيان، فإنهما كانتا موقنتين أن القادم هو المركيز دون سواه.
ولم يَطُلْ وقوفهم حتى وصلت المركبة وكان فيها روكامبول وأندريا، فلما رآهم روكامبول وثَبَ مسرعًا إلى صهره وأخته فعانقهما، وسلَّم على الدوق وامرأته وابنته باحترام شديد ممزوج بمظاهر الكآبة، ثم قال لهم: إني أحضرتُ معي ذلك البحار المسكين لتغيير الهواء، فقد كان يضنيه انحباسه في المنزل.
فقالوا جميعًا: حسنًا فعلت.
وعادوا إلى المنزل فوضعوا أندريا في غرفة خاصة، وعيَّنوا أحد خدَّام القصر لخدمته، ثم خرجوا جميعًا للنزهة ثانيةً، فعلم روكامبول من أخته ومن ابنة الدوق كلَّ ما تقدَّم لنا بيانه، ففرح فرحًا لا يُوصَف وأيقن من زواجه بتلك الغادة الإسبانية التي كلَّفَتْه إهراق كثير من الدماء، وعرَّضَتْه لأشد الأخطار، وبعد ذلك انضم إلى الدوق وفابيان، وكانا يتحدثان بأمور الصيد، وقد اتفقا أن يخرجا في الغد لصيد الدب، فقال لروكامبول: أتخرج معنا غدًا للصيد؟
– بملء الرضى، فإني تعوَّدْتُ صيد الوحوش الكاسرة في الهند، ولا أحب إليَّ من هذا الصيد.
ولما عادوا إلى القصر دخل روكامبول إلى غرفة أندريا، فأخبره بجميع ما كان، فظهرت علائم السرور على وجه هذا الرجل الذي لم يعرف قلبه الحب الصحيح إلى أن أُصِيب بتلك النكبة وانقطعت آماله من غرور الحياة، فعادت إليه العواطف الإنسانية، وأصبح يحن إلى روكامبول ويحبه حب الآباء للأبناء، فضغط ضغطًا شديدًا إشارةً إلى ما تولَّاه من الفرح، وأخذ لوحه الحجري وكتب عليه كتابةً طويلةً أرشد فيها تلميذه إلى طريقةٍ يعرِّض فيها حالة الدوق للخطر في الصيد، ثم ينقذه من الخطر.
فعلمها ودخل إلى غرفته، فنام نوم المطمئن وهو يحلم طول ليلته بملايين الإسبانية وتاج الدوقية.
وخرج في اليوم التالي الدوق وفابيان وروكامبول بحاشية كبيرة من الخدم وقوَّاد الكلاب، وقد التمس روكامبول من الدوق أن يوليه إدارة هذا الصيد ففعل، فأصدر روكامبول أوامره للخدم أن يطاردوا الدب في جهة عيَّنها لهم، إلى أن وصلوا إليها، فعيَّن موقف الدوق فجعله بعيدًا عن فابيان، واختبأ هو على مسافة قريبة منهما بين الأدغال، فجعلوا ينظرون قدوم الوحش بفارغ الصبر، وكلهم متأهِّب على صهوة جواده لقتاله.
وبعد ساعة علا نباح الكلاب وقدم الوحش من جهة الدوق، فصوَّب الدوق بندقيته عليه وأطلق النار فأخطأه، فهاج غضب الدب فأطلق النار عليه ثانيةً فجرحه جرحًا بالغًا، غير أن الوحش لم يسقط بل هاج هياجًا عظيمًا وهجم على جواد الدوق ونشب أنيابه في ساقه، فسقط الجواد بفارسه على الأرض، وأيقن الدوق من الموت فرمي بندقيته واستلَّ خنجره للدفاع به الدفاع الأخير، وشعر بأنفاس الدب تهب على وجهه وهو يمزق صدر الجواد، ولكنه قبل أن يصل الوحش إليه سمع دوي بندقية ورأى أن رصاصة وقعت في ظهر الدب، فترك الوحش الجواد منذعرًا والتفت إلى الوراء ليرى هذا العدو الجديد.
