المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غير المباح


AshganMohamed
02-03-2020, 08:16 AM
غير المباح رواية لسعاد سليمان
لم تعد فتنة الحكي سلاحها ، قد تشتاق أحيانا لغزل خيوط الخيال الذي يسري بعقلها ليلا ونهارا، هل جف نبع الليالي الجميلة؟

بعدما فرغت حكاياها الطويلة ، طواها الزهد ، أغلقت مقاليد سحرها ، حتى عندما يلح عليها الحنين للقص وترى الشوق و الرجاء في عينيه ، لا تأخذها به شفقة أو رحمة
، وبتحد لا تخجل من إعلانه ترشقه بجواب لا يحتمل المراوغة و إن لم تنطقه ، فهي تصوبه إليه في كل لحظة ، لم تعد تطيقه هذا الشهريار ، تتساءل : أبعد كل هذه السنوات
أحتاج لما أرويه له حتى يمنحني ليلة أخرى؟

لا.. لم يعد شهرياري ، لن يملك بعد الآن مصير شخوصي ومدن أحلامي ، رغم احتياجي الشديد للحظة بوح بما يفيد به عقلي وأضعت عمري اغزله لك رؤى ونهر حكمه لم يغرك
فيض نورها بإضاءة كل المساحات المظلمة في عقلك ، أمنحك الحكاية تعيد تشكيلك ، فتتلهى بما تحفزك إليه ، فقط تقتل فيه مللك ورتابة مشاعرك ، تشغلك نساؤها ، وتبهرك
تفاصيل اللهو ، تضيع الحكاية وتضيعني بحدود أسئلة تنهشني ، ولا يبقى مني ومنها سوى ما يزيد غرورك وتفاهتك ، ومايزيد خوفي أن انتهك محظوراتك غير المعلنة ، لذا
فلن أضيع ما بقى من لحظات عمري حكاءة لمن امتلكني بسيفه ، ولكنها آخر الحكايا أختزنتها تؤنس وحدة أيامي الباقية ، أخاف أن يأزف موتي الذي أحسه وشيكا دون أن
أكمل ما خلقت لأجله ، وكيف أترك سطوري ناقصة يملؤها الخواء؟

**************

تفيق شهرزاد من حديثها الصامت المرتبك تتعجل الثواني والدقائق تترقب ظهور دنيا زاد قبل أن تودع هذا العالم بماضيه وحاضره ومستقبله ، بأسراره وشهرياره . تنصت
لوقع أقدام دنيا زاد ، ملاذها الأخير ووسيلتها الدائمة للنجاة .

هكذا استقبلت شهرزاد أختها بوجه يرتسم فوقه الحزن ، ويعلوه شحوب الموتى

: تشقق لحمي وجف .. أسمع تكسره.

أيقنت دنيا زاد هراء كل محاولات وكلمات المواساه لمداواة جروح امرأة كانت تنافس النور والبهجة . ترسل شهرزاد زفرة موجعة ، ترجو أختها أن تحفظ عنها آخر الحكايا
، تتلفت بحثا عن مجهول ، تتسمع صوت الهواء ، تهمس

: إنه قريب ... يحوم حولي ، أحسه في كل مكان !

: شهريار .. تؤكد دنيا زاد !

:لا.. بل الخوف الذي يستهلك طمأنينة النفس ، سنوات طويلة لم أعد أحصيها وحارس الموت لا يغفل عني هل عينه شهريار مراقبا لروحي؟

كل ليلة يراودني الحلم اللعين سيف شهريار ينغرس في رقبتي حتى المنتصف ، أصرخ ألا يقتلني ، ثم أتوسل أن يكمل قطع الرقبة كي أستريح .

من روحها تنثر دنيا زاد دفئا وحنانا على شهرزاد زهرة الدنيا التي صارت أوراقا جافة ، تخاف أن تضمها فتسقط وريقاتها ، تلمسها بحنو وحذر ، تهدئ ارتعاشة جسدها
الهزيل.

تلمح شهرزاد حركة خلف الستائر فلا تبالي ، تهمس بوهن :فلتسمعي آخر حكاياي ، لو سمعها شهريار لقتلني ، لا وقت لدينا ، تحكي شهرزاد ، وقد استعاد وجهها رونق السحر
:

بلغني أيتها الأخت العزيزة..أنه في أحد بلدان الدنيا الكبيرة ذات الحضارة العريقة أن حاكمها ، استيقظ ذات صباح يرافقه أعوانه من كبار الأطباء والعلماء والمشايخ
والقساوسة ورجال وسيدات أعمال في بطانته فلم يجدوا أحدا بالمدينة ، كل شئ ساكن في المدينة الصاخبة ، توقفت حركة السيارات ، خلت الشوارع من المارة ، وكأنها مدينة
أموات، لا ظل فيها حتى لشبح!

ها هي الارض مازالت صلبة تحت أقدامهم ، لم تنشق ولم تبتلعهم ! من سلب المدينة أهلها! هل طاروا مع الرياح؟

نما العبوس فوق وجوه اكفهرت بالدهشة والحيرة ، ترى أين ذهبوا ، لا ضحكة امرأة ولا صرخة طفل ، ولا همسة رجل ، هل حل بالبلدة طاعون أهلك الشعب؟ إذا فأين الجثث؟
أم ارتفعت الأرواح بأجسادها ؟ وإذا كانوا أحياء فأين هم؟ هل صورت لهم عقولهم الاختباء في سراديب تحت الأرض؟

استدرك الحاكم فسأل أعوانه : مابال السراديب السرية التي حفرناها للطوارئ؟ أليست خاصة بنا؟ فكيف اكتشفها الشعب؟ وبسرعة تتحرك مجموعة الأعوان يملؤها الأمل والاستعداد
لعمل شاق لمعاقبة هذا الشعب الذي جرؤ على استغفالهم ومرواغتهم بهذا الاختفاء الجماعي المفاجئ ، كثرت التخمينات والظنون ، ربما هاجر الشعب ، إلى البلدان المجاورة
! ولكن متى وكيف؟ أو اختطفته كائنات فضائية ؟ أو من الجائز أن قنبلة أتت على المدينة نسفت شعبها !

يثور الحاكم :إذا كان ما تدعونه صحيحا فكيف لم نشعر أو نرى؟ واستبعدت كل الظنون ، توحد السؤال أين البشر؟

تاهت الإجابات ولم يعثر الحاكم على تفسير منطقي أو خيالي لما حدث ولم يصله سوى همهمات مبهمة ! غامت الرؤى ، وكأنما ثبتت أحقادهم على هذا المشهد الخالي من الحياة

..وعبثا أن يظهر للشعب أثرا، حتى عندما قام الأعوان بتمشيط المدينة وسراديبها تحت الأرض ، وفوق أسطح المنازل ، وجرى نهرهم الذي جف وصار طميا يسكنه الظمأ ، وبعد
طول بحث في المدينة بأزقتها وحواريها ، خرائبها وميادينها ، فزع الحاكم وأعوانه ورفضوا تصديق ما أصبح حقيقة أمامهم ، ولم يستطع أحد منهم حتى في أكثر شطحاته
الخيالية أن يصدق هذا الواقع ، صفع المنظر وجوههم الذاهلة ، أصابهم الرعب، كادت المفاجأة تحولهم أصناما.

في الميدان التاريخي الكبير والذي أصبح خرابا مهجورا بعدما كان يحمل نقوش حضارتهم وعلمهم القديم ، وجد الحاكم وأعوانه جافل لا حصر لها من الفئران بمختلف الأنواع
والألوان والأحجام تصرخ بأصوات مزعجة ، يستحيل احتمالها ، تخترق الميدان الفسيح بهوس شديد، تقفز بغضب في وجوه الواقفين ، تتصارع على الجحور القليلة حول المكان
، من أين جاءت كل هذه الفئران ؟ أين الشعب؟ بدهشة يسأل الحاكم ، يرفض تصديق ما يبدو انه الحقيقة المؤكدة ولا شئ سواها ، إن شعبه قد تحول جميعه إلى فئران يحيطون
به بعدما هرب أعوانه فزعا ورعبا.

*****

الفصل الثاني

"
الحق ثقيل، لذا فالذي يرضي بحمله قليلون ، والباطل خفيف لذا يسارع الكثيرون لحمله، وهم أيضا الشهود والمدافعون "

"من برديات منف"

يخرج شهريار الذي كان يسترق السمع لحديث شهرزاد من مخبئه خلف الستار ، حينما صرخ حكيم الليالي مستنجدا به أن ينقذ أبناءه الخمسة المتقاتلين على السلطة في صراع
طويل بدأ بينهم، ولا أحد يعلم كيف سينتهي؟ مصحوبا بسيل هادر من لعنات شهريار ذهب الحكيم أسفا، وما بين غضبه ومغالبة شوقه

لها يواجه شهرزاد مهددا أن تكف عن هراءاتها.

تومض عينيها بمكر لم يزله عبء السنين:ألا تروقك الحكاية؟ أما زلت تهوي قصص الجواري الحسان وبين مغامرات العشاق تتراقص نبضات قلبك؟

إن هراءاتي التي تسخر منها كانت زاد روحك الذي لم تشبع منه يوما، لماذا لا تكف عن نبش روحي؟ كيف تستبيح قدسية عالمي ؟ لم يعد هذا حقك.

ساخرا يتساءل شهريار : ومن سلبني هذا الحق؟ الآن بعدما صرت فريسة لخداعك ، فمنحتك عمرا ووجودا لا تستحقينه وتجاوزت سيفي الذي مازال يشتاق كثيرا لدمك.

تقاطعه غاضبة: أمنحك دمي ترتوي منه وليكن آخر قربان أهبه تكفيرا عن موت مؤجل.

منهكا يركع شهريار: ألأنك دائما تشعلين ظمئي، يطاردني صوتك.. أستجدي دفئك في صحوي ومنامي؟

ترميه شهرزاد بسؤال حيرها طويلا: كيف ينشد الدفء من جف نبعه وتيبس الإحساس بدمائه ، مازالت لمساتك تمزق جسدي ، منحتك برودة روحي وارتديت الصقيع، أطفئ نيران
الجسد المتوهج بلهفة للارتواء.

في صدرك وحنانك المخادعين بحثت عن السكينة ، فأودعتني القبر حيا يا شهرزاد!

بحسم : لم تشبع حنيني للارتواء ، لم أخترك ولم أجدك أبدا زادا لقلبي الجائع ، وعليك الآن أن ترحل عني .. متعثرا في شيخوخته ، ناظرا حوله بريبة وشك ، يمضي شهريار
حاملا عطشه وشوقه خارج حدود همسات شهرزاد .

تهفو شهرزاد للراحة ، تخايلها الكلمات ، تعود برعشة وهج الحكاية ، تقترب من دنيا زاد ..

بلغني أيتها الأخت العزيزة : أن غضب الحاكم وصل أقصى مداه ، فعقد اجتماعا عاجلا ، يستجوب فيه الأعوان عما حدث للشعب ، ولماذا ؟ وأين ؟ ومتى؟ وكيف ؟

وما إن بدأ الكلام حتى قاطعه أحدهم بحماس شديد قائلا: لأنهم طغوا ، إنه شعب غضب الله عليه وباء بإثم عظيم ، ابتعد عن طريق الله ، اختار الضلالة طريقا " وما
يأتيكم من خير فمن عند الله وما يأتيكم من شر فمن أنفسكم " .

وواصل في حماسه : ما حدث من فضل الله وإبقائه علينا في أحسن صورة لخلقه لهو دليل حاسم قاطع على أننا نحظى برضاه " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
" فأبقى على خلقنا في أحسن تقويم ، ورغم هذا سيشيع الحاقدون أننا سبب انتكاسة هذا الشعب .

ضاربا الهواء بقبضة يده : ألا سحقا للقوم الظالمين ، خسئوا ، ومن يظلمون ويتهمون؟..نحن؟ من نشقى ونعمل على راحتهم؟ نواصل الليل بالنهار .. نكد ونجتهد تحت زعامة
زعيمنا ـ مشيرا إلى الحاكم ـ وقيادة قائدنا الذي بحكمته نهتدي وعلى طريقه وخطاه نسير.

يمنع استرساله تصفيق حاد يقطعه صوت شاعر الحاكم معترضا: الحق..والحق أقول إن هؤلاء الذين نكيل لهم الإهانات .. من حلت بهم الكارثة فيهم آباؤنا وأمهاتنا وفلذات
أكبادنا.

يقطع بوادر اندماجه في خطبة طويلة نظرة ساخطة من الحاكم فيشده أقرب الواقفين بجانبه ، يتلجلج باضطراب ، يهبط غائصا في مقعده.

تنحنح الحاكم واعتدل في جلسته وهو يعيد هندمة كرافتته الحريرية محاولا التحلي بالهدوء:أيها السادة..أنتم رجال المدينة وكبراؤها .. المسئولون أمامي عن أحوال
هذا البلد الآمن ، ومنذ أن حلت بشعبنا الحبيب تلك الكارثة لم يقدم أحدا تفسيرا لما حدث .

يبادر مسئول شئون مجلس الحاكم : سيدي.. إنني أعلنها صريحة ، لقد تهاون السيد مسئول الصحة في الحفاظ على حياة وصحة المواطنين فاستفحلت أمراضهم وهكذا حلت الكارثة
.

يهب مسئول الصحة فزعا : لا يا سيدي.. هذا محض افتراء يتهمني به زميلي المسئول لنفي التهمة عن صديقه مسئول شئون " الفرفشة والنعنشة " باعتباره" بيروق له مزاجه
، ويعكر مزاج المواطنين الغلابة فأصابهم بالإحباط والغم من البلاوي اللي بيعرضها عليهم سيادته كل يوم في وسائله المسموعة والمرئية "، وأدى هذا إلى انفجار كانت
نتيجته الطبيعية تمزق خلاياهم الحساسة فتحولوا فئرانا..وأنا دكتور ومسئول علميا عما أقول ، وعلمي غير مشكوك فيه، فكما تعلمون أنا حاصل على كل شهاداتي من أشهر
جامعات العالم المتقدم ومستعد حالا لتقديم تقرير يفسر الحاله الصحيه للشعب المسكين .. وقانا الله واياكم مصيره

تتداخل فوضي الكلمات بين الجميع ، ينفرد كبير الاطباء بالحديث : اسمحوا لي ، مع احترامي الكامل للسيد الدكتور مسئول الصحة فإن تشخيصه للحاله غير دقيق علميا
، فاذا سلمنا جدلا بحدوث انفجار للمواطنين فهذا لا يحولهم من بشر إلي فئران ، ولكن الي اموات .. وحكايه الشهادات العلميه لسيادتك دي كلنا عارفينها.. اما التشخيص
المبدئي للحالة فأرجعه لنوعيه الطعام ، ويملؤني الشك بأنها مؤامره من الخارج لسلب هذا الشعب العريق حقه في الحياة الكريمة التي وفرها له حاكمنا العظيم خلال
مسيره عطائه الممتده ثلاثين عاما ، ونطمع في المزيد من ديموقراطية حكمه والكثير من خطوات التنمية التي ما زال يسعي لتحقيقها ، وهذا الشعب .. هؤلاء المواطنين
الغلابة، يجهش بالبكاء " يا عيني عليهم.. حالهم يصعب ع الكافر" يهدأ قليلا، اعتقد تحديدا ان التسمم الغذائي جاءنا في ارغفة الخبز المستورد من الدوله التي اصبحت
صديقه ، والمتقدمه تكنولوجيا وحربيا ونو....

يحتج وزير الخبز: ألفت نظر الزميل لخطورة ما يقول وارفض بشدة هذا الاتهام وأطالبه فوراً بالاعتذار ، إن تاريخي معروف فأنا اكثر منه وطنيه ولا اقبل اي شبهه
تطعن في شرفي وسجل نضالي الذي كتبته بروحي ودمي

تتعالي الاصوات ، تتداخل ، تخرس جميعاً عندما يصرخ الحاكم محتداً : كفي مهاترات ، حتي الان لم افهم السبب ، ولماذا لم نتحول نحن .. يضع يده علي رأسه ويرفع حاجبيه
، نحن فئراناً مثلهم؟. اضطربت قاعه الاجتماع لغواً وفوضي حين اكتشف الساده المجتمعون بعض الفئران تجري بسرعه ، يتحاشاها المشايخ خشية نقض وضوئهم..ذهل الحام
من ازدياد أعداد الفئران المتسللة ، أصابه الذعر ، انسحب معلنا رفع الجلسة والعودة مساء بعد تنظيف القاعة من الفئران المدنسة.

************

الفصل الثالث

"
حقا إن الأرض تدور كعجلة الفخار واللص أصبح صاحب ثروة "

" من أقوال ايبور"

حول نوافذها يحوم، يتحين الفرصة. عبثا يحاول التقاط كلمة..معنى..تخترق أذنيه صرخة هلع تشق ضباب الليل وتمضي كالسهم لقلب شهريار ، بينما تسقط شهرزاد تقلب وجهها
بأركان الغرفة ، علها تجد مهربا مما تراه ، جسد ابنها حدشيار المسجي في دمائه وبرقبته سيف أخيه حزم يار ، وزوجته الجزعة والتي تندب بصوت ناعق :" راحت رجال العز
و الهيبة وجت رجال ما تستحي العيبة".

ترمي حزم يار قاتل زوجها بنظرة كره أفزعته فنكس رأسه لكنها لم تمنحه أمل التراجع :" الموت لم يأخذ الرمة .. ياخد المليح وصاحب الهمة "

بأظافرها تخمش وجه حزم يار ، خدشت أيضا وجهها ، اندفعت في هياجها تمزقه ، تمزق نفسها.

منكمشة في ركن قصى تتكور شهرزاد على نفسها ، لم تعد تشعر بشئ ، تمسدها دنيازاد والدموع ترتجف في عينيها : " هو الموت يا شهرزاد لا منجى من الموت، والذي أحاذر
بعد الموت أدهى و أفظع".

عبثا حاولت شهرزاد الفكاك من غوايه الحكاية فلم تجد مفرا سوى التورط فيها، راحت والرعب يتملكها اصطياد الخيالات الجامحة للكلمات ، تقول شهرزاد ..

بلغني أيتها الأخت العزيزة:

إن مندوبي وكالات الأنباء العالمية قد تجمعوا في زحام شديد، انطلقت فلاشات الكاميرات ، امتدت أسلاك الميكروفونات ، تعددت الأسئلة تشق رأس الحاكم وتدق بابا جديدا
للحيرة والارتباك ، انشغل بعض الأعوان برسم ضحكة بلهاء ، وتهيئة أنفسهم أمام عدسات المصورين المفاجئة ، بصوت صارخ أمر الحاكم كبار رجال الشرطة بعدما صار صغارهم
ضمن فئران الشعب أن يفسحوا له طريقا بين الزحام، يحمونه من هذا الكم الهادر من صحفيين ومراسلين لم يرهم من قبل ، حتى في احتفالاته السنوية بعيد ميلاده ، وعيد
تولية الحكم ، خاصة من كان يدعوهم ويجزل لهم العطايا السرية والعلنية ، لم يكونوا يوما بمثل هذا الاهتمام ، راودته ضحكة ساخرة عندما تذكر صوت شخير أحدهم أثناء
القائه خطابه السنوي في المجلس الموقر العام الماضي .

بعد طول جهد أفسح كبار رجال الشرطة طريقا للحاكم وأعوانه بين تدافع المراسلين ، وأغلقوا فورا باب قاعة الاجتماعات ، فكما أعلن الحاكم ( الجلسة سرية للغاية).

ما إن استوى الحاكم في مقعده ، ضرب بيده فوق مكتبه الفخم ، مهددا متوعدا بالويل العظيم لمن يتفوه بأية كلمة قبل السماح له ، بدأ يقرأ من ورقته : حضرات السادة
الأعوان حتى الآن لم يقدم تفسيرا لما حدث ، وكيف ولماذا؟ وكالعادة فشلتم في الاتفاق على رأي واحد ، والآن بعدما تسرب الخبر عمدا ، وأصبحت الكارثة التي حلت بشعبنا
حديث العالم ومثار اهتمام الدول العلمية القوية التي قد تفرض علينا عقوبات دولية إذا ما طبقت مواد قانون حماية الإنسان أو الحيوان ، وما أخشاه أن تظن خطأ أننا
السبب المباشر لما حدث للشعب ، وتطالب بحق حمايته، ومن يعلم قد تلجأ إلى تحريره بالقوة . حضرات السادة ، الموقف أكثر من خطير لم يعد لدينا الوقت لشرح الأسباب
خاصة أنهم تجاهلونها ، والسؤال الذي يفرض نفسه الآن ما هو الحل؟

لم تفسر المناقشات الطويلة إلا عن الموافقة بالإجماع على تسخير كل أجهزة الحكم لإنجاز المهمة الوطنية " علاج الشعب حتى يعود بشرا".

..بدأ مسئول الأمن و الحماية يرفع يده بحذر طالبا الحديث، يتلفت حوله بنظرات ثعبانية ماكرة وبصوت يسبقه الفحيح :" في دقائق قصيرة سأشرح اقتراحي ووجهة نظري ،
وسأعيد عرض مشروعي ، وإني على ثقة أنه الحل السريع لما نحن فيه ، بتوتر يعيد ترتيب أوراقه : عندما قالوا الشعب مكتئب تقدمت بمشروع ( رفض حينها ) أطالب فيه بالمزاج
لكل مواطن ، وهذا المشروع كان سيحقق طفرة في تكوين الشعب أو على الأقل تجنيبه ما حدث ، ومن خلال موقعي ، وبدافع من واجبي الوطني ، طبقت مشروعي في نطاق متوسط
، فكثيرا ما تغاضينا عن التجار الكبار للصنف ، وللعلم معظمهم أصدقائي ، حتى ما كان يتم ضبطه من البضاعة نحرق ربعه فقط ، ولم نقصر " يلتقط أنفاسه " قالوا: الشعب
عنده كبت ، فتهاونا في إغلاق منافذ المتعة المعروفة فماذا أفعل؟ إن ماحدث لشعبنا ـ... يبكي وينظر للحاضرين خجلا " سامحوني دول صعبانين عليا قوي ، أقول إيه أنا
أكتر واحد مضار في المصيبة دي " ، فهل تعلمون أنني تعبت بحثا عن عائلتي فوجدتهم تحولوا جميعا إلى فئران . أما عن توريد الصنف ، فأرجو الاعتماد على شخصي المتواضع
، وأعدكم بأني لن أقصر أبدا في أداء واجبي ، أما المشكلة الثانية : منافذ المتعة ، فلا تدخل في نطاق اختصاصي!

نظرات ذات مغزى تبادلها الحاضرون ، تهامس مسئول الخبز..وهل يكفي مخزونه من البضاعة لكل هذه الملايين؟

.. بسيطة يقول مسئول النعنشة .. يمكنه الاستيراد المهم أين نصيبنا من الصفقة ؟.

اقترح مسئول الخبز تسريب ورقة لمسئول الأمن والحماية تحمل ثلاث كلمات يختار احدهما ( المشاركة ـ النسبة ـ إلغاء الصفقة ) .. بهزة من رأسه أرسل مسئول الامن والحماية
الموافقة علي الاختيار الأول وتعفف بعض الأعوان عن المشاركة خوفا ورهبة من مسئول الأمن والحماية وزهد الآخرون طمعا واملا في صفقات أخري يراعيهم فيها زملائهم
الثلاثة .

بخبرته الطويلة يستشف الحاكم مايدور تحت الترابيزة " يسرها في نفسه ، وعلي غير المتوقع يهب أحد كبار المشايخ الخمسة زاعقا : هذا منكر وضلالة ، لن أوافق علي
هذا المشروع فهو حرام .. حرام ، شاركه أحد كبار القساوسة مؤكدا أن محاولة تخدير الروح التي هي ملك الرب يُعَد حراما .

نطق الحاكم ضاحكا : وأنا أوافق علي رفض المشروع ملقيا بنظرة تشف للوزراء الثلاثة شركاء الصفقة .

تعالت أصوات المراسلين خارج قاعة الاجتماعات بوصول مندوبي منظمات حقوق الإنسان وجمعيات الرفق بالحيوان ، يعود الحاكم مستدركا الموقف ، يكرر السؤال نفسه : ماهو
الحل؟؟ .

****

الفصل الرابع

"
إن حدود الحق واضحة ، والحلال بُين والحرام بُين والمرء يفعل ما تعلمه من ابيه "

من تعاليم بتاح حتب

يقول شهود عيان إن العنف والقسوة التي فرضها حزم يار دستورا لحكمه اشعلت مزيدا من الصراع ، وفاضت قصور آل يار بالأحقاد والمؤامرت ، والتي فشل العقلاء في احتوائها
لإصرار حزم يار علي قتل أخيه نظم يار ، بعدما وسوس له جواسيسه وبطانته أنه رأس الفتنة والطامع في عرشه .

وإيقافا لجريان بحار الدم بين أهلهما وشعبهما ، اختار نظم يار مبارزة أخيه الملك ، بعدما فشل في اقناعه باصلاح الأخطاء الفاحشة التي يرتكبها .

تقطعت أنفاس الأخوين لطول مبارزة تعادلت فيها مقدرتهما القتالية ، فأوعز حكيم الليالي لأنصار الطرفين الرجوع لصوت العقل رافعاً كتاب الليالي فوق حد سيفه يتبعه
الباقون .

وتقديرا لحكمة ألف ليلة تراجع المتبارزان ، اقسما بحياة أمهما واهبة الليالي الألف وصانعة وجودهما أن يرتضيا تحكيم ضميريهما في تقسيم مملكة شهريار بالعدل .

وما بين القسم ولفتة الود للقاء قلوب لم يكتمل شق السيف رأس نظم يار ، فسقط جسده تحلق حوله الليالي حزينة .

كامرأة عادت من القبر صارت شهرزاد ، تهفهف حولها الوحدة والهواجس وأسئلة بلا إجابات : لماذا يا دنيا ؟ كيف يترك ابن قلبي أخيه نهبا للطيور الشرهة ؟ هل مزقته
الجوراح وأخذته بعيدا ؟ متي عرف أبناء شهرزاد الغدر والخسة ؟

بين طيات أحزانها تخفي دنيا زاد ما لا يصدق ، حينما رأت حزم يار يرشق بسهامه جمجمة أخيه التي أصبحت تسليته المفضلة يمضي بها أوقات فراغه .

اعلم يادنيا ، أنتم الذين لا تعلمون ، تقول شهرزاد وهي تخطو مرتجفة تناجي غائبا ، وكأن ما حدث لا يخصها تعاود الحكي ، تاركة دنيا زاد للدهشة والفضول .

بلغني ايتها الاخت العزيزة :

إن رنين التليفون المتواصل والذي تجاهله الحاكم وأعوانه قد يحمل حلا ، نقله احدهم الذي تطوع بالرد ونقل نص المكالمة مما زاد حيرتهم ، خمسة من السجناء المليونيرات
بينهم مسئول سابق بتهمة الاستيلاء علي أموال المدينة بطريق غير مشروع لم يتحولوا فئرانا !!!

ليس هذا فقط ، ولكنهم يعرضون المساهمة في حل مشكلة الشعب بكافة إمكانياتهم الانسانية والعقلية ، ورغم علم الحاكم بالمصالح المتبادلة بين أعوانه والسجناء فقد
أفرج عنهم بعدما تعهدوا برد ما نهبوه من اموال المدينة ، حيث أوشكت خزانتها علي الإفلاس ، وأنهي الحاكم الجلسة معلقا : ليس شرطا كل ما نهبوه يكفي بعضه .

************

شارك المليونيرات الخمسة مجلس الحاكم وأعوانه لعرض حلول لعلاج الشعب ، وعلي غير رضا سيدة الأعمال الجميلة التي مازالت تصر علي اقتراحها باستبدال الشعب وللتعريف
بها كما تقول عن نفسها في كل الوسائل المرئية " إنني عصامية بدأت من الصفر " هوايتها المفضلة الزواج بكبار السن الأثرياء ، تفضلهم دائما رجلهم والقبر " وتمر
حاليا بحالة نفسية وعصبية سيئة إذ خذلها آخر أزواجها ، وعلي حد تعبيرها مكلبش في الدنيا " فأهملته ولم تعد تحرص علي تخبئة بعض قطع الملابس الداخلية المحشورة
دائما في حقيبة يدها ، وتتجاهل اسئلته اللحوح ، لماذا لا تمارس أعمالها إلا ليلا ، وتفوح منها رائحة .. يعرفها جيدا .

بإغراء تجيد ممارسته تطلب السيدة فرصة أخيرة لدراسة مشروعها واستيراد شعب جديد وبسرعة تلاحقهم بعرض عدة كتالوجات وألبومات تشير قائلة : هذه بعض صور لعينة الشعب
المقترح استيراده " ياي حاجة اورجينال خالص ، ح يبقي شباب كلهم حلوين ونضاف كده ، وريحتهم تهفهف ، عيون خضر وزرق ، أما البنات أيه "مُزز" تعرض الصور علي الحاضرين
فأغمي علي أحدهم ، واستأذن آخر لدخول دورة المياه ، وشهق البعض إعجابا ، تكمل السيدة : أما البيبيهات الاطفال يعني توفيرا للنفقات بلاش منهم طبيعي إن الشباب
والبنات ح يخلفوا أطفال زيهم حلوين ، وبكده نعمل شعب جديد وعلي مزاجنا ، بتكلفة أيه ملاليم ، مليار دولار بس ، ويتحقق الحلم الوطني اللي عشت طول عمري أحلم بيه
.

يفزع الرقم المطروح الحارس باشا أحد المليونيرات المفرج عنهم ، ورغم مدة سجنه لم تخف عليه معرفة الطريقة التي تمارس بها السيدة أعمالها ومناطق نفوذها !

****************

متذللا يجلس الحارس باشا تحت قدمي الحاكم : لا يا سيدي لا توافق علي استبدال شعبك ، تعلو أصوات تمنعه من الاسترسال ، يكمل وسط الضجيج : ماذا لو عاد شعبنا العظيم
إلي طبيعته بمعجزة سماوية ؟ هل نصدَرهم لدولة أخري مثلا ؟ إن هذا المشروع استعماري ، من يضمن ياسادة الشعب الجديد ؟ هل سيكون مطيعا أم سيرفع شعار التمرد ويطالب
بتغيير قوانيننا العريقة ودستورنا الخالد ؟ وربما يطالب بتغيير نظام الحكم ، يتمكن من الاستحواذ علي إنصات وإعجاب الحاكم موجها الحديث إليه : الكارثة ياسيدي
انهم قد يطالبون بتغييرك أنت شخصيا ، ويرفعون شعار " كفاية حرام " المنتشر حاليا في بعض المدن التي تريد السيدة استيراد الشعب الجديد منها ، ولا تنس ياسيدي
أنهم شعبك الذي أقام لك التماثيل في كل مكان وجعلك رمزا له ، والذي يهتف دائما أن يفديك بالروح والدم ، وهو من يتحمل عناء ومشقة مراحل التنمية الأولي والثانية
وحتي الألف ، هل جرؤ علي الاعتراض ؟ هل سألوا أين عائد التنمية خلال الثلاثين عاما الماضية ؟ ياسيدي بالبلدي كده " من عاشر القوم " " وخلينا زيتنا في دقيقنا
" واللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش " تنفجر السيدة غضبا : وأيه هو الحل ياحكيم زمانك ؟

ينحني الحارس باشا بأدب أمام الحاكم : لقد اتخد سيدي قراره مسبقا ، ووافقتم حضراتكم علي علاج الشعب ، وأقترح لسرعة الإنجاز الاستعانة بالساحر المشهور مستشار
الرئيس الأسبق للدولة القوية ، له قدرات عجيبة رأيتها بنفسي في المرئيات الخارجية ، ودعوته لن تكلف كثيرا ، فقط الإقامة في قصركم الفاخر ، يخرج من جيبه آلة
حاسبة : ولو حسبنا أجره دولار عن إعادة كل فأر ، نجد الناتج .. بسيطة كذا مليون .

علق مسئول الخبز ولكن هذا كثير ، لا نستطيع إنفاق أموال الشعب هكذا !! يرد الحارس : نعم ولكننا نعالج بها الشعب ، وسأل مسئول الخزانة : ومن يتحمل فرق ارتفاع
سعر الدولار ؟ فأجابه الحارس أنها تصير ضرائب علي الشعب بعد شفائه ؟

لم يستطع أحد المعترضين التفوه بأية كلمة بعد موافقة الحاكم علي الحل الذي قدمه الحارس باشا ، وتركهم يتفحصون صور الفتيات الجميلات اللاتي لن يروهن أبدا إلا
صورا .

******************

ظفر الحارس باشا بالصفقة وسط حقد الحاضرين ، وبدلال هَنأت السيدة الجميلة الباشا وأقنعته بقدرتها علي تخفيض ما سوف يتقاضاه الساحر ، والفرق مناصفة بينهما ،
وافق الحارس باشا علي مشاركة السيدة الجميلة تحت تأثير إغرائها فسحبته من طرف كرافتته وانتحت به خلف مكتب مسئول النعنشة تؤدي طقوس توقيع الصفقة ، بينما ذهب
المسئول ليلقي بيانا مقتضبا قال فيه : لقد توصل حاكمنا المعظم بحكمته لحل مشكلة عودة شعبنا الحبيب إلي طبيعته وقرب زوال الغمة .

***

الفصل الخامس

"
إن الأسي يملأ قلبي ، ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت حتي كنت أنقذ نفسي من الألم الذي يعتصرني" .

من أقوال الحكيم أيبوور

أصبح حزم يار صيدا سهلا في أيدي بطانته ، تنفذ وساوسهم كجمرات لهب تشغل عضبه وغدره وتستفز عنفه وقسوته ، يبحث عن مبرر ووسيلة لقتل أخيه الرابع فخر يار أسير
سجنه ، كما بدأ يحشد جيوشه لمطاردة أصغر إخوته حكم يار الذي فر هاربا ، متحالفا مع الدولة المجاورة ـ العدو التاريخي لمملكة آل يار ـ والتي استقبله مسئولوها
بفرحة وريبة ، وأخضعوه لتحقيق طويل سهَل لهم طريقا للنفاذ إلي المملكة العريقة ، وبحسب اتقافية التحالف ينصَب حكم يار ملكا تحت رعاية دولة التحالف وتخليص مملكة
آل يار من ظلم ووحشية حاكمها .

وكأنها تقرأ الغد تقول شهر زاد : مازال حزني وحيدا أكفنه كل يوم ، وفوهة القبر تنتظر المزيد ، تسأل حكيