المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لو عاد حنبعل


AshganMohamed
02-03-2020, 08:31 AM
الهادي ثابت









لو عاد حنبعل...




رواية






جميع الحقوق محفوظة للمؤلف









الاهداء

إلى كل من جعل تاريخ هذه البلاد منارة من منارات البشرية.
























شكر

أتقدّم بالشكر الجزيل إلى كل من قدّم لي يد المساعدة سواء بمدي ببعض الكتب النادرة حول حياة حنبعل أو مراجعة الأثر بعد إتمامه. وأخص بالذكر الأصدقاء: عبد الرزاق الحليوي، الحبيب ابراهم، محمد بن معمّر وسمير البحري.























تصدير

طرح عليّ صديق روائي عندما حدّثته عن مشروع روايتي حول حنبعل السؤال التالي: ماذا ستضيف لما يعرفه الناس عن حنبعل خاصة أن الرجل استرعى انتباه عدد لا يحصى من الباحثين في ميادين عدة؟
السؤال وجيه وقد اقتنعت به عندما أخذت أطالع ما كان متوفر لدي من كتب عن هذا الرجل العظيم. لكن العمل الروائي هو عمل فني قبل كل شيء. ومن هذا المنطلق ركزت اهتماما كبيرا على هذا الجانب من عملي. ثم إن الأحداث التي نعيشها في بداية هذه الألفية الجديدة جعلت مسيرة حنبعل النضالية أسطورة لا بد من التذكير بها حتى لا ننسى أنه من واجب المؤمنين بقيم الإنسانية مقاومة الجبروت والهيمنة والتسلط.
وقد يظهر لبعض القراء أن الرواية خليط بين الخيال العلمي والتاريخ والسرد الدرامي. في الواقع، كنت أنشد ذلك المزيج، وكنت أبحث من خلاله أن أشق طريقا خاصة، بدأتها في روايتي الأولى "غار الجن "، وهي تعتمد تعرية الواقع بكل تناقضاته، واستشراف المستقبل من خلال ما يتوفر في واقع اليوم من إنجازات أو نكسات.
أرجو أني وفقت في إعادة بناء حياة حنبعل وبصفة عامة في تسليط بعض الأضواء على الحضارة البونية، التي مع الأسف الشديد، ولأسباب عديدة، لم تنل حضها من الدراسة والبحث. وأذكّر هنا أن هذه الحضارة هي منا وإلينا، وروادها أجدادنا، ونحن كتونسيين نعتز بها، ونشعر أنها صبغت كثيرا من طباعنا وعاداتنا وشخصيتنا.
المؤلف


الباب الأول


بحر النسيان


كان واحدا وثلاثين عمرا
وعابرا أوحد
مدّ يده في نحافة الغيم
وعاد بأجرة سمرت قدميه
ثم ولي وجهه شطر الغيوب
وقال لا يأس
إنه زمن العواصف
فويل لمن خفّ وزنه

آدم فتحي
















 1 

كانت أسماء تراقب بانتباه شديد هذا الرجل الغريب الجالس على الأريكة المقابلة للمصرف الذي تقف وراءه. كان شكل الرجل ولباسه ونظراته مسترابة. ظلّت فترة من الزمن تتبع حركاته دون أن ينتبه إليها، لكن عندما رفع نحوها بصره، ورمقها بنظرة خاطفة، تسمّرت في مكانها، وشعرت بقشعريرة تخترق كامل جسدها. أحست بتيار حاد ينبعث من عيني ذلك الرجل، فيعم كل كيانها. ظلّت لحظة متجمّدة في مكانها كالصنم، راشقة نظراتها في الرجل الذي وجه بصره نحو سقف القاعة الفسيحة لنزل عليسة الفخم. ولم تصح من ذهولها إلاّ عندما انحنى عليها زميلها مازحا:
-إلى أين ذهبت بك أحلامك؟
لم تجبه في الحين. لكن عندما وقف الرجل وتقدّم نحو باب القاعة مغادرا النزل، التفتت إلى زميلها سائلة مشيرة بإصبعها في اتجاه الرجل:
-من يكون ؟
ضحك ضحكة عالية وقال:
-لا بد أنه سحرك بنظرته... لقد وقعنا كلنا في سحر تلك النظرة.
ثم مد لها بطاقة ارشادات وتركها تقرؤها باستغراب شديد:
الإسم: حنبعل
اللقب: بركا
اسم الأب: عبد ملقرط
تاريخ الولادة: 10 ماي 247 قبل الميلاد
مكانها: قرطاج
بعد أن قرأت البطاقة، التفتت إلى زميلها، لكنها لم تجده. عادت تنظر جهة الرجل الغريب فلم تعثر له على أثر. ظلّت في ذهولها تمسك بطاقة الإرشادات غير مصدقة المعلومات المدوّنة عليها. ثم عادت تتثبت في تلك المعلومات حتى عثرت على رقم الغرفة: الجناح رقم واحد، أفخم جناح في النزل. وبدون أن تعي ما تفعله غادرت المصرف متوجهة إلى باب الخروج.
تقدّمت بخطى ثابتة نحو الباب العريض، وما أن تخطته حتى بهرها نور الشمس الحادّ. وضعت يدها أمام عينيها، وطفقت تتثبت في المكان باحثة عن الرجل الغريب حتى عثرت عليه يمشى الهوينا في ممر الحديقة الجميلة المزدانة بالأزهار، تفرش أرضها الخضرة. تحركت مترددة، لكنه التفت نحوها، فتسمّرت في مكانها لمّا أدركتها تلك النظرة الساحرة. وعادت تلك القشعريرة تعمّها، فخفضت بصرها تنظر إلى بلاط المدخل المرمري يتلألأ تحت نور الشمس المشعّة. ظلّت في جمودها وكأنها الصنم فترة من الزمن حتى شعرت بخطى تتجه نحوها. رفعت رأسها فتقاطعت نظرتها بنظرته، وشعرت بنفسها تذوب.
اقترب منها حتى لامس رداؤه الحريري زندها العاري، وفاح منه طيب عبق لم تعهده من قبل، أدخل فيها النشوة، لكنها لم تجرؤ على رفع بصرها نحوه من جديد خوفا من أن تذوب في مكانها. سمعت صوتا عذبا يهمس لها:
-ما لجميلتي مرتبكة؟
ثم أمسك بذراعها وعاد يهمس:
-فلنتمش قليلا.
تبعته وهو ما زال يمسك بذراعها، وقد نسيت الدنيا بأسرها، لم تعد تعرف شيئا سوى أنها انتقلت إلى عالم آخر ليس له أي صلة بعالمها. كانت تتبعه وهو ينزل الدرج دون أن تعي أن قدميها يتنقلان. كان الإحساس الوحيد الذي يذكرها بوجودها هو يده التي تمسك ذراعها: يد كبيرة تلتف على جزء هام من ذراعها لكنها ناعمة كحرير الرداء الذي يلفه، وقد غطى جزء منه كتفها.
مشى بها في ممر الحديقة الزاهية خطوات ثم انحنى عليها وعاد يهمس:
-أفهم جيدا ارتباكك وحيرتك. فقد وجدتني غريبا عن عالمك. ماذا ترغبين مني؟
لم تجرؤ عن رفع عينيها نحوه، لكنها سألت متلعثمة:
-هل أنت حقا حنّبعل بركا كما قرأت في بطاقة الإرشادات؟
سألها بلهفة:
-وهل كنت تعرفين حنبعل بركا من قبل؟
أجابت متلعثمة:
-قرأت عنه في كتب التاريخ.
بعد فترة من الصمت قال:
-أنا هو لحما ودما.
أسرعت تسأل مرتبكة:
-وهل كل المعلومات التي قرأتها بالبطاقة صحيحة؟
-تماما.
لاذت بالصمت. لم تجرؤ على البوح بشكوكها، لكنه عاد يقول بصوت خافت:
-أنا حنبعل بركا وإن كنت غير متحقق من هوّيتي.
ثم انحنى عليها وأمسك بذقنها ورفع رأسها محدقا فيها، وعاد يهمس:
-لا تخافي، لست من الأموات العائدين، ولا شبحا. إني حقيقة.
ثم مسك يدها ووضعها على لحيته وعاد يقول:
-لا بدّ أنك أحسست بخشونة الشعر الذي يكسو وجهي. إني إنسان مثلك.
وبكل تلقائية سألته:
-متى جئت إذن؟
صمت لحظة ثم قال:
-هنا تلقين سؤالا لا أستطيع الإجابة عنه. بصراحة: لست أدري، كل ما أعرفه أني أتيت إلى هذا المكان مساء البارحة، وجدت نفسي داخل النزل، بين جمهرة من الناس، وعندما تقدّم مني أحد مضيفي النزل وسألني عما أريد، قلت بكل تلقائية أني أرغب في الإقامة في أفخم جناح بالنزل. فدعاني المضيّف إلى الاستقبال، وطلب مني أن أعمّر بطاقة الارشادات، ففعلت. وبت ليلة هادئة في الجناح رقم واحد.
بعد أن لوّح لها بابتسامة غامضة سألها:
-أظنك تعرفينه؟
سألت مرتبكة:
-من؟
-الجناح رقم واحد.
-بالطبع أعرفه.
بعد فترة من الصمت سألته:
-وهل طلبوا منك أوراق هويتك؟
-كانت لدي بطاقة أمددته بها، وبعد أن سجلها في ورقة أرجعها لي.
كان حنبعل يتحدث إلى أسماء وهو يمسك وجهها ينظر إليها بكل انتباه، وهي تذوب من تأثير نظرته. عندما سألها إن كانت لا تمانع في أن تتغدى معه، قالت مرتبكة:
-لا يجوز للمضيفين مصاحبة حرفاء النزل، التعليمات صارمة في هذا الشأن.
كان بودّها أن تلبي رغبته. غير أنها بعد لحظة من الصمت قالت له دون أن تفكّر كثيرا:
-يمكنني أن أدعوك إلى بيت أهلي.
أسرع يجيب بنفس التلقائية:
-على الرحب والسعة.
-سأعلمك عن الموعد بعد حين. لا بد لي أن أعود إلى العمل.
تركته وانصرفت مسرعة إلى قاعة الاستقبال وهي تفكّر في المفاجأة التي ستحدث لكل أفراد أسرتها عندما ستقدّم لهم حنبعل القادم من أصقاع التاريخ.
ظلّت كامل اليوم تفكّر في حنبعل، وفي حديثه، وفي شخصه ورقّته وسحر نظرته. ورغم كل الغموض الذي يكتنف هذا الرجل، فقد أحست أنه أصبح جزءا من حياتها، وكأنها تعرفه منذ زمن بعيد.
ولما كانت تهمّ بمغادرة العمل، تذكّرت الموعد، فأسرعت تهتف إلى والدها تعلمه أنها ستستدعي شخصا مرموقا للعشاء في بيتهم يوم الغد. لم يمانع والدها، فهتفت إلى الجناح رقم واحد لكن أحدا لم يجب. صعدت الدرج بسرعة حتى الجناح، طرقت الباب وترقبت. فتح الباب وأطل منه حنبعل شبه عار، فراعها حسن جسده، وعضلاته المفتولة، لكنها قالت له مرتبكة:
-أستدعيك للعشاء في بيتنا يوم الغد، سيأتي أبي بنفسه يحملك في سيارته، أرجو أن تكون بالنزل حوالي الساعة السادسة مساء الغد.
ولمّا همت بالانصراف، مسك حنّبعل يدها برقة وهمس:
-ألا تدخلين قليلا نتجاذب أطراف الحديث، فكم مللت العزلة، ولم أتوصل إلى ربط علاقات مع سكان النزل، جلهم يتحدثون لغات لا أفهمها.
جذبت يدها بلطف وقالت:
-لا يجوز. تراتيب العمل لا تسمح.
وانصرفت مسرعة تنزل الدرج.















2

عندما انصرفت أسماء، بقي حنبعل يتبع خطاها في الممر الطويل القليل الإنارة تفرش أرضه طنفسة خضراء. كان يركز بصره على جسدها الممشوق ينساب بخطى ثابتة، يتموّج داخل بدلتها الصارمة: قميص ناصع البياض، وتنورة طويلة داكنة. حلت الفتاة في عينيه، فظلّ يتبع تنقلها في الممر حتى اختفت. أغلق الباب وعاد يرتمي على أريكة فاخرة، وذهنه ما زال مشغولا بالفتاة.
فجأة فتحت النافذة، وانزاح عنها الستار الشفاف الموصلي، واندفع من خارجها بساط يتنقل تلقائيا تجلس عليه امرأة عارية تماما. ذعر حنبعل للمشهد المتنقل أمام عينيه، وصرّ جسده داخل الأريكة الناعمة، وبقي يتتبع نزول البساط على أرض الغرفة.
نهضت المرأة العارية ووقفت أمام حنبعل، وظلّت تتفحصه. لم ير حتى في منامه أجمل من تلك المرأة. كانت طويلة القامة، متناسقة الأطراف، مكتنزة الصدر، نحيفة الساقين، ممتلئة الفخذين. لكن رأسها كان خاليا تماما من الشعر. بقي مبهورا بالمشهد، ينظر إلى المرأة بانتباه شديد، يفكّر في كل الاحتمالات وكأنه يخطط لشق جبال الألب. عندما ركّز بصره على عينيها، لم ترتبك، بل رمقته بابتسامة عذبة زادت في حيرته: لأول مرة في حياته لا تفلح نظرته في إرباك مواجهه.
اقتربت منه، ومدّت له قرصا صغيرا في حجم حبة الحمص، ثم أشارت إليه بوضع القرص في أذنه. فعل ما طلبت منه، وظلّ يترقب. سمعها تخاطبه بلغة غريبة، ثم جاءته الترجمة باللغة العربية، تنبعث مباشرة في أذنه عبر تلك الاسطوانة الصغيرة. سألته:
-كيف قبلك الناس من حولك في النزل؟
لم يجبها في الحين، ظلّ يتفحّصها بكل انتباه. ثم طفق يخمّن: "ليست هذه المرأة من الأرض، فقد تجولت في شرق الأرض وغربها ولم أر مثل هذا الجسد، ولم أسمع نبرات هذه اللغة. ثم كيف تدخل من الشباك على بساط طائر؟ لا بد أن تكون جنية، أو ساحرة!" وبعد فترة من الصمت وهو يتفحصّها، وهي ترمقه غير مكترثة بنظراته الحادة، سألها بحدّة:
-من أنت؟
ضحكت ضحكة عالية ولكنها رقيقة ومثيرة زادت في ارتباكه، ثم قالت:
-لا تغضب يا حنبعل. أنت محق فيما تقول، أعتذر لك، كان عليّ أن أقدّم لك هويتي قبل أن أسألك عن تجربتك هذه.
اقتربت منه أكثر، ثم جلست على أريكة قبالته، وعادت تحدثه بنفس النبرة العذبة:
-لو قلت لك إني أتيت من الفضاء هل تصدّق؟
أجابها مستغربا:
-ماذا تعنين ؟
-من خارج الأرض، من كوكب بعيد يسبح في الفضاء مع مليارات الكواكب التي تعمر السماء.
-أنت جنية إذن.
-لا، أبدا.
ومدّت له يدها وهي تقول:
-إلمسني إني من لحم ودم مثلك.
مسك يدها، كانت رقيقة ناعمة. مدّ يده إلى جسدها يتلمّسه، لكنها قالت له ضاحكة:
-أخاف عليك أن تنساق إلى الشهوة يا حنبعل. توقف، أريدك فقط أن تتأكد أني إنسان مثلك.
قال لها وهو يتفحّص جسدها بإمعان:
-افترضي أني صدّقتك، لماذا أتيت إلى الأرض؟ ولماذا اخترتني أنا بالذات؟ وماذا تريدين مني؟ ولماذا لا تسترين عورتك؟...
قاطعته سائلة:
-ولماذا كل هذه الأسئلة في آن واحد؟
-لأني بكل صراحة لا أصدق ما تقولين.
-وهل صدّقت أنك حنبعل الذي مضى على مماته أكثر من اثنين وعشرين قرنا؟
-حتى هذا لم أصدقه.
-إذن كف عن التساؤل، وعش حياتك ككل بشر هذا العصر.
-لكني غير مرتاح تماما لوضعي. فأنا لا أعرف بالتدقيق من أنا، أشعر أني أسبح في فضاءات عديدة، وقد اختلطت عليّ الأزمنة والأماكن والعباد واللغات، حتى ذاكرتي أشعر أنها معطلة.
لم تجبه في الحين، ظلّت تنظر إليه تستقرئ ما يختلج في ذهنه من حيرة وضياع. فقد تبدّلت أساريره، وظهرت على وجهه مسحة من الحزن، فترك يدها وجمع يديه على صدره متحاشيا النظر إليها.
ربتت على ركبته وقالت:
-لا تحزن يا حنّبعل. عرفتك شجاعا، رصينا، تخطط بروية للخروج من الوضعيات الصعبة. ما لك تتصرف كالطفل الضائع؟
صرخ في وجهها سائلا:
-أريد أن أعرف أين أوجد الآن؟
-هل تتذكر مدينة قرطاج؟
ظلّ يفكّر لحظة، ثم قال:
-أتذكرها.
وانشغل بالصور التي صبتها عليه ذاكرته عن مدينة قرطاج العريقة المترامية الأطراف على ضفاف الخليج.
قطعت عليه تأملاته قائلة:
-أنت الآن في مكان لا يبعد كثيرا عن مدينة قرطاج.
ثم ظهرت فجأة شاشة افتراضية رسمت عليها خارطة لدولة قرطاج القديمة. أشارت المرأة لمكان في الخارطة وقالت:
-نحن هنا.
ذعر حنبعل في البداية لمّا ظهرت الشاشة تنيرها الأضواء، ولكنه سرعان ما انغمس يتثبت في الخارطة، ثم أعلن متعجبا:
-لا أتذكر هذا المكان جيدا.
-لا عليك فأنت في بلدك. هل هذا يريحك؟
-لكن أين أهلي؟ ولماذا حشرت مع هذا الخليط من الرعاع والعبيد؟
-لا تنس يا حنبعل أنك في نزل، وأن المقيمين فيه ليسوا عبيدا ولا رعاعا، إنهم سياح جاؤوا للراحة والترفيه.
-وأين القرطاجيون؟
ضحكت ضحكة عالية وقالت:
-يلزمك وقت طويل لتقتنع أنه لم يعد للقرطاجيين من أثر، لقد اندثروا منذ اثنين وعشرين قرنا.
-كيف؟
-لقد مضى على وفاتك أكثر من ألفين ومائة وسبعة وثمانين عاما.
-أنت بالتأكيد تمزحين. وهل يعود الأموات بعد كل هذا الزمن؟
صمتت وظلّت تفكّر، ثم قالت له بهدوء:
-أعرف أنك لن تفهم بسهولة حديثي. فلو قلت لك أنك رجل مستنسخ، وقد كنت أنا السبب في استنساخك...
قاطعها حنبعل بعنف:
-لا أفهم هذا الكلام ولا أصدقه.
عاد يفكّر، ثم نظر إليها بحدّة وسألها:
-ولماذا فعلت كل ذلك؟
-حبا للاطلاع، وحبا للتجربة. وستكون التجربة ناجحة إذا ما تصرفت أنت بكل تلقائية.
وقف حنبعل حانقا، وتقدم من النافذة، وبقي يرنو إلى ليل الحمامات المعطر بعبق الياسمين والفل. كانت أنوار المدينة تغمر الأفق، تنعكس على صفحة الخليج الهادئ. تنشق الهواء ملء رئتيه، وانشغل عن المرأة، إذ صار يخشى التحدث إليها. وحاول جاهدا أن لا يفكّر في كلامها. لم يستوعب عقله حديثها، ولم يرغب حتى في التفكير فيه. ظلّ فترة من الزمن بدون حركة راشقا بصره في الليل، لا يرى من حوله شيئا.
وفجأة أخرجه من جموده صوت الآلة في أذنه يسأله:
-بم تحلم يا حنبعل؟
التفت خلفه فغمر بصره نور القاعة الفسيحة، وشعر أنه يوجد في وسط لم يكن يعهده. نظر إلى الأريكة التي كانت تجلس عليها المرأة العارية، والتي كانت ترمقه بكل انتباه، وأجابها بصوت حزين:
-بالعودة إلى الطفولة.
-جميل. أخذت تسترجع إنسانيتك. ستكون تجربة مثيرة حقا.
صرخ حنبعل مغتاظا:
-عن أي تجربة تتحدّثين؟
-لا تغضب يا حنبعل. لا بد لنا أن نكون صديقين حتى تنجح تجربتي. ولن تكلفك هذه التجربة شيئا سوى أن تكون كما كنت.
-وماذا ترجين من تجربتك؟
-أريد أن أثبت أنه بإمكان الإنسان المستنسخ أن يستعيد كل قدراته العقلية التي كانت تكوّن شخصيته قبل أن يندثر.
تركها وعاد ينظر إلى الليل، ويتنشق عبق الهواء العطر. ولكن فكره أصبح مضطربا. ماذا تعني بقولها أن يكون كما كان؟ لم يفهم ما قالته هذه المرأة الذي صار يتحاشى حتى النظر إليها، أصبح يخافها وهو الذي لم يعرف قلبه الخوف أبدا. لا بد أنها جنية، أو أنها آلهة تتلهى بروحه. ثم فجأة طفق يتلمّس جسده، وعض إصبعه ليتأكد أنه في اليقظة لا في الحلم. تأكد من وجوده المادي. لكنه لم يفهم كيف عاد إلى الحياة بعد كل هذا الزمان.
فجأة تقدم من المرأة ووقف أمامها وسألها بعنف:
-لا بد أن تشرحي لي كيف أعدتني إلى الحياة؟
ظلّت لحظة تتفحصه، ثم رمقته بابتسامة عذبة وقالت له:
-عد إلى الجلوس واصغ إلي جيدا.
جلس قبالتها، وضمّ يديه إلى صدره، وبقي شاخصا إليها بكل انتباه. قالت له:
-أنت رجعت في عصر تطور فيه علم الإنسان الأرضي كثيرا. لكن لن تربح شيئا كبيرا، فأنا على يقين أن عقلك أرقى بكثير من عقل "بوش" قائد أعظم دولة على الأرض في هذه الأيام. الاستنساخ يا صديقي حنبعل هو عملية معقدة توصل إلى معرفتها اليوم علماء الأرض. وتتمثل في زرع خلية حية لجسم كائن حي، حتى لو كان صاحبها قد مات، داخل أنبوب يشبه الرحم، ثم تستخدم تقنية معينة فتتمكن الخلية من النمو وتتكاثر، وباختصار شديد نتوصل إلى خلق كائن جديد يحمل كل صفات الكائن الذي أخذنا من بقاياه الخلية الحية الأولى...
قاطعها حنبعل:
-لم أفهم كل كلامك، ولكن أستخلص أني نتيجة زراعة لبذرة في أنبوب؟
-تقريبا.
-لكن البشر مختلفون عن النبات.
-تماما. غير أنهم يشتركون معه في كيفية خزن المعلومات التي تؤدي إلى نشأة الحياة. عندما ترمي ببذرة في الأرض وتسقيها ماء، يمكن أن تنشأ منها نبتة حية، تنمو وتعيش ما تعيشه أي نبتة من نوعها. هذه هي الطبيعة: تخزن الحياة وتعيد نشأتها. أنت كالنبتة تحمل في جسدك مليارات البذور، يمكن أن تعطي مليارات من حنبعل لو وقع تخصيبها في الأنبوب.
سألها حنبعل مشككا:
-هل يمكنك أن تعيدي ماغون إلى الحياة ؟
-ومن يكون ماغون؟
-أكبر عالم قرطاجي مختص في علم النبات، ربما يفهمك أكثر مني.
-لست في حاجة إلى عالم من عصرك، فعلمه لا يساوي شيئا أمام علومنا. اخترتك أنت لأن اسمك ما زال يتحدث به جل الناس على الأرض. قلت في نفسي لو أعيده إلى الحياة، كيف سيتصرف في عصر تطور فيه علم إنسان الأرض لكن عقله بقي كما هو قبل مئات السنين؟ ثم إنك رجل حرب قضيت كل حياتك تحارب. فأنت تمثل بحق هذا الإنسان الذي لم يفهم أن الحرب وحشية، لا بد من التخلي عنها، سيما إنهم يمتلكون اليوم سلاحا يمكن أن يقضي على الحياة على الأرض.
-وهل تريدين مني أن أحارب من جديد؟
-أبدا! لا أريد منك شيئا، أرغب فقط في مراقبة تصرفاتك في عالم لم يعد تربطك به أي صلة.
-وأنت من تكونين؟
فاجأها سؤاله، لكنها أجابت:
-يمكنك أن تعتبرني مثلك: بذرة في أنبوب. لكن مع الفارق أني أتيت إلى الدنيا رضيعة ثم طفلة وأصبحت كما تراني الآن. أما أنت فلم تكن بحاجة إلى كثير من الوقت لتسترجع هيئتك التي كنت عليها قبل ألفين ومائتي عام.
سألها:
-وأين قمت بتجربة إعادتي إلى الحياة؟
-في مخابر محطتنا الأرضية.
-لم أفهم.
-ألم أقل لك أني أتيت من الفضاء؟
-هذه الأشياء صعبة على فهمي، لكن واصلي.
-نحن سكان كوكب يبعد عن الأرض مليار كيلو متر. وقد توصلنا لإقامة محطة سرية على الأرض لنتمكن من مراقبة هذا الكوكب الجميل، والقيام بالتجارب العلمية، وتدريب طلبتنا على البحث والمعرفة.
-أنت إذن طالبة تجرين أبحاثا في الزراعة مثل طلاب معهد ماغون للفلاحة؟
-سمني ما شئت فبكل اختصار أنت موضوع بحثي. وأنا أرجوك أن تساعدني على ذلك.
-وما هو المطلوب مني؟
-أن تتصرف بكل تلقائية، وتأخذ الحياة كما جاءتك دون التفكير في الزمن. أنت الآن إنسان بدون زمن...
قاطعها حنبعل بحنق:
-وتتصورين أنه يمكن لأي كان أن يعيش خارج الزمن؟
-لك الحق، لكن ما كنت أريد أن أقول هو أن لا تعيش ممزقا بين الماضي والحاضر.
-يعني؟
-سوف نعينك بمساعدة تقنياتنا المتطورة على استرجاع ذاكرتك لكن أطلب منك ألا تتصرف وكأنك حنبعل الحقيقي القائد العظيم الذي تخضع لإرادته جيوش جرارة، ومن سلالة بركا صاحبة النفوذ والمال. لا تنس أن أشياء كثيرة تغيرت على الأرض، وأنك تعيش بين أناس تحرروا من العبودية، وإن كان ما يزال يحكمهم حب المال والجاه والتسلط والتفاوت الطبقي.
ظلّ حنبعل يفكّر وهي تراقبه، حتى سألها مترددا:
-هل يمكنني أن أعتبرك آلهتي؟
-جميل أنك تتذكر عقيدتك لكن عهد الآلهة قد ولّى يا حنبعل. تطوّرت عقائد الناس اليوم، جلّهم يعتقد في إله واحد، بعضهم يسميه الرب، والآخر المسيح، والآخر الله، وقلّة لا تؤمن بأي إله...
-لكني أريد أن أدعوك تانيت آلهة القرطاجيين.
ضحكت ضحكة عالية وقالت له:
-أعرف جيدا أن الأرضيين لا يعيشون بدون آلهة، حتى هؤلاء الذين يعيشون بعدك بأكثر من ألفي عام لا يزالون يعبدون الآلهة. إن كان ذلك يريحك فليس لديّ مانع من أن تسميني ما شئت، لكن لا أسمح لك أن تعبدني.
-لماذا؟
-العبادة قيود، وأنا أريدك حرا من كل شيء حتى من الزمن.
بعد صمت طويل سألها:
-لكن هذه اللغة التي أتحدث بها ليست متأكدا أنها لغتي الأصلية. متى تعلّمتها؟
-لقد لقنتك هذه اللغة التي يتحدث بها أهل البلد الذين ستعيش بينهم حتى يسهل عليك التخاطب معهم.
ثم نهضت وتوجهت إلى البساط الطائر، وقبل أن يرتفع بها في فضاء الغرفة، قالت له موصية:
-كن حذرا.
وارتفع بها البساط متوجها إلى النافذة، فتبعه حنبعل مشدوها، وبقي ينظر إليه وهو يختفي بسرعة داخل الليل. بعد لحظة من الدهشة جرى نحو النافذة لكنه لم ير البساط، فقد اختفى في الليل. ظلّ يرنو إلى السماء السوداء تطرزها النجوم، وذهنه ما زال يسترجع كلام تلك المرأة الغريبة. أحس أنه أصبح نبتة مثل تلك الأشجار التي تطل عليه من بعيد وقد انعكست عليها أنوار فوانيس الشارع العريض. ولم يبارح مكانه أمام النافذة إلا عندما أحس بالإعياء.
جلس على الأريكة وظلّ يفكّر.


















3

رن ناقوس الهاتف، فارتبك حنبعل، وظل يبحث عن مصدر الرنين حتى عثر عليه. رفع الآلة إليه فسقطت السماعة على الأرض، وكم كان فزعه شديدا عندما سمع صوتا يخاطبه من السماعة الملقاة على الأرض. كان الصوت واضحا جليا يناديه باسمه، فانتبه إليه ولم يجرؤ على رفع السماعة إلى أذنه. قال له الصوت:
-مساء الخير يا سيد حنبعل، إني المضيفة التي تحدثت إليها هذا المساء.
ازداد ارتباكه وقال بصوت عال:
-وحق عشترت إنّ ما أسمعه لغو.
لكنه بعد لحظات من التردد، انحنى على السماعة ورفعها وهو مرتبك. لم يقربها من أذنه إلا بعد إن عاد الصوت ويسأله:
-هل تسمعني يا سيد حنبعل؟
لم يدر حنبعل إن كان عليه أن يجيب، ولكنه قال متلعثما:
-أسمعك.
-جيد. أردت فقط أن أطمئن عليك. كيف حالك؟
-بخير.
-ما لصوتك مرتبك؟ هل تغير عليك الطقس فأصبت ببرد؟
-لا. لا بأس.
-هل ترغب في الخروج إلى المدينة؟
-لا. لا أرغب.
-إذن أتركك ترتاح. لا تنس أنك ستكون ضيف أسرتي غدا.
-نعم.
-مع السلامة.
انقطع الصوت، ولم يدر حنبعل ماذا سيفعل بالسماعة، فرمى بها قرب الآلة، وقال في نفسه: "عالم سحر هذا الذي أعادوني إليه." بقي يفكّر حتى أرهقه التفكير، فاستلقى على أريكة وأغمض عينيه، وأسلم نفسه للنوم. ظلّ نائما حتى ملأ القاعة الفسيحة نور الشمس المتدفق من النافذة التي بقيت مفتوحة كامل الليل.
نهض يبحث عن الحمام حتى عثر عليه. ووجد عناءا كبيرا ليملأ الحوض، وكاد أن يفيض منه الماء قبل أن يتوصّل إلى إغلاق الحنفية. وبعد الحمام خرج يبحث عن الطعام، فقد تملكه جوع كبير. وبعد بحث مضن وجد في المطبخ فطور الصباح، كان قد أحضره الخادم الذي دخل الجناح دون أن يتفطّن إليه حنبعل. انهمك يأكل بنهم حتى شبع، ونهض متكاسلا، ثمّ توجه إلى النافذة فغمره نور الشمس الملتهبة، وبهرته أشعتها الوهّاجة، وظهر له من بعيد شاطئ البحر برماله الذهبية، ومياهه الصافية تتلألأ على صفحتها أنوار فيّاضة. تملكته رغبة شديدة في الخروج إلى البحر والتجوّل على رماله وربما الاستحمام في مياهه، لكنه ظلّ مترددا.
التفت إلى القاعة يتفحصها بدقّة وكأنه يزورها لأول مرة، ثم توجه نحو الخزانة الحائطية وفتح أبوابها. بقي يستعرض مختلف الألبسة المعلّقة في الخزانة، واستغرب تنوع تلك الأزياء: فهذا صف لأزياء بونية، وأخرى رومانية. وفي الطرف الآخر للخزانة مجموعة من الأزياء الحديثة، منها التونسية العتيقة، والأخرى إفرنجية. ظلّ محتارا يعيد النظر في الأزياء بمختلف أنواعها، ثم أسرع إلى النافذة، وتقدّم إلى الشرفة يطلّ منها على المشهد الجميل. لمّا وقعت عيناه على المسبح يلتفّ حوله جموع السياح، ظلّ يتثبت فيهم، واقتنع أنّه لا يحتاج إلى لباس أنيق ليتجوّل بين الناس، فجلهم شبه عار. عاد إلى الخزانة، وانتقى تبانا، لبسه وتوجّه إلى باب الجناح. ولمّا كان يهمّ بالمغادرة اعترضته مرآة معلقة على الجدار، وقف ينظر إلى جسده فيها، فضحك من نفسه، لكنه سرعان ما ابتعد عن المرآة واندفع خارج الجناح. وجد جمعا من السياح ينتظرون أمام باب المصعد، فوقف بينهم، ودخل المصعد مرتبكا. اندسّ داخل قمرة المصعد مع جمع السياح، فتيات وفتيان يمرحون ويتحدثون بأصوات عالية بلغة لم تكن غريبة عنه. لكن لمّا تقاطعت نظراته بنظرات إحدى الفتيات، لاحظ مدى تأثير نظرته عليها وقد رمقته بابتسامة غامضة فيها الرقة والخشية في نفس الآن. كانت الفتاة جميلة ذات عينين زرقاوين، وشعر أشقر، وقد نحيف. توقف المصعد، فنزل فريق السياح يتدافعون، وتبعهم حنبعل.
ظلّ واقفا أمام المصعد ينظر في كل الاتجاهات حتى لمح المضيفة وهي تلحظه بكل انتباه. لوح لها بابتسامة ودّ، ثم تقدم من مصرف الاستقبال، وصافحها بحرارة قائلا وهو يتصفّح وجهها المورّد:
-لا بد أن عشترت استجابت لطلبي، فقد كنت أتمنى أن ألقاك.
ورغم الاضطراب الشديد الذي أحدثته نظرته الساحرة فقد سألته متلعثمة:
-ومن تكون عشترت؟
-الإلهة. كيف؟ ألا تعرفينها؟
-لا، أبدا، نحن لا نؤمن إلا بالله.
مسح على يدها وقال:
-وأنا أومن بعشترت.
بقي يرنو إليها وقد أحس بخجلها من احمرار وجهها، واضطراب حركاتها. وراقته عيناها الكبيرتان العسليتان وقد وشحتهما بالكحل. بقيا لحظة وجها لوجه يكتنفهما الصمت، ثم سألها:
-كيف يمكنني أن أتمتع بالبحر بعيدا عن الرعاع؟
-ماذا تعني بالرعاع؟
-هذه الجموع المتدفقة على البحر وعلى المسبح.
-إنهم سياح مثلك يا سيد حنبعل.
-لا أريدهم. أرغب في الاختلاء بالبحر على قارب صغير... وتكونين أنت معي.
-العفو يا سيد حنبعل، لن يمكنني أن أترك عملي، ولكن أستطيع أن أستأجر لك قاربا بطاقمه يكون على ذمتك كامل اليوم إن شئت.
-افعلي من فضلك.
أخذت آلة الهاتف ووضعتها على المصرف وضغطت على الأرقام وحنبعل يتبع العملية بانتباه شديد، وقد ازداد استغرابه عندما أخذت الفتاة تتحدث إلى السماعة. وعندما أعادت الآلة إلى مكانها قالت له وهو في شروده:
-حجزت لك قاربا كبيرا سيمكنك من التجول في كامل الخليج.
-أي خليج؟
وضعت أمامه خارطة، وأشارت إلى الأماكن البحرية التي يمكنه زيارتها. عندما وصل البحار الذي سيقوده، قدّمته إليه وأعلمته أنه يمكنه الإقامة كامل اليوم بالبحر بعيدا عن السياح، فالقارب مزود بكل ما يحتاجه حتى الطعام. تركها وتبع البحار، لكنها أسرعت تطلبه، ولمّا عاد قالت له بصوت خافت:
-لا تنس أنك مدعو عندنا هذا المساء للعشاء؟
-بالطبع جميلتي.
ظلّت أسماء تتبع تحركات حنبعل حتى شغلها عنه جرس الهاتف:
-هنا مركز شرطة الحمامات. هل ما زال يقيم عندكم حريف باسم حنبعل؟
-كان هنا منذ لحظة، هل ترغب أن أعلمه بشيء؟
-لا. فقط لاحظت خطأ في تاريخ ولادته عندما دققت في بطاقة الإرشادات التي بعثتم بها. هل يمكنك التأكد من جواز سفره أو بطاقة تعريفه؟
-عندما يعود.
-متى؟
-مساء هذا اليوم.
-طيب. اعلميني بالهاتف غدا صباحا.
وضعت السماعة وظلّت تفكّر. قد لا يكون لحنبعل بطاقة هوية، أو أنه لا يريد إعلام الشرطة بوجوده. أصبح حنبعل لديها لغزا محيّرا. لم تقدر أن تصدّق أنه حقا حنبعل التاريخي، لكنه يشبهه تماما. لقد رجعت بالأمس إلى موسوعة كبيرة، وظلّت تقرأ تاريخ حنبعل، وقد كانت صورة ترافق المقال تشبه تماما هذا الرجل. ولم تشف غليلها كل تلك المعلومات، فبحثت في الإنترنت عن موقع يتحدث عن مآثر حنبعل، وإنجازاته العسكرية، وسيرة حياته بكل تفاصيلها. ظلّت أمام شاشة الحاسوب جزءا من الليل تستعرض صفحات الإنترنت بكل انتباه وانبهار.
عند الصباح وهي تغادر البيت رجت أمّها أن تحضر عشاء فاخرا يليق بمقام رجل عظيم. سألتها أمّها مستغربة:
-ومن يكون هذا الرجل؟
-أكبر جنرال عرفه التاريخ.
-وما شأنك به؟
-أريدكم أن تتعرفوا عليه. أكيد سيعجبكم...
قاطعتها أمّها مستنكرة:
-متى تعرفت عليه؟
-البارحة.
-وما هي نوع العلاقة بينكما؟
-لا تخافي، إنها بريئة.

















4

عاد حنبعل من البحر مع آخر المساء، فوجد أسماء في انتظاره، تترقب وصوله بفارغ الصبر. فقد حضر أبوها منذ ساعة، ورجته أن يترقب حتى رجوع حنبعل. حالما لمحته يدخل البهو الفسيح جرت نحوه، ووقفت أمامه مضطربة. نظر إليها في صمت ثم ابتسم لها ابتسامة لطيفة وهمس لها:
-ما لك ؟
-كنت حيرانة عليك.
-مما تخشين عليّ؟
-البحر لا يؤتمن شره.
أمسك بذراعها ودخلا القاعة. تملّصت منه قائلة:
-أبي جالس هنا يترقبك.
ألقى نظرة سريعة على القاعة المكتظّة بالسياح يتدافعون على المطعم، ولكنه لمح بسرعة كهلا في الخمسين من عمره يجلس بوقار وينظر إليهما بانتباه شديد. كان الرجل يشبه كثيرا أسماء رغم الشارب الرقيق الذي يوشح وجهه. تقدّم منه حنبعل بخطى ثابتة، وانحنى يصافحه باحترام. ثم قال له وهو ينظر في عينيه:
-ألست والد الآنسة؟
أجابه أبو أسماء وهو يضغط عل يده:
-أنا هو واسمي عبد الله.
-جميل. كان أبي يدعى عبد ملقرط.
-تفضل سيد حنبعل إجلس. إني حقا سعيد بالتعرف عليك. حدّثتني أسماء عنك، فلم أصدّق حديثها، لكني الآن أخذت أراجع ظنوني. على كل، أيّا من كنت فأنا أدعوك للعشاء معنا في البيت، وستكون تلبيتك للدعوة شرفا كبيرا لكل أسرتي.
ثم أشار على النادل، وطلب منه أن يسقيهم عصيرا. سأله حنبعل:
-ما هي مهنتك يا سيد عبد الله؟
-فلاح. لي ضيعة غير بعيدة عن مدينة الحمامات أتعاطى فيها زراعة البرتقال والفل والياسمين والورود.
تدخلت أسماء:
-كان أبي مهندسا فلاحيا يعمل عند الدولة، لكنه استقال من الوظيفة عندما اشترى الضيعة.
قال حنبعل مازحا:
-وأنا جنرال بدون جيوش، ولم أعد أرغب بتاتا في خوض الحروب ولا سفك الدماء.
ثم وقف وقال لهما:
-سأغير ملابسي وأذهب معكما إلى بيتكما تلبية لدعوتكما الكريمة.
وما أن دخل جناحه حتى وجد فتاة الفضاء ممدة على الأريكة. وقف لحظة ينظر إليها مضطربا، ولكنها بادرته بالسؤال:
-كيف حالك؟
أجاب بفتور:
-بخير.
-هل يمكنك أن تقصّ عليّ ما فعلت هذا اليوم؟
أجابها متشنجا:
-ولماذا؟
ظلّت تنظر إليه مبتسمة، ثم قالت له برقة:
-ألم أقل لك أنك تجربتي؟ إذن كل ما تفعله يهمني. أنت حر تفعل ما تشاء، ولكن أرغب منك أن تعلمني عن كل تصرفاتك. وإن كان طلبي يزعجك فسأتصرف. أردت فقط أن يكون حديثك عن أفعالك وسيلة اتصال بيننا.
-وإن لم أفعل؟
-لي من الوسائل ما لا تتصورها. فقد جندت لحمايتك مجموعة من الروبوات المجهرية تصد عنك أي خطر مهما كان مصدره.
-إذن فأنا مراقب؟
-بل قل في حمايتي. كن متيقنا أن أحدا من الأرضيين لن يمسك بسوء.
صمت فترة من الزمن متحاشيا النظر إليها، ثم قال لها بصوت خافت:
-استدعتني المضيفة إلى العشاء في بيتها.
-جميل. متى؟
-هذا المساء.
بعد برهة من الصمت قالت:
-أعددت نفسي لقضاء السهرة معك، لكن لا بأس ستتاح لنا فرصة أخرى.
انصرف حنبعل إلى الحمام، وعندما خرج كانت فتاة الفضاء قد غادرت الجناح. فتح الخزانة الحائطية ليبحث له عن لباس يليق بسهرة عائلية، وبعد كثير من التردد وجد بدلة من الحرير أرجوانية اللون تتكون من سروال طويل، وقميص بدون رقبة، وغلالة طويلة تتدلى إلى ما تحت ركبتيه. لبس البدلة وظلّ يتثبت في هيئته في المرآة، ثم غادر الجناح ليلتحق بأسماء وأبيها في القاعة الفسيحة.
ما أن لمحته أسماء في زيه القرطاجي حتى انفجرت بالضحك ولم تستطع أن تكتم انفعالها. فقالت له بعد أن هدأت:
-ما هذا اللباس يا سيد حنبعل، إنه نسائي.
-غريب، فهذا اللباس رفيع وثمين، كامل قماشه من الحرير الخالص.
لمست القماش فراقتها نعومته ولونه الأرجواني عليه حبات ذهبية تتلألأ. رفعت بصرها إلى القلادة التي توشح رأسه، كانت من الذهب الخالص، فظلّت تتثبت في نقائشها، غصن زيتون أوراقه ذهبية ترصّعها حبات من الألماس. ظلّت مشدوهة أمام جمال القلادة ودقة صناعتها.
همس لها:
-أليس جميلا؟
-إنه جميل وثمين، لكن الرجال عندنا لا يلبسونه.
-هذا لباس قرطاجي بحت، يتحلى به رجال الطبقة الأرستقراطية عند الولائم وفي السهرات الخاصة.
وقف أبو أسماء وطلب من حنبعل أن يتبعه، واندفع ثلاثتهم خارج النزل.
























5

صعد حنبعل إلى السيارة بصعوبة، وجلس حذو مضيفه الذي كان يتولّى القيادة وحنبعل ينظر إليه بكل انتباه. وما أن اندفعت السيارة تقطع الطريق حتى ارتج حنبعل وتمسك بمقعده كاظما اضطرابه، إنها المرة الأولى التي يمتطي فيها سيارة. بقي ينظر في كل الاتجاهات كالمعتوه عندما اندفعت السيارة في الطريق السريعة تطوي الأسفلت بجنون أفزعه. لكن صوت أسماء خفف من قلقه عندما انحنت عليه تسأله:
-هل عرفت الحمامات من قبل؟
بعد فترة من الصمت التفت إليها بحذر وقال لها بصوت خافت:
-في الحقيقة ليس هذا البلد هو الذي كنت أعرفه. لقد تغير كل شيء. ربما تعرفت على تلك الجبال المطلة على الخليج، فقد حدثني عنها أبي في روايته عن حربه ضدّ المرتزقة، لكن كل شيء تغير.
ثم عاد يتثبت في الطريق مستغربا السرعة التي تعدو بها السيارة.
لم يكن أبو أسماء مرتاحا لوجود هذا الرجل الذي يدّعي أنه حنبعل الحقيقي. وليس أبو أسماء من السذاجة حتى يصدّق ذلك. لبّى رغبة ابنته عندما ألحّت عليه في دعوته للعشاء، ولكن عندما حدّثته عنه اعتبر الأمر مسرحية، أو أنه ربما يقوم بدور في فلم جاء يتدرب عليه قبل تصويره. لكنه عندما قابله وتحدّث إليه بهر بشخصيته وبنظرته الثاقبة وبالوقار الذي يلف شخصه، وكاد يستسلم لاعتقاد ابنته بأنه حنبعل الحقيقي رمت به الأقدار من غياهب التاريخ. وبعد تردد كبير والسيارة تعدو في الطريق السريعة قال له:
-اسمح لي يا سيد حنبعل أن أسألك: هل صحيح أنك حنبعل الحقيقي؟
لم يكن حنبعل يفكّر في شيء غير الطريق التي كان يراها تطوى بسرعة لم يعهدها، فلم يجب إلا بعد برهة من الزمن.
-أنت حيّرك شخصي، وأنا منذ أتيت هذا الزمان في حيرة من وجودي.
لم يكن حنبعل ينظر إلى مخاطبه، كان يتشبّث بمقعده كالطفل داخل الأرجوحة. وبعد فترة من الصمت أضاف:
-العفو. لقد أدهشتني السرعة التي تجري بها العربة، ولم أفهم جيدا من يدفعها بكل هذه القوة. عالمكم هذا غريب، يبدو أنكم طوّعتم الجن فصار في خدمتكم. فقد لاحظت وجوده في كل الأماكن.
صمت حنبعل، وانزوى يفكّر، ثم فجأة سأل أبا أسماء:
-أخبرني: هل يسيّر هذه العربة الجن؟ فقد شعرت به كذلك يدفع بالقارب في البحر بسرعة مذهلة.
وساد الصمت داخل السيارة، لم يعكره سوى هرير صوت المحرك الذي شدّ انتباه حنبعل. وكان يعتقد أنه آت من خارجها. لم يجب أبو أسماء على سؤال حنبعل، فقد ساورته الظنون أن الرجل مخبول. وكلّما أمعن التفكير اقتنع أكثر باختلال عقله: لباسه، نظرته، ارتباكه، أسئلته، طريقة جلوسه داخل السيارة... عندما غادرت السيارة الطريق السريعة وانسابت تشق الحقول في طريق ضيقة غير معبدة وهي تتمايل وترتج، ازداد اضطراب حنبعل وتشبث بمقعده ينظر إلى أشجار البرتقال مورقة مزهرة تصطف على جانبي الطريق. ضغط أبو أسماء على زر فنزل بلور شباك السيارة بجانب حنبعل، وتسلل عبق الزهر يملأ السيارة، واندفع الهواء النقي المعطر فأنعشه وخفف عنه حيرته. توقفت السيارة أمام بيت جميل سقفه مغطى بالقرميد الأحمر، تمتدّ أمامه حديقة مزدانة بشتى أنواع الأزهار، تتوسطها نافورة يتدفق منها ماء فوار.
أسرعت أسماء بالنزول لتفتح باب السيارة لحنبعل، وتقول له بكل ودّ:
-مرحبا بك يا سيد حنبعل في بيتنا.
نزل حنبعل من السيارة بصعوبة وكأنه شيخ، وظل لحظة ينظر في كل الاتجاهات إلى الطبيعة الجميلة ترحب بقدومه. مسكت أسماء يده وتقدمت به إلى بهو البيت حيث كانت أمها تنتظر. سلّمت عليه بوقار وقد اربكتها نظرته الحادة. التفت إلى الجبل المشرف على الضيعة وبقي يتثبت في السماء تحمرّ وقرص الشمس وراء الأفق. كان الجبل أجرد تنتثر على صخوره بعض الحشائش العطشى، ثم التفت إلى الخليج وعانق أفقه اللازوردي وظلّ شاخصا فترة من الزمن حتى مسكت مرفقه أسماء وهمست له:
-المشهد جميل.
قال حالما:
-هذه البلاد خصتها الآلهة بالرقة في كل شيء.
تقدّم منه أبو اسماء وعرض عليه أن يزور ضيعته، وطاف به بين أشجار البرتقال المزهرة، وحقول الياسمين والفل، وشرح له طريقة الري والرعاية العصرية التي يتبعها في استغلال حقله. قال له متباهيا:
-أراقب كل شيء من بيتي بواسطة الحاسوب.
لم يكن حنبعل ذا دراية لا في الفلاحة ولا في الحواسيب، لكنه سأله:
-أتدرّ ضيعتك عليك خيرات كثيرة؟
-لست من أغنياء الحمامات، لكني راض عن حياتي والحمد لله.
كان أبو أسماء ينتج الياسمين ويصدره إلى فرنسا، وكذلك البرتقال وهو ما يمكنه من حياة رغدة لا ينغصها سوى علاقاته مع دواليب الإدارة، وسعيه المضني للحصول على الرخص المختلفة، وأكداس الأوراق، وإقامة العلاقات مع أعيان الدولة والحزب، والحرص على مواعيد الشحن. كان بوده أن لا يقوم بكل هذه الأعمال، وأن يتفرّغ إلى الإنتاج الفلاحي وتحسينه.
عندما غاب قرص الشمس وأخذت ألوان الأشياء تتبدّل، رافق أبو أسماء ضيفه إلى البيت. وفي الصالون الفخم، كانت الصور تتعاقب على شاشة التلفزيون. بقي حنبعل منكمشا داخل الأريكة الفخمة يحملق في الصور لا تصدق عيناه ما يعرض لها. لم يكن يتتبع حديث المذيع وهو ينشر الأخبار، ولا تسلسل الصور. وإنّما كان مبهورا بذلك الصندوق العجيب تخرج منه حزم الصور ترتعش. ولم يقدر حتى على سؤال مضيفه عما كان يحيّره. ظلّ مبهوتا حتى دنت منه أسماء وهمست له:
-ما لك يا سيد حنبعل مرتبك؟
التفت إليها يرمقها، فخففت ابتسامتها العذبة من حيرته، ولكنه لم ينبس بكلمة. عادت تسأله:
-أأزعجتك مشاهد الحرب؟
-أي حرب؟
-حرب أمريكا على العراق.
ظلّ صامتا في حيرة. لم يستوعب كلام أسماء عن الحرب، ولا هو أدرك مدلولات الصور التي شاهدها على الشاشة الصغيرة. سألته هل يرغب في الخروج إلى الحديقة ويترك صور التلفزيون، فنهض مسرعا، وغادر القاعة دون أن يلقي نظرة على الصندوق العجيب الذي حيره، ودون أن يقول كلمة إلى مضيفه الذي كان منهمكا في تتبع الأحداث المؤلمة التي تجتاح العراق. لكنه حالما اختلى بأسماء سألها بصوت خافت:
-هل يمكنك أن تشرحي لي سر تلك المرآة التي تعرض الصور؟
-التلفزيون؟
-سميه ما شئت لكن قولي لي ما هو سره.
ضحكت أسماء ضحكة عالية ثم سألته:
-هل حقا لم تر من قبل جهاز تلفزيون؟
-أبدا.
ظلّت تحملق فيه بانتباه، ثم سألته:
-أين كنت قبل وصولك إلى الحمامات؟
ظلّ يفكّر. لم يسأل نفسه هذا السؤال، ولم يكن عنده جوابه. أول ما وعى الدنيا وجد نفسه في القاعة الكبيرة للنزل، ودون كثير تفكير تقدّم من الاستقبال وطلب جناحا، ثم تعاقبت الأحداث عليه ولم يكن في مقدوره أن يتدخل في صنعها. "أين كان قبل ذلك؟" لا يدري. كل ما يعرفه هو حديث المرأة العارية، وهو حديث لم يستوعب منه الكثير، ولم يصدقه، ولا يمكنه أن يعيده على أسماء خوفا من أن ترتاب في أمره.
بعد فترة من الصمت عاد يسألها:
-في أي مكان تقع الحرب التي يتحدث عنها ذلك الصندوق العجيب؟
-في العراق.
-وأين يوجد العراق؟
-إنه بلاد الرافدين.
لاذ بالصمت. لكن أسماء قالت له بحماس:
-لا بد أنك تعرف بلاد الرافدين، فقد علمت وأنا أطالع سيرة حياتك أنك لجأت إلى مكان غير بعيد عن ذلك البلد.
بقي يفكّر في حديث أسماء. كان فعلا يعيش في أنطاكيا قبل أن ينتحر. لكن ذاكرته أبت أن تساعده على استرجاع تلك الفترة من حياته. شعر بصداع شديد يدق رأسه، فمسك ذراع الفتاة، وجرّها حتى النافورة، وظلّ يتتبع تدفق الماء وأوجاع رأسه تتفاقم. انحنى يملأ كفيه بالماء البارد ويغسل وجهه، ثم التفت إليها يقول:
-إنه صداع تملّكني فجأة. لكن قولي لي: ماذا قرأت في كتب التاريخ عن تلك الفترة من حياتي؟
أحرجها السؤال فلم ترد لتوها، لكن حنبعل حثها على الحديث فقالت:
-يقولون إنك انتحرت خوفا من الوقوع في أيدي الرومان.
حاول التذكّر لكن صداع رأسه عاد يؤلمه، فاندفع إلى مقعد حذو النافورة وارتمي عليه. لحقت به أسماء مضطربة، ثم جرت إلى داخل البيت تأتيه بدواء ضد الصداع. وبعد أن خفّت أوجاع رأسه قال لها:
-غريب أمر هذا الصداع، فكلّما حاولت تذكر تلك الفترة التي حدثتني عنها شعرت به يقرع رأسي.
-لا بأس لن نعود إلى الحديث عن تلك الفترة من حياتك، ربما لا ترغب في تذكّر مآسيها.
-لكني أريد أن أعرف كل شيء عن حياتي الماضية، إني أشعر بالضياع يجرفني، لا بد أن أتثبّت من وجودي وجذوري.
كان يتحدّث ونظراته مرشوقة في نافورة الماء وهي في حركاتها السرمدية، ثم التفت فجأة إلى أسماء وسألها راجيا:
-ألا تساعدينني على استرجاع ماضي؟
-وكيف؟
-تروين لي كل ما تجدينه عني في الكتب.
-ليس هذا بالعمل اليسير فقد كتبوا عنك الكثير يا سيد حنبعل، قال أحدهم: "زن رماد حنبعل وقل لي كم كتابا يزن هذا الجنرال الشهير"
-أريد فقط أن تروي لي بعض مراحل حياتي فقد تساعدني على استرجاع ذاكرتي.
-سأدرس الأمر وأبلغك ما يمكنني فعله فيما بعد. لكن الآن لا بد أن تترك الماضي وتتعشى معنا خالي الذهن.
بعد العشاء خرجت الأسرة تتجول صحبة حنبعل بزيه البوني الأرجواني اللون في شوارع الحمامات، لكنه لم يسترع انتباه الراجلين المكتظة بهم شوارع الحمامات المطلة على الخليج. لقد تعوّد الناس على التنوّع ولم يعد يثيرهم أي شيء، حتى النساء شبه العاريات اللاتي يجبن الشوارع، والعاريات تماما يعرضن فتنتهن بالشواطئ على الشمس تصطليها.
رجع حنبعل إلى النزل وقد دخلته البلبلة، وشعر باختلافه عن هذه البشرية التي وعى أنه لا ينتمي إليها تماما. أخذ فارق الزمن يهيمن على ذهنه، وأخذت ذاكرته تسترجع قدرتها على تصوّر بعض فترات الماضي، وظهرت بعض ملامح شخصية حنبعل بركا القائد البوني الذي قضى جل فترات حياته في القتال ومحاربة أعداء قرطاج. لكنه شعر بالانفصام يمزّق حياته. فلا هو حنبعل القرطاجي صاحب أمجد تواريخ رجال الحروب، ولا هو حنبعل الرجل التائه في عالم لا يفهم منه الشيء الكثير. كانت الآلات التي تملأ محيطه تثير قلقه، لم يقدر على فهم سر تحركها تلقائيا دون تدخل قوة خارجية. السيارة، والمصعد، والكهرباء، وباب الجناح، والقارب... كل هذه الآلات تحيره، يريد أن يفهم كيف تشتغل بكل تلك التقائية.
وظلّت هذه الأفكار تملأ ذهنه وهو يعود إلى جناحه.









6

دخل جناحه، وبعد أن خلع ملابسه توجه إلى الحمام ليملأ الحوض ويغطس داخله متلذذا بدفء الماء. كاد أن يغفو وهو في الحوض يريد أن يزيل من ذهنه الاضطراب الذي هيمن عليه عندما أجهد نفسه ليتذكر ماضيه الأليم. لمّا ارتاحت نفسه، غادر الحمام إلى غرفته ناشدا النوم.
ولكن قبل أن يستسلم إلى النوم فتح باب الغرفة ودخلت فتاة الفضاء تتقدّم بخطى ثابتة نحوه. جذبت أريكة وجلست قبالته. لقد نسي حتى وجودها، ما لها تأتي في هذه اللحظة التي هدأت فيها نفسه واسترجع صفاء ذهنه لتعكّر مزاجه من جديد؟ شعر بالحرارة تعمّ جسده فقال لها غاضبا:
-أو تتصوّرين أني عبدك.
ابتسمت له ابتسامة ودّ وقالت:
-أطلب المعذرة فقد حاولت الاتصال بك لكنك انتزعت الآلة من أذنك.
-ماذا تريدين؟
-لا شيء سوى الاطمئنان عليك.
-إني بخير.
-لست بخير، ملامحك تدلّ على كدر نفسك.
قربت الأريكة من فراشه، وبعد برهة من الصمت وهي تتفحّصه، قالت له:
-يا حنبعل لا تعقد مهمتي. لست عدوّتك، ولا سيدتك، ولا آلهتك. إني طالبة علم أريد من خلال تجربتي معك أن أختبر معرفة نظرية لم تجرّب بعد.
انتزع حنبعل الغطاء من على جسده ونهض واقفا. اقترب منها وقال لها حانقا:
-وهل تتصورينني لعبة يمكنك اللهو بها متى شئت؟
كان حنبعل عاريا تماما، فظلت تتثبّت في جسده بقعة بقعة، ثم قالت:
-جميل جسدك رغم قامتك القصيرة نسبيا.
تفطّن حنبعل إلى عريه فجرى يتستر باللحاف. اندفعت الفتاة تضحك بكل قواها، ثم سألته والضحكة ما تزال تعمر وجهها:
-أتخشى عليه من نظراتي؟
لم يجبها بل عاد يتمدد على السرير متحاشيا النظر إليها. أخذت تتحدّث إليه بودّ تحاول إقناعه بأن يتعامل معها كصديقة تريد منه المساعدة على إنجاز مشروعها العلمي حتى لانت شكيمته وروى لها بعض تفاصيل رحلته البحرية، وتجوّله في عرض خليج الحمامات، واقترابه من خليج تونس. سألته:
-هل تغيرت في نظرك البلاد؟
-لم اقترب من الشواطئ، ولكن البحر هو البحر، ورغم تطور الوسائل فالفرق ليس بالكبير. لم أفهم لماذا يسرعون في تنقلاتهم؟
-يريدون التحكم في الزمان.
-وماذا يفعلون به؟
-الوقت من ذهب يقول الأرضيون.
ثم روى لها كيف أنه يحس بآلام شديدة برأسه كلّما تذكّر فترة عنيفة من حياته. فطمأنته قائلة:
-لا تخف من ماضيك فهو مفعم بالعنف. حاول أن تتحمّل ردّ فعل نفسك الجديدة المغايرة تماما لتلك التي كانت تسكنك عندما ما كنت قائدا لأعظم جيش في الدنيا. لقد أصبحت اليوم إنسانا مسالما تنبذ العنف والحرب والهيمنة.
قال مستغربا:
-فأنا إذن لست حنبعل؟ ماذا أصبحت بعد أن فقدت السمات التي كوّنت شخصيتي؟
قالت له ضاحكة:
-لقد كنت حسب ما علمته شخصا متعدد الوجوه: كنت العنيف الذي لا يتوانى في القتل والدمار، الداهية الذي يستجلب عدوّه للهدنة ليمحقه، رجل السياسة المحنك الذي يدّعي السلم والعدالة والوئام، وأشياء أخرى كثيرة ذكرها التاريخ بكل إطناب.
-ومن سأكون وأنا خارج نطاق التاريخ؟
-هذا ما ستحدده تصرفاتك في مجتمع يختلف تماما عن المجتمعات التي عشت فيها. أعيد تذكيرك بأن هذا المجتمع ليس بونيا، ولا فينيقيا ولا بربريا. عليك أن تكتشفه من خلال اختلاطك بأهله.
قال بصوت خافت:
-بدأت أعرفه من خلال الأسرة التي زرتها اليوم. كانت أسماء رائعة في كل تصرفاتها...
-ومن هي أسماء؟
-فتاة جميلة وذكية يظهر أنها مغرمة بي كثيرا... وربما...
تراجع حنبعل عما كان يريد الإفصاح به، فظلت فتاة الفضاء تحملق فيه برهة من الزمن، ثم أعلنت متحمسة:
-جميل. إذا استولى على قلبك الحب فستسعد بوجودك في هذه الدنيا.
لم يقل شيئا. بقي مطرقا يفكّر والفتاة تنظر إليه بانتباه شديد. وفجأة سألها:
-لكن من يموّل إقامتي في النزل؟
-لا تفكّر في المال، تلك البطاقة المغناطيسية التي تفتح بها باب الجناح تمكنك من تلبية كل احتياجاتك من المال. لكن عليك بالحذر فقد أعلمتني مصالح المراقبة عندنا أنها رصدت مراسلات لمصالح استخباراتية ورد فيها اسمك عدة مرات.
نظر إليها مليا وقال مبتسما:
-ربما يقع اختطافي.
-لن يحصل ذلك أبدا، فأنت محاط بجيش من الروبوات المجهرية تقيك كل التدخلات العنيفة.
-لم أرها أبدا.
-لأنها مجهرية تشبه كويرات الماء في الهواء، وهي فعالة إلى أقصى حد.
لاذ بالصمت رغم تعدد الأسئلة التي كان يريد طرحها على فتاة الفضاء. يعرف جيدا أنه لن يفهم أجوبتها لأن علمه محدود لا يمكنه من إدراك كثير من الظواهر التي تعيش في محيطه. كل الأدوات من حوله تستدعي المعرفة: نور الكهرباء، التلفون، التلفزيون، وسائل النقل، الروبوات التي تتحدث عنها، المصعد، البساط الكائر الذي يتنقل بها في الفضاء، وغيرها من الأشياء التي لم يتعوّد على وجودها. كان إدراكه للمكان والزمان وللوجود عامة ضبابيا حيث لم يتمكّن من تحديد موقعه بدقّة تسمح له بالتعامل السريع والتلقائي مع ما يدور حوله. لكن شخصا واحدا أخذ يقترب منه كثيرا ويثير فيه شعورا بالمودّة وكأنه صديق قديم. هي أسماء التي أصبحت تحتل حيزا كبيرا في ذاكرته.
سأل فجأة فتاة الفضاء:
-هل يمكنني أن أتزوج؟
بعد برهة من الصمت أجابته:
-أنت حرّ في كل ما تفعل.
-إذن سأتزوج أسماء.
-جميل. سوف أساعدك على بناء عش الزوجية. لكن هل تحدّثتما في الموضوع؟
-غدا سأعرض عليها الزواج وأرى ما سيكون موقفها.
-ولماذا تتعجّل؟
-ألم تقولي إن الوقت من ذهب؟
جذبت الأريكة حتى لامست السرير. نظرت في عينيه مليّا ثم سألته:
-هل أنت عاشق؟
-عاشق من؟
-الفتاة التونسية!
-لست أدري، لكني أشعر بالراحة بقربها.
بقي حنبعل يقلّب في ذهنه سؤال فتاة الفضاء. "هل أنت عاشق؟" وعادت به الذاكرة إلى غياهب التاريخ عندما كان قائد البعثة القرطاجية في البلاد الإيبيرية. تذكّر زوجته ملكا، وحبّه لها. لم يعيشا معا سوى بضع سنوات. اضطرا إلى الفراق عندما عزم على حملته الجنونية على البلاد الإيطالية. كانت السفينة تبتعد عن ميناء قادس متجهة إلى أعماق البحر، وكانت ملكا تحمل ولده الصغير، وظلا يلوحان له بأيديهما والدمع يسيل من عينيها. وبكى لأول مرة في حياته.
ثم التفت فجأة إلى فتاة الفضاء التي كانت تتبع شروده بكل انتباه، وطلب منها راجيا:
-أريدك أن تقصي عليّ واقعة استنساخي بكل تفاصيلها.
سألته متضايقة:
-ولماذا كل هذا الإصرار على أشياء لم تعد تهمك؟
-كيف لم تعد تهمني؟ إنها قصة حياتي! لب وجودي الآن!
-لست واثقة أنها ستفيدك كثيرا، لأنها بكل صراحة ليس فيها سوى تعقيدات علمية نجحت في إرجاعك إلى الحياة.
أصر حنبعل قائلا:
-أريد معرفتها!
صمتت فترة من الزمن ثم قالت:
-كما أعلمتك من قبل، فإني قدمت من كوكبي قانماد طالبة المعرفة والتجربة العلمية. كان المشروع الذي كنت أنوي إنجازه حاضرا بكل تفاصيله ودقائقه العلمية والتقنية. ولم تكن تعوزني إلا معرفة تاريخ الإنسان الأرضي الذي أنوي استنساخه.
عكفت فترة من الزمن في مكتبة محطتنا الأرضية على تصفح ما توفر فيها من معلومات عن عظماء الأرض منذ أن عرف الإنسان الأرضي تسجيل تاريخه. وبكل اختصار وجدت تاريخك من أغرب تواريخ عظماء الأرض. فقد ظهرت لي رجلا غريب الأطوار تجمع كل متناقضات الإنسان الأرضي. العنف والرقة، الحرب والسلم، البساطة والرفعة، والواقعية والحلم. كانت كل حياتك تناقضا، حتى موتك لم يخل من ذلك التناقض. وجدتك شخصية غريبة، ولذلك أحببت أن أراك تعيش في هذا العصر الذي تفاقمت فيه تناقضات الإنسان إلى درجة لم يعد يسهل فيها رؤية مستقبله...
قاطعها حنبعل مستعجلا:
-وبعد أن قرأت تاريخي بدأت في نحتي على صخرة ثم نفختي فيها الروح فتحولت إلى ما أنا عليه الآن؟
ضحكت ملء فمها وهي تربت على فخذه، ثم قالت:
-لم يكن الأمر بتلك السهولة. كانت الصعوبة الأولى أن أجد أثرك. فقد علمت أن نهايتك كانت في مدينة تدعى اليوم إزميت. تنقلت إليها على متن طبق طائر، وأخذت أجمع الصور عن كل الأماكن الأثرية، بل عن كل المدينة وما حولها، وما تحتها من الأنقاض. وبعد عناء كبير تمكنت من العثور على بقايا إنسانية لأموات يعود عهدهم إلى فترة مماتك. كلفت الروبوات بجمع عينات عن تلك البقايا، ودفعتها إلى المخبر لتحليلها وتصنيفها. ولما كانت عندي مجموعة من الصور التي تشير إليك، كلفت الحاسوب بأن يخرج صورة لك بها كل المواصفات التي ستعينني على اختيار العينة الصالحة لاستنساخك. وبعد محاولات عديدة توصلنا إلى تحديد العينة واستخراج الصندوق السحري الذي تخبئ فيه الطبيعة موروث الكائن الحي الممكن استنساخه. ومن ثمة بدأت العملية المعقدة التي تطلبت شهورا من التجارب المضنية. وعندما اكتمل نمو جسدك، ودبت فيه الحياة، كانت فرحتي لا توصف. واحتفلنا داخل المحطة بميلادك الجديد.
قاطعها حنبعل حالما:
-هذه الأشياء لا تصدق!
-ألم أقل لك إنها لا تعنيك؟
سألها حنبعل غاضبا:
-وتعني من إذن؟
-تعنيني أنا العالمة بالاستنساخ.
ساد بينهما صمت ثقيل، عاد بعده حنبعل يسأل:
-وكيف تقبلت الحياة للوهلة الأولى؟
-لم تعد إلى الحياة فجأة، فقد مررت بعدة مراحل كنت خلالها في غيبوبة، ثم في منام مستمر تتخلله الأحلام، ثم في فترات قصيرة من الوعي، وأخيرا في مرحلة التعرف على محيطك في غرفة خاصة. عندما أصبحت تعي وجودك المادي أخذنا في تلقينك لغتك الجديدة وعاداتك الجديدة، ودربناك على التصرف المجتمعي كما هو الآن. وكانت أصعب المراحل عندما أخذنا في تنشيط خلايا الدماغ لتسترجع ما يمكن استرجاعه من ذاكرتك.
بعد فترة من الصمت، عادت تقول:
-في الحقيقة وجدنا أن ذاكرتك معطلة، ولم نرغب في تحريكها حتى لا تصاب بانفصام في الشخصية، لكن العالم النفساني الذي أشرف على تهيئتك للحياة في مجتمعك الجديد قال إنك ستستعيد ذاكرتك تدريجيا إذا لم يحصل لك صدام مع مجتمعك الجديد.
ظلّ حنبعل شاردا لا ينظر إلى الفتاة بقربه، فنهضت بخفة وتوجهت بصمت إلى بساطها الطائر وغادرت الغرفة دون أن يتفطن إليها.

















7

ما إن بزغت شمس الصباح حتى نهض حنبعل نشطا. ترك النافذة مفتوحة كامل الليل، فغمر الغرفة نور الصباح المنعش، وظهرت السماء صافية تبتسم له. غادر الفراش، ووقف أمام النافذة يطلّ على الدنيا وكأنه يراها لأول مرة. تنفّس بملء رئتيه وغاص ببصره في أعماق اللازوردي المنتشر في الأفق. وتملكته رغبة جامحة في العودة إلى البحر يشق عبابه ويستجلي خليج تونس. لا بد أن يرى قرطاج عروس أحلامه، فقد بدأ الماضي يدبّ داخله كالدم الحار.
رنّ جرس الهاتف مزعجا، فالتفت نحوه وظلّ مترددا قبل أن يتوجه إليه ويحمل السماعة ببطء. وما أن جاءه صوت أسماء حتى انشرحت أساريره، وانقشعت رهبته من الآلة العجيبة التي لم يتعوّد بعد على استعمالها.
-صباح الخير يا سيد حنبعل.
-صباح النور.
-آسفة على الإزعاج، فقد طلبتك لأن رجال الشرطة أصرّوا على أن أطلعهم على بطاقة تعريفك، أكون ممنونة لو تنزلها معك عند خروجك.
-لم أفهم جيدا ما تطلبين، لكني سأنزل عن قريب وتشرحين لي الموضوع.
استحمّ ثم تغدى وخرج. وما إن نزل من المصعد حتى توجه إلى الاستقبال فوجد أسماء تترقب وصوله، وتلفه بنظرة استشفّ منها كل شوقها لملاقاته.
-هل أتيت بالبطاقة؟
-بطاقة ماذا؟
-بطاقة التعريف.
-لا أحمل معي سوى هذه البطاقة المغناطيسية.
تفرّست في البطاقة، لم تر مثيلا لها من قبل. وبينما هي ترجعها إليه، تقدم رجل طويل القامة مفتول العضلات يحمل نظارات سوداء، ثمّ مدّ يده لأخذ البطاقة من يد حنبعل عنوة، لكنه سرعان ما جذب يده بسرعة وطفق يحكها وكأنه الملسوع. بقي مشدوها حتى انحنى عليه رجل آخر في نفس الهيئة وهمس له:
-"آش بيك؟"
-"ما نعرفش اش صار لي. حبيت انفك له البطاقة وإذا بيه حسيت بيدي مشلولة. رد بالك منو هالهمّ!"
مدّ الرجل الثاني يده إلى حنبعل لكنه أحس بلسعة في يده أثنته على مواصلة سعيه. بقي الرجلان مشدوهين يتبعان حديث حنبعل مع أسماء.
طلب منها أن تهيئ له نفس القارب الذي استأجره البارحة، فتركت الاستقبال ورافقته حتى الشاطئ حيث كان المركب في انتظاره. وقبل أن يصعد إلى المركب سألها:
-متى نلتقي؟
-هل تريد أن تأتي إلى البيت؟
-أرغب أن نكون وحدنا لديّ شيء هام أريد أن أطلبه منك.
ارتبكت وقالت له متلعثمة:
-سنتحدث في الموضوع عندما تعود من البحر.
لمّا عادت إلى مكتب الاستقبال أمطرها الرجلان بوابل من الأسئلة، لكن أجوبتها لم تشف غليلهما. فغادرا النزل متوعدين أنهما سيكونان في استقبال حنبعل حال عودته إليه.
وعند المساء، وبعد انتهاء حصة عملها، عسكرت أسماء على الشاطئ تنتظر حنبعل. لم يعد يهمّها ما يقوله الناس، أو ما يمكن أن يلاحظه لها رئيسها في العمل. أحست أن حبّها لحنبعل طغى على كيانها، بل صارت لا تعيش إلا به. تتصوّره أثناء كل ساعات حياتها، وتحلم بقربه وبالحديث إليه وبالولوج إلى قلبه. وكلّما رأته ازداد شوقها إليه. لكن اليوم أحسّت أن شيئا سيئا ربما يحدث له، فظلّت تفكّر كيف تقيه شرّ ذينك الرجلين الفظّين.
كان الشاطئ خاليا من المصطافين، إلا من بعض السواح شبه العراة ممددين على الرمال الفضية، يعرضون أجسادهم إلى شمس العشية، يغرفون منها زادا يلطّف عليهم شتاءهم القاسي. وكان نسيم البحر عطرا، وأمواجه هادئة ترتل أنشودتها السرمدية، وكان قلب أسماء يخفق بين ضلوعها شوقا إلى حنبعل.
ولمّا طال انتظارها طفقت تتمشى على الرمال المبللة وحذاؤها بين يديها. وفجأة اكفهرّ وجهها، وارتفعت دقات قلبها، فقد لاحظت وجود الرجلين الفظّين يعترضان سبيلها. توقفت عن المشي، فتقدّما منها، ولما صارا قربها سألها أحدهما:
-"في اشكون تستنّ؟"
بعد لحظة من الصمت المشحون أجابت:
-في القارب. أريد أن أترك لصاحبه طلبات يوم الغد لأني سأكون في عطلة.
قال لها أحد الرجلين الذي اقترب منها حتى لامست رجله فخذها:
-"وسي حنبعل ما عندكش معاه حاجة؟"
احمرّ وجهها غيظا وكادت أن تدفعه بعيدا عنها، لكنها تماسكت وأجابت بحدّة:
-السيد حنبعل حريف النزل وليست لي به أية علاقة مسترابة.
لكن الرجلين تركاها وتوجها إلى ناحية البحر حيث اقترب القارب من رمال الشاطئ.
نزل حنبعل بإعانة ملاحين، وما إن خطا بعض الخطوات على الرمال المبللة حتى أحاط به الرجلان الفظّان. لم يعرهما أي اهتمام، بل أسرع نحو أسماء التي ظلّت في مكانها مرتبكة. حاول أحد الرجلين الإمساك بحنبعل لكنه سرعان ما جذب يده متوجعا. ثم صرخ خلف حنبعل:
-"يا سي السماء آش بيك حاقر الناس؟"
واصل حنبعل طريقه دون أن يكترث بالصراخ، بل لم يكن يعرف أنه موجه إليه. حاول الرجلان أن يلحقا به، لكنهما تسمرا في مكانهما، فقد شلّت حركاتهما تماما، ولم يعودا قادرين على التنقل. لمّا وصل حنبعل إلى أسماء همّ باحتضانها، لكنه تفطّن من خلال نظرتها المرتبكة أنه لا يجوز فعل ذلك. فسألها مستفسرا:
-ما لك؟ ماذا جرى؟
-لا شيء هذان الرجلان يلاحقانك، وربما يضمران لك الشر.
التفت إليهما فوجدهما في مكانهما جامدين. عاد ينظر إليها بلهفة ثم قال لها:
-لا عليك فلن يمسّني أحد بسوء.
دنا منها ومسك يدها، فهمست له:
-لا أرغب في أن يتحدّث هذان الرجلان عني بأي كلام. إنهما على ما فهمت شرطيان من فرقة أمن الدولة. خطيران للغاية، فلنبتعد عنهما ما استطعنا.
التحقا بالملاحين اللذين كانا يشدان القارب إلى وتد على الشاطئ، وتحدثت إليهما وهي تنظر باستغراب إلى الرجلين الفظّين وهما في مكانهما مسمران، ثم غادرت الشاطئ بسرعة دون أن تلتفت وحنبعل يحث الخطى وراءها. ولمّا أدركت الطريق المعبدة، التفتت إلى حنبعل وقالت له بصوت خافت مرتعش:
-لا بد أن تغادر النزل. فلن يسكت رجال أمن الدولة على الإهانة التي حصلت لهما.
قال لها مبتسما غير مكترث بالخطر الذي يمثله هذان الرجلان المسمران على الرمال:
-سأشتري لك بيتا نختلي فيه بعيدا عن منغصات الدنيا.
أجابته منفعلة:
-ليس الآن وقت مزاح.
قال لها ضاحكا:
-لقد عاش حنبعل كامل حياته جديا. ابحثي عن بيت جميل منزو وسأشتريه لك، لا تفكري في المال، سأشتريه لك مهما غلا ثمنه.
-العاجل الآن أن نجد وسيلة نواجه بها رجال أمن الدولة.
التفت حنبعل ناحية الرجلين فوجدهما مسمرين في نفس المكان. ثم نظر في وجه أسماء فلاحظ مدى خوفها واضطرابها. قال لها:
-الظاهر أن خطر هذين الرجلين عليك أكبر من خطرهما علي. لذا لا بد أن تبتعدي عنهما ما استطعت، ولا تعودي إلى بيتك هذه الليلة فإنهما سيبحثان عنك. انصرفي الآن وتدبري أمرك، وغدا أجد حلا لهذه المشكلة.
ظلّت لحظة تنظر إليه مضطربة، ثم تقدّمت نحو الطريق ولكنها تراجعت لتهمس إليه:
-سأكون عندك في جناحك غدا صباحا.
وافترقا.
عاد إلى جناحه، فاستحمّ، وتعشى، واستلقى على أريكة يفكّر. لم يكن مضطربا، ولا منشغلا بالرجلين الفظّين. كان يفكّر في المستقبل، وفي حبّه الناشئ لأسماء. يريدها أن تشاطره حياته، وأن تعينه على الخروج من بحر النسيان، فيسترجع كل مكونات شخصيته. الحاضر لا يهمّه كثيرا، فهو ضبابي. أما المستقبل فيريده شفافا، ينحت فيه حياته كما يشاء. وكان هاجسه الذاكرة، فكلما حاول استرجاع فترات حياته وجدها مفتتة مبعثرة كقطع البزل.
لمّا تسرّبت فتاة الفضاء من النافذة بعد أن عمّ الليل، استقبلها بترحاب كبير خلافا لعادته. اقترب منها وجلس يحدثها بلطف.
-كنت أترقّب وصولك بفارغ الصبر.
-أعرفكم أناس الأرض تحسنون المراوغة. ماذا تريد مني؟
-لماذا لا تضعين على رأسك شعرا يزينه؟
ضحكت ضحكة رنانة ثم قالت له:
-أتتغزل بي؟
-شعر المرأة يزيدها أنوثة وفتنة. أريدك كاملة الحسن، فهذا الرأس الأقرع غير متناسق مع بقية جمالك.
-ستتعوّد. قل ما هي مشكلتك؟
صمت فترة من الزمن وهي تراقب تصرفاته، ثم قال بصوت خافت:
-البوليس يضايقني خاصة أنه أخذ يحاصر أسماء. لا أريد أن يصيبها سوء.
-سنحميها.
-لقد مللت الإقامة بالنزل، سأشتري لأسماء بيتا نعيش فيه براحة بعيدا عن الأعين.
-يمكنك أن تشتري كل ما ترغب فيه بالبطاقة المغناطيسية.
ظلا صامتين لحظة ثم سألها فجأة:
-وما هي قضية بطاقة التعريف؟
-وفرنا لك بطاقة تعريف تونسية، لماذا لا تستعملها؟ ابحث عنها بين أمتعتك، واستظهر بها لكل من يطلبها منك. ألست مواطنا تونسيا؟
-قرطاجي.
-نفس الشيء. شعب هذا البلد يستوعب كل من حط الرحال بينه ويسبغه بطباعه فيصبح الفينيقي بونيا، والروماني إفريقيا، والعربي تونسيا.
-جيد سأتأقلم مع وضعي الجديد وأمارس مواطنتي التونسية.
-لا تنس أن الظروف تغيرت، وأن تونس اليوم ليست قرطاج الأمس.
-لا أرغب في العمل السياسي. كل ما أريده هو أن أنعم بالحب الذي حرمت منه طيلة حياتي الماضية.
نهضت وانحنت عليه تتفحصّه، ثم قالت له:
-يظهر أن حبك لهذه الفتاة صادق تعبّر عنه عيناك بكل وضوح. تجربة فريدة هذه التي ستعيشها. ولكي لا يعكّر صفوها متاهات السياسة والأمن فإني سأطلب منك أن تسمح لنا بغرس آلات خاصة مجهرية في جسمك وجسم فتاتك لحمايتكما من كل الهجمات التي يمكن أن تتعرضا إليها، خاصة أن مصالح الرصد عندنا توصلت إلى اليقين أنك محاصر من عدة جهات من مصالح الأمن لبعض الدول. وهم يتوجسون أن تكون من الإرهابيين الذين يخططون لعمليات العنف.
-وما علاقتي بالعنف؟ لقد طلقت السلاح والحروب، وتحولت إلى إنسان مسالم ينشد الحب والمعرفة.
-هذا الكلام لا يفهمه الساسة ورجال الأمن، كل الأرضيين يشتبه بممارستهم للعنف في كل لحظة من حياتهم. وبما أنك تدعى حنبعل فلا بد أن تكون عنيفا، تخطط للإرهاب كما يدّعون. أنت الآن في تخمينات رجال الأمن في العالم إرهابي، ولذا ستقع مراقبتك في كل مكان من العالم.
ظلّ يفكّر فترة من الزمن ثم أعلن:
-أنا عاشق، والحب والعنف متنافضان. أنا مسالم، والسلم والإرهاب متناقضان. لكني لن أتركهم ينغصون حياتي، سأناضل من أجل الحب والسلام.
ظلّ يفكّر فيما قاله. فانصب عليه سيل من الأفكار والخيالات والمواقف. وتصور نفسه في بيته الجديد يعيش تجربة حب هادئ مع أسماء دون رقيب ولا إزعاج. وتصور نفسه مواطن العالم، يتجول بين البلدان يدعو إلى الحب والسلام. كانت فتاة الفضاء تراقب شروده، منتظرة حديثه. لكنه اكتفى بقوله:
-هناك أمور عملية تتصل بهذا العصر لا أفهمها جيدا، لذا أتصرف كالأبله. كيف لي أن أعيش العصر بكل تشعباته وأنا لا أعرف عنه الشيء الكثير؟
-اترك الأمر إلى حبيبتك ستعلّمك كل شيء ما دامت الثقة تربط بينكما.
وعاد إلى أفكاره.
قبل أن ترحل فتاة الفضاء، طلبت منه:
-متى سترى حبيبتك؟
-غدا عند الصباح بالجناح.
-جيد. سنزرع في جسمكما بعض الآلات المجهرية تمكننا من حمايتكما من كل اعتداء. العملية لا تستغرق وقتا وليست موجعة.
سألها حنبعل مستغربا:
-لم أفهم جيدا. ما ستفعلون بنا؟
-بكل اختصار سنزرع داخل جسديكما آلة تصوير مجهرية متصلة بشبكتنا للفيديو تعطينا صورة عن كل ما يدور حولكما، وتمكننا من التدخل السريع كلما تعرضتما لخطر.
بعد لحظة من التفكير قال لها:
-يعني أنك ستسكنين في أجسادنا أحد أجنتكم.
-افهمه كما شئت، لكن العملية ستقيكما من كل الشرور المحتملة.
-إنه لصعب على ذهني قبول ما تقولين، لكني سأستسلم للواقع. هذا العصر لا أفهمه.
-ما سأقوم به لا يقدر عليه سكان الأرض اليوم. فعلمنا يتقدم عليهم بأشواط كبيرة. وحتى تجربتي لن يقدر عليها أكبر علماء الأرض الآن. إنك محظوظ يا حنبعل أني اطلعت على حياتك في كتب التاريخ للأرضيين.
ظل ّيفكّر فيما قالته دون أن يدرك تفاصيل العملية التي ستقوم بها. ولمّا رأته غير مكترث بوجودها، تركته في شروده وانطلق بها البساط الطائر إلى الفضاء.


















8

لم يطلع الفجر حتى نهض حنبعل ينتظر وصول أسماء. ولمّا دخل الخادم يحمل طبق فطور الصباح ارتبك وبقي ينظر إليه باستغراب وكأنه اعتدى على حرمة جناحه. كان الرجل كهلا أسود. ظلّ حنبعل يتبع خطاه بكلّ انتباه حتى خيل إليه أنه خادمه الأسود عيديبعل الذي رعاه في طفولته، واصطحبه في سفره إلى إسبانيا صبياّ لم يبلغ العاشرة من عمره. كاد حنبعل يناديه باسمه، لكنه تفطّن إلى الحقيقة عندما حياه الخادم وهو ينصرف خارج الجناح. وتفطّن كذلك أن ذاكرته بدأت تشتغل.
تناول فطور الصباح بنهم، ثم وقف أمام النافذة يطلّ على البحر. كان البحر المكان الوحيد الذي لا يملّ النظر إليه. فهو يذكّره بطفولته التي قضاها في تبسوس بعيدا عن قرطاج وحركتها الدؤوب. ويذكّره بقادس وشطآن الأطلنتي وأمواجه العاتية، ويذكّره بقرطاجنّة المدينة التي شيدها صهره صدربعل. كانت صور كل هذه الأماكن تتلاحق في مخيلته كشريط قديم. وكان يراوح بين الماضي والحاضر كعقارب الساعة. يرى الأفق فتتوالى صور طفولته مسرعة لتترك صورة أسماء العالقة في ذهنه تحرك شوقه إلى رؤيتها. لأول مرة سيختلي بها دون رقيب.
ترك النافذة وجلس على أريكة قبالة الباب يترصّد كل حركة، ولمّا طال انتظاره عاد إلى النافذة يطلّ على البحر. ولم تمض بعض الدقائق حتى سمع دقات خفيفة على الباب. أسرع يفتحه فإذا بأسماء تندس داخل الجناح بسرعة وهي مرتجفة.
قالت له بصوت خافت:
-تسللت إلى النزل دون أن يتفطن إليّ أحد، وأرجو أن لم يرني أحد وأنا أدخل جناحك.
ظلّ ينظر إليها منشرحا. وجهها المورد المكتنز، وعيناها العسليتان الموشحتان بالكحل، وشعرها الكستنائي السلس المنساب على كتفيها، وحيويتها المفعمة أضفت على شخصها رونقا سحره، فطابت لها نفسه، وأزالت عنه شعوره بالضيق. لم يضمّها إليه بل مسك يدها ومشى بها إلى الأريكة، أجلسها وعاد ينظر في وجهها.
فجأة ظهرت في مخيلته صورة لوجه جميل ناصع البياض تتصدّره عينان واسعتان، وأنف صغير، وشفتان قرمزيتان، ونظرة صارمة وحنون. تلتقي صورة الذاكرة بصورة الواقع فتتشابهان ثم تتنافران. أسماء ومتونبعل. هذه عشيقته في الحاضر وتلك أمه في الماضي. هذه تفيض حيوية وحياة، وتلك صورة جامدة رغم كل ما تثيره داخله من حنين. هذه رقيقة تفعم براءة وحبا، وتلك صارمة لا تتوانى في دفعه إلى المخاطر ليكون شديدا عاتيا.
كانت متونبعل أمه البونية، ويذكر بعضهم أنها من أسرة لوبية عريقة، ويؤكد البعض الآخر على منبتها الفينيقي، وأصلها القرطاجي، قد سخّرت حياتها لتربية أبنائها الثلاث: حنبعل بكرها، وآزربعل، وماغون. تركت حياة الترف في مدينة قرطاج، وانزوت بهم في تبسوس، وسهرت على تربيتهم بصرامة جعلت منهم أكبر قادة جيوش قرطاج. تذكرها الآن حنبعل وهو يرنو إلى وجه أسماء المتهلل. فقال لها:
-كم أنا سعيد بوجودك قربي.
وعاد يرنو إليها متلذذا. قالت بصوت خافت:
-نظراتك تخيفني.
قال حالما:
-وجهك يذكرني بمتونبعل.
-غريب هذا الاسم لم أسمع به من قبل.
-إنه اسم أمّي.
-اسم فينيقي؟
-نعم.
-وهل كنت تعيش معها؟
-عندما بدأت الحرب عادت مع زوجتي وإبني إلى قرطاج.
واكتنفهما الصمت. وفجأة أسرع حنبعل إلى المطبخ حيث وجد كيسي المسحوق المخدّر، حلّهما في كأسين من الماء وأتى بهما. بقيا يتجرعان المحلول ببطء حتى غابا عن الوجود. وعندما أفاقا لم يحسا بآثار زرع الآلة داخل جسديهما. تذكّر حنبعل ما قالته فتاة الفضاء، فمسك يدي أسماء وقبّلهما قائلا:
-الآن لن أخاف عليك. ولن يقدر أحد على إيذائك. فليذهب كل الأعداء إلى الجحيم.
ثم ضمها إليه وهمس:
-أريدك أن تشتري بيتا لنا وتؤثثيه كما يحلو لك وفي أسرع وقت.
-ومن أين سيأتيني المال؟
-هذه البطاقة كالساحر ستفتح لك خزانة المال على مصراعيها.
ثم انحنى يقبّلها أول قبلة في حياته الجديدة.
ظلّت في البداية متحجرة، لكنها سرعان ما اهتاجت داخلها الشهوة فبادلته العناق بكل جموح. ولمّا توقف عن عناقها طفق ينظر إليها كالمتعبّد، قالت له بصوت مرتجف:
-هذا لا يجوز يا سيد حنبعل.
-الحب كالعبادة نستسلم إليه لنطهر أنفسنا.
-لكن للحب طقوسا.
عاد يضمها إليه بقوة وهو يهمس:
-سنتزوج.
ثم مدّ لها البطاقة المغناطيسية وطلب منها أن تأخذ ما تشاء من المال لشراء كل ما ترغب فيه حتى يتمكنا من مغادرة النزل والاختلاء ببعضهما.
تمعنت في البطاقة، ثم قالت حالمة:
-تملك رصيدا في بنك سويسري!
قال غير مبال:
-لا يهمني المال. الحقيقة الوحيدة التي متأكد منها في هذا العالم أني أحبك!
نظرت إليه مليا ثم قالت متحمسة:
-سأستأجر سيارة.
-استأجري لي قاربا قويا مع نوتيين.
-وسأستأجر بيتا مؤثثا ريثما نجد آخر نشتريه في راحة بال.
أخرجت من حقيبتها هاتفا محمولا، وطلبت أحد دور كراء السيارات. سمعها حنبعل تقول بكل جدّ:
-أريدها مرسيدس من آخر طراز وداكنة اللون...
-اليوم...
-إذن أترقبك في نزل عليسة...
-أطلب السيد حنبعل فسينزل لاستقبالك حالا.
أقفلت الآلة والتفتت إلى حنبعل وقد كسا وجهها ظلّ من السعادة. ثم عادت تتحدث في الهاتف المحمول:
-ما هو نوع القارب الذي في حوزتكم...
-أريده حالا...
-سأمر مع الحريف بعد قليل.
بعد أن وضعت الهاتف في حقيبتها قالت لحنبعل:
-لبيت كل رغباتك.
ضمها إليه وعاد يقبلها ثم همس في أذنها:
-ما زالت لي أمنية.
تملصت منه برقة قائلة:
-كل شيء في أوانه.
ثم وقفت واتجهت إلى النافذة، أطلت على الساحة الكبيرة أمام النزل وظلّت تراقب كل السيارات القادمة إليه. أدركها حنبعل وعاد يضمها إليه وهو ينظر إلى الأفق البحري. شعرت بجسده وبحرارته تلفها، فاخترقتها قشعريرة رقيقة، واسلمت جسدها إليه. كانت تذوب من فرط الشهوة التي آثارها فيها، لكن عينيها لم تغادرا باب سياج الحديقة الغناء المترامية على جانبي النزل. وما إن ظهرت سيارة مرسيدس داكنة اللون حتى استدارت في مكانها فوجدت نفسها أسيرة طوق حنبعل الذي ظلّ ينحني عليها ينظر في عينيها قبل أن يلثم ثغرها المتوقد.
بقيا متعانقين ينهلان من بعضهما البعض لفترة من الزمن، ثمّ تخلصت من عناقه وهمست مرتجفة:
-لا بد من النزول فقد حضرت السيارة.
نزلا واتمّا إجراءات كراء السيارة ثم غادرا النزل. أمسكت بالمقود وهو بجانبها يستغرب هذا التحرك التلقائي للآلة العجيبة. كانت تقود السيارة بشموخ وقد فتحت النافذة فنثر الهواء خصلات شعرها. أحست أنها أصبحت من أميرات الدنيا. أليست عشيقة حنبعل الذي تفوق شهرته شهرة أي رجل على وجه الأرض؟ بل ستصبح زوجته. أخذ الحلم يتبلور في مخيلتها، وطفقت ترتب مراحل انجازه. قالت في نفسها: "لن أستسلم إليه بسهولة ولو أني أذوب كلما طوقني بذراعيه." كانت تضع نظارات سوداء فلمّا التفتت إلى حنبعل لم يظهر على وجهها ذلك الوقار الذي اصطنعته حالما تمكنت من سيارة المرسيدس. كان هو متضايقا، يصرّ جسده داخل الكرسي الأمامي لا يرغب في الحركة. لم يقتنع أن هذه العربة تجرّ نفسها بنفسها. في الواقع لم يقتنع بأشياء كثيرة يعيش بينها وتتطلب تفسيرا، لكنه استسلم لهذا الوجود الغامض، وانساق في خضم الحياة. الحقيقة الثابتة لديه أنه أصبح عاشق هذه الفتاة، وهي ما جعلت لحياته الغريبة هذه بعدا إنسانيا دفعه إلى الرغبة في العيش داخل فضاء جل مكوناته ضبابية.
قالت له ونظراتها لا تفارق الطريق:
-سنمر بالميناء الترفيهي حيث أتركك لهوايتك البحرية. وسأتفرغ للبحث عن بيت يأوي حبنا. ثم نلتقي عند المساء.
لم يقل شيئا. كان يترقب وقوف السيارة ليسترجع أنفاسه. لكن أسماء لم تنتبه إلى وضعه. كانت تنظر إلى الشوارع والمارة والبنايات من حولها بمنظار جديد. تراها وكأنها أصبحت ملكا لها يمكنها أن تقتنيها متى رغبت. عندما نزلا من السيارة، مسكت يده وتوجهت به إلى بناية أنيقة وتقدمت إلى مكتب فخم، أجلسته في ركن منه ثم توجهت إلى الكاتبة وتحدّثت إليها باستعلاء. وبعد ان انهيا إجراءات الاستئجار عادت به إلى الرصيف، وتوجها إلى قارب فخم وجميل كتب على جانبيه بالخط العربي واللاتيني "صلامبو". كان حنبعل يتبعها مطيعا. التفتت إليه قائلة:
-سأكون في انتظارك هنا عند السادسة مساء.
قال لها مبتسما:
-أمر مولاتي.









9

التقيا حسب الاتفاق. كانت أسماء قد وصلت في سيارة المرسيدس، وقبل أن تغادرها ألقت نظرة شمولية على الميناء، فلاحظت وجود رجلي أمن الدولة أمام المرفأ. اضطربت في البداية لكنها تماسكت، ووضعت السيارة في زقاق غير بعيد عن الميناء، ثم تسللت إلى المرفأ دون أن تجلب أنظار الرجلين، وما أن رسا قارب حنبعل ونزل منه حتى أسرعت إليه. أمسكت ذراعه واندفعت معه بعيدا عن الرصيف وهي تهمس له:
-حذار، فإن رجال الأمن يبحثون عنا، لا تلتفت، اتبع خطاي بسرعة.
وعندما تخطيا الطريق العريضة التفتت، فرأت الرجلين يبحثان عنهما في كل الاتجاهات. أسرعت ومن ورائها حنبعل إلى الزقاق الضيق. وبعد أن صعدا إلى السيارة، ظلّت فترة من الزمن تسترجع أنفاسها وتراقب الشارع العريض وأرصفة الميناء المترامية، وتأكدت أن الرجلين لم يلاحظا سيارتهما. دفعت السيارة بين الأزقة حتى أدركت الطريق المؤدية إلى مدينة الحمامات وهي في اضطرابها وخوفها من أن يعترض سبيلهما الرجلان الغليظان.
عندما وصلت إلى طريق نابل انعرجت على اليسار سالكة مسربا ريفيا ضيقا مغبرا، وبعد قطع مائتي متر توقفت السيارة أمام باب عريض يفضي إلى ضيعة تنتشر في أرجائها أشجار البرتقال اليانعة. ضغطت على المنبه فجرى إلى الباب حارس فتحه، وتقدمت السيارة بين الأشجار حتى توقفت أمام بيت جميل ذي طابقين يكسو سقفه القرميد الأحمر وتزدان نوافذه بالحديد المشبك المطلي بالأزرق، ويغطي جدرانه جير ناصع البياض.
التفتت إلى حنبعل سائلة:
-ما رأيك؟
-في ماذا؟
-في البيت.
-جميل.
-مليون دينار.
-تعرفين أني لا أفهم في شؤون المال والعقار عندكم. لكني لا أمانع في أن أشتريه لك عربون زواجنا.
طوقته بذراعيها تقبّله، ثم أعلنت:
-نمر غدا إلى البنك نتمم إجراءات تحويل المال ثم أتكفل ببقية الإجراءات.
-وهل هو مؤثث؟
-سيترك لنا صاحبه بعض الأثاث.
-طيب. متى نتزوج؟
قبلته قبلة رقيقة وهمست له:
-كل شيء في أوانه.
طافا بالبيت، وعاينا كل غرفه، وصعدا إلى سطحه حيث أشرفا على مشاهد خلابة تحيط به: الأفق البحري أمامه تتلألأ تحت أشعة شمس الغروب، والجبل الأجرد من ورائه يسنده، وبجانبيه حقول البرتقال مترامية يفوح منها عبق الأزهار.
انحنى حنبعل على أسماء وهمس لها:
-لن أغادر هذا المكان. سأبيت الليلة هنا.
-غير ممكن هذه الليلة. فلنترقب قليلا.
مسكت يده ونزلت به الدرج، تمادت تأخذ بيده حتى باب السيارة. فتحت له الباب وعندما أغلقته وراءها ضلّت تفكّر فترة من الزمن ثم قالت له بحماس:
-سنشرع غدا في إعداد ظروف زواجنا.
ثم شغّلت السيارة وانطلقت إلى نزل عليسة. قبل أن يغادر السيارة قالت له بحزم:
-لا بد من إعداد بطاقة تعريف، ومضمون ولادة، وسأقوم ببقية الإجراءات. نم هانئا هذه الليلة، وسآخذك غدا إلى مدينة قرطاج لطلب عقد قراننا.
فتحت له الباب فنزل متباطئا. ولمّا همّت بالمغادرة مسك يدها وقال:
-ربما يصعب عليّ الحصول على الوثائق التي طلبتها.
أجابته بابتسامة ماكرة:
-وهل يصعب على حنبعل شيء؟
بقي ينظر إلى السيارة وهي تندفع في الطريق، ولمّا غابت عنه تقدّم إلى باب النزل وباله مشغول بأشياء كثيرة لم يستوعبها بعد. وجد حياته الجديدة أكثر تعقيدا من حياته القديمة. فهذه الرقابة المستمرة المفروضة عليه من أطراف عدّة، وهذا الإصرار في تأكيد هويته في كل مناسبة، وهذه الآلات المختلفة التي تعمر وجوده. شعر بالحصار يطوّقه، يضيّق من حريته، ويحدّد تصرفاته في المكان وفي الزمان. ولمّا كان يستعدّ لولوج المصعد، جرى نحوه عون الاستقبال، ومدّ له ورقة قائلا بصوت خافت:
-استدعاء من الشرطة يلحون عليك بالاتصال بمركز شرطة الحمامات في أسرع وقت.
أخذ الورقة واندس في المصعد دون أن يلقي عليها ولو نظرة. تمتم داخله: "لا بدّ أن الذي استدعاني غبي. أو يتجرأ أحد على استدعاء حنبعل إلى مركز الشرطة؟!"
فتح باب الجناح وإذا بالرجلين الغليظين يقفان وراءه. لكنهما تجمدا في مكانهما عندما تقدّم نحوهما حنبعل. نظر إليهما باستغراب، ثم سألهما حانقا:
-أو تتجرآن على دخول جناحي؟
ظلاّ جامدين دون أن ينبسا بكلمة. أشار بيده أن ينصرفا، فاندفعا خارج الجناح.
بعد أن أوصد الباب قال بصوت عال وكأنه يخاطب العالم:
-عالم تنتهك فيه حرمة الرجال الشرفاء لا بد أن يكون عالما مقرفا.
وبينما هو في اضطرابه حطت بقربه فتاة الفضاء على بساطها الطائر. لم يستقر البساط على الأرض بل بقي معلقا في الفضاء لا يشدّه أي وتد.
بعد فترة من المراقبة الدقيقة قالت له:
-جئت لأودّعك. فلم يعد لك حاجة لوجودي، سيما وأنني تمكنت من متابعة كل تصرفاتك عن طريق الكمراهات المجهرية المغروزة في جسدك.
قال بامتعاض:
-أنت كذلك تحاصرينني.
-أنا قدرك يا حنبعل. لكن تصرفاتك ملك يديك. فهل أنا اخترت لك الفتاة التونسية لتتزوجها؟ لقد اخترتها بنفسك، أو هي الصدف.
سألها بعد فترة من التفكير:
-كيف أتحصل عليك لو احتجت إلى وجودك؟
-يمكنك طلبي في أي وقت تشاء. أدعني باسم إلهتك تانيت أكن بقربك في لمح البصر.
ثم طرح عليها مسألة زواجه، والإجراءات الإدارية، والأوراق اللازمة. فطمأنته أنه سيجد كل الوثائق المطلوبة على ذمته قبل موعد لقائه مع حبيبته. وبعد فترة من الصمت طلب منها أن تجلس وتحدّثه عن الفضاء، وعن الكوكب الذي قدمت منه، وعن الحياة خارج الأرض. لبّت طلبه، وأطنبت في الحديث عن أشياء لم يصدقها حنبعل. مثل المساواة بين كل سكان الكوكب، وتوفّر كل مستلزمات الحياة لكل الناس مجانا بدون أي مقابل، واندثار الدولة، والحكم، والجيش، والشرطة، وتوفر الحرية المطلقة لكل المواطنين، والتزام الناس بالانضباط لنواميس الحياة الجماعية، ولهفتهم على المعرفة والبحث في كل مجالاتها. أصغى إليها بكل انتباه ثم سالها مترددا:
-ومن يوفّر لكم مستلزمات الحياة؟
-آلاتنا.
-ومن يحكم الآلة؟
-عقولنا.
-وكيف تغلّبتم على نوازع الشر الكامنة في الجنس البشري؟
-بتغليب نوازع الخير عبر الوعي بقيمة الحياة، ونشر قيم الحب والحرية والمعرفة. لكننا لم نصل إلى هذا المستوى إلا بعد مرورنا بعدّة تجارب مريرة، ومآسي العنف التي كادت أن تقضي على الكوكب برمته.
صمتت فترة من الزمن تفكّر وحنبعل ينظر إليها بكل انتباه، ثم قالت له بحماس:
-ما رأيك يا حنبعل لو تساعد سكان الأرض على التخلص من الحروب التي ربما لو تواصل تقدّم العلوم دون الحد من نوازع الشر لتفجّر الكوكب الأزرق ولقضي على أجمل ما يوجد في النظام الشمسي؟
لم يجب حنبعل بل ظلّ يفكّر محاولا استرجاع بعض ذكرياته، لكن أفكاره كانت ضبابية، وتاريخه غير مكتمل المعالم، ونظرته للحاضر لم تكتس بعد الشمولية التي تمكنه من التحرك في كل الفضاءات بمرونة. فقال لها مستسلما:
-قد لا أكون الرجل المناسب لهذه المهمّة.
اقتربت منه أكثر وقالت بحماس:
-سوف أساعدك.
تحاشى نظراتها الثاقبة، ثم سألها:
-لماذا اخترتني أنا بالذات؟
-لأن تاريخك وتاريخ قرطاج يدعم النظرية المتشائمة لمستقبل البشرية على الأرض. قد لا تعرف أنك انتحرت هربا من جبروت القوة التي سيكون على يديها نهاية حضارة من أرقى حضارات المتوسط. لقد محت روما، القوة التي تزعمت العالم، كل معالم الحضارة القرطاجية، أحرقت كل شيء: البشر والمباني والكتب، والمعابد، وحوّلت كيانا بني على مدى ستمائة وخمسين عاما إلى رماد، وحرمت البشرية من جهد أجيال حاولوا التقدم بالإنسان في كل ميادين الحياة. اليوم يا حنبعل تقود الإنسانية قوّة في مثل جبروت روما، وهي تملك من الأسلحة الفتاكة ما يمكنها أن تقضي على الكوكب الأزرق في غضون ساعات. والغريب أن هذه القوة العظمى يحكمها أناس جشعون لا يرون من الأرض إلا ما توفره لهم من أرباح وخيرات.
-أتتصورين أن رجلا مثلي لا يعلم الكثير عن الحياة الآنية على هذا الكوكب المهدد بالفناء كما تتوقعين سيكون مجديا في الحد من غطرسة روما الجديدة؟
-كنت بطلا في عصرك، وظللت بطلا خلال القرون الإثنين والعشرين بعد مماتك. ربما هذه الصفة ستسمح لك بجمع قوى كثيرة محبة للسلام في كل أصقاع الأرض.
بقي يحلم، لكنها استدركت قائلة:
-ما زال أمامنا متسع من الوقت، فكّر جيدا في الموضوع وسوف نعود لمناقشته بعد أن تكتمل عملية استرجاع تاريخك ومقومات شخصيتك.
عنما همت بالجلوس على بساطها الطائر، سألها حنبعل:
-ألا يراك الناس وأنت تشقين الفضاء على هذا البساط؟
ظلت صامتة فترة من الزمن ثم أجابت:
-هذا البساط أستعمله للتنقل من الطبق الطائر إلى النزل. وهو مهيأ لكي لا يرى من بعيد ولا من قريب.
-وأين يوجد طبقك الطائر؟
-راسيا في الفضاء غير بعيد من هنا. إنه كذلك غير مرأي.
لم يستوعب حنبعل شرحها، لكنها تركته مع همومه واندفع بها البساط الطائر خارج الجناح ليبتلعها ليل الحمامات العطر.




10

تسللت أسماء إلى جناح حنبعل دون أن يتفطّن إليها أحد. دخلت غرفة النوم على أطراف أصابعها دون أن تحدث أي صوت. وجدت حنبعل يغطّ في نوم عميق رغم النور الذي اكتسح الغرفة من خلال النافذة المفتوحة. تقدّمت نحوه ولكنها انعرجت إلى منضدة وجدت فوقها أوراقا. أخذت تتثبت فيها: بطاقة تعريف حنبعل، مضمون ولادته، صك سويسريّ على بياض موقّع، البطاقة المغناطيسية. طفقت تحلم أمام المنضدة: البيت والسيارة والمال والزوج والشهرة. زوجة حنبعل وما أدراك ما حنبعل!
عادت تحلم، لترى نفسها عروسا يلتفّ حولها كل نساء الطبقة الثرية بالحمامات، جالسة وبجانبها حنبعل في القاعة الفسيحة لنزل عليسة ذي النجوم الخمس. ويأتي الناس من كل حدب وصوب لتهنئتها على سعادتها، فيلاحظون الحلي المرصعة بالأحجار الكريمة الثمينة التي توشح صدرها وجيدها وأصابعها. ستطلب من حنبعل أن يهدي لها أثمن الحلي وأثقلها. وستقتني أفخم حلّة عروس مطرزة بالألماس والفضّة لتفاخر كل بنات الحمامات. وستدعو فرقة موسيقية من مصر لتنشيط حفل الزفاف. وستحضر الصحافة ومصورو التلفزيون...
أخرجها من حلمها اللذيذ ظهور حنبعل يتقدّم نحوها مبتسما متهللا. انحنى عليها وقبّلها، ثم جلس بجانبها واحتواها بذراعه وسألها:
-كيف دخلت؟
-أنسيت أني أشتغل مضيفة بهذا النزل ؟
وعاد يعانقها ويهمس لها:
-إني حقا سعيد بوجودك. لولا حبك لما تحملت عالمكم.
وضعت رأسها على صدره العاري وأحست بسعادة عارمة تغمرها. بعد برهة من الاسترخاء وهي مغمضة العينين تترشف لمساته، قالت مستدركة:
-سنسافر إلى قرطاج اليوم. فتهيّأ.
انسلّت من عناقه، وتوجهت إلى المطبخ لتأتيه بفطور الصباح. وقف حنبعل متكاسلا. وبعد أن استحمّ وتناول الفطور، غادرا النزل من الباب الخلفي دون أن يتفطّن إليهما أحد.
واندفعت المرسيدس في الطريق السيارة بسرعة ظهرت لحنبعل جنونية. فقال لها وقد ضايقه حزام الأمان الذي يشدّه إلى المقعد:
-لماذا كل هذه السرعة؟
-لا تخف، إننا لم نتجاوز مائة وخمسين كيلو مترا في الساعة.
لم يكن حنبعل يفهم المقاييس الحديثة، ولكنه شعر بالسيارة تندفع كالسهم. كانت المناظر الطبيعية تتعاقب أمامه دون أن يحس بجمالها. ولم تمض ربع ساعة حتى لاحت له جبال الظهر التونسي يتصدرها جبل بوقرنين الأنيق. ألقى عليه نظرة خاطفة، ثم عاد يتثبّت الطريق وهي تشق سهول مرناق الزاهية. وعندما ظهرت له مدينة تونس مترامية الأطراف تعلو في وسطها البنايات الشاهقة، وتتدحرج في أطرافها مداخن المعامل، نسي خوفه، سيما وأن سرعة السيارة قد خفّت مع تكاثر العربات وازدحامها، وتحفزت مداركه لاستقبال فضاء جديد لم يتعوّد عليه من قبل. وكم كان قلقه شديدا عندما حاصرته السيارات من كل جانب، أحسّ أنه يختنق، ولكنه لازم الصمت، ناظرا في كل الاتجاهات كالحائر. ولم يتنفّس الصعداء إلا عندما أخذت السيارة تتسلق هضبة بيرصا.
عندما وصلت إلى قمّة الهضبة طلب حنبعل من أسماء أن توقفها. نزل متباطئا، وخطا بعض الخطوات يرنو إلى الأفق البحري. نظر محتارا في كل الاتجاهات، ثم طفق يقول في نفسه: "أين أنت يا قرطاج؟ أين أسوارك العظيمة؟ أين بناياتك الشاهقة؟ أين شوارعك الشاسعة؟ أين قصورك الفخمة؟ أين معابدك وجامعاتك ومكتباتك؟ أين معالمك الضخمة: مجلس الشيوخ ومجلس القضاة ومجالس الشعب؟ أين الموانئ تمتلئ بأنواع السفن، والمخازن تفيض بالسلع، والأسواق تزدحم بالحركة، والمصانع تعجّ بالضجيج؟ ما هذا السبات؟ أتحولت قرطاج المجيدة إلى مقبرة كئيبة؟! " عاد يجرجر قدميه إلى السيارة وقد تملكه حزن شديد.
سألته أسماء بكل عفوية:
-ما لك حزين؟
لم يقل شيئا. بقي يتجرّع حزنه كالعلقم. شغّلت المحرك وعادت تدفع السيارة في الطريق. طلب منها حنبعل بصوت متهدج:
-أوصليني إلى البحر.
-هل تريد أن ترى ما تبقى من الميناء العتيق؟
أومأ برأسه: نعم. لمّا نزل من السيارة وسار ببطء نحو الميناء العتيق، كر راجعا، وأمر أسماء بالابتعاد عن هذا المكان بأقصى سرعة. قال متمتما:
-لا يمكن أن تكون هذه قرطاج !
-قرطاج اندثرت منذ ألفين ومائة وخمسين عاما يا حنبعل. هل نسيت هذه الحقيقة؟
لقد بدأ حنبعل يطفو على سطح بحر النسيان. انطلقت ذاكرته تطوي المسافات، تتقدم إلى شاطئ التاريخ، تثير رماله، تبحث عن قطع البزل المتناثرة هنا وهناك لاسترجاع بعض فترات الماضي.
توقفت السيارة أمام قصر بلدية قرطاج. نزلت أسماء وأعلمت حنبعل أنها ستتصل بإدارة البلدية لتحديد موعد القران. لم يكن حنبعل يفكّر في الحاضر الذي تغيّر فيه كل شيء. لكن عندما لمحت عيناه جسد أسماء يتموّج داخل الفستان وهي تصعد الدرج، انتبه إلى الوجود. الحضارة مثل الجسد إذا هرم انتهت الفتنة. هذا البحر المطل عليه من وراء السياج جسد يانع أبدا، مغر أبدا، لا يعترف بقوانين الحياة لأنه لا يعرف الهرم ولا الفناء. لقد أنعشه الأفق البحري وجلا عنه حزنه على اندثار قرطاج. فما إن رجعت أسماء إلى السيارة حتى قال لها بحماس:
-سيري بنا إلى أعالي الجبل المطل على البحر.
واندفعت السيارة متسلّقة جبل سيدي أبي سعيد. تركاها في المربض وواصلا تسلق الجبل على الأقدام. كان الرصيف مغطى بالحجارة الملساء، والبيوت واطئة جدرانها ناصعة البياض، والأزقّة ضيقة تظهر كالمغارات، والدكاكين تعرض سلعها على قارعة الطريق، والمقاهي تنشر كراسيها في الساحة العمومية. لم يستسغ حنبعل كل هذه الفوضى المرتبة، فكأنه في مقبرة جبلية تشرف على البحر. وعندما وصل إلى مكان ظهر منه البحر بكل روعته تنفّس الصعداء. وقف ينظر إلى الخليج بكل أبعاده تكسوه أشعة الشمس الذهبية فيتناثر منه بخار رقيق ينتشر على الأرض المجاورة غبارا فضيا.
ظلّ شاخصا فترة من الزمن، ثم مسك يد أسماء وجرّها وراءه مندفعا إلى قمّة الجبل. ولم يتوقف عن سعيه المضني إلا عندما بلغ مكانا ظهرت له منه كل أبعاد أراضي مدينة قرطاج القديمة. ألقى نظرة دائرية على المكان، ثم انحنى على أسماء وقال مشيرا بإصبعه إلى سفح الجبل من الجهة الغربية:
-هناك كان قصر أسرتي. كان يستند إلى الجبل من الجهة الغربية، وتمتدّ أمامه الحدائق شمالا وجنوبا، ويطل على البحر بطوابقه الأربع من جهة الشرق...
قاطعته أسماء سائلة:
-وهل ولدت هناك؟
-في الحقيقة لا أدري. كل ما أعرفه أني لم أقض فيه طفولتي، ولم يكن لي أصدقاء من سكان قرطاج. لم يكن جو الأرستقراطية القرطاجية يحلو لأبي. وربما لم تكن أمّي في تفاهم تام مع أخواتي الثلاث من زوجته الأولى التي توفيت قبل أن يتزوج أمّي.
-وأين قضيت طفولتك إذن؟
-في تبسوس. كانت أسرتنا تمتلك هناك ضيعة شاسعة، وسفنا للصيد والتجارة، ومخازن كبيرة للمؤن. تبسوس أعرفها جيدا، وأعرف بحرها الجميل، ومياهه الصافية، وفيها تعلّمت ركوب الخيل وصيد الغزلان، وأحبني الناس البسطاء وأحببتهم. أما قرطاج فلم أر فيها سوى الدسائس والخيانات.
ظلّ شاخصا في الأفق فترة من الزمن ثم مسك يد أسماء وقال لها راجيا:
-فلنعد إلى الحمامات. لن أطيق البقاء في هذه المقبرة، أشمّ رائحة الموتى تحوم في كل مكان.
نظرت إليه فلاحظت علامات الكآبة تخيم على وجهه. نزلا الجبل حتى مربض السيارة وعادا بسرعة إلى مدينة الحمامات.











الباب الثاني

حمامات الذاكرة



هذا الرجل، الأكثر جرأة من جميع الرجال، والأكثر غرابة على ما يبدو، والأكثر إقداما ورسوخا، والأكثر تفتحا على كل الأشياء؛ والذي في السادسة والعشرين من عمره، تصور ما لا يمكن تصوره، وأنجز ما كان يبدو مستحيلا؛ والذي قطع كل اتصال مباشر ببلده، واخترق شعوبا معادية له أو مجهولة لديه فحاربها وانتصر عليها، وتسلق جبال البيريني وجبال الألب العاتية التي لم يخترقها بجيوشه قبله أحد، ولم ينزل منها إلى إيطاليا إلا بعد أن افتدي نصف جيشه، سنده الوحيد في ساحات الوغى، وعضده الوحيد للنزال؛ والذي احتل، واجتاز إيطاليا وحكمها طيلة ستة عشر سنة، ووضع روما المهابة على قاب قوسين من ضياعها ، ولم يترك فريسته إلا عندما وضعت أبعاد درسه في المحك لمّا فهم عدوّه أنه لا مناص من محاربته في عقر داره.

نابوليون بونابارت




1


-متى سنتزوج؟
-ألم تطلب مني أن أعرفك بنفسك؟
-بلى.
-لقد جمعت كثيرا من المعلومات التي صدرت في شأنك سواء في الكتب القديمة أو الحديثة، وتمكنت من معرفة قصّة حياتك منذ ولادتك حتى مماتك. أنا الآن ذاكرتك يا حنبعل...
ضمها إليه ولثم ثغرها وهمس لها:
-عرفت الآن مصدر جنوني. فبك سأبعث من جديد.
شعرت بفيض من السعادة يغمرها، فاستسلمت إلى قبلاته الملتهبة. لكن عندما رغب في المضي قدما في لعبة الاحتواء تملّصت منه وهمست له:
-كل شيء في أوانه.
- ومتى هذا الأوان؟
-سأقص عليك بعض أطوار حياتك كما قرأتها في الكتب. عندما تسترجع ذاكرتك، وتصبح سيد نفسك، يكون قراننا ارتباطا طوعيا لشخصين واعيين ومسؤولين.
قال لها مستغربا:
-من أين أتيت بهذا الكلام؟ فعندما أسمعك تتحدّثين يظهر لي أنك عجوز محنكة لها من الدهاء والحكمة ما لا يمكن أن تكون عليه شابة في سنك.
-لك الحق. لم أطلعك على حياتي لأنك لم تطلب مني ذلك. أنت مولع بجسدي، وترغب مني أن أعرفك على نفسك من خلال حبك لي.
-أعرف عنك الكثير: اسمك أسماء، وأبوك يدعى عبد الله، وتعملين مضيفة في نزل عليسة...
قاطعته متهكمة:
-مولودة في 7 جانفي 1977 بالحمامات. متحصلة على شهادة الأستاذية في التصرف... عاشقة حنبعل البطل الأسطوري...
عاد يحتويها ويهمس لها:
-وحنبعل يعشقك بجنون القرن الحادي والعشرين. قولي متى سنتزوج؟
-لقد عين لنا المجلس البلدي جلسة عقد القران بعد ثلاثة أسابيع، سأغتنم تلك الفترة وأقص عليك الجزء المشرق من مغامرات حنبعل وما يروج عنه من حكايات.
-متى؟
-من الغد. هل تعرف قصص ألف ليلة وليلة؟
-لا.
-كم أنا غبية! فأنت أقدم من ألف ليلة وليلة بعشرة قرون.
-وما هي هذه الحكايات؟
جلست أسماء بوقار، ونظرت في عيني حنبعل ثم قالت بصوت موسيقي:
-اعلم يا بطل الأبطال، أن الملك شهريار، صاحب الشأن والوقار، حصل له حدث مشين، أفقده عقله وصوابه سنين، حتى جاءت شهرزاد، فتاة ذات فطنة وجمال، وروت له مغامرات الأبطال من الأنس والجان. فزال كربه، وعاد له عقله، وأحب شهرزاد بعد أن أقسم بغليظ الأيمان، أن لا يحب امرأة مهما كان جمالها وشأنها...
قاطعها حنبعل ضاحكا:
-ذكّرتني بتمارين البلاغة اليونانية التي كان يضطرني إليها اليوناني سيسولوس عندما كنت صبيا.
-ألا تعجبك هذه الطريقة في السرد؟
-أفضّل السرد العاري كما أرغب في جسدك بدون لباس.
تبرّمت وقالت له معاتبة:
-لا يهمك من شخصي سوى جسدي! أنا إنسان قبل كل شيء!
تركته وخرجت إلى الحديقة. كان الليل يعمّ البرية، والنجوم تطرّز السماء الحالكة، والأشجار تبدو كالأشباح السوداء. لحق بها واحتواها بذراعيه، وهمس لها:
-أحبك كما لم أحب من قبل. أنت دنياي الجديدة. لكن ككل القرطاجيين أكره الاستبداد. فليكن حبنا ديمقراطيا ملكا مشاعا بيننا.
ظلّت بدون حراك، تحسّ بجسده يلتف بها، وبدقات قلبها ترتفع. عندما عاد يهمس لها:
-أما زلت غاضبة؟
سألت بصوت مرتجف:
-أحقا تحبني؟
-وكيف أثبت لك صدق عاطفتي؟
التفتت إليه وضمته إليها معانقة بجموح، ثم همست له:
-أحبّك أحبّك أحبّك لكن لن أمكنك من نفسي إلا ليلة الزفاف.
-ومتى؟
-بعد ثلاثة أسابيع. لقد رتّبت كل شئ: حفل الزفاف، سيكون في نزل عليسة، شهر العسل، سنقضيه في جزيرة جربة، عش الزوجية، سيكون في هذه الضيعة... وسأقص عليك قبل كل ذلك مغامرات حنبعل بكل تفاصيلها. كل ليلة مغامرة كما فعلت شهرزاد مع شهريار.
-متى تبدئين؟
-لماذا أنت مستعجل؟ ألم أقل لك كل شيء في أوانه؟
-فليكن هذه الليلة.
-سأهيئ مكانا خاصا نفرشه على الطريقة القديمة، هذه الحكايات ستكون لها طقوس تخلد ملاحم حنبعل الشهيرة التي ما زال الناس يرددونها حتى الآن.
-ولماذا كل هذا التعقيد؟
-هكذا أريد وهكذا يكون!
-أمر مولاتي... ولو أن الديمقراطية لا تستسيغ هذا الكلام.
نهضت مسرعة، وتوجهت إلى سيارة المرسيدس الرابضة غير بعيد. لوحت له بيدها وقالت دون أن تلتفت:
-نلتقي غدا عند الصباح الباكر لأحملك إلى البحر كالمعتاد.
بقي حنبعل على ظمئه إلى أسماء حتى عادت إليه من الغد. وكالمعتاد أوصلته إلى الميناء، ورجعت عند المساء لتعود به إلى عش حبهما. أدخلته قاعة صغيرة مفروشة بزرابي قيروانية جميلة، وحشية عليها ألحفة من الحرير، وموائد قصيرة فوقها أوان من الفخار والنحاس تلمع تحت أشعّة نور هادئ ينبع من أماكن مختلفة من الجدران والسقف. ظلّ حنبعل ينظر إلى القاعة بإعجاب، ثم قال لها:
-مكان يطيب فيه الغرام.
-ويطيب السمر.
ثم صفقت بكفيها فقدمت امرأة في مقتبل العمر. قالت لها آمرة:
-ضعي الطعام والشراب على الموائد وانصرفي.
بعد أن غادرت المرأة البيت ضمّ حنبعل أسماء وهمس لها:
-ستبدأ حكايات شهرزاد.
-نتعشى ثم أقصّ عليك بدايات حياة حنبعل.
بعد أن أتما العشاء. قالت أسماء وهي تحاكي شهرزاد:
" كان في بلاد قرطاج القديمة رجل همام، وقائد مقدام، من أسرة عريقة، عظيمة الشأن، يعود تاريخها إلى ما قبل وجود قرطاج. بل يزعم أهل البلاد أن الأسرة من سلالة الرب بعل إله الفحولة والخصوبة والسخاء."
-هل تعرف من هو هذا الرجل يا حنبعل؟
-وكيف لي أن أعرفه وجل رجالات قرطاج الكبار يدعون أنهم من سلالة بعل؟
-إنه أقرب الناس إليك.
-إذن فهو أبي عبد ملقرط.
ضحكت أسماء وعادت إلى سردها الشهرزادي:
"عاد عبد ملقرط العظيم من أرض المعركة كسيرا، يلتهب غيظا وحقدا على مجلس الشيوخ والأعيان لتقاعسه على نجدة جيشه بالمال والرجال. ورمى على أسوار قرطاج ما تبقى له من شتات جيشه المهزوم، وطلّق السياسة والسياسيين، وابتعد عن القيادة، وانزوى في تبسوس بلاد الزيتون والتين والبحر الجميل."
-أيعرف متى كان ذلك حنبعل؟
-كان في سنة 573 بعد نشأة قرطاج، سة سنوات قبل ميلادي.
-لا أفهم تقويمك جيدا.
-نحن نقوّم بداية التاريخ بنشأة قرطاج.
-جيد. يعني حسب التقويم المسيحي سنة 241 قبل الميلاد.
-إن شئت فأنا لا أعرف التقويم الحديث. واصلي لكن أرجوك أن تغيري أسلوب السرد فإني لا أستسيغه كثيرا.
" بينما كان القائد عبد ملقرط العظيم ينعم بالراحة بين أحضان عروسه الجديدة، وهي امرأة يكتنف تاريخها الغموض، ويرجح بعضهم نسبها إلى أهل البلاد من اللوبيين، تبسوسية من جميلات الساحل اللوبي، حازمة ومقدامة، غيورة على أبنائها كاللبؤة، اندلعت في قرطاج حرب ضروس بين القرطاجيين المسالمين وما تبقى من فلول جيش عبد ملقرط من المرتزقة المنتشرين حول أسوار مدينة قرطاج الشامخة. وكادت تلك الحرب اللعينة أن تأتي على الأخضر واليابس لولا عودة عبد ملقرط الشجاع. لقد دعاه مجلس الشيوخ بالعودة إلى قيادة جيش قرطاج. وكان أول ما بدأ به هو دعوة رجال قرطاج الخانعين بين أحضان نسائهم، الهانئين بملذات العيش وراء أسوارهم إلى الجندية وحمل السلاح. ثم التجأ إلى النوميديين ودعاهم بمدّه بالرجال والعتاد، فبعث له الملك جيّة القائد نوارس أحد أمراء النموديين. وانتصر عبد ملقرط أروع انتصار، وقضى على فلول المرتزقة، وحمى قرطاج من الهمجية والحرب الأهلية، وزوج ابنته الكبرى صالامبو، فاتنة الحسن والجمال، كاملة صفات التقوى والزهد وعبادة اللاهوت. ولما استقرت له الأمور أًٌعلن شفاطا على البلاد، ودانت له كل الرقاب..."
قاطعها حنبعل قائلا:
-تتحدثين عن قرطاج وكأنها مملكة نوميدية يحكمها رجل واحد، تدين له كل الرقاب.
-أعرف أن الحكم في قرطاج كان ديمقراطيا، وأن مواطنيها لا يخضعون لحكم رجل واحد كما هو الحال عند شعوب البربر من حولها وشعوب الشرق البعيدة. ولكن الحكاية حتمت تلك الجملة فلا تجعل منها قضية يا حنبعل. المهم أن حكاياتي تستفز ذاكرتك فتسترجع تاريخك ومقومات شخصيتك.
-فلنغلق القوس. واصلي بربك.
"عندما وضعت الحرب أوزارها، وتنفس مواطنو قرطاج الصعداء، بعد أن ذاقوا أهوال المجاعة والقتل والدمار، وجدت دولة قرطاج خزائنها خاوية، وهي في أشد الحاجة إلى المال لإعادة ما دمرته حرب المرتزقة القذرة، ولتستجيب لقيود معاهدة السلام التي فرضها عليها الرومان بعد حرب صقلية وانهزام قرطاج لأول مرة في تاريخها.
لقد كانت روما بالمرصاد تتحيّن أول فرصة لاسترجاع كامل جزيرة صقلية من أيدي القرطاجيين. فلجأ كبار القوم من جديد إلى منقذ الوطن وابن قرطاج الأبر، عبد ملقرط الأغر..."
قاطعها حنبعل من جديد قائلا:
-بربك تخلي عن كل هذه الألفاظ الرنانة، واستعملي لغة بسيطة تستشف منها الحقيقة بسهولة.
"قلت يا بطلي العظيم إن عبد ملقرط حزم أمره، وجمع شتات جيشه، وهمّ بالسفر في أرض الله، بحثا عن المال يوفره لقرطاج ليخلّصها من محنتها. وقبل أن يغادر أسرته، اختلت به زوجته وسألته:
-هل سيطول غيابك يا بعلي العزيز؟
أجابها عبد ملقرط بودّ:
-وهل يسأل القرطاجي عن مدى سفره؟
قالت متحاشية نظراته:
-هذا ابنك ماغون لم يتجاوز الخامسة من عمره، وهذا أزربعل في السادسة، وهذا حنبعل في التاسعة، كلهم في حاجة إلى رعايتك وحنانك...
قاطعها عبد ملقرط مقطبا:
-وهل يتحمّل السفر ابن الخامسة؟
-علمت أنك لن تمتطي البحر هذه المرة، نسافر معك ما دامت السفرة بالبر وفي بلاد كل سكانها يجلونك ويهابون قرطاج وبطش جيشها.
بقي عبد ملقرط يفكّر وهو ينظر إلى أبنائه الثلاثة يلعبون، ويقول في نفسه: " ستكون نهاية روما على أيديكم يا أشبال قرطاج! " ثم صرف زوجته بعد أن وعدها بدراسة الموضوع جليا.
وقرر عبد ملقرط أن يصطحب جميع أفراد أسرته، رغم معارضة بعض أعضاء مجلس الشيوخ، الذي عقد جلسة ليناقش هذا الموضوع بالذات. ووفّر لأسرته عربة مريحة وخدما، وكان معه من كبار قواده صهره صدربعل الوسيم زوج ابنته الوسطى. وطافت مواكب الجيش في شوارع قرطاج الفسيحة، واستقبلتها الجماهير الغفيرة في كل مكان، على الأرصفة وفوق الشرفات وسطوح المنازل الشاهقة.
وخرج حنبعل صحبة أبيه لأول مرة في الصفوف الأمامية لجيش قرطاج العظيم. كان يمتطي جوادا أبيض من الخيول البربرية الأصيلة، ويلبس زيا عسكريا جميلا، ويضع على رأسه خوذة من الفضة، ويكسو جواده غطاء من الحرير القرمزي. فكانت الجماهير تصفق له بحرارة. وسمع الناس يهتفون لأول مرة:
-عاش حنبعل البطل الصغير!
وتوقفت أسماء عن السرد.
نهضت وتركت حنبعل ينظر إليها باستغراب، لكنها أسرعت إلى باب الغرفة، وقبل أن تغادرها أشارت إلى حنبعل بيدها قائلة:
-نم هانئا. غدا كالمعتاد بعد البحر، ومع غروب الشمس يكون السمر من جديد.




2

ولما أرخى الليل سدوله كانت أسماء وحنبعل في مخدع السمر، يجلسان جنبا إلى جنب، هذا يترقب بفارغ الصبر قصة حياته، وتلك ترتب شتات الوقائع التي تجمعت لديها من خلال مطالعاتها:
قالت أسماء على طريقة شهرزاد:
" وصل جيش عبد ملقرط يا بطلي العظيم إلى نوميديا، واستقبله الأمير نوارس على مشارف مملكة الملك العظيم جيّة بحفاوة لا توصف. جاء فرسان القبائل من كل البلاد. من الذي لم تبلغه شهرة عبد ملقرط؟ لقد ذاع صيته في الشرق والغرب، واصبح أسطورة عصره. قهر الرومان، ولولا تخاذل مجلس الشيوخ الذي أمره بالتفاوض لإنهاء الحرب لما ترك صقلية لقمة سائغة، ولما عاد إلى قرطاج كسيرا، ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن. ورغم خضوعه لأوامر السلطة السياسية، فقد حافظ عبد ملقرط على هيبة القائد الذي لم يقهر. وازدادت شهرته بعد محقه لثورة المرتزقة، وفرضه هيبة قرطاج على كل ممالك البربر، وقبائلها المتناحرة أبدا."
توقفت أسماء عن السرد وظلّت صامتة فترة من الزمن، ثم سألت حنبعل:
-هل بوسعك أن تدلني على نوع العلاقة التي كانت قائمة بين قرطاج ودول البربر المجاورة؟
بعد فترة من التفكير سأل حنبعل:
-وما حاجتك لفهمها؟
-لقد عاشت دولة قرطاج بين البربر أكثر من ستمائة سنة. لماذا لم تجعل من ذلك الامتداد الجغرافي والثقافي المتشابه دولة عظيمة واحدة تصمد في وجه تكتلات ذلك العصر؟
-تريدين محاسبة التاريخ؟
-ولم لا؟
-لا يمكن محاسبة أي كان دون الوثائق اللازمة.
-إنك تراوغ يا حنبعل. ربما كانت دولة قرطاج دولة عنصرية بنيت على العنصر الفينيقي ولم تكن ترغب في تمكين البربر من الديمقراطية والتقدم والرخاء التي كانت تنعم بها.
قال حنبعل بحدة:
-وهناك أيضا طبيعة البشر ورسوخ عقلية الهيمنة في البنى الاجتماعية، فلا يمكن أن تتحول شعوب يسوسها الحكم المطلق آلاف السنين إلى تبني الحكم الديمقراطي الذي ينبذ التسلط ويؤمن بالتداول على السلطة، ويقبل بمحاسبة الحكام. الحرية لا تهدى!
-أليست هذه نظرة ديماغوجية؟
-أبدا. كان في مجلس شيوخ قرطاج حزب السلام مع روما، كانت تتزعّمه عائلة حنّون، وكان يدعو إلى أمبراطورية قرطاجية تشبه الأمبراطورية الرومانية. أما الحزب المعارض لتلك الأمبراطورية فهو حزب تتزعمه عائلة بركا وهو يدعو إلى محاربة الهيمنة الرومانية، والحفاظ على التوسع التجاري والاقتصادي القرطاجي دون فرض الهيمنة السياسية. وهو ما يفسّر عدم تدخلنا في الشؤون الداخلية للشعوب التي كانت لنا معها علاقات اقتصادية متينة، ووجود بشري مبني على التبادل التجاري والاقتصادي. لم يكن لقرطاج إديولوجيا دينية أو عقائدية ترغب في فرضها على الشعوب الأخرى...
-كانت إذن دولة أمبريالية همّها الاستحواذ على خيرات الشعوب.
-ولا حتى دولة إمبريالية. كانت قرطاج مركزا تجاريا عظيما، تموله مراكز تجارية منتشرة عبر العالم القديم. وكانت تضطلع بحماية مراكزها التجارية والتصدي لمن يعوق المسالك التجارية المتنشرة في المتوسط، وقد حاولت كذلك نشر تجارتها عبر الأطلنطي سواء في إفريقا السوداء أو أوروبا.
-إذن ترى أنه لم يكن في متناول البربر استيعاب مثل الديمقراطية القرطاجية؟
-الشعوب التي يحكمها الأفراد لا المؤسسات يصعب عليها تبني القيم الديمقراطية. ولكن هذا النقاش عقيم، فقد انتهت قرطاج وبقي البربر رغم حكامهم المتسلطين.
ظلّت أسماء صامتة فترة من الزمن ثم قالت:
-صحيح أن النقاش في هذا الموضوع لا يجدي. فشعوب هذه المنطقة لم تر الديمقراطية حتى في عصرنا هذا!
سأل حنبعل مستغربا:
-أما زال شيوخ القبائل يحكمون الناس؟
-ليس بالصورة التي كانت عليها في القديم، لكن الحكم ما زال يخضع لإرادة الفرد الواحد.
سكبت أسماء لحنبعل عصيرا منعشا ثم قالت:
-ما لي وللسياسة، أنا هنا لأقص عليك تاريخك لا لأناقشك في شؤون الحاضر والماضي. أليس كذلك يا بطلي العظيم؟
-نعم حسنا تفعلين لو تعودين إلى السرد.
"بات حنبعل ليلته في قصر نوارس الأمير النوميدي، بينما حظي أبوه بضيافة الملك جيّة. وقد خصّته أخته زوجة الأمير برعاية كبيرة. وفي الصباح، نهض حنبعل كعادته مبكرا، وطاف بأجنحة القصر. وبينما هو يتجول في الحديقة الشاسعة، سمع زئير أسد. تقدم نحو مصدر الصوت حتى أدرك مكانا محفورا تحت الأرض، فازداد الزئير، وازدادت رغبة حنبعل الطفل في اكتشاف المكان، لكنه كان مغلقا من كل الجوانب، ولم يجد منفذا إليه. طلب من الخادم الذي كان يرافقه أن يدلّه على الباب فقال له مرتعبا:
-هذا المكان لا يدخله أحد. يرمى فيه بالأسود وهي أشبال، وتلقى الرعاية من مختص يعيش بينها، ثم عند بلوغها سن القوّة توضع في أقفاص وتصدّر إلى روما.
كانت رغبة حنبعل الصغير في رؤية الأسود كبيرة لكن مرافقه لم يمكنه من ذلك رغم إلحاحه. فعاد إلى القصر غاضبا متبرما، ولم يرغب حتى في تناول الفطور. ولما لاحظت أخته تجهمه سألته:
-ما لحنّي عبوسا؟
كانت تتربج به فتدعوه "حنّي"
قال لها بعد صمت طويل:
-أريد أسدا صغيرا!
ضمته إليها وقبلته وهمست إليه:
-سأطلب من الأمير أن ينظم لك رحلة صيد للأشبال، ويهديك أسدا صغيرا يرافقك كامل رحلتك إلى أيبيريا. هل أنت مرتاح الآن يا حنّي العزيز؟
لم يصدّق حنبعل كلام أخته، لكنه تناول فطوره عندما ألحت عليه. ولمّا حضر الأمير النوميدي فاتحته زوجته بحضور حنبعل قائلة:
-يا مولاي لقد رغب حنبعل العزيز في مشاهدة صيد الأسود، وقد وعدته بأن الأمير لا يرد رغبة صهره الصغير.
نظر نوارس مليا إلى حنبعل فاقتنع بتصميم الولد. نادى على أحد خدمه وأمره بأن يهيئ في الحين رحلة للصيد. وانطلقت مجموعة من الفرسان النوميديين ببرانسهم البيض ترفرف كالرايات. كان حنبعل بينهم على جواده الأبيض يركض به بسرعة فائقة. وكان شوقه لملاقاة الأسود كبيرا، فكان يدفع الجواد بكل قوة حتى تصدر المجموعة التي سايرت سرعة الجواد ناثرة الغبار من ورائها. عندما وصلوا إلى سفح أحد جبال الأطلس توقفوا، ونصبوا الخيام، وأراحوا الجياد. ثم أرسلوا فارسا يصطحبه عبد أسود للاستطلاع، ولما عادا انطلقت المجموعة من جديد نحو الأدغال الكثيفة لملاحقة الأسود.
كان المشهد رائعا. مجموعة الفرسان تقف على ربوة كثيفة الأشجار تشرف على سهل تغطيه الخضرة ويخترقه جدول يسيل في أعماقه ماء رقراق يتلألأ تحت نور الشمس الحاد. وفي وسط السهل تتربع مجموعة الأسود متكاسلة غير واعية بالخطر الداهم. ظلّ حنبعل يتأمّل المشهد بإعجاب. لقد لفت انتباهه لبؤة تداعب أشبالها الثلاثة ومن حولها أسد يزأر، يكشر عن أنيابه الحادة ينظر نحو السماء.
همس قائد المجموعة لحنبعل:
-ستبقى هنا يحرسك فارسان، وسنهجم نحن على اللبؤة نفتكّ منها أشبالها. لن يكون الهجوم يسيرا خاصة أن بقية الأسود لن تترك المكان بسهولة.
أومأ حنبعل برأسه موافقا. كان يودّ لو يشارك في الهجوم لكنه امتثل لأوامر النوميدي، وظل يراقب المعركة بكل انتباه.
وقع الهجوم من ناحيتين، فريق من الشمال استدرج ثلّة الأسود المنتشرة في السهل، والفريق الثاني من الجنوب حاصر اللبؤة وبعلها اللذين تهيآ لحماية أشبالهما.
انطلقت النبال من كل صوب نحو الأسد فأردته قتيلا، لكن اللبؤة أسرعت إلى صخرة عظيمة جمّعت وراءها صغارها وتهيأت لحمايتهم بكل شراسة. وسرعان ما انطلق جواد بني اللون يركبه عبد أسود عاري الصدر لا يحمل سلاحا، وبسرعة البرق مدّ يده إلى أحد الأشبال الثلاثة وأمسك برقبته ورفعه إليه، لكن اللبؤة مدت نحوه مخالبها فأسقطته على الأرض، وظلّت تزأر والعبد طريح الأرض تنزف من ذراعه الدماء. جرى خلف اللبؤة عبد آخر فمسك برقبة الشبل الثاني وانطلق يركض على قدميه يجر وراءه الشبل الصغير. التفتت اللبؤة لتحمي صغيرها الثالث الذي التفّ بها فاغتنم الفرصة العبد الجريح وفر بجلده دون غنيمته. وانهالت النبال على اللبؤة حتى أردتها على الأرض مخضبة بالدماء وهي تنظر في اتجاه صغيرها المرعوب يعانق جسدها الممزق.
عندما لفظت اللبؤة أنفاسها الأخيرة تقدم أحد الفرسان ورفع بعنف الشبل اللائذ بجسد أمه الصريعة، وانطلقت المجموعة إلى حيث كان حنبعل يراقب المعركة. جمعوا الأشبال الثلاثة في قفص من حديد وضعوه على عربة، وعادوا إلى قصر الأمير بغنيمتهم، غير عابئين بالأسود الصريعة التي تركوها في الغابة، ولا بالعبد الجريح الذي كان يعاني أوجاعه، ولا بالرعب الذي كان يروّع الأشبال الثلاثة. كان الفرسان يلتفون حول حنبعل فرحين بالانتصار العظيم الذي حققوه على مجموعة الأسود. إنه لنصر كبير أن يغنموا في غزوة واحدة ثلاثة أشبال. وكان حنبعل سعيدا بغنيمته: سيصبح له شبل يرعاه طيلة الطريق الطويلة إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. لكنه كان في الآن نفسه آسفا على ما حصل للأسود. تلك هي سنة الحياة: غالب ومغلوب، قاتل ومقتول، غانم وغنيمة. أليس كذلك يا بطلي العظيم؟
لم يجب حنبعل على تساؤل أسماء بل ظلّ واجما وكأنه حضر فعلا الهجوم على الأسود. ثم سأل أسماء دون أن ينظر إليها:
-هل قرأت هذه الحكاية في كتب التاريخ؟
سألته مراوغة:
-وهل تذكرتها؟
-لا أستطيع أن أجزم، فقد شاركت وأنا صغير في رحلات الصيد التي ينظمها أبي، لكني لم أتذكر أني اصطدت شبل الأسد.
-وماذا اصطدت إذن؟
دنا منها واحتواها وهمس:
-اصطدت الغزلان مثلك.
سألته بدلال:
-أين؟
-في جنوب جمهورية قرطاج.
-وماذا اصطدت في إيبيريا؟
-الأيائل.
نهضت فجأة، ثمّ قبّلت حنبعل بسرعة وقالت له:
-غدا سأقص عليك نهاية رحلة عبد ملقرط. نم هانئا.
غادرت البيت وحنبعل يتبعها بعينيه ملوحا إليها بيده حتى توارت السيارة عن ناظريه.








3

قالت أسماء بعد العشاء، وبعد أن استقرت قرب حنبعل يداعبها بلمسات رقيقة:
"جمع عبد ملقرط جيشه، واستعرضه فرقة فرقة. وتحادث مليا مع الفرسان النومديين الأشاوس الذين تطوعوا في الخدمة مع أعظم قائد، وانطلق إلى بلاد الماور حيث أقام هناك بعض الأيام لتفقد إسطبلات الفيلة وتمارين القتال التي يخضعون إليها. واجتاز مضيق طارق...
قاطعها حنبعل سائلا:
-وما مضيق طارق؟
-الممر المائي الذي يفصل إفريقيا عن أوربا والذي يصل المتوسط بالأطلنطي.
-تعنين مضيق أعمدة هرقل.
-هو ذاك، لقد سماه العرب مضيق طارق تخليدا لاسم القائد البربري الكبير طارق بن زياد الذي غزا الأندلس.
-ومتى كان ذلك؟
-في أواخر القرن الأول للهجرة.
-لا أفهم جيدا كل هذه التواريخ، ولا حتى من هم العرب الذين تتحدثين عنهم.
-العرب يا بطلي العظيم هم قبائل بدوية نزحت من شبه الجزيرة العربية واستوطنت جزءا كبيرا من العالم القديم.
ظل حنبعل يفكّر ثم قال:
- يصعب عليّ فهم التاريخ بكل هذا الاختصار، لكن واصلي حكاياتك؟
عادت أسماء إلى السرد قائلة:
"توجد في طرف البلاد الإيبيرية، على ساحل الأطلنطي مستوطنة فينيقية قديمة تدعى قادس، ومنها انطلق الرحالة القرطاجي الشهير حنّون لاكتشاف بلاد الزنج. قصدها عبد ملقرط فلقي بها الترحاب وحسن الضيافة. لقد وصل عبد ملقرط وجيشه إلى قادس دون أن يقف في طريقهم أحد. فشعوب إيبيريا كانت منشغلة بتناحر قبائلها، ولم تكن تحكم البلاد سلطة مركزية واحدة. وكان الإغريق يدعّم وجوده في إيبيريا، وللرومان كذلك أطماعهم. فكانت خطّة عبد ملقرط واضحة، لم يأت البلاد للاحتلال ولا للغزو بل لحماية المصالح القرطاجية في تلك الربوع، ودعم الوجود القرطاجي بها. وحسب ما قرأت يا عزيزي حنبعل فإن بلاد الأندلس التي كانت محط أطماع القوى العظمى بالمتوسط مثل الإغريق والرومان والقرطاجيين كانت غنية بمعادنها من الذهب والفضة والنحاس.
"قلت يا بطلي العظيم أن عبد ملقرط أقام بقادس أياما اطلع خلالها على أوضاع البلاد الإيبيرية، ثم جمع قادة جيشه وتشاور معهم على الخطّة التي أعدّها للاستيطان على سواحل المتوسط في بلاد الأندلس الجميلة الحالمة. وراسل قرطاج في الموضوع فأوفدت له كل ما كان يحتاجه من المال والعتاد والمستوطنين الذين سيعمّرون مدنا خطط لإنشائها هناك...
قاطعها حنبعل قائلا:
-يظهر أنك لا تعرفين جيدا بلاد الأندلس في تلك الفترة. فالوجود البوني قديم على تلك السواحل، والمدن البونية كثيرة مثل مالقا، وسترابون، والمنيقرة، وعذرا، وعبدرا. والتجارة مع الإيبيريين كانت مزدهرة، بل كثيرون منهم يحذقون اللغة البونية. لم يكن عبد ملقرط في حاجة إلى غزو الأندلس بل كان يريد حماية تلك البلاد من المد الروماني الذي كانت له أطماع جلية فيها. كان أبي يدعو إلى جعل المتوسط بحر سلام تتعايش فيه الشعوب في أمن ورخاء، وكان الرومان يريدونه ملكية خاصة بهم ليهيمنوا على شعوبه.
-لكنه لقي مقاومة شرسة من بعض شعوب تلك البلاد.
-ليست الشعوب التي ثارت على الوجود البوني بل رؤساء بعض القبائل الذين رأوا في ذلك الوجود استنقاصا للهيمنة التي يفرضونها على شعوبهم. فالمستوطنات البونية في الأندلس كانت تتحلى بنظام سياسي واقتصادي متطور مبني على أسس الديمقراطية وسيادة القانون. أما تلك الشعوب فقد كانت ترزح تحت وطأة نظام الحكم الاستبدادي الذي لا يعترف إلا بقانون مالكي الأرض وسلطة السلاح.
"قلت يا بطلي الهمام أن عبد ملقرط عاين بدقة الأوضاع في جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية، وارتاح للاستقبال الذي لقيه جيشه من قبل شعوب سواحل المتوسط هناك، وهيأ نفسه للتوغّل في البلاد، خاصة أن مناجم الفضة والنحاس توجد على ضفاف الوادي الكبير في سفوح سلسلة جبال الأندلس، وأن تلك الأماكن وعرة، ومحصنة وتسكنها شعوب لم يستقر فيها الأمن ولم تطلها هيبة الدولة. وكانت أول معارك الجيش البوني في شمال قرطبة وإشبيليا، منطقة وعرة تسكنها قبائل الترديتان والتردول الجبلية.
كانت المعركة شرسة، وقد هب لنجدة قبائل الترديتان والتردول بعض السلتيون بقيادة استولاسيوس. وكان ذلك أول انتصار يحققه عبد ملقرط في البلاد الإيبيرية، فقد محق جيش القبائل وشتت صفوفه وأسر منه ثلاثة آلاف مقاتل عرض عليهم القائد العظيم الانضمام إلى جيشه فقبلوا.
وكان صدى تلك المعركة كبيرا على بقية القبائل، ودخل الرعب صفوفها. من ذلك أن أحد القادة السلتيين ويدعى أندرتاس جمع جيشا بخمسين ألف مقاتل، لكنه انهزم قبل أن يخوض المعركة، فقد فر جنوده عندما رأوا عن بعد جيوش عبد ملقرط تزحف بنظام تتقدمها الفيلة والمجانق. كان مشهد الفيلة يرعب أولئك الجنود الذين لم يروا في حياتهم فيلا واحدا. غير أن أندرتاس أصر على خوض المعركة، فاستنفر ما تبقى من جيشه، واندفع كالمعتوه يصارع جيش عبد ملقرط، فكانت هزيمته. وقد أسر مع أكثر من عشرة آلاف من جنده.
يقول بعض المؤرخين يا بطلي العزيز أن عبد ملقرط لجأ إلى الرعب ليقطع دابر كل محاولات التصدي لجيشه. فقد جعل من العقاب الذي أنزله بأندرتاس درسا قاسيا لكل من زينت له نفسه التعرض لجيش قرطاج.
دخل جيش عبد ملقرط المدينة المهزومة يتقدمه الأسرى في الأغلال، ثم جمع كل السكان، وألقى فيهم خطابا دعا فيه إلى الهدوء، وطمأنهم على أرواحهم وأرزاقهم وقال: "لم نأت إلى بلادكم لنستعبدكم بل لنتعاون معكم على تنمية خيراتكم. لن نكون جيش احتلال بل حراس سلام. إن الذين يتعرضون إلينا هم مستعبدوكم، هم الذين يفرضون عليكم شتى أنواع القهر والظلم والعدوان. ولذا فسوف نلقن هؤلاء الطغاة درسا لن ينسوه أبدا."
ثم أمر بنصب مسطبة كبيرة، وأتى الجنود بالقائد السلتي أندرتاس مقيدا. وبعد أن عرضوه على الجماهير الغفيرة الدائرة حول المسطبة وقد تعالت الصيحات بموته، تقدم منه الجلاد ففقأ عينيه وتركه يتلوى من العذاب والجماهير تصرخ متلذذة. وتواصل تعذيبه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة والجماهير من حوله تصرخ منادية بموته...
قاطعها حنبعل متشنجا:
-هل قرأت هذا في كتب التاريخ؟
-نعم قرأته.
-لا بد أن المؤرخ روماني.
-لم يكتب تاريخ قرطاج سوى الرومان والإغريق.
-وهم من ألدّ أعداء قرطاج. لكن واصلي.
"استتب الأمن في البلاد الإيبيرية، وعمّ الرخاء، وفتحت مناجم الذهب والفضّة والنحاس من جديد، واستغلّها القرطاجيون أحسن استغلال، إذ بعثوا بكميات هائلة من المعادن الثمينة إلى قرطاج لإعانتها على تسديد ديون الحرب للرومان. وقد صكّ القائد القرطاجي باسم قرطاج نقودا من الذهب والنحاس دعامة لسلطتها على شبه الجزيرة الإيبيرية.
ولكن شاءت الأقدار أن يقع ما لم يكن في الحسبان.
كان جيش عبد ملقرط بعتاده الثقيل وفيلته المخيفة يقيم في مدينة الرأس الأبيض، وهي مدينة أنشأها عبد ملقرط، وتقع قرب مدينة أليكانت الحالية، قرب السواحل المتوسطية قبالة جزر البليار التي جعل منها القرطاجيون حصنا منيعا ضدّ كل آت من البحر يهدد مستوطناتهم على الأراضي الإيبيرية.
ففي شتاء سنة 228 قبل ميلاد المسيح، أي تسع سنوات بعد وصول عبد ملقرط الأندلس، إندلعت فتن داخل البلاد الإيبيرية، مما اضطر القرطاجيين إلى إخمادها.
انطلق لتلك الغاية جيش قرطاجي إلى الشمال بقيادة صدربعل صهر عبد ملقرط، بينما اتجه جيش آخر بقيادة القائد العظيم عبد ملقرط إلى جهة الشرق. كان في صحبته ابناه حنبعل، الذي لم يتجاوز بعد العشرين من عمره، وقد أبى أبوه إلا أن يشركه في كل المعارك التي خاضها في إسبانيا، وآزربعل، ابنه الأوسط الذي لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره.
كانت مهمة جيش عبد ملقرط إخماد فتنة اندلعت في مدينة "هالكة" بين فصائل متناحرة من القبائل الإيبيرية. لم يكن جيشه كبيرا ولم تكن مهمته حربية. كان عبد ملقرط يسعى إلى التوفيق لا إلى الحرب. وقد وفّّّق في مسعاه ورجع على التوّ إلى مدينته.
لكن صادف عند نهر سكرو، وكان الطقس رديئا والأمطار تتهاطل، أن هوجم جيش عبد ملقرط من طرف مجموعات مسلحة. هل غضبت جيوش أحد القبائل المتناحرة لموقف عبد ملقرط التوفيقي، فأرادت الانتقام، خاصة أنها رأت جيشه قليل العدد والعدّة؟ أم هي مجموعة من قطاع الطرق أرادت الاستيلاء على سلاح جيش صغير تفوقه عددا؟ أم هي انتفاضة على الوجود القرطاجي بجنوب إسبانيا؟ التاريخ لم يوضح جيدا أسباب التعرض لجيش عبد ملقرط في الوقت الذي لم يكن فيه في حرب مع أي كان.
هوجمت فرقة عبد ملقرط على حين غفلة، فالتف المهاجمون بها، وقتلوا منها عددا من الجنود. كان الوضع حرجا فأمر عبد ملقرط أبنيه بالتوجه إلى جهة الشمال بعيدا عن النهر، ثم نازل المهاجمين حتى أوقعوه في النهر الذي كان طاميا بسبب الأمطار الغزيرة التي نزلت في تلك الأيام.
مات عبد ملقرط غريقا وهو يحمي ابنيه، ويصالح بين الإخوة المتناحرين، ويبني مجد قرطاج. مات شجاعا، مناضلا، مدافعا عن أهدافه إلى آخر رمق من حياته."
وسكتت أسماء عن الكلام، وظلّت تنظر إلى حنبعل وهو شاخص ببصره في فضاء الغرفة. ثم سألته مترددة:
-هل تذكرت تلك الحادثة؟
لم يجب في الحين. لكنه بعد فترة من الصمت قال:
-تذكرت الآن كل شيء. لقد بدأت ذاكرتي تشتغل، وأخذت الأحداث تطفو على سطحها. كانت تلك الحادثة أشد علي وقعا حتى من الآلام التي خلّفتها هزيمة معركة زامن. لم أشاهد كيف انتهت حياة والدي العظيم لأن أوامره لي آنذاك كانت صارمة إذ قال لي بكل حزم:
-فلترعاك الآلهة. فز بنفسك ولا تترك أخاك!
ثم أشار لي إلى جهة الشمال حيث كان صدربعل يقوم بحملة غير بعيد عن ذلك المكان. مسكت جواد آزربعل وانطلقنا بأقصى سرعة نحو الجهة التي أشار بها أبي. ولم نتوقف إلا عندما أدركناها، وكان الليل قد عمّ المدينة.
صمت برهة ثم أضاف:
-لم يكترث صدربعل بما أعلمته به إذ قال إن عبد ملقرط ليس بالرجل الذي تقف في وجهه عصابة لصوص.
وعند الصباح الباكر خرجت مع فرقة من الجند، وعدنا إلى مكان الحادثة. وجدنا جثثا منتشرة على ضفة النهر، ولكننا لم نعثر على جثة أبي. بحثنا في كل مكان، وطال بحثنا حتى أدركنا الليل، فعدنا إلى صدربعل نعلمه بما وقع.
وعبثا بحث صدربعل عن رفات أبي. لقد ابتلعته المياه الجارفة ورمت به في البحر. قال الكهان وقتها إن الآلهة رفعته إليها فلن نعثر له عن أثر.
أعلم صدربعل قرطاج بالحادث، فأرسلت للتوّ لجنة تحقيق. وقد استخلصت أن عبد ملقرط مات في ساحة الوغى دفاعا عن جمهورية قرطاج.
كان عبد ملقرط أعظم قائد عرفه تاريخ قرطاج.
سألت أسماء مترددة:
-أعظم حتى من حنبعل؟
-عبد ملقرط لم يهزم أبدا. وعبد ملقرط جعل قرطاج تمتد من طرف جزيرة صقلية حتى جزر البليار. وعبد ملقرط أرسى السلام في كامل حوض البحر المتوسط. إنه رجل عظيم يا أسماء.
أتذكّر الآن كيف استقبل والدي وفد مجلس شيوخ روما بكل حفاوة وحسن ضيافة، وكيف سمع منهم تخوفاتهم من المدّ القرطاجي في شبه الجزيرة الإيبيرية. ثم طمأنهم قائلا:
-بين روما وقرطاج معاهدة سلام فلتحفظنا الآلهة من ويلات الحروب. لن يقوم جيش قرطاج بإيبيريا بأي عمل يعرّض معاهدة السلام بيننا إلى الخطر.
فعاد إلى روما وفد مجلس شيوخها مطمئنا. وعمل عبد ملقرط على احترام تعهداته. لكنه قال لي بعد تلك الزيارة:
-لو كان في وسعي الهجوم على روما الآن لما ترددت لحظة، إنها رأس الأفعى التي تسعى لابتلاع كل من يتحرك قربها. احذر يا حنبعل الرومان إنهم الشر بعينه!
-ربما كان هذا الكلام سببا في غزوك لإيطاليا فيما يعد؟
-لا، لم يكن السبب الوحيد. سوف ترين إن كل الظروف كانت سانحة للقضاء على الهيمنة الرومانية على شعوب المنطقة.
نهضت أسماء وغادرت حنبعل وهو مستغرق في تذكر أيام خالدة.












4

وفي اليوم الموالي عادا كالمعتاد إلى استعراض تاريخ قرطاج المجيد. قالت أسماء:
"كان صدربعل، ويدعوه المؤرخون صدربعل الوسيم لبهاء طلعته وأناقة مظهره، رجلا طموحا إلى حد كبير. كلّفه عبد ملقرط عندما حطّ الرحال في الأندلس ببناء أسطول بحري قوي، وجعله أميرا عليه. فقام بالمهمة على أحسن وجه. وما إن توفى عبد ملقرط حتى رشّح نفسه لقيادة جيش قرطاج في البلاد الإيبيرية، فوافق على ذلك قادة الجيوش. ولكنه عندما رأى بعض التردد عند مجلس شيوخ قرطاج في المصادقة على ذلك التعيين، سافر بنفسه إلى قرطاج ليدافع عن قدراته أمام النواب في قيادة الجيش اللوبي في الضفة الغربية من المتوسط. وكان له ما ابتغاه.
ولما عاد إلى إسبانيا منتصرا، كانت تخامر ذهنه فكرة واحدة: تدعيم النفوذ البوني على كامل شبه الجزيرة الإيبيرية.
قلنا إن الرجل كان طموحا إلى أقصى حد، بل يتهمه بعض أعدائه بالإعداد لجعل إيبيريا مملكته الشخصية لا ينازعه فيها أحد. وليلبي ذلك الطموح الجنوني أنشأ مدينة عظيمة سماها قرط حدشت، وتدعى الآن قرطاجنة، وبنى بها قصرا ضخما بقي شامخا مئات السنين بعده. ثم انبرى يحارب القبائل الإيبيرية داخل البلاد. وكان من أول ضحاياه ملك الأورس حيث اتهمه بتدبير الكمين الذي أودى بحياة عبد ملقرط. واستولى على الإثني عشر مدينة التي تسكنها قبائل الأورتان. كما أخضع كل مدن الإيبار لسلطته.
حكم صدر بعل البلاد الإيبيرية بقبضة من حديد وبدهاء أيضا. فما إن توفيت زوجته، ابنة عبد ملقرط الوسطى، حتى تزوج ابنة أحد ملوك الإيبار، وبذلك الرباط الدموي أصبح ينتمي إليهم. وهو ما ساعده على بسط نفوذه، ونشر الثقافة البونية في كامل إسبانيا. هذا التطور في العلاقة بين البونيين وأوربيي إسبانبا أزعج كثيرا الرومان إذ أن الشعوب الغولية على سفحي الألب أخذت تتحرك في اتجاح التحرر من الهيمنة الرومانية.
بعثت روما وفدا من مجلس الشيوخ للتحادث مباشرة مع صدربعل متجاهلة السلطة القرطاجية والأعراف الدبلوماسية. كان الاعتقاد سائدا أن صدربعل أصبح ملكا بونيا على إيبيريا...
قاطعها حنبعل قائلا:
-يظهر أنك تجهلين إلى حد بعيد نوعية الحكم البوني. فقرطاج بنيت على الديمقراطية. عليسة وأتباعها الأولون أرسوا دعائم دولة لا يسوسها سوى القانون والمؤسسات، ولو أن تلك المؤسسات تحجرت في بعض فترات التاريخ فأخضعتها بعض العائلات الغنية لخدمة مصالحها، ولكن الأوائل من مؤسسي قرطاج أوصوا بأن لا يقوم أبدا حكما استبداديا في قرطاج. لم يكن صدربعل سوى ممثل لسلطة المؤسسات الديمقراطية القرطاجية في البلاد الإيبيرية. واعلمي أنه لدى المؤسسات الديمقراطية في قرطاج ممثلون مستقلون يسهرون على رفع تقارير دورية تعالج كل قضايا الحكم في البلاد الإيبيرية. وكان صدربعل يخضع لمراقبة مجلس القضاة الذي لا يتسامح أبدا في شؤون الحكم والمراقبة المالية.
-لكن التاريخ يقول إن الرومان أمضوا معاهدة مع صدربعل يقيدون الوجود البوني في شبه الجزيرة الإيبيرية إلى حدود نهر الإيبار.
-صحيح. وقد وقع التوقيع بحضور نواب عن مجلس شيوخ قرطاج. كوني على يقين أن صدربعل الذي أحترمه لم يكن ملكا ولا مستبدا. كان مغاليا في مظاهر الترف، وكان يغدق على ملوك القبائل الأوروبية المختلفة التي يستدعيها للإقامة في قرط حدشت على نفقة قرطاج. وهي طريقة يسعى من خلالها إلى كسب ود أولئك الملوك حتى يأمن شرهم، إذ ربما يتحالف معهم إذا ما سعت روما إلى مد نفوذها إلى ما وراء جبال الألب.
قالت أسماء بعد فترة من الصمت:
-تعرف أني غير مولعة بالسياسة ولذا دعنا من صدربعل ومن تاريخه المليئ بالتناقضات.
-وماذا ستفعلين؟
- سأقص عليك يا بطلي العزيز كيف تعرّف حنبعل على زوجته وأحبها حبا جما.
سألها حنبعل مستغربا:
-وهل روى المؤرخون ذلك أيضا؟
-بالطبع، فقد كانت حياة حنبعل بكل دقائقها موضوع بحث وتنقيب من عدد كبير من المؤرخين.
قال حنبعل مستغربا:
-واصلي إذن!
"كانت مدينة قشتالة من أجمل وأغنى مدن الأندلس عندما حطّ عبد ملقرط الرحال في قادس. فهي تقع غير بعيد عن مقاطع المعادن الثمينة. ولها علاقات جيدة بقادس المدينة الفنيقية القديمة. وسكانها يحذقون الفنيقية لكثرة تعاملهم التجاري والاقتصادي مع سكان قادس. وكان ملكها فخورا بعلاقاته الممتازة مع البونيين، حيث لم تجتح مملكته الجيوش البونية. وكان سكانها يعيشون في أمن ورخاء بعيدا عن الحروب التي كانت تعصف بالأندلس في تلك الحقبة من تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية.
عندما زار حنبعل وهو ما زال طفلا تلك المدينة الجميلة أعجب بها أيّما إعجاب. كان هواؤها عليلا، وسكانها لطيفين، وليلها مفعما بنغمات شرقية، ورقصات إسبانية مرحة. فدأب على زيارتها كلما أتيحت له الفرصة، وكان ينزل ضيفا على ملكها. ومع الأيام تعرف على ابنة الملك، فتاة رائعة الجمال في مثل عمره تقريبا. كانت حسنة الخلق والأخلاق، مرحة أبدا، تحذق البونية والإغريقية مثله، تهوى الفلسفة والأدب الإغريقي مثله. فتوطدت بينهما علاقة متينة. ولما بلغا سن الرشد تحولت علاقتهما إلى حب عميق وخالص.
لكن ظروف حياة الجندية التي كان يعيشها الشاب حنبعل حالت دون تلاقي المحبين. فكانت لقاءاتهما قليلة ولكنها ممتعة. يحدّثها عن فلسفة أرسطو، فتعرفه بالأدب الأغريقي. كان يجد عندها من صفاء الفكر وتطلّع الروح ما لم يكن يجده في عالم الجندية القاسي الذي كان يترعرع داخله. وحين يفترقان دون تحديد موعد اللقاء، يبقى الشوق يناديهما للقاء جديد.
عندما طلب منها يوما الزواج وقد بلغ العشرين من عمره، قالت له مترددة:
-لم أر فنيقي قادس يتزوجون أجنبيات، فهل يرضى أهلك بزواجنا؟
لمّا طرح السؤال على أمه، رفضت بشدّة، وحذرته أن ذلك الزواج ربما يقف حجر عثرة أمام طموحاته السياسية. لكنه ظلّ على حبه لملكا، وواصل لقاءاته معها دون أن يتحدثا ثانية عن الزواج. كانت العلاقة الثقافية التي ربطتهما تطغى على كل العلاقات الأخرى.
وما إن تزوج صدربعل إسبانية حتى انفتحت أمام حنبعل أبواب الزواج بملكا على مصراعيه. وفي سنة 220 قبل ميلاد المسيح أقام حنبعل بعد أن استلم قيادة الجيش البوني بإسبانيا، حفل زواجه بملكا. وكان حفلا كبيرا دعا إليه كل أعيان البلاد الإيبيرية. وقد كان يسعى من خلاله إلى ربط أواصر الصداقة بين شعب قرطاج وشعوب تلك البلاد الجميلة الحالمة."
داعب حنبعل أسماء برقة ثم سألها:
-ومن أدراك أني كنت أحدثها عن أرسطو؟
-ألم يكن معلمك سيليلوس الإغريقي؟
-نعم.
-إذن فلا شكّ أنه حدثك عن أرسطو. ثم أن جل تصرفاتك خلال قيادتك للجيش البوني كانت متأثرة بسيرة الاسكندر المقدوني، وبما أن أرسطو كان معلم الاسكندر العظيم فلا بد أن حنبعل العظيم تعرف هو كذلك على تعاليم أرسطو أكبر فلاسفة الإنسانية في ذلك الزمان. أليس هذا التحليل صحيحا يا بطلي العظيم؟
-جميل.
-لي رجاء يا حنبعل. هل تتذكر كيف مات صدربعل؟ لم أفهم جيدا ما رواه المؤرخون عن ظروف وفاته.
-لا أحد يعرف بالتحديد. كان الرجل شغوفا بالأكل والشرب والجنس. يحب السهر وملذات الحياة. لم أكن بقرط حدشت عندما توفى، لكني علمت أن الخدم وجدوه ميتا في إحدى غرف القصر المخصصة لسهراته الخليعة. هل سمموه؟ أم أنه أكل وشرب أكثر مما يتحمله جسده؟ لا أحد يمكنه الجزم. مات صدربعل بعد أن استتب له الأمن في شبه الجزيرة الإيبيرية.
-وخلفته أنت على رأس الجيش؟
-تعرفين التاريخ أكثر مني.
-يقول المؤرخون إنه حالما علم الجنود والضباط بوفاة صدر بعل التفوا أفواجا حول القصر ينادون بتعيينك على رأس جيش قرطاج. وإن مجلس الشيوخ وافق بالإجماع على ذلك التعيين رغم الأحقاد التي كانت بين أهل حنّون وأهل بركا.
-أتعرفين لماذا؟
-لا.
-لأن التقارير التي كانت تصل إلى مجلس الشيوخ عن الوضع في الجزيرة الإيبيرية كانت واضحة بحيث جرّت أعضاء مجلس الشيوخ لاتخاذ ذلك القرار دون أن أتصل بهم وأن أقوم بالحملة اللازمة لنيل ذلك المنصب.
بعد فترة من الصمت، نهضت أسماء وأخذت تبحث في حقيبتها ثم عادت إلى مكانها وفي يدها ورقة. قالت لحنبعل:
-كان الجميع مقتنعا بخصالك يا حنبعل. حتى بعد مماتك بمئات السنين ظلّ المؤرخون يرددون أشياء جميلة حول شخصيتك. وتعرف أن جل الذين تحدثوا عن تاريخك هم أعداؤك. فمثلا هذا المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس الذي لا يكن لك حبا كبيرا يقول:
"كان حنبعل حسب شهادة قدماء الجنود، يشبه أباه عبد ملقرط كثيرا. فله نفس التعبير الدقيق، ونفس الشعلة في النظرات، ونفس الهيئة، ونفس تقاسيم الوجه. ثم إن حنبعل سرعان ما جعل تلك الخصال الموروثة لا تمثل شيئا أمام ما يتحلى به. ورغم تطابق الشخصيتين فإن حنبعل كان يجيد التصرفات المتناقضة، فيحسن الطاعة والتحكم. فلا يمكننا أن نعرف ما إذا كان يطيع الجيش أو قائده. فعندما يحتاج صدربعل إلى عمل يتطلب الشجاعة والحركية فإنه لا يفضل على حنبعل أي قائد آخر. ولا يوجد قائد يثق فيه الجند وفي إقدامه كما يثقون في حنبعل. ولا يوجد شخص يفوقه جرأة عند مواجهة الأخطار، ولا هدوءا في الظروف الحرجة. ولا يفلّ في جسده ولا نفسه كلل ولا ملل؛ فهو يثابر بنفس الروح أثناء الحر الشديد أو البرد القارس؛ ولا يعبأ بالأكل أو بالشرب، يشبع بما توفر له، ولا يبحث عن لذة البطن، وينام كلما رغب في ذلك سواء كانت الساعة ليلا أو نهارا، فلا يرتاح إلا عند انتهاء مهمته، ولا يهمه مكان الراحة، ولا يبحث عنه في الفراش الناعم ولا في الهدوء المطمئن. كثيرون رأوه نائما على الأرض، مغطى بمعطفه، بين الحراس وفي المخافر. ولا يتميز عن الشبان في سنه بزي خاص، كانت أسلحته وخيوله تميزه على الآخرين. فهو أحسن فارس وأحسن جندي. وهو الأول في بداية المعركة والأخير في نهايتها. لكن له عيوبا تعادل هذه الخصال الكبيرة. فهو شديد القسوة، مخادع ككل البونيين، لا يقيم وزنا للحقيقة، ولا يحترم المقدس، ولا يخشى الآلهة، ولا يوفي بالعهد، ولا يقيم وزنا للتدين. بهذه الخصال والعيوب عمل تحت إمرة صدربعل ثلاث سنوات دون أن يتغافل عن أي رقيقة ولا دقيقة ليصبح يوما هذا القائد العظيم."
سألها حنبعل حالما:
-ومتى عاش هذا المؤرخ؟
-ولد في سنة 59 قبل ولادة المسيح وتوفي سنة 17 بعدها.
-إذن كانت مصادره رومانية بحتة، فهو كذّاب مخادع. ألم تجدي وثائق بونية تروي تاريخ دولة قرطاج؟
-لقد قلت لك إن الرومان أحرقوا كل ما كتب البونيون طيلة وجودهم. كان هاجسهم أن يمحوا من على البسيطة كل أثر يذكّر بوجود قرطاج.
-ولماذا كل هذا الحقد؟
-لأنهم رأوا في وجود حنبعل في عقر دارهم طيلة خمسة عشر عاما أكبر صفعة في تاريخهم، فانتقموا من شعبه أشد انتقام. هل تعلم يا بطلي العظيم أن مغامرتك الإيطالية ظلّت لغزا محيرا لكل المؤرخين بعدك؟
أجاب حنبعل حالما:
-ربما لأني لم أكن اتصف بكل العيوب التي ذكرها تيتوس ليفيوس، لم أنجز كما ينبغي خطتي في تقليص الوجود الروماني في العالم. كان عليّ أن أمحو روما من الوجود ليتحقق مشروعي. وكان ذلك ممكنا في فترة من فترات الحروب التي قدتها في شبه الجزيرة الإيطالية. لم أكن قاسيا بما فيه الكفاية حتى أحرق روما وأمحوها من الوجود كما فعل الرومان بقرطاج.
ضمته أسماء وهمست له مواسية:
-ما فعلته كان كافيا ليجعلك أعظم قائد في التاريخ. غدا نتطرق لهذه المغامرة التاريخية الكبيرة."
تركته يحلم بتاريخ أخذ يسترجع ملامحه، وخرجت بسرعة قبل أن يدركها. ولمّا أفاق من ذكرياته كانت السيارة قد غادرت البيت تاركة حنبعل في حزن عميق.












5

عندما قدمت أسماء في الصباح وجدت حنبعل عبوسا، يجوب الحديقة أمام البيت. سلّمت عليه بحرارة، لكنه ردّ بفتور. سألته مستغربة:
-ما بك حبيبي؟
-سأنتحر من جديد.
ضمته إليها وهمست له:
-وهل يتنحر المحب السعيد؟
جلسا على مقعد مرمري أمام باب البيت، ثم نظر إليها مليا حتى شعرت بكل جسدها يذوب. لكنه قال:
-لقد صبت عليّ ذاكرتي سيلا من الوقائع جعلتني أكاد أجنّ. لم أنم كامل الليل. صدّقيني لست الوحيد المسؤول عن كل ما وقع. كانت الظروف الموضوعية مسؤولة، والنفاق البشري مسؤولا، ومجلس الشيوخ مسؤولا، وتسامحي مسؤولا. لكن في نهاية المطاف كنت أنا السبب لما حصل لشعبي، أليس كذلك يا أسماء؟
احتضنته وقبّلته قبلة طويلة ثم همست له:
-ومن يحمّلك المسؤولية؟
تملّص من عناقها وقال بصوت مرتجف:
-ضميري. إني أشعر بالذنب لكل ما سببته من مصائب لشعب بأسره.
سألته بلطف:
-ألا تشعر بالراحة عندما ترى أنه كان بإمكانك أن تحرق روما بأسرها وأن تفعل بشعبها ما فعل الرومان بشعب قرطاج ولم تفعل؟
-صحيح لكنه كان بإمكاني أن أفرض السلام على روما دون مهاجمتها في عقر دارها.
-رجعت إلى محاسبة التاريخّ!
-وأنت السبب. لقد ساعدتني على استرجاع ذاكرتي، والآن لم أعد أتحمل كل تلك الذكريات.
-عندي الحل. سنسافر اليوم إلى جزيرة جربة، يقول عنها الإغريق أنها جزيرة النسيان.
-لا، ليس الآن. أريد أن تواصلي سرد التاريخ كما كتبه أعدائي.
قالت له بدلال:
-شهرزاد لا تحكي إلا عندما تغيب الشمس ويجنّ الليل.
-وماذا سنفعل قبل الليل؟
-سنتجول في المدينة بكل حرية. يظهر أن رجال الأمن اقتنعوا أنك لم تكن الإرهابي الذي خمّنوا. فقد توقّفوا عن ملاحقتي تماما.
-فليكن ما ترغبين، لكن لا بد أن تواصلي سرد التاريخ، ولو أني أعتقد أنه مزيّف.
تجولا في مدينة الحمامات الجميلة، وتغديا في أفخر مطاعمها المتنوعة. ولما جاء المساء عادا إلى عشهما، وعادت أسماء إلى تقمّص دور شهرزاد، وحنبعل إلى دور شهريار وقالت:
"لم ينس، يا بطلي العظيم، حنبعل لقاء أبيه بوفد مجلس شيوخ روما أبدا، وما أسرّ له حالما غادر الوفد مدينة الرأس الأبيض. وما فتئ حنبعل يردد بينه وبين نفسه: "متى يكون في وسعي الهجوم على الأفعى؟"
وراح منذ وفاة أبيه يخطط لذلك الهجوم. وضع كل الاحتمالات، ودرسها دراسة دقيقة، واستخلص ضعف كل الخطط التي رسمها. فالأسطول البحري الذي بناه صدربعل لا يسمح بهجوم كاسح من البحر، خاصة بعد أن فقدت قرطاج جزيرة سردينيا وجزءا كبيرا من صقلية. والهجوم من البر تعترضه مشاكل جمّة، فهناك مدن في إيبيريا ما زالت تدين بالولاء لروما مثل ساغانتوم، وكذلك مرسيليا في بلاد الغوليين. أما الابتعاد عن هذه المدن فسيكلفه شق جبال البيريني وجبال الآلب، وهو عمل شاق ومكلف، ويتطلب تحالف شعوب تلك المناطق معه.
بعد تفكير عميق توصل إلى وضع خطة واضحة المعالم، ثم اندفع يهيئ لها كل ظروف النجاح. كان العنصر الأول في خطته سياسيا، فليس من السهل أن يحارب غير الأوروبي روما دون أن يستفز المشاعر العرقية. بدأ اتصالاته بمختلف الشعوب الإيبيرية حتى التي استقرّت بجبال البيريني مثل الباسك. فكانت اتصالات مباشرة ببعضها عن طريق العلاقات الدبلوماسية التي أرساها صهره صدربعل، أو غير مباشرة عن طريق بعض التجار البونيين الذين كانت لهم حظوة في بلاطات الملوك الإيبيرية. وكانت النتائج باهرة، إذ عبّرت تلك القيادات عن ترحيبها بمحاربة روما التي كان توسعها، ولو في بدايته، مخيفا لكل شعوب المنطقة.
ثم انطلق في دراسة جغرافيا المناطق التي سيمر منها جيشه، فكلّف بعض المختصين بالرحيل عبر تلك المناطق، فوافته بتقارير مفصلة عنها. ولما تجمعت لديه المعلومات الكافية، سطّر عدة طرق مختلفة، ودرس كل واحدة على حدة، مستعينا بأهل الذكر من الذين يعرفون الجغرافيا وتشعباتها. حتى اقتنع أن مشروعه ليس بالطوبوي، بل يمكنه أن يتحقق.
وقبل أن يضطلع بقيادة جيش قرطاج في شبه الجزيرة الإيبيرية بسنتين، وبينما كان يقضي عطلة الربيع في قصر قشتالة مع خطيبته ملكا، قال له ملك قشتالة في إحدى جلساته معه:
-لقد ثارت شعوب سهول نهر البو على روما، ورفعت السلاح في وجهها.
سأله حنبعل متلهفا:
-هل لديك تفاصيل عن تلك الثورة؟
-وصلتني أخبار تقول إن مجموعات من غوليين سهل البو، وأخرى من قبائل البيون من بولونيا، والإنسوبر من ميلانو، والتوريين من البييمونت، وقد انظمت إليها عصابات سلتية، كوّنت جيشا يضم أكثر من خمسين ألف مقاتل من المشاة، وعشرين ألف من الفرسان، وهجموا على مقاطعة الإتوريا، ومنها توجهوا إلى روما. وعندما وصلوا مسافة ثلاثة أيام منها تصدت لهم القوات الرومانية وأوقفت زحفهم، وهزمتهم شرّ هزيمة.
قال حنبعل حالما:
-جميل.
سأله ملك قشتالة مستغربا:
-أو يسرك انتصار عدوّك؟
-لا، أبدا. جميل أن تنتفض شعوب إيطاليا على الهيمنة الرومانية.
-لكن تلك الشعوب لا تملك من مقومات القوة والتنظيم حتى تتخلص من تلك الهيمنة.
قال له حنبعل حالما:
-سيأتي من ينظمها.
وما إن أصبح سيد إيبيريا حتى بدأ في تنفيذ خطته. انطلق يجوب البلاد الإيبيرية. فأخمد كل الفتن التي كانت تعصف بالبلاد. ودرّب جيشه على خططه المستقبلية.
بينما كان عائدا من حملة قادها في أحراش طليطلة هاجمته فجأة بقايا جيوش الفكاي التي هزمها سابقا. كان في وضع غير مريح، فسارع إلى قطع الاتصال بالجيوش المهاجمة، واختفى متخطيا نهر التاج، ثم أرسى بجيشه في الجهة الشمالية للنهر تاركا لعدوه مسافة تسمح له بملاحقته. وفعلا فقد انقاد عدوه إلى الكمين الذي نصبه له، إذ سارع باجتياز النهر دون أن يتفطن إلى فرسان الجيش البوني الذين ظلوا مختبئين في الجهة المقابلة للنهر. انقض فرسان جيش حنبعل من جهة اليمين على القوى المعادية دافعا إياها إلى جهة الشمال حيث كانت في استقبالها الفيلة، القوة الضاربة للجيش البوني، فمحقتها، ولم ينج منها إلا القليل إذ غرق جزء كبير من أفراد الجيوش المعادية في النهر، وتشتت البقية. وكان درسا لم ينسه سكان قشتالة الجديدة، فاستتب لحنبعل الأمن في كل مكان إلا في ساغنتوم، فقد بقي السكان منشقين على بعضهم، منهم من يدين لروما بكل الولاء، ومنهم من يحالف قرطاج.
كانت ساغنتوم شوكة في حلق الوجود البوني في بلاد الإيبار. فقبل أن يتوفى صدربعل قامت الفتنة فيها، وأخمدها الرومان عندما حلوا بالمدينة وناصروا حلفاءهم وأرضخوا البقية لهيمنتهم.
ما إن سمع الرومان بتحركات حنبعل داخل بلاد الإيبار حتى بعث مجلس الشيوخ وفدا إلى حنبعل ليحذره من مغبة المساس بساغانتوم التي يعتبرونها محمية رومانية. استقبل حنبعل الوفد الروماني بفتور كبير وأجابهم عن تحذيراتهم بسخرية، إذ ذكّرهم بما فعلوه بسكان ساغنتوم الشرفاء الذين كانوا متحالفين مع قرطاج قبل الحضور الروماني. وبينما هم يغادرون قرط حدشت قال لهم بشموخ:
-ليس من طبع القرطاجيين التخلي عن نجدة من يحتمي بهم.
وربما كانت تلك الجملة الشرارة الأولى في الحرب الرومانية القرطاجية الثانية. إذ تلتها جملة ثانية قالها أحد أعضاء مجلس شيوخ قرطاج عندما استفحلت القضية، وزار وفد من مجلس شيوخ روما قرطاج، وحضر مداولات مجلس شيوخها. عندها قال لهم عضو من مجلس شيوخ قرطاج تلك الجملة التي لم ينسها التاريخ:
-اكشفوا عن مشروعكم الحقيقي فساغنتوم ليست إلا تعلّة، هل تريدون محاربة قرطاج من جديد؟
أجابه رئيس الوفد الروماني:
-نحمل إليكم السلم أو الحرب فاختاروا ما يطيب لكم.
فرد عليه عدد كبير من أعضاء المجلس:
-فليكن الاختيار لكم!
فأعلن بكل صلف:
-ستكون الحرب.
وبعدها بعث مجلس شيوخ قرطاج إلى حنبعل رسالة يعلمه فيها أن روما أعلنت الحرب على قرطاج. ومن ثمّ كانت البداية الرسمية للحرب الرومانية القرطاجية الثانية. إذ حاصر حنبعل مدينة ساغنتوم. ودام حصارها ثلاثة أشهر ولم تهب روما لنجدة حليفتها. وسقطت ساغنتوم ولم يحرك الرومان ساكنا، مما شجع حنبعل على المضي قدما في تنفيذ خطته."
وسكتت أسماء عن رواية التاريخ. ونظرت إلى حنبعل وهو شارد الفكر.
سألته بود:
-ما لك شارد؟ ألم تقع الأحداث بهذا الشكل؟
لم يجبها في الحين. لكنه بعد فترة من التفكير سألها:
-من أين أتيت بهذه المعلومات؟
-كتبها المؤرخون.
-ذلك التيتوس؟
-وغيره.
-رومان بالطبع؟
-قرأت لأحدهم كان يعيش في فترة زمنية أقرب من تيتوس ليفيوس، إذ حضر أحداث الحرب الرومانية القرطاجية الثالثة. ولكنه كتب تحت الرقابة الرومانية حيث كان يعيش مع الرومان، وقد قدموا به من ميقابوليس باليونان، وكان صديقا لقياصرة روما. ويدعى بوليبوس.
-ويقول نفس الشيء
-تقريبا. بل يقول إن اجتياحك لشبه الجزيرة الإيطالية كان طيشا، وأن قرارك كان نزوة من نزوات الشباب.
قال حنبعل غاضبا:
-فليذهبوا إلى الجحيم! لو كان النصر حليفي لما قالوا هذا الكلام. التاريخ الذي يكتبه المنتصر عادة ما يكون مزيفا.
طوقته أسماء بذراعيها، وقبلته قبلة طويلة، ثم قالت له بحنان:
-غدا سأروي لك قصة اجتيازك الجنوني لجبال الألب.
ثم انصرفت.







6

ومن الغد وعند قدوم الليل عادا إلى السمر.
قالت أسماء:
"تحولت مدينة قرط حدشت الإسبانية إلى عروس. ازدانت بالأعلام، وقدم إليها الناس من كل جهة، وأعلن المنادي عن استعراض عسكري كبير سيشارك فيه جيش حنبعل المتوجه إلى ساحة القتال لمحاربة روما. أقيمت الولائم في كل أحياء المدينة البونية، وفتحت أبواب المعابد للصلوات، وانتشر المرح في كل مكان.
عاد حنبعل من زيارة إلى قادس حيث يوجد معبد هرقل إله المدن. وقد حضر حفلا كبيرا أقيم بقادس دعا الكهنة خلاله هرقل بالنصر لجيش حنبعل.
في الحقيقة لم يذهب حنبعل خصيصا للصلاة، بل ليحضر بنفسه سفر زوجته وابنه إلى قرطاج. لقد ظلّت صورة رحيلهما عالقة في ذهنه طيلة السنوات الخمس عشرة التي قضاها في البلاد الإيطالية يحارب الرومان.
ولم يكن هدف كل تلك الاحتفالات دينيا أو استعراضيا فحسب، بل كان حنبعل يرجو من ورائه حث الشباب الإيبيري إلى التطوع للعمل في الجيش البوني. كان الجيش البوني يتكون أساسا من العناصر البونية في القيادة، والعناصر النوميدية في جيش الخيالة، والعناصر الماورية في قيادة الفيلة، وكل هذه العناصر مدربة تدريبا جيدا، وهي تمثل العمود الفقري للجيش البوني، عناصر محترفة، ذات قيمة قتالية عالية، تطعّمها من حين لآخر عناصر مرتزقة تعمل حسب حاجة الجيش إليها. فكان جيش حنبعل الذي هيأه لاكتساح شبه الجزيرة الإيطالية أحسن جيش في العالم في ذلك العصر، ويمكن اعتباره جيشا متعدد القوميات.
اجتمع حنبعل بقادة جيوشه، حنّون وماهربعل ومتّان وهو قائد من أصل لوبي، وآزربعل، شقيق حنبعل، وهو قائد الجيش البوني الذي سيظلّ يحرس إسبانيا لإخماد الفتن المحتملة، وللتصدي لهجمات البحرية الرومانية، وشقيقه ماغون الذي لم يتجاوز العشرين من عمره. وعرض عليهم الخطة:
"في البداية سينطلق كامل جيشنا نحو جبال البيريني التي تسكنها قبائل ثائرة على كل أنواع السلطة، والتي لن تسمح بمرورنا بسهولة عبر أراضيها. سيتكفل نصف الجيش الذي يقوده آزربعل بمناوشة قوات تلك القبائل حتى يتسنى للنصف الآخر تخطي الجبال والتوجه إلى بلاد الغوليين المتفق مع أهلها على إعانتنا في تخطي جبال الألب لمحاربة روما. عندما نكون قد تخطينا جبال البيريني، يغادر جيش آزربعل جبال البيريني، ويعود إلى الأراضي الإيبيرية."
سأله أحد القادة:
-وهل سنحمل معنا الفيلة؟
أجابه بعد صمت طويل:
-لا بدّ منها. أعرف أنها لا تقدر على صعود الجبال، وأن تغذيتها ستكون من أكبر المشاكل التي سنواجهها، ولكنها تمثل عنصرا هاما في خططنا الحربية.
سأله آخر:
-والمجانق؟
-تلك نصنعها على عين المكان، نحمل معنا فقط أدوات الصناعة والعمال المختصين.
-والمؤن؟
-لا داعي لها، سنشتريها في الطريق قبل صعود جبال الألب، فالأماكن التي سنمر منها في بلاد الغوليين غنية بالمواد الغذائية وأسعارها رخيصة.
بعد الاجتماع بعث حنبعل رسالة إلى قرطاج يعلمها فيها ببداية حملته على روما. ومن الغد كان في طريقه إلى جبال البيريني يقود جيشا جبارا خرجت لمشاهدته جماهير غفيرة.
كانت في المقدمة فرقة الفيلة، ثلاثون فيلا أتوا بها من جبال الأطلس في الريف المغربي، فيلة فتية، تنتصب على ظهورها أبراج من الخشب، ويجلس داخلها رماة الماور بأقواسهم ونبالهم على أهبة الاستعداد. كان سلاح الفيلة بمثابة المدرعات، ترهب الخيل والمشاة، وتشتت صفوف العدو، وهي مدربة على القتال فلا تتوانى في الهجوم مستعملة خراطيمها حسب الاتجاهات التي تدفع نحوها...
قاطعها حنبعل سائلا:
-وهل ما تزال الفيلة تعيش في جبال الأطلس إلى الآن؟
-مع الأسف انقرضت واندثر جنسها بسبب حملات الصيد التي كان يقوم بها الرومان لتغذية مسارح صراع الحيوانات التي كانوا شغوفين بها.
بعد فترة من الصمت عادت أسماء إلى السرد:
"ثم أتى الفرسان النوميديون، وهم رجال أشاوس، يحملون برانس بيضاء، وسيوفا قصيرة، وخناجر معقوفة. إنهم خيرة الجيش البوني، حاربوا فيه منذ نشأته، وبهم حقق عبد ملقرط جل انتصاراته. ويركب الفرسان خيولا بربرية قصيرة القامة، رقيقة السيقان، لكن شجاعتها مثالية، وجلدها لا نظير له عند الجياد الأوروبية.
وتعاقبت وراءها صفوف المشاة من مختلف الجنسيات، جلّهم من سكان إيبيريا التحقوا بالجيش البوني منذ أن استقرت له السلطة في البلاد الإسبانية. لكنهم يحملون الزي البوني القرمزي وعلى ظهورهم أمتعتهم وأسلحتهم، نبالا وأقواسا وسيوفا وخناجر.
كان الجيش البوني مسلحا أحسن تسليح، ومدربا أحسن تدريب، ويقوده أعظم قائد عرفه التاريخ القديم بعد الاسكندر المقدوني. وكانت مهمته صعبة وشاقة، لكن القيادة هيأت له كل ظروف النجاح، ورفعت من معنويات الجند إلى حد كبير. وقد سرّح حنبعل عند جبال البيريني كل الجنود الذين أصابهم الوهن أو أظهروا التراخي وقلّة الحماس.
كان حنبعل شديدا مع جنوده إلى حد القسوة في كل ما يخص الانضباط، لكنه يعاملهم كالأصدقاء لا يفرّق بين الضابط والجندي البسيط، وكان عادلا في حل المشاكل التي تحصل بين الجنود، سخيا عند الوفرة، شحيحا عند الحاجة، يحذق لغات جل الجنسيات التي تشارك في جيشه، فيحدث كل فئة بلغتها. وبهذه الخصال تكوّنت بينه وبين جيشه لحمة لم تستطع سنوات الحرب الطويلة فكّها. بل كثير من الجند والضباط الأجانب رافقوه عند عودته إلى قرطاج، بعد خمسة عشر سنة من الغربة، وواصلوا معه الحرب ضد روما."
صمتت أسماء والتفتت إلى حنبعل تسأله:
-أليس كذلك يا بطلي العزيز؟
-إنها حقا ذكريات جميلة رغم كل المتاعب. أرقى قيمة عند الإنسان بعد الحب هي الصداقة. لم يكن بيني وبين جنودي ولاء، بل كانت تربطنا صداقة متينة جعلت منا جسما واحدا متماسكا. وربما كانت تلك اللحمة هي التي دفعتني إلى التخلي عن حصار روما. فأنا أعرف جيدا أن الملل هو أكبر عدو للجندي. وحصار روما ربما كان يمكن أن يستمرّ سنوات، فتتلاشى تلك اللحمة.
-يقول السياسيون إن العبرة بالنتائج.
-لم أكن سياسيا بل كنت إنسانا. لم أكن أبحث عن انتصار عسكري سياسي، بل أردت أن يكون انتصارا لمثلي، وجعل العالم أقل جشعا وهيمنة.
-ولكن النتيجة النهائية كانت عكس ذلك. فما أن انتصرت روما عليك حتى أصبحت القوة الوحيدة القاهرة في العالم، ففرضت هيمنتها على كل الشعوب شرقيها وغربيها، وانتصر بذلك الجشع والهيمنة.
بعد برهة من الصمت واصلت أسماء سردها:
"قلت يا بطلي الهمام أن جيش حنبعل انفصل عن جيش أخيه آزربعل على مشارف بلاد الغوليين قرب مدينة نربون في فرنسا الحالية. ولم يتفطّن الجند لذلك الانفصال لكثرة عددهم. ولم يتفطن إليه أحد، واعتقد الكل أن حنبعل سيهاجم روما بجيش قوامه مائة وعشرون ألف جندي، وهو خبر تناقلته الألسن في كل مكان حتى وصل إلى آذان أعضاء مجلس شيوخ الرومان.
دخل الهلع قلوب الرومان، فأرسلوا بتعزيزات إلى المدن الحليفة لها في بلاد الغوليين، مثل مرسيليا ونيس، مدن تقع على الطريق التي كان الرومان يعتقدون أن حنبعل سيسلكها في حملته على روما. ومن ناحية أخرى شعر كل أعداء روما بالارتياح، وهم كثيرون، خاصة سكان الشمال الإيطالي من سهول البو إلى بولونيا. وهي شعوب عانت من قهر الرومان لها، واستحواذهم على خيراتها الوفيرة. واستعدت هذه الشعوب لاستقبال جيش جنبعل ومدّه بكل ما يحتاجه للانتقام من روما وعنجهيتها.
لكن عدوا شديد المراس لم يحسب له حنبعل كثير الحساب كان بالمرصاد له. كانت طبيعة بلاد الجنوب الفرنسي أكبر عدو واجه حنبعل في مغامرته الإيطالية. فبعد أن تخطى جبال البيريني واستقبله سكان منطقة الروسيون بحرارة، نتيجة النشاط الدبلوماسي الحثيث الذي أنجزته الإدارة البونية في إسبانيا قبل الرحلة، وكذلك الهدايا الثمينة التي أغدقها حنبعل على رؤساء عشائر تلك المنطقة، بدأت متاعب الطريق تظهر.
كان الحاجز الأول مائيا: نهر الرون وما أدراك ما نهر الرون. ولم تكن في ذلك الزمان تعبر الأنهار جسور تسمح بمرور الجيوش، ولم يكن في حوزة حنبعل ولا سكان تلك المناطق قوارب كافية لنقل الجنود من ضفة إلى أخرى. فكان على جيش حنبعل محاذاة النهر مسافات طويلة حتى الوصول إلى مكان يمكن فيه تخطي النهر دون خطر. ورغم طول المسافة، فقد فضّل حنبعل عدم سلوك الطريق البحرية القصيرة نسبيا، والأقل صعوبة، لأنها محفوفة بالمخاطر، خاصة أن معلوماته تؤكد أن الجيش الروماني بقيادة سقيبيون، والد سقيبيون الأفريقي، كان موجودا في تلك المناطق لحماية مدينة مرسيليا، إحدى محميات روما في تلك الجهة.
ولمّا همّ جيش حنبعل بتخطي النهر، بعد أن أقام في المكان أسبوعا كاملا هيأ خلاله كل لوازم العبور من قوارب وزوارق ومنصات لمرور الفيلة والعربات، فوجئ بجماعات مسلحة تترصد جيشه في الضفة المقابلة. كانت جماعات من قبائل الفلك لم يرضها الاتفاق الحاصل بين رؤساء القبائل ومبعوث حنبعل فأرادت الحصول على غنائم من الجيش البوني، فنصبت له كمينا. لكن مخبري حنبعل تفطنوا لذلك وأعلموا قائدهم.
أسرع حنبعل بتكليف حنّون، أحد قواده الكبار، وهو شاب مقدام، وابن أخته الكبرى، بتخطي النهر بعيدا عن مكان الكمين، وبالانقضاض على المجموعة المترصدة. تقدم حنّون مع ثلة من الفرسان خمسة وعشرين ميلا بمحاذاة النهر حتى وصل مكانا ينشطر فيه النهر إلى مصبين، فتخطاه متبّعا نصائح أدلته من الغول، وبعد مضي ليلة في الراحة، تقدم نحو مكان الكمين متسترا بالغابة الكثيفة المترامية على ضفة النهر. ولمّا صار قبالة جيش حنبعل أرسل إشارة من الدخان. فاندفعت كتائب الجيش البوني تشق النهر، الفرسان في المقدمة، ومن خلفهم أسراب الرجال على الزوارق والقوارب، ومنصات الفيلة يجرها الرجال على الضفة المقابلة. وما إن حطت الطلائع الأولى للجيش البوني على ضفة النهر حتى استقبلها رجال قبائل الفلك بالنبال، لكن سرعان ما تشتتت صفوفها، إذ هاجمتها من الخلف فرسان حنّون ووقعت بين فكي الأسد.
لكن متاعب حنبعل لم تنته. فأصبح أكثر انتباها، وأرسل أمام جيشه فرقا كشافة تستجلي الأماكن والأوضاع. وقد وقعت لأحداها مناوشات مع الجيش الروماني الذي كان يبحث هو الآخر عن جيش حنبعل يريد إعاقة تقدّمه نحو البلاد الإيطالية. ورغم كل تلك المصاعب فقد واصل حنبعل طريقه المرسومة مسبقا، وتهيأ لتسلق جبال الألب، يريد أن يدرك قمتها قبل وصول فصل الشتاء."
نظرت أسماء في ساعتها، ثم نهضت وودعت حنبعل، وعادت مسرعة إلى بيت أهلها.







7

وما إن حل الليل وعادا إلى عشهما حتى طلب حنبعل بلهفة من أسماء أن تعود إلى السرد. لبت طلبه وقالت:
"كان المكان الذي يعسكر فيه جيش حنبعل قبل بداية الرحلة الشاقة عبر المسالك الوعرة لجبال الألب أروع ما رأته العين. الخضرة تكسو السهول والمرتفعات، السماء صافية زرقاء، الغابة الكثيفة السوداء تطل كالمغارة الكبيرة، قمم سلسلة الجبال تغطيها ثلوج بيضاء تتلألأ تحت أشعة الشمس، الهواء عليل عطر، الماء ينساب في جداول ضيقة يسمع خريره عن بعد، وأصوات الطيور تغرد سعيدة بالحياة.
كان حنبعل يجلس على كرسي خشبي يتصفح الخرائط المنتشرة على طاولة خشبية صنعت أثناء العسكرة، يترشف نقعا من الزعتر. تقدّم إليه سيلينوس، مؤرخه الصقلي اليوناني الأصل الذي كان يرافق أباه في حملته الإسبانية، وسأله:
-متى سنصل إلى قمة الجبل؟
-قبل حلول الشتاء.
كان سيلينوس يكن احتراما كبيرا لحنبعل رغم أنه كان معلمه. فقد اكتشف عندما كان يلقنه اللغات الأجنبية والتاريخ والجغرافيا أنه يمتلك مواهب غير عادية. كان من الفطنة والقدرة على الاستيعاب أنه لم يكن في حاجة إلى مراجعة أي درس يلقنه إياه، وأنه يسعى إلى تطبيق كل ما تعلم. فلم يجد أي صعوبة في النطق السليم لليونانية، واللاتينية، والفينيقية التي تعلمها على يدي كاهن بوني. وكان وهو طفل يرسم خرائط الأماكن التي يمر بها، والطرقات التي يسلكها في سفراته مع أبيه من قرطاج إلى تبسوس أو حضرم، أو جزيرة قرقنة.
ظل ينظر إليه وهو يرسم طريقا، ثم سأله:
-هل سنسلك هذه الطريق داخل الغابة؟
-نعم. وسنهيؤها حتى تصبح طريقا تمكن من مرور الفيلة، ونستغل الحطب والحشائش التي سنجمعها.
-هل يتطلب ذلك وقتا طويلا؟
-لدينا أكثر من خمسين ألف رجل يا سيلينوس.
عندما انتهى من رسم الطريق، التفت إلى سيلينوس وبقي ينظر إليه شارد الذهن ثم سأله:
-ما رأيك في مغامرتي؟
لم يجبه في الحين، كان يعرف مزاجه جيدا، ويعرف أنه ككل الشرقيين يحب الإطراء، لكنه يعتز به كابنه، فقال له:
-بصراحة مغامرة بكل ما في الكلمة من معنى.
ربت على كتفه وقال:
-سأقص عليك حلما لم أفهم معانيه. كان ذلك ليلة خروجنا من قرط حدشت. وكما عودتني منذ الصبا ستشرح لي الحلم وتدلني على نذيره.
"لقد رأيت في حلمي شابا بهي الطلعة، جميلا كالإله. ابتسم لي ابتسامة عذبة وقال لي بصوت شاد:
-أرسلني إليك الإله ملقرط لأقود خطاك في البلاد الإيطالية. اتبعني ولا تلتفت.
كنت مبهورا أمام كل تلك المهابة وكل ذلك الجمال والوقار. لبيت طلبه، ونفذت أمره، ولم ألتفت. لكن عندما طال بنا السعي، تحركت داخلي غريزة حب الاطلاع، ولم أقدر على مقاومتها، فالتفت خلسة إلى الوراء. فيا لهول ما شاهدت! كان ثعبانا عظيما يخبط برأسه في كل الاتجاهات، يستفز الرعد والبرق، ويقتلع الأشجار من جذورها، ويهدم البيوت على سكانها، ويزرع الموت ويحصد الخراب.
اقتربت من مرشد ملقرط وسألته:
-ما هذه الأعجوبة؟
أجابني عبوسا:
-إنها خراب إيطاليا.
عندما أفقت من حلمي كان العرق يتصبب من كامل جسدي.
قال له سيلينوس:
-ما كان لك أن تلتفت، فقد عصيت أوامر الرب.
-لكني لست معصوما يا سيلينوس، إني إنسان مثلك تتحرك داخلي الغرائز والأهواء.
-إذن عليك ألا تتحول إلى ذلك الثعبان المخرب. انتصر على شر روما، ولا تزرع الشر فإنك إن فعلت فتنشر الخراب مثل ثعبان حلمك.
-أعدك أني أتفادى ما استطعت التخريب المجاني. أنت تعرف الحرب، وتعرف أننا لا نستطيع طهي البيض دون كسرها.
-أدعو ملقرط أن يستجيب لصلواتك.
دعا حنبعل أحد الجنود وطلب منه أن يحضر شهد عسل إلى سيلينوس. امتثل الجندي بسرعة، ومدّ للمؤرخ صحن العسل. قال له حنبعل:
-لقد جمعه الجنود الغول هذا الصباح، لم أذق ألذّ منه في حياتي. هذه البلاد جنة الخلد!
بعد أن احتسى العسل، تقدم سيلينوس من حنبعل وقال له بصوت خافت:
-هل تسمح أن أقبلك، فأنت أعز عليّ من أبنائي الذين تركتهم في قرطاج. أنت رجل فذ يا حنبعل، كل الذين عاشروك أحبوك.
قبّله من جبينه، ثم انصرف. لكن حنبعل ناداه ليقول له:
-هيّئ نفسك الليلة فعندنا زوار محترمون.
-هنا في المعسكر؟!
-نعم هنا. سننصب الخيمة الصحراوية لاستقبال أمير من هذه الجهة طلب مقابلتي.
وعند المساء كانت الخيمة الصحراوية المنسوجة من وبر الجمال قد نصبت، وفرشت بالزرابي الناعمة، ووضعت فوقها الحشايا والوسائد، وانتشرت في داخلها الموائد. كان حنبعل يريد استقبال ضيوفه في جو شرقي ليذكرهم أنه آت من مشارف الصحراء.
عندما وصل موكب الأمير وحاشيته عزفت فرقة من الجند الموسيقى ترحيبا به، ثم قاده حنبعل مباشرة إلى داخل الخيمة. تقدم الأمير برفقة زوجته، وتبعه نفر قليل من الأسرة المالكة. كان حنبعل ينتظر عددا كبيرا مما آثار استغرابه فسأل الأمير:
-ما لسيادة الأمير قادم بهذا العدد الصغير؟
ابتسم الأمير وقال:
-لم نرغب في إزعاج قائدنا العظيم. نعرف أنكم تتهيؤون لمهمة شاقة.
صمت الأمير لحظة ثم أضاف:
-في الحقيقة يا سيدي حنبعل قصدناك في استشارة. ولكي أكون صريحا ودقيقا، قصدناك، ونحن نعرف حكمتك، لمساعدتنا على حل مشكلة طرأت بيني وبين شقيقي.
قال له حنبعل:
-على الرحب والسعة، خاصة أن معنا الآن عالمين إغريقيين تعلّمت على أيديهما الكثير من المعارف.
ثم قدمّ إليهم سوسيلوس أستاذ الفلسفة وسيلينوس أستاذ التاريخ وقد أبى حنبعل إلا أن يشاركهما مغامرته التاريخية حتى يكونا شاهدين عليها.
عاد الأمير يشرح لحنبعل مشكلته:
-لقد توفى والدنا منذ زمن قصير، وتوليت الإمارة بعده، لكن أخي هذا، ثار علي، ورغب أن يكون الوارث لحكم أبي. وهدد بمغادرة أرضنا مع ثلّة من مناصريه. فهل يمكنك أن تحكم بيننا يا سيدي حنبعل؟
لم يكن حنبعل ينتظر أن يقوم بهذه المهمة في هذا المكان بالذات، ولو أنه تعرض لمثلها عدّة مرات عندما كان يتدخل في الفتن التي كانت تنشب بين القبائل الإيبيرية. بعد صمت طويل سأل حنبعل:
-من منكما الأكبر؟
سارع الأمير بالإجابة:
-أنا يا سيدي حنبعل.
التفت حنبعل إلى العالمين الإغريقيين وسألهما:
-ما رأيكما؟
قال سوسيلوس:
-لقد جرت العادة عند جل القبائل في أوروبا أن يرث الحكم الابن الأكبر...
قاطعه الأمير قائلا:
-وهو ما فعلته.
فقال حنبعل:
-عليك يا سمو الأمير أن تعد أخاك أنه يكون ولي عرشك، ووزيرك الأكبر.
وتصالح الأخوان، وتعاهدا أمام حنبعل ألاّ يتخاصما أبدا. ثم طاف الجنود على الضيوف بالمأكولات الشهية، وشرب الجميع الخمر القرطاجي المعتق. وعاد الأمير وأسرته إلى القصر مسرورين بنتيجة الصلح الذي توصلت إليه مساعي حنبعل. وقبل أن يغادر جيش حنبعل معسكره، وصلت إليه من الأمير مؤن كثيرة هدية منه إلى الجيش البوني، كما بعث وراءه فرقة من جنده تحرس خلفيته من اللصوص وقطاع الطرق حتى غادر حدود الإمارة..."
قاطع حنبعل أسماء وسألها:
-هل قرأت هذه القصة في الكتب؟
-لقد نقلوها على لسان سيلينوس يا بطلي العظيم. أتشك في حدوثها؟
-لم أعد أتذكر. لكن واصلي.
عادت أسماء لسردها:
"طلب حنبعل فرقة الهندسة في جيشه، وأمرها برسم الجزء الأول من الطريق التي وضع مخططها على الأوراق. ثم طلب القائد المسؤول عن التموين وطلب منه جردا في المؤن المتوفرة. سأله بعد أن استمع إليه بكل انتباه:
-وهل فكّرت في الماء؟
-الماء موجود في كل مكان في هذه الجبال.
قال له حنبعل حانقا:
-اصنعوا البراميل واملؤوها بالماء قبل أن نغادر المعسكر.
ولمّا همّ بالانصراف، قال له:
-ضاعف مؤونة الخل فسوف يكون له دور كبير عند الحاجة، ولا تنس الملح، فهو سلاح فعال في حربنا القادمة ضد أهوال الجبل وثلوجه.
ثم كلّف فرقة القناصة بصيد كل دابة يعثرون عليها، وتقديد لحمها، ومعالجة فروها. كان حنبعل يتصوّر مهاجمة الطبيعة لجيشه، فأخذ يعدّ العدّة للمعارك التي سيخوضها مع ذلك العدو العنيد. كان الرأس المدبّر لكل شيء، وكان قادة الجيوش يطمئنون إليه، ويعوّلون على فطنته، وينفذون أوامره بحذافيرها.
ومضى أسبوع والجند يعسكر في سفح الجبل لم يتحركوا من مكانهم حتى خيّل لبعضهم أن حنبعل قد تراجع عن تسلق جبال الألب. لكن عندما أنجز الجزء الأخير من الطريق التي رسمها، واندفعت الأرتال من الفرسان، والفيلة، وعربات المؤن والسلاح، وفرق المشاة تصحبها البغال والحمير، ظهرت مهارات الرجال الذين شقوا الجبال وحفروا ترابها، واقتلعوا الأشجار وحوّلوها إلى حطب، وسووا الأرض وفرشوها بالحصباء.
ولمّا وصلت طلائع الجيش إلى إحدى القمم،كانت بقيته لم تزل تعسكر في السهول تترقب الإذن بالانطلاق. كان المشهد من أروع ما أتيح لتلك الطبيعة طيلة وجودها. كل هذه الجحافل تتعاقب في تناسق تام تحيط بها الأشجار من الجهتين، تنغمس في الطبيعة فتتحول إلى جزء منها، ولو أنها أزعجت الحياة وقضت على بعضها، لكنها خلدت تحدّيا ظل الإنسان يتحدث به مئات السنين.
وعندما عمّ الظلام واضطر الموكب للتوقف، كان المكان قد هيأ للاستقبال. لقد خطط حنبعل لكل تفاصيل مراحل الرحلة. كان يصارع الطبيعة، لكنه لم يقدر على وقف زحف الزمان، فالشتاء القارس في انتظاره، والزوابع الثلجية تترصد به، والجوع القاتل لن يرحمه."
مضى من الليل شطره فتوقفت أسماء عن سردها، وغادرت حنبعل بعد أن وعدته أنها ستكمل الحكاية غدا كالمعتاد عندما يجنّ الليل.












8

سألت أسماء حنبعل قبل أن تبدأ سردها:
-كيف تسنى لك ضبط كل مراحل تلك الطريق الجبلية الوعرة وأنت ابن البحر والسهول؟
أجابها مبتسما:
-حب الرجال لي.
-لم أفهم.
- الرجال الغوليون رافقونا في رحلتنا عبر جبال الألب، وواصلوا المغامرة معنا إلى نهايتها، كانوا رجالا بأتم معنى الكلمة. تعلّمت منهم كل الدقائق التي مكّنتني من معرفة المكان الذي سأمر به. أرشدوني على نوعية الأشجار وخصائصها، على مصاب المياه وسرعة اندفاعها، على مختلف المسارب وأبعادها، على الأرض وتربتها، على الحجارة وصلابتها، على قمم الجبال ومشارفها. وتكوّنت لي فكرة شاملة على الموقع بكل مكوناته. ولم أرسم طريقا واحدة، بل رسمت طرقا متعددة، وعرضتها عليهم، وناقشنا كلا منها، وتوقّعنا المصاعب التي ستعترضنا، ولم نبدأ في سن طريق إلا بعد أن اتفقنا على كل الاحتمالات والحلول المرتقبة لحل المشاكل التي ستعترضنا.
هل تتصورين أننا رسمنا الطريق النهائية التي أوصلتنا إلى نهر البو؟ لقد جزأنا الطريق إلى أقسام تحددها المخاطر. عندما نصل إلى نهاية القسم الذي رسمناه، نأخذ قسطا من الراحة، ثم نرسم القسم الثاني بعد أن أرسلنا فريق كشافة ليدلّنا على كل الصعوبات التي ستعترضنا. لم نكن مجموعة من الرحالة عبر الجبال، كنا جيشا يضم أكثر من خمسين ألف رجل وأكثر من ثلاثين فيلا، وآلافا من الدواب، وأطنانا من المؤن والأسلحة.
ثم لا تنسي أن العدو في انتظارنا عند السهول وفي بلاد يعرفها جيدا. كان علينا أن نصل حيث لا يتصوّر، وأن نفاجئه من حيث لم يترقب. كل ذلك خمّنته قبل أن تعلن الحرب. وعندما عزمت على المغامرة، كان هاجسي الأول أن يتبنى كل رجالي مغامرتي، ويجعلوا منها مغامرة كل فرد منهم. كنّا كلما فقدنا أحدا منا، لا ندفنه إلا عندما نصلي عليه جميعا، سواء بالحضور أو من أماكن تواجد كل جندي. كانت مغامرة كل الرجال وليست مغامرة حنبعل لوحده.
-لم أفهم كيف توصلت إلى ذلك التناغم الدقيق بين كل عناصر جيشك وهي مختلفة الملل والثقافات والأديان؟
-التنظيم حبيبتي يأتي على الخلافات. لقد أوكلت قيادة كل فرقة أجنبية إلى قائد من بلدها، وقد اخترت القادة قبل الرحيل، ودربناهم على طرقنا في القتال والمناورة، وتعلموا لغتنا فأصبحوا منا، وعاملناهم على أنهم قادة بونيون يتمتعون بنفس الرتب والامتيازات. وعندما أتحدث إلى الجنود بالبونية، فإني متيقن أن جلّهم يفهمني، فقادتهم يترجمون لهم فوريا. ومع ذلك فأنا، كما تعرفين، أجيد عدة لغات، وأحاول أن أخاطب جل الجنود باللغة التي يفهمونها، وهذا ما يجعلهم قريبين مني.
صمت حنبعل ثم ضمّ أسماء إليه وسألها:
-لماذا كل هذا الاستنطاق؟
همست له:
-لأني كلما قرأت ما كتب عنك، ازددت بك شغفا.
بعد أن دخلا في عناق طويل، انسلّت أسماء منه وقالت:
-لا بد أن أتمم سرد أطوار مغامرتك الإيطالية.
همس لها:
-كم أنت شهية!
سألته بدلال:
-ألا ترغب في بقية القصّة؟
-بلى. وأرغب فيك أيضا.
لم تقدر على الهمس إليه: "وأنا كذلك. لكني عزمت على أن أقاوم رغبتي، إلى أن تنتهي قصتي."
عندما طال صمتها قال لها:
-سأكبح جماحي، وأهتمّ بسردك.
جلست بوقار، وتنحنحت ثم قالت:
" بعد صعود مريح ومبرمج في البداية، بدأت الصعوبات مع ارتفاع الجبل، وكثرة التضاريس والمنحدرات، فتاه حنبعل بجيشه بين شعاب جبال الألب ومضايقها الوعرة أكثر من أسبوعين، نال خلالها العباد والدواب ويلات لم تكن لهم في الحسبان. فهذا فيل يسقط من أعلي الجبل فيحمل معه عشرة مقاتلين يبتلعهم الموت، وهذه صخور تهوي من الأعالي تحصد الأرواح في طريقها، وهذا المكان ينزلق تحت وطأة الزحف فيقبر الدواب والبشر، وهذه الشمس اللافحة رغم تولي الصيف وقدوم الخريف تصيب العشرات بأوجاع الرأس وتداعي الجسد فتؤخر تقدم القوافل المتتالية، وهذا الجوع ظهر كالشبح عندما أخذت كميات الطعام تقل، وهذا العطش يثقل عندما أخذت براميل الماء تلقى فارغة، وهذا الليل الحالك يغطي الجبل بصقيع ينذر بهول ما هو قادم.
لم تفلح خطط حنبعل وتوقعات أدلّته من الغول في كشف كل ما كان يخبّئ الجبل لزواره. كانت الفواجع تتالى، وعدد الأموات يرتفع خاصة من الفيلة التي لم تتحمل صعود المسالك الضيقة، وأضناها التعب، فلم يعد بإمكانها إطاعة سواقها، ولم تفلح كل المحاولات لدفعها إلى الأمام، فتركت في مكانها تترقب الموت المحقق. وأصاب بعض الجنود من الإيبار حالات هستيريا، فعزلهم حنبعل عن بقية الجند، وتحدث إليهم بهدوء، ثم دفع إليهم رواتبهم وسرحهم.
عندما وصل أخيرا جيش حنبعل إلى أحد القمم المشرفة على الجهة الإيطالية لجبال الألب كان ثلث جيشه قد اضمحلّ أو عاد أدراجه. وكانت أكبر خسارة تكبدها هي موت ما يقارب النصف من عدد الفيلة التي أتى بها من جبال الأطلس ليخيف بها الرومان.
لكن حنبعل ليس من طينة الرجال الذين تفلّ فيهم المحن. وقف على صخرة عظيمة ونظر إلى المنحدر أمامه. كان ضباب كثيف يغطي البراري، فالتحمت السماء بالأرض، ولم يعد حنبعل يميز شيئا سوى أن نهاية الصعود المضني قد حلّت."
صمتت أسماء لحظة ثم قالت لحنبعل:
-هل تعلم أن طبيبا فرنسيا من هذا العصر أفنى أكثر من عشرين سنة من عمره للبحث عن تلك الصخرة التي وقفت عليها تنظر من بعيد إلى سهول البو؟
قال حنبعل ضاحكا:
-ولماذا كل هذا الهوس؟
-البحث عن الحقيقة.
-وهل توصل إليها؟
-رغم كل الشكوك فقد وصل إلى إثبات جزء منها.
-وماذا يقول المؤرخون عن ذلك المكان؟
-أقوالهم متناقضة تماما. بل ذهب بعضهم إلى جعلك تقفز بين قمم الجبال كالنسر.
-وسيلينوس؟
-لقد أحرق الرومان جزءا كبيرا من كتاباته، وتلك التي أوردها عنه مواطنه بوليبس ليست واضحة.
-أإلى هذا الحد وصل حقد الرومان على القرطاجيين؟
-لم يكن حقدهم ضد قرطاج فحسب، بل ضد كل الشعوب التي وقفت في وجههم، وقد وصفوها بالهمجية أو البربرية.
-وماذا فعل حنبعل وهو فوق تلك الصخرة التاريخية حتى تصبح حديث الأجيال منذ اثنين وعشرين قرنا؟
-تريد أن أعود إلى السرد؟
-واصلي إذن.
قالت أسماء:
"وقف حنبعل طويلا فوق تلك الصخرة المطلة على إيطاليا، وقال في نفسه: "إذا هزمت روما وأصبح كل العالم حرا من الهيمنة، سوف يفتح عهد جديد للإنسانية، وستتحرر من الجبروت والاستحواذ، وسوف ننشر ثقافة التبادل التجاري والحضاري، سنجعل الإنسان يعمل من أجل رخاء العامل، والمستثمر، والتاجر. وسنقضي على الذين يتمعشون من الحكم، ويكدسون الثروات من نهب الشعوب."
ثم التفت إلى الوراء فراعه مشهد جموع العساكر منتشرة على الصخور، وجوهها شاحبة وثيابها بالية، أنهكها الإرهاق وقلّة الغذاء والعطش. لم يكن المكان صالحا لنصب الخيام، لكن حنبعل أراد أن يحوّله إلى معسكر، وأن يزرع روحا جديدة في هذه الأشباح البشرية، ليندفع بها إلى سهول إيطاليا وقد شحنها بشعلة الانتصار.
ماذا يمكنه أن يقدّم لجنده سوى الكلام؟
نفذت المؤن أو أتلفها الجبل، خارت القوى ولم تعد تتحمل الأجساد الجهد. لم يبق من الزاد سوى الخل والملح وبعض الحشائش والشعير لعلف الجياد. لقد أقسم الفرسان النوميديون أن لا يمسها أحد. لأن النوميدي يجوع ولا يأكل طعام جواده.
ظلّ حنبعل يلتفت تارة إلى سهول البو ويحلم، وطورا إلى جنده ويضطرب. ثم نادى على المنادي ليعلن الفزع. فانطلقت صفارات الإنذار رددتها الأصداء في الجبال المجاورة.
التف الجند حول الصخرة التي يقف عليها حنبعل، ولمّا هدأت تحركاتهم ألقى فيهم حنبعل خطابه الشهير:
"أيها الجنود الأشاوس، أيها الرجال الصناديد. لقد رفعتم التحدي وأدركتم قمة الجبل. قهرتم الطبيعة وانتصرتم على قوى الهون داخلكم. لقد خلدتم أعظم مغامرة قام بها الإنسان. لا بد أنكم فخورون بإنجازكم العظيم، ولا بد أنكم تتشوقون لنيل أكاليل النصر. النصر هنا وراء هذه الصخرة. النصر هنا في قلوبكم. النصر هنا في عزيمتكم.
أعرف جيدا أن الجوع يؤلم بطونكم، وأن الإرهاق ينخر أجسادكم، وأن الحرمان يدمي عقولكم. لكني أعرف أيضا أن عزيمتكم لا حد لها، وأن رجولتكم لا مثيل لها، وأن طموحكم يناطح السحاب. ولكل هذه الخصال سيكون النصر حليفنا.
أيها الجندي البطل إن ما ينتظرك وراء هذه الصخرة لم تحلم به في حياتك. سهول البو هي جنة الخلد. ستجد ألذ المأكولات وأشهاها، وستشرب أحلى النبيذ وأرقاه، وستغنم من الخيرات ما لم تحلم به في حياتك. وعن بنات سهول البو حدث ولا حرج. صدور ناهدة، وقدود كاعبة، وأعجاز طرية."
وانطلق التصفيق والتصفير من كل جهة، وتوقف حنبعل ينظر إلى تلك الوجوه الشاحبة وقد دبّ فيها الأمل، وانتشر المرح بين كل الجنود، وارتفعت أيديهم إلى السماء تصحبها هتافات بحياة حنبعل.
هدّأ حنبعل جنوده بأشارات صارمة، ثم واصل:
"لقد عانينا جميعا ويلات تسلق هذه الجبال العنيدة، لكن النزول إلى إيطاليا سيكون أسهل، ومع ذلك فهو محفوف بالمخاطر. نحن الآن في نهاية فصل الخريف، وقد لاحظتم الثلوج تغطي بعض القمم. وسيغطي المنحدرات الجليد وما أدراك ما الجليد. ستعترضنا مصاعب من نوع آخر، وستحاول الطبيعة أن تثأر لانتصارنا عليها. لذا كونوا بالمرصاد ولا تندفعوا كالمجانين. إننا جيش منظم. وتعرفون جيدا أن قوتنا في نظامنا وانضباطنا ولحمتنا. فلنبق على هذه الخصال التي سترفعنا إلى أعالي قمم المجد."
وعادت الهتافات بحياة حنبعل.
ثم أمرهم بأن يتفرقوا. جمع قادة الجيوش وأمر بأن تنطلق في الحال أشغال تهيئة المعسكر. وكان له ذلك. فما إن عمّ الليل حتى كان الجند في خيامهم، وانتصبت القدور لأكلة ساخنة ستوزع على الجنود لأول مرة منذ أسبوع. ونام الجند تحت الخيام بعد أن كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، بين شعاب الحبال، وتحت الشجيرات القليلة التي كانت تنتشر هنا وهناك، في هذه الأعالي القاحلة المتوحشة التي لم يقدر الإنسان على ترويضها. وسمح حنبعل، على غير عادته، لجنوده بأن يتمتعوا بالنوم إلى ساعة متأخرة من الصباح. ومن الغد ترك لهم الحرية بأن يفعلوا بأوقاتهم ما طاب لهم. إنها استراحة المقاتل قبل المعركة الأخيرة ضد هذه الجبال المتوحشة العنيدة.
وبعد يومين من الراحة والنقاهة، بدأت رحلة النزول. لم تكن في البداية صعبة. كان المنحدر في متناول الرجال والدواب، وخاصة الفيلة التي كان الجند يشدونها من ذيولها حتى لا يحملها المنحدر. ولكن بعد يومين من النزول اعترضت جحافل الجيوش هوة عميقة جعلت من الطريق مسربا ضيقا لا يسمح حتى بمرور البغال.
توقفت المسيرة، وأرسل حنبعل فرقة للاستكشاف. ولما عادت أقنعته أن الموقف حرج. لا يوجد في هذا المكان طريق أخرى تسمح بمرور جحافل الجيوش بجيادها وبغالها وفيلتها. عاد حنبعل إلى مكان الهوة العميقة، وتفحّصها مليا، وعندما سأل الأدلّة الغول عن هذا المكان أعلموه أن هذه الهوة حديثة العهد.
تراجع الجيش إلى الوراء، وبدأت مسيرة مضنية بين مسارب ضيقة شاقة، وبدأ الأمل الذي نشره حنبعل في قلوب جنوده يتضاءل، وأخذ القنوط والملل يستولي على الأدمغة من جديد، خاصة أن عدد الحوادث القاتلة في ازدياد، وسقوط فيل في أحد الأجراف يحدث صدمة تعم الجيش كلّه، القريب من الحادث، والذي ينتبه إليه وهو مار من المكان عندما يرى الجسد العظيم للفيل ممزقا في قاع جرف عميق.
وفجأة توقفت المسيرة من جديد فقد انسدت الطريق، ولم يعد بالإمكان التقدم. صخرة هائلة كانت تمتد على عدة أمتار تقطع الطريق وتسده. وبعد معاينة دقيقة للمكان رأى حنبعل أنه لا مناص من التوقف أمام هذه الصخرة والعسكرة هناك حتى تنجلي الأمور. ومنذ الصباح الباكر جمع حنبعل جنوده، وعاد يحرّضهم على بذل جهد مضاعف. "هذه الصخرة هي الحاجز الأخير قبل الوصول إلى الخط النهائي لعدونا بين شعاب هذا الجبل." وانطلقت أشغال زعزعة الصخرة من مكانها، أشغال دامت يومين، ذهبت ضحيتها أرواح عدد من الجنود.
كان حنبعل يراقب الأشغال، يشجع الجند على مضاعفة المجهود. وكانت الأشغال شاقة ومضنية، استعملت خلالها المعاول والأيدي، والمياه وحتى الخل لتفتيت الصخرة. ورغم الإرهاق وقلّة التغذية فقد كان الانتصار حليف العزيمة والصمود. وكان آخر انتصار يحققه جيش حنبعل على الطبيعة، إذ انفتح له الطريق حتى سهول البو."
قالت أسماء لحنبعل:
-ألا ترى أنه غريب أن يظلّ الناس يرددون اسمك حتى اليوم؟ ربما لأنك حققت حلم الإنسان في صراعه الدائم مع الطبيعة؟
-لم أكن أفكر في ذلك، بل كنت أتهيأ لمحاربة عدو قرطاج اللدود، وكانت الطريق وسيلتي للوصول إليه لأن أغبياء السياسة في بلدي تغافلوا عن بناء أسطول ضخم يتصدى لذلك العدو ويردعه.
تفطنت أسماء إلى تقدّم الليل، فقالت:
-غدا سنرى ما سيفعله حنبعل في سهول البو.
اسرعت بالخروج قبل أن يغويها حنبعل بكلامه الساحر.






















9

قبل أن تبدأ أسماء سردها سألت حنبعل:
-أستغرب كيف تقوم بتلك الحرب دون حماية خلفية؟
-سؤال وجيه. غلطة استراتيجية أتحمل جزءا من مسؤوليتها، ولكن الجزء الكبير تتحمله الاستراتيجية الحربية العامة لدولة قرطاج. الضعف الفادح في الخطة الحربية لقرطاج يكمن في أسطولها الحربي، لم يكن بالقوة الكافية التي تردع روما، وتحمي قرطاج ومستوطناتها.
-وما سبب ذلك الضعف؟
-لقد بني أسطول قرطاج البحري منذ بداية دولة قرطاج على أسس تجعله حاميا لقوافل التجارة التي كانت تجوب المتوسط. وتعرفين من خلال قراءاتك للتاريخ أن قوافل التجارة القرطاجية ترحل من قرطاج إلى الغرب في بداية فصل الربيع، وتسلك طريقا بحرية سرية لا يعرفها سوى النوتية القرطاجيون، وتكون في حماية أسطول عسكري يؤمن لها سلامة الطريق حتى عودتها إلى قرطاج في بداية الصيف حيث ترحل إلى الشرق باتجاه مصر والشام في حماية نفس الأسطول الحربي. ولم يكن ذلك الأسطول مجهزا للهجوم، كان أسطولا دفاعيا، سريع التنقل، لا يتحمل المعارك الكبيرة في البحر. ولم يفكّر رجال السياسة في تبني استراتيجية بحرية تجعل من أسطول قرطاج البحري أكبر قوّة ضاربة في البحر، لأن ذلك كان باهظ التكاليف، وخزينة الدولة في قرطاج لا تتحمل صرف أموال طائلة دون مردود سريع.
-وهل فكرت في ذلك وأنت تقدم على مغامرتك تلك؟
-بالطبع. لم يكن في مقدوري أن أكون أسطولا بحريا عظيما في أيام، فذلك يتطلب سنين، ولكني كنت أعوّل على المناورات السياسية، خاصة أني أعرف جيدا كره الشعوب التي سأحل بينها لعنجهية روما، وقد وعدتني تلك الشعوب بالإعانة، ومنها من شارك معي في الحرب. فاعتبرتهم حماية خلفية، خاصة أن جلّهم بقي على الحياد عندما اندلعت الحرب.
-لأن الرومان سيستغلون هذا الضعف الفادح، ويهجمون عليك من الخلف أي على إسبانيا.
-لم يكن آزربعل في إسبانيا قائدا بكل معاني الكلمة. كان صغير السن، وتنقصه الخبرة السياسية، ولم تكن إمدادات قرطاج تصل إليه في إبانها.
-لكنك أخذت منه خيرة الجنود‍‍!
-وهل ستعودين إلى محاسبة التاريخ؟
-إذن تريدني أن أواصل سردي لحملتك على إيطاليا؟
-نعم.
قالت أسماء بوقار:
"حالما وصل حنبعل إلى سهول البو بادر بإحصاء ما تبقى له من الجند. لم يكن يتوقع أن يقتل الجبل كل ذلك العدد من الجنود والدواب. إذ لم يبقى له سوى عشرين ألفا من جيش المشاة، ستة ألاف من الفرسان، وعدد قليل من الفيلة. لكن الكارثة لم تكن من الناحية الحربية كبيرة، لأن النواة الصلبة لجيشه ما زالت على قيد الحياة. لقد نجا جل الفرسان النوميديين، وعدد لا بأس به من جيش المشاة الإيبيريين، وكل القيادات النوميدية، والبونية، والغولية التي يعوّل عليها في استراتيجيته الحربية.
استعرض كل الجيوش، وراعه المشهد. كان الرجال كالوحوش، لم يعد يميّز بينهم شيء. وجوه شاحبة فقدت لونها، فلا الإفريقي أسمر ولا الأوربي أشقر. كلها في لون واحد، لون غبار الجبل، وشمس الجبل، ومعاناة الجبل. أجسام نحيلة نتأت عظامها لكنها ظلّت صلبة كجذع الشجر. زي عسكري أكل عليه الجبل وشرب، فلم يعد له شكل ولا لون. كانت العيون وحدها تتقد كالشرر، تعبّر عن وحشية لا حد لها.
أقام حنبعل معسكره في سهل غير بعيد من مدينة تورينو، ثم أرسل إلى المسؤولين عن المدينة رسلا يعرضون عليهم التحالف معه ضد روما كما وعدوه قبل أن يبدأ حملته، كما طلب منهم المؤن لجيشه. غير أن رسله لم تلق الاستقبال المرجو.
لقد علم سكان تورينو بتحركات جيش روما واقترابه من نهر البو لملاقاة جيش حنبعل. وعندما لاحظوا ما كان عليه الجيش البوني من هون وسوء حال، لم يصدقوا أن مثل هذا الجيش سيتغلّب على جيوش روما، ففضلوا البقاء على الربوة ينتظرون ما سيسفر عنه تصادم الجيشين.
اغتاظ حنبعل لما لقيه موفدوه من سوء معاملة، وقرر أن يلقن سكان تلك المدينة درسا لن ينسوه، ويكونوا في الآن نفسه عبرة لمن يعتبر. جمع جنوده وقال لهم كلمة واحدة:
"هذه تورينو! فهي لكم ! "
واندفعت الوحوش الشرسة على أسوار مدينة تورينو تحاصرها ثلاثة أيام. ولما دخلتها عاثت فيها فسادا. وكان عقاب حنبعل لمسؤولي المدينة أن أمر بذبحهم على مرأى من السكان. إرهاب يقول المؤرخون إن حنبعل اضطر إليه حتى لا يشعر بقية سكان الشمال الإيطالي بضعفه وتسامحه.
وكان للاستيلاء على تورينو وقع الكارثة على روما التي لم تعلم بعد بوصول الجيش البوني إلى سهول البو. لم يصدّق الرومان أن جيش حنبعل يحط في سهول البو ويستحوذ على مدينة كاملة دون أن تتصدى له جيوشهم المرابطة غير بعيد من هناك. خاصة أنهم كانوا يحضّرون لغزو إفريقيا من البحر. فلم يعد ممكنا غزو إفريقيا وإيطاليا كلها في خطر. فتحركت آلة الحرب الرومانية بكل ما كانت تملك من قوة لاحتواء الغزو البوني.
جاءت التعزيزات عن طريق البحر الأدرياتيكي، وانطلق جيشان رومانيان لملاقاة حنبعل، الجيش القادم من مدينة ريميني من جهة البحر الأدرياتيكي بقيادة سمبرونيوس، والآخر بقيادة سقيبيون، أب سقيبيون الإفريقي، المرابط غير بعيد عن مدينة بليزانسيا حيث كان ينتظر وصول جيش حنبعل، والذي فاجأه بالنزول من الجهة المقابلة. وقبل أن يلتحم جيشا الرومان، كان حنبعل في مواجهة جيش كرنليوس سقيبيون.
جمع حنبعل جيشه، وقد استعاد الجنود بعضا من قواهم، ونفضوا غبار الجبل، وغنموا من مداهمة مدينة تورينو ما غنموا. كان حنبعل يدرك شديد الإدراك ما يترقب مغامرته لو مني بهزيمة أمام الجيش الروماني. وقد أراد أن يصل جنوده إلى مستوى ذلك الادراك، فلم يجد من وسيلة ليشرح لهم الموقف سوى أن يتجسد وضعهم أمام أعينهم.
أقام في وسط المعسكر حلبة نزال، وجاء بجنود من غوليين مدينة تورينو أسروا، وقسمهم إلى أزواج متحاربة. وبدأ النزال. المهزوم مآله الموت، والمنتصر يكون له شرف القتال في الجيش البوني. لم يكن الرهان كبيرا، فكلا المتحاربين في وضع حرج: هذا سيلاقي الموت العاجل والآخر موتا مؤجلا.
كان حنبعل يهدف من وراء هذا التشخيص الدرامي إلى تقديم مثال مصغر لما ينتظر جنوده إذا ما تخاذلوا في القتال. وبعد العرض ألقى فيهم خطابا دعاهم فيه إلى القتال من أجل البقاء. فالعدو أمامهم والجبل وراءهم، ولا مفر من القتال والاستبسال حتى لا يكون مصيرهم الموت أو الأسر وهو أشنع من الموت. لن يفر من المعركة حتى الجبان، فلن يجد المكان الذي يفر إليه.
ولم يكن جنود حنبعل في حاجة إلى مثل هذا الخطاب، فقد صقل همهم محك التجارب حتى أصبحت لديهم الحياة والموت سواء. وجعل منهم الحرمان والتشرد وحوشا لا تعرف الرحمة ولا الخوف. وتعلّموا من قائدهم أن الوجود يكمن في التحدي.
وكان اللقاء الأول بين قائدي الجيشين صدفة، ولكنه كان حاسما. خرج سقيبيون من جهة الشرق في محاذاة ضفة نهر التسون للتعرف على المكان الذي يقيم فيه عدوه، وكان محاطا بعدد من الفرسان ورماة الرماح. كما خرج حنبعل من جهة الغرب على الضفة المقابلة. كانت تلتف حوله فرقة من الفرسان يحيط بها على الجانبين الفرسان النوميديون سريعو التحرك والفطنة. وبعد أن عبر الجيش الروماني النهر متقدما في اتجاه الجيش البوني، تفطن له حنبعل، فأرسل في مواجهته جزءا من الفرسان النوميدين ، بينما دفع البقية لمحاصرة رماة النبال من الخلف. وكانت أول معركة يخوضها حنبعل ضد الجيش الروماني، وكان له النصر، إذ شتت النوميديون الفرقة التي كانت تحمي سقيبيون، ولم يكن لفرقة رماة النبال دور كبير إذ كانت في صراع مع النوميدين من الخلف.
وكادت هزيمة الجيش الروماني أن تكون نكراء. إذ حاصر حنبعل سقيبيون، ولولا بسالة ابنه سقيبيون الإفريقي لكان وقع في الأسر. لكنه جرح جراحا خطيرة اودت بحياته فيما بعد.
كان حنبعل في حاجة إلى هذا النصر. وقد كان سهلا وسريعا، ولكنه كان حاسما. وقد سرى الخبر سريان النار في الهشيم. كل إيطاليا صارت تتحدث بهزيمة قيصر الرومان أمام حنبعل. ومن هنا بدأت تتكوّن الصورة الأسطورية لحنبعل، صورة يصنعها البعض على أنه رجل متوحش، متعطّش للدماء، لا يهوى سوى القتل والدمار والاستيلاء على الأملاك والنفوس. ويصورها آخرون على أنه رجل موهوب لا يقهر أبدا، وقد بعثت به الآلهة لينقذ إيطاليا من جبروت الرومان.
وكانت أول نتائج هذا الانتصار أن حلّت وفود غولي إيطاليا، الذين شككوا في البداية في قدرات الجيش البوني على هزم الرومان، لتعرض على حنبعل كل ما يحتاجه جيشه من المؤن ومن التعزيزات في الرجال والسلاح. أضف إلى ذلك حادثة، ذات دلالة هامة تؤيد نظرية حنبعل في جمع صفوف شعوب أوربا للتخلص من هيمنة روما، وقعت بينما كان جيش حنبعل يبحث عن المؤن بعيدا عن نهر البو، فإذا بقائد حامية بلدة كستجيو، التي كان الرومان يستعملونها كمخزن للحبوب، يسلّم البلدة بكل مخازنها للجيش البوني، والغريب أن قائد تلك الحامية لم يكن من سكان الشمال الإيطالي، بل من جنوبه. وكان حنبعل قد سمع من أبيه أن الجنوب الإيطالي لا يكن كثير الود للرومان، بل يفضّل عليهم البونيين.
ازداد حنبعل اقتناعا بأن الإيطاليين يكنّون كراهية كبيرة للرومان، ما حصل في جيش سقيبيون، الذي كان يعسكر غير بعيد من معسكر الجيش البوني. حدث فضيع لكنه سيرسّخ اقتناع حنبعل، ويعطيه الشحنة المعنوية اللازمة للمضي قدما في تنفيذ مشروعه الطموح.
في إحدى الليالي قدم إلى معسكر الجيش البوني رجل يحمل الزي العسكري الروماني وطلب مقابلة حنبعل. أدخلوه خيمة القائد البوني، وبعد أن قدّم له التحية بكل وقار قال له:
-نحن جند غوليون كنا نعمل في الجيش الروماني، وقد رفضنا جماعيا محاربتك، وثرنا على الجيش الروماني، فقطعنا بعض رؤوس القادة الرومان، أتينا بها هدية لك، وعربونا على تضامننا معك. ونطلب منك، إذا سمحت، أن تضمنا إلى جيشك.
وقف حنبعل للرجل، وظل ينظر إليه بإعجاب، ثم ربت على كتفه، وقال له:
-اعتبر نفسك ومعك بقية زملائك من الآن جنودا في جيشي.
خرج الجندي الغالي مسرعا إلى زملائه الذين كانوا يترقبونه غير بعيد، ثم عاد بهم إلى معسكر الجيش البوني. استعرضهم حنبعل، وحياهم تحية عسكرية، وأحصاهم: ألفا جندي من المشاة، ومئتا فارس.
ولم تتوقف ولاءات الشعوب الإيطالية لحنبعل.
فهذا وفد من شعب البوايان من منطقة بولونيا قدم ومعه مبعوث روما، الذي جاء لتقسيم أراضيهم التي استولى عليها الجيش الروماني. كان الموظف الروماني ومعه إثنان من مرافقيه مكبلين في الأغلال، يرتعدون من الخوف، وتظهر على وجوههم آثار الإهانة والتنكيل.
استقبلهم حنبعل في معسكره وتحت خيمته أحسن قبول، ثم قال لهم:
-نحن نناضل من أجل نفس القضية. نريد التخلص من الهيمنة الرومانية.
ثم طلب منهم أن يحتفظوا بسجنائهم للمقايضة بأسراهم عند الرومان."
توقفت أسماء عن السرد، وبعد فترة من الصمت قالت لحنبعل:
-لا أظنك ترغب في سماع تفاصيل معركة التريبيا؟
أجابها حنبعل بعد كثير من التفكير:
-كل هذه الذكريات تؤلمني. لقد مات في هذه المعركة أكثر من عشرين ألف رجل من الجهتين.
-لكنها كانت تمثل أول انتصار حقيقي على جيش يضم أكثر من أربعين ألف رجل وهو في الحقيقة جيشان: جيش سقيبيون وجيش سمبرونيوس.
-المؤرخون يهتمون بكل هذه التفاصيل، وبعضهم يضخّمها، والبعض الآخر يحقّرها، لكن الحقيقة تكمن في معاني ذلك النصر. عندما ينتصر جيش أجنبي على جيش محلي يعرف بلاده معرفة جيدة، لا بد أن نتساءل عن أسباب ذلك الانتصار. هل قال المؤوخون لماذا انتصر جيش حنبعل المؤلف من جنود جلّهم أفارقة لا يتحملون البرد القارس في فصل الشتاء، وفي مكان هواؤه رطب، وأرضه طينية مكسوّة بالثلوج، على جيش أخضع كل شعوب المنطقة لجبروته، يتمتّع بحسن التنظيم والتسلح العالي؟
-قالوا أن ذلك النصر يكمن في عبقرية حنبعل.
-ولم يقولوا شيئا عن بسالة الفارس النوميدي الذي لا يثنيه شيء في ساحة الوغى؟
-قالوا إنك كلّفت أخاك الأصغر ماغون بنصب كمين للجيش الروماني زعزع تماسكه.
-ولم يقولوا إن الجندي الروماني كان يرتعد من البرد والخوف، ورفض أن يحارب في ظروف لم يهيئه قادته لها ؟
-قالوا إنك وضعت أمامهم كامل أفراد جيشك في صف وصل طوله ثلاث كيلو مترات، وأن هجوم الفيلة زرع الرعب في الجياد فلم يقدر الفرسان على القتال.
-في الحقيقة لم يقولوا الأهم وهو انتصار عزيمة الرجال المؤمنين بعدالة قضيتهم. جل الجنود الذين قضوا من جنودي في تلك المعركة كانوا من الغوليين المضطهدين من طرف الهيمنة الرومانية.
بعد فترة من التفكير عادت أسماء تسأل حنبعل:
-تعرف أني لا أفقه الكثير في الشؤون العسكرية. قل لي، هل كنت متيقنا من النصر حتى تستفز الجيش الروماني الذي كان يفوق جيشك عددا وعتادا؟
-سأشرح لك الأسباب العسكرية:
أولا، ليس من الحكمة العسكرية أن يظلّ جيش جاء للحرب معسكرا مدة طويلة. فالملل عدو لدود للجندي.
ثانيا، ليس من الحكمة أن لا أستغل الحملة الإعلامية التي ثارت بعد الالتحام الأول بين جيشي وجيش الرومان. الإعلام كنار التبن إذا ما لم تغذها خمدت واندثرت.
ثالثا، وصلتني معلومات ضافية ودقيقة عن العدو، واستخلصت أنه يعاني من كثير المشاكل، من بينها سوء القيادة، فسقيبيون طريح الفراش، و سمبرونيوس قليل الخبرة ومتهور، كان يستعجل نصرا يرشحه إلى منصب قيصر.
رابعا، وهو الأهم، هيأت كل ظروف النصر. أرسيت خطة مفصلة ناقشتها مع القادة المقربين. وضعت الجنود في حالة تأهب قصوى، ومكنتهم من كل ما من شأنه أن يجعلهم في موقف القوة: فطور ساخن ودسم، لباس دافئ يقيهم صقيع الفجر، طلبت منهم طلي جلودهم بدهان يحميهم من الثلج والأوحال المتجمدة، وضعت على ظهور الفيلة نسيجا من الصوف لكي لا تتأثر بالبرد، وقد باتت ليلتها تحت الخيمة الصحراوية.
واستعنت بعنصر المفاجأة. خرجت فرقة الفرسان النوميدين صحبة فرقة رماة النبال من الأيبار تحت جناح الظلام قبل بزوغ الفجر، متوجهة إلى المعسكر الروماني لتستفزه. وبما أني كنت أعرف طبع سمبرونيوس، فقد وقع في الفخ، إذ خرج لتوه دافعا بجنوده، وهم نصف نيام، لملاحقة الفرسان النوميديين الذين لا يساويهم أحد في السرعة والمراوغة.
-إذن كنت واثقا من النصر؟
-بل كانت ثقتي كبيرة في رجالي وفي خطتي. الحرب لا يعرف أحد كيف تكون نهايتها.
قبّلته وهمست له:
-أنت عبقري زمانك وكل الأزمنة.
ضمها إليه وهمس لها:
-وأنت أشهى النساء.
تخلصت من عناقه، وقالت له:
-غدا أواصل الحديث عن مغامرات حنبعل في البلاد الإيطالية.
ثم انصرفت مسرعة.





10

سألت أسماء حنبعل:
-ألا تملّ من زياراتك البحرية؟
-البحر هو المكان الوحيد الذي لا يعترف بالزمن، حتى الجبال تتغير، تفلّ فيها الانجرافات، والرياح، وانزلاقات الأرض. البحر يبقى هو البحر.
-ولذلك سألتك: ألا تملّه.
-لا أملّه لأني عندما أكون على ظهره أشعر بالزمان قد تفتت. فأتصور نفسي في أي زمن أتخيّله ولا أحس بالتناقض. لكن ما عليك بالزمان فأنت بنت زمانك، وأنا أعيش زمانين، والبحر يساعدني على مصارعة ذلك التصدّع الذي يرجّ كياني، خاصة عندما عادت ذاكرتي تشتغل.
-أتريدني أن أتوقف عن سرد التاريخ؟
-كلا فسردك يساعدني على فهم ما جرى.
وعادت أسماء تسرد مغامرات حنبعل:
"يقول المؤرخون إن معركة بحيرة ترازيمان قد أظهرت عبقرية حنبعل العسكرية. لقد اخترت المكان والزمان، وكل تفاصيل الخطة، وأرغمت عدوّك على الوقوع في الفخ الذي نصبته له. وقد تمكّنت من ذلك بفضل المعلومات التي استقيتها عن عدوّك، والدراسة الدقيقة لشخصية القائد الذي واجهته."
صمتت أسماء وبقيت تفكر، ثم قالت لحنبعل:
-عندما قرأت وصف تلك المعركة شعرت بالاشمئزاز. أكثر من خمسة عشر ألف رجل ومعهم قائدهم تقتلهم في معركة واحدة يا حنبعل !
-تلك هي الحرب حبيبتي.
-لكنها فظيعة.
-أعرف ذلك.
-سأصف لك ساحة الوغى، وسترى مدى وحشية الرجال.
"كانت الكتائب تنقض على كل ما تبقى من فلول الرومان المنتشرة على ساحة المعركة تترقب أن يجهز عليها الجند الغوليون. عندما تهوى على رقابها السيوف بعضها لا يقاوم، يغمض عينيه ويلفظ أنفاسه مستسلما لمشيئة الموت. وبعضها، بدافع الحياة، يحاول الفرار فتأتي عليه النبال من كل صوب تمحقه على صخرة، فيبقى يتجرع الموت ملتويا على نفسه كالكلب المسعور.
لقد أمر حنبعل أن لا يقتلوا جنود العدو عندما يفقدون سلاحهم، وأن يكتفوا بأسرهم، لكن الجنود الغوليين لم يبالوا بذلك الأمر، كانت قلوبهم مليئة حقدا على الرومان، وكانوا يشعرون بالنشوة عندما يغرسون سيوفهم في أجسادهم.
ولقد وصل الحقد عند تلك الفئة من الجنود أن أحدهم تمكن من قتل القائد الروماني فلامينيوس، فقطع رأسه واحتفظ به في صندوق ليعرضه على بقية زملائه، وربما يعود به إلى أهله وذويه. وعبثا بحث حنبعل عن جثة فلامينيوس عندما علم بقتله. كانت الرأس قد أرسلت إلى بلاد ذلك الجندي ليتباهى بها ذووه أمام بقية القبائل."
قال حنبعل متضايقا:
-لم يفعل ذلك بدافع الحقد فحسب، بل لأنها كانت عادة متفشية عند القبائل الغولية في ذلك العصر.
-ألا ترى أنها وحشية كبيرة؟
-لا أعتقد أن حروب عصركم تقل وحشية عن حروب ذلك العصر.
-صحيح، فالحرب العالمية الثانية التي لم تدم خمسة عشر سنة، مثل ما هو الحال بالنسبة لحربك ضد الرومان، مات فيها أكثر من خمسين مليون نسمة.
لكننا لو عدنا إلى حربك في إيطاليا للاحظنا أنك لم تهاجم إلى الآن جيوش الرومان، بل كنت تستدرجها لتوقعها في فخاخك المتعددة.
-الحرب خدعة. وكي يكون الخداع ناجعا لا بد أن تتوفر للمخادع معلومات ضافية عن خصمه وخاصة عن نفسية ذلك الخصم. كانت حربي في بلاد الرومان حرب معلومات. فقد تمكنت من كل المعلومات التي أحتجتها بمساعدة الغوليين وبعض الشعوب الإيطالية. خذي مثلا أخي آزربعل الذي لحقني متبعا نفس الطريق التي سلكتها من إسبانيا حتى نهر البو، عندما وصل إيطاليا لم تكن في حوزته المعلومات الكافية ليتجنب الالتحام مع الجيوش الرومانية هناك. فراح يحاصر بليزانسيا وروميني، في الوقت الذي تحاشيتهما لعلمي أنهما لا يمثلان هدفا استراتيجيا هاما. وقد كانت الكارثة لآزربعل.
-إذن كنت تخوض أول حرب تعتمد على المعلومات في تاريخ الحروب القديمة؟
-لقد تعلمت -عندما شاركت في الحروب التي كان يشنها صدربعل على القبائل الإيبيرية- أن وفرة المعلومات تمكن القائد من أن يكون سيد الموقف. يمكنه أن يوقف حربا ويلجأ إلى التفاوض، أن يزرع الفتنة بين صفوف العدو، أن يشعل الحرب بين الأشقاء ليستفيد من نتائجها. كان صدربعل خبيرا في هذه الأمور، وقد أفادتني تجربته كثيرا.
-لم أفهم كيف يموت عشرون ألف رجلا من أعدائك في وقت وجيز لا يتعدى بضع ساعات؟
-ألم تقرئي عن تفاصيل الخطّة في كتب التاريخ؟
-قرأت لكنني لم أستطع أن أصدق أن عشرين ألف رجل يقضى عليهم دفعة واحدة بدون استعمال أسلحة فتاكة، كما هو الحال اليوم مع أسلحة الدمار الشامل.
-لا تحدثيني عن حروب زمانكم فإني لن أفهمها، لكن أثناء تلك المعركة، كانت الطبيعة أكبر حليف لنا. كانت الآلهة في نصرتنا، فجعلت السماء غاضبة تصب الأمطار كأفواه القرب، والرؤية منعدمة لتلبد السماء بالسحب الداكنة، وامتلاء الجو بالرطوبة، فلا يرى الجندي زميله على بعد أمتار، والريح تعصف بصقيع ينفذ حتى العظام، فترتعد له الأجسام، والبحيرة مغطاة بلحاف رمادي كثيف فلا تظهر ضفافها. لم يكن جند الرومان مهيئين للنزال في ذلك المكان الموحش، ولم يتفطنوا للكمين الذي نصبناه لهم منذ الليل حيث كان الفرسان منتشرين في أرجاء الغابة الكثيفة المطلة على البحيرة.
كنا أسياد الموقف، ولم تتسرب إلى العدو أي معلومة عن خطتنا ولا حتى عن مكان وجودنا. فقد هيأت كل فرقة على حدة، ولم يكن قادة الفرق على علم بتفاصيل خطتي. حتى أخي ماغون لم أعلمه بشيء، حددت له ميدان تحركه كبقية القادة. لكني عينت لهم جميعا إشارة بدء الهجوم.
كنت أراقب تحركات العدو في الضباب الكثيف. وكان الصمت الرهيب يخيم على البحيرة وعلى ضفافها. ولما وصلت جيوش العدو إلى المكان الذي لم يعد يسمح لهم بالتراجع، أشرت لكل الفرق التي كانت تطوق المكان بالهجوم بأقصى سرعة. انهال الفرسان النوميديون والإيبار من الجهات الثلاث ملتفين حول العدو يدفعونه نحو البحيرة التي كانت تختبئ وراء الضباب الكثيف. فلم يكن في وسع جند الرومان سوى اللجوء إلى جهة البحيرة حيث غرق أغلبهم، وانهالت فرق المشاة من الغوليين على فلول جيش الرمان تطاردها وهي لا تدري أين تفرّ. فكانت كارثتهم، ولم ينج منهم سوى النزر القليل. ولم نخسر في تلك المعركة سوى ألف وخمسمائة جندي جلهم من جنود المشاة. وغنمنا أسلحة كثيرة كنا بحاجة إليها في معاركنا القادمة.
-يقول المؤرخون إن ستة آلاف رجل من جنود الرومان استطاعوا الإفلات من قبضة الطوق الذي فرضته عليهم، فأمرت ماهربعل بملاحقتهم وبأسرهم. لماذا هذا الإصرار على القضاء على عدوك حتى آخر رجل؟
-كانت تلك المعركة بالنسبة إليّ حاسمة، فالانتصار على جيش الرومان بتلك الصفة يفتح لي الطريق واسعة إلى مدينة روما. إن تركت بقايا جنود الرومان يفرون، فسوف يكوّنون عصابات تعوق تقدمنا. ومن ناحية أخرى أردت أن يكون صدى المعركة كبيرا فتفل في عزيمة المدافعين على أسوار مدينة روما الحصينة.
-إذن كنت تفكّر في فرض الحصار على روما؟
-كنت أوهم العدو وحتى جنودي بذلك.
-ولماذا توهم ولا تفكّر بجدية؟
-كنت أفكر في معركة أخرى يكون فيها اندحار الجيش الروماني كبيرا وفاجعا. فحتى تلك المعركة لم يفقد الجيش الروماني كل طاقاته العسكرية، ولذا أردته أن يستنفر كل قواه لمعركة حاسمة تكون فيها نهايته.
-عندئذ يتسنى لك الهجوم على روما.
-في الحقيقة لم أخطط لمحاصرة روما لأني كنت أفتقر إلى المعلومات الضرورية لوضع خطة ناجعة.
-يقول المؤرخون إنك بعد تلك المعركة أسرعت إلى جهة البحر للاستراحة.
-لم أر البحر منذ غادرت البلاد الإيبيرية. أحسست بالشوق إليه. لقد ولدت على شاطئ المتوسط، وكنت في صباي أقضي جل أوقاتي في قارب قرب الشاطئ أترقب عودة أبي من صقلية.
-قرأت نصا لتيتوس ليفيوس يلومك فيه على تبذيرك نبيذا معتقا لذيذا أخذته من الفلاحين في جهة البحر الأدرياتيكي وغسلت به الجياد.
-لقد استعملت ذلك النبيذ كدواء ضد أمراض جلدية أصابت الجياد إثر مرورنا بجهة الكوكانيا التي كانت مليئة بالمستنقعات.
-وحرقت محاصيل الفلاحين في تلك الجهة. فكان جيشك وبالا عليهم.
-كنت أقصد بتلك الأعمال آثارة الجيش الروماني، وإشعار السكان بأن قوة روما قد انتهت، ولم يعد في إمكانها حمايتهم.
-ولماذا استثنيت إذن ضيعة قائد الجيش الروماني فابيوس؟
-تعرفين أن قادة الجيوش الرومانية هم ساسة قبل كل شيء. والسياسة هي تنافس، ودسائس، ودعايات مغرضة. وقد روجت بعدما استثنيت ضيعة فابيوس من الحرق أن معاهدة سرية وقعت بيني وبينه في ذلك الغرض. وقد انطلت الحيلة، وأربكت القائد الروماني، ودفعته إلى التخلي عن خطته في حرب الاستنزاف التي كان يتبعها ضدنا.
-وهذا ما يفسر الطوق الذي ضربه على جيشك، فسد كل الطرق أمام تقدمه نحو روما. لكن كيف توصلت إلى الخروج من ذلك الطوق دون ملاقاة الجيش الروماني؟
-الحيلة عزيزتي. الحرب كر وفر، ومغالطات. لم أكن أنوي التوجه إلى روما بل إلى بلاد البوية لقضاء فصل الشتاء هناك، فتلك الجهة من إيطاليا الوسطى غنية، وتعتبر مخزن مؤونة. كان فابيوس الملقب بالنعجة الصغيرة، قد تفطن لخروجي إلى جهة البوية، فسد كل المنافذ إليها. لم أكن أرغب في خوض معركة لم أختر فيها المكان والزمان، ولذا لجأت إلى الحيلة: جمعت عددا هائلا من الأبقار، وكدست من الحطب الجاف أكواما، ثمّ لمّا جنّ الليل، هيأت جيشي للرحيل، وطلبت من عزربعل أحد قوادي بربط الحطب في قرون البقر. وقبل طلوع الفجر أمرت بإشعال الحطب ودفع مجموعات الأبقار بالتوجه نحو الجبل.
وانطلت الحيلة. فقد اعتقد العدو أن جيشي متوجه بعيدا عن المضيق الذي كان يسده، فأمر مينيكيوس قائد جيش الرومان المعسكر في ذلك المكان جنوده بالصعود إلى الربوة حتى يتسنى له الانقضاض علينا أثناء مرورنا بالمضيق. لكن جنودي أخذوا توجها آخر وفكوا الحصار دون معركة. فقد تلهى جنود الرومان بملاحقة قطعان الأبقار المتقدمة تحمل على قرونها المشاعل، بينما كنا نغادر المضيق تحت جناح الظلام وجلبة قطعان الأبقار.
صمتت أسماء لحظة ثم قبّلت حنبعل وقالت:
-كلما تمعنت في مآثرك كلما ازداد حبي لك. سوف أقص عليك في الغد مآثر معركة كانة التي بقيت منارة كل القادة العسكريين إلى يومنا هذا.
نهضت مسرعة لتغادر البيت. ظل حنبعل شارد الذهن يتصفح في مخيلته صورا استحضرتها ذاكرته من ماض يفصله عنه ألفان ومائتان وعشرون سنة.




11

سألت أسماء حنبعل:
-هل كانت قرطاج على علم بما كنت تفعل في إيطاليا؟
قال حنبعل بعد صمت طويل:
-بالطبع. كانت تصلها من حين لآخر تقارير مفصلة من جهتي، وأخرى تبعث بها الخلية المستقلة المصاحبة للجيش، والتي تمثل مجلس الشيوخ ومجلس القضاة، وترصد كل الدقائق. أو تعتقدين أني كنت رئيس عصابة من المسلحين أفعل ما أشاء دون رقيب؟
-لكن المؤرخين لم يتحدثوا عن رد فعل الشعب في قرطاج ولا حتى عن نقاشات مجلس الشيوخ في تلك الفترة.
-علمت أن شعب قرطاج كان يتتبع تحركات جيشه بإيطاليا بكل لهفة. ولكن المؤسسة السياسية القرطاجية لم تكن في مستوى الحدث. لقد شاخت دولة قرطاج، وتحجرت مؤسساتها الديمقراطية، فلم يستطع ساستنا في ذلك الوقت التفطن إلى هدف الحملة التي قدتها على روما، ولم يقدّروا الأحداث حق قدرها، ولم يضعوا خطة سياسية واضحة تمكنهم من استغلال تلك الانجازات العسكرية الهائلة.
لقد ظلوا مشتتين فيما بينهم. كان الشق الذي يساند الحملة متحمسا، لكنه كان يفتقر إلى الرؤية السياسية والاستراتيجية الواضحة. والشق المعارض لها لم يكن يحسب الأخطار التي كانت تحدق بالوطن لو فشلت الحملة، وهو موقف مناف للديمقراطية التي تفرض على الجميع قبول قرارات الأغلبية، ووضع المصلحة العليا للوطن فوق كل الاعتبارات. والواضح أن كلا الطرفين بقي يترقب تطور الأحداث، ويتولّى تصريف الأمور حسب الظروف. ولم يكن لأي أحد في قرطاج القدرة على بناء القوة العسكرية والسياسية اللازمة للاستفادة من الانتصارات العسكرية وتدعيمها. كانت الاستراتيجيا البونية مبنية على نظرة متخلفة، ورثها السياسيون عن أجدادهم، وهي تعتمد على حماية المسالك التجارية، وجعل المستوطنات مراكز تجارية لا تقوم بأي دور عسكري أو استراتيجي لحماية دولة قرطاج وترسيخ نفوذها في العالم. كان الساسة عندنا لا يقدرون نموّ القوّة التوسعية لروما، ولم يفكّروا في بناء قوّة رادعة لكل من تحدثه نفسه بالتعرض إلى مصالح قرطاج العليا، لأن الساسة عندنا كان جلّهم أصحاب تجارة أو مالكي سفن، وهم الممولون لخزينة الدولة، فكل مشروع يستدعي إنفاقا باهظا يتصدون له خوفا على أموالهم. وعندما اندلعت الحرب مع روما، لم يشعروا بالخطر الداهم على كيان دولة قرطاج، لأن تجارتهم بقيت في مأمن، ولم يتعرض إليها الرومان، وحتى عندما فرضت روما هيمنتها على قرطاج، تركت للتجار حقهم في متابعة أعمالهم كما كانوا...
قاطعته أسماء قائلة:
-لكن المؤرخين يقولون إن قرطاج أمرت أخاك آزربعل بالتوجه إلى إيطاليا لحماية ظهر جيشك.
قال حنبعل متحسرا:
-ليتهم ما فعلوا، فقد رموا بآزربعل إلى التهلكة. لم تكن لآزربعل كما قلت لك الخبرة الكافية في قيادة الجيش، ولا التحكم في شؤون الدولة في البلاد الإسبانية. فقد خسر أول معركة مع الجيش الروماني في البلاد الإسبانية، وعوض أن يتروى ويدرس أسباب هزيمته، صب جام سخطه على جنوده الإسبانيين، واتهمهم بالتقاعس واللامبالاة. كان آزربعل طائشا سريع الغضب، لم يرث عن عبد ملقرط الحكمة والتروي، فكان ضحية تصرفاته الخرقاء، إذ ألب ضده جنوده الذين فروا من الجندية، والتحقوا بأهلهم وساهموا في اندلاع الثورة على الوجود البوني في شبه الجزيرة الإيبيرية. وعوض أن يجمّع قواه لمحاربة الرومان، راح يهاجم القبائل الثائرة، ويشن الحرب على كل من يرى فيه عدوا للوجود البوني هناك. وعندما وصل إلى إخضاع البلاد لسلطته، أمرته قرطاج بالرحيل إلى إيطاليا، وعوضته بالقائد هيرقلون الذي لم تكن له دراية كبيرة بالأوضاع في البلاد الإيبيرية، والذي لم يأت بتعزيزات كبيرة من قرطاج، فكانت النتيجة أن خسرنا في الآن نفسه جيش آزربعل وجيش هيرقلون، وبالتالي كل مكاسبنا في إيبيريا. أرأيت ما أدت إليه السياسة الخرقاء لمجلس الشيوخ القرطاجي؟
-وهل كنت تشعر بذلك الخلل؟
-كان واضحا لكل مبصر. ولذلك تصرفت حسب الظروف، فتحولت من قائد عسكري إلى مفاوض سياسي، وأرسلت الوفود إلى البلدان التي كانت معنية بالنزاع، وحاولت بناء الأحلاف، وجر مدن كانت محايدة إلى أتخاذ مواقف واضحة. لو كان رجال السياسة في قرطاج في مستوى الأحداث، ووعوا خطورة الأوضاع، واتحدوا فيما بينهم من أجل المصلحة العليا للوطن، وقاموا بالعمل السياسي الصحيح، وجندوا الدبلوماسية، وسخروا كل طاقات الوطن للمجهود الحربي في إيطاليا بالذات، لتمكنوا من إنجاح الخطة العسكرية والسياسية التي كنت أتبعها، ولهيؤوا الظروف لتغيير مسار التاريخ.
-لماذا لم تأت إلى قرطاج قبل بداية الحملة لتقوم بشرح مشروعك لنواب مجلس الشيوخ، وتتفق معهم على خطة عسكرية وسياسية واضحة المعالم؟
-لقد قلت لك إن الهياكل الديمقراطية في قرطاج قد تحجرت، وإن المسؤولين السياسيين لم يعد يشغلهم من السياسة سوى ما تدره عليهم من امتيازات ومصالح. لقد تقلص الشعور الوطني لدى تلك الطبقة السياسية إلى حد أن كثيرا من أعضاء مجلس الشيوخ كان يتعامل مباشرة مع روما ضد المصلحة العليا لقرطاج. أقول لك بصراحة إني لم أكن أثق كثيرا برجال السياسة في بلدي، إذ باع عدد كبير منهم ذمّته إلى العدو.
صمت مفكّرا ثم أعلن متشنجا:
-كان لمجلس شيوخ روما نفوذ كبير على بعض أعضاء مجلس شيوخ قرطاج، بل كان هؤلاء يتآمرون على الوطن، ويفشون أسراره. لقد اكتشفت كل ذلك عندما عدت من إيطاليا وانتخبت شفاطا على البلاد. كان عليّ أن أشنق أولئك الأوغاد في الساحة العمومية حتى أطهر ما دنسوه.
-ولماذا لم تفضحهم أمام الشعب؟
-لقد بدأت بإصلاحات جذرية، لكنهم عندما شعروا بأن مصالحهم في خطر تآمروا علي... وتعرفين البقية.
ساد الصمت بينهما وبقي حنبعل يلوك غضبه. لكن أسماء عادت تستفسره:
-لكن أعداءك يقولون إنك كنت تطمح إلى جعل قرطاج تهيمن على العالم بعد القضاء على روما؟
-أبدا كنت أحلم بعالم تكون فيه الشعوب والدول متعاونة لجعل الرخاء في متناول من يسعى إليه بالطرق السلمية، ومن خلال المبادلات، والتجارة الحرة، بعيدا عن الهيمنة العسكرية والأطماع التوسعية.
صمتت أسماء فترة من الزمن، ثم سألت حنبعل:
-بما أنك استرجعت ذاكرتك، فهل يمكنك أن تقص عليّ تفاصيل معركة "كانة"؟
-يعني أنك تريدين قلب الأدوار. أتحول أنا إلى شهرزاد وأنت إلى شهريار!
-ولم لا؟
-لم يكن هذا اتفاقنا في البداية. ثم إني أرغب في معرفة كيف يتحول الواقع عندما يصير تاريخا. كما أني أجد المتعة في طريقة سردك للأحداث. هيا! هاتي ما في جرابك التاريخي!
-لقد اتفق المؤرخون على اختلاف جنسياتهم، وتباعد الأحقاب التاريخية التي ينتسبون إليها على أن تلك المعركة كانت من أهم المعارك في تاريخ الحروب البشرية على الإطلاق. فقد بقيت في أذهان كل قادة الجيوش الذين اطّلعوا عليها في كل العصور حتى في عصرنا هذا. وقد استنبط منها قواد الحرب العالمية الثانية مثل منجمري البريطاني ورومل الألماني، واستشهد بها شوارسكوف الأمريكي في حرب الخليج الثانية. هل رأيت أنك ما زلت حيا بيننا من خلال مآثرك الحربية؟
-غريب هذا الإنسان يتباهى بالرجال الذين لا يقيمون وزنا للروح البشرية! إني اليوم أخجل مما فعلته في تلك المعركة، وعندما أتذكرها أشعر بالذنب لكل تلك الدماء التي سفكت، وتلك الأرواح التي تعذبت قبل أن تتجرع الموت. لقد رأيت جرحى ينزفون طيلة يوم بكامله قبل أن يخلصهم الموت من العذاب، وبعضهم يدفنون مع الأموات وهم أحياء، والبعض الآخر ترفسهم الجياد والفيلة وهم يستغيثون...
-ألا تريد أن يتحدث الناس عن مآثرك ؟
-أكون سعيدا لو تمسك التاريخ بما كنت أطمح إليه من خلال تلك المعارك. أما أن يمجد القتل والدمار، فذلك ينم على انتصار الجانب المتوحش لدى الإنسان. لكن لا بأس صفي لي تلك المعركة التي أراد التاريخ أن يخلدها رغم فظاعتها.
جلست أسماء بوقار، ونظرت إلى حنبعل نظرة تبجيل واحترام، ثم قالت:
-بعد معركة ترازيمان الشهيرة التي مني فيها جيش الرومان بشر هزيمة، قضى حنبعل وجيشه صيفا هادئا على شواطئ الأدرياتيكي، خلد أثناءه إلى الراحة والاستجمام قبل أن يستأنف حرب الاستنزاف التي فرضها على روما، آملا أن يأتي على كل مكونات القوة العسكرية والسياسية وحتى النفسية التي كانت تمتلكها.
وكان المكان هادئا وجميلا فراق لحنبعل وجيشه، ولم يغادروه إلا مع قرب صيف سنة 216 قبل الميلاد. توجهوا إلى الجنوب الإيطالي، واستقروا في مدينة صغيرة تدعى كانة وهي مطمورة حبوب الجيش الروماني. وتحتوي الجهة على أغنى الأراضي الزراعية لدولة روما، وهي مشهورة بتربية الضأن، وإنتاج الصوف الجيد. فلم يكن اختياره اعتباطيا، بل كان يستجيب للخطة العسكرية والسياسية التي ما فتئتت تختمر في ذهنه في تلك الفترة من الحرب الرومانية البونية الثانية. كان حنبعل يرجو استفزاز الدولة الرومانية بكل مكوناتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، حتى يتمكن من زعزعة ذلك الكيان الصلب الذي لم تفل فيه الهزائم المتلاحقة لجيشه، ولا عمليات التخريب المتعمد التي تعرضت لها المدن الموالية للدولة الرومانية.
كان حنبعل يبحث عن المعركة الحاسمة، راجيا أن يقصم ظهر التنين فلا يعود بإمكانه المقاومة ولا التصدي. وهو يعوّض بذلك عن خطة حصار مدينة روما التي كانت تؤرقه، ولا يرغب في خوضها.
ووعت الدولة الرومانية نص رسالة حنبعل، فهيأت جيشا يفوق عدده مائة ألف جندي، ضم في صفوفه كل شرائح المجتمع الروماني، من قياصرة، ونبلاء، وأعضاء لمجلس الشيوخ، ومحاربين من خيرة الجيش الروماني، ومتطوعين لم تكن لهم الخبرة الكافية في ميادين القتال. كان جيشا شعبيا بأتم معنى الكلمة.
وفي المقابل كان جيش حنبعل لا يضم في صفوفه سوى الجنود المحترفين، ذوي الخبرة الفائقة، والتنظيم المحكم، والطاعة العمياء للقائد. ولئن كان أفراده من مختلف الجنسيات فإن عبقرية القائد أرست بينهم أواصر الصداقة، وأشاعت في صفوفهم حب الانتصار والتفوق، وجعلت منهم صفا واحدا كالبنيان المرصوص. وكان حنبعل بوسائله المختلفة يبث في عقول جنوده أفكاره، ويدعوهم إلى التحمس لها، والدفاع عنها. فلم يكن جيشه لفيفا من المرتزقة ضمهم حب المغامرة والكسب، بل كانوا رجالا آمنوا بالحرية لشعوبهم، وبمثل الرجولة والمساواة، فلم يكن حنبعل يفرق بين الجندي البسيط والقائد الكبير، ولا بين البوني والنوميدي، ولا بين الإيباري والغولي. كان همه الوحيد النجاعة في الأداء، والجندي المناسب في المكان المناسب. وكان يحتاط لكل شيء، ولا يثق إلا في أقرب المقربين إليه، فكان جل قادة جيشه من أقربائه أو من النوميديين الذين خبرهم طويلا...
قاطعها حنبعل سائلا:
-من قال هذا الكلام؟
-جل المؤرخين.
-جميل. واصلي!
-وهل هو صحيح؟
-لقد قضيت في الجندية كل حياتي. فمنذ أن عاد أبي من صقلية كنت بجانبه أتعلم منه قيادة الجند، وفهم الرجال، ووضع الخطط. وكان صدربعل رجل دولة تعلمت منه السياسة، ومفاوضة الحكام، وأخذ القرارات الحاسمة بدون تردد. فلا غرابة أن تكون لي خبرة في القيادة والإحاطة برجالي. الجندي عندما يحس أن قائده يخاف عليه أكثر مما يخاف على نفسه، يطمئن له، ويطيعه، ولا يتردد في التضحية من أجل إنجاح الخطة. وربما لا يقول التاريخ إن جل جنودي على اختلاف جنسياتهم كانوا يعملون معي على اقتناع وكأنهم متطوعون.
صمتت أسماء لكن حنبعل دنا منها وهمس لها:
-ألا تواصلين؟
قالت بعد فترة من التفكير:
-لا تهمني التفاصيل الحربية. إني معجبة بعبقريتك في إدارة المعركة.
-ولكن تلك التفاصيل تسمح بفهم الظروف التي تجعل القائد يتفوق في خططه.
-تريد أن أسرد لك معركة كانة الشهيرة بكل تفاصيلها؟
-إن كانت لديك تلك التفاصيل.
تكاسلت، ثم تثاءبت وقالت بدلال:
-فلنترك تلك المعركة إلى الغد.
احتضنها وهمس لها:
-أفضل متعة الوصال على التفكير في ويلات تلك الحرب.
وانغمسا في عناق طويل. وقبل أن تغادره سألته:
-كيف كانت تصل أخبارك إلى شعبك في ذلك الوقت؟
قال لها مستغربا سؤالها:
-ألم أقل لك أن للجيش خلية تمثل الهيئات الحاكمة وترسل التقارير باستمرار؟
-بلى، قلت، لكن كيف يعلم الشعب بتلك التقارير؟
-تنشر في معلقات خاصة في الساحات العامة، وفي المجالس المختلفة، وأروقة المعابد، والمكتبات العمومية. كنا شعبا متحضرا. أنسيت أن الفينيقيين هم الأوائل الذين اخترعوا الكتابة بالحروف الأبجدية، قبل الإغريق والرومان؟
أسرعت إلى حقيبتها وأخرجت منها ورقة وقلما، وقالت لحنبعل:
-أكتب لي بالبونية اسمك.
خط لها:

قالت له بعد تمعن:
-هذه الحروف لا تشبه الحروف اللاتينية ولا الإغريقية ولا حتى العربية ولو أنها تكتب من اليمين إلى اليسار.
-إنك تتحدثين عن حروف هذا العصر التي تطورت مع مرور الزمن، لكن صدقيني أن الكتابة الأبجدية هي من اكتشاف الفينيقيين الأوائل، ثم نقلتها عنهم كل الحضارات التي تلتهم.
-لكن المؤرخين يقولون إنهم لم يعثروا على كتبكم، وعلومكم وكل مدوناتكم.
قال غاضبا:
-لا بد أن الرومان حرقوها، وأتلفوها عمدا حتى يطمس التاريخ. خاصة أننا كنا نسجل كل ما نكتب على الورق. لم نستعلمل الحجارة ولا الألواح ولا حتى الجلود للكتابة.
-عجيب! لم يعثر المؤرخين على كتبكم حتى في إسبانيا.
-ألم تقولي إن الرومان احتلوا كل الأماكن التي كنا نتواجد بها؟ إذن فقد محوا كل أثر لنا يدل على حضارتنا!
-لا تغضب يا حنبعل. نحن هنا لنسترجع ذلك التاريخ بعد طمسه.
لم يقل حنبعل شيئا. فنهضت أسماء لتغير ملابسها وتغادره واعدة إياه بمواصلة سرد التاريخ في مساء يوم الغد.








12

عندما حلّ وقت السمر عاد العشيقان إلى مكانهما، وانطلقت أسماء تسرد على حنبعل أطوار معركة كانة الشهيرة:
كان جيش حنبعل يعسكر على الضفة الجنوبية لنهر الأوفنتو، متحاشيا رياح الغبار التي تهب في بداية الصيف على تلك المنطقة. وكانت الجيوش الرومانية تعسكر على ضفتي النهر بعيدا عن معسكر الجيش البوني. ولكن مع نهاية شهر جويلة من سنة 216عندما حاول الرومان الاقتراب من معسكر حنبعل فوجؤوا بهجوم سريع وساحق للفرسان النوميدين، فتوقف زحفهم، وظلوا يراقبون تحركات جيش عدوهم بريبة وتشنج.
وفي ليلة 31 جويلية خرج حنبعل بمفرده من المعسكر. لحق به أخوه ماغون لكنه طلب منه أن يتركه لعزلته. كان الليل هادئا وجميلا، والقمر يشع على النهر بنور رصاصي يتلألأ على صفحة الماء المنساب متدفقا إلى البحر. تمشّى على ضفة النهر في اتجاه معسكر الرومان، وقبل بضعة كيلو مترات منه لاحت له ربوة تشرف على المعسكر، صعد إليها وظل يراقب المكان من بعيد. ظهرت له الحركة الدؤوب داخل المعسكر رغم تقدم الليل. وكانت القناديل مضاءة أمام خيام العساكر، ونور القمر ينير الأرجاء.
ظل فترة من الزمن ينظر إلى الأفق حتى لاحت في مخيلته صورة أبيه وهو يصارع عصابة الإيبار التي هجمت عليهم عند عودتهم إلى أليقنطة في الأندلس. كان ذلك المشهد المروّع من أفظع المشاهد التي بقيت محفورة في مخيلته، لم تمحها مشاهد أخرى أكثر فظاعة تعرض لها طيلة حياته المليئة بالحروب والقتال والدمار. بدأت الصور تتهاطل على مخيلته وهو يقف على الربوة ينظر إلى معسكر الرومان ولا يشاهده. صراخ مخيف ينطلق من كل الأماكن المجاورة للنهر... جياد تتقدم نحوهم بكل سرعة ناثرة من حولها الأوحال... المطر ينهمر مدرارا يحجب الرؤية... أبوه مرتبك يأمر الجنود الملتفين حوله بتنظيم صفوفهم... أبوه يتقدم نحوه ويأمره بكل حزم: "انطلق وأخوك جهة الغرب ولا تتوقفا عن الركض إلا عندما تصلان معسكر صدربعل ... "
ظل المشهد عالقا بذهنه فترة من الزمن. قال في نفسه وصورة أبيه تكبر في مخيلته: "هل كان بإمكاني أن أفعل شيئا آخر غير الفرار بجلدي وبأخي؟" كان حبه لأبيه لا يساويه حب. لقد أقسم بحضرته وهو طفل أن يسخّر حياته لمحاربة روما، وها هو يفعل. لكن صورة أبيه لم تزل عالقة بذهنه وكأنها تطالبه بالثأر، وتذكره بقسمه.
كرّ راجعا إلى معسكره، وقد بدأت تتبلور في ذهنه خطة المعركة التي لا بد له أن يخوضها ضد الفيالق المنتشرة على ضفتي النهر وكأنها تحاصره. كانت جل المعارك التي خاضها حتى الآن في البلاد الإيطالية تقع قرب الأنهار أو البحيرات. هل شاءت الصدف أن يكون الماء المنهمر سواء من السماء أو على الأرض صديقا له، معينا لخططه الجهنمية؟ أم هي روح أبيه التي امتزجت بمياه النهر الطامية تحميه من الهزيمة في كل مرة تكون معركته قرب الماء؟
وما إن وصل المعسكر حتى دعا قادة الجيوش إلى خيمته. نظر إليهم فردا فردا ثم قال لهم بصوت هادئ ورصين: "لقد كدّس العدو جيشا عرمرما حولنا، إنه ينتشر على ضفتي النهر في أهبة الاستعداد للانقضاض علينا. وقد علمت أن للعدو قائدين يتعاقبان على قيادة الجيش، ويضم في صفوفه عددا كبيرا من قياصرة روما القدامى. لقد اعتقدوا أنهم سيهزموننا بسهولة، ولذا جاؤوا ليجنوا غنائم الانتصار قبل أن تبدأ المعركة. هكذا هم رجال السياسة، لا يهمهم سوى الوصول إلى سدّة الحكم. لكننا سنلقنهم درسا لن ينسوه أبدا."
أمر بإحضار ورقة كبيرة وضعها على الطاولة التي تحتل وسط الخيمة. أخذ قلما غليظا وخط سطرا عريضا يشق الورقة إلى شطرين. قال وهو يرسم ثلاث دوائر: "هذان معسكران للعدو، وهذا معسكرنا. لقد وضع قبالتنا جيشا صغيرا يلهينا به، وأرسى الجزء الكبير من جيوشه على الضفة المقابلة حتى يتسنى له مهاجمتنا من الخلف. ولذا قررت أن نتخطى النهر عند الصباح الباكر وبأقصى السرعة، ونتقدم نحو هذا الجزء الكبير من الجيش الروماني نوهمه أننا نهاجمه حتى نزرع الارتباك في صفوفه، عندها سيضطر للجوء إلى الضفة الجنوبية لأنه لم يزل يتهيأ للمعركة."
صمت فترة من الزمن ينظر إلى الورقة البيضاء ثم أضاف: "لن نترك له المجال لوضع خططه. سنتخطى النهر من جديد وسنضطره لخوض المعركة."
وفي الصباح الباكر كانت أوامر حنبعل قد نفذت بأقصى السرعة. وتقدمت جيوشه إلى معسكر الرومان، وقام باستعراض كبير لكل جيشه على مرأى من عدوه. انزعج قادة الجيش الروماني لمّا رأوا الجيوش تقترب، وزاد في اضطرابهم ما يقوم به الفرسان النوميديون من مضايقات متواصلة لكل من يخرج من معسكر الرومان. فقد بدأت الحرب النفسية التي يحذقها حنبعل ويتفنن فيها. وهو ما اضطر الرومان إلى تخطي النهر نحو الضفة الجنوبية تاركين معسكر الضفة الشمالية في حراسة عدد قليل من الجنود.
ومن الغد، وقبل بزوغ الشمس كانت جيوش حنبعل قد تخطت النهر من جديد إلى الضفة الجنوبية لتقف صفا واحدا. يقول بعض المؤرخين إن طوله فاق الثلاثة كيلو مترات، قبالة معسكر الرومان فارضة المعركة عليه. ولم يطل ترقبه إذ خرجت جيوش عدوه من معسكرها قابلة التحدي. وقف حنبعل في مقدمة جيوشه يلاحظ جيوش الرومان الجرارة، كانت آلاف مؤلفة من المشاة والفرسان والآليات تصطف في خط واحد تتهيأ للمعركة الحاسمة. وبعد فترة من المراقبة الدقيقة لكيفية تنظيم صفوف عدوّه، فهم جيدا طريقة القتال التي سيسلكها القادة الرومان.
كانت الصفوف المتراصة لعدوّه تفوقه عددا وعدّة، وكان عددها حسب بعض المؤرخين مائة ألف جندي بينما لا يزيد عدد جيش حنبعل على خمسين ألف. وكان الجدار السميك لجنود المشاة المصطفة في تماسك يمثل القوة الضاربة لعدوّه، لن يمكنه تشتيت تلك الصفوف ولا حتى اختراقها. ولن تفل فيها الفيلة القليلة التي في حوزته. كانت سدا منيعا يصعب تخطيه أو فتح الثغرات خلاله.
بعد فترة من التأمل، أشرقت أسارير حنبعل، فقد اهتدى إلى الخطة التي سيواجه بها ذلك السد المنيع من الجنود المدججين بالسلاح. أمر قادة كل الفيالق أن تلتف حوله. نزل من على جواده وأمرهم بالجلوس على الأرض مكونين دائرة حوله. أخذ رمحا وخط به على التراب شكل صقر عظيم يقف فاتحا جناحيه. ثم قال لهم مشيرا إلى الشكل المخطط على التراب:
-جيوش المشاة من الغوليين والإيبار الصناديد ستكوّن الصدر المتصدي للهجوم الأول. لا بد أن تكبدوا العدو أكبر الخسائر حتى يخفف عنكم الضغط، لكن عندما تحسون به يدفع بكل قواته خففوا الضغط واتركوه يندفع إلى الأمام. جيوش الخيالة الإيبار ستحاول ما استطاعت دفع ميمنة العدو إلى قلب المعركة حتى لا تلتف على جيوشنا. أما ميسرة العدو فسنكثف عليها الضغط ونضع أمامها أكبر قوانا من الخيالة حتى يفقد جيش العدو توازنه ويسهل اختراقه. أما النوميديون فسيقومون بالإحاطة بالعدو من الخلف ودفعه إلى الأمام. لا تتركوا عدوّكم يفرّ من ساحة القتال، فسوف ينظم صفوفه ويهجم من جديد. سيكون نصرنا ساحقا، وستكون الآلهة في عوننا! بعد لحظة من الصمت سأل:
-هل الخطة واضحة للجميع؟
علت من حناجرهم صرخة مدوية:
-يحيا حنبعل!
قبّلهم واحدا واحدا، ودعا الآلهة أن تكون في نصرتهم، ثم أمرهم بالالتحاق بفيالقهم. ولم تمض ساعة حتى تكوّن أمام جيوش الرومان شكل الصقر الذي رسمه حنبعل على التراب منذ حين. كان الصدر المتكوّن من جنود المشاة يقف صفا مقوسا في مقدمته حنبعل رافعا سيفه وكأنه رأس الصقر فاتحا منقاره. وكانت الأجنحة من الفرسان، إثنان على اليمين وإثنان على اليسار، الأول محاذ للصدر والثاني يلتف حول المؤخرة، وإن لم تكن متوازية فقد شدّد حنبعل على تقوية ميمنة جيشه لعلمه بضعف قائد ميسرة عدوه.
عندما تقدم حنبعل ملوحا بسيفه نحو العدو، كان وراءه مباشرة الرجال الغوليون الأشاوس يحملون على رؤوسهم خوذهم ذات القرنين، حاملين الدروع الجلدية الصلبة، والسيوف الطويلة الحادة. كانت حناجرهم تعلو بهدير من الصراخ زرع الرعب في صفوف جيش الرومان، وآثار الحماسة في صفوف المشاة النوميديين الذين كانوا يلتفون حولهم متأخرين ببعض الأمتار ليتسنى لهم احتواء الطلائع الأولى لجيش الرومان التي ستخترق الصفوف الأمامية.
وانطلقت المعركة. والتحمت الجيوش. كانت فرقة من اللوبيين الشجعان مكلفة بمهمة صعبة وهي قطع أحزمة سروج جياد العدو. وكان الجنود اللوبيون قصيري القامة، سريعي الحركة، يتسللون بين أرجل الجياد العالية، وفي لمح البصر يقطعون الأحزمة، وينصرفون إلى الأمام دون أن يتفطن إلى وجودهم أحد. وكانت تلك الأعمال وبالا على الفرسان الرومان إذ قضت على فرق كاملة منهم دون قتال، منهم من سقط على الأرض وأضاع سلاحه، ومنهم من رفسته الأرجل، ومنهم من ركض وراء جواده عله يسترجع مكانه فوقه والعودة إلى القتال.
عندما وصل فرسان الإيبار والغوليون من الجناح الشمالي للجيش البوني والتحموا مع الفرسان الرومان بدأت المعركة الحقيقية. ورغم المقاومة الشرسة التي أبداها الرومان فإنهم في النهاية تقهقروا أمام خبرة وكثرة عدد الفرسان الإيبار والغوليين. كانت عبقرية حنبعل في جعله صفوف الجيش الروماني تنهار وتتشتت من بداية المعركة. فقد تلاشت ميسرة الجيش الرومان وانتشر فرسانها، ولم يعد في استطاعتهم حماية مقدمة جيشهم فتلاشت لحمة ذلك الحصن المنيع من المشاة، فاندفعوا نحو الوسط حيث تقدموا أشواطا إلى الأمام مخترقين صفوف الجيش البوني ومعرضيين المشاة الغوليون والإيبار إلى أفدح الخساير.
كان حنبعل يراقب تطور المعركة غير مبال بذلك الاختراق الخطير لصفوف جيشه، فقد تفطن إليه قبل أن تبدأ المعركة، بل كان جزءا من خطته. إذ حالما تأكد من تورط جيش عدوه، أمر المشاة النوميديين المتواجدين في الصف الثاني لميمنة الجيش البوني وميسرته، أن يدفعوا بسيول الجنود الرومان إلى وسط ساحة المعركة، وأن يتحركوا في اتجاه الالتفاف على عدوهم. وأمر في الآن نفسه الفرسان الإيبار المدعومين بعناصر من السلتيين أن يتحركوا في اتجاه مؤخرة العدو. وعندما جاء دور الفرسان النوميديين كان الرومان قد حوصروا من كل الجهات، وحصل جيش بأكمله في مصيدة أتت على أغلبية أفراده.
كان الجنود الرومان يتلقون الضربات من كل حدب وصوب، وكلما حاولوا فك الحصار ازداد الطوق حولهم. وحتى من رغب في الفرار فلم يكن في وسعه أن يفرّ، لأن الفرسان النوميديين كانوا بالمرصاد، لا يتركون أي ثغرة في الطوق الذي ضرب على ساحة المعركة. ولم ينج من جيش ضم أكثر من مائة ألف مقاتل سوى القليل، بالإضافة إلى عشرة آلاف كان قد أمرهم قائد الجيش الروماني بالبقاء في المعسكر لحراسته. وحتى أولئك تم أسرهم بعد انتهاء المعركة.
حلّت الكارثة بالجيش الروماني، فقد قضى في المعركة زيادة عن الجند جل قادته، وكل المتطوعين من الطبقة السياسية الرومانية، ما يقارب مائة عضو في مجلس الشيوخ ومن القياصرة القدامى، ومئات من أعيان الأرستقراطية الرومانية والضباط الكبار. وقد أحصى المؤرخون الرومان ما يناهز سبعين ألف قتيل في تلك المعركة.
صمتت أسماء عن الكلام. وظل حنبعل واجما. كانت فظاعة تلك المعركة تثير فيه ذكريات أليمة رغم أن جيشه لم يتكبّد فيها خسائر تذكر بالنسبة إلى الكارثة التي حصلت لعدوه. قالت له أسماء وهي تنظر إليه مستغربة حزنه:
-ألم تثر فيك تلك المعركة الشعور بالاعتزاز؟
أجاب بصوت خافت:
-إنه لمن الغباوة أن يفرح الإنسان لقتل أخيه الإنسان حتى لو كان عدوّه. لم أقم بالحملة على إيطاليا من أجل القتل بل من أجل الحياة والحرية.
-لكن التاريخ بقي يفتخر بما حققته من إنجازات حربية رائعة!
-لأن الإنسان بنى جل حضاراته على الهيمنة والعدوان والعنف.
-وحتى قرطاج بنت حضارتها على الهيمنة والعدوان والعنف.
-ربما نختلف في تصنيف الحضارة القرطاجية. الآن وقد استعدت ذاكرتي، فسوف أروي لك بعضا من تاريخ قرطاج كما قرأته أنا كذلك في كتب التاريخ التي كتبها القرطاجيون قبل أن يحرقها الرومان.
-وبقية مغامرتك الإيطالية؟
-فلتذهب إلى الجحيم! لقد تذكرتها الآن وليس لي رغبة في معرفة ما كتبه مؤرخون لا يتحلون بالنزاهة خاصة عندما يكون عدوّهم يواجه الصعوبات...
قاطعته أسماء هازئة:
-إنك لا ترغب في سماع إلا ما يسرك!
أجابها بحدّة:
-لم أنهزم في البلاد الإيطالية ولو مرة واحدة. ولولا الظروف السياسية التي لم تهيئها دولة قرطاج العجوز لحققت خطتي!
عانقته وهمست له:
-سنتبادل الأدوار إذن. تحكي لي ما تعرفه عن قرطاج، وأصغي إليك بكل انتباه. مصادر التاريخ التي في حوزتي تهيمن عليها عقلية المنتصر الذي يروي انتصاراته. وحتى عندما يظهر قوّة عدوّه فلكي يبرر فظائعه.
قبّلها، ثم قال بجدّية:
-لكي تستوعبي أفكاري لا بد لك أن تفهمي ثقافتي.
ظل يضمها إليه وهو منشغل الفكر، ثم أعلن:
-غدا صباحا سنسافر إلى قرطاج، وسأحاول أن أصف لك على عين المكان كيف كانت تلك المدينة العظيمة قبل أن يأتي عليها الزمان بأهواله.
عادت تهمس إليه:
-لا تنس أننا سنسافر إلى قرطاج بعد أيام في موكب كبير احتفاء بعقد قراننا.
-لم أنس يا حبيبتي. فأنا متشوق لذلك اليوم.
-إذن غدا في الصباح الباكر أجدك مستعدا للسفر.
ثم نهضت لتنصرف مسرعة عائدة إلى بيت أهلها.









الباب الثالث

نفض الغبار


سأنتصر عليكم بآلامي
وحدها آلامي تنصرني عليكم

غاندي




















1

وكما تواعدا، كانت أسماء عند طلوع الفجر في انتظار حنبعل لتحمله في سيارة المرسيدس إلى ضاحية قرطاج.
سألها عندما اندفعت السيارة تعبر الطريق السريعة:
-هل لديك خارطة لقرطاج؟
بعد فترة من الصمت انعرجت إلى اليمين ثم توقفت على جانب الطريق. بحثت في الدرج الصغير للوحة قيادة السيارة عن خارطة. ناولته إياها قائلة:
-هذه خارطة البلاد التونسية، لست أدري إن كنت قادرا على قراءتها.
فتح الخارطة وظلّ يتفحصها بانتباه شديد. التفت إلى أسماء وقال:
-رغم جهلي بالرموز التي تستعملونها فقد قرأت جل معطيات الخارطة. ما تسمينها البلاد التونسية هي تقريبا حدود دولة قرطاج كما عهدتها. معظم مدن ذلك التاريخ حافظت على وجودها، ربما تغيرت أسماؤها وشكلها المعماري، ولكني أرى مواقعها كما كنت أعرفها من قبل: هذه أوتيكا، وهذه ترشيش، وهذه حذرم، وثفرورة، وتكابا، وجكتيس، وزيتا، ومكتاريس...
توقف فجأة عن الكلام ونظر إلى الحقول الخضراء تمتدّ على حافتي الطريق، ثم التفت إلى أسماء وقال لها بانفعال:
هذه بلادي عامرة بمدنها العريقة... انظري هذه سيكا في الشمال وتبوربو...
قاطعته ضاحكة:
-لا تحلم كثيرا يا حنبعل. قرطاج التي تعرفها اندثرت إلى الأبد.
-لكن الأرض ما زالت الأرض، جميلة ومدرارة، وأهلها طيبون!
لم تقل له شيئا. كان حماسه غير عادي، شعرت أنّه يحلق في عالم غيبي. شغّلت المحرك ودفعت السيارة تطوي الإسفلت. عاد يتصفح الخارطة ويتمتم داخله بكلام لم تسمع منه الكثير. ثم انشغلت عنه بالتفكير في مستلزمات عقد القران. ما لها وللتاريخ القديم! إنها سنة الحياة، تندثر حضارات وتخلفها أخرى. الإنسان السعيد هو الذي يعيش حاضره ويتمتع به... وتذكرت أنها عند قراءتها لتاريخ حنبعل أحسّت أن هذا الرجل خلق ليصنع التاريخ لا ليعيش حاضره كسائر البشر. لم يكن له حاضر إنساني، كانت حياته معلقة بين السماء والأرض كحياة الأنبياء. وربما لهذا السبب بقي حنبعل حاضرا في كل الأزمنة والعصور! حتى أبوه عبد ملقرط الذي كان قائدا عظيما لم يمجده التاريخ كما فعل مع حنبعل.
لكن سرعان ما عادت إلى التفكير في العرس ومستلزماته. لقد كلفتها أمّها أن تشتري الحناء والشموع من أسواق تونس العتيقة، وأن تزور سيدي محرز وتقرأ الفاتحة تبركا بالولي الصالح. لقد أكدت عليها ذلك. هل تقول لحنبعل أنها ستزور الولي؟ ربما سيهزأ منها، وينعتها بالسذاجة، لا، لن تعلمه، ستتركه يستعيد ذكريات قرطاج العظيمة، وتمضي بمفردها إلى سيدي محرز.
وتذكرت فجأة قصيدة لمحرز بن خلف يذكر فيها قرطاج كانت قد حفظتها وهي تزاول تعلمها الابتدائي. أخذت تردد داخلها:
خليليّ مرا بالمدينة واسمعا
مدينة قرطاجنة ثم ودّعــا
طلولا تبكي لفقدان أهلهــا
كما ندب الأطلال كسرى وتبعا...
بقيت تردد القصيدة داخلها مستغربة أن سيدي محرز يهتم بالشعر وبقرطاج.
ثم تفطنت إلى أنها لا تعرف شيئا عن سيدي محرز سوى أن والدتها تعتقد في بركته، وتقول "سيدي محرز سلطان لمدينا، ربي يشملنا ببركته..." لكن ما لها وسيدي محرز، إنها ستزوره تلبية لرغبة أمها، فهي لا تعتقد كثيرا في بركة الأولياء، ولو أنها تتحاشى الخوض في الموضوع خوفا من تبعات موقفها، فربما تكون اعتقادات أمها على حق. من يدري؟ ففي هذا الموضوع لا أحد يضمن الحقيقة.
ألقت نظرة خاطفة على حنبعل وهو ما زال منهمكا في تصفح الخارطة، فارتبكت. هذا الرجل آت من عالم آخر! أي عالم يا ترى؟ لأول مرة تطرح على نفسها هذا السؤال! أحست بدقات قلبها تتسارع، أعادت النظر إلى حنبعل، فأحست بقشعريرة تخترق كامل جسدها. ستتزوج رجلا قادما من ...من أين يا ترى؟ من غياهب التاريخ! أو يعود الناس من الماضي؟ يزعم أن أهل الفضاء استنسخوه من جيناته التي كانت مدفونة في التراب منذ اثنين وعشرين قرنا! أيصدّق هذا الكلام ؟ ولكن أمها تعتقد أن سيدي محرز الميت منذ قرون يقدر أن يقي الناس من الشر! هل هذا ممكن؟
اختلطت في ذهنها التساؤلات، وشعرت بدقات قلبها تتسارع أكثر، فداست على الدواس، وانطلقت السيارة بسرعة جنونية أزعجت حنبعل، فترك الخارطة تسقط منه، وصاح يقول:
-ماذا أصاب هذه الآلة المجنونة؟
ضحكت بصوت عال وقالت:
-أمثل حنبعل يخاف؟
لم يقل شيئا بل بقي مصرورا في مقعده ينظر إلى الطريق تلفها السيارة، ومناظر الطبيعة تتعاقب بسرعة مذهلة.
بعد فترة من الصمت وقد خفّ جنون السيارة، سألته:
-ألا تشرح لي علاقتك بأهل الفضاء؟
قال متلعثما:
-وما الداعي الآن؟
ردّت منفعلة:
-لقد عرفت حنبعل التاريخي من خلال الكتب، لكن حنبعل الذي سأشاطره الحياة ما زال غامضا على إدراكي.
لم يكن حنبعل يرغب في الحديث في أي شيء، كان يترقب بصبر نافذ أن يترك السيارة، فقد تملكه القلق وهو يشعر بها تنساب بسرعة بدت له خارقة. لكن أسماء عادت تلح عليه:
-ما لك لا تجيب؟
قال منفعلا:
-عندما نصل إلى قرطاج سأخبرك بكل ما أعرفه عن أناس الفضاء.
وساد الصمت بينهما حتى أشرفت السيارة على ربوة بيرصا. عندها سأل حنبعل وقد تبدلت أسارير وجهه:
-هل يمكن للسيارة أن تصعد الربوة؟
انعرجت إلى اليمين ودفعت السيارة بهدوء حتى وصلت أمام كاتدرائية سان لويس. نزلت من السيارة، ثم فتحت له الباب وقالت مبتسمة:
-تفضل يا بعلي العزيز.
نزل متباطئا، ثم ألقى نظرة شمولية على المكان. نظر إلى الكنيسة بإمعان ثم سأل:
-من هي الآلهة التي تعبدونها في هذا المعلم؟
أجابته أسماء متهكمة:
-هذا المعبد هجره أهله منذ سنين فتحول إلى قاعة للحفلات.
تقدم من باب الكنيسة فوجده موصدا، التفت إلى أسماء وسأل:
-ولم تغضب عليكم الآلهة؟
قالت له ضاحكة:
-لقد ولى عهد الآلهة، ولم يعد الناس يؤمنون بها.
صمت حنبعل، وبقي يفكّر. أخرجته أسماء من شروده عندما قالت له بصوت خافت:
-يظهر أن العقائد تموت كالحضارات رغم أنها تدّعي الخلود.
سمعته يتمتم: "كان ينتصب هنا على هذه الربوة معبد بعل حمّون شامخا. وكان الناس يهابون بعل حمّون، ويسعون إلى التقرب منه بكل ما يمكن من القرابين، يأتونه حتى بجثث أطفالهم يحرقونها إرضاء له، وطلبا لردء الأخطار المحدقة بالمدينة وبأهلها. والآن يموت بعل حمّون كسائر الناس! ويندثر من العقول! ويمحى أثره! هذه الدنيا غريبة والبشر غرباء حقا."
قالت له أسماء ضاحكة:
-أتصلي لربّ قد اندثر منذ آلاف السنين؟
التفت إليها ولحظها بنظرة أذابتها في مكانها، ثم سألها بحنق:
-ألم يعد عندكم آلهة تطمئنون إليها؟
لم تجبه. كان الشرر يتطاير من عينيه. التجأت إلى صدره وغمست رأسها فيه، ولاذت بالصمت. ضمها إليه ومشى بها حتى مقعد من الأسمنت، أجلسها بجانبه وهو ما يزال يضمها، ثم همس لها:
-لم أقصد تعنيفك. لقد رجّت كياني كل هذه التحولات، فأصبحت مجنونا.
قالت له بصوت خافت:
-أنت تعيش في زمنين متباعدين، ولا ترغب في التخلص من ماضيك، لأنك تعتقد أنه ما زال حيا. لا بد أن تقبل بأن الزمان يموت كالبشر، تبقى آثاره في الذكريات وفي التاريخ، لكنه كائن ميت. آلهتك عاشت زمانها وماتت...
قاطعها سائلا:
-وهل تموت الآلهة؟
-عبث! لكن التاريخ يؤكده. كم من آلهة اندثرت وخلفتها أخرى؟
سأل بصوت خافت:
-هل الآلهة من صنع البشر أم أن البشر من صنع الآلهة ؟
قالت له بضجر:
-إنك يا حنبعل تتعبني بمثل هذه الأسئلة. لا أحب التفلسف. بل لم أستوعب من دروس الفلسفة وأنا في قسم البكالوريا الشيء الكثير. لماذا لا تريح نفسك من التفكير في الماضي وفي الآلهة وفي قرطاج القديمة، وتعيش الحاضر، وتتمتع بالحياة؟
-كان ذلك ممكنا لو لم تفتحي ذاكرتي.
بعد صمت طويل نهضت وقالت له:
-سأتركك هنا على ربوة بيرصا تستعيد ذكرياتك وحدك. لا أظنك تضيع في مدينتك. سأعود إليك بعد ثلاث ساعات.
قال لها حالما:
-كما تشائين.
ولما همتّ بالانصراف أضاف:
-كنت أرغب أن أعرّفك على قرطاج كما كانت قبل أن يأتي عليها الزمان.
-لن تجد في قرطاج سوى بعض أطلالها، وجلها يعود إلى العهد الروماني.
لم يقل شيئا. ظل بدون حراك ينظر إلى الأفق ولا يراه. كان فكره منشغلا بصور الماضي التي صبت عليه منذ أن وطأت قدماه أرض قرطاج. وكانت كل حبة من ترابها تذكره بماضي تلك المدينة العريقة. كانت الصور تتدفق في مخيلته، إنه سيل من الصور: مبان شاهقة تتشابك متسلقة الربوة، ألوان زاهية تتلألأ تحت نور الشمس البحرية، معالم شامخة تتربع على قمة الهضبة، طرقات متقاطعة تكتظ بالحياة...
أخرجته من نفق الذكريات أسماء عندما وضعت على خده قبلة رنانة معلنة:
-نلتقي بعد ثلاث ساعات.
أمسك بيدها وسألها:
-إلى أين تذهبين؟
-إلى مدينة تونس.
سأل بعفوية:
-وهل أصبحت ترشوش مدينة؟
-إنها أكبر مدينة في البلاد التونسية.
-وبها آثار؟
-آثارها ما زالت حية يعيش داخلها الناس.
-وليس فيها قرطاجيون؟
ضحكت ضحكة عالية وقالت:
-ألا تفهم أن القرطاجيين قد اندثروا منذ أكثر من عشرين قرنا؟
-سأحاول الفهم وأنا أزور أطلالهم.
تركته جالسا على ربوة بيرصا، وانطلقت إلى السيارة لتنزل إلى مدينة تونس.










2

تحامل حنبعل على نفسه وغادر ربوة بيرصا متبعا الطريق المنحدرة حتى وصل إلى حاجز السكة الحديدية. وقف أمام الحاجز، ثم التفت إلى ربوة بيرصا وظلّ يتثبت من كامل أجزائها المتاحة لنظره. أخذ يتمتم داخله: "غريب! أعرف الربوة أكثر علوا! أهدّم زلزال قمّتها؟ ثم إن مساحتها كانت أكبر مما هي عليه الآن، ماذا جرى لها يا ترى؟ لماذا أخلوها من سكانها؟ فقد كانت تعج بالعمارات، وتنبض بالحياة، وتكتظ بالمارة يسعون إلى القمة لزيارة المعبد. كانت الدكاكين منتشرة على كامل الطريق تعرض كل أنواع السلع، والأحياء متراصة في شكل هرمي. إنها المدينة العصرية، وهي مغايرة تماما للمدينة القديمة، وبها كل المرافق، ويسكنها كثير من الأجانب في تجمعات سكنية راقية خاصة بكل جالية. ما لها توقفت عن الحياة؟"
ظلّ ينظر إلى الربوة فترة من الزمن حتى لم يعد يراها. وانساب مع الذكريات يستحضر فترة قصيرة من حياته. لم يعش كثيرا بمدينة قرطاج، كان يقيم مع أمه وإخوته الذكور في تبسوس، ولا يزور قرطاج إلا نادرا. لكنه يتذكر جيدا هذا المكان الذي لم تغادره عيناه منذ أن أسند ظهره إلى حاجز السكة الحديدية.
قدم مع أبيه في يوم ربيعي مشمس إلى هذا المكان بالضبط. كان يمتطي عربة صغيرة صحبة أبيه وكبير محاسبي الدولة. قدموا من الميناء، وتسلقت بهم العربة الجزء الجنوبي من الربوة حيث توجد هذه العمارة الشاهقة. يتخيلها الآن تعلو بطوابقها الستة وبلونها القرمزي الداكن وتشع عليها شمس الظهيرة وتتلألأ كالياقوت. كان الناس يسمونها عمارة الباجي لأن صاحبها كان لوبي الأصل قدم من باجا، واستقر في قرطاج، وبنى هذه العمارة الشاهقة، يستعملها طاحونة ضخمة لطحن وتخزين القمح الذي تنتجه مزارعه المنتشرة في الشمال.
تذكر حنبعل ذلك المشهد بكل تفاصيله. هذا متّان صاحب العمارة يستقبلهم أمام الطاحونة بترحاب كبير. كان عبد ملقرط أسطورة حيّة، يهابه ويجلّه كل سكان قرطاج. وكان متان رغم السنين الطويلة التي أقام فيها بقرطاج لا يزال يحافظ على لباسه اللوبي: البرنس الصوفي الأبيض، والسروال الفضفاض القصير، والحذاء الأصفر من جلد الناقة، والشال الأبيض المطرز بالحرير الأصفر يغطي به رأسه.
أخذت صورة اللوبي تكبر في مخيلة حنبعل: وجه عريض أملط ناصع البياض، وجنتان محمرتان، عينان صغيرتان لا يكادان يظهران من فرط سمنة الوجه، وابتسامة رقيقة استقبل بها زواره الأجلاء.
عندما سلّم اللوبي على حنبعل قال له:
-لا بد أنك حنبعل البطل الصغير، فكل المدينة تشيد باسمك بعد العهد الذي أخذته على نفسك بمحاربة روما.
تذكر حنبعل ذلك اللوبي اللطيف، وحين قدّم له مشروبا لم يذق ألذ منه، قال إنه يدعى "بسيسة"، وهو محلول من الدقيق المقلي والعسل وبعض الحشائش لا يعرف سرّها سوى اللوبيين. وبعد أن اتفق مع أبيه على كمية الدقيق التي سيوفرها لجيش عبد ملقرط المسافر قريبا إلى البلاد الإيبيرية، أهدى اللوبي حنبعل قلادة تتدلى في وسطها حجارة صغيرة من الفخار، دائرية الشكل، منحوتة في داخلها عين كبيرة. قال له اللوبي:
-ضع هذه في رقبتك فلن تمسك عين الحسود بسوء.
لكن حنبعل أضاع تلك القلادة وهو عائد من صقلية إلى قرطاج. ولم يتفطن إلى ضياعها إلاّ في هذه اللحظة وهو يتذكر ذلك اللوبي اللطيف.
ظلّ حنبعل يسبح بخياله في ذلك العالم البعيد، ويتخيله يتحرك أمامه. وعندما اختفت صورة اللوبي وطاحونته الشاهقة، ظهر المتجر الكبير الذي يحتل مساحة شاسعة من الربوة، وهو محاذ لطاحونة متان اللوبي. أكبر متجر للأقمشة في قرطاج، وهو على ملك عبراني استقر هنا منذ زمن طويل. كان المتجر تحفة بأتم معنى الكلمة.
أخذ المتجر الآن يكبر في مخيلة حنبعل بأروقته المقوسة، فهو مبني على الطريقة الشرقية البحتة. لقد تفنن العبراني في بنائه وأتى بمهندس من الإسكندرية، وكان ذا ستة طوابق مثل طاحونة متان. كانت كل سيدات قرطاج تعرف بنيامين العبراني، الرجل اللطيف رغم بشاعة وجهه ذي اللحية الكثيفة. كان العبراني يرهب حنبعل بلباسه الأسود، ولحيته البيضاء المتدلية على صدره، لكنه سرعان ما بهره بحلاوة كلامه وحسن معاملته. كان ترحابه بعبد ملقرط كبيرا، وقد دعاه سيد القوم.
استرجعت ذاكرة حنبعل كل تفاصيل تلك الزيارة داخل متجر بنيامين. كانت الأرض مفروشة زرابي ناعمة، والجدران مطلية بالجير الأبيض، والفوانيس تتدلى مشتعلة في رابعة النهار، والسقف مزدانا بصور زاهية. وكم كانت به أروقة ومتاهات. طاف بهم العبراني في كل أجنحة المتجر المتعددة المتشابكة. كانت طوابقه الستة مليئة بكل أنواع الأقمشة المستوردة من كل أنحاء العالم، من الهند، ومن الصين، ومن مصر، ومن اليونان ومن نوميديا. وكان كل طابق يختص بنوع من القماش. الأقمشة المحلية ذات الاستعمال اليومي في الطابق السفلي، وفوقها مباشرة جناح خاص بالأقمشة الحريرية الثمينة، تقتنيها نساء الطبقة الأرستقراطية المترفة. أما الألبسة الجلدية والتي كان يبحث عنها عبد ملقرط لجنوده فقد كانت معروضة في الطابق العلوي.
صعد العبراني بصعوبة إلى الطابق العلوي. كان شيخا، لكنه كان يتقد نشاطا. وبعد نقاشات ومساومات قبل كبير محاسبي الدولة الصفقة وأمضى على الوصل، وطلب من العبراني أن يوصل البضاعة إلى مخازن الدولة قبل رحيل جيش عبد ملقرط.
وعندما غادر متجر الأقمشة دسّ العبراني قرطاسا في جيب حنبعل وهمس له:
-تقاسم تلك الحلوى مع إخوتك، سوف تتذكرها مدى حياتك.
ما أجمل تلك الذكريات! قال حنبعل في نفسه، وقد استحضر طعم حلوى العبراني في حلقه!
قبل أن تعود بهم العربة إلى الميناء انعرجت إلى جهة الشرق وتوقفت عند متجر الأواني الفخارية. نزل الرجلان وتبعهما حنبعل، وسمع أباه يقول للمحاسب الأكبر:
-لا بد أن أشتري بعض التحف للملوك النوميديين، إنهم يهوون الفخار اليوناني.
قال له المحاسب مداعبا:
-وستدفعها من جيبك؟
-سأهديها باسم دولة قرطاج.
وقبل أن يدخلا المتجر كان اليوناني كليو في استقبالهما.
-سيد القوم عندنا يا مرحبا يا مرحبا.
قالها اليوناني بلغة بلاده. وأجابه عبد ملقرط بنفس اللغة:
-أريد بعض التحف الثمينة لملوك نوميديا والبلاد الإيبيرية.
كانت اللغة اليونانية منتشرة عند الطبقة المثقفة في قرطاج، حتى أن مجلس شيوخ قرطاج أقر قانونا في إحدى دوراته يمنع استعمال اللغة اليونانية في المعاملات الرسمية.
وطاف حنبعل بأجنحة الفخار والخزف اليوناني الراقي. وكانت أرضية المتجر مفروشة فسيفساء جميلة بهرت حنبعل، فظل يتثبت موضع قدميه لرقة تلك الحجارة الصغيرة المرصعة على كامل أرضية المتجر. وبعد أن اقتنى عبد ملقرط ما قدمه له اليوناني سأله:
-هل لديك كتب جديدة في الفلسفة؟
ضحك اليوناني وسأل:
-وهل للجنرال عبد ملقرط اهتمامات فلسفية؟
-أريدها لحنبعل فهو مولع بالفلسفة.
-وصلني كتاب لأرسطو بعنوان "السياسة" ربما يكون صعب الفهم على عقل قائدنا الصغير.
سأبعث سوسيلوس لاقتنائه.
وعند مغادرة حنبعل متجر اليوناني أهداه كتابا جميلا من ورق البردي مزدانا بالصور، وقال له:
-إن كنت تفهم اليونانية جيدا فستنعم بشعر هوميروس.
كانت قرطاج أم الدنيا، وكان الناس من مختلف الجنسيات ينعمون فيها بالأمن والرخاء. أين تلك المدينة الهانئة التي لم تعكر صفوها إلا همجية المرتزقة؟ تساءل حنبعل وقد قطعت عليه ذكرياته صفارة القطار وهو يدخل المحطة.
نظر حنبعل إلى القطار وهو ينزلق على السكة نظرة تعجب. لم يستسغ عقله تحرك تلك الآلة دون أن تجرها دابة او يدفعها رجال. لكنه بعد مرور القطار تخطى الحاجز واندفع إلى البحر. طفق يمشي بسرعة وكأنه يخشى خطرا، ولم يتوقف عن السير، ولم ينتبه لكل ما يحيط به. نزل الدرج حتى الشاطئ، ووقف أمام البحر على الرمل المبلل الرخو، وظلّ يرنو إلى الخليج الهادئ. كان الصمت يخيم على المكان، حتى أزواج العشاق الذين دأبوا على اللجوء إلى هذا المكان هربا من الأعين المتطفلة لم تكن ساعة مجيئهم قد حانت، فشمس الظهيرة لا تساعد على التجول على شاطئ لم يعد يصلح لشيء.
"لم تعد الدنيا هي الدنيا" قال حنبعل في نفسه. حتى البحر صار حزينا، وتوقفت أمواجه عن الاندفاع، وسكت عن ترديد أنشودته الأزلية، وتبدل لونه فأصبح رماديا باهتا. تحول إلى غدير عفن! كانت مدينة قرطاج العتيقة هنا، تمتد معانقة الخليج، تحميها من الخلف ربوة بيرصا التي يعلوها معبد بعل حمّون. كانت قرطاج تولي قبلتها إلى صور المدينة الأم.
ودّ حنبعل لو تكون له أجنحة ليطير في السماء، ويشرف على الأرض التي كانت تمتد فوقها قرطاج قبل أن يضطر لمغادرتها، هروبا من دسائس أناس باعوا ذمتهم للعدو. لكنه شعر بضعفه. ثم خامرته فجأة أن يطلب فتاة الفضاء علّها تساعده على تنفيذ رغبته الجنونية.
بقي شاخصا في صفحة الماء فترة من الزمن يسترجع المعلومات التي مدته بها فتاة الفضاء، ثم وضع إصبعه في أذنه يتحسس الآلة التي غرست داخلها، وبعد لحظة من التردد قال:
-أنا حنبعل.. أطلب تانيت فتاة قانماد.
لم تمض لحظة حتى جاءه صوتها يرن في أذنه:
-وصلني طلبك. ما هي رغبتك؟
ارتبك، وظل مترددا فترة من الزمن، ثم قال:
-ألا يمكننا أن نلتقي؟
-أين؟
-في هذا المكان... أعني في مدينة قرطاج العتيقة، على شاطئ البحر، في الجهة الجنوبية من هضبة بيرصا.
-لا داعي لكل هذه الدقة، فأنا أراك جيدا حيث توجد الآن. آسفة لا يمكنني أن أظهر للأرضيين، لكن لو قلت لي ما تريده ربما أعنتك.
بعد فترة من التردد قال:
-هل يمكنني أن أحلق في سماء قرطاج؟
بقي يترقب الجواب حتى قالت له:
-آسفة، المكان التي أنت فيه منطقة عسكرية تراقبها الرادارات، ولا نريد أن نحدث البلبلة لدى سكان تلك المنطقة.
لكنها بعد فترة من الصمت عادت تخاطبه:
-توجد إمكانية واحدة، وهي أن تحلق في طبق طائر، فهو الوحيد الذي لا تسجله الرادارات الأرضية مهما كانت دقتها. لكن لا يمكننا أن نحط في المكان الذي أنت فيه الآن...
بعد فترة من الصمت أضافت:
-هناك من جهة الشمال مسرح، عليك أن تدخله دون أن يراك أحد.
عاد حنبعل يصعد الشارع، وعند مفترق الطرق اعترضه صبي فسأله عن المسرح. دلّه عليه فوجده بعد إن خطا بعض الأمتار. لم يلاحظ حوله أشخاصا، فدخل بحذر متخطيا حاجزا حديديا، ثم مشى بعض الخطوات فوجد درج المسرح على شكل نصف دائرة. بقي يراقب المكان بريبة حتى سمع حفيفا أرهبه. ثم حط على ركح المسرح طبق بلوري كروي الشكل.
تردد قبل أن يتجه نحوه، لكن فتاة الفضاء فتحت بابا بلوريا وأطلت عليه في زيها الآدمي. ركض نحوها، واستقل الطبق متسلقا درجا بلوريا. وانطلق بهما الطبق كالبرق. وارتج جسد حنبعل رغم الأحزمة التي تشدّه إلى الكرسي. ولم يتمكن من استعادة توازنه إلا بعد فترة من الزمن، والطبق يحلق عاليا في السماء.
قالت له فتاة الفضاء:
-نحن الآن نحلق على علو كبير، سينزل بنا الطبق إلى ارتفاع يمكننا من رؤية اليابسة. لماذا ترغب في التحليق في سماء قرطاج؟
أجابها بعد أن نظر من الطبق البلوري إلى السماء تحيط به من كل الجهات:
-لم أجد قرطاج التي أعرفها.
قالت له ضاحكة:
-ولن تجدها أبدا. لكن يمكنك أن تشاهد آثارها المدفونة تحت أديم الأرض.
سلمته نظارات سوداء، ثم قالت له:
-ضع هذه النظارات على عينيك، فعندما يتوقف الطبق عن التحليق تثبت في اليابسة وستلاحظ أشياء كثيرة تذكرك بقرطاج التي كنت تعرفها.
وضع النظارات، وترقب حتى توقف الطبق عن النزول، فقد كان يشعر به يهوي بسرعة جنونية. ثم ركز بصره على اليابسة، وبقي يتثبت في المكان بكل انتباه. وعندما تعودت عيناه على الرؤية من خلال النظارات لاحت له أشياء كثيرة مدفونة في أعماق الأرض. ظهرت له أولا أسس الأسوار المختلفة العهود التي كانت تحمي المدينة في فترات نموها المتعددة. واكتشف لأول مرة شكل المدينة الذي يشبه سمكة الورنك.
التفت إلى فتاة الفضاء ليتأكد أنها كانت مثله ترى نفس المشاهد، لكن وجدها تتحدث بصوت خافت بلغة لم يفهمها. قال لها منزعجا:
-ألا تهمك قرطاج؟
-بلى، لكني كنت أعطي الأوامر للروبو لكي يلتقط صورا لكل ما تحط عليه عيناك. وسوف أمدك بها عند نزولك من المركبة.
عاد إلى رصده للآثار المدفونة في الأرض. وظهرت أشياء مرعبة: عظام بشرية متفحمة، قبور مبعثرة هنا وهناك، جدران سوداء تشير إلى الحريق الهائل الذي أتى على الأخضر واليابس في مدينة تعج بالسكان، قبور ما تزال على حالها لم تصلها يد الخراب والتخريب، هياكل عظمية داخل توابيت حجرية وقد انتشرت على أعضائها الحلي من الذهب والحجارة الكريمة. لكن الأثر الذي ما زالت ملامحه قريبة من الأصل هو الميناء. تلك الجزيرة ترتفع كالقبة، يلتف حولها ماء البحر المتسرب من مضيق صغير، ثم يندفع ليصب في بحيرة صغيرة مستطيلة. كان ميناء قرطاج أعجوبة عصره، فهو يضم ميناءين، البحيرة التي كانت ترسو بها البواخر التجارية، والجزيرة المقببة التي تؤوي السفن الحربية عندما تغادر الماء لتختبئ داخل القبة دون أن تتفطن إليها الأعين.
ظلّ حنبعل يتثبت من اليابسة بقعة بقعة وكأنه يبحث عن كنز. وكانت أحاسيس متناقضة تتصارع داخله. كان يشعر بالغثيان كلما ظهرت لعينيه آثار الدمار الذي أصاب بالمدينة، فتأخذ مخيلته في تصور الويلات التي لقيها السكان وهم تحت رحمة القتلة الرومان يفتكون بهم. وعندما تظهر له آثار النيران التي ما زالت تدل عليها الحجارة السوداء والعظام المفحمة، والهياكل العظمية في وضعيات تدل على مدى العذاب الذي أصابها، يقول في نفسه إن جنود الرومان لقوا مقاومة شرسة جعلتهم يلجؤون إلى كل تلك الوحشية. "لم تستسلم قرطاج! ولم تسلم مفاتيحها للغازي! بل فضّلت الموت الجماعي على العار والاستعباد!"
التفت إلى فتاة الفضاء وقال لها بصوت حزين:
-انتهى كل شيء.
تحدثت بلغتها إلى الروبو، فتدحرج الطبق الطائر عائدا إلى خشبة المسرح. ولمّا فتح الباب البلوري، نزل حنبعل متباطئا. ألقى نظرة على الفتاة العارية ترمقه بابتسامة ودّ، ثم قال لها:
-لو كنت أعلم أني سأرى ما رأيت اليوم لما زرت قرطاج!
مدت له ظرفا به مجموعة من الصور، وقالت:
-تسل بها، ربما تفرّج عنك الذكريات.
اندفع الطبق كالبرق، وظلّ حنبعل ينظر إلى السماء، لكن الطبق اختفي في لمح البصر. وبعد فترة من الجمود وهو يقف على خشبة المسرح، عاد يجرّ رجليه ليتسلق ربوة بيرصا حيث كانت تنتظره أسماء.
حالما لاحظته من بعيد يمشي الهوينا، حاني الظهر، جرت نحوه، والتفت عليه تضمه إليها هامسة:
-خشيت ألا ألقاك. ما لك تأخرت كثيرا؟
لم يقل شيئا، أمسك بيدها ومشى معها إلى السيارة. همس لها عندما عادت تضمه إليها:
-لنعد إلى بيتنا.
وعادا بسرعة إلى الحمامات.
















3

عندما قدمت أسماء في صباح اليوم التالي بعد رحلة قرطاج، وجدت حنبعل في فراشه على غير عادته. قالت له مستغربة:
-لم أتعود على رؤيتك تنام إلى ساعة متأخرة من الصباح. ما بك؟ ألست مريضا؟
أجابها بفتور:
-لست مريضا، لكني لا أرغب في شيء سوى العودة إلى القبر.
أسرعت نحوه وارتمت بين أحضانه تضمه إليها وتهمس:
-أنسيت أني أحبك؟
أجاب بفتور:
-لم يعد يهمني من حياة البشر شيء. لقد قضيت كامل الليل أتصفح تلك الصور الفظيعة لجوف أرض قرطاج، وقد اكتشفت حجم الكارثة التي حلت بها. ربما أكون أنا السبب في كل ما حصل.
قالت له مواسية:
-وما ذنبك فيما حصل؟ فقد وقعت الكارثة بعد مماتك بسبع وثلاثين سنة.
جلس على حافة السرير وظلّ ينظر في وجه أسماء، ثم قال غاضبا:
-لو استجبت لنصيحة قادة جيوشي آنذاك لما فعل الرومان ما فعلوا...
صمت لحظة ثم أضاف:
-ألم يقل لي ماهربعل بعد انتصارنا في معركة كانة:
" إنك تحسن الانتصار ولكنك لا تعرف كيف تستفيد منه". كانت روما في متناول جيشي. لو كنت متوحشا مثل الرومان لحاصرت روما شهورا، ولا تقولي لي إن ذلك العمل كان صعبا، فكل الشعوب التي تحالفت معنا كانت ستهب للقضاء على روما، كان الناس في تلك الفترة لا يرغبون إلا في الثأر منها ومن جبروتها. وكان في إمكاننا أما أن نخضعها لشروط مذلة أو أن نحرقها، ونهدمها على رؤوس أهلها، ونجنّب قرطاج ما حصل لها‍‍!
وضعت رأسها على صدره وهمست:
-ألا ترى أنك حسنا فعلت؟ لقد انتهى الرومان وبقي العار يلاحقهم إلى الأبد. فكل من اطلع على تاريخ قرطاج سخط على ما فعله الرومان بها. لقد انتصرت إنسانيتك على وحشيتهم يا حنبعل. يجب أن تكون فخورا بما فعلت، لا أن تندم عليه.
نظر إليها مليا وقد أخذت أسارير وجهه تلين، ثم سألها:
-هل قرأت هذا الكلام في كتب التاريخ؟
لم تجبه. بل قالت له:
-لا يهمك ما قالته كتب التاريخ. لقد جاءتك فرصة لتعيش حياة ثانية، لماذا تقضيها في الماضي؟
احتضنته وضمته إليها بعنف، ثم همست له:
-أمامنا حياة بأسرها، فلنحسن الاستفادة منها. عش للحب، وانس الحرب وأهوالها. بعد أيام سنتزوج، وسنسافر إلى جزيرة جربة، يقولون إنها جزيرة النسيان.
ثم قبلته بكل جوارحها. ظلت تعانقه فترة من الزمن وكأنها تخشى أن تفقده. ثم نظرت في عينيه فرأت أن بريقهما عاد إلى ما كان عليه قبل أن يزور آثار قرطاج، فقالت له:
-رغم كل الحروب التي خضتها، والدماء التي تسببت في سفكها، فأنت حمام وديع، رقيق العواطف، شهم، لا تقبل بالظلم ولا بالمذلة. ولكل هذه الخصال الرجولية أنا أموت لأجلك، فلا تفارقني وإلا انتحرت كما فعلت أنت عندما ضاقت الدنيا بك!
ضمها إليه ولم يقل شيئا. ثم نهض فجأة وقال لها:
-أريد الذهاب إلى البحر فهو المكان الوحيد الذي أشعر فيه بانعدام الزمن. ألا تأتين معي؟
-سأكون معك أينما كنت.
وانطلقا إلى البحر.
استأجرا قاربا فخما، وغابا داخل البحر بعيدا عن منغصات الدنيا. عندما رأى حنبعل أن الأرض لم تعد تظهر له من كل الجهات، أوقف انزلاق القارب على صفحة الماء الهادئ، وجلس مع أسماء على أريكة تظللها شمسية. ارتاحت نفس حنبعل، ونسي مآسي قرطاج، ولكنه بقي حالما، يفكّر في أشياء عديدة. بعد صمت طويل وهما يستنشقان هواء البحر العطر، قال لها:
-سأقص عليك حكاية نشأة قرطاج كما تعلمتها عندما كنت صبيا.
اقتربت منه، وقالت له:
-سأكتشف إذن حنبعل القصاص.
-في الحقيقة لا أحسن سرد القصص، ولذا سترين في قصتي عرضا للأحداث فقط.
-سأحكم عليها فيما بعد.
سألها:
-هل تعرفين صور؟
-أعرف أنها مدينة في الجنوب اللبناني.
-وهل زرتها؟
ضحكت وقالت:
-لم تعد صور كما كانت قبل آلاف السنين، صور اليوم مدينة صغيرة لا حول لها ولا قوة كجل مدن الشرق. لقد تبدلت خريطة العالم يا حنبعل، حتى روما لم يعد لها شأن. عواصم هذا العصر تدعى نيويورك، ولوس أنجلس، وواشنطن، وتأتي بعدها طوكيو، وباريس، ولندن، وفرنكفورت...
ظلّ حنبعل حالما، لم يسمع قط بأسماء هذه المدن، ولا يمكنه تحديدها على خريطة العالم الذي يعرفه، لكن أسماء أخرجته من تأملاته عندما قالت:
-كان فيما كان، في سالف العصر والأوان، مدينة تدعى صور، يحكمها ملك همام يبغي العدل والسلام...
-لا، لا أريد هذا النوع من السرد لأني أرى فيه كثيرا من التكلف والابتعاد عن واقع التاريخ.
-لكنك ستحكي يا حنبعل! هكذا كانت جدتي تحكي لي حكايات أيام زمان.
-لا، لن أحكي، بل سأروي التاريخ حتى لو كان في بعض الأحيان غير دقيق.
-احك كما شئت.
-مدينة صور هي أكبر المدن الفينيقية. وهي التي غزت حوض البحر الأبيض المتوسط، وأنشأت المستوطنات الفينيقية في جل الجزر المتوسطية، وهي التي أرست الحضور الشرقي في شبه الجزيرة الإيبيرية، وعلى ضفاف البلاد اللوبية...
قاطعته أسماء قائلة:
-ستكون حكايتك مثل درس التاريخ الممل.
-سأروي لك التاريخ كما تعلّمته من القرطاجيين.
-صبري لله. واصل.
-كان للملك مثان، ملك صور، طفلان، عليسة وبيجماليون. وكانت عليسة فتاة جميلة وذكية، سخرت حياتها لعبادة الآلهة، فأحبها أبوها حبا جما، حتى أنه أوصى ابنه بيجماليون بمشاركة أخته في الحكم بعد مماته. وكان خالها ذاكربعل أكبر كهنة صور وأغنى سكانها، وكان يمتلك ثروة كبيرة كان يخفيها في مكان لا يعرف سره سواه. كانت عليسة منذ نعومة أظفارها لا تفارق المعبد حيث كان خالها ذاكربعل يعلمها الحكمة والدين. توطدت العلاقة بين عليسة وذاكربعل حتى تحولت إلى حب عميق أفضى إلى زواجهما...
قاطعته أسماء مستغربة:
-وهل يتزوج الخال ابنة أخته؟
-ولم لا؟ عند المصريين القدامى يتزوج الأخ أخته. لكن التجربة أثبتت أن زواج الأقارب يضعف النسل فتخلت كثير من الشعوب عن تلك الزيجات.
-وبعد؟
-كانت عليسة سعيدة بزواجها من ذاكربعل، ولم يكن فارق السن عائقا، فهي تبحث عند الرجل عن سمو الروح، وحسن الأخلاق، فوجدتهما، وكان هو يبحث عند المرأة عن العفة والفضيلة، وكانت عليسة أفضل نساء عصرها. وتمت سعادتهما. ولكن الأقدار كانت تخبئ لهما ما لم يكن في الحسبان.
مات الملك مثان، وخلفه ابنه بيجماليون. وبايعه شعب صور الذي لم يرض أن تشاطر ملكهم في الحكم امرأة، حتى وإن كانت أخته، وولية العرش مثله. واغتاظ ذاكربعل لتصرف ابن أخته بيجماليون، فأخذ يحرض عليه الكهنة ورجال الدولة الذين كانوا مقربين منه. وبدأت المعركة بين الرجلين. معركة كانت بلاطات الشرق متعودة عليها، تجري في جل قصور بابل، وصيدا، وأور... وانتهى الأمر ببيجماليون إلى أغتيال خاله ذاكربعل.
وكانت مأساة عليسة عظيمة، فقدت زوجها الذي كانت تحبه حبا لا مثيل له. وحقدت على أخيها حتى أنها تمنت موته. وانزوت عن الدنيا وعن الناس، وسافرت بعيدا عن بلاط الملك، والتحقت بدير يوجد على جبل يشرف على البحر على ملك زوجها وبه كان يخبئ كنزه، كما أسرّ لها قبل مماته.
اشتدّ جنون الملك بيجماليون، وصار يخاف على حياته من حاشيته، فتمادى في الاغتيال والتشريد وسفك دماء أقرب الناس إليه. وتذمر كبار القوم وأجلاّؤهم، واتصلوا سرا بعليسة طالبين منها أن تعيد أخاها إلى صوابه. لكن عليسة كانت تعرف جيدا طبع أخيها. فقالت لهم بكل ثقة في النفس:
-ليس لنا سوى مخرج وحيد يقينا بطش الرجل وجنونه، أن ننجو بأرواحنا. فكروا مليا، واكتموا الأمر، وعندما تتفقون اتصلوا بي فسأتدبر خطة تمكننا من الهرب دون أن يعلم الملك.
عندما نضجت الظروف للهرب، اتصلت عليسة بأخيها، وقالت له:
-أعلم أنك تبحث عن كنز زوجي الراحل، إني مستعدّة لإعانتك في البحث عنه بشرط أن تتوقف عن سفك الدماء.
سألها الملك متلهفا:
-وهل تعرفين مكانه؟
-لا أعرفه الآن، ولكن قد أجده لو وضعت على ذمتي فرقة من جنودك لمساعدتي.
-ستكون فرقتي الخاصة تحت قيادتك. تصرفي فيها كما تشائين.
قالت له بعد صمت طويل:
-أريد أيضا سفينة للتنقل بين الجزر، لأني أشك أن ذاكربعل خبأ بعضا من ثروته في أحدى الجزر القريبة من صور.
-وليكن لك ذلك أيضا.
ولما كانت تغادر القصر أضافت:
-أريد أن تسمح لبعض المقربين من ذاكربعل بمرافقتي في أبحاثي ربما يدلّوننا عن الأماكن التي كان يخفي فيها ثروته.
-خذي كل ما ترغبين. أنت الشخص الوحيد الذي أثق به في صور، كلهم خونة وأصحاب أطماع.
عندما خرجت عليسة من قصر الملك كانت خطتها في الهرب من صور قد تحددت. اتصلت بجل أصدقاء زوجها القدامى، وكانوا من خيرة البلاد: كهنة، ومثقفين، وعلماء، وتجار. كان ذاكربعل بمثابة كبير الوزراء في حكم مثان، وكان يتمتع بثقة كل الناس. فما أن عرضت عليسة عليهم خطتها حتى تحمسوا لها، وسعوا إلى إعانتها في تنفيذها...
قاطعت أسماء حنبعل قائلة:
-كانت هي أيضا تخطط مثل حنبعل، وتعتمد المعلومات في تنفيذ خطتها.
-كل خطة تعتمد المعلومات الدقيقة لا بدّ أن تنجح. هذه قاعدة علمية اكتشفها الإنسان منذ القدم.
قالت أسماء مستعجلة:
-وسافرت عليسة إلى قرطاج.
-فعلا رحلت عليسة صحبة عدد كبير من خيرة قوم صور خفية وبإعانة حراس الملك الذين أخذتهم معها رهائن. وعندما ابتعدوا كثيرا عن اليابسة أعلمتهم أن الملك سينتقم منهم إن رجعوا بدون الكنز. كانت عليسة قد ملأت أكياسا بالرمل ووضعتها على ظهر سفينتها. نادت على قادة الجند، ثم أمرت خدمها بحضرتهم أن يرموا الأكياس في البحر. ولما أتموا العملية قالت للجند:
-ذلك هو كنز ذاكربعل، راح معه وإلى الأبد. فإن شئتم العودة إلى سيدكم فأنتم أدرى بجنونه. وإن رغبتم في البقاء معنا فأهلا وسهلا.
-قالوا كالرجل الواحد:
-نحن جنودك يا سيدة القوم!
واندفعت السفينة الضخمة تشق عباب البحر إلى أكبر مغامرة تقودها امرأة. ولم تمض أيام قلائل حتى كانت جزيرة قبرص في الأفق، فهلل لها رجال عليسة. لم تكن قد أخذت معها من صور ولو امرأة واحدة...
قاطعته أسماء سائلة:
-لماذا؟
-ربما خوفا من أن يفشى سرها.
-وكيف ستعمر قرطاج إذن؟
-ترقبي البقية.
صمت حنبعل وظلّ ينظر إلى البحر الهادئ وكأنه البحيرة. ولماّ طال صمته سألته أسماء:
-لماذا توقفت ؟
-ألم تقولي مرة: "وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح؟ إذن فقد سكت شهريار عن رواية التاريخ. غدا نعود إلى البحر ونواصل رحلة عليسة إلى بلاد اللوبيين.
-لقد شوقتني! وماذا سنفعل الآن؟
-سندفع القارب حتى لبدة الصغرى.
-وأين توجد هذه المدينة؟
-هاتي الخريطة.
وبعد أن فتح الخريطة، وجد أن لبدة الصغرى أصبحت لمطة.
وانطلق بهما القارب إلى حيث قضى حنبعل طفولته.







4

من الغد كانت أسماء عند حنبعل. انطلقا إلى البحر، واستأجرا قاربا فخما، واشترت أسماء كل مستلزمات الفطور لأنهما قررا ألا يعودا إلى اليابسة إلا عند المساء. وتوغّلا في البحر الهادئ العطر. وما أن توارت اليابسة حتى أوقف حنبعل القارب على صفحة البحر وأرساه. وبعد عناق وقبل، قالت أسماء لحنبعل:
-واصل حكايتك.
-أمر مولاتي.
"قلت يا أميرتي أسماء الحمامية إن عليسة وأتباعها وصلوا إلى جزيرة قبرص في أمان وعافية. وقبل أن ينزلوا من السفينة الكبيرة التي كانت تقلهم، أمرت عليسة ربان السفينة أن يوصل بسرعة رسالة لكبير كهنة جزيرة قبرص. كان معظم سكان الجزيرة يدينون بديانات الفينيقيين، بل كانوا يتحدثون اللغة الفينيقية وكانوا متشبعين بثقافتها، ولهم قرابة مع أهلها. وكان كبير الكهنة فينيقيا، له صلة دموية بذاكربعل زوج عليسة الفقيد.
ولم تمض ساعة على رحيل الربان عن السفينة حتى رجع صحبة كبير كهنة قبرص المشرف على معبد ملقرط أحد أكبر آلهة الفينيقيين. وكان في صحبته زوجته وأطفاله، وأعضاده من الكهنة الذين كانوا تحت إمرته. وصعد الجميع إلى سفينة عليسة، واستقبلتهم بترحاب كبير، وقدم لهم الخدم أنواع الحلويات الصورية اللذيذة، والمشروبات العذبة. وكانت جل الشخصيات المصاحبة لعليسة تعرف كبير كهنة قبرص، فدارت بينه وبينهم أحاديث حميمية، وتمّ تبادل الأخبار عن صور وعن قبرص.
وعندما استضاف كبير الكهان القبرصي عليسة ومجموعتها، طلبت من الجميع أن يصعدوا إلى باحة السفينة، لكنها احتفظت بكبير الكهنة وأوصدت باب القاعة، وقالت له بجد:
-إني أتيت مع كل تلك المجموعة لاجئة من بطش أخي وظلمه. لقد كان يتصرف تصرّف طاغية أشوري. يسفك الدماء، ويستلب الأرزاق، ولا يحترم القوانين. ولم يعد يخشى الآلهة ولا المجالس الدستورية. كان خوفه الوحيد هو أن يفقد ملكه، وأن يستولي على حكمه الأشوريون الذين يزحفون نحو البلاد بعد أن تأكدوا من ضعف الحكم فيها، وتخلي الناس عن حاكمها.
صمتت عليسة، وظلّت تنظر إلى كبير الكهنة تستقرئ ما يدور بخلده. وبعد صمت طويل قال لها:
-تعرفين أن سعادتي برؤياك لا توصف، فقد عرفتك صبية، وعرفتك فتاة جميلة وذكية، وعرفتك عروسا تشع حولها أنوار السماء، وتبارك زواجها عشترت. كل ما في قبرص تحت إمرتك. لكن تعرفين عناد أخيك، وتعرفين أنه يمكنه اللحاق بك متى شاء، وتعرفين أيضا مدى ضعف الحكم في الجزيرة التي لم يهدأ فيها التناحر بين الفينيقيين والإغريق. لذا أنصحك نصيحة والد لابنته أن لا يطول بكم المقام في الجزيرة، وسأتدبر الأمر كي ترحلوا في ظروف توفّر لكم الأمن والسلامة.
ثم خرجا إلى باحة السفينة، ونزل الجميع إلى المرفإ متجهين إلى الدير الكبير حيث أقاموا أسبوعا في ضيافة كبير كهنة قبرص.
وفي الأثناء قام كبير الكهنة بجمع كل ما يلزم للسفر، من أكل وشراب وملبس وسلع ثمينة يمكن مقايضتها عند وصولهم إلى وجهتهم. وقد أرسل كذلك مع سفينة كانت قاصدة مدينة أوتيكا بإفريقية توصية إلى أكبر الكهنة في تلك المستوطنة الفينيقية القديمة يحثه فيها على استقبال الأميرة عليسة ورفاقها أحسن استقبال، ومساعدتهم على الاستقرار بإفريقية. وأضاف أن الآله ملقرط قد بارك تلك السفرة وهو ترغب في أن تنشئ عليسة مدينة فينيقية جديدة في إفريقية.
توقف حنبعل عن السرد و سأل أسماء:
-متى حدد مؤرخوكم نشأة قرطاج؟
-يقولون في سنة 814 قبل الميلاد.
"إذن في ربيع سنة 814 قبل الميلاد انطلقت من ميناء كيتيون سفينة شراعية كبيرة تحمل على متنها الأميرة عليسة صحبة ثلة من أعيان صور، يقدّر عددهم بالمائة، يضاف إليهم ثمانون جنديا من خيرة جنود الملك بيجماليون، وثمانون فتاة بكرا، من جميلات جزيرة قبرص...
قاطعته أسماء مستغربة:
-ومن أين جاءت تلك الفتيات؟
-من معبد عشترت.
-راهبات؟
-لا، بل فتيات جميلات جئن أثناء احتفالات أعياد النوروز يبحثن عن مهر يمكنهن من الزواج.
-لا أفهم.
-إنها عادة قديمة تخلت عنها فتيات قرطاج ونساؤها، عادة انتقلت من العهود السومرية لحضارة الشرق.
-ما زلت لا أفهم.
-ألم تسمعي بالبغاء المقدس؟
-أبدا!
-البغاء المقدس يا جميلتي هي عادة قديمة تتمثل في أن تتوجه المرأة (عادة ما تكون من النساء المحترمات المنتميات إلى طبقة الأرستقراطية) مرة واحدة في حياتها، وخاصة قبل الزواج، إلى معبد الآلهة عشترت، وتعرض نفسها، في أروقة المعبد ومع جمع من النساء، على الرجال الغرباء عن المدينة والذين أتوا خصيصا لتلك المناسبة. يتقدم منها أحدهم ويقول لها: "أدفع لك مهرا باسم الآلهة عشترت"، قد يكون المهر زهيدا، المهم أن يدفع مهرا. وليس للمرأة أن ترفض المهر لأنه يصبح مقدسا. وعندما تتحصل على المهر تكون حلالا على ذلك الرجل، يختلي بها مرة واحدة، ثم تعود إلى بيتها سعيدة لأنها لبت رغبة الآلهة. وبعد طقوس البغاء المقدس تزداد المرأة قيمة، خاصة العذراء، فيرتفع مهرها، وتنفتح شراهة الرجال للزواج بها.
قالت أسماء مستغربة:
-غريب، لم أسمع بهذه العادة أبدا!
-إنها عادة قديمة تشبه كثيرا عادة القرابين إلى الآلهة.
-وما هي هذه العادة؟
-لماذا تسألين عن كل الدقائق؟ أليست عندكم عادات تضحية؟
-بلى، نضحي بالخرفان تلبية لنداء إبراهيم.
-ونحن كذلك نضحي بالحيوان تعويضا عن الأطفال. لكن عندما يتوفى طفل في سن مبكرة، نهدي روحه وجثمانه للآلهة كرمز للتضحية، ويحرق الكهنة جثمانه حسب التقاليد الموروثة من أزمنة ضاربة في القدم.
ظلّت أسماء حالمة تتصور تلك العادات القديمة الشنيعة، لكن حنبعل واصل روايته
"قلت يا سيدة الحسن إن عليسة وبدون علم من كبير الكهان اختطفت ثمانين فتاة كن يقمن بواجبهن الديني نحو الآلهة عشترت، وحملتهن مع بقية الفارين من بطش أخيها بيجماليون، واتجهت بهم على بركة عشترت إلى إفريقية.
كانت الرحلة طويلة لكنها لم تكن شاقة. فالسفينة كانت من أكبر السفن البحرية الملكية بصور، والتي خصصها، مع أمهر الربابنة، لأخته علّها تعثر بسرعة على ثروة ذاكربعل الأسطورية. وكان الربان رجلا ذا تجربة وعلم بفنون الملاحة وصناعة السفن. وكان المسافرون من خيرة أهل صور ذوي علم وأخلاق راقية. والفتيات، وإن كن في بداية الرحلة يرتجفن من الخوف على مصيرهن، وجدن في صحبة رفاق عليسة كثيرا من الاحترام، وقد أقنعت عليسة الجميع بمشروعها الذي باركته عشترت. فتحمسوا له، واكتشفوا خفاياه الدينية والاقتصادية، راجين مصيرا أفضل، ورخاء أكبر.
كانت أول محطة قبل وصولهم إلى السواحل الإفريقية في صقلية. وقد وجدوا هناك في مرفإ موطيّة فينيقيين مثلهم، استقبلوهم أحسن استقبال، خاصة عندما علموا بمرتبة عليسة الملكية. فخلدوا للراحة من أتعاب السفر، وتجولوا بالمدينة، واقتنوا ما كان ينقصهم من المؤن والمستلزمات، ثم حطوا الرحال بأوتيكا.
وقبل وصول السفينة إلى مرفئها الأخير، توقفت في جزيرة صغيرة قاحلة، لا تبعد كثيرا عن السواحل الإفريقية، حيث بقيت راسية كامل الليل، وعند الصباح الباكر انطلقت إلى أوتيكا. وما إن حطت في مرفئها حتى كان في استقبال الوفد الملكي كبير كهنة المدينة وشخصياتها المرموقة.
وبعد الراحة والاستجمام قضت عليسة شهرا صحبة كبير كهنة أوتيكا ومهندس فينيقي هاجر معها من صور في التجوال بين المناطق البحرية الجميلة القريبة من المدينة. لم تترك مكانا إلا زارته، وأمعنت النظر في مناخه، والظروف الطبيعية التي تحيط به، حتى أن السكان المحليين أطلقوا عليها اسم الملكة ديدون لكثرة ترددها على نفس الجهة وفي نفس الأماكن.
وبعد انقضاء شهر استقر رأيها على مكان جميل يوجد في خليج تحيط به المرتفعات من الشمال ومن الغرب، وتحده بحيرة كبيرة من الجنوب، ووراءه سهل يمتد شاسعا. ولمّا كانت تتفحص ذلك المكان شبرا شبرا لمحت قرب الشاطئ الرملي، تحت صخور الجبل الناتئة عين ماء رقراق، يندفع منها سائل شفاف يلمع تحت أشعة الشمس كالبلور. اقتربت من العين، وملأت كفيها ماء صافيا، ورفعته إلى فمها تتذوقه، فكان عذبا أثلج صدرها.
جمعت كبار مرافقيها، وتوجهت بهم في الصباح الباكر إلى ذلك المكان. صعدوا ربوة تشرف على البحر، وعلى قمتها توقفوا. نظرت إليهم مليا، ثم قالت متأثرة: "هنا سنبني معبد بعل حمّون. ثم أشارت إلى ربوة أخرى غير بعيد، أقل علوا ومحاذية للبحر، وأعلنت: "وهناك سنشيد معبد ملقرط". وبحركة نحو الجنوب غير بعيد عن البحيرة، أضافت: وهناك سنضع دعائم مدينتنا الجديدة وسنسميها قرط حدشت."
بعد فترة من الصمت كان فيها الجماعة يمعنون النظر في مشهد الطبيعة الخلاب ، أعلنوا جميعا مباركتهم. ثم صلوا تبركا، وعادوا إلى أوتيكا وكلهم حماس للشروع في بناء مدينتهم الجديدة.
سألت عليسة كبير الكهنة وهي عائدة في عربته إلى الدير الذي خصصه لإقامتها:
-من الذي يمتلك تلك الأرض؟
-كل هذه المنطقة على ملك حيرباس ملك اللوبيون.
قالت له بحزم:
-لا بد أن ألتقي بهذا الملك.
وهيأ كبير الكهنة الأوتيكي لقاء عليسة بملك اللوبيين. ورغم تقوى عليسة وزهدها في الدنيا ومتاعها، ورغم وعدها لنفسها أن لا تشتهي رجلا بعد موت زوجها، فقد خرجت للقاء حيرباس ترفل في الزينة والحلي واللباس الثمين. وكان لذلك البهرج تأثير كبير على ملك اللوبيين، إذ افتتن بجمال عليسة وبرقتها، وبثراء لباسها. ولما كانت بارعة في الكلام، وتحذق التعامل مع الملوك والأعيان، فهي ابنة ملك صور العظيم، وزوجة ذاكربعل الشهير، وتربت في ظل حضارة ضاربة في الرقي والقدم، لم يعارضها حيرباس في مطلبها، إذ وافق دون نقاش على تسويغها قطعة أرض. واتفقت معه على تحديد حدودها ومساحتها في يوم الغد بحضور شخصيات مملكته، وبعض أعيان أوتيكا، وجمع من المقربين من عليسة.
وبينما كانت تغادر حيرياس رأت في عيني الرجل بريقا ارتجف له قلبها. ظلت واجمة أثناء عودتها صحبة كبير كهنة أوتيكا، تفكّر في تلك النظرة المتقدة للملك اللوبي، وأدركت أنها قامت بأكبر غلطة في حياتها. فقد أغوت الرجل بحسنها وأناقتها وسحر كلامها. ندمت على فعلتها أيما ندم. ماذا ستفعل لو طلب الزواج بها؟ وهل ترفض طلب ملك؟ وإن رفضت فستكون العواقب وخيمة عليها، وعلى مجموعتها، وعلى مشروعها في إرساء مدينة تفوق مدينة صور في الجمال والعظمة كما وعدت بذلك الإله ملقرط.
وعلى ربوة بيرصا كان اللقاء. وحددت عليسة حدود مدينتها: البحر والروابي والبحيرة. لم يكن يسكن تلك الأرض أحد. فاللوبيون لا يرومون البحر، ولا يفلّحون الأراضي المالحة، ولهم في تجربة أوتيكا مثل جيد على عدم رغبة الفينيقيين في التدخل في شؤون السكان المحليين. فوافق حيرباس بسرعة على الصفقة التي عرضتها عليه عليسة. وقبل أن ينفضّ المجلس، أمضى الملك على العقد، وسلمته عليسة قيمة كراء الأرض ذهبا، وقدّمت له هدايا ثمينة عربونا على الصداقة التي ستربط بين شعبيهما.
أمر حيرباس بذبح ثور، وقدمه مشويا للجميع. ولمّا كانوا على المائدة الملكية يأكلون ويشربون قالت عليسة للملك:
-أرغب في الاحتفاظ بجلد الثور يا مولاي.
أجابها حيرباس ضاحكا:
-لك ما ترغبين، لكن ماذا ستفعلين به؟
-سأقصه يا مولاي إلى شريط رقيق، أسيّج به الأرض التي سوغتها قبل أن نبني سورها.
-ضحك الملك وقال:
-للنساء أفكار طريفة، لكنها عملية.
وتوقف حنبعل عن سرد روايته. وبعد فترة من الزمن طلبت منه أسماء:
-واصل فقد شوقتني.
قال حنبعل ضاحكا:
-عصافير بطني تزقزق، لن يمكنني المواصلة دون أن ألبي رغبتها.
بعد الغداء عادت أسماء، قال لها حالما:
-قضيت جزءا من الليل أتصفح الخارطة بكل إمعان. لقد وجدت المكان الذي كنت أقيم فيه مع إخوتي وأمي، إنه تبسوس.
فتح الخارطة وأراها المكان. لقد صار اليوم يدعى راس الديماس. سألته أسماء متضايقة.
-ألا تكفّ عن البكاء على الأطلال؟
-ذلك هو الإنسان: زمان في زمان. فهو كالسمكة لا تعيش خارج البحر. وبحر الإنسان هو زمانه، سواء كان ماضيا، أو حاضرا، أو مستقبلا.
-لكني أخاف عليك من الذكريات الأليمة.
-زمان الطفولة جميل كيفما كان.
وانطلق بهما القارب إلى تبسوس.














5

في تبسوس لم يسعف الحظ حنبعل ليعثر ولو على حجرة واحدة تدلّه على البيت الذي ترعرع داخله. فأعداؤه من القرطاجيين هدموا البيت وصادروا أموال عائلة بركا، والرومان مسحوا كل أثر يثبت أنه وجد قائد قادم من إفريقية، غزا إيطاليا وأقام فيها خمس عشر سنة دون أن يتمكّنوا من هزمه.
عاد حنبعل غاضبا على الدنيا، حتى القبور لم تسلم!
وتذكّر أمه، وتذكر زوجته وابنه. لقد تركهما للأقدار وفر بجلده! لم يجد الوقت حتى لتوديعهم! وصلته عنهم أخبار متضاربة وهو في المنفى لكنه لم يرهم حتى آخر حياته. وعبثا حاولت أسماء تخفيف كربه، فقد انغلق على نفسه واستسلم للقنوط. وعندما ألحت على المبيت معه، قال لها بصوت خافت:
-لا داعي. أرجوك اتركيني وحيدا، فإنني بحاجة إلى هذا التقوقع.
تركته وانصرفت. لكن عندما عادت في الصباح الباكر وجدته في انتظارها، وقد انفتحت أساريره، ونسي غضبه على الدنيا وتاريخها. قبّلها قبلة طويلة، وقال لها منشرحا:
-فلنعد إلى البحر، سأتمم رواية تاريخ عليسة. وسأشرح لك الأسس التي بنيت عليها دولة قرطاج.
وعادا إلى البحر، وعندما توارت اليابسة أوقف حنبعل القارب، وطفق يروي تاريخ نشأة أعظم دولة عرفها تاريخ حوض البحر المتوسط الغربي قبل أن تخلفها روما، وأن تزيلها من الأرض.
"قلت يا جميلتي إن عليسة تفطنت لتأثيرها على حيرباس ملك اللوبيين، وتوقعت منه الكثير. فظلت تفكر وتفكر، ومن الغد جمعت كل أفراد الجالية التي قدمت معها من صور ومن قبرص، واستقلوا سفينتهم، وانطلقوا إلى أرضهم الجديدة. أرسوا قرب البحيرة، وعلى الشاطئ عادت تجمعهم لتلقي عليهم خطابا بقيت كلماته منحوتة في كتب التاريخ القرطاجي تحفظه الأجيال المتتالية، حتى محاه الرومان عندما أحرقوا وأتلفوا كل الكتب التي عثروا عليها في مكتبات قرطاج العظيمة:
"أيها الرجال، أيتها النساء. هذه أرضنا. عليها سنبني مدينتنا. وباسم بعل حمّون، وباسم ملقرط، وباسم عشترت، وباسم كل آلهة صور سنجعل من هذه الأرض الصغيرة التي لا تتعدى مساحتها جلد ثور منارة الدنيا. لقد كلفتنا الآلهة أن ننشر دينها، وسنبني معابدها، وسنجعل عبادتها تنتشر في الأماكن التي ندخلها."
نظرت إلى وجوه الحاضرين فرأت مدى تأثّرهم بكلامها، فواصلت تقول:
"لقد اضطررنا لترك وطننا نتيجة الاستبداد. عاهدوني أنكم لن تقيموا حكما مستبدا!
لقد تركنا أهلنا وأرزاقنا فرارا من ظلم حاكمنا. عاهدوني أنكم لن ترضوا بالظلم وأنكم تقاومونه!
لقد كان الحكم في بلادنا مستبدا، كان رجل واحد يتحكم في رقاب أمة، وكان سببا في كل ما حصل لنا. عاهدوني أن نظام الحكم الذي سنقيمه لن يتحكم فيه شخص واحد!"
تعالت النداءات من كل الحناجر:
"فلتكن عليسة سيدة القوم!"
لكن عليسة أوقفت النداءات وقالت بصوت جهوري:
"لن نجعل حكمنا مبنيا على سيادة أحد. لن يسود بيننا سوى القانون! فهو الوحيد الذي يوفر الاطمئنان للجميع.
لن يتحكم في القانون شخص واحد يطوعه لمآربه، بل اختاروا من يمثل الجميع ليسهر على تنفيذه بالعدل."
رضي الجميع على حديث عليسة ووعدوا أن الحكم الذي سينبثق في المدينة الجديدة سيلبي كل رغباتها. وصلّوا إلى آلهة صور لتبارك مشروعهم...
توقف حنبعل عن السرد، ونظر في عيني أسماء، وقال:
-ومنذ أن قامت دولة قرطاج ظلّت جمهورية إلى آخر أيامها. أليس كذلك يا قارئة التاريخ؟
قالت أسماء حالمة:
-صحيح يا بطلي العزيز. ربما تكون قرطاج الجمهورية الوحيدة في التاريخ التي عاشت كل هذه السنين، دون أن يقع فيها انقلاب، ولا تبديل في نمط الحكم! لكن ما سرّ هذه الظاهرة؟
-عبقرية عليسة يا أسماء.
-لم أكن أعلم أن عليسة هي التي بنت أول ديمقراطية في التاريخ! وعلى أي أسس بنتها؟
واصل حنبعل روايته لتاريخ عليسة:
"كانت أول هيئة حكم أنشأتها هي مجلس الحكماء ليعدّ الدستور المقرر أن يحكم المدينة الناشئة. مجلس ضم الأعيان المائة الذين قدموا مع عليسة من صور. كما أنشأت أول جيش لحماية المدينة، والسهر على أمنها، وكان يضم الجنود الثمانين الذين اضطرتهم للسفر معها من صور، وقد زوجتهم الفتيات الثمانين اللاتي اختطفتهن من قبرص.
وانطلقت أشغال البناء. اشترت من سوق العبيد في أوتيكا عددا من الخدم، وطلبت من حيرباس أن يزودها بعدد من العمال اللوبيين المختصين في صناعات البناء، من بنائين وحدادين ونجارين ونقاشين. وكانت سخية في تأجيرهم فطاب لهم المقام بين هؤلاء الغرباء، وأتقنوا مهنهم، فرضيت عنهم، وعرضت عليهم الإقامة في المدينة التي تشيدها. وعندما انتهت الأشغال، جازتهم بالمواطنة القرطاجية. ومن ثمّ نشأت البونية: مزيج من الفينيقي واللوبي. وبدأت كذلك مدينة قرط حدشت تتسع لكل أجنبي يخلص لها، ويحترم قوانينها. وظلت هكذا طيلة سنوات وجودها.
ولم يمض زمن طويل حتى ظهرت قرط حدشت كياقوتة بين الروابي الخضراء، والشواطئ العذبة، والبحيرة الهادئة، والجبل الزاهي يظهر من وراء البحر شامخا، تشق قرناه السماء، وتتربع أطرافه بين السهول تعانق الخليج، ويظلله ضباب رقيق كخمار العروس. وأول ما شيّد كان معبد بعل حمّون، ثم معبد ملقرط متقابلين على الربوتين يظللان المدينة بقدسيتهما. وبدأت الحياة تنمو في المدينة، إذ كان الفينيقيون مهرة في تعاطي التجارة، فجهزت مجموعة أسطولا من البواخر، وانطلقت في البحر بحثا عن الرزق، وانطلقت مجموعة ثانية داخل البلاد اللوبية تعرض السلع المتأتية من وراء البحر، وتشتري المنتوجات المحلية.
وفي يوم من الأيام قدم حيرباس إلى قصر عليسة وطلب مقابلتها. كانت عليسة قد نسيت نظرات حيرباس الغامضة، ولم تعد تفكر إلا في مدينتها التي سخّرت لها كل الثروة التي تركها لها زوجها، تنفقها بسخاء على بناء المعابد، والطرقات، والميناء. وحالما جلست قبالته فهمت أن ما كانت تخشاه سيحصل. بعد طويل حديث عبر فيه حيرباس عن إعجابه بمدينة قرط حدشت، قال مترددا:
-يا سيدتي الفاضلة، اسمحي لي أن أتدخل في شؤونك الخاصة وأسألك. لماذا لم تتزوجي وأنت ما زلت في ريعان شبابك، ولك كل هذا الحسن والفطنة؟
بعد فترة من الصمت أجابت متضايقة:
-يا مولاي، لقد فقدت زوجي في ظروف مأساوية، وقد أقسمت أن أبقى وفية له مدى الحياة...
قاطعها حيرباس قائلا:
-الوفاء للأموات لا يمنع الزواج. فكثير من الشعوب الشرقية تسمح بتعدد الزوجات. وهل تتصورين أن الآلهة ستغضب عندما توفرين السعادة لرجل يحبك؟
أسرعت بالقول:
-ليست لي رغبة في الزواج يا مولاي.
اقترب منها وقال:
-حتى وإن طلبك الملك؟
لم تجبه. ظلّت واجمة لا تعرف مخرجا من الورطة. لكن بعد أن طال الصمت بينهما، نهض الملك مغتاظا وغادر قصر عليسة دون أن ينبس بكلمة.
ظلّت عليسة واجمة فترة من الزمن، ثم أجهشت بالبكاء. وتمادت تذرف دموعا حارة، وتتساءل:" ماذا فعلت حتى تكتب لي الآلهة كل هذا الشقاء؟ لقد سخّرت حياتي لعبادتها، ووهبت نفسي لنشر دينها، وبنيت هذه المدينة تلبية لرغبتها. أيكون جزائي الزواج من هذا المتسلط على رقاب شعبه ينهبه ليل نهار؟"
دخلت فجأة خادمتها وأعلمتها أن كبير كهنة أوتيكا يطلب مقابلتها. طلبت منها أن لا تتركه يدخل قبل أن تصلح حالها. ثم عندما دخل استقبلته بالترحاب وبالابتسامة العذبة، رغم كل ما أصابها.
سألها عن حيرباس الذي التقاه في رواق القصر، فقالت له:
-لقد أتيت في أوانك يا سيدنا. تصور أن حيرباس جاء يطلب الزواج مني!
سأل الكاهن مغتاظا:
-وكيف كان جوابك؟
-أنت تعرف يا سيدنا أني وهبت حياتي لخدمة الآلهة، وأني أقسمت ألا أتزوج مدى الحياة بعد أن قتل ذاكربعل.
صمت الكاهن ثم قال:
-إني أدرى الناس بالملوك اللوبيين. لن يسكت حيرباس عن الإهانة التي يعتبر أنك سببتها له.
ردت غاضبة:
-ولن أنكث عهدا أعطيته للآلهة.
ساد صمت ثقيل بينهما. ثم سألت عليسة الكاهن:
-ألا يمكنك التوسط بيننا؟
-كيف؟
-اشرح له الوضع بكل تفاصيله. وقل له إني على استعداد أن أزوجه أجمل فتيات صور إن كان يرغب في ذلك، وسآتي بها له في أقرب الآجال.
-تعرفين جيدا تعنت الملوك. فهم لا يرضخون إلا للقوة. ونحن مستوطنون مسالمون لا نلتجئ إلى القوة إلا دفاعا عن أنفسنا. وقرط حدشت ليست من القوة حتى تقف في وجه أطماع ملك مثل حيرباس.
أدركت عليسة مدى الورطة التي وقعت فيها، لكنها تماسكت حتى لا تعود إلى البكاء من جديد. قالت بصوت مرتجف:
-سأتدبّر الأمر يا سيدنا.
قال الكاهن حزينا:
-أنت بين أمرين كلاهما مر. ولن يكون في وسعي إسداء أي نصيحة. فحيرباس ليس بالرجل الذي يتخلى عن حكمه من أجل امرأة، وإن رفضته فلا تدرين ما يمكنه فعله، ربما يستولي على المدينة بالقوة.
قالت بصوت أجش:
-سأتدبر الأمر.
ثمّ قال مستدركا وهو يغادر القصر:
-نسيت الموضوع الذي جئت من أجله. نريد إقامة صلاة الغائب في معبد ملقرط في مدينتكم. لقد أبحرت سفينة من ميناء أوتيكا منذ مدة طويلة ولم تصلنا أخبارها. وقد فزع أهالي البحارة والتجار يريدون إقامة الصلوات لملقرط عله ينجيهم من كارثة ربما تكون قد حصلت لهم.
-متى سيكون ذلك؟
-حددي لنا الموعد وسنكون سعداء في ضيافة ملقرط.
-سأعلمك بالموعد في الإبان..
بعد تفكير طويل وصلت إلى الاقتناع بأنها أصبحت تمثل خطرا على شعبها وعلى مدينتها. جمعت مجلس الحكماء وتدارست معه مسألة إدارة شؤون المدينة. وبعد نقاش طويل اتفق الجميع على تكوين مجلس يضمّ ممثلين عن جميع قطاعات المجتمع: كهنة وتجار وحرفيين، وحتى بعض الفينيقيين المولعين بفلاحة الأرض واللذين اشتروا أراضي في السهول القريبة من مدينة قرط حدشت ليفلّحوها. وأطلقوا عليه مجلس الشعب. ثم اتفقوا على أن ينتخب مجلس الشعب شخصا يتولى تسيير شؤون المدينة طيلة سنة، وأطلقوا عليه اسم شفاط.
وحالما تكوّن المجلس وانتخب الشفاط، تخلت عليسة عن التدخل في تسيير شؤون المدينة، وسلّمت مقاليد الأمور للهيئة الجديدة. ثم دعت كل سكان المدينة لحضور صلاة الغائب التي وعدت بإقامتها في معبد ملقرط لعائلات البحارة الأوتيكيين المفقودين في البحر منذ زمن طويل. واستدعت كذلك حيرباس وحاشيته.
كان معبد ملقرط مقاما على ربوة تشرف على البحر. جمعت عليسة كل مدعويها في ساحة كبيرة هيأتها للمناسبة، ونصبت الموائد ورفعت أعلام ملقرط، وانتشرت رائحة البخور داخل المعبد وخارجه، ورتلت الأذكار، ولبس الناس حلل العيد. كانت زيارة المعبد عند الفينيقيين مناسبة للاحتفال والتقرب إلى الآلهة. وعادة ما يزور الناس المعبد في مجموعات عند الكوارث وتفشي الأوبئة، ومناسبات الدفن أو الزفاف، والأعياد الموسمية.
وما إن انتهت الولائم وأكل المدعوون وشربوا، وساد بينهم المرح، حتى صعد على شرفة المعبد كبير كهنة أوتيكا وأقام صلاة الغائب، وتلا التعاويذ، وأنشد الأطفال المدائح والأذكار، ثم أمرت عليسة بإشعال النار في كومة كبيرة من الحطب تنتصب أمام باب المعبد تحت الشرفة. وقف الجميع في رهبة وإجلال ينظرون إلى ألسنة اللهب تتعالى في السماء.
وبعد فترة من الصمت الرهيب، وقفت عليسة قرب الكاهن على الشرفة في زي جميل وكأنها العروس يوم زفافها. بادرت الجميع بخطاب لم ينسه القرطاجيون طيلة وجودهم على الأرض الإفريقية:
" يا مواطني قرط حدشت! هذه مدينتكم قد شيدت، وباركتها الآلهة. لكنكم تعرفون أن للآلهة عليكم واجب التضحية بالثمين والعزيز من أجل رضاها. لقد نسيتم واجبكم، أو أنكم تغاضيتم عنه، فثوبوا لرشدكم، وتذكروا أن الآلهة ستغضب، وإنكم لعارفون مدى سخط الآلهة عندما تغضب! لم نضح للآلهة ولو بخروف منذ أن أقمنا مدينتنا، ورغم ذلك فقد كانت الآلهة معنا سخية ومعطاء.
أرأيتم هذه النار الملتهبة؟ لقد أمرت بإشعالها لكي تكون الأداة التي تطهر ذنوبنا نحو الآلهة. أعرف جيدا أن أفراد الأسر في مدينتنا قليلون، وربما لذلك السبب لم يفكّروا في تقديم أضحية بشرية للآلهة، وأننا مقدمون على تشييد دولة وعدنا الآلهة أن تكون في مستوى طموحاتها. كما تعرفون أني كنت وراء تلبية رغبة الآلهة في إقامة هذه المدينة التي أصبحت مقدسة بما أنها ملك لآلهتنا. وتعرفون أيضا أني تركت أسرتي وأقربائي وكل بلدي من أجل تشييد هذه المدينة. وآلهتنا تطلب الآن فديتها. وتعرفون أيضا أني وعدت ذاكربعل أن نلتقي عند الآلهة. ولذا سأستجيب لنداء الآلهة، وأهب نفسي فداء لقرط حدشت!"
وقبل أن تعلو الصيحات ممانعة، ألقت عليسة بنفسها في النار الملتهبة وهي تردد:
-ها أنا قادمة يا ذاكربعل!
وصمت حنبعل. وظلت أسماء بقربه ترتجف. وبعد صمت طويل سألت أسماء حنبعل:
-وماذا فعل حيرباس بعد ذلك؟
-لم يفعل شيئا. استغرب ما قامت به عليسة، ثم عاد إلى قصره. الحياة لا تتوقف لفقدان أحد. حفظت الذاكرة الجماعية سيرة تلك المرأة العظيمة التي كانت وراء نشأة أعظم الدول التي قامت في شمال إفريقيا.
كان القرطاجيون يتذكرون فداء عليسة كلما أصابتهم مصيبة أو حلت بهم كارثة، فيدفعون الشر بعزيمة قوية وإيمان كبير بآلهتهم. لقد بنيت دولة قرطاج على العقيدة الدينية، وظلت على ما كانت عليه طيلة وجودها. لكن تلك العقيدة الدينية لم تكن لتمس الحياة السياسية التي بنيت على أسس سيادة القانون، والتمثيلية في الحكم لمختلف شرائح المجتمع. وكانت تحكم الحياة الاقتصادية مبادئ العمل، والمبادرة، والنزاهة. وكل تلك الأسس مكنت دولة قرطاج من الدوام دون أن تحدث فيها ثورات أو انقلابات أو قلاقل اجتماعية كبيرة.
قالت أسماء حالمة:
-أتمنى لو عشت في قرطاج أيام عزها.
-هل حياتنا من قبل أفضل من حياتكم اليوم؟
قالت أسماء بصوت خافت وكأنها تخاف أن يصل كلامها إلى ما وراء البحر:
-نحن نعيش زمنا رديئا تلاشت فيه كل المثل والمبادئ، وتوقفت طموحاتنا عند تلبية رغباتنا المادية. نلهث وراء المتعة الحسية، واقتناء البضائع، والطقوس المحنطة…
قاطعها حنبعل :
-يظهر أني أخطأت العصر كالمعتاد. فعندما رجعت من إيطاليا واطلعت على المجتمع القرطاجي الذي لم أختلط به كثيرا، وجدته يسبح في هذا الضباب الفكري الذي تتحدثين عنه الآن. كان الناس يلهثون وراء الثروة يجمعونها بكل الوسائل، وقد تخلوا عن القيم والمبادئ النبيلة، وانتشر بينهم الفساد: رشوة، ومحسوبية، واستيلاء على الأموال العمومية، وخرق للقوانين، وعمالة للأجنبي، وخيانة للوطن…
قاطعته أسماء مستغربة:
-أحصل هذا في قرطاجك يا حنبعل ولم تفعل شيئا؟
أجابها متشنجا:
-بل فعلت! لكنهم تآلبوا علي، وخانوني، وخططوا لتسليمي للرومان ليحاكموني.
-والشعب؟
-لقد سلبوه الإرادة بالزور والبهتان. لقد وصلت بهم النذالة أن زوروا الانتخابات، ورشحوا أناسا لا علاقة لهم بالسياسة. في ذلك العصر استولت طغمة على مؤسسات الدولة كان دينها الإثراء بكل الوسائل.
-قالت أسماء بصوت خافت:
-لقد سقتني إلى الحديث في السياسة…
قاطعها حنبعل سائلا:
-وهل الحديث في السياسة عندكم محرم؟
-أبدا، لكنه كالبكاء على الأطلال غير مجد.
-إذن لن نتحدث في السياسة. سنكرس أوقاتنا للحب. متى سنتزوج؟
-بعد غد سنكتب القران، وسنسافر إلى جزيرة النسيان لنكرس كل أوقاتنا للحب...
قاطعها حنبعل راجيا:
-لكني أرغب أن تحدثيني، ولو باختصار، عما يقوله التاريخ عن نهاية قرطاج.
سارعت أسماء تقول مرتبكة:
-ليتك تعفيني يا حنبعل من الحديث عن أكبر مأساة عرفها شعب بأسره. لقد شردت الشعوب، وسلبت أراضيها، واضطهدت، واستعبدت... أما إن تحرق مدينة بكل سكانها الذين يفوق عددهم الثلاثمائة ألف نسمة، فهذا لم أقرأ عنه في التاريخ أبدا.
قال حنبعل بجدية:
-أودّ أن تقصي عليّ فقط كيف وصلت قرطاج إلى تلك الحالة من الضعف والهوان. كما أودّ أن أعرف الوسائل التي استعملها الرومان للقضاء على مكونات دولة من أرقى دول المتوسط في ذلك العصر.
قالت له أسماء مستسلمة:
-كما تريد. لكني أحذرك أن الأمر لن يكون هينا، ولن تتحمله.
-لا عليك، فسوف أتسلح بالصبر.
-غدا نعود إلى البحر وأقص عليك مأساة قرطاج كما قصصت علي مأساة عليسة.







6

ومن الغد انطلقا داخل البحر، وبعد أن حاصرهما الماء من كل جهة، وطاب لهما المقام، بدأت أسماء تسرد على مسامع حنبعل نهاية دولة قرطاج.
" يقول التاريخ يا قرة عيني حنبعل إنه بعد هزيمة زاما...
قاطعها حنبعل مصححا:
-بل زامن.
قالت أسماء ضاحكة:
-لقد أصبحت اليوم تدعى جاما.
وبعد فترة من الصمت وهي تنظر إلى الآفاق البحرية يغطيها ضباب رقيق، عادت إلى السمر:
"قلت إنه بعد تلك الهزيمة القاضية...
توقفت من جديد، وسألت حنبعل:
--ألا تقول لي ما هو السبب الرئيسي لهزيمتك تلك؟
احمر وجه حنبعل غيظا، وبعد فترة من الصمت قال:
-خيانة ماسينيسان. فقد تحالف ذلك الوغد مع الرومان ضد قرطاج من أجل فتاة!
-غريب! لم أسمع بهذه الحكاية. قرأت أن ماسينيسان كان من دهاة ذلك العصر، وقد فهم جيدا مسار التاريخ، واحسن الاختيار عندما تحالف مع روما ضد قرطاج التي بدأت تهرم، ولم تعد قادرة على حماية مستوطناتها لا في صقلية ولا في إسبانيا. وأظن أن السبب الرئيسي لتحول ماسينيسان كان استحواذ سيفاكس على مملكته. أما أن في الأمر فتاة فهذا يستدعي أن تقص عليّ الحكاية من ألفها إلى يائها.
لزم حنبعل الصمت، لكن أسماء ألحت عليه حتى لانت شكيمته، وانطلق يروي لها علاقة ماسينيسان بفتاة قرطاجية.
"عندما تكاثف الوجود العسكري الروماني في إسبانيا، ولم يقدر آزربعل على احتواء ذلك الاختراق، بعثت قرطاج بإمدادات، وإن كانت صغيرة وتحت إمرة قائد ضعيف يدعى عزربعل بن جيسكون، لتعزيز الجيش البوني في شبه الجزيرة الإيبيرية. وقد استنجدت بملوك النوميديين لمدها بالجنود، فلبوا النداء، وبعث ملك الماسيل ابنه ماسينيسان على رأس فرقة لتنظم تحت ألوية الجيوش البونية. كان ماسينيسان، حسب ما عرفته من النوميديين الذين كانوا يعملون تحت إمرتي، شابا ذكيا وطموحا، فما أن وصل إلى إسبانيا حتى أدرك أن أوضاع البونيين غير مرضية. وقد لاحظ عودة كثير من القرطاجيين الموجودين هناك إلى قرطاج...
قاطعته أسماء سائلة:
-لماذا لم تقل لي أن ماسنيسان كان خطيب ابنة عزربعل بن جيسكون؟
-هذه الأمور لم تكن تهمني كثيرا. عندما عدت من إيطاليا كان حديث كل القرطاجيين عن زواج صفوتبعل من سيفاكس، الملك النوميدي العجوز، والعدو اللدود لماسينيسان...
-ومن تكون صفوتبعل؟
إنها ابنة عزربعل ابن جيسكون والتي حسب ما علمت كانت خطيبة مسينيسان...
-عجيب هذا الاسم، فقد قرأت أنها تدعى صفينازبي...
-ربما يكون تحريف لصفوتبعل... على كل، لم أكن مهتما كثيرا بتلك الأحاديث التي كان القرطاجيون مولعين بها، ولكني علمت أن ماسينيسان قد التقى بالقائد الروماني سقيبيون في إسبانيا. وفهمت أن في الأمر خيانة وتآمر على دولة قرطاج...
عادت تقاطعه من جديد:
-لكن سيفاكس الذي تحالفت معه قرطاج كان قد احتل مملكة ماسينيسان، وضمها إلى مملكته الشاسعة، وهو ما يفسر اضطرار ماسينيسان إلى العودة مسرعا إلى بلاده بعد أن توفى أبوه وفقد مملكته، وربما كان ذلك سببا في تحالفه مع الرومان بعد أن خانته قرطاج بتزويج خطيبته لعدوّه سيفاكس.
-كنت أعرف جيدا النوميديين، فهم، ككل الشعوب القبلية، رجال ثأر، لا يسمحون بأن تلطخ كرامتهم مهما كان الثمن. ولمّا أدركت خطورة الوضع، إذ أخذ ماسينيسان يجند جزءا من النوميديين ضدنا، وقد وعده الرومان بإعانته على استرجاع مملكته، اتصلت بسيفاكس واستفسرته عن الوضع. أعلمني أن الرومان معسكرون غير بعيد عن سيرتا عاصمة ملكه الشرقية، وأنه ينوي مهاجمتهم.
جند سيفاكس جيشا جل عناصره من المتطوعين من القبائل المشتتة في أرجاء نوميديا، وكانوا يفتقرون إلى الخبرة، والتنظيم المحكم، وهجم على معسكر الرومان. وكاد أن يلحق بهم الهزيمة لولا وصول سقيبيون لنجدة بقية جيشه المحاصر. وكانت هزيمة سيفاكس...
ظلّ صامتا فترة من الزمن، ثم واصل بصوت حزين:
كان سيفاكس، رغم تقدمه في السن، فارسا محترما، لا تنقصه الشجاعة ولا خبرة القتال. وقد اندفع يقاتل الرومان بشراسة، وربما بتهور، حتى جرح جواده، وألقاه على الأرض، فأسره الرومان، وأخذوه إلى قائدهم الذي أهداه غنيمة لماسينيسان وتشفيا منه. فوجد هذا الأخير فرصته لينتقم من غريمه الملك العجوز، ويثأر للإهانة التي حصلت له عندما رفض القراطاجيون تزويجه فتاة أحلامه صفوتبعل.
صمت حنبعل، وظل واجما. انتظرت أسماء فترة من الزمن ثم قالت:
-وبعد؟
-تعرفين البقية!
-أريد بقية حكاية صفوتبعل.
عاد حنبعل بعد إلحاح شديد إلى سرد حكايته:
" أخذ مسينيسان أسيره مكبلا في الأغلال، وانتقل به على جناح السرعة إلى مدينة سيرتا حيث يوجد قصر الملك سيفاكس، وبه تقيم زوجته صفوتبعل. فقد كانت لسيفاكس عاصمتان، واحدة في الشرق، وتدعى سيرتا، وتوجد قرب حدود قرطاج، والثانية في الغرب وتدعى سيغا وهي محاذية لممالك الماور. وبعد أن استولى جنود ماسينيسان على المدينة، وأسروا من كان يحميها، وفي تجمع جماهيري غفير أعلن أمام القصر، أنه حكم على سيفاكس بالشنق، وسينفذه فيه حالا.
خرجت صفوتبعل في شرفة القصر، فاهتزت لها أعين الجماهير مستغربة في البداية، ثم معجبة بجمالها وأناقتها. وبعد صمت طويل ساد على الجميع، أعلنت بصوت جهوري مخاطبة ماسينيسان:
-ليس من شهامة الرجال الأشاوس مثلك أن يقتلوا الشيوخ. وإن كنت تريد الانتقام فأنا أفديه بروحي. أترك يا ماسينيسان زوجي يعود إلى سيغا، واقتلني فداء له!
ظل مسينيسان مبهورا أمام كل ذلك الحسن والبهاء والوقار. لم ينس ماسينيسان أبدا صفوتبعل، بل ظلّ طيفها يرافقه منذ اللحظة التي رآها في قرطاج وهو ما زال مراهقا، بعثه أبوه للتعلم في كليات مدينة قرطاج. فما إن سمع صوتها حتى خفق قلبه لها، وطار عقله، وعزم على الاستيلاء عليها. لكنه ظلّ في مكانه ينظر إليها مشدوها مثله مثل الجماهير المنتشرة أمام شرفة القصر.
عادت صفوتبعل تستفزه:
-ما رأيك يا ماسينيسان؟
جمع ماسينيسان كل شجاعته وأعلن:
-أعدك أنني لن أقتل سيفاكس، لكن على شرط أن تتزوجيني.
أسرعت صفوتبعل بالرد:
-تعرف جيدا أني زوجة سيفاكس. فإن رضي بهذه المقايضة فإني سأحترم إرادته.
التفت ماسينيسان إلى سيفاكس المكبل في قفص من الحديد، وسأله:
-هل تقبل بما اتفقنا عليه؟
قال بصوت مرتعش:
-قبلت.
التفت ماسينيسان إلى صفوتبعل ورأى في نظرتها مدى احتقارها للرجلين، لكنه قال لها:
-اتفقنا. سأتزوجك الليلة، ولن أقتل سيفاكس، سأسلمه من جديد إلى الرومان أسيرا، والرومان لا يقتلون أسراهم.
وأقام ماسينيسان مع صفوتبعل ليلة واحدة. حيث أنه عندما قدم سقيبيون قائد الجيش الروماني إلى القصر، وعرض عليه الاتفاق، ثارت ثائرته، وسخط على ماسينيسان، وأعلن بحضور ضباطه:
-سيفاكس أسير الجمهورية الرومانية، وزوجته كذلك. ولن تسمح الجمهورية بمثل هذه الصفقات. لذلك سنرسل كلا من سيفاكس وزوجته إلى روما أسيري حرب، تبتّ في مصيرهما مؤسسات الجمهورية الرومانية.
كانت صفوتبعل تجلس على أريكة في الغرفة المجاورة، فسمعت حديث القائد الروماني. ثمّ جرت إلى المطبخ، وأحضرت عصيرا وضعت فيه سما، ثم وتقدمت من القائد الروماني المحاط بضباطه وماسنيسان وصحبه، وبعد أن أخذت الكوب ورفعته إلى شفتيها، أعلنت بالإغريقي حتى يفهمها القائد الروماني:
-ليس من شيم القرطاجيات الحرائر القبول بالأسر. لو كنت في ساحة المعركة لما تمكنت من أسري يا حضرة القائد. لكن بما أنك دخلت قصري، وكنت في حماية زوج كان من واجبه الدفاع عني، ولم يفعل، فإن شرفي يفرض علي ألا أستسلم لمغتصب.
ثم تجرعت الكأس، وسقطت على الأرض ميتة."
بعد صمت رهيب ساد بين العاشقين، قالت أسماء بصوت خافت:
-نهاية مأساوية كالتي حصلت لعليسة. إلهذا الحد تتشبث نساؤكم بقيم الشرف؟
أجاب حنبعل:
-الأمم التي لا تمتلك قيما هي أمم ضائعة لا يمكنها أن تستمر.
-وهل سمع الناس في قرطاج بهذه القصة؟
-بالطبع. عندما انتشرت تلك القصة بين شعب قرطاج، خرج للشوارع مناديا بالتصدي للرومان، وطالب بالحسم معهم. كنت آنذاك في مدينة حذرم أنظم ما تبقى من جيشي الذي أتيت به من إيطاليا، فوصلتني التعليمات بإعداد المعركة ضد سقيبيون. لم يعد الزمان نفس الزما، ولا الرجال نفس الرجال!
صمت حنبعل ونظر إلى أسماء، ثم قال:
-في الحقيقة عندما غادرت حذرم لم أكن أسعى إلى المعركة الحاسمة، فجيشي لم يكن كثير العدد ولا العدة، والجيش الذي هيأته دولة قرطاج للمعركة لم أدربه ولم أطلع حتى على تجهيزاته ولا على أفراده، كنت أبحث عن تحييد النوميديين، والتفرد بماسينيسان، والانتقام منه، لأنه خان العهد. كان يحارب معنا، ولم يلزمه أحد. ثم خان عهد صفوتبعل ولم يحرك ساكنا أمام سقيبيون. إنه لنذل حقير...
قاطعته أسماء قائلة:
-لكن يا حنبعل تعرف أن السياسة لا ترتكز على القيم والمبادئ وحدها. كان عزربعل قد نقض عهده بتزويج ابنته من ماسينيسان، ثم لا تنسى أن قرطاج كانت مهيمنة على المنطقة، ولما جاء من سيهيمن عليها، تحالف معه الملوك الذين كانوا يخضعون للهيمنة القرطاجية.
قال حنبعل غاضبا:
-هذه ادعاءات المؤرخين الرومان. لو كنا حقا نهيمن على النوميديين لبنينا إمبراطورية عظيمة، ولاستحوذنا على كامل غرب حوض البحر المتوسط، ولأرضخنا تلك الشعوب لهيمنتنا كما فعل الرومان والإغريق.
أسرعت أسماء تقول له راجية:
-لا تغضب حبيبي! أتدري أن روما قد أحرقت أيضا بعد قرطاج؟
-ومتى حصل ذلك؟
-بالضبط في سنة 64 بعد الميلاد.
-يعني؟
-بعد مضي مائتين وعشر سنوات على حرق قرطاج.
-ومن أحرقها؟
-ملكها نيرون.
-لقد انتقمت الآلهة ولو بعد سنين! لكن لا بد أن تروي لي كيف وقعت نهاية دولة قرطاج.
-اطمئن سأروي لك...
صمتت ثم سألته
-ما رأيك لو أقص عليك الحكاية في الأماكن التي وقعت فيها؟
-وكيف؟
-نعود إلى قرطاج الحالية، أريد أن أطّلع بأم عيني على تلك المدينة كما صورها المؤرخون الذين حضروا المأساة وسايروها.
رجعا إلى الميناء الترفيهي بالحمامات، وبعد أن عادا إلى بيتهما، وغيرا ملابسهما، استقلا المرسيدس قاصدين مدينة قرطاج.























7

ولما كانا في طريقهما إلى قرطاج، تسير بهما السيارة بسرعة جنونية، قالت له أسماء منشرحة، وعيناها مثبتتان في الطريق:
-غدا سنتزوج!
ورغم انزعاجه من سرعة السيارة المفرطة، فقد وضع يده على كتفها وهمس:
-كم أنا سعيد!
سألته:
-هل ترغب حقا في زيارة قرطاج ثانية؟
-هل تراجعت عن رواية نهاية قرطاج في الأماكن التي وقعت فيها الأحداث؟
-لكني لا أحب نبش القبور.
-حبيبتي، أعرف جيدا أن التاريخ شوّه قرطاج، قضى على كل معالمها، لكنها ما زالت تعيش في وجداني. ستكون زيارة... افتراضية كما تقولون، غير أنها ستزيل طبقات الغبار المتراكمة على ذاكرتي.
قالت بامتعاض:
-صبري لله!
وداست على الدّواس.
عندما أرست بهما الطريق السريعة في مدخل العاصمة، انعرجت إلى اليمين، وانطلقت السيارة تشق الطريق القائمة داخل بحيرة تونس تحيط بها مياهها من الجهتين. ظل حنبعل ينظر إلى كل الجهات. لقد تغير كل شيء، لم تعد الدنيا هي الدنيا، ولا البحيرة التي كان يعرفها بقيت على حالها. وهذه البواخر الضخمة دون أشرعة راسية في ميناء رادس تتلألأ تحت نور الشمس الساطع. تساءل حنبعل عن القوة التي يمكن أن تدفعها داخل البحر. وهذا القطار الأزرق يزحف على السكة كالسمكة. وتلك المداخن تعلو في السماء تلفظ دخانا كثيفا. كل شيء لفت انتباهه كان غريبا على مداركه، لكنه قبله على أنه جزء من العالم الذي رضي أن يعيش فيه ما دام الحب يربطه إلى هذه الفتاة وإلى هذه البلاد. الحب أزلي لا يعترف بالتغيرات، ولا بالعصور، ولا باختلاف الحضارات.
ولما كانت السيارة تعبر ضاحية حلق الوادي، سأل بصوت خافت:
-ما لهذه المدينة بائسة؟
سألته أسماء مستفسرة:
-هل سكن القرطاجيون هذه الضاحية؟
-لا أستطيع التأكيد، لكن الذي أعلمه أنه كان يفصل بين البحر والبحيرة كثبان من الرمال استند إليها القدامى لبناء أول أسوار المدينة.
-إذن من هنا تنطلق مدينة قرطاج التي لم تزل تحلم بها وبأسوارها.
صمتت قليلا ثم أضافت:
-وهنا انتصبت معسكرات الجيوش الرومانية التي حاصرت قرطاج طيلة ثلاث سنوات.
-هل دام الحصار ثلاث سنوات بكاملها؟
-نعم ثلاث سنوات من الحرمان والمقاومة والصمود.
-ولم يستسلم القرطاجيون؟
-ولم يستسلموا حتى الرمق الأخير من حياتهم!
-وما اسم القائد الذي كان يقودهم؟
-كان يدعى عزربعل.
-ولم يكن بركيا؟
-لا أظن. لأنه لو كان كذلك لما كانت نهايته مشينة!
-وقائد الرومان؟
-اسمه سقيبيون.
-صاحب معركة زامن؟!
-لا. لقد نفي سقيبيونك مثلك. هذا السقيبيون يظهر أنه لقيط قد تبناه سقيبيون زامن الملقب بالإفريقي.
-بما أنه تجرأ وأحرق قرطاج دون أي اعتبار لآلهتها ولا لعبادها، فلا بد أن يكون لقيطا!
تقدمت السيارة رويدا في الشارع الضيق المزدحم بالمارة، والحوانيت المنتشرة على ضفتي الشارع، تعرض المأكولات والملابس وأواني البلاستيك. سأل حنبعل:
-هل هذه سوق؟
-لا، إنه الشارع الرئيسي.
-غريب! شوارعنا كانت أكثر أناقة وجمالا.
-لا تنس أن قرطاجك كانت من أكبر عواصم الدنيا. أما هذه فلا تزيد عن ضاحية صغيرة.
ولما خرجت السيارة من ضاحية الكرم، وخمدت الحركة في الشارع، وظهر على اليمين ركن يطل منه البحر، طلب حنبعل من أسماء أن تتوقف قليلا. نزل من السيارة، وظل ينظر إلى المكان دون أن يراه. وعندما لحقت به، قال لها حالما:
-هنا كانت تقام المدينة العتيقة، باسطة ذراعيها إلى اليمين وإلى اليسار. كانت تختفي جنوبا وراء كثبان الرمل التي تغطي الشواطئ الرملية الجميلة. وعند الشمال تنتصب هضبة بيرصا يعلوها معبد بعل حمّون. وفي الشرق تتربع المواني مصدر عيش القرطاجيين. وفي الغرب تمتد البحيرة حالمة.
أمسكت بذراعه وتقدّمت به حتى الموقع الأثري للمواني البونية. ظل واجما حتى سمعها تقول:
-كم حاول الرومان اقتحام هذه المواني، ولكنهم صدوا عن أعقابهم، ودافع القرطاجيون بشراسة عن المنفذ البحري الذي كان يقيهم الاختناق. كانت تلك الجزيرة من التراب بمثابة القلعة الحصينة ترد كل محاولات العدو للتسلل إلى ما وراء البحر.
قال لها حنبعل بعد أن تفحّص المكان:
-كان الميناء العسكري من أرقى موانئ المتوسط. ولم يقدر أحد على اقتحامه طيلة حياة قرطاج. أرأيت تلك الدائرة المائية؟ لم تكن سوى قناة تسمح للسفن بالمرور إلى داخل دار الصناعة المحفورة تحت الجزيرة الاصطناعية. ودار الصناعة الخفية لا يدخلها سوى المختصين في صناعة السفن وإصلاحها، كانت سرا من الأسرار العسكرية، ولها طاقة استيعاب لأكثر من ثلاثمائة سفينة، لكل سفينة مقصورة ترفع إليها من الماء وتبقى معلقة للإصلاح أو للتهوئة.
لا يمكن للعدو أن يحرق سفننا الحربية وهي راسية في الميناء، ولم يحدث أن فعل ذلك أحد. وفوق الجزيرة ترتفع مباني الميناء الجميلة ذات الطوابق المتعددة، وبها المخازن، وإدارة الميناء، ومصالح الضرائب، ومبيت الربابنة. كان يعلو فوق هذه الجزيرة القليلة المساحة، التي أصبحت الآن كومة من التراب تنتشر عليها الحشائش البرية، برج دائري أرجواني اللون، متعدد الوظائف، وهو تحفة من تحف قرطاج العتيقة. أرأيت ماذا أصبح اليوم؟!
قالت له أسماء:
-وكان ذلك الميناء أول قلعة يستولي عليها الرومان بعد عناء ومعارك دامت أكثر من ثلاث سنوات.
سألها حنبعل متوترا:
-ومن هنا صعدوا إلى معبد بعل حمّون ليهدموه؟
-لكنهم قبل أن يصلوا المعبد اضطروا لحرق البيوت على أهلها لشدة المقاومة التي واجهوها. لقد أشعلوا النار في كل مباني الأحياء المحيطة بالربوة والمتشبثة بها. كان المواطنون العزل يرمون على الجنود المقتحمين كل ما يمكن له وقف زحفهم المضني: زيت مقلي، ماء يغلي، حجارة، أوان من النحاس... كل ما يمكنه إيذاء الغاصب رموا به عليه. ولمّا جنّ جنون قائدهم، أمر بحرق كل المدينة والانتهاء من وجودها في أسرع وقت.
-حتى معبد بعل حمّون أحرقوه؟
-قبل أن يحرقوه سلبو منه كل النفائس التي كان يضمها. عاثوا في كل المقدسات فسادا، لكنهم عندما حاولوا أسر المواطنين وجدوا أنهم قد انتحروا. فقد أشعل المواطنون في الساحة العمومية نارا صعدت ألسنتها إلى عنان السماء وتوافد عليها المواطنون يرمون بأنفسهم فيها تطهرا من الدنس الذي لحق أرواحهم.
-وهل خربوا المدينة العتيقة؟
-لقد قلت لك أن النيران أتت على كل المباني وانتشرت انتشارا هائلا طال كل أحياء قرطاج. وحتى الذين لم يكن لهم الشجاعة الكافية لينتحروا سقطت فوق رؤوسهم البيوت. لم يسلم من بطش همجية الرومان حتى الأطفال.
-ومن قال هذا الكلام؟
-المؤرخ اليوناني بوليبوس. فقد كان يرافق سقيبيون الذي جعل منه الرومانيون بطلا!
صاح حنبعل بصوت مرتجف:
-أنذال! سفلة! سقط المتاع!
احتوته أسماء وهمست له:
-لا داعي للغضب. سنتسلق جبل سيدي أبي سعيد نتغدى هناك، وسوف أقص عليك كيف بدأت حكاية إبادة قرطاج.
رجعا إلى السيارة واندفعت بهما إلى جبل سيدي أبي سعيد. تركاها في المربض وتسلقا القرية البيضاء النائمة على قمة الجبل. في أحد المطاعم الفخمة المختبئة بين البيوت الأندلسية العتيقة، انزويا في ركن من أركان القاعة الأنيقة ذات الزخرف العربي الأصيل، وطلبا كسكيا. عندما طلب النادل من حنبعل إن كان يرغب في الخمر، أشارت له أسماء بالنفي. قال لها حنبعل وقد نسي مأساة قرطاج:
-هل تعرفين أن القانون في قرطاج كان لا يبيح شرب الخمر في النهار؟
-الإسلام عندنا يحرمه ليل نهار.
وبعد الفطور عادا يتسلقان الجبل. عندما ظهر لهما البحر بكل روعته، قالت أسماء لحنبعل:
-كم حاول الجند الرومان اختراق الحصون المقامة هناك، ولكن بدون جدوى. يظهر أن قرطاج كانت شديدة التحصين!
-كنا شعبا يحب السلام، لكننا كنا شرسين في المقاومة. وقد بنينا مدينتنا في موقع مرتفع يطل على البحر وعلى السهل، وتحيط به بحيرتان. كان من الصعب على العدو القدوم إلينا على حين غفلة. لا بد أن نتفطّن إليه سواء كان قادما من البحر أو من اليابسة. وكانت الحصون متينة وشاهقة حيث يفوق عرضها عشرين مترا، وعلوها كذلك. وكانت تضم كل المواقع السكنية. هل تعلمين أن أسوار قرطاج كان طولها أكثر من ثلاثين كيلو مترا، وأنها تتكون من ثلاثة أسوار متراصة؟
-أعرف ذلك، كما أعرف أن الرومان لم يتمكنوا من اختراقها رغم قلّة السلاح الذي كان في حوزة المدافعين عنها...
قاطعها حنبعل سائلا:
-وكيف نقص سلاحهم ومعامل الأسلحة كثيرة ومتنوعة؟
-لقد احتال الرومان عليهم قبل الحصار، عندما خرج إليهم وفد يترأسه القائد القرطاجي عزربعل رافعا العلم الأبيض، طالبا السلم. اشترطوا عليه أن تنزع المدينة سلاحها. وبعد أخذ ورد قبل القائد القرطاجي، وجمع كل أنواع السلاح الذي كان في حوزة القرطاجيين، من فيلة، ومناجق، وخراطيم الماء، وأنواع السيوف والخناجر، وكدسه أمام القائد الروماني...
قاطعها حنبعل ساخطا:
-كم كان غبيا!
-كان في موقف ضعيف.
-حتى الضعيف لا يسلم سلاحه قبل أن يهزم.
-كان يسعى إلى نجاة شعبه.
-وماذا طلب منه الرومان بعد أن سلّم سلاحه؟
-قال له قائدهم:
" إذا كنتم تريدون النجاة بجلودكم ما عليكم إلا مغادرة المدينة وتركها فارغة نفعل بها ما نشاء."
-وقبل؟!
-رجع إلى شعبه يستشيره...
صمتت لحظة ثم قالت:
-تذكرت طرفة رواها المؤرخ بوليبس عن رجوع عزربعل إلى مدينة قرطاج بعد أن قابل القائد الروماني، حيث يقول بوليبس أن أهل قرطاج لم يكونوا يثقون بالرومان، فلم يفتحوا لقائدهم باب الدخول، مما اضطره لتسلق السور وطلب من جنوده الذين كانوا في حراسة ذلك المكان أن يتركوه ينزل. لكن عندما حاول الرومان رؤيته داخل أسوار المدينة اختفى. واستنتجوا أن السور أسوار مترادفة يمكن التنقل بينها، وعرفوا أن بين تلك الأسوار خنادق ودهاليز مما أقعدهم عن اختراقها. يضيف بوليبس أن القائد الروماني حفر تحت السور خندقا لكنه اكتشف مدى عمق الأسس، فعدل عن مواصلة سعيه لتهديم السور من قاعدته...
قاطعها حنبعل سائلا:
-وكيف كان ردّ فعل الشعب عندما أعلمه عزربعل بشروط الرومان؟
-لقد سخط عليه الناس ورموه بالحجارة. ومن ثمّ بدأ تنتظم المقاومة.
-ولم يغيروه ليختاروا قائدا آخر؟
-لقد عينه مجلس الشيوخ. ولا يمكن تنحيته إلا من طرفه.
قال حنبعل ساخطا:
-وبالطبع كان عدد من أعضاء مجلس الشيوخ متواطئا مع الرومان، ووعدوهم بالنجاة وبالإبقاء على أرزاقهم. أعرف جيدا تلك الأرهاط التي تعشش في جسم المجتمعات كالبق.
ساد بينهما صمت ثقيل. فعادا يتسلقان الجبل حتى وصلا إلى مقهى يشرف على كامل الخليج. جلسا قبالة البحر، وبعد إلحاح من حنبعل روت له التفاصيل التي أدت إلى أخذ قرار إفناء دولة قرطاج، وسحقها، ونزعها من خريطة العالم.
"بعد نهاية الحرب الرومانية القرطاجية الثانية، وبعد معاهدة الصلح الموقعة بين الطرفين، والتي تنص على تسديد قرطاج 260 طنا من الفضة في غضون خمسين سنة، والتخلي عن أسطولها البحري، والتعهد بعدم شن الحرب على أي دولة من الدول خارج إفريقيا، وحتى في إفريقيا، إذ لا بد لها أن تطلب موافقة روما، عادت الحياة إلى قرطاج...
قاطعها حنبعل بامتعاض:
-هذه الأشياء أعرفها جيدا!
-ولكن تبعاتها كانت نهاية قرطاج!
-هناك أشياء تجهلينها ويجهلها المؤرخون. لقد وضعت خطة كانت تفضي إلى قلب الموازين لو وقع تطبيقها. كانت الخطة متعددة الجوانب: ففي الناحية الاقتصادية حرصت على أن نجعل من الفلاحة سلاحا غذائيا يؤدي بنا إلى التحكم في السوق العالمية للمواد الأساسية...
قاطعته أسماء قائلة:
-وفي هذا الميدان وقع تطبيق خطتك وأصبحت قرطاج قبل نهايتها من أكبر الدول المصدرة للحبوب في تلك الفترة.
عاد حنبعل يعرض جوانب خطته:
-في الميدان العسكري وخاصة في الصناعة الحربية، خططنا لبعث مصانع سرية للبواخر ولجميع أنواع الأسلحة، كما خططنا لبناء حي كامل يقيم فيه المشرفون على تلك الصناعة حتى تقع حمايتهم ومراقبتهم بسهولة.
-وحتى في هذا الميدان تحدث المؤرخون عن تنامي الأسطول التجاري البوني في تلك الفترة قبل سقوط قرطاج.
بعد قليل من الصمت، عاد حنبعل يتحدث عن خطته بحماس:
-عندما وصلنا إلى الإصلاحات السياسية، وجدنا الوضع متعفنا إلى درجة لم أكن أتصورها. لا تنجح كل الإصلاحات إلا في مناخ سياسي سليم...
قاطعته قائلة:
-وانتخبت شفاطا!
-ولعام واحد!
-وأقمت العالم السياسي ولم تقعده!
-الجمهورية لا تعيش في التعفن!
-ولم ينجح حنبعل في فرض سياسته!
-كنت أحارب على جبهات متعددة: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ولم تكن المعلومات التي في حوزتي كافية لأتغلب على كل الصعوبات، وكان عامل الزمن يعمل ضدي، ففشلت مرة ثانية. تلك هي الأقدار!
ترشف الشاي بالبندق، وملأ ناظريه من المشهد البحري الخلاب، ثم ضم إليه أسماء وهمس لها:
-الحكم كالمرأة، إذا لم تعرف كيف تراودها فإنها لا تستسلم لك بسهولة.
سألته:
-هل كنت عاشقا لقرطاج؟
-ربما، لكنه عشق الولد لأم تركها منذ الصبا، وعندما عاد إليها وجدها قد شاخت. لكن واصلي بربك!
" قلت إن قرطاج لبت كل مستلزمات اتفاقية الصلح المبرمة مع روما، بل ذهبت إلى أن وفرت الحبوب وبكميات هامة للجيش الروماني الذي كان يحارب في مناطق عدة من المتوسط، إذ بدأت أطماع روما تتوسع إلى شرق المتوسط. كانت قرطاج تعيش في رخاء رغم تقوقعها على نفسها، وقد قام العنصر اللوبي بدور هام في العمل الزراعي والمعماري إذ نمت الفلاحة وتكاثرت المدن، واستتب الأمن بينها، رغم أطماع ماسنيسان الذي كانت جيوشه تقض مضاجع القرطاجيين على حدودهم الغربية.
ويقول بعض المؤرخين المعاصرين إن تلك الفترة من حياة قرطاج شهدت نموا في كل الميادين حتى الثقافية منها، إذ عثروا في حفرياتهم على بقايا صناعات الفخار في المصانع القرطاجية، وهي تدل على رقي الذوق، وحرفية الصناعة، والتقنية العالية. ولم تتوقف المعاملات التجارية لقرطاج مع الدول الأخرى بل نمت وتنوعت، وصار حضور التاجر البوني في كل أسواق المتوسط لافتا للانتباه.
وكل هذه العوامل مجتمعة دفعت الساسة في روما إلى اليقضة، بل إلى التخطيط لضرب قرطاج من جديد. فالأحقاد الدفينة لم تتبخر مع الانتصار العسكري. ومن تطاول عليك مرة يمكنه أن يعيد الكرة. كان هذا شعارهم. ودفعت أطراف عديدة في صنع القرار في مجلس الشيوخ الروماني لتبنّي سياسة جديدة ضد قرطاج.
ففي سنة151 قبل الميلاد تخلصت قرطاج من آخر قسط من ديونها. واسترجعت حريتها الاقتصادية. لكن في سنة 150 قبل الميلاد هجم ماسنيسان على السهول الغنية للأراضي القرطاجية وغزا عدة مدن. ولم يكن أمام دولة قرطاج سوى حل واحد: أن تشكو ماسنيسان إلى السلط الرومانية، وهو ما فعلت. غير أن الرومان تغاضوا عن الشكوى القرطاجية، مما شجع ماسنيسان على التمادي في العبث بالأراضي القرطاجية، وغزا مدينة أخرى.
في تلك الأثناء اعتلى سدة الحكم الشق الليبرالي في مجلس الشيوخ القرطاجي، وأول ما قرره هو الدفاع عن أراضي الوطن من غزوات ماسنيسان. وكانت القطرة التي أفاضت الكأس!
كان جيش قرطاج ضعيفا، لم يحارب منذ أكثر من خمسين سنة. فمني بهزيمة نكراء أمام جيش ماسنيسان. ولم يكف روما ذلك، في الوقت الذي كانت فيه راعية لأمن قرطاج، بل اتهمتها بالإخلال بنص اتفاقية الصلح لسنة 202 ومن ثمة بدأت تخطط للقضاء على مكونات الدولة القرطاجية. وبدأ العد التنازلي لإبادة قرطاج...
قاطعها حنبعل سائلا:
-وكيف كان موقف الساسة القرطاجيين؟
-قبل كل شيء، سقط من الحكم الشق المعارض لروما في مجلس الشيوخ القرطاجي، وتلاه المحافظون أعداؤك. وتعرف جيدا موقفهم. هل يمكنك أن تتصور ما كان ممكنا فعله في تلك الظروف؟
-أعرفهم جيدا. يعتقدون أن صداقة الرومان ستأتي لهم بالأمان. ولذا سيوفدون مجموعتهم المقربة من السفارة الرومانية بقرطاج تطلب العفو، وتطأطئ الرأس أمام عنجهية الجناح المتصلب في مجلس شيوخ روما.
-وكان بالضبط ما فعله مجلس شيوخ قرطاج. لكن روما قررت الحرب ولو أن قرارها بقي سرا.
-وما كان موقف شعب قرطاج عندما علم بقرار روما؟
-وصل الغضب حدا لم تعهده قرطاج. فقد قتل عدد من نواب مجلس الشيوخ الموالين لروما. وقتل كذلك عدد من التجار الإيطاليين، وعمت الفوضى.
قال غاضبا:
-بل قولي الثورة!
صمت قليلا ثم أضاف:
-لولا ثورة الشعب لما استمرّت المقاومة ثلاث سنوات!
وقف يطل على المنحدر الخطير الذي يؤدي إلى البحر، ثم عاد يسأل:
-هل تحدث التاريخ عن أسرى قرطاجيين من المواطنين؟
-يظهر أن الأسير الوحيد كان قائد حامية مدينة قرطاج عزربعل الذي ركع أمام القائد الروماني يطلب الصفح. ولكن زوجته قالت له أمام الجنود الرومان الملتفين حوله:
-أنت عار على هذه الأمة!
ثم جمعت أطفالها ورمت بهم وبنفسها في النار.
قال حنبعل حزينا وهو ينظر إلى البحر من أعالي الجبل:
-وانتهت قرطاج!
همست له أسماء:
-يقال إن الرومان حرثوا أرضها ونثروا عليها الملح حتى لا تعود وتنبت من جديد.










الباب الرابع

في عالم الافتراض



ها نحن ندخل في المستقبل القهقرى

بول فاليري




















1

تزوج حنبعل بأسماء، وقضّيا شهر العسل في جزيرة جربة، ونسيا مآسي التاريخ، وعرفا ملذات الحب والحياة الزوجية. ثم عادا إلى عشهما بالحمامات. وفي يوم من الأيام بينما كان حنبعل وحيدا في بيته، عادت إليه فتاة الفضاء. دخلت كالعادة على بساطها الطائر دون سابق إنذار. كان حنبعل يتصفح كتابا، فلما سمع زفيف البساط يقترب من الزربية القيروانية الجميلة، رفع نحوها بصره، وظلّ مرتبكا.
قالت له فتاة الفضاء مبتسمة:
-ما لك نسيتني يا حنبعل؟ ألهذا الحد ينسيك الزواج ماضيك ومستقبلك؟
لم يقل شيئا. كان يفكّر في أسماء. لو عادت ووجدت هذه المرأة العارية بجانبه لما تحمّلت.
عادت فتاة الفضاء تقول له:
-ألم أقل لك أني قدرك؟ إني بحاجة إليك، أريد التقدم في أبحاثي. لا بد أن أتحدث إليك بانتظام، وأعرف ما ألت إليه بعد أن تعرفت على ماضيك وضمنت حاضرك. فليس بإمكانك معرفة مستقبلك من دوني.
ظلّ حنبعل يفكّر. هذه المرأة تثير فيه مشاعر متضاربة. فهي تشعره بالعبودية، تشعره بأنه ملك لها كالموت. ومن ناحية أخرى يرى فيها مفتاحا لفهم هذا العالم الغريب الذي حط فيه، وبدأ يكتشف أسراره، ويتأقلم مع مكوناته. فهو في الآن نفسه يخشاها، ويتطيّر منها. ففي كل مرة يراها يشعر بالكآبة تعمّه لأنها تذكره بأنه قادم من عالم الأموات. ولكنها تسحره بكل العجائب التي تحيط بشخصها. ففي عودته إلى الحياة عن طريقها أكبر الأعاجيب، وفي بساطها الطائر سحر ما له سحر، وفي حديثها عن عالمها خيال الشعراء، وفي النظر إلى جسدها العاري المتناسق الفتان، رغم خلو الرأس من الشعر، متعة ليس كمثلها متعة. لم يكن يشتهيها، ولكنها تفتنه بجمالها فتنة العابد بمعبوده.
استرق النظر إليها فبهر بحسن الجسد المتربع على البساط الذي ظلّ معلقا في فضاء الصالون. لم ير في حياته أجمل من هذا الجسد، ولونه الخلاب. كانت تضع يديها على البساط ترتكز إليهما في جلستها المثيرة، فلاحظ كل جزئيات الجسد متناثرة في تناسق ككلمات القصيدة. ولما رفع بصره إلى وجهها بهره جمال عينين سوداوين واسعتين في طرفهما حور يشعان نورا خلابا. ارتبك وغضّ النظر.
سألته بلغتها:
-متى ستعود زوجتك؟
بعد أن وصلته الترجمة عن طريق الآلة في أذنه أجاب بصوت خافت:
-لم تحدد موعدا، لكنها لن تعود عند الغداء فقد طلبت مني أن أتدبر غدائي.
-جميل، يمكننا أن نتحدث بكل انشراح.
أجابها متشنجا:
-فيما تريدين أن نتحدث؟
-في التجربة!
-وأي تجربة؟
-وهل نسيت أنك موضوع بحثي؟ لقد طلب مني المجلس الأعلى للبحوث في قانماد إمداده بتقرير أولي عن تجربتي.
-وما علاقتي بتقريرك؟
نزل بها البساط على أرضية الصالون، نهضت تتبرج برشاقة، وهو يتبع حركاتها مفتونا، ثم تقدمت منه، وجذبت أريكة وجلست قبالته. نظرت إليه مليا ثم قالت له:
-اسمع يا حنبعل، أريد أن تصبح صديقي، كما أرغب أن تقدمني إلى زوجتك حتى أتمكن من زيارتكما متى شئت.
أجابها متضايقا:
-لكننا لا ننتمي إلى نفس العالم!
-ومن أدراك؟ ألم تتأقلم مع عالم تركته منذ ألفين ومائتي سنة؟ فهذا الكون يجمعنا سواء كنا نسكن الأرض أو قانماد. كل المخلوقات العاقلة يمكنها أن تتواصل وتتبادل تجاربها، وتعمل معا من أجل مزيد الرقي للعقل البشري.
ظلّ يفكّر: لو رأتها أسماء في زيها الآدمي لما قبلتها ولو لحظة. وحتى إن أقنعتها فستثير فيها الغيرة والشكوك، وستتنغص حياتنا بأسئلة وتلميحات وشجار. هذه طبيعة المرأة على الأرض منذ بداية حياة الإنسان العاقل كما قالت. ثم أن ما تتحدث عنه لا يصدق: " آتية من قانماد "! سألها فجأة:
-لماذا أتيت من عالمك البعيد؟
-ألم أقل لك للبحث والمعرفة؟
-عمّ تبحثين؟
-عن العلم.
-وماذا تفعلين به؟
-أثبت به وجودي ككائن يكتشف حقائق الكون. فلولا ولوعي بالبحث لأصبحت حياتي كلها رتابة، ولسقطت إلى مستوى الكائنات الحيوانية. أليس جميلا أني أرجعتك للحياة لتكتشف بلادك من جديد، وتاريخك المفعم بالأحداث، ولكي تحب؟
-جميل، لكن ما نفعك من كل ما فعلته معي؟
-لا أبحث عن المنفعة، أريد إثبات وجودي من خلال ما أكتشفه فيك من حقائق إنسانية. لقد تتبعت كل حركاتك، وسجلت ردود أفعالك، وأحاديثك، وأحاسيسك و...
قاطعها سائلا:
-هل كنت تراقبين كل تصرفاتي؟
-بالطبع، وإلا لما توصلت إلى معرفتك. أنتم سكان الأرض تحسنون التخفي، والمناورة، والزيف...
عاد يقاطعها:
-إذن ما حاجتك بوجودي الفعلي بما أنك تراقبينني ليل نهار؟
-ألم أقل لك إني أريد صداقتك؟ فقد اكتشفت أنك إنسان راق، بل أصبحت معجبة بك، رغم انزعاجي مما فعلته عندما كنت تحارب.
ظلّ صامتا لا يدري إن كان يجب أن يستجيب لعرض صداقتها، أو يتحاشى النظر إليها ويتقوقع ملتحفا بالصمت. لكنه لم يكن مطمئنا إليها. وكيف يطمئن لشخص يراقبه ليل نهار؟ لكن غريزة حب الاطلاع داخله أخذت تتحرك. ماذا لو يعرف عنها كل شيء كما فعلت هي؟
سألها:
-أين تقيمين؟
نظرت إليه مليا ثم لاحت عليها ابتسامة ماكرة وأجابت:
-هنا غير بعيد، في أحد الجبال على مشارف الصحراء.
-وتقيمين وحدك؟
-نحن مجموعة من الباحثين، نقيم في محطة للأبحاث العلمية توجد تحت الأرض، لا يمكن أن يكتشفها الأرضيون.
-وكلكم مختصون في الاستنساخ؟
ضحكت ملء شدقيها، ثم أجابت:
-بالطبع لا. أنا الوحيدة التي تبنت هذه الفكرة الجنونية، ولم يوافقوني عليها إلا بعد إلحاح شديد. لقد أتيت خصيصا من قانماد لهذا الغرض.
-لأجلي أنا؟
-في البداية من أجل استنساخ كائن بشري ميت، ثم لمّا بحثت في تاريخ الرجال وجدتك أكثرهم مدعاة للاهتمام.
أراد أن يواصل استنطاقها ويعرف كيف يعيش أهل كوكبها. لكنه تراجع عن أسئلته، فقد تشابكت الأشياء في ذهنه، فإن تأكد الآن من ماضيه، واستوعب كل مراحله، ونسي آلامه بمعاناة القرطاجيين قبل فناء مدينتهم، فحاضره ما زال ضبابيا، لا يعرف منه سوى لذّة الحب التي يتقاسمها مع أسماء. فكيف له أن يسأل عن حياة أناس في كوكب آخر يبعد مليارا من الكيلو مترات عن الأرض؟ ظلّ صامتا محتارا في ريبة من أمره، حتى جاءه سؤالها:
-ألا ترغب في معرفة العالم الذي تعيش فيه؟
لم يجبها. كان خائفا أن يكتشف عجزه على تقبل صدمة التغيّرات، فهو لم يتعوّد بعد على الآلات الذي تعمر عالمه، فما بالك لو يكتشف بشرا، وحياة أكثر تعقيدا من التي يراها في بلده وهو لا يعرف منه سوى قرطاج الأثرية، وجزيرة حالمة ليس لها زمان، وأناس يستغربون كلما ذكر اسمه، وحتى أسرة زوجته لم تصدق أنه قادم من عالم الأموات.
عادت تقول له:
-سأنظم لك رحلة مع زوجتك لأجمل عواصم أوروبا.
سألها مرتبكا:
-متى؟
-اطرح الموضوع على زوجتك، وناقشاه، ثم نقرر معا.
ولما همّت بالانصراف، سألها:
-متى ستعودين؟
ابتسمت له ابتسامة عذبة وقالت:
-متى شئت.
وعادت إلى بساطها الذي انطلق بها خارج البيت.
حالما اختفت، شعر بالفراغ يعمه. لم يستطع العودة إلى المطالعة، ولا إلى التفكير في أي شيء آخر غير فتاة الفضاء. لم يكن يفكّر فيها كفتاة فاتنة الحسن والجمال، بل ككائن غريب لم يقدر أن يحدد مواقع الغرابة فيها. هي إنسان مثله تستعمل اللغة للتخاطب، ولو كانت غريبة فالترجمة قربتها له. وهي تفكر مثله، بل ربما كان تفكيرها أكثر صفاء ودقة منه. وهي عارفة بأسرار كثيرة عن الحياة على الأرض تمكنها من الإلمام بكل مكوناتها. وهي عالمة بهرته بعلمها الذي لم يفقه منه الكثير. هل يمكن أن تصبح صديقته، يثق بها ويطمئن لنواياها؟
بقي يلوك السؤال حتى رنّ جرس الهاتف. رفع السماعة، فجاءه صوت أسماء وهدأ من تشنجه.
سألته:
-هل تغديت؟
-لا.
-وكيف ستدبر أمرك؟
-لا عليك. متى ستعودين إلى البيت؟
-عند المساء.
-لا تفكري في. نلتقي في البيت.
قفل الخط، وظلّ يفكّر لحظة، ثم اندفع إلى غرفة النوم يغير ملابسه، وغادر البيت، واندفع إلى الشارع يبحث عن تاكسي. عندما وقفت أمامه السيارة الصفراء بقي مترددا قبل أن يستقلّها، ويطلب من السائق أن يوصله إلى وسط المدينة. لكنه عندما همّ بالنزول وطلب منه السائق دفع تكلفة سفره، ارتبك ولم يجد عنده نقودا. كانت البطاقة المغناطيسية في جيبه، مدها إلى السائق، لكنه أعلمه أنه لا يتعامل بها من أجل مبلغ زهيد. ظل لحظة يفكّر، ثم مد للسائق بطاقة شخصية كانت قد أعدتها له أسماء ليعرّف بها نفسه عندما يلتقي شخصا لا يعرفه، وقال له:
-يمكنك أن تتصل بي في هذا العنوان لاستخلاص الدين الذي بذمّتي.
كانت هيئة حنبعل تجلب كل الاحترام، فأخذ السائق البطاقة مترددا، لكنه لم يقل شيئا. كانت تلك أول مغامرة لحنبعل مع أهل بلده الجديد. بعد أن تجوّل في شوارع المدينة، وهو يتفحّص المارة بانتباه شديد، دخل أحد المطاعم المنتشرة على قارعة الطريق. كان المطعم فخما، فاستقبله المسؤول على الخدمة بترحاب كبير. سأله إن كان بإمكانه استعمال البطاقة المغناطيسية، فطمأنه. وبعد الغداء عاد إلى الشارع، ولمّا اعترضه بنك، دخل وطلب أن يمكنوه من كمية من النقود، فلبوا طلبه. شعر وكأنه الطفل الذي بدأ يكتشف العالم من حوله، لكنه ثابر حتى تمكن من فكّ رموز هذا العالم الجديد على مداركه. عالم آلي، تتحكم فيه النقود إلى أقصى الحدود. كما اكتشف أنه بالنقود يسهل التعامل مع هذا العالم الغريب. لكن التجربة كانت مفيدة حيث سمحت له بأن يتحمل مسؤولياته، وبأن يتمتع بحرية التحرك. ولمّا عاد إلى بيته مستقلا تاكسي، كان راضيا على تصرفاته.
وجد أسماء تنتظره في حيرة. وحالما فتح الباب ارتمت في عنقه معانقة، ثم همست له:
-كنت أعتقد أنهم اختطفوك.
-من؟
-رجال الشرطة.
-وما الداعي؟
-لقد رأيتهم يحومون حول بيتنا، فخفت عليك. ولمّا لم أجدك في البيت طار عقلي ولم أدر كيف أتصرف. الحمد لله أنك لم تتأخر.
ثم عادت تعانقه بجموح، وتهمس له:
-لن أصبر على العيش بدونك!
كان شغفها به يزداد يوما بعد يوم. وجدت فيه كل صفات الرجولة، وقد غمرها بحب فياض ملأها سعادة.
-هل تغديت؟
-بالطبع.
-ولماذا غادرت البيت؟
-لأتغدى!
وطفقت تسأل، وهو يجيب بعفوية، حتى اكتشفت أنّه لم يعد قاصرا كما كانت تحسبه. أتت بالشاي، وجلست بقربه تستعذب دفء الحب. بعد فترة من الصمت قال لها مترددا:
-هل تعرفين فتاة الفضاء؟
أجابت مستغربة:
-من تكون؟
-الفتاة التي استنسختني.
-حدثتني عنها، ولكني اعتبرت الأمر مزاحا.
-إنها الحقيقة حبيبتي. أنا إنسان مستنسخ أحببت أم كرهت.
ظلّت تفكر لحظة، ثم سألته بعصبية:
-وماذا تريد هذه الفتاة؟
-تستدعينا لزيارة محطتها العلمية.
صرخت سائلة:
-في الفضاء؟
-بل داخل الأرض.
تشبثت به وسألت مرتبكة:
-أتريد أخذي إلى عالم الأموات؟
قبّلها مهدئا، وهمس لها:
-لا تكوني ساذجة. هذه الفتاة كانت هنا في الصباح، ورأيتها لحما ودما، وهي آدمية مثلنا، وتتحدث لغة أجنبية لكني أفهمها عن طريق الآلة التي في أذني. وقد ألحت أن تستقبلنا في محطتها العلمية...
قاطعته مترجية:
-لا يا حبيبي، هذه الأشياء لا يدركها عقلي بسهولة. بالنسبة إلي: هناك عالم الأحياء، وعالم الأموات، وربما عالم الجن. ولن أغادر عالم الأحياء إلا عند الموت.
كانت ترتعد من الخوف. فأخذ يحنو عليها ويداعبها ويثيرها بلمسات رقيقة حتى ذابت بين يديه. بعد أن ترشفا شراب الحب حتى الثمالة، سألها:
-هل أنت مقتنعة أني لست جنيا ولا قادما من عالم الأموات؟
-كنت مقتنعة منذ اللحظة التي رأيتك فيها أول مرة.
-حتى فتاة الفضاء التي حدثتك عنها، رأيتها لحما ودما وهي مثلنا. أريدك أن تتعرفي عليها لأنّها تحتاج إليّ لدراستها، ومن أجل تلك الدراسة قامت باستنساخي. سأطلبها، وسأعرفك بها، إنّها ترغب في صداقتنا. ما رأيك؟
كانت مسترخية في الفراش تسند رأسها إلى صدره، والسعادة تملأها، فقالت:
-افعل ما تشاء بي فأنا سعيدة بقربك ولو في عالم الجن والأموات.
بعد فترة من التفكير قال لها:
-سنستدعيها هذه الليلة للعشاء معنا. ما رأيك؟
-ما دامت هذه رغبتك فلتكن.







 2

-تانيت! حنبعل يطلب تانيت!
ظلّت أسماء تنظر إلى حنبعل باستغراب.
-هل يمكنك زيارتنا في بيتنا، لقد تحدثت مع زوجتي في الموضوع، وترغب في التعرف عليك.
بعد أن جاءه ردها، التفت إلى أسماء وقال لها:
-ستكون عندنا بعد غروب الشمس.
صمت قليلا ثم أضاف:
-إنّها غريبة هذه الفتاة، فهي عارية دائما. ربما هذا يزعجك، لكنها مصرّة على عريها.
لم تقل أسماء شيئا. ظلّت تفكّر، ثم سألته مترددة:
-أليست لك علاقة خاصة مع هذه الفتاة؟
-كل ما أعرفه عنها قلته لك.
تركت الفراش وخرجت إلى الحمام. بقي حنبعل يتبع تموج الجسد العاري في فضاء الغرفة حتى اختفى. كان مولعا بجسد زوجته: ممتلئا، ناعما. أدركها في الحمام وهي تستعد لدخول الحوض المملوء ماء دافئا ينساب منه بخار رقيق. ضمها إليه، وعادا إلى العناق. وهو يقبّل عنقها همست:
-وهل فتاة الفضاء جميلة؟
احتوى كل جسدها وهمس لها:
-لا تغاري من فتاة الفضاء فهي تنتمي إلى عالم السماء، ولست من هواة النساء. وجدت عندك سعادتي فلا تنغصيها بأشياء لا وجود لها.
همست له:
-أخاف أن أفقدك يوما!
-لا تخافي. لنغرف من السعادة ما استطعنا.
وعادا إلى العناق. وارتويا من الحب.
ولما أتى المساء، وبعد أن نشطت أسماء نشاطا غير عادي ليكون بيتها على ما يرام حتى تستقبل فتاة الفضاء، جلسا يترقبانها. قال لها حنبعل:
-سوف تدخل من النافذة على بساط طائر، لا تخافي منها، ليست بالجنية كما تقولين. ولا تنظري إليها بريبة، فهي ذكية إلى أقصى حدود الذكاء، تفهم حتى خفايا النظرات.
لم تقل شيئا. كانت تنتظرها بصبر نافذ لتكتشف مخلوقا خارقا للعادة. وراح خيالها يصورها لها، وحضرت في مخيلتها تلك الصور البشعة لأفلام الخيال العلمي، حيث غالبا ما صوروا أناس الفضاء فظيعي الهيئة والأفعال. وبعد انتظار طويل اندفع من النافذة البساط الطائر بسرعة، وظلّ مستقرا في فضاء الصالون، وعلى متنه فتاة الفضاء تنظر للزوجين وعلى محياها ابتسامة ودّ.
عندما حطّ البساط أمام حنبعل، وتقدمت منه فتاة الفضاء بخطى ثابتة، قال لها مشيرا إلى زوجته:
-أسماء زوجتي.
رمقتها بابتسامة عذبة، وقالت لها بلغتها:
-أعرفك جيدا رغم أننا لم نلتق من قبل.
ثم استدركت، والتفتت إلى البساط الذي أخذت منه سماعة صغيرة ومدتها إلى أسماء التي بقيت جامدة في مكانها.
طلب منها حنبعل أن تضعها داخل أذنها، وترجم لها ما قالته فتاة الفضاء، ثم أضاف:
-أعطيتها اسم تانيت، يمكنك أن تناديها به.
لم تكن أسماء ترغب في التحدث إلى هذه الفتاة الوقحة العارضة كل مفاتنها أمام زوجها. لكنها بقيت جامدة في مكانها لا تغادر عيناها الفتاة. حتى قالت لها:
-أرى على وجهك انزعاجا كبيرا، ربما لأنك ترينني لأول مرة. لست عدوانية بتاتا كما هو الحال عندكم. أريد صداقتك وصداقة زوجك، هل ترين هذا ممكنا؟
لم تجبها. تدخل حنبعل قائلا لفتاة الفضاء:
-إنها منزعجة من عريك.
ضحكت ضحكة عالية ثم سألت أسماء:
-ألا تجدينني جميلة؟
قالت أسماء في نفسها مستهزئة بعد أن وصلتها الترجمة في أذنها: "وين ها الزين، فرطاسة وعريانة كيف أم البويا!"
ساد الصمت بينهم، وشعر حنبعل بالحرج، فقد رأى في عيني أسماء اشمئزازها، وظلّت فتاة الفضاء تتمعن في وجه أسماء دون حرج. ثم التفتت إلى حنبعل وقالت مبتسمة:
-زوجتك تحبك حبا شرسا، فقد لاحظت في نظراتها خوفها عليك مني.
ثم التفتت إلى أسماء وقالت لها وابتسامة الود لم تفارق ثغرها:
-اتركي الخوف، وتصرفي بالعقل، فالحب ليس امتلاكا ولا هيمنة، إنما هو اكتشاف ووصال.
سألتها أسماء وفي صوتها ارتجاف:
-لماذا تتعرين؟
ضحكت من جديد، وردّت لها سؤالها:
-لماذا تتغطين؟
فاجأها السؤال، فظلت تفكّر. لم تطرح على نفسها أبدا مثل هذا السؤال. لكن فتاة الفضاء عادت تقول:
-العري، أو اللباس بالنسبة للكائنات العاقلة اختيار واع أو غير واع. نحن اخترنا بوعي وقناعة أن نتعرى، فعرينا لا يدل عن الوقاحة كما تتصورين، بل عن رغبة في التحرر من عبث وراءه قيود اجتماعية تعود إلى بداية تطور العقل البشري. وإن كان العري مثيرا في مجتمعاتكم، فلأن العلاقة الجنسية عندكم تراكمت عليها القيود حتى فقد الجسد قيمته وأصبح بضاعة تعرض أو تخفى. هل أجبت عن سؤالك؟
لم يقنعها الجواب، بل لم تقتنع بالوجود الإنساني لهذه الفتاة، إنها جنية اقتبست مظهر امرأة. بعد فترة من التفكير سألتها:
-ألا تحسين بالبرد، ففي الهواء رطوبة هذه الليلة؟
-في الحقيقة لست عارية تماما، فجسدي مغطى بجلد رقيق شفاف يقيه من كل سموم هواء الأرض. نحن لا يمكننا العيش في جو كوكبكم. وحتى التنفس فإني لا أتنشق الآن هواءكم، بل أزوّد بالهواء النقي عن طريق آلة مجهرية مغروزة في أنفي تصفي الهواء من كل السموم التي يحتويها.
سألها حنبعل:
-وكيف يطير بساطك؟
التفتت إليه وقالت:
-هل فهمت كيف تسير السيارة؟
-فسرت لي ذلك أسماء.
-بساطي لا يستعمل طاقة تحرق ليندفع، بل يجذب إليه جزيئات النور المتواجدة بكثرة في الجو ويحولها إلى قوة دافعة، ويتحكم في العملية حاسوب مجهري مبرمج لكل عمليات التنقل والسرعة والتوقف وتغيير الاتجاهات، وهو مزود بكامراهات مجهرية تمكنه من ضبط كل الجزئيات. فلا أحد يقوده أو يزوده بالطاقة. لكن يمكنني أن أخاطب الحاسوب لتغيير وجهتي أو التوقف في مكان ما، فيلبي طلبي آنيا.
التفتت إلى أسماء تسألها:
-أظنك تفهمين هذه الأمور أكثر مما يفهمها حنبعل؟
أجابت متضايقة:
-تتحدثين عن أشياء خيالية صعبة الادراك. فهمت أن تتحول المادة إلى طاقة عن طريق الاحتراق، لكني لم أسمع عن تحويل جزيئات النور إلى طاقة. ولم أسمع عن الحاسوب المجهري...
-وهل تعرفين أين يوجد كوكب قانماد؟
-أبدا!
-إنه أحد أقمار المشتري.
تحمست أسماء لمناقشة هذه الفتاة الوقحة التي لا يكفيها عرض جسدها على زوجها، فهاهي تعرض ما تدعيه علمها بصلف، فقالت لها:
-ما تعلمته أن كواكب النظام الشمسي الأخرى غير مسكونة ولا يمكن للحياة أن توجد فيها. تعرفت على هذه المعلومات بالمدرسة، وقرأتها في الكتب.
-معلومات الأرضيين عن الفلك لا تزال في بدايتها.
ثم التفتت إلى حنبعل تسأله:
-هل ترغب في زيارة محطتنا برفقة زوجتك؟
نظر حنبعل إلى زوجته يترقب منها الموافقة، ثم سأل:
-متى؟
-سأتصل بكما عندما أهيئ الزيارة.
طلبت أسماء من حنبعل أن يأتي من المطبخ بطبق عليه عصير وحلوى، لم تكن ترغب في تركه مع الفتاة العارية. ثم قدمت لها كأس المشروب، لكنها اعتذرت قائلة:
-حقا إني آسفة! لا يمكنني تناول أطعمة أهل الأرض، فهي بالنسبة لنا مسمومة وملوثة، ولو أنكم متعودون عليها.
قالت أسماء داخلها: "أبك! أبك! ما ريتش ها الدعوة!" لكنها حافظت على هدوئها. ليس من شيم الكرام أن تخاصم الضيف في بيتك. ظلّت منكمشة على نفسها حتى أعلنت فتاة الفضاء رغبتها في الانصراف. وما إن طار البساط واندفع بسرعة مذهلة خارج الصالون حتى جرت أسماء إلى النافذة لتتأكد من تحليقه في السماء، لكنها لم تر له أثرا.
عادت إلى حنبعل وهي تقول بصوت عال:
-تانيتك هذه ساحرة كبيرة لعبت بعقلك، أما أنا فلن ينطلي عليّ سحرها.
قال حنبعل ضاحكا:
-ما أجمل وجهك المحمر من الغضب!
قالت بكل جدّية:
-ليس الآن وقت مزاح! أستستجيب حقا لدعوتها؟
-ولم لا؟
-وأين توجد هذه المحطة؟
-قالت إنها على مشارف الصحراء.
-وأي صحراء؟
-لست أدري لكنها ستأخذنا إليها. لديها طبق طائر يحلق بسرعة مذهلة.
دنا منها ومسح على خدها ملاطفا ثم قال لها بهدوء:
-لقد دعتنا لزيارة المحطة. نزورها ونحكم فيما بعد.
-ألم أقل لك إنها ساحرة؟
-الطبق الذي حلق بي في سماء قرطاج كان حقيقة لا لبس فيها. والفتاة لم تكن شبحا. ألم تستمعي للترجمة...
بقي لحظة يفكّر ثم سأل:
-من الذي كان يترجم؟ ومن أي مكان يا ترى؟
لم تسعفه بالجواب. كانت تخمن أن الآلة في أذنها باتصال مباشر مع محطة بث لاسلكي. ظلّت تتساءل إن كانت حقا مخلوقا قادما من الفضاء. سألت حنبعل:
-من أي كوكب أعلنت أنها قادمة؟
-قانماد على ما أظن.
نهضت تحث الخطى إلى المكتب، ثم عادت تحمل حاسوبا محمولا. شغلته وظلت تبحث عن قانماد. ظهرت لها على الشاشة صور أقمار المشتري الكبرى، ثم ركزت الفأرة على إحداها فظهر كوكب كبير برتقالي اللون، تنتشر على صفحته بقع بيضاء. قرأت بالفرنسية المعلومات المتوفرة لدى الحاسوب عن كوكب قانماد. ثم قالت لحنبعل:
-يقولون إن الكوكب يحتوي على مياه، وتربة، وربما أكسجين. ولكنهم لا يتحدثون عن وجود حياة ولا بشر.
كان حنبعل منزعجا من الحاسوب بين يديها، فهو يخاف كل هذه الآلات التي لا يفقه ماهيتها. ولما طلبت منه أن يقترب من شاشة الحاسوب، ظل مترددا، فوضعت الآلة بين يديه قائلة:
-هذا هو قانماد التي تتحدث عنه، قمر يفوق قمرنا حجما مرات عديدة، ويساوي نصف الأرض، وهو حسب المعلومات التي قرأتها ثاني أكبر أقمار النظام الشمسي.
ظلّ يتصفح الصورة، ثم أعلن:
-إن إدراكي بطيء في هذه المسائل، لكني مقتنع أن فتاة الفضاء حقيقة، وعلمها أعجوبة، وأنت تغارين منها بدون سبب. إنها ربتي، أعادتني إلى الحياة بقدرة علمها.
قالت منزعجة:
-أستغفر الله! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
-تصلين لربك. جميلا فعلت، فهو الوحيد الذي يدفع عنا الشر، والسحر، والحسد، ومكائد البشر.
كادت أن تسأله عن اعتقاداته، لكنها تراجعت، فسوف تفتح تقاشا لن ينتهي. ظلّت تفكر في فتاة الفضاء، فقد أدخلت في ذهنها البلبلة. هل تصدق كل ما قالته؟ هل تصدق أنها حقا استنسخت حنبعل؟ فالاستنساخ أصبح واقعا، كم تحدث أبوها عن النعجة دولي، وأعجب بما حققه العلم، إذ سيخلق أنواعا من الحيوانات الأليفة الخاصة بتغذية البشر لها مواصفات جيدة قد تساعد على القضاء على المجاعة في العالم. لكن استنساخ البشر، وخاصة الموتى منهم، ليس ممكنا... ربما الآن... ربما يصبح في متناول البشر بعد سنين... ربما تكون هذه الفتاة من عالم آخر وصل فيه البشر إلى درجة رقي وتطور أكثر من الأرضيين... ربما... ثارت على نفسها وقالت بصوت عال: "لا... أكاذيب... سحر..."
احتضنها حنبعل سائلا:
-ما لك حبيبتي متشنجة؟
نظرت إليه مليا، مسحت على خده، قبّلت شفتيه، قرصته فقال لها معاتبا:
-هل جننت؟
قالت له معتذرة:
-لقد صرت أشك في كل شيء. أشك في وجودك قربي، في حقيقتك... لكني لن أشك في حبي لك.
ظلّت صامتة تنظر إليه دون أن تراه، ففكرها ما زال مشغولا بفتاة الفضاء، ثم قالت له:
-كيف تتصل بها؟
-اتحدث إليها فتجيبني.
-هيا، افعل!
-ماذا تريدين أن أقول لها؟
-قل لها أني أريد التحدث إليها.
وطفق حنبعل يخاطب الفتاة:
"تانيت، هنا حنبعل."
وعندما أجابته قال لها:
"أسماء تريد مخاطبتك."
أعادت أسماء السماعة إلى أذنها فجاءها صوت آلة الترجمة واضحا:
"تفضلي أنا في الاستماع إليك"
بقيت مرتبكة، ثم قالت لها:
" المعذرة على استقبالي البارد لك."
أجابتها بلطف، ثم اتفقتا على زيارة المحطة مع حنبعل عندما ترغب هي.











3

وصل الطبق الطائر بعد غروب الشمس. كانت فتاة الفضاء قد خاطبت حنبعل تعلمه أنها ستحط في حديقة بيته، فخرج مع أسماء لاستقبالها. حطّ الطبق الدائري البلوري بسرعة البرق على عشب الحديقة، وظهرت داخله فتاة الفضاء بزيها الآدمي. فتح الطبق، فنزلت منه ببطء، واتجهت نحوهما، ولمّا أدركتهما حيتهما بابتسامة عذبة، ثم طلبت منهما أن يصعدا إلى الطبق. ولم يجدا أي صعوبة في الصعود إليه، إذ كانت قاعدته منبسطة على الأرض. وما إن استقرا داخل الطبق تتوسطهما فتاة الفضاء، حتى انغلق عليهما الغطاء البلوري، واندفع الطبق كالشرارة شاقا ظلمة الليل دون أن يحدث صوتا أو يشعل نورا. ولم يجدا مجالا للنظر إلى السماء الحالكة ولا إلى اليابسة مبعثرة في أرجائها الأضواء، فلم تمض دقائق حتى حطّ بهم الطبق في مكان مظلم لم يستطيعا التثبت فيه ولا في المحيط حوله. وبعد ثوان والطبق ينزلق في الظلام، انبهروا بأنوار كثيفة داخل قاعة كبيرة يصطف على جانبيها عدد من الآلات المختلفة الأحجام تشبه الطبق الذي أقلهم. كان ذلك المكان هو المطار السري للمحطة.
ودخلا بلاد العجائب والغرائب. وازداد اضطراب حنبعل وضياعه. فلئن تعود بعد جهد جهيد على عالم الأرض الذي وجده مختلفا تماما عن العالم الذي عرفه، فإن ما رأى في هذه المغارة المنارة من كل الجهات قد أضاع توازنه، ولم يحسن حتى التنقل على الأرضية البلورية المشعّة من تحتها الأنوار. وكانت أول صدماته عندما دخل إلى غرفة ضيقة مخروطة، بعد أن خلع كل ملابسه، وتساقط عليه رذاذ أحس به يكسو كامل جسده. لم يكن الرذاذ سائلا ولا مادة رخوة، كان كالهواء الحار انتشر على كل بقعة في جسده، بل أحس به يندفع من مسام جسده إلى داخله.
ولما خرج من تحت الدش، وجد نفسه مع زوجته في غرفة ثانية لا تقل إنارتها عن كل الأماكن التي دخلاها. كانت هي مثله عارية. سألها:
-أين ملابسنا؟
بحثت داخل الغرفة فلم تعثر على أي شيء يستر عورتهما. لكن صوت تانيت فتاة الفضاء جاءهما:
-آسفة لارغامكما على اتباع طريقتنا في العيش خلال إقامتكما بيننا. فلن تضعا ملابس، حاولا أن تتعودا على العري. وبما إن الذين ستلاقيانهم في المحطة سيكونون عراة، فلن تجدا حرجا في العري.
قال حنبعل غاضبا:
-هذا تعسف!
أجابه صوت تانيت من وراء الجدران:
-تلك هي الديمقراطية يا سيد حنبعل. الرضوخ لإرادة الأغلبية. أليس كذلك؟
لم يقل حنبعل شيئا، فعادت تشرح له قرارها:
-لقد ناقشت المسألة مع أعضاء البعثة، واستقر الرأي على أن تكونا مثلنا عراة حفاة، لكن يمكنكما الاحتفاظ بشعركما.
قال حنبعل متشنجا:
-وإذا ما رفضنا؟
-أرجعناكما من حيث أتيتما.
التفت حنبعل إلى زوجته وسألها:
-ما رأيك؟
كانت رغبتها في معرفة المكان، والناس الذين يعمرونه كبيرة، فأجابت:
-نعتبر أنفسنا في الحمام العمومي، كثير من النساء يدخلن الحمام عاريات تماما، ولا يثرن أحدا.
قبل حنبعل وضعه على مضض، فقال بصوت متشنج:
-قبلنا الوضع على مضض.
ظهرت لهما فتحة في الغرفة الكبيرة الأسطوانية الشكل تشعّ داخلها الأنوار من كل جهة. تقدمت نحوهما تانيت وبابتسامتها العذبة استقبلتهما من جديد، وعادت تعتذر لهما لوجوب مسايرة نمط العيش المتبع في المحطة. ثم أعلمتهما أن طاقم المحطة مجتمع في القاعة الكبيرة للاحتفاء بهما. وتقدمت نحو الباب فأخذا يتبعانها بحذر، فكل ما حولهما يشعّ نورا، وأحسا بعريهما وسط الأنوار المندفعة من الجدران ومن الأرض البلورية التي يتنقلان عليها حافيين. كان الممر طويلا يلتف دائريا، لم يلاحظا فيه فتحات ولا أبوابا، ولم يعترضهما أحد، ولم يسمعا أي صوت، صمت رهيب يعم المكان حتى خطاهم لم يكن لها وقع ولا صدى.
كانت تانيت تتقدمهما، تمشي برشاقة، ومن ورائها حنبعل وزوجته يمشيان بحذر وكأنهما خائفان من النور المنبعث من تحتهما، يدغدغ باطن أقدامهما. ولمّا وصلوا إلى نهاية النفق الحلزوني، انفتح لهم الجدار فجأة، مما زاد في حيرة حنبعل وزوجته، فتردد قبل أن يجتاز الجدار وراء تانيت. وفجأة وجدا نفسيهما داخل قاعة على نفس الشكل، لكنها كانت أكبر، تنتشر على جدرانها البلورية نباتات خضراء يانعة. وكان في وسط القاعة جمع من الناس نساء ورجال كلهم عراة حفاة، ورغم اختلاف ألوان بشرتهم، فقد كانوا في نفس طول القامة العملاقة، ونفس جمال الأجساد، تظهر على وجوههم تلك الابتسامة العذبة التي كانت تستقبلهما بها تانيت.
تقدم أحد الحاضرين، وقد يكون كبيرهم، من حنبعل وزوجته، ودون أن يصافحهما قال لهما بلغة تانيت، والابتسامة لم تغادر وجهه:
-مرحبا أهلا وسهلا.
ثم التفت إلى الحضور وأعلن:
-هذا إنجاز عظيم حققته زميلتنا. فالرجل الماثل أمامكم هو نسخة من أعظم الرجال الذين عرفتهم الأرض، وقد نجح دون صعوبات في التأقلم مع هذا العصر رغم مرور ألفين ومأتي سنة أرضية على وفاته. وأظن أن سبب نجاحه هذا يرجع إلى حد كبير إلى هذه الفتاة الأرضية من بلده، والتي عرفت كيف تحبه، وتعيد له حبه للحياة. فالحب، هذا القاسم المشترك الذي يمكن أن يجمعنا مع إنسان الأرض، هو أكبر قيمة يمكنها أن تجعل من الأرض جنة الخلد للإنسان. وهذه التجربة دليل راسخ على نظريتنا.
ثم التفت إلى حنبعل وزوجته، وأعلن:
-فلنشرب على نخب ضيفينا المبجلين!
وتقدم نحو طاولة كبيرة عليها كؤوس تطفح بالمشروبات المختلفة الألوان. تناول كأسين ومدّهما إلى حنبعل وزوجته.
وقبل أن يرشف حنبعل السائل، تنشق رائحته فوجدها ذكية. ذاق طعمه، ثم التفت إلى أسماء وهمس لها:
-لا يحتوي على الكحول.
التفّ حولهما الجمع، وتحدثوا إليهما بود سائلين عن أحوال الأرض، وعن مصائبها. وأجابهم حنبعل بعموميات غير دقيقة. أما أسماء فلم تنبس بكلمة، كانت مبهورة بالناس حولها. لم تر في حياتها أناسا بمثل هذه القامة وهذه الرشاقة وذلك اللطف. كانت النساء خاصة ينظرن إليها بفضول وانتباه حتى تقدمت منها إحداهن وسألتها:
-أتفهمين ما نقوله لك؟
وصلتها الترجمة، فأجابت نعم بإيماءة برأسها. فعادت تسألها:
-أأنت سعيدة مع هذا الرجل القادم من أصقاع التاريخ؟
بعد قليل من التفكير قالت:
-إني أحبه!
سألتها أخرى:
-ألا تشعرين بأنكما لا تعيشان في نفس الزمان؟
التفتت إلى السائلة فبهرها حسنها. لم تر في حياتها أجمل من ذلك الوجه! ظلّت تنظر إليها بإعجاب، ثم أجابتها:
-من خصال حنبعل أنه سريع التأقلم مع الأوضاع الجديدة، وهو شغوف بالمعرفة، ولذا أشعر أنه سيستوعب بسهولة الزمان الذي نعيش فيه.
سألت إحداهن في المجموعة:
-هل يمكننا نحن أن نعيش مع الأرضيين؟
قالت لها أسماء وقد استعادت ثقتها بنفسها، خاصة أن المجموعة تعاملها معاملة الندّ للندّ، بكل تلقائية:
-ولم لا؟ لكن عليكن أن تلبسن ثيابكن وتحافظن على شعركن.
قالت لها الفتاة ذات الوجه المليح:
-إنك جميلة بشعرك المنساب على كتفيك، مع الأسف نحن فقدنا الجينات التي تنبت الشعر!
سألتها أسماء:
-وكيف ذلك؟
-تطور الجنس وتأثير المناخ. أنتم كذلك فقدتم الشعر من أجسادكم، فالحيوان الذي منه تطورتم ما زال يحمل الشعر على جسده.
ولمّا رأتهن يتثبتن في جسدها خجلت واحمر وجهها، ووضعت تلقائيا يدها على عورتها تسترها. فدهشن لتلك الحركة. لكن تانيت أنقذت الموقف إذ أعلنت:
-لا تحرجن أسماء فهي فتاة رقيقة ومحافظة. أنتن تعرفن أن جل الأرضيين يستحين من أن ترى أجسادهم عارية.
سألت أسماء مترددة:
-أين توجد محطتكم هذه ؟
تبادلن النظر، ثم قالت لها تانيت:
-في الحقيقة وجود محطتنا سر لا نرغب في إفشائه إلى الأرضيين خوفا من تطفلهم علينا. لكنها كما قلت لك من قبل توجد على مشارف الصحراء. هل ترغبين في زيارة أجنحة المحطة؟
أومأت بالقبول، فصحبنها في جولة في أجنحة المحطة، بينما بقي حنبعل يتحدث مع رئيس المحطة القانمادية.
كان العالم القانمادي على دراية كبيرة بأوضاع الأرض والأرضيين. وقد اقتنع بعد حديثه مع حنبعل أنه يجهل تماما تلك الأوضاع. فهو ما زال يعيش بمعرفة الألفية الأولى قبل الميلاد. فأخذ يحدثه عن الجغرافيا السياسية الحالية على كوكب الأرض. وقد استعان في شرحه بالشاشة الافتراضية والخرائط المختلفة للكوكب. لكن حنبعل لم يفهم الكثير من تلك الشروح، وقد تفطن العالم القانمادي لذلك فسأل حنبعل:
-هل ما زلت تهتم بالسياسة؟
ظلّ حنبعل يفكّر، ثم أجاب:
-الذين يهتمون بالسياسة هم الفاعلون فيها، أمّا أنا فلم أعد فاعلا في شيء، أني جئت إلى عالم لا أفهمه جيدا.
-لو ساعدناك على فهم عالمك هذا فهل يمكنك أن تعود فاعلا؟
-لا يمكنني الجواب إلا بعد أن أعي ظروفي وظروف المحيط.
-سوف نعدّ لك برنامجا تثقيفيا يمكنك من الفهم الجيد للمستجدات في عالم اليوم.
صمت لحظة ثم أضاف:
-التغيير الذي حصل بين عالم اليوم وعالمك القديم هو في الشكل لا في اللب. فالإنسان بقي شرسا، احتكاريا، يقدّس القوة والعنف، ويخطط للدمار. لقد سخر الجزء الأكبر من التقدم العلمي الذي أنجزه لبلورة وسائل الدمار، وحتى التقدم الاقتصادي الذي حصل عليه كانت نتائجه وبالا على الطبيعة. عالم الأرض اليوم يا حنبعل تترقبه أخطار يمكنها أن تقضي على كامل الكوكب الجميل...
قاطعه حنبعل سائلا:
-وما هي هذه الأخطار؟
-أخطار بيئية وأخرى متأتية من ترسانة الأسلحة الفتاكة التي يتفنن الإنسان في اختراعها. تصور يا حنبعل أن إنسان اليوم الذي يدّعي التقدم ينمي الأوبئة ليحارب بها أخاه الأرضي! وأنه يفجر الذرة ليقضي على كل المخلوقات الحيّة! ويحارب التنوع الثقافي ليجعل من النموج الاقتصادي والاجتماعي السائد النموذج الأوحد على وجه الأرض من أجل الربح الآني وجشع حفنة من الميسورين!
قال حنبعل متضايقا:
-لن أفهم هذه الأشياء قبل أن تكون في حوزتي كل المعلومات التي تمكنني من صورة واضحة عن هذا العالم الغريب الذي حللت به.
أجابه العالم القانمادي منشرحا:
-سنساعدك على فهمه، وربما تتحمس لفعل شيء يغلّب كفّة المجموعات البشرية الواعية بكل هذه الأخطار والّذين بدؤوا يقاومون من أجل نمط جديد للعيش على الأرض.
عندما التفت حنبعل إلى القاعة وجدها فارغة، لم يبق فيها سوى العالم القانمادي الذي يتحدث إليه. لكن صاحبه طمأنه قائلا:
-تبحث عن أسماء؟ إنها تقوم بجولة بين أجنحة المحطة.
ثم رافقه إلى المجموعة التي كانت تتنقل مع زوجته بين أروقة المحطة وحدائقها. وبعد العشاء عاد حنبعل رفقة زوجته وتانيت إلى بيته على جناح الطبق الطائر.

























4


عندما نهض حنبعل في الصباح وجد نفسه يردد "أمريكا... أمريكا" وضع يده على جسد زوجته فالتفتت إليه مذعورة، وسألته:
-ما بك؟
-من هي أمريكا؟
-دولة عظمى. وما شأنك بها؟
صمت وظلّ شاردا. سألته:
-ما الذي ذكّرك بأمريكا؟
-لقد سمعت هذا الاسم البارحة عندما شرح لي العالم القانمادي خريطة عالم اليوم، فبقي صداه يرنّ في ذهني حتى نهضت اليوم وأنا أردده.
دفعت أسماء الغطاء وخرجت من الفراش، وتوجهت إلى الحمام، لكن حنبعل ظلّ مشغولا بأمريكا.
سأل بأعلى صوته:
-أين توجد أمريكا؟
أتاه جوابها وكأنه من قاع البئر:
-في أمريكا!
نهض مسرعا إلى الحمام. وجدها داخل الحوض وقد غطت جسدها رغوة بيضاء. جلس على مقعد صغير بدون ظهر وعاد يسأل:
-هل تعرفين أمريكا؟
-زرتها عندما كنت طالبة، لكني لم أحتفظ منها بذكريات جميلة.
-لماذا؟
-كانت الرحلة شاقة وطويلة، وكانت الأماكن متباعدة بحيث قضينا جل الوقت في السفر. كان نسق الحياة هناك سريعا جدا لم نتمكّن من مجاراته. أمريكا عالم آخر يا حنبعل!
ظل يفكّر وشقشقة ماء الحوض تملأ أذنيه. "لم تكن أمريكا موجودة في عصره. قرأ رحلات حنّون وعملقون عبر الأطلسي إلى أصقاع إفريقيا السوداء، وأروبا الشمالية وكانت تمثّل حدود العالم، ولم يتمكن أحد بعد حنّون من اكتشاف أصقاع أخرى." ثم عاد يسأل أسماء:
-لماذا لا نسافر إلى أمريكا؟
طلبت منه مناولته البشكير. تلفّفت فيه وخرجت من الحوض والماء يقطر من رجليها، ثمّ قالت له وهي تنشف شعرها:
-وهل تتصور أنك تحصل بسهولة على تأشيرة لأمريكا في هذه الأيام؟ لقد خرّب بن لادن أمريكا، ولم تعد ترغب في مجيء العرب.
ضمها إليه وهمس لها:
-لا عليك سنسافر إلى أمريكا في أقرب وقت.
قالت له منزعجة:
-لا تطلب مني أن أسعى لك في الحصول على تأشيرة، فمشقتها لا تساويها مشقة.
-سأطلب من تانيت، فهي قادرة على كل شيء.
تركته واقفا في الحمام وخرجت غاضبة معلنة:
-ربّتك تانيت قادرة على كل شيء!
ادركها بغرفة النوم وقد خلعت البشكير وظهرت فاتنة في عريها. مسح على كتفها وداعبها قائلا بصوت حنون:
-كانت تانيت ربة كل القرطاجيين، أما هذه فهي قادمة من السماء، صنعتني من جديد، لكنك أنت الوحيدة التي نفخت في روحي الحب، فأحببتك وأحببت الدنيا. تانيت ستساعدنا على السفر إلى أمريكا. أريد أن أراها، لقد قال لي العالم القانمادي إنها روما هذا العصر.
التفتت إليه وهمّت أن تسأله، لكنه غمرها واندفع يقبّل ثغرها بجموح. ثم قال لها:
-سأطلب تانيت وأعرض عليها مشكلة سفرنا إلى أمريكا.
ودون انتظار ردها، تحدث إلى تانيت:
-حنبعل يطلب تانيت!
أجابته، فطلب منها أن تساعده على السفر إلى أمريكا. قالت له أنها آتية عنده بعد غروب الشمس لتتحدث إليه حول الدروس الخاصة التي ستمكنه من فهم أعمق للحياة العصرية. التفت إلى أسماء وقال لها:
-ستكون عندنا هذه الليلة.
ولما رأى فتورها سألها:
-لماذا تغارين من امرأة لا يمكنني أن أعشقها؟ فهل تغارين من ربّة؟
جلست على السرير ترتدي ثيابها، فجلس حذوها يداعب جسدها. سألته:
-هل سيكون عندنا نقود كثيرة عندما نسافر إلى أمريكا؟
-البطاقة المغناطيسية لا تنضب حسب ما قالته لي تانيت.
قالت بالفرنسية زاهية:
- !Chic alors سأشتري أشياء كثيرة لم أكن قادرة على شرائها في رحلتي الأولى عندما كنت طالبة!
ظلّت تحلم كالبنية صباح يوم العيد. لكنه أخرجها من حلمها عندما قال لها:
-أين ذلك الصندوق العجيب الذي قرأت فيه قصة حياتي؟
-تقصد الحاسوب؟
-سميه ما شئت، أريد أن أعرف ما يحتويه من معلومات عن أمريكا.
-هل تريد الدخول إلى الإنترنت؟
-وماذا تعنين بهذه الكلمة؟
-الإنترنت هو عبارة عن مكتبة إلكترونية ضخمة مفتوحة لكل الراغبين في استقاء المعلومات أو بثها.
-جميل، افتحي لي هذه المكتبة.
ارتدت ثيابها ثمّ جلست معه في الصالون وجاءت بالحاسوب المحمول وشغلته، وابحرت في عالم الإنترنت. سألته:
-هذه مكتبة مجلس الشيوخ الأمريكي، ماذا تريد أن تأخذ منها؟
-وماذا يوجد فيها؟
بعد أن تصفحت قائمة المعلومات المتوفرة في المكتبة الإلكترونية، سألته:
-هل تريد أن تقوم بزيارة في أروقة وقاعات مبنى مجلس الشيوخ؟
-وهل هذا ممكن؟
-زيارة افتراضية بالطبع!
وقبل أن يجيب، قربت منه شاشة الحاسوب وعليها شريط من الصور لمبنى المجلس، خارجه وداخله، قاعاته المتعددة، وجلساته النشطة، رئيسه ونوابه، صور كثيرة للوثائق قديمها وحديثها. كانت الصور حية تكاد تنطق، فانبهر بها حنبعل ولم تصدق عيناه ما رأى. عندما انتهى الشريط قالت له:
-يمكنك أن تزور كل البلاد الأمريكية دون أن تغادر مكانك. هل تريد زيارة البيت الأبيض حيث يقطن رئيس أمريكا؟
-وكيف ستتنقلين إليه؟
-سأطلب موقع البيت الأبيض.
وبعد الطلب جاءتها صورة كبيرة للبيت الأبيض بحديقتها الخضراء الشاسعة. ثم صورة الرئيس بوش. قالت له أسماء:
-هذا الرجل يقولون عنه إنه أخطر رجل على الأرض.
-لماذا؟
-لأنه يهوى سفك الدماء.
-وليس له من يردعه في مجلس الشيوخ؟
-تعرف جيدا يا حنبعل أن الديمقراطية البرلمانية مبنية على التكتلات ومصالح الأغنياء. ألم يكن مجلس شيوخ قرطاج لعبة في أيدي أقلية من التجار الكبار؟
-وهل مجلس شيوخ أمريكا يرضخ إلى هاو يسفك الدماء؟
-ما دام يخدم مصالح الأغنياء.
-ولماذا ترتبط مصالح الأغنياء بسفك الدماء؟
-أوه! أوجعت رأسي بالسياسة! أنا أكره السياسة والسياسيين، فكف عن أسئلتك يا حنبعل، واترك السياسة، وفكّر في الحياة.
قال متحمسا:
-سوف أزور أمريكا!
قالت له مستغربة:
-من أجل السياسة!
أجابها حالما:
-من أجل فهم هذا العصر.
بعد أن استوعب كيفية الإبحار عبر شبكة الإنترنت، قضى حنبعل كامل اليوم متنقلا بين مسالك ومنعرجات وخفايا تلك المكتبة الإلكترونية العجيبة. وكانت أسماء تلازمه، لأن اللغة كانت عائقا كبيرا عن الإبحار بسهولة. وعند المساء قدمت تانيت كعادتها عارية، ودخلت عبر النافذة على بساطها الطائر. رحب بها حنبعل بلطف، بينما استقبلتها أسماء بفتور. هذه المرأة العارية ترفض حتى شرب الماء عندهم!قالت في نفسها:
"ما يكبر في دارو كان لقرع!"
لكنها لم تتركها ولو لحظة منفردة مع زوجها.
قالت تانيت لحنبعل قبل أن يطلب منها مساعدته على مستلزمات سفرته إلى أمريكا:
-ستدخل المدرسة الافتراضية. فقد هيأ لك عالم الشؤون البيداغوجية برنامجا يمكنك من استيعاب كل المعلومات التي ترغب فيها بسهولة ودون عناء.
سألها متلهفا:
-أين هو؟
-بالمحطة.
-وتريدين أن أسافر يوميا إلى المحطة لأتعلّم؟
-لا داعي إلى السفر. ضع هذه الخوذة على رأسك، واطلب المعلم الافتراضي، فسيحضر على الشاشة الافتراضية، ويمكنك التخاطب معه وكأنه أمامك.
وضع حنبعل الخوذة الصغيرة على رأسه، وترقب لحظة، ثم سمع في أذنه أحدا يخاطبه، ويقول له أن يختار جنس المعلم وملامحه. ظلّ حنبعل يفكّر، ثم أعلن:
-أريده أن يشبه ساليلوس.
ولم تمض بعض الدقائق حتى ظهرت أمامه شاشة كبيرة ملأت فضاء الصالون يجلس داخلها شيخ ذو لحية بيضاء، وشعر طويل أبيض، وعينين كبيرتين تتفحصانه بانتباه شديد. فزع حنبعل لرؤية ساليلوس كما عرفه قبل أن يفترقا في قرطاج منذ ألفين ومائتي سنة. بقي في ذهوله حتى أتاه صوت يشبه صوت ساليلوس يقول له:
-مرحبا بك يا قائدي العظيم. جميل أنك تعود إلى التعلم. بأي علم تريد أن تتزود؟
بعد الدهشة الشديدة التي أصابت حنبعل، همزته أسماء هامسة:
-قل له إنك تريد تعلم اللغة الإنجليزية.
استدرك حنبعل وقال:
-هل بإمكانك تعليمي لغة أهل أمريكا؟
-طيب. سأعد البرنامج، ونبدأ غدا عند الصباح الباكر. أريدك خالي الذهن، ولا أرغب في وجود أحد معك.
ثم اختفت الشاشة الافتراضية. التفت حنبعل وهو لا يصدّق ما كان يجري على الشاشة، وسأل تانيت:
-ألا تشرحين لي كيف تشتغل كل هذه الأمور المتشعبة؟
-هذه أمور بسيطة: فأنت عندما وضعت الخوذة على رأسك مكنت دماغك من الاتصال مباشرة بالحاسوب المركزي في المحطة. وبدوره قام الحاسوب المركزي بربط الاتصال بدماغك، وببيتك، وأرسل لك الشاشة الافتراضية...
قاطعها حنبعل سائلا:
-وكيف تشتغل هذه الشاشة المعلقة في الفضاء؟
-الشاشة الافتراضية متكونة من خيوط إلكترونية متنقلة عبر اللاسلكي تسمح بإنشاء عمق لالتقاط الصور الإلكترونية المبثوثة من الحاسوب المركزي عبر اللاسلكي.
-لم أفهم جيدا!
-أصغ إلي جيدا. الصورة أو الصوت الإلكتروني يمكنهما التنقل بسهولة في الفضاء عبر الأمواج الاصطناعية. تلك الصور التي رأيتها منذ حين هي في الحقيقة أمواج إلكترونية بعث بها الحاسوب المركزي من المحطة إلى قمر اصطناعي يدور حول الأرض، والذي بدوره بعثها إلى بيتك، فالتقطها جهاز صغير وضعناه على سقف بيتك، ومنه دخلت الصالون وعرضت على الشاشة الافتراضية. لكن لا عليك من فهم الآلة، استوعب المعرفة التي سيمدك بها معلمك الافتراضي.
سأل حنبعل مستغربا:
-وكيف توصلتم إلى صورة ساليلوس؟
-هي الصورة التي كان يرسمها دماغك عندما سألك الحاسوب عن جنس المعلم وشكله.
قال حنبعل مستغربا:
-هذه أشياء صعبة على فهمي!
والتفت إلى أسماء وسألها:
-هل تفهمين شروح تانيت؟
-نحن لا نستعمل الشاشة الافتراضية، فقد رأيت نوع الشاشة التي نستعمل. كما أننا عند الاتصال عن بعد بواسطة الحاسوب نستعمل خيوط الهاتف. ربما تقنياتهم متقدمة أكثر من التقنيات المستعملة الآن على الأرض.
قال حنبعل حالما:
-ما زلت أعيش في العصر الحديدي، لكن لا بأس فسوف أستوعب كل هذه الأشياء.
همزته أسماء وهمست له:
-حدثها عن سفرتك إلى أمريكا!
قالت تانيت وقد أدركت ما همست به أسماء لزوجها:
-لقد تحدثنا في الموضوع. ليس من السهل أن أترككما دون حماية، ولذا قررنا أن نوصلكما إلى حيث تريدان السفر، ونتدبر الأمور الشكلية حتى تتجنبا تعقيدات بيروقراطية النظم السياسية. قال حنبعل:
-جيد.
ثم أضاف:
-لن أسافر قبل أن أتعلم لغة البلاد.









5

ومن الغد بدأ حنبعل يتعلّم اللغة الإنجليزية بلهجتها الأمريكية. كانت طريقة التعليم حية وجذابة، فلم يجد حنبعل أية صعوبة في استيعاب اللغة ولهجتها، ومفرداتها، وطريقة النطق السليم. فالدرس عادة ما يدور في وسط افتراضي يجسد الواقع الاجتماعي، ويسمح لحنبعل بالتخاطب مع الشخصيات الافتراضية التي تعرضها عليه الشاشة. فلا أستاذ يسأل، ولا كتب تفتح، ولا تمارين مملة.
قال له ساليلوس الافتراضي من البداية إن اللغة ليست علما مجردا، بل هي ممارسة واقعية. ولذا كانت كل الدروس تدور مع أشخاص، وإن كانوا افتراضيين، ولكنهم يتفاعلون مع حنبعل، ويثيرون فضوله، يسألونه ويتحدثون إليه، ويوهمونه أنه يتنقل معهم في وسائل النقل، أو يصعدون معه المصعد، أو يحتسون معه القهوة. فينسى حنبعل حتى حقيقته، ويتحول افتراضيا إلى المجتمع الأمريكي يعيش كما يعيش أهله.
ومن درس إلى آخر تحسنت نتائجه، وأصبح يجيد النطق الأمريكي، وتسلسل الجمل، والنغمة الخاصة باللهجة. ولم ينقض شهر حتى صار حنبعل ماهرا في التخاطب بالإنجليزية، رغم أنه لم يتعلم بعد الكتابة بها. كانت الدروس مركزة على لغة التخاطب، ولم يكن حنبعل بحاجة إلى لغة الكتابة، فلم ير معلمه داعيا لشغله بمعرفة لم يكن في حاجة إليها.
وكان في الآن نفسه يتمرس بالمجتمع الأمريكي من خلال سلسلة من الأفلام الوثائقية، تشرح كل خفايا ذلك المجتمع المليء بالتناقضات. ودأب كل ليلة على الإبحار مع أسماء في عالم الإنترنت، يكتشف المواقع المختلفة، ويطّلع على الجمعيات الكثيرة التي تعمر المكتبة الإلكترونية، ويبعث بالرسائل الإلكترونية ليستفسر، أو يشتري كتبا ومجلات، أو يتحاور في شؤون يعرفها مثل التاريخ القديم، حتى توصّل إلى ربط علاقات بشبكة تعتني بهذا الموضوع. وكانت ذاكرته قد استرجعت جزءا كبيرا من معرفته للعصور القديمة، مما جذب إليه المختصين في التاريخ القديم، فأصبح موقعه منارتهم يبعثون إليه باستفساراتهم، ويبحثون معه مباشرة عن طريق الشاشة الصغيرة مواضيع كانت تؤرقهم.
وفي يوم من الأيام وصلته دعوة لحضور ندوة تقام في إحدى الجامعات الكبرى الأمريكية، فكانت فرحته عظيمة، وأعلم للتوّ تانيت التي رحبت بالفكرة، لكنها رجته ألاّ يتخذ قراره إلا بعد دراسة الموضوع من كل جوانبه. وأخيرا قرر أن يسافر مع زوجته إلى أمريكا. ولكن تانيت اعترضت على سفرهما بالطائرة. قالت له شارحة موقفها:
-أخاف عليك من طائراتهم المتخلفة.
-وما العمل؟
-سنوصلكما على متن الطبق الطائر.
تدخلت أسماء سائلة:
-حتى لو حصلنا على التأشيرة، ماذا تفعلين بإجراءات عبور الحدود؟
قالت لها بعد هنيهة من التفكير:
-سنتصرف على عين المكان.
عادت تسألها:
-وكيف سيتحصّل على جواز سفر من السلط التونسية؟
-لا عليك هذه الأمور تحلّ في أوانها.
التفت حنبعل يقول لزوجته:
-اتركي ربتي تتصرف فهي قديرة مثل الآلهة.
تمتمت أسماء داخلها:
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!"
كان الصمت سائدا بين الجميع عندما سألت تانيت حنبعل:
-لماذا تصرّ على السفر إلى أمريكا هذه؟
بعد هنيهة من التفكير قال لها:
-لقد اكتشفت وأنا أطالع تاريخ هذه الدولة ومقوماتها أن قرطاج كادت تكون مثلها لو عرف القدامى كيف يخططون بروية لتكوين دولة كبرى تمتد من قرطاج إلى إسبانيا. لو انتصرت على روما لأصبح كامل الحوض المتوسط الغربي تحت السيطرة القرطاجية، ولأمكن عندذاك أن نبني سوقا حرة تشمل كامل أجزاء البحر المتوسط دون اللجوء إلى الهيمنة السياسية، أو الحروب المدمرة التي اجتاحت المنطقة بسبب التوسع الروماني. ولأمكن نشر ثقافة مغايرة للّتي نشرتها الهيمنة الرومانية المذلة للشعوب والمستعبدة لها والناهبة لخيراتها.
قالت له تانيت مستغربة:
-لكن أمريكا هي دولة إمبريالية تستغل الشعوب، وتحارب كل من يعارض هيمنتها، وهي فوق كل ذلك تهدد الأرض بالفناء من جراء ترسانتها من أسلحة الدمار الشامل، وتلويثها الخطير للبيئة. أنسيت هذا يا حنبعل أو انطلت عليك الدعاية الأمريكية التي يروج لها في كل وسائل الإعلام حتى الإنترنت؟
أجاب بهدوء:
-لست غبيا. إني أفهم جيدا أمور السياسة. لكن بذور الخير في المجتمع الأمريكي جلية لكل من يريد أن يرى بموضوعية. لقد اتصلت عبر الإنترنت بجمعيات أمريكية تناضل من أجل حماية البيئة، وأخرى تندد بأسلحة الدمار الشامل الأمريكية. ويوجد كذلك سياسيون أمريكيون يعارضون الهيمنة والإمبريالية وكل أنواع التسلط التي تفرضها سياسات الشركات الكبرى. المجتمع الأمريكي يعيش تناقضات كبيرة، فهمتها جيدا، وأرغب في رؤيتها عن كثب. ولذلك أريد السفر إلى أمريكا.
-عندما نهيئ كل مستلزمات السفر سوف يحملكما الطبق الطائر إلى أمريكا.
ظلّت تنظر إليه مبتسمة، ثم سألته:
-في أي مدينة من مدن أمريكا تريد النزول؟
أسرع يجيب:
-في نيويورك.
-ولماذا هذه المدينة بالذات؟
-لأن اسمها وحتى موقعها يشبه قرط حدشت. أليس كذلك؟
-أنت أدرى مني بهذه الأمور. لكن لا تحلم كثيرا، فأمريكا ليست قرطاج!
ثم غادرتهما من النافذة كالعادة على بساطها الطائر.
خرج حنبعل مع أسماء للعشاء في مطعم فاخر من مطاعم الحمامات الكثيرة، وسهرا إلى ساعة متأخرة من الليل في أحد النزل الفخمة التي تعج بها الحمامات، ثم عادا إلى بيتهما سعيدين. لكن حالما دخلا البيت قال حنبعل لزوجته راجيا:
-افتحي ذلك الصندوق العجيب!
-الساعة متأخرة، اترك ذلك إلى الغد.
أصبح حنبعل مدمنا على الإنترنت، لا يحلو له نوم إلا عندما يقوم بجولة ولو سريعة بين مختلف المواقع التي اعتاد الإبحار إليها. فأسرع إلى المكتب يشغّل الحاسوب، ويدخل عالم الإنترنت. وأول ما سعى إليه هو بريده الإلكتروني. فوجد قائمة من الرسائل المختلفة، والإعلانات الإشهارية، والمقالات الصحفية للجمعيات الكثيرة التي لا تجد إلا الإنترنت وسيلة للتعريف بمواقفها. تصفح البريد بسرعة، وتوقف عند رسالة من إحدى الجامعات الأمريكية المتخصصة في الأبحاث في علوم الإنسان. قرأ الرسالة، ثم نادى على أسماء، وقال لها مزهوا:
-سنكون في ضيافة جامعة نيويورك، فقد أعلموني أنهم سيبعثون لنا تذاكر السفر، وسيتدخلون لدى سفارتهم في تونس لتسهيل الإجراءات، وسيكونون في استقبالنا في المطار عند حلول طائرتنا.
قالت له متحمسة:
-هكذا تستغني عن تانيت!
التفت إليها ضاحكا وسألها:
-لماذا تريدين الاستغناء عنها؟ ألم تكن وراء كل ما ننعم به من خيرات؟
همست له:
-لا أريد أن يشاركني في حبك أحد!
قبّلها قبلة طويلة، ثم قال لها:
-دعيك من هذه الوساوس. هيئي نفسك للسفر. فسأجيبهم أننا سنكون في نيويورك عمّا قريب.
-قبل أن تجيب استشر تانيتك!
أسرع يطلب تانيت ويعلمها برسالة الجامعة وبقراره السفر في أقرب وقت. أجابته أنها ستدرس المسألة وستتصل به لاحقا. وقبل السفر بيوم واحد رحل حنبعل وزوجته إلى المحطة القانمادية على مشارف الصحراء، وبعد أن ناولته تانيت جوازي سفرهما، مع تأشيرة السفارة الأمريكية، وحتى تأشيرة الدخول من مطار نيويورك، وبالحجز في نزل فخم في قلب المدينة، وببعض النقود الأمريكية، استقلا بمفردهما الطبق الطائر الذي حط بهما في غضون دقائق بالحديقة المركزية لمدينة نيويورك.
كان المكان الذي حط به الطبق الطائر بعيدا عن كل حركة. وقبل أن يغادرا الطبق وصلهما صوت تانيت تهنئهما بسلامة الوصول، وتشدد على احترام التوصيات التي أمدتهما بها قبل رحيلهما، كما أكدت لهما أنهما في حماية الروبوات المجهرية من أي اعتداء يمكن أن يحصل لهما.
نزلا من الطبق، وسرعان ما اختفى تاركا شرارة صغيرة في السماء الحالكة. ظلآ فترة من الزمن في دهشة، ينظران في كل الاتجاهات، ثم تقدم حنبعل ببطء على العشب الطري المبلل، وبجانبه أسماء متشبثة بذراعه، غير واثقة بأنها فعلا وصلت إلى أمريكا.
كان حنبعل يلبس كسوة داكنة وربطة عنق، وعلى رأسه قبعة إفرنجية، ويحمل في يده معطفا صوفيا، ومحفظة جلدية. أما أسماء فكانت ترتدي فستانا فاخرا، ومعطفا من الجلد البني، وحذاء ذا كعب عال، وحقيبة سوداء تلمع تحت أنوار الفوانيس الباهتة، في ذلك الركن المنعزل من الحديقة الشاسعة الغناء. لم يكن زيهما ليلفت انتباه أحد في خضم ذلك التنوع من البشر الذين يملؤون شوارع المدينة الضخمة.
عندما بلغا طريقا ضيقة معبدة، توقفا، وأخذ حنبعل من جيب سترته خريطة صغيرة، ثمّ اقترب من الفانوس وتفحصها جيدا، ثم أمسك بيد أسماء واندفع يمشي بكل ثقة في الممر الضيق الطويل حتى وصلا إلى ساحة كبيرة يتصدرها حوض تتعالى داخله دفقات الماء تنيرها الأضواء. عاد حنبعل يتصفح الخريطة فقرأ "نبع بولتزار". نظرا في كل الجهات حتى عثرا على لافتة تدل على اسم النبع فتأكدا من صحة الاتجاه. دارا بالحوض حتى ظهر لهما من بعيد الباب الحديدي العريض الخارجي للحديقة. توجها نحوه، وعندما تخطياه استقلا تاكسي للذهاب إلى نزل فخم يدعى "بلازا هوتيل". وبعد أن دفع حنبعل أجرة سائق التاكسي، نزل مع زوجته، ودخلا النزل وكأنهما يعرفانه منذ زمان. تقدما إلى الاستقبال، وقدّم حنبعل الفاكس إلى العون، وبعد أن تثبت في أحد القوائم، نادى على الخادم، وناوله مفتاح الجناح الذي حجزته لهما تانيت.
دخلا المصعد يتبعان الخادم، وما إن أغلق حنبعل باب الجناح وراءه حتى التفّ حول أسماء يعانقها، ويهمس لها:
-أحسست بك خائفة ترتجفين طيلة السفرة، وأثناء اختراقنا للحديقة.
همست وهي تداعب شحمة أذنه:
-لم أصدق أن ما حصل كان واقعا!
خطا بها حتى السرير واستلقيا ينظران إلى السقف العالي المزركش بالنحت الجميل. قال لها حنبعل:
-لم أعد أستغرب أي شيء.
عادت تتساءل:
-هل يمكن أن نقطع كل تلك المسافة في غضون دقائق؟
التفتت إلى حنبعل تنظر إليه وتقول حالمة:
-عندما سافرت إلى أمريكا منذ سنوات، قضيت في السفر أكثر من ثماني ساعات. ركبنا طائرة حتى مطار روما. وهناك ترقبا أكثر من ساعتين حتى أقلتنا طائرة أخرى إلى تورنتو. ثم بعد أن قضينا الليلة بكندا امتطينا الحافلة. كانت رحلة شاقة إلى أقصى الحدود. أما هذه فلم أسترجع أثناءها أنفاسي حتى وجدتني في الحديقة المركزية. ألا ترى أنه شيء لا يصدق؟
قال لها مستغربا:
-وتسألينني أنا الآتي من العصر الحديدي؟ لقد تعودت على السرعة. فما الفرق بين آلة تطير بسرعة الصوت وأخرى بسرعة تقترب من سرعة الضوء. إنه التقدم العلمي. سكان الأرض الحاليون متأخرون عن سكان قانماد، كما شعرت أنا بالتأخر عنكم، في ميادين علمية كثيرة.
صمتت أسماء ثم تساءلت:
-لم أفهم كيف تحصلت تانيتك على التأشيرة من السفارة الأمريكية بتونس، ثم على خاتم الجمارك لمطار نيويورك؟
-أظن إنها استعانت بالروبوات المتطورة التي يمكنها دخول أي مكان دون أن يتفطن لوجودها البشر. عالمكم غريب، ولكن عالمهم أغرب!
قالت له أسماء منشرحة:
-دعنا من هذه الأشياء المحيرة، ولنغتنم حاضرنا، منهاتن هي أم اللهو في الدنيا. سننزل حالا نتجول بين شوارعها.
-وهل تعرفينها جيدا؟
-لا عليك. عندما نشعر بالإرهاق أو بالضياع نأخذ تاكسي تعيدنا إلى النزل.
ودون انتظار أمسكت بيده وجرته وراءها خارج النزل إلى الشوارع المتأججة بالأنوار في بلاد اللهو والمجون.









6

عندما عادا إلى النزل في ساعة متأخرة من الليل وقد أخذ منهما الإرهاق مأخذا، بعد جولة بين الشوارع المكتظة بالسياح والأضواء والضجيج والمغازات المفتوحة كامل الليل تعرض كل أنواع السلع، وبمختلف قاعات العرض لأنواع متعددة من فنون الفرجة، وقد أكلا وشربا، واشتريا ملابس وتحفا، وتفرجا على عروض موسيقية مختلفة، وشاهدا أنواعا من عروض الجنس المبتذلة، قال حنبعل لأسماء مستغربا:
-لماذا كل هذا الجنون؟
قالت له في انشراح:
-الحياة قصيرة، والزمن سريع، والناس يخافون الموت المترصد في كل لحظة. ألم تشعر أننا عشنا في غضون ساعات أعواما كاملة؟
-لن أفهم عصركم!
-ولماذا تريد فهمه؟ عشه وكفى! تمتع بالحياة كما جاءتك ولا تتفلسف كثيرا، فأنت محمي من كثير من أخطار هذا الزمان.
-لكني إنسان، والإنسان الخالي من الحيرة يصير آلة أو حيوانا.
تركته واندفعت إلى الحمام. ظل واقفا أمام النافذة ينظر إلى الشارع، حيث بدا فيه الناس كالدمى وهو في أعالي العمارة الشاهقة. نظر إلى الأفق المفعم بالأنوار، تتعاقب فيه اللافتات الإشهارية المنارة بألوان زاهية، فشعر أنه يحلق وتتنقل به الغرفة، فأحس بالدوار، وابتعد عن النافذة ليرتمي على السرير، ويغمض عينيه وكأنه يهرب من هذا العالم العجيب. حتى عندما خرجت زوجته من الحمام ملفوفة بالبشكير، لم يفتح عينيه. سألته مستغربة:
-أتنام ببدلتك؟
فتح عينيه ونظر إليها وقد تعرت تماما، ثم انهمكت تبحث في حقيبتها عن صندوق صغير أخرجته، واقتربت منه، وفتحت الصندوق عارضة له خاتما جميلا من الألماس، وسألته:
-هل أعجبك؟
انتزعه من الصندوق وألبسه إياها، وقال لها:
-لماذا الألماس؟
-لأنه صاف كقلبك يا حنبعل!
ثم ارتمت عليه تقبّله بجموح، وتهمس إليه:
-هذه هي السعادة يا حبيبي!
كان عبق جسدها منعشا، فظلّ فترة من الزمن غامسا وجهه بين نهديها، في نشوة واسترخاء، حتى سمعها تقول مستغربة:
-ألم يعجبك خاتمي!
قال حالما:
-سأختار لك آخر يتماشى مع ذوقي.
عندما اندسّت داخل الفراش بجانبه، قالت له:
-لقد اشتريت فستانا سكري اللون في تناسق مع لون الخاتم لأخرج به غدا عندما تكون بالجامعة.
-وهل ستتركينني وحدي مع أناس لا أعرفهم؟
-لقد طلقت الجامعة منذ زمان ولا أرغب في العودة إليها. ثم إنك ستخاطبهم في الهاتف ليأتوا إلى النزل يستقبلونك. أليس أفضل لك ولي؟
كان حنبعل في حيرة، فقد أخافته هذه البلاد الكثيرة الحركة، وجدها أكثر جنونا من كل الأماكن التي عرفها. فسأل أسماء:
-ومتى نلتقي إذن؟
بعد هنيهة من التفكير قالت له:
-لا بد أن تقتني هاتفا محمولا. غدا اشتري لك الهاتف وأدربك على استعماله. وهكذا يمكننا أن نتصل ببعضنا عن بعد في أي لحظة نشاء.
نام حنبعل ليلته مضطربا. فقد شعر أنه انتقل إلى عالم آخر مغايرا للعالم الجديد الذي قضى زمنا ليتأقلم معه. ولم يغف قليلا حتى أفاق على كابوس أقضّ مضجعه، وجعله يصرخ بدون أن يسمع لصراخه صوتا. جلس على الفراش والعرق يتصبب منه، فنهضت أسماء والتفتت إليه تسأله عن سبب اضطرابه.
قال لها وهو حاني الرأس، وصور الحلم ما زالت عالقة بمخيلته:
-كان الحلم مريعا، لم أشعر بالخوف في حياتي كما كنت في ذلك الحلم.
بعد صمت طويل طلبت منه:
-قص عليّ حلمك وسوف تتخلص من رواسبه.
رفع نحوها بصره ثم سألها:
-هل تعرفين تفسير الأحلام؟
-قص عليّ الحلم وسوف نناقش رموزه!
-عند بداية الحلم كنت في مدينة قرطاجنة بإسبانيا مقيما في الريف في ضيعة صغيرة كانت على ملكي، أربي فيها الخيل وبعض الأبقار. كنت أتجوّل بمفردي بين البراري الزاهية، وكان الفصل ربيعا، والطبيعة غناء، والطيور تغرد، والشمس تشع بنور فياض. وعندما رجعت إلى البيت الريفي الصغير لأستريح قليلا قبل العودة إلى قرطاجنة، وبينما كنت داخل بهو البيت، وهو عبارة عن ساحة دائرية مبلطة بالحجارة الملساء، إذا بثور هائج يخترق الباب بعنف ويقف وراءه. التفتت إليه مستغربا، فراعني المشهد.
كان الثور غريب الشكل، فالرأس رأس ثور عات ومرعب، والجسد جسد امرأة جميلة فاتنة. بقيت مشدوها أمام ذلك الحيوان الغريب، ولم أدر ما يمكنني فعله. كان موجها بصره إليّ يتفحصني بدقة، يقف كالإنسان على رجليه العاريتين. وكنت في البداية خائفا، ثم لمّا لم تصدر منه أية حركة، طفقت أتسلى بشكله الغريب وقد شدّ انتباهي فتنة الجسد. فقد كان متناسق الأعضاء: نهداه كاعبان، وبطنه مدور، وفخذاه مجدولان. لكن عندما رفعت بصري إلى الرأس أحسست بقشعريرة تخترق كامل جسدي. كان في عدوانيته مخيفا، له عينان محمرتان يتطاير منهما الشرر، وأنف غليظ ينساب منه شيء كريه كالمخاط، وفم لاهث يخرج منه بخار كالدخان.
كان التناقض بين الرأس والجسد بيّنا، أشعرني بالحيرة والضياع، لكنني بدون أن أفكر تقدمت خطوات نحوه، فما كان منه إلا أن اندفع نحوي بسرعة لم تترك لي المجال للهرب، فتسمرت في مكاني حتى أدركني، ووجه نحوي قرنيه المذببين، وبكل ما أوتي من قوة هجم علي يغرز قرنيه في جسدي. أخذت أصرخ بأعلى صوتي مستغيثا حتى أفقت مذعورا والعرق يتصبب من كامل جسدي.
صمت حنبعل وطفق يتمتم:
"سينزلان ببلدك الخراب، ويزيلان طعام فمك، وملابس جسدك، وعبق عطرك."
سألته أسماء:
-هل كنت تصلي؟
-كنت أرتل.
-وماذا يقول ترتيلك؟
كان الكهنة يقولون أن الإله ملقرط والآلهة عشترت لن يرحما من خالف عبادتهما.
-وما دخل هذه التعاويذ في حلمك؟
-كان الثور يرمز إلى ملقرت وعشترت مزدوجين، أتيا لينتقما مني، ويذكراني بمسؤوليتي في اندثار قرطاج.
-هذا تفسيرك أنت للحلم، أما أنا فأرى شيئا آخر.
-وما هو؟
-أرى أن الثور هو تانيتك العارية أبدا أتت في منامك لتذكرك بأنه عليك غض النظر عن جسدها الفتان.
احتضنها حنبعل مقبلا، ثم نهض إلى الحمام مرددا بأعلى صوته:
-ربما يكون الثور رمزا لأمريكا تستقبلني بالفتنة والعدوانية في الآن نفسه!
قالت له وهو يدخل الحمام:
-أنت حيوان سياسي يا حنبعل، لا يمكنك التخلي عنها حتى في تفسيرك لأحلامك.
ولمّا رجع من الحمام، عاد إلى عبق جسد زوجته، وإلى لذة الحب ينهل منها، وإلى نوم عميق دون كابوس ولا أحلام مزعجة. وعند الصباح، وبعد أن تناولا الفطور في المطعم الفخم، خرجا يتفسحان في الشوارع القريبة من النزل؛ فانبهر حنبعل بالحركة الدؤوب التي كانت تملأ تلك الشوارع. سأل أسماء:
-ألا تنتهي الحركة من هذه الشوارع؟
-تلك هي نيويورك: حركة ليل ونهار.
ثم اقتنت له هاتفا محمولا، وتوجهت معه إلى الحديقة المركزية التي لم تكن تبعد عن النزل إلا ببعض الأمتار. انزويا في أحد أركانها، وأخذت تدربه على استعمال تلك الآلة الصغيرة. وكم شغف بها وكأنه طفل يكتشف لعبة. لم يتوقف عن الضغط على ملامس الأرقام، وعندما يرنّ الجرس في آلة أسماء يأخذ في الضحك كالمعتوه، ثم يقول بالإنجليزية وبوقار:
-ألو أسماء! هنا حنبعل.
فتعيد عليه أسماء:
-ألو حنبعل! هنا أسماء.
كان بوده أن يفتح آلة الهاتف ليتأكد من خلوها من الجن. قال لأسماء مازحا:
-أشعر برغبة في أن أفتح كل هذه الآلات العجيبة التي تسكن عالمكم وأتأكد أنها غير مسكونة بالجن.
سألته مترددة:
-هل تعتقد حقا في الجن؟
أجاب بكل جدية:
-لولاه لما تمكنت الآلهة من ممارسة نفوذها.
عادت تسأله باستغراب أكثر:
-وهل ما زلت تعتقد في آلهتك رغم نهايتها منذ قرون؟
-عندما تفنى الآلهة لا بد أن تعود في شكل آخر ولو بعد مئات السنين، هكذا عالم الإنسان وسيبقى ولو اخترع أذكى الآلات!
وواصلا تجوالهما في الشوارع القريبة من النزل. كان كل شيء يجلب انتباه حنبعل، فقد افتتن بهذه المدينة الدؤوب، وارتاح لأهلها النشطين المرحين لا يبدو على وجوههم تبرم ولا استغراب. شعر أنه مواطن من مواطني نيويورك، لا يميزه عن بقية السكان شيء.
قال لأسماء وهما يعودان إلى النزل راجلين بعد أن أنهكهما التجوال:
-هذه المدينة تذكرني بقرطاج إبان عزها. لم تكن بها البنايات تناطح السحاب كما هو الشأن هنا، ولكنها كانت تعج بالحركة، وبالتنوع، وبالأجناس المختلفة التي كانت تأتيها من الشرق ومن الغرب. ولم يكن الأجنبي في قرطاج يشعر بالرفض أو بالغربة.
أجابته أسماء معاتبة:
-ألا تستطيع أن تنسى الماضي! هذه نيويورك أرقى مدينة في القرن الحادي والعشرين تقارنها بقرطاج المدينة الخارجة من العصر الحديدي!
لم يقل شيئا، ظل صامتا حتى وصلا النزل، لكنه قبل أن يتخطى العتبة قال لأسماء بصوت خافت:
-سأطلب من تانيت أن تتجول بي في نيويورك على متن طبقها الشفاف، هكذا أكتشف جيدا هذه المدينة الساحرة.
قالت له بحنق دون أن ترفع صوتها:
-هل جننت؟ لست في قرطاج حتى تتجول في السماء دون أن تلتقطك رداراتهم. خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر!
وبعد إلحاح شديد رضخ حنبعل لإرادة زوجته، وعدل عن رغبته في التحليق في سماء نيويورك.








7

كان حنبعل يجلس مع بقية المحاضرين على المسطبة قبالة جمهور غفير من الطلبة والمدعوين. وقد أشرفت الحصة الأولى للمحاضرات على نهايتها عندما جاء دوره لإلقاء محاضرته عن الحروب البونية. كان ذلك موضوع الندوة التي نظمتها جامعة نيويورك. عندما أسندت له الكلمة، ارتبك في البداية لكنه سرعان ما تماسك وانطلق يلقي محاضرته تلقائيا دون مدونة ولا كتاب. سأل في البداية بإلحاح:
-لماذا هذا العنوان: "الحروب البونية"؟
ثم خلص إلى الجواب، وأعلن بكل ثقة في النفس:
"هذه التسمية مرفوضة جملة وتفصيلا، فهي تدل على شيء واحد وهو التجني على التاريخ. فإننا نفهم من هذا العنوان أن البونيين هم الذين قاموا بهذه الحروب، في الوقت الذي يعلم فيه كل المؤرخين النزهاء أن تلك الحروب فرضت على البونيين من قبل الرومان." ثم أخذ يستدل بتواريخ تلك الحروب، مؤكدا أنه في كل بداية حرب بين روما وقرطاج كانت روما هي البادئة، وهي القوة التي تعلن الحرب، وتنقض المعاهدات، ولا تستجيب للسلام إلا بعد أن تصل إلى تحقيق أهداف رسمتها مسبقا. فأثناء الحرب الأولى كانت روما قد نقضت معاهدة التحالف والسلام التي أمضتها في الماضي مع قرطاج، واستولت على جزء كبير من أراضي صقلية التي كانت تحت النفوذ البوني. ثم قبل الحرب الثانية تدخلت روما مباشرة في مدينة ساغانتوم لتغلّب الشق المناهض لقرطاج ضد الساغنتيين المتحالفين مع البونيين. ولم يكفها ذلك فقد أعلن نواب مجلس شيوخ روما، الذين قدموا إلى قرطاج للتفاوض في خصوص الوجود البوني بإسبانيا، الحرب على قرطاج في عقر دارها. وكان إعلان الحرب الثالثة دليلا على نوايا روما العدوانية إزاء قرطاج.
لم يكن حنبعل يقرأ ورقة، أو يسرد نصا، بل كان يتحدث إلى القاعة بهدوء، يطرح السؤال ثم يجيب عليه محللا جوانبه مستدلا بالتواريخ، وبالوقائع، وبالشخصيات المشاركة في صنع تلك الأحداث. وقد كان مقنعا، فجلب إليه انتباه الجميع، رغم معرفته المحدودة باللغة الإنجليزية. وقبل أن ينهي محاضرته طرح سؤالا على القاعة مباشرة:
-هل منكم من يعرف حقيقة الصراع بين روما وقرطاج؟
ترقب لحظة وهو ينظر في وجوه الحاضرين، ثم قال بهدوء:
"إن الصراع بين روما وقرطاج هو صراع حضاري. لم يكن صراعا بين الخير والشر، ولا بين الشرق والغرب، ولا بين قوتين متنافستين في الهيمنة على شعوب البحر الأبيض المتوسط. بل كان صراعا بين نمطين مختلفين من الحكم، بين فكرين متناقضين، بين نظرتين متعاكستين للعالم.
بني نظام الحكم في روما على القبلية، ثم تحالف القبائل، فتحالف المدن. وعندما تحولت روما إلى جمهورية حافظت على النمط التحالفي للمجموعات القبلية. ولا بد أنكم لاحظتم أن روما بمجرد أن اندثر النظام الديمقراطي من العالم مع اندثار قرطاج، تحولت إلى إمبراطورية، وتحول نمط الحكم فيها إلى ملكية كسائر دول العالم في تلك الفترة من تاريخ البشرية.
في حين كان نظام الحكم في قرطاج مبنيا منذ بدايته على الفرد. كانت قرطاج مدينة تجمع أفرادا تآلفوا، ورحلوا هربا من قمع ملك، ثم أسسوا مدينة يحكمها كبار القوم، والحكماء، ورجال الدين. لم تعرف قرطاج منذ تأسيسها النظام القبلي، وإن حكمتها في بعض الفترات عائلات فاعلة. ولم يعرف نظام الحكم في قرطاج الملكية، ولا حكم طاغية ولا حتى النظام العسكري. وتعرفون أن دواليب دولة قرطاج، رغم كل الثغرات التي كانت تعوق تطورها، كانت ديمقراطية، وكان المشرفون على الحكم ممثلين لجل فيئات المجتمع، ويقع تعيينهم من طرف الهيئات الشعبية الممثلة للفئات الاجتماعية.
كان نظام الحكم في روما مبنيا على التوسع الإقليمي، والهيمنة العسكرية. بينما كانت قرطاج تسعى إلى بسط نفوذها عبر مستوطنات يحكمها التوسع التجاري والاقتصادي. وكانت روما قوة عسكرية وطنية، بينما لم يكن لقرطاج سوى جيش مرتزق يؤمّن مناعة الأسطول التجاري وحماية المستوطنات الاقتصادية. وكان هذا النمط الدفاعي القرطاجي رغم هشاشته يعزى إلى نفور القرطاجيين من الحروب، والغزوات، ورغبتهم في التنمية والرخاء، فلجؤوا إلى صيغة الجيش المحترف، وأوكلوا حمايتهم إلى النواة الوطنية لهذا الجيش، فجل قادة الجيش البوني وضباطه كانوا قرطاجيين، وعادة ما كانوا يمارسون السياسة والشؤون العامة، متشبعين بالروح الوطنية.
كانت العقلية السائدة عند البونيين هي عقلية التاجر الذي يبحث عن توسيع تجارته، في حين كانت عقلية الروماني عقلية الإقطاعي الذي يسعى لبسط نفوذه من خلال التوسع والهيمنة. كان البوني يطلب معرفة الآخر ليصل إلى التبادل معه، بينما كان الروماني يسعى إلى فرض وجوده على الآخر ليهيمن عليه. كانت قرطاج تسعى إلى جعل العالم سوقا كبيرة تضمن لها التنمية المستديمة. وفي المقابل كانت روما ترى في العالم إمبراطورية عظمى تحت هيمنتها.
هذا الاختلاف الجوهري بين عقليتين في تناقض تام جعل صراعهما حتمية تاريخية. وقد حسم الصراع في آخير الأمر لصالح من اختار الهيمنة العسكرية للتعبير عن وجوده. لكن هل تكمن إنسانية الإنسان في الهيمنة أم في التسامح؟
انطلق التصفيق حارا في القاعة عندما توقف حنبعل عن إلقاء محاضرته. وعندما عاد الهدوء للقاعة، التفت إليه رئيس الجلسة وسأله مبتسما:
-وما هو جواب أستاذنا حنبعل عن سؤاله الخطير؟
بعد فترة من الصمت، كانت فيه أعين كل الحاضرين متجهة إلى حنبعل أجاب:
-إنه لمن البديهي أن يكون التسامح أقرب إلى الإنسانية. لكن واقع الإنسان سواء كان في الماضي أو حتى في الحاضر يغلّب نزعة الهيمنة على التسامح. تصوروا أيها السيدات والسادة أن حنبعل انتصر في حربه على روما دون أن يحرقها كما فعلت هي بقرطاج. هل كانت قرطاج تفرض هيمنتها على حوض البحر المتوسط كما فعلت روما؟ هل كانت قرطاج تعمم نمط الحكم الإقطاعي كما فعلت روما؟ هل يصبح حنبعل الإسكندر الثاني ويجتاح الشرق والغرب كما فعل الإسكندر العظيم؟
إنه لمن العبث الجواب على مثل هذه الأسئلة، فالعوامل التاريخية تستجيب إلى قوانين نظرية الخواء. فعندما يتغير جزء ولو تافه في مسار التاريخ، ينجر عنه مسار مغاير تماما للمسار الذي اتجه إليه الخط الدائري للزمان. لكن لو أردنا أن ندخل عالم الافتراض ونتصور كيف يمكن أن يكون التاريخ إذا انحرف ولو قليلا عن مساره، فلا بد لنا من معطيات لنبني عليها تصورنا.
لم يكن حنبعل ملكا، ولا حتى حاكما. كان قائدا للحملة البونية على روما. وهذا الاختلاف جوهري لقارنته بالإسكندر العظيم. كان البونيون يراقبون جيدا تصرف قادة جيوشهم، ويحاسبونهم على كل أفعالهم، تحاشيا للانقلابات العسكرية، وخوفا من تطور الحكم نحو النزعة الفردية الملكية. وربما لهذه العوامل لم يكن ممكنا لحنبعل أن يكون الإسكندر المقدوني الثاني.
كانت تسوس قرطاج قوانين وهيئات ديمقراطية، وذلك بشهادة الفيلسوف أرسطو، فهي لا تسمح لأي كان بأن ينفرد بالحكم، أو أن يفرض نوعا من الحكم على الشعوب التي تتعامل معها قرطاج مباشرة مثل شعوب شمال إفريقيا أو الشعوب الإسبانية. لم يكن يخطر ببال القرطاجيين تصدير نمط حكمهم للآخرين، ولذلك لم يكن من مصلحة قرطاج أن تهيمن سياسيا أو عسكريا على الشعوب التي كان لها عليها نفوذ، فأنتم تعلمون أن البونيين لم يشكلوا جيشا وطنيا يمكنهم من احتلال الآخرين وإخضاعهم لحكمهم. ولهذا كله لو انتصر حنبعل لساد العالم نوع جديد من العلاقات الدولية التي كان بإمكانها توجيه التطور البشري إلى وجهة غير التي عرفها.
كان النمط الاقتصادي لدولة قرطاج مبنيا على التبادل التجاري بين كل الشعوب التي يصلها الأسطول التجاري البوني، وقد سمح ذلك النمط بالرخاء للبونيين ولكافة الشعوب التي كانت تدور في فلكهم. لأن التبادل التجاري يدفع بتلك الشعوب إلى توفير المزيد من السلع لاقتناء المزيد من الخيرات الوافدة مع البونيين، وهو نوع من الحركية الاقتصادية تنمي باستمرار تطور المجتمعات، وتسمح لها بالانفتاح على العالم الخارجي. وهذا المنهج الاقتصادي البوني لا يمكنه أن يعيش في ظل الهيمنة الإقطاعية، وفرض الاحتلال، وقهر الشعوب. لو نجحت قرطاج في نشر ثقافتها لكان تاريخ الإنسانية مغايرا تماما لما هو عليه اليوم. أليس كذلك أيتها السيدات والسادة؟
كان حنبعل بنظرته الثاقبة البراقة، وبنبرات صوته الهادئة، وبحركاته المتزنة المعبرة قد بهر القاعة، فصفّق له الحضور طويلا، قبل أن يعلن رئيس الجلسة توقف الحصة الصباحية للندوة.
عندما رجع حنبعل في المساء إلى النزل ووجد أسماء في انتظاره، كان منتشيا وكأنه عائد من معركة كانة. لقد شعر أنه حقق إنجازا كبيرا عندما اقنع الجميع أنه كان لقرطاج حضارة راقية، تفوق بكثير حضارة الرومان. كانت ذاكرته قد استرجعت كل مقوماتها، وكان يستشهد بواقع عاشه، أو سمع عنه ممن عاصروه، فكانت حججه مقنعة. ولقد ساور بعضهم الشك في شخصية هذا الرجل الذي كانوا يرون فيه العربي المتخلف الذي لا يحذق العلوم الدقيقة، ويغلّب المبالغة على الموضوعية العلمية.
ولمّا سألته أسماء عن نتائج مشاركته في الندوة قال لها:
-لقد أصبحت بين عشية وضحاها دكتورا في التاريخ القرطاجي. لقد كان الجميع يناديني الدكتور حنبعل.
سألته أسماء بسذاجة:
-وهل منحوك شهادة الدكتوراه؟
ضحك ضحكة عالية وقال لها:
-وما حاجتي إليها؟ لقد تحصلت على نسخة صوتية من محاضرتي.
أمدّها بالقرص، فأسرعت إلى الحاسوب تشغله، وجلسا يصغيان إلى المحاضرة. وعندما انتهت، قال حنبعل متحمسا:
-سأطلب من تانيت أن تنشر هذه المحاضرة في كل أنحاء العالم لكي يقتنع الجميع أن روما أبادت حضارة عظيمة، وأن جريمتها لا يمكن أن تغفرها لها الإنسانية قاطبة.
سألت أسماء مرتابة:
-وكيف؟
-ستنشرها عبر الإنترنت إلى كل من له بريد إلكتروني. قالت لي إن الأمر في منتهى البساطة.
-وما الداعي لكل هذه الضوضاء؟
-حبيبتي! إن حربي على روما لم تنته، ولن تنتهي إلا بانتصار السلام في العالم الإنساني. ألم تري أن أمريكا اليوم تسير في نفس الخطى التي سارت عليها روما من قبل؟ وستقع في نفس الهفوات، وربما تؤدي بالإنسانية إلى كوارث أكبر.
-دع عنك هذه الأفكار! تمتع بالحياة، فلن تغير من مسار التاريخ مهما فعلت تانيتك!
قال حالما وكأنه لم يسمع ما كانت تدعوه إليه:
-سأستغل الوسائل الحديثة للاتصال لأعبئ العالم ضد الحرب، وضد الهيمنة، وضد عنجهية الحكام!
-وهل تتصور أنهم سيتركونك تفعل دون أن يتصدوا لك؟
نهض ورفع يده وكأنه يحمل السيف وقال:
-فليتصدوا!
قالت ضاحكة:
-ستكون دنكشوط العصر الحديث!
لم يفهم حنبعل التشبيه، فسألها:
-أليست أمريكا دولة ديمقراطية؟
قالت له هازئة:
-أو تتصور أنك ستؤثر على الرأي العام الأمريكي الذي تستحوذ عليه اللوبيات المختلفة؟!
عاد يسأل:
-من يصنع القرار في دولة أمريكا؟
أجابت بفتور:
-نفس الهيئات التي كانت تصنع القرار في دولة قرطاج.
قال مستنكرا:
-أي أصحاب المصالح المالية الكبار، والمتمعشون من نفوذ الدولة، وسماسرة السياسة.
ارتمى على السرير وأغمض عينيه يفكّر. جلست قربه تنظر إلى وجهه المشرق، ثم انحنت عليه تمسح على جبينه حتى فتح عينيه. أخذت رأسه بين يديها واقتربت منه تقبله بتروّ حتى أحست أنه لم يعد يشغله عن الحب شيئ.
وبعد أن خلصا من متعة الحب وارتويا من شرابه العذب، غادرا الجناح، وغطسا في أنوار المدينة ناشدين الهروب من عالم التفكير وشجونه.



















 8

عاد حنبعل مع زوجته إلى عشهما بالحمامات بعد أن قضيا شهرا يتجولان بين مدن أمريكا المختلفة. لقد أخذت نظرة حنبعل للعصر تتضح بعد تلك الزيارة. فرغم غرابة هذا العالم بالنسبة إليه، وكثرة آلاته، وتقدمه التكنولوجي والعلمي، اقتنع حنبعل أن الإنسان المعاصر لم يتفوق كثيرا على إنسان العالم القديم. بقي كما كان يعرفه: يهوى استعراض القوة ويميل إلى حب الهيمنة، والاستحواذ على مصادر الثروة، والتباهى بالعظمة، والتلذذ بإهانة أخيه الإنسان. كل هذه العيوب عرفها عصره، ووجدها مستفحلة في القرن الحادي والعشرين.
ولما كانت درايته باللغة الإنجليزية في تحسن مستمر، فقد انغمس في مطالعة الصحف العالمية من خلال الإنترنت، خاصة أنه لم يكن يستعمل خطوط الهاتف الوطنية ولا شركات الإنترنت المحلية، فخرج تماما عن رقابة كل السلطات المحلية منها والعالمية. وكانت تانيت قد وفرت له خطا مباشرا مع محطتها، مما زاد في حيرة مصالح الاستعلامات التي أخذت تضيق عليه رقابتها.
شغف كثيرا بتحسين موقعه، وقد تمرس على تقنيات العرض والإرسال، فصار موقعه قبلة الباحثين في ميدان التاريخ القديم. وكان بريده الإلكتروني الهائل الذي يصله من أنحاء العالم يأخذ حيزا كبيرا من أوقاته، خاصة بعد أن نشرت تانيت محاضرته في كل صناديق البريد الإلكترونية التي استخرجتها الأجهزة المتطورة لمحطة الأبحاث القانمادية. وصلت تلك المحاضرة إلى كل رؤساء دول العالم مترجمة بلغاتهم المختلفة، وانتقلت عبر البريد الإلكتروني إلى كل سفارات بلدان الأرض، ووصلت المكتبات العمومية، والصحف، والمجلات المختصة، وكل وسائل الاتصال التي لم تعد تستغني عن الإنترنت ولا عن البريد الإلكتروني. فعاد نتيجة لذلك اسم حنبعل يملأ المعمورة كما كان عند حملته على روما. وأخذت مصالح الاستعلامات تهتم بهذه الشخصية الغامضة التي تمتلك كل هذه القدرة على الاتصال.
في يوم من الأيام نهض حنبعل باكرا، وجلس في الصالون يفكّر. وعندما استيقظت أسماء وقدمت له فطور الصباح، وهو ما زال في شروده، سألته مستغربة:
-ما لك شارد؟
لم يجبها، بل ظل شاخصا كأنه لا يحس بما يدور حوله. لما اقتربت منه واحتضنته مداعبة، وهمست له:
-ما لحبيبي مشغول إلى هذا الحد؟
بعد صمت طويل قال لها بصوت خافت:
-لقد اكتشفت سلاحا فعالا يمكنني من شن الحرب على الجبروت والهيمنة.
نظرت في عينيه متمعنة ثم سألته معاتبة:
-أنسيت أنك لم تعد الجنرال حنبعل قائد جيوش قرطاج؟
أجاب دون أن ينظر إليها:
-لا، لم أنس، ولكنني خلقت من أجل محاربة الطغيان، واستنسختني تانيت من أجل أن أحمي الأرض من الكارثة التي تنتظرها لو واصل الإنسان تسيير العالم بعقلية الطغيان.
سألته هازئة:
-وهل ستجند المرتزقة لمحاربة الطغيان؟
أسرع يجيب:
-سوف أجند التقدم العلمي لأهل قانماد، سأستغل كل إمكانيات تانيت العلمية لفضح هذا العقل المتغطرس الهدام الذي يحكم العالم اليوم، والذي حكمه منذ آلاف السنين.
قالت له غاضبة:
-لقد قتلوا شي جيفارا لأنه كان يحلم مثلك!
نظر إليها وفي عينيه شرارة أرهبتها، ثم قال لها بهدوء:
-لن أقتل أحدا، ولن أخوض معركة تسفك فيها الدماء، ولن أهدم ولو بيتا حقيرا...
قاطعته مستهزئة:
-ستفعل مثل دنكشوط وسوف تحارب طاحونة الرياح!
لم يفهم تشبيهها، فقال لها مهدئا:
-أردت أن أشرح لك خطتي قبل أن أعرضها على تانيت، لكنك لم تتركي لي المجال. أصغي إلي، ثم ناقشيني قبل أن تحكمي علي.
ظلّ صامتا فترة من الزمن ثم أخذ يشرح بهدوء خطته:
-لقد اكتشفت أن العالم المعاصر يعيش متأرجحا بين الماضي والمستقبل. فتفكيره ما زال متشبثا بعقلية ضاربة في القدم متأتية من قلّة الخيرات، واحتكارها خوفا من مفاجآت المستقبل، وبحثا عن توفير فرص لحياة أفضل للأجيال القادمة من ناحية، وتطلعا لمستقبل كوني يجعل من الإنسان مركز الكون، متمكنا من الخيرات العظيمة التي يزخر بها هذا الكون الشاسع من ناحية أخرى. واكتشفت أيضا أن النزعة الماضوية هي المتغلبة على تفكير الإنسان المعاصر، فهو، مع امتلاكه لأسلحة فتاكة، يمكنه أن يقضي على الحياة على هذه الأرض.
هذه الجدلية جعلتني أقول إن الإنسان المعاصر لو وصل إلى وعي شامل لمتطلبات الحياة الكونية، لتغيرت عقليته، ولتغلبت الرؤية المستقبلية عنده، ولترك الماضي للمتاحف، واندفع يبني مستقبلا على أسس الكونية، بعيدا عن النزعات الفكرية الضيقة، والخرافات الذهنية المتحجرة، والغرائز الحيوانية الهدامة...
قاطعته أسماء في ضجر:
-هذه فلسفة يصعب أن تقنع بها الناس في أنحاء العالم...
واصل حنبعل غير مكترث بتدخل أسماء:
-اكتشفت أيضا أن مفتاح الكونية يكمن في تطور وسائل الاتصال، فهي الوحيدة التي جعلت إنسان اليوم يكتشف الكون بكل أبعاده الشاسعة. كما أدركت أن الإعلامية سلاح خطير لو طوره الإنسان لتقدم أشواطا في معرفة الكون وأسراره. ومن هذا الإدراك الأخير فهمت أن إنسان اليوم لم يصل من التطور المعرفي يمكنه من السيطرة التامة على وسائل الاتصال المتطورة، والتعامل الذكي مع المعطيات الهامة للإعلامية كطريقة للخزن والتوفير والتحكم في المعلومات التي تمثل سر الكون.
تانيت آلهة لأنها تمتلك القدرة على التحكم في وسائل الاتصال، ولها الدراية القصوى لتطويع المعلومات لأي هدف تصبو إلى تحقيقه...
قاطعته من جديد منزعجة:
-عدت إلى عبادة تانيتك!
-لا، لم أعد أعبدها، بل صرت أفهمها. لم تكن تانيت ساحرة ولا آلهة تقول كن فيكون. إنها بكل بساطة تمتلك من المعرفة ما يسمح لها باستيعاب الكون، وبالتحكم في قواه الخفية، وبمحاكاة الطبيعة في ميادين عديدة. فهي تتنقل بسرعة البرق، وتستقي المعلومات من الأمواج، وتختفي مثل السراب، وتعلم ما في الصدور بقراءة اللغة الكهربائية، وتستبطن الخفايا عن طريق كاشفات مغناطيسية، وضوئية، وإشعاعية...
قاطعته غاضبة:
-وتتعرى لك لتسلبك عقلك!
ضحك حنبعل، وضمها إليه هامسا لها:
-لا أريدك أن تغاري من تانيت، فحتى إن أغوتني فلن أكون قادرا على عشقها، إنها تخيفني مثل الجن، رغم إدراكي لسذاجة هذا التفكير.
-إذن ما الداعي لكل هذه القعقعة في الوقت الذي وفرت لك تانيتك كل مستلزمات الحياة الكريمة الهادئة؟
سألها مداعبا:
-هل نسيت أني حنبعل؟
-وهل نسيت ما آل إليه حنبعل؟
-ولماذا لا أجرّب ثانية ما دام المجال مفتوحا؟
قالت له غاضبة:
-ستحاصرك قوى الشر، وتغلق كل منافذ قصر الزجاج الذي تريد بناءه، وستضطرك للاستسلام إلى قدرك المحتوم يا حنبعل كما فعلت سنة 183 قبل الميلاد!
-ولن أندم حتى ولو كانت نهايتي المأساة!
لاذا بالصمت وخيم عليهما جو من الحزن. لكن عندما سألها حنبعل بصوت خافت:
-وهل ستواصلين معي إلى آخر المطاف؟
قالت بعد فترة من الصمت الثقيل:
-ألم أكن ذاكرتك في البداية؟ إذن سأبقى لحفظ تاريخك حتى النهاية!
عانقها وقبّلها قبلة طويلة، ثم قال لها:
-فلنخرج إلى المدينة، إني أعشق الحمامات، وأرغب في الطواف بخليجها الساحر.
غيرا ثيابهما واستقلا المرسيدس إلى المدينة. وأثناء الطريق لاحظت أسماء أن سيارة كانت تتعقبهما، فهمست لحنبعل:
-عادت الرقابة تلاحقنا!
لم يرتبك حنبعل، بل قال بكل ثقة في النفس:
-ما دمنا في حماية تانيت فلن يقدر علينا أولئك الصعاليك!
كانت أسماء تخاف رجال أمن الدولة، فقد سمعت من أحد أقاربها، جرّب السياسة خارج إطارها المفروض، ما فعله به ذلك الرهط من الجلادين. لكن لم ترغب في إزعاج حنبعل بمخاوفها. دخلا الحصن الأغلبي القديم، وطافا في معالمه، ولما نظرا من أعالي الحصن إلى خليج الحمامات يمتد حتى مشارف مدينة سوسة، همس حنبعل لأسماء:
-أليست هذه هي الجنة؟
همست له:
-لكنك تريد تعكير صفو حياتنا فيها!
-وما قيمة الحياة بدون طموح؟
عندما نظرت إلى تحت السور العالي للحصن، خفق قلبها بشدة. كان رجلا الشرطة يتبعان تنقلهما أمام سيارتهما البيضاء. جذبت حنبعل من سترته وهمست له:
-هل رأيت الرجلين الواقفين قرب السيارة البيضاء؟ إنهما يتبعاننا منذ خروجنا من البيت.
-وهل يخاف حنبعل من الصعاليك؟
عادت تهمس له:
-لكن وراءهما جهاز قمع قوي.
أجابها ضاحكا:
-ووراءنا تانيت!
ظلّ ينظر في الأفق غير مكترث بمخاوف زوجته، ثم التفت إليها وقال:
-سأطلبها حالا لتعدّ لي دروسا في الإعلامية حتى تكون صورة خطتي واضحة.
ودون أن يترقب ردها، أعلن وهو ينظر إلى الأفق البعيد:
-حنبعل يطلب تانيت.
ولما ربط الاتصال بها أعلمها رغبته في معرفة علم العصر الحديث، الإعلامية. طمأنته أنها سوف ترسل له درسا معدا له خصيصا في أقرب وقت. وعندما التفت إلى أسماء التي كانت تراقب الشرطيين من أعالي الحصن، قالت له:
-سأخاطب شركة كراء السيارات لأعلمها أن السيارة معطلة، وأطلب منهم تهيئة سيارة أخرى حتى استريح من تتبعات أولئك الصعاليك كما تقول.
-ما لنا وإياهم! سنتغدى في أحد المطاعم الفاخرة ونستريح من وجودهما فترة من الزمن.
-لا، لن أطمئن وعيونهم تراقبني!
وبعد أن خاطبت شركة كراء السيارات، غادرا الحصن من بابه الخلفي المؤدي إلى المدينة العتيقة، وانسابا بين الأزقة الضيقة الملتوية حتى وصلا إلى شاطئ البحر. استقلا تاكسي أوصلتهما إلى بيتهما، فقد رفضت أسماء الغداء في المطعم، إذ كانت خائفة من مراقبة الشرطة لها، فلاذت ببيتها علّها تسترجع راحة البال. لكن حنبعل طمأنها أنه سيتصل بتانيت لتساعدهما على رفع هذه الرقابة المزعجة.
عند المساء حلّت تانيت بينهما دون سابق إنذار. أتت كالعادة عند غروب الشمس، على بساطها الطائر، في زيها الآدمي. وبعد أن حطت في الصالون، على الزربية الكبيرة، ألقت لهما بابتسامتها اللطيفة، ثم ظلّت تترقب حديثهما. رحب بها حنبعل ترحابا كبيرا، لكن زوجته أسرعت إلى المطبخ متعللة بإحضار الشاي، حتى لا تظهر انزعاجها من هذه الفتاة الوقحة التي لم تتعود على عريها الفاضح.
جلست غير بعيد من حنبعل، ومدّت له جهازا صغيرا، ثم قالت له:
-هذا معلمك، تحدث إليه واطلب ما شئت من الدروس، فسيلبي رغبتك. تجد به كل ما تحتاجه للاطلاع على علوم العصر الحديث.
صمتت قليلا ثم أضافت:
-أقول لك بصراحة إني لم أكن أتصورك تتأقلم بهذه السهولة مع هذا العصر. لقد أرسلت شريطا يشرح كل مراحل حياتك الحالية إلى أكاديمية العلوم في قانماد، وقد جاءني ردهم.
ثم تمتمت بلغتها كلاما لم يفهمه حنبعل، وبعد لحظات انتصبت الشاشة الافتراضية وظهر عليها نص قصير باللغة العربية. بعد لحظة من التردد طفق جنبعل يقرأ:
"تجربة ناجحة، تهانينا الخالصة! إذا رغب مستنسخك في لعب دور ما يؤثر على مجرى تاريخ الأرضيين نحو الأحسن، فإننا لا نمانع بشرط أن لا يلتجئ إلى العنف، أو الاعتداء على حرية الأفراد أو المجموعات، أو الاستحواذ على الممتلكات، أو استعمال النفوذ لأغراض خاصة أو حتى عامة. حذار من هذا الرجل، ربما تستهويه ميولاته القديمة للحرب."
لما رجعت أسماء وجدت الشاشة الافتراضية معلقة في فضاء الصالون يتصدرها النص. وضعت طبق الشاي على المنضدة، ثم جلست قرب حنبعل وقرأت النص بإمعان. جذبته من ذراعه وهمست له:
-حدثها عن رجال الشرطة الذين يلاحقوننا.
قبل أن يقول لها حنبعل شيئا، وصلتها الترجمة، فنظرت إلى أسماء مبتسمة، ثم قالت لها:
-لا تخافي، سنحميكما من أي خطر يعترض حياتكما، لكن عليكما أن تتعاملا بفطنة مع المراقبة. لا داعي للهرب في كل مرة تشعران فيها بالمراقبة. وحتى إن ألقوا القبض عليكما، فلن نترككما في السجن، تأكدا من ذلك. لماذا تخفيان حقيقتكما على الناس؟
أجابتها أسماء متشنجة:
-لأن الناس لا يمكنهم تصديق حقيقة حنبعل. لو قلنا لهم إنه رجل مستنسخ، لضحكوا منا، وربما بعثوا بنا إلى مستشفى المجانين.
قالت لها ضاحكة بعد أن وصلتها الترجمة:
-فليكن! سنخلصكما من أي ورطة تقعان فيها. ما نريده هو أن نرى حنبعل يعيش حياة عادية ككل الناس.
لم تقتنع أسماء بردها، لكنها ظلّت صامتة تفكر في رجال الشرطة وهم يستنطقونها، وربما يعذبونها لمعرفة ما يتصورونه الحقيقة. فقد قال لها قريبها الذي عذبه جهاز القمع أنهم يواصلون تعذيب السجناء حتى يقروا بأفعال لم يقترفوها للخلاص من التعذيب.
ساد الصمت بينهم فترة من الزمن حتى سأل حنبعل:
-هل يمكنني أن أعرف ما هي هذه الأسلحة الخطيرة على الحياة فوق سطح الأرض؟
أجابته تانيت:
-أطلب من هذا الجهاز فهو أعرف العارفين.
صمتت هنيهة ثم سألته ضاحكة:
-هل تريد استعمالها؟
-لا، أبدا. أريد فقط معرفتها لأتمكن من وضع خطتي لإقناع الناس بخطورتها.
قالت له ضاحكة:
-لقد جرب غيرك ولم يفلح!
-ربما لم تكن عندهم الوسائل التي سأسخرها لتعبئة الناس حول العالم.
-وهل عدت تخطط للحرب؟
-ألم تحدثيني مرة عن أخطار أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها أهل الأرض، والتي يمكن أن تقضي على الحياة على الكوكب؟
-وهل في إمكانك القضاء على تلك الأسلحة؟
-يمكنني القيام بحملة ضدها حتى يعي أهل الأرض بالأخطار التي تترصد مصيرهم.
-سنساعدك على ذلك بشرط أن لا تكون السبب في اندلاع الحرب.
-سأدرس خطتي وأعلمك بها.
تدخلت أسماء سائلة:
-ولماذا هذا العناء يا حنبعل؟
قال بصوت حزين:
-لأن حنبعل يريد أن يكفّر عن ذنوبه التي اقترفها في الحروب السابقة. لم لا يفلح في نزع غريزة الحرب من العقل البشري؟
قالت له تانيت:
-ربما يتطلب ذلك أكثر من حملات توعية. إن الجنس البشري جبل على الحرب منذ أن تحول الإنسان من حيوان غير عاقل إلى حيوان عاقل.
ساد الصمت بينهم حتى اندفعت تانيت خارج البيت على بساطها الطائر، وظلّ حنبعل يفكّر في خطته الجديدة رغم الشكوك التي أظهرتها المرأتان.









9

قال حنبعل لزوجته: "هذه بداية جديدة لعالم جديد!" كانت أسماء تشعر أن حنبعل يستوعب بسرعة قضايا عصرها، وعلوم عصرها، وذكاء عصرها، فتحسّ به يبتعد عنها كلما ازدادت معارفه. لم يعد ذلك الرجل التائه بين فترات التاريخ، المتخوف من الآلات التي تعمر دنياها، اللاهث وراء ذاكرته المفقودة. فقد أصبح رجلا يعي جيدا ما يدور في العالم، وما يمكن أن يقع لهذا العالم.
صار مدمنا على الإنترنت، يشارك كثيرا من المبحرين مثله في عوالم الافتراضي هموم العصر ومشاكله الشائكة. وكانت له مع عدد كبير من الرجال والنساء المنضوين تحت لواء الجمعيات الديمقراطية المختلفة التي تنتشر هنا وهناك نقاشات واتصالات مفيدة. وقد استغلّ أحسن استغلال الإمكانيات التي توفرها له تانيت ليسافر متى شاء نحو أنحاء العالم متحديا كل الحواجز القائمة ضد تنقل الأشخاص.
كانت زوجته رغم شغفها به تشعر أنها لا تستطيع مسايرة نموه الذهني، ولا تشاطره اهتماماته السياسية والفكرية. كانت تنشد حياة رغدة هانئة، تخشى المغامرات، ولا تؤمن بالنضال من أجل رقي الإنسان. عندما أعلن تلك الجملة وهو ينهي آخر درس في الإعلامية، سألته رغم ضجرها من الحديث في شؤون الفكر والسياسة:
-وأين وجدت هذه البداية؟
أجاب متحمسا:
-في علم الإعلامية.
لم تكن درايتها بالإعلامية تتعدى معالجة النصوص، أو الإبحار عبر الإنترنت، أو تطبيق بعض البرامج الخاصة بالمعاملات التجارية، فعادت تسأله:
-الإعلامية حسب معرفتي لا تتعدى أن تكون وسيلة تطبيقية لخزن المعلومات، أو الاتصال عبر الحواسيب أو وسائل الاتصال، فكيف أصبحت عندك علما يبشر ببداية جديدة لعالم جديد؟
قال لها شارحا:
-الإعلامية حبيبتي هي لغة رياضية كونية من خلالها أصبح الكون واقعا متجددا يسير من تلقاء نفسه. والإعلامية نشأت قبل الكون وإلا لما تحول هذا الكون إلى كائن حي ينمو، وتتجدد عناصره، وتفنى بتلقائية غريبة. كل كائنات الكون تخضع للإعلامية. لا أقول إنها تسيّر بحواسيب ضخمة، لكنها تخضع لقوانين التسيير الذاتي المبرمج، مستجيبة لقواعد رياضية متشعبة.
سألته مستغربة:
-أهذا كلام تانيت؟
-أبدا. لقد استنتجته من خلال دروس الإعلامية.
-ولماذا لم تشركني في هذه الدروس؟
ضحك حنبعل ضحكة عريضة وقال لها:
-أنت تقضين جل أوقاتك تتفرجين على المسلسلات، أو تتنقلين بين الدكاكين، وترفضين المعرفة العميقة التي تمكنك من استيعاب الدنيا والتفاعل معها.
غضبت وقالت له بحنق:
-قل إنك تجدني ساذجة لم أعد أصلح لك!
احتضنها مقبلا، ثم همس لها:
-كم أنت جميلة عندما تغضبين!
ظلا يتعانقان حتى همس لها:
-هل ترغبين في قضاء بعض الأيام في باريس؟
قالت له متحمسة:
-ومن هو الغبي الذي يرفض زيارة باريس ولو لساعات؟
صمتت تفكر ثم قالت مترددة:
-حتى لو حصلنا بسهولة على التأشيرة، فلا بد أن رجال الأمن الساهرين على رقابتنا سيتفطنون إلى غيابنا، وربما كان لهم رقباء في باريس، خاصة أن أصدقاءك صاروا يعدون بالآلاف!
-لقد تكفلت تانيت بأمننا، فما الداعي للانشغال به؟
-ولماذا تريد زيارة باريس بالذات؟
-لقد اتصلت عبر الإنترنت بعالم في الاجتماع يبحث في شؤون المستقبل، إني أرغب في لقائه.
-أسافر معك إلى باريس لكنك لن تفرض علي التنقل معك من جامعة إلى أخرى، فأشد ما يضجرني هو حديث أولئك العلماء بلغتهم المتصنعة.
-تعرفين أنني لا أحذق اللغة الفرنسية، فمساعدتك لي ستكون ضرورية.
-كل العالم صار يفهم الإنجليزية، لن تجد صعوبة في التواصل معهم.
وفي الحال خاطب تانيت ليطلب منها تهيئة الظروف لإقامتهما أسبوعا في مدينة النور. ظلّت أسماء تنظر إليه متعجبة من كل هذه الحيوية والنشاط، تفكّر في حديثه عن الإعلامية الذي لم تستوعب منه الشيء الكثير. فسألته:
-كيف كانت الإعلامية قبل وجود الكون؟
-حسب المعارف التي اطلعت عليها يتألف الكون أساسا من مواد كيميائية تسبح متكتلة في فضاء شاسع مظلم. والسؤال المطروح بإلحاح لفهم هذا الكون هو كيف تكتلت تلك المواد الكيميائية، وانصهرت، وكونت كتلا ضخمة مثل النجوم والكواكب؟ يقول العلماء إنها تلك التفاعلات الكيميائية بين المواد التي قربت بينها للتكتل، مثل الأكسجين والهدروجين اللذين انصهرا وكوّنا الماء، والأزوط والأكسجين ومواد أخرى تجمعت لتكوّن الهواء، وغيرها من المواد الضرورية لتكوين الكتل المتعددة للمواد الكيمائية التي تدخل في التركيبة الأساسية للكون.
ولا يمكن أن تتجمع تلك المواد الكيميائية وتنصهر بدون برمجة إعلامية تسمح لها بالتكتل تلقائيا، وتلك الإعلامية تعتمد لغة خاصة هي اللغة الكيميائية التي يعرفها جيدا علماء هذا العصر. هل أدركت ما أعني بعلم الإعلامية؟
قالت له حالمة:
-أقول لك بصراحة إني لم أدرك جيدا هذه التشعبات، فأنا أفضل الأيمان بالله الذي يقول للأشياء كوني فتكون.
ظل صامتا لحظة ثم قال لها:
-المعرفة لا تتعارض مع الأيمان. هل تعرفين كيف تنشأ الحياة على الأرض؟
-ذلك أعرفه جيدا ولا أعتقد أن للإعلامية دورا فيه.
-غلط! فلولا الإعلامية لما كانت الحياة. لكي يلد كائن حي لا بد له من حل تشفير الموروث الطبيعي الموجود في الخلية الأولى. والتشفير يستعمل لغة كيميائية بيولوجية تسمح بنشأة الكائن الحي.
-تقول إن الكون تتحكم فيه إعلامية تستعمل اللغة الكيميائية، وأن الحياة لها إعلامية تستعمل اللغة الكيميائية البيولوجية، وما هي اللغة التي سوف يستعملها العالم الجديد الذي تبشر به؟
-أظن أنك بدأت تفهمينني. الإعلامية التي بدأ يستعملها الإنسان في هذا العصر تعتمد اللغة الرياضية الإلكترونية. وهو ما زال في بداية الطريق. وأعتقد أنه سيهتدي إلى لغة أكثر تطورا، ربما تكون لغة كيمائية بيولوجية إلكترونية. وعندما تصبح تلك اللغة في مستوى الإنتاج التلقائي كما هو الشأن بالنسبة للغة البيولوجيت التي تنتج الكائنات الحية، سينتقل الإنسان إلى مرحلة جديدة في تطوره. هذا هو العالم الجديد الذي أتصوره قادما لا محالة.
-وهل سنصل إلى معايشته؟
-تانيت وأهل كوكبها يعيشون في ذلك العالم.
-ولهذا السبب أنت مولع بها!
قال حالما:
-عالمها يمثل مستقبل عالم اليوم بشرط ألاّ يأتي سياسي أحمق ويقضي على الحياة برمتها على الأرض.
قالت له مترددة:
-كما فعل الرومان بقرطاج.
-تماما. ولهذا صرت أناضل من أجل مزيد من الديمقراطية للشعوب، ومزيد من الحرية للأفراد، ومزيد من الشفافية في تسيير الشؤون العامة. فهي الضمان الوحيد لوقاية المجتمعات والدول من جبروت القوة والتسلط.
-أنت حقيقة حيوان سياسي يا حنبعل! دعنا من السياسة وقل لي متى سنسافر إلى باريس؟
-سأبعث برسالة إلكترونية إلى صديقي عالم الاجتماع أسترشد حول تاريخ ندوته، ثم نبرمج سفرنا.
وفي بداية شهر ديسمبر سافرا إلى باريس. أوصلهما طبق طائر سريع إلى حديقة فانسان، ومنها استقلا تاكسي حتى قلب باريس حيث نزلا في نزل فخم، كانت تانيت قد حجزت لهما فيه جناحا راقيا.
كان الطقس رديئا، وظلّ المطر يهطل كامل اليوم، والشوارع، رغم ذلك، مكتظة بالمارة في ازدحام مستمر، والدكاكين منارة في رابعة النهار لكثرة تلبد السحب. ظهرت باريس لحنبعل مدينة يعمها الرماد، يرى الناس فيها كالأشباح ملتفين بالمعاطف الداكنة، يسيرون كالقطيع، تكسو وجوههم مسحة من الحزن. لكنه عندما زار متاحفها بهر بثرائها وبتنوع الثقافات التي تعرضها. وظهر له من خلال تلك المتاحف تطور تاريخ الجنس البشري. فهذا متحف الإنسان يعرض نماذج من بقايا متحجرة لنشاط الإنسان من العهد الحجري حتى الحضارة الفرعونية. وهذا متحف اللوفر يروي تطور الإبداعات الفنية لحضارات البشر من العصور القديمة حتى يومنا هذا. وهذا متحف مخصص لتطور الحياة على كوكب الأرض يعرض أنواعا من الحيوانات والنباتات أنقرض بعضها وما زال البعض يدافع عن وجوده على هذه الأرض المهددة بالانقراض. وكانت زياراته لهذه المتاحف تؤكد له اقتناعه بوجوب الدفاع عن الحياة على الأرض، وحث البشر على مراعاة هشاشتها.
كان كل يوم يمر من حياته يزيده إيمانا بوجوب النضال من أجل حياة أفضل لكل البشر. كان في شبابه متشبعا بالإنسانية الإغريقية التي لم تكن بعيدة عن ثقافته الفينيقية، فهما مثل وعاءين متصلين ولو كانا متنافسين. وكان شغوفا بمعرفة اللغات التي تقربه من الشعوب المختلفة التي كان يتعامل معها. وقد تعلّم الفلسفة الإغريقية وتوصل إلى معرفة طرح الأسئلة الأساسية حول الوجود والكون والإنسان. ومع اقتحامه للعصر الحديث، واطلاعه على أهم علومه وإنجازاته، أصبح يؤمن بأن البشرية واحدة مهما كانت الحواجز التي تقف أمام توحدها، وآمن كذلك أن تنوع الثقافات ثروة لا بد من المحافظة عليها، وأن الهيمنة الإمبريالية سواء كانت قديمة عندما استولى الإغريق على جزء كبير من العالم، وتلاهم الرومان عندما قضوا على قرطاج قد أضرت بالمسيرة البشرية نحو نمو يرتكز على السلام والمعرفة والتبادل. كان هذا اعتقاده منذ بلوغه سن الرشد. وصار اليوم أكثر جلاءا من الماضي، وها هوذا يرى بداية عهد جديد من الإمبريالية الأمريكية التي ستدفع بالإنسان نحو مستقبل باهت، أحادي اللون ، مسطح كثقافة وسائل الإعلام ذات الرواج الهائل.
وكانت زيارته لباريس فرصة للاطلاع على تاريخ الإنسانية من خلال متاحف مدينة النور المتنوعة. كانت أسماء ترافقه في تلك الزيارات رغم انزعاجها من الازدحام، والإرهاق، والضجر. ولم يبخل عليها بتعليقاته، وشروحه، ومعرفته القديمة والحديثة بتاريخ الإنسانية من خلال ما تعرضه تلك المتاحف. لكنه لم يتوصل إلى إقناعها بأن البشرية اليوم تعاني أزمة حضارية حادة ربما تؤدي بها إلى الفناء.
كان يردد لها في كل مناسبة:
"إن لم يع الإنسان الخطر الداهم عليه فستفنى هذه البشرية ولن يبقى لها أثر."
وكانت تقول له مهدئة:
"للبشرية ربّ يحميها، وهو القادر القدير، ويوم القيامة قدر لا مناص منه. فلا تتعب نفسك كثيرا، واترك الأقدار تسير بما قدر لها."
فيثور ويقول لها:
"هذا موقف سلبي ينزع من الإنسان كل مسؤولية!"
وتسأله هازئة:
"أليس أقلّ إرهاقا من المعارك الدنكيشوطية التي تعدّ لها؟"
وينتهي بهما النقاش إلى الصمت. لم يكن حنبعل يرغب في الشجار مع زوجته من أجل قضايا لم تقتنع بها. فيقترح عليها أن تتركه يتجول بين المتاحف فريدا، وتعود هي لهوايتها المفضّلة، تتجول بين المغازات الكبرى ودكاكين الموضة. وعند نهاية الأسبوع عادا بنفس السرعة إلى عشهما بالحمامات. وعندما دخلا البيت، وأشعلا النور، لاحظا بانزعاج كبير وجود العسس حول البيت.
ولم يمض بعض الوقت على دخولهما البيت حتى كانت تانيت تتسرب إليه على بساطها الطائر. قالت لهما بعد الاعتذار على دخولها المفاجئ إنها أتت لتعلمهما أن مراقبتهما ستشتدّ، فقد تأكدت مصالح المحطة المختصة في رصد الاتصالات السلكية واللاسلكية، أن حنبعل أصبح موضوع بحث وتقصّ من أطراف عدة لمصالح الشرطة المختلفة في العالم التي أصبحت تتعاون لرصد كل التحركات المشبوهة.
سألتها أسماء مرتبكة:
-إذن سيلقون القبض علينا؟
-ربما، لكننا بالمرصاد لكل تحركاتهم، وحالما يصدر الأمر بالقبض عليكما سنتحرك لمنعهم من ذلك. كل ما أطلبه منكما أن تلازما البيت حتى إشعار آخر.
بعد صمت طويل وثقيل قال لها حنبعل بكل هدوء:
-عندي خطة عاجلة لا بد أن تساعديني على تنفيذها قبل أن ينتهي دوري...
قاطعته أسماء سائلة بصوت مرتعش:
-وما معنى ينتهي دورك؟
أجابها بهدوء:
-إن ألقوا القبض علي، ولم أعد قادرا على القيام بالعمل الذي حددته لنفسي، فقد ينتهى دوري. لست أدري ما خططت لي تانيت في المستقبل، لكني سأحاول كما فعلت في الماضي أن أقاوم حتى النهاية.
قالت تانيت مبتسمة:
-جميل هذا الذي تقوله يا حنبعل! لقد حافظت على كل مقومات شخصيتك التي عرفتها عنك في كتب التاريخ. في الحقيقة لم أسطر لك حياتك، كل ما أستطيع فعله هو أن أنقذ حياتك إذا تعرضت إلى الخطر...
قاطعها حنبعل قائلا:
-طيب. هل بإمكانك مدي بصور واضحة عن النشاط الإنساني الذي يمثل خطرا على حياة الأرض؟
-هذا سهل فقد قمنا به منذ سنوات.
عاد يسألها:
-وهل لديكم صور واضحة عن المواقع التي يخبئ فيها الأرضيون أسلحتهم الماحقة للحياة على الأرض؟
-وهذا أيضا ممكن.
صمت فترة من الزمن ثم قال لها حالما:
-أريد أن أقوم برحلة استكشاف على متن الطبق الطائر في كل أرجاء الكرة الأرضية.
-الطبق على ذمتك يمكنك الإقلاع به متى شئت.
-إذن غدا عند الفجر سأصعد إلى السماء وأبدأ رحلة طالما حلمت بها.
التفت إلى أسماء وسألها:
-هل تأتين معي؟
ظلت لحظة مترددة ثم قالت له:
-لن أفارقك حتى الموت!
قالت لهما تانيت قبل مغادرتهما:
-هيآ حقيبتكما فسوف أحجز لكما في أماكن عديدة من العالم. لا تفكرا في شيء آخر غير معرفة هذا الكوكب الجميل الذي بدأ سكان الأرض يجعلون الحياة عليه صعبة ولعلّها ستصبح مستحيلة.
تركتهما وانطلقت خارج البيت على بساطها الطائر.



















10

لمّا خرجا من بيتهما قبل طلوع الفجر ، بعد أن أعلمتهما تانيت بأن الطبق في انتظارهما خلف البيت تحت شجرة الدلب العظيمة، لاحظا وجود السيارة البيضاء التي تراقب بيتهما. لم يتفطن لخروجهما العونان اللذان كانا نائمين داخلها، فاندفعا بسرعة إلى الطبق الطائر. صعدا داخله، وانغلقت عليهما قبته البلورية، ثم انطلق في الفضاء بسرعة مذهلة دون صوت و لا غبار.
واصل الطبق ارتفاعه بهما إلى الطبقات العليا للسماء، ثم هوى حتى علوّ مكنهما من ملاحظة الأرض مكسوة بثوب من الثلوج، بياض في بياض، صحراء من الثلج تنتشر على امتداد البصر. ورغم ذلك الجمود الجليدي فقد همس حنبعل لأسماء:
-انظري ما أجمل أرضنا!
قالت له هازئة:
-وهل أصبح الجنرال حنبعل رمنطيقيا؟
لم يجبها، ظل يتبع تنقل المركبة في فضاء القطب الشمالي مبهورا بكل تلك الروعة. وفجأة خاطب تانيت وطلب منها هل بإمكان المركبة التقاط صور للصحراء الجليدية. فأعلمته أن كل ما يحط عليه بصره يصوّر تلقائيا. ثم سألته:
-في أي مدينة ترغب أن تحط بكما المركبة؟
التفت إلى أسماء يطرح عليها نفس السؤال، فقالت له مستبشرة:
-في ستكهولم!
وقبل أن يتحدث إلى تانيت قالت له:
-إذن ستنزلان في إحدى الحدائق العمومية بستكهولم، وكالعادة تتوجهان بالتاكسي إلى نزل الشيراطون حيث تجدان جناحا محجوزا.
وقام صحبة زوجته برحلته حول الأرض من أروع ما شاهدت عيناه. كانت كل الدنيا تحت طلبه. ولم يكن يسعى إلا إلى المعرفة والاطلاع، رغم محاولات أسماء المتعددة والملحة لجرّه إلى التسوق، وشراء المجوهرات والتحف الثمينة. كان يطلق لها العنان للقيام بتلك الأمور التي لم تكن تروقه كثيرا. فهو يفضل اصطياد المشاهد الجميلة، والبنايات النادرة، والمواقف المعبّرة، عوض التسكع بين الأسواق والدكاكين التي تعمر الدنيا في عالم طغت عليه السوق والبضاعة.
اقتنى آلة تصوير رقمية، وشغف بالتقاط الصور. كانت لديه فكرة يريد أن يجسمها من خلال ألبوم الصور الذي يجمعه من كل الأماكن التي يمر بها. حتى عندما تطلب أسماء أن يخلّد مرورهما أمام معلم كبير معروف، لم يكن يحلو له أخذ مثل تلك الصور السياحية، بل كان يسعى إلى تصوير طفل قذر يجوب شوارع بنكوك، أو طنجة، أو برازيليا، أو قمامة ضخمة في إحدى العواصم الكبيرة، أو شجرة محاصرة بالإسمنت تستغيث. كان حنبعل سائحا من نوع آخر. فقد كان يترصد كل ما من شأنه أن يوحي له بالتناقض الصارخ بين حضارات هذا العالم الذي لم تعد التباينات فيها جلية. فنسق العيش بين البشر صار واحدا سواء كنت في الشرق أو في الغرب، في بلاد تؤمن بهذا الدين أو تتمسك بتلك العقيدة. خليط جارف كفيضان واد بعد أمطار غزيرة.
وقضيا شهرا كاملا يجوبان الدنيا، كل الدنيا. ولم يكن يرهقهما السفر فتنقلهما من مكان إلى آخر يقع في بضع دقائق، دون المرور بتدابير الجمارك والبوليس الشاقة والمملة. وأحسا حقيقة أن الأرض أصبحت قرية، الحمامات في تنوعها! لكنها قرية تفتقر إلى التناسق والجمال. قرية تعمّها التناقضات والخوف، وتحكمها هيمنة رأس المال، وأصحاب المال والأعمال، ويسيطر عليها الأقوياء، يستعبدون شعوبا بأكملها دون حاجة إلى الطرق القديمة للاستعباد، ولا إلى تجارة العبيد.
وعندما عادا إلى بيتهما في ليلة شتوية حالكة الظلام، وبينما كانا يتخطيان العتبة، جذبت أسماء حنبعل وهمست له:
-ما زالت السيارة البيضاء في مكانها، ويظهر أن الرجلين ظلا داخلها طيلة أيام غيابنا.
لم يقل حنبعل شيئا. وضع البطاقة المغناطيسية في الباب فانفتح له، وبعد أن دخلت أسماء وأشعلت النور، رمى بالحقيبتين في الممر، ونظر من النافذة إلى السيارة البيضاء الراسية غير بعيد من البيت، ثم أعلن:
-لن يجرأ أحد على اقتحام بيتنا! نحن في حماية تانيت!
كان البيت دافئا رغم غيابهما عنه منذ شهر، فقد كان يسهر على العناية به وحراسته روبوات صغيرة، سخرتها تانيت خصيصا لذلك الغرض، روبوات مستترة لم يتفطنا لوجودها أبدا. وكانا منشغلين بالعودة، فلم يلاحظا شئا. وبعد الحمام اندسا في الفراش، وناما نوما عميقا حتى الصباح.
عندما نهض حنبعل كانت تحوم في ذهنه أفكار كثيرة. كانت مشاهد العالم المختلفة التي بقيت عالقة في مخيلته تتزاحم. كان يقول في نفسه: "ما أجمل الأرض وأثراها وأكثر تنوعها! ظلّ كامل اليوم يستعرض تلك الصور المتنوعة والجميلة، حتى أتاه عند المساء صوت تانيت تهنّؤه بالعودة. سألها بعد أن شكرها على كل ما قدّمت لهما من تسهيلات أثناء الرحلة الطويلة حول العالم:
-متى أراك لنتباحث في مشروعي؟
قالت مستغربة:
-أي مشروع؟
-لقد قلت لك إني سأشن حملة إعلامية على ملوثي الأرض، وعلى الأسلحة الفتاكة التي ربما تعصف بالحياة على وجه البسيطة!
-حسنا. سأكون عندك بعد غروب الشمس.
انزوى في مكتبه يستعرض الصور التي خزنها في جهاز التصوير الرقمي. ثمّ دفع بالشريط في الحاسوب المحمول، وانبرى يمتع نظره بالمشاهد المتنوعة التي اقتنصها في رحلته الطويلة عبر مدن الأرض، وشوارعها، وأزقتها. كانت بعض الصور تحتوي على وجوه لرجال ونساء وأطفال من أجناس مختلفة، تعبّر عن قسوة العيش وضنكه، لكنها توحي بالتشبث بالحياة رغم كل متاعبها. وكان البعض الآخر يصوّر معاناة فئات من سكان الأرض من الفقر، والتشرد، ورق الأطفال، والتجارة بالجنس. قال في نفسه بعد مشاهدة كل تلك الصور التي خلدتها عدسته عن سكان الأرض المحرومين من خيراتها:
"أي تقدم حققه الإنسان ما دام ثلثا البشرية يرزح تحت وطأة المعاناة؟! لم تتقدم هذه البشرية، ما زالت كما عرفتها منذ أكثر من عشرين قرنا! لا يتمتع بالحياة الرغدة على الأرض سوى الأقوياء والأغنياء. هذا الواقع الذي يحلم الفلاسفة والشعراء بتغييره، هو راسخ في البشر، وهو سمة من سمات وجوده على الأرض!"
ترك الصورة ثابتة على شاشة الحاسوب، وظلّ يفكّر. "لكن تانيت تقول إن أهل كوكبها قد تخلصوا من ذلك الوضع نتيجة تقدم العلم والأبحاث عندهم. وهل يكفي التقدم العلمي ليرقى الإنسان؟" ظلّ محتارا لا يجد الجواب المقنع على سؤاله. كان يعتقد أن التقدم العلمي يمكّن من الوفرة التي بدورها سوف تقضي على الجشع والاحتكار وحب الهيمنة. وقد رأى ما يتوفر من خيرات لعالم اليوم، لكن الجوع، والحرمان، والأوبئة لم تقلّ، بل أصبحت أكثر تفشيا مما كانت عليه في عالمه القديم الخالي من كل تقدم علمي. كاد يصل إلى الاقتناع أن الإنسان جبل على الصراع من أجل الهيمنة والاستبداد، لكنه سرعان ما نفض هذه الحتمية من ذهنه وقال في نفسه:
"لم يخلق حنبعل ليستسلم للأقدار!"
غادر مكتبه متوجها إلى الحديقة. كانت الشمس تنشر أشعتها على العشب الأخضر وقد تبخر منه الندى فأصبح أكثر لمعانا. لم يلتفت إلى الجهة التي كانت تعسكر فيها السيارة البيضاء، لأنه كان يعرف جيدا أن البيت مراقب ليلا نهارا. كان وحيدا بالبيت فقد خرجت زوجته في الصباح الباكر، تحت جناح الظلام لتتسلل إلى الطريق، وتبحث عن تاكسي توصلها إلى بيت أهلها، إذ أعلمته أنها ستقضي هناك كامل اليوم. ولم يكن يخاف عليها، فهو مطمئن للحماية التي توفرها لها تانيت. جلس على كرسي الحديقة المرمري، وعاد يفكّر.
"حتى النظم السياسية الحالية ليست أكثر ديمقراطية من النظم التي كانت سائدة في البلدان المتقدمة مثل قرطاج وأثينا وروما! اليوم كالأمس: الأقليات المتمكنة من الثروة تتداول على الحكم مستعينة بجهاز الدولة لقمع الأغلبية المحتاجة... غريب هذا العالم الذي يراوح في نفس المكان! لا بد أن تشرح لي تانيت نظريتها في تطور العقل البشري! لأفهم!"
كان يريد أن يقوم بدور ما يجعل هذه الإنسانية تتقدم. أن يوقف الحروب مثلا وبذلك يكفّر عن ذنوبه في الحروب التي قادها. أن يخلص الأرض من الخطر الجاثم على صدرها والذي سيقضي عليها وعلى الحياة. وبذلك يتخلّص من عقدة الذنب التي تحاصره منذ أن علم بالمصير المأساوي الذي آلت إليه حضارة قرطاج. أن يساعد على تغيير عقلية البشر ليتطوروا إلى ما هو أرقى وأسمى من التطاحن والضغينة. لأن عقله لم يقبل أن تموت الآلهة الحامية للقيم النبيلة، وتحل محلها عقيدة مائعة تتغير مع ظروف التطور. لكنه شعر بعجزه عن فعل الكثير لأنه أدرك أنه ليس إلها حتى يغير ما صنعته الآلهة.
إنّ طبيعة حنبعل لا تقبل بالحتمية ولا بالرضوخ إلى الأقدار، والدماء التي تجري في عروقه لا بدّ لها من الاندفاع نحو البناء، كما أنّ عقله لا يستسلم إلى الخمول والراحة، فهو يريد أن يستنبط، وأن يتغلب على الصعاب، وأن ينتصر على إرادة الطبيعة. هكذا خلق حنبعل، وهكذا عاش طيلة حياته، وهكذا يريد أن يبقى بعد استنساخه، فاعلا فعالا. وصل إلى هذا الاستنتاج، فرضي عن نفسه، ونفض من ذهنه البلبلة التي أصابته عندما شعر بعجزه عن التأثير في الأحداث. قال في نفسه متحمسا:
"سأخاطب، بالصوت أو بالكتابة أو بالصورة، كل المتمكنين من الوسائل الحديثة للاتصال. وبمساعدة تانيت سوف يعرف العالم من هو حنبعل!"
رجع إلى مكتبه وعاد إلى الحاسوب يتصفح بريده الإلكتروني حتى ساعة متأخرة من المساء، وإذا بتانيت تقتحم البيت من النافذة على بساطها الطائر. فخرج لها مرحبا، وجلس قبالتها ينظر إليها بإعجاب. كان يجلها كالآلهة. سألته بودّ:
-ما هي انطباعاتك عن رحلتك حول الأرض؟
أجابها:
-رائعة هي الأرض!
-هل ترغب في مشاهدة بعض الصور التي تأثر لها دماغك وأنت تشاهدها على متن الطبق الطائر؟
-أكون ممنونا!
تمتمت بعض الكلام بلغتها، فانتصبت الشاشة الافتراضية وتدفقت عليها صور لمناطق مختلفة من الأرض، كانت كلها رائعة الجمال. صحار من الثلوج ناصعة البياض، وصحار من الرمال فاقعة الاصفرار، ومحيطات لازوردية لا تنتهي، وغابات سوداء لكثافتها، وحقول شاسعة في زخرفة من المربعات المختلفة الألوان، ومدن ملفوفة في غيوم الأدخنة، وأخرى تظهر بمظهر قرى من القرون الوسطى. بعد أن متع ناظريه بكل تلك المشاهد الفاتنة، التفت إلى تانيت وقال لها:
-سأبث هذه الصور في كل وسائل الاتصال للأرضيين. هل هذا ممكن؟
-وماذا ترجو من بثها؟
-سأصحبها بتعليق أطلب فيه من متلقيها أن يعوا مدى جمال الطبيعة على أرضنا.
عادت تتحدث بلغتها، ثم قالت لحنبعل مشجعة:
-يمكنك صياغة النص الذي سيصحب هذه الصور، بل تستطيع أن تسجله بصوتك، وسنبثه في الإنترنت، وفي كل العناوين الإلكترونية، وحتى على شاشات التلفزيون وبجميع اللغات المعروفة في العالم.
قال لها مازحا:
-وهل يمكنني أن أقول لهم من أنا وكيف تحصلت على هذه الصور؟
-ستكون العملية خطيرة لأننا سنبث الصور والخطاب على الأمواج الضوئية للتلفزيونات، مما سيضطرنا للدخول إلى السواتل الباثة لتلك البرامج. ليس هناك صعوبة تذكر خاصة أن الأرضيين يستعملون تقنيات للبث بدائية يسهل اختراقها والتلاعب بها. وتعرف جيدا مدى خطورة وسائل الإعلام بالنسبة إلى الحكام عند الأرضيين.
توجه إلى النافذة، وبعد أن نظر من خلالها إلى السيارة البيضاء التي كان يقبع داخلها أعوان الأمن المكلفون بمراقبته ، التفت إلى تانيت وقال:
-إنهم يراقبونني ليل نهار.
-إذا ما تدخلت في شؤون يعتبرونها استراتيجية فردّ فعلهم ضدك سيكون عنيفا.
-من لا يجازف لا يربح.
-لكني أحذرك أننا لا ندخل معك في صراع عنيف مع أي كان.
-فليكن. لقد عاش حنبعل طيلة حياته مغامرا، فليواصل المغامرة.
-عندما يكون النص جاهزا ضعه في الآلة التي أمددتك بها لتتعلم، وسوف نهيؤه ونبثه في أقرب وقت. سوف أعلمك متى يمكنك مشاهدته في معظم تلفزيونات العالم.
وما إن غادرته تانيت حتى عكف على تحرير نصه. كان يريده قصيرا ومعبرا بلغة سهلة يفهمها الجميع. ولمّا أتمّ التحرير ظلّ يقرأه على نفسه بصوت عال. عندما عادت أسماء أعلمها بما اتفق عليه مع تانيت.
سألته مرتبكة:
-وهل ستظهر على شاشات التلفزيون؟
-ما زلت أدرس المسألة.
ارتمت في أحضانه وناشدته ألاّ يفعل، لكنه هدّأ من روعها وقال لها:
-لن يمسنا سوء، فنحن في حماية تانيت.
لم تكن مقتنعة بكلامه، لكنها أدركت أنها غير قادرة على تغيير عن قراره. سألته بعد صمت ثقيل:
-ومتى ستقوم بتصوير تدخلك؟
-كنت أترقب وصولك لكي أعرف رأيك.
ثم سرد عليها النص:
"يا أبناء الأرض انتبهوا. أنا حنبعل بركا القرطاجي، جئتكم من أصقاع التاريخ بمشيئة إلهتي تانيت لأحذركم من الأخطار التي تحدق بأرضكم. تلك الصور الجميلة التي شاهدتموها، والتي لا شك أنها فتنتكم، ربما لن تبقى فاتنة كما هي الآن. سوف يأتي عليها التلوث، ويمسخها، وربما تتحول الأرض بكل ما فيها إلى قذارة لا تطاق. تقول لكم تانيت إنه لم يفت الأوان لتنقذوا أرضكم. ومن أنذر فقد أعذر."
سألها منشرحا:
-ما رأيك؟
قالت غير مكترثة:
-أهل العقول في راحة.
لم يتأثر بكلامها، بل قال لها بهدوء:
-جنون الرجال صنع التاريخ.
أجابته منفعلة:
-وقد أدى بهم جنونهم إلى غياهب السجون والمشانق والانتحار.
-فليكن. لن أتراجع عن المهمة التي استنسختني من أجلها تانيت.
-فهمت الآن سبب ولوعك بها. فهي تريد أن تستغلك لزرع البلبلة على الأرض.
صمتت قليلا ثم أضافت:
-ألا يكفينا بن لادن وصدام حسين...
قاطعها بعنف:
-توقفي عن زرع الأشواك في طريقي. هذا النص سيصحب الصور الجميلة التي التقطها الطبق الطائر، وسيبث في كل أنحاء العالم. وسيرى كل الأرضيين حنبعل وهو يدعوهم إلى القيام بواجبهم المقدس في تخليص الأرض من شرور التلوث.
صمت لحظة ثم عاد يقول:
-لن أتوقف عند هذه المداخلة سأفضح كل الجرائم التي تقترفها الدول ضد الأرض.
قالت له متهكمة:
-ومن سيتركك تفعل؟ ستراهم يحاصرونك، ويقبضون عليك وعليّ حالما تبث صورك...
نظرت في عينيه وسألته مستفسرة:
-قل لي كيف ستبث صورك في تلفزيونات العالم؟
-تقول تانيت إن تقنياتهم تسمح لهم بولوج كل الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض، وبذلك يمكن تعطيل بث أي محطة تلفزيونية، وبث أي برنامج آخر.
قالت له راجية:
-يا حنبعل. إنك تناسيت حقيقة هامة تخص عصرنا وهي الإعلام. فهو سلاح خطير بين أيدي الحكام لا يسمحون لأي كان أن يتحكم فيه. فإن استوليت عليه ولو للحظات فإنك تكون قد أعلنت الحرب على كل حكام الدنيا. سوف يمحقونك يا حنبعل.
-أليس أفضل أن ينتبه سكان الأرض للخطر المحدق بهم ولو لفترة وجيزة على أن أبقى ألوك حيرتي بمفردي؟
-وهل تتصور أنك ستنجح في تحريك سواكن الناس؟ لا تحلم يا حنبعل، ليس الناس هم الذين يحكمون الأرض بل المال والأعمال، ورجال المافيا بأنواعها، والشركات المتعددة الجنسيات. كل هذه القوى لا تسمح لأي كان أن يغير المسار الذي سطرته للإنسانية.
لم يقل حنبعل شيئا، بل نهض ووقف أمام النافذة ينظر إلى سيارة الشرطة رابضة في مكانها. بعد فترة من الصمت سمعته يطلب تانيت ويعلمها أنه يرغب في بث الصور في أقرب الأوقات. ثم أعلن:
-لا داعي من أن أظهر على الشاشة ولا أن أرسل خطابا. سأرى مدى تأثير العملية، ثم أقرر المرحلة القادمة.
لحقت به أسماء وعانقته قائلة:
-أرجو أن تعود إلى رشدك وتترك عنا دنكشوطياتك.
قال لها وهو يمسح على شعرها المنساب على كتفيها:
-لقد اختمرت الخطة في ذهني ولن يثنيني أحد عن تنفيذها.
عند المساء جلس حنبعل أمام الشاشة ينتظر نشرة أخبار الثامنة. وما إن أعلن المذيع على عناوين النشرة، حتى اجتاحت الشاشة الصور الجميلة التي التقطها الطبق الطائر لمناطق مختلفة من الأرض. دام الشريط خمس دقائق فقط كان خلالها حنبعل وزوجته مشدودين إليه بكل جوارحهما. ولمّا عاد المذيع لنشرة الأخبار مرتبكا، قفل حنبعل جهاز التلفزيون والتفت إلى أسماء منشرحا، ثم أعلن:
-غدا نبث مجموعة أخرى من الصور!
سألته أسماء مشككة:
-وما الداعي لبث مثل هذه الصور؟
-عندما أنتهي من بث المجموعة الأخيرة سأعلن للمشاهدين قيمة تلك الصور ومدلولاتها، وأطلب منهم أن يتحمّلوا مسؤولياتهم!
-عدت تفكر بجنون!
-لن يتغير حنبعل!
قالت له مستسلمة:
-افعل ما تشاء، فقد سلمت أمري للأقدار ما دمت قد ربطت حياتي بك.
احتضنها وهمس لها:
-لا تحزني فلن يقع لنا أي سوء!
قالت له بصوت حزين:
-سوف ترى آلة القمع عند ما تتحرك، ستكون رهيبة لو وقعنا في قبضتها.
-وهل نسيت تانيت؟
قالت غاضبة:
-هي السبب، فقد زرعت فيك البلبلة بحديثها عن الأخطار التي تهدد الأرض.
عاد يهمس لها:
-الخطر الداهم على الأرض حقيقة، اقتنعت بها...
صمت يفكّر ثم أعلن:
-سأطلب من تانيت أن تبعث لي صور بؤر التلوث على كوكب الأرض.
طلب تانيت وحدثها في الموضوع، وبعد بضع دقائق كان حنبعل وأسماء يشاهدان الصور على الشاشة الافتراضية. كانت حقا فظيعة تلك الأدخنة المنتشرة في أرجاء المعمورة، وتلك المياه القذرة التي تمتلئ بها الأنهر، وبقع الزيوت العفنة السابحة على صفحات البحار، وبراميل المواد السامة المتروكة في العراء تنزف لتلوث باطن الأرض. وكانت أفظع الصور تلك التي تظهر باطن الأرض المشحون ببقايا النفايات النووية. كانت كل مناطق اليابسة تحتوي على تلك السموم الخطيرة التي تعمر آلاف السنين.
عندما انتهى الشريط طلب حنبعل من تانيت أن تبثه كما فعلت بالأمس. ومن الغد وعند الساعة الثامنة مساء جلس حنبعل يترقب رؤية تلك الصور من جديد على شاشة جهاز تلفزيونه. وقضى خمس دقائق من النشوة وهو يتصور جمهور المتفرجين ورجال الإعلام ينظرون لهذه الصور بريبة وتعجب. ولم تسأله أسماء عندما انتهى شريط الصور عما سيفعله في المرحلة القادمة، فقد أخذت تستعد لمصيرها.
وفي اليوم الثالث كانت مجموعة الصور التي طلب حنبعل من تانيت بثها أخطر عمل قام به رجل في هذا العصر. فقد أمدته تانيت بصور للأسلحة النووية المنتشرة في أماكن عديدة على الكوكب. كانت مخبأة داخل القواعد العسكرية، في المستودعات، أو تحت الأنفاق، على متن الغواصات، أو في أعماق البحار، في أعالي الجبال، أو مغمورة في رمال الصحاري، وحتى على ثلوج القطبين وفوق السماء تتجول على متن الأقمار الاصطناعية. كل الأرض كانت ترزح تحت ذلك الرعب النووي، الذي كان على أهبة الاستعداد ليفجر الأرض ومن عليها في دقائق معدودات. ولم يكفه بث الصور بل طلب من تانيت أن يكتب تحت كل صورة مكانها، وقربها من التجمعات السكنية، وقوة انفجار القنابل التي تحتويها، ونوع الدمار الذي يمكن أن تحدثه.
وكانت القطرة التي أفاضت الكأس. فقد خلق بث المجموعة الأخيرة من الصور حالة هيجان كبرى في جل بلدان العالم المتحضر. كان الجميع يتساءل عمن يقف وراء بث هذه الصور، وانبرى الحكام يتحدثون إلى المحكومين بلغة التهدئة، والوعيد لمن يقف وراء هذا النوع من الإرهاب الخطير. لكن الحيرة عمت جل بلدان العالم. وانطلقت مصالح الاستعلامات تترصد المعلومات في كل بقاع الدنيا، وتدخل العلماء والساهرون على تكنولوجيا الاتصال لدرس هذه الظاهرة الغريبة التي لم يجدوا لها تفسيرا مقنعا. وأعلن المشعوذون أنها علامات قيام الساعة. وتزعزعت البورصات المالية، وانهارت العملات، ودبّت الحيرة في عقول الناس.
ظلّ حنبعل يتتبع الأخبار عبر شاشات تلفزيونات العالم، واكتشف مدى التظليل الذي تمارسه وسائل الإعلام الجماهيرية على الرأي العام، وكيف تقلب الحقائق، وتوحي للناس بما تريد أن يكون قناعة لدى الجميع. وتستعين لذلك الغرض بمن تدّعي أنهم علماء واختصاصيون في الميدان. وأصبح ما فعله حنبعل من بث لمجموعة من الصور الواقعية التي تشهد على مدى الخطر الذي يترصد بالعالم، عملا إرهابيا يستهدف الحرية والتقدم والديمقراطية. وعوض أن تطرح تلك الوسائل المشكلة بكل أبعادها، انبرت تكيل التهم والشتائم لعدو خيالي يريد قلب توازنات العالم الحر المتحرر من عبودية التسلط والدكتاتورية والتخلف والتعصب الأعمى.
ظلّ حنبعل يفكّر في جدوى تدخله شخصيا، فلن يقوى أمام آلة القمع الإعلامية التي تستعملها الأنظمة لتخدير جماهير الشعوب الراضخة لنوع جديد من العبودية. "هل في مقدور العبد أن يتخلص من عبوديته لو حدثته عن وضعه؟" تساءل حنبعل. "وهل يتراجع حنبعل عن مشروعه قبل أن يستنفذ كل قواه؟" كانت أسماء في تلك اللحظة تنظر من النافذة إلى سيارة الشرطة البيضاء تتبع الحركة التي أخذت تتفاقم حولها. ولمّا لاحظت عربة كبيرة زرقاء داكنة تحل بالمكان، نادت حنبعل ليتابع معها ما يحدث بالقرب من بيتهما.
نهض حنبعل متباطئا، لم يكن يكترث بالرقابة المنصوبة حول بيته، فقد اقتنع أن حماية تانيت له ولزوجته أقوى من أن يخترقها رجال الشرطة ولو كانوا مدججين بالسلاح. لكنه عندما لاحظ عربة الشرطة وقد اصطف أمامها عدد من الرجال بخوذاتهم وبرشاشاتهم، قال لأسماء التي تمكّن منها الرعب:
-سأطلب تانيت وأحيطها علما بما يقع. ابتعدي عن النافذة، ربما يطلقون النار.
عندما خاطب تانيت، هدأت من روعه وطلبت منه أن لا يكترث بما يحصل خارج البيت، فهم يراقبون الوضع بكل عناية. ثم سألته غير مبالية:
-ماذا ستبث الليلة؟
صمت لحظة ثم قال لها:
-سأبث نصا.
همزته أسماء، ثم قالت له متوسلة:
-أرجوك لا تفعل. فسوف يهدمون على رؤوسنا البيت لو عرفوا أنه مصدر كل هذه البلبلة التي تهز العالم.
قال لها بكل برودة:
-إننا في حماية تانيت.
تشبثت به، ورجته أن يطلب من تانيت أن تساعدهما على مغادرة البيت حالا، فلم تعد قادرة على البقاء داخله ولو ساعة. كانت ترتعد من الخوف، والدموع تملأ عينيها. عاد حنبعل لمخاطبة تانيت لكنه سمع أزيز طائرة مروحية تحوم في سماء البيت، وجرى إلى النافذة غير أنه لم يشاهدها. خاطب تانيت، فعادت تطمئنه، ولما لم يقتنع قالت له بجد:
-يمكنك أن تخرج إلى الحديقة وترى بأم عينيك كيف سنبعدهم عن بيتك دون عنف كبير.
ورغم توسلات أسماء فتح حنبعل باب بيته، ورغم الظلام المهيمن، فقد رأى ما لم يصدقه عقله. على بعد بضع أمتار من سياج الحديقة قامت زوبعة هوجاء، ريح عاتية، ومطر غزير يحجب الرؤية، ثم حط فجأة على عربات وسيارات رجال الشرطة إعصار هائل جعلها تتدحرج حتى الطريق الكبيرة المؤدية إلى المدينة. ظلّ حنبعل مندهشا، لا يدري إن كان ما تراه عيناه حقيقة أم خيالا، لكن عندما التحقت به زوجته تريد إرجاعه داخل البيت، صرخت قائلة:
-ادخل يا حنبعل قبل أن يصعقك الجن، فهذه تانيتك أتت بهم من العالم الآخر لتحارب بهم رجال الأمن. لا بد لنا أن نغادر هذا البيت.
جذبته بقوة ثم أغلقت الباب. وما إن دخلا الصالون حتى وجدا تانيت تتربع على بساطها الطائر وكأنها تترقب رجوعهما. احتمت أسماء بحنبعل وتمتمت:
-بسم الله الرحمان الرحيم. 
قالت لهما تانيت غير مبالية بحالة الاضطراب البادية على وجهيهما:
-استعدا للرحيل، لن يمكنكما العيش في هذا العالم العنيف الذي يجند كل تلك القوة لمحاربة رجل واحد.
فسألتها أسماء:
-وإلى أين ستأخذيننا؟
-إلى مكان تكونان فيه آمنين حتى تبتّ السلطة في قانماد في مصيركما.
سألها حنبعل غير مكترث بما آلت إليه الأوضاع:
-وهل ستبثين الخطاب الذي أحضرته؟
قالت له أسماء بحنق:
-أنت حقا مجنون.
مسح على خدها مهدئا وهمس لها:
-هكذا كان حنبعل وهكذا سيبقى.





صدر للمؤلف:
-"غار الجن" رواية في الخيال العلمي دار سراس 1999
-"جبل علّيين" رواية في الخيال العلمي دار سراس 2001
-"القرنفل لا يعيش في الصحراء" رواية 2003 حازت جائزة كومار الذهبي لسنة 2004



ظهر الغلاف
بكل اختصار وجدت تاريخك من أغرب تواريخ عظماء الأرض. فقد ظهرت لي رجلا غريب الأطوار تجمع كل متناقضات الإنسان. العنف والرقة، الحرب والسلم، البساطة والرفعة، والواقعية والحلم. كانت كل حياتك تناقض، حتى موتك لا يخلو من ذلك التناقض. وجدتك شخصية غريبة، ولذلك أحببت أن أراك تعيش في هذا العصر الذي تفاقمت فيه تناقضات الإنسان إلى درجة لم يعد يسهل فيها رؤية مستقبله...
-لماذا اخترتني أنا بالذات؟
-لأن تاريخك وتاريخ قرطاج يدعم النظرية المتشائمة لمستقبل البشرية على الأرض. قد لا تعرف أنك انتحرت هربا من جبروت القوة التي سيكون على يديها نهاية حضارة من أرقى حضارات المتوسط. لقد محت روما، القوة التي تزعمت العالم، كل معالم الحضارة القرطاجية، أحرقت كل شيء: البشر والمباني والكتب، والمعابد، وحوّلت كيانا بني على مدى ستمائة وخمسين عاما إلى رماد، وحرمت البشرية من جهد أجيال حاولوا التقدم بالإنسان في كل ميادين الحياة. اليوم يا حنبعل تقود الإنسانية قوّة في مثل جبروت روما، وهي تملك من الأسلحة الفتاكة ما يمكنها أن تقضي على الكوكب الأزرق في غضون ساعات. والغريب أن هذه القوة العظمى يحكمها أناس جشعون لا يرون من الأرض إلا ما توفره لهم من أرباح وخيرات...
