والتفت الدوق بعده فرأى روكامبول هاجمًا عليه بجواده، ورأى الوحش هاجمًا عليه، فأطلق عليه روكامبول رصاصةً ثانيةً، ثم ترجَّل عن جواده فاستلَّ خنجره وهجم على الوحش بعد أن أصابه رصاصه بجراح بالغة، وما زالا يتجولان وروكامبول يحذِّره ويلتمس منه مطعنًا حتى ظفر به وطعنه بخنجره طعنة صادقة بقلبه، فانقلب الدب صريعًا يتخبط بدمائه.
وفيما هو يمسح خنجره بجلده غير مكترث لشيء، إذ دنا منه الدوق وقال له بصوت يتهدج: اركع يا بني واشكر الله معي، فلقد نذرت إليه نذرًا وأجابني إلى دعائي.
فقال روكامبول: أي نذر هو يا سيدي؟
– إني كنتُ منذ خمس دقائق بين مخالب هذا الوحش الكاسر، فنذرت إلى الله أن أجعلكَ ولدًا لي إذا سلمتُ من هذا الخطر، وقد سلمتُ منه وأنت الذي أنقذتني.
فوجف قلب روكامبول وأجاب: أنا ولدك؟
– نعم يا بني، عرفت كل شيء فإنك تحب ابنتي وهي تحبك، ولا بد لكما من القران.
وعند ذلك رأى روكامبول أن حسن الذوق والمجاملة يقضيان عليه بالإغماء، فتظاهر أنه أغمي عليه من السرور وسقط على الأرض لا يعي.
فأسرع الدوق إليه وجعل يفك أزرار ثوبه وينادي فابيان إلى أن أتى لنجدته، فرأى روكامبول أنه قد حان له أن يفيق من ذلك الإغماء الكاذب، فلما استفاق رأى أمامه الدوق وفابيان، فقال الدوق لفابيان وهو يضطرب: أصغِ إليَّ أيها الفيكونت، إن ثلاثةً خطبوا ابنتي فلقي كلٌّ حتفه دون أن يحقِّق أمانيه من الزواج، حتى لقد بِتُّ أخشى على المركيز وهو الخطيب الرابع، ولما كان المركيز قد أصبح ولدي وكنتُ مدينًا له بالحياة؛ فَلْنسرع بعقد زواجه على ابنتي لأن هذا الزواج لا بد منه في القريب العاجل، بل إني أريد أن يكون غدًا وهو يوم أحد، فتولَّ عني إبلاغ الكنيسة هذا الزفاف الذي سنحتفل بالإعلان عنه غدًا دون شك.
٤٤
وفي يوم الأحد، أي في اليوم التالي، وعظ الكاهن في كنيسة تلك القرية الصغيرة، وأعلن الناس أنه سيحتفل قريبًا بزواج المركيز فريدريك ألبرت أرنوريه دي شمري أحد ضباط البحرية في الهند الإنكليزية، على المدموازيل كسبسيون ابنة الدوق سالاندريرا.
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر جاء المسجل إلى القصر، فخلا بالدوق ساعة، ثم خرج به إلى القاعة العمومية حيث كان ينتظرهما الفيكونت فابيان وامرأته وامرأة الدوق وأندريا وهو جالس بينهم بملابسه الرسمية، وكان روكامبول والغادة الإسبانية جالسَيْن بمعزل عن الحضور يتناجيان الغرام.
فجعل المسجل يكتب شروط الزواج أمام الدوق وفابيان الذي كان ينوب عن روكامبول، وقد ذكر فيها ثروة روكامبول وخطيبته، وأن الدوق يحق له أن يورث ألقابه واسمه للمركيز دي شمري بعد وفاته، فيتسمَّى المركيز باسمه ويُلقَّب بالدوق سالاندريرا حفظًا لنسب العائلة؛ إذ ليس لها وريث ذكر.
وبعد أن أتم الكتابة أقبل الجميع وفي مقدمتهم روكامبول وخطيبته، فوقَّعَا على صك الزواج، ثم تلاهما الباقون إلى أن انتهى الدور إلى أندريا، فقاده روكامبول إلى الطاولة وأعطاه القلم.
فأدمعت عينا أندريا حنوًّا على تلميذه، وجعل القلم يرتجف بيد هذا الرجل الجهنمي الذي لم يرتجف بيده الخنجر!
٤٥
في مساء ذلك اليوم الذي فاز فيه روكامبول بما يبتغيه بعد جده الطويل، وبعد أن قتل في هذا السبيل النورية ومرضعتها والدون جوزيف والدوق دي مايلي وفانتير ومدام فيبار، وبعد أن هتك عرض باكارا وذهب بعقل زوجها، وبعد أن قتل المركيز شمري وزامبا كما يظن، كان الليل مدلهمًّا والحر شديدًا، والرياح تهب حارة والسماء متلبدة بالضباب، وعند منتصف الليل جعل الرعد يقصف والبرق يتألق في تلك السماء المظلمة.
وكان جميع سكان القصر نيامًا، ولم يَبْقَ صاحيًا غير روكامبول، فكان يسير في غرفته ذهابًا وإيابًا سير المضطرب يتنازع فؤاده عاملان لا يعلم إلى أيهما يخضع.
وكان يقف خلال مسيره فيضع يديه على جبهته، ثم يعود إلى السير بخطوات غير متوازنة تدل على اضطرابه، ثم يدنو من زجاج النافذة فيفتحه وينظر إلى ذلك الوادي السحيق الذي يشرف عليه القصر، فيتراجع منذعرًا ويعود إلى مشيه المضطرب.
فما أصاب هذا الرجل وقد أدرك أقصى أمانيه، فوقَّعَ على صك الزواج وتعيَّن القران الديني في الليلة التالية؟ ألعله أصيب بنكبة بعد التوقيع على الصك، أم تأخَّر الزواج لعارض فجائي؟
كلا، إنه لم يُصَبْ بشيء من ذلك، ولكنه كان مضطربًا لأنه كان يحاول الإقدام على أمر هائل تنازعت فيه مصلحته وعواطفه، إذا صح القول بأن لهذا السفَّاك الجهنمي عواطف إنسان دون أن نهين تلك الكلمة.
وكان يناجيه أثناء سيره المضطرب صوتان: صوت حب الذات والأثرة الوحشية التي كمنت في فؤاد لص قاتل يريد أن يمحو جميع براهين ذنوبه السابقة، وصوت يقرع ضميره ونفسه ويذكره واجب الإشفاق والامتنان وعرفان الجميل.
غير أن لكل نزاع نهاية، وقد انتهى تنازع نفسه بالإصغاء إلى الصوت الأول، فرفع رأسه بعد انخفاض وقال: لا بد لي من الانتهاء، فسأغدو من عظماء الإسبان، ولا يجب أن يبقى في هذه الأرض مَن يعرف جرائمي واسمي القديم.
وعند ذلك امتنع تردُّده، فزرَّر ثوبه ولبس قبعته وفتح باب الغرفة، فخرج منه يحمل مصباحًا، ودخل إلى غرفة أندريا فوجده في سريره ولكنه لم يكن نائمًا، فقال له: أراك مثلي أرقًا، ألعل الحر منعك عن النوم؟
فأشار برأسه إشارة إيجاب، فقال روكامبول: وأنا كذلك، وقد زاد على الحر أني سأتزوج غدًا، وكيف يستطيع المرء رقادًا ليلة زفافه؟ ثم إني أتيتك لأحدثك بمشروعاتي في المستقبل.
فابتسم أندريا ابتسامًا معنويًّا كأنه يريد أن يقول لتلميذه: ألعلك مللت الشر بعد بلوغك منتهى ما طمعت فيه، وأردتَ أن تكفِّر عن ذنوبك بصنع الخير؟
فأدرك روكامبول معنى ابتسامه وقال: هو ما تظن؛ إذ أصبحت في غنى عن ارتكاب الموبقات.
ثم أعطاه سيكارة وقال: هلم بنا نخرج إلى السطح فنتحدَّث مليًّا ونأمن شر هذا الحر.
فامتثل أندريا وخرج به روكامبول بعد أن ألبسه ثيابه إلى السطح المشرف على الوادي، وجلسا هناك على حافة السطح يتحدثان الواحد بلسانه والآخَر بإشارات رأسه ويديه، فقال روكامبول مفتتحًا الحديث: أتعلم يا عماه أني قد نلتُ ما لا يُنال وغدوت من عظماء الإسبان، وأنا لا أعلم أين وُلِدْتُ، وقد رُبِّيتُ في خمارة، فنشأت بها سفَّاكًا لا يقف بجرائمه عند حد؟
فهزَّ أندريا رأسه إشارةً إلى الموافقة وهو يبتسم إعجابًا بتلميذه، فقال روكامبول: إن صفحتين تُكتَبَان من تاريخ حياتي تكفيان لإرسالي إلى ليمان طولون، وأربع صفحات تبعث بي إلى المشنقة، ولكنك تعلم أن هذه الصفحات الأربع لا يأذن المركيز شمري سالاندريرا أن تُكتَب، ولقد أرشدْتَني يا عماه إلى التخلص من الذين وقفوا على بعض أسراري، فقتلتُ الثلاثة ودفنتُهم في قبو واحد، فلم يَعُدِ الآن في الأرض مَن يعلم أن المركيز دي شمري كان يُدعَى روكامبول إلا أنت يا عماه.
فابتسم أندريا ابتسامًا كأنه يقول له: إنك تعلم أني لا أخونك، وأني أحبك كما يحب الأب وحيدًا له.
فلم يحفل روكامبول بما رآه وقال: أتعلم أين نحن الآن؟ إننا في أقصى مكان من سطح هذا القصر الشاهق، وهو مكان منعزل لا يحيط جار، ولا تبلغ الأصوات منه سكان القصر، فلو أراد أحدهم قتل إنسان فيه لما سمع استغاثته أحد.
ولم يكن أندريا يستطيع المحادثة؛ لأن لوحه الحجري لم يكون معه، فكان روكامبول يتولَّى الحديث وحده فقال بعد سكوت قصير: إن الفضيلة خير ما تستنير به النفوس يا عماه، ولا سيما لمَن سار مسيري في طريق الآثام، ولهذا فسأكون من فضلاء القوم إرضاءً لعروسي، وأغدو في طليعة رجال الخير والإحسان كما تقتضيه ثروتي الطائلة ومركزي العظيم.
فصفَّقَ أندريا بيديه إشارةً إلى الانذهال من استحالة أخلاق تلميذه، فقال روكامبول: لا تعجب أيها الأستاذ، فلقد ألقت تمثيل دور المركيز دي شمري حتى بِتُّ أصدِّق نفسي، ولا أحسب إلا أني وُلِدْتُ مركيزًا ولم أُدْعَ يومًا بروكامبول، ولم أعرف أبدًا هذا الرجل السافل الجهنمي الذي يُدعَى السير فيليام.
وقد قال هذا القول وجعل يضحك ضحكًا شديدًا، فلم يستاء أندريا، وحمل تلك الإهانة على محمل المزاح.
ثم عاد روكامبول إلى الحديث فقال: لقد أحسنتُ إلى نفسي حين لقيتك وأنت تُعرَض على المسارح لقبح سحنتك وتشويه خلقتك، فأنقذتك وذلك لأنك أرشدتني خير إرشاد في مسائل الدون جوزيف والدوق دي مايلي والكونت أرتوف، وليس مَن ينكر أنك داهية شديد الذكاء، غير أن لديك عيبين عظيمين يا عماه، أحدهما أنك لا تزال تكره أخاك الكونت إرمان دي كركاز كرهًا شديدًا، فإذا لم أضع حدًّا لكرهك فقد تدفعني إلى الانغماس في جرائم أخرى؛ كي تشفي غلك دون الانتقام، وأنا أحب أن أعيش عيشًا صالحًا أحفظ به كرامة اسمي الشريف. وعيبك الثاني أنك تجاهِر بمبدأك، فقد علَّمتني يومًا هذه القاعدة، وهي أنه إذا اشترك اثنان في جريمة وجَبَ على القوي منهما أن يقتل الضعيف.
فلما سمع أندريا هذا القول ملأ الشك قلبه، وحاول أن يقف فوضع روكامبول يده على كتفه وقال له ضاحكًا: اجلس أيها الأبله ودَعْني أتمم حديثي فاسمع، إننا الآن يا عماه جالسان على حافة سطح تحته وادٍ سحيق كثير الصخور يبلغ عمقه نحو مائة متر.
فأجفل أندريا وأيقن من قصد روكامبول، فحاول النهوض غير أن روكامبول أسرع إلى عنقه يضغط عليه بيديه كما فعل بمدام فيبار وقال له: يعز عليَّ أن يكون بيننا هذا الفراق، ويكون هذا جزاؤك مني، غير أني أعمل بما علَّمْتَني، ومِثْل المركيز دي شمري لا يجب أن يعرف السير فيليام.
وعند ذلك ضغط ضغطًا شديدًا على عنقه، فوثب أندريا مدفوعًا بحفظ الحياة، وهبَّ هبة شديدة فتخلَّصَ من روكامبول وحاول الفرار، غير أنه لم يعلم أين يفر وهو لا يرى، فأتى روكامبول وحمله يريد إلقاءه إلى الهوة، فجرى بينهما نزاع هائل أسفر عن تغلُّب روكامبول عليه فألقاه إلى الأرض، ووضع ركبته على صدره ويده على فمه، وقال له بلهجة المتهكم: لا تقنط لهذا الموت؛ فسنلتقي في جهنم ولا تعدم وسيلة للانتقام.
ثم دفعه إلى الهوة، فانقلب يهوي في ذلك الوادي السحيق.
فسمع روكامبول صوت سقوط جسمه وتحطُّمه على الصخور، ثم انقطع الصوت وساد السكون.
وعند ذلك قصف الرعد وأبرقت السماء برقًا متصلًا أنار الأرض كما ينيرها ضوء الشمس، فرأى روكامبول على ضوء البرق المتألق جثة أستاذه أندريا ملقاة في أسفل الوادي، وذكر في الحال ما قاله في حياته وهو: «أنا النور الذي يضيء نجم سعودك، فإذا هلكتُ انطفأ النجم.»
فجثا روكامبول على ركبته وقد هاله ما فعل فقال: رباه! لقد خفتُ، أنا الذي لم أعرف الخوف!
وحق لروكامبول أن يخاف، فقد أطفأ بيده تلك الشمعة الجهنمية التي كان يسترشد بها في ظلمات الآثام، وأما أندريا فقد زجَّتْه ذنوبه إلى الهوة الأبدية، فقُتِل باليد التي طالما دفعها للقتل وصحَّ فيه قولنا:
هَكَذَا عَاقِبَةُ الْإِثْمِ فَمَالَقِيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا مَا صَنَع
بَشِّرِ الْقَاتِلَ بِالْقَتْلِ فَمَنْزَرَعَ الشَّرَّ جَنَى مِمَّا زَرَع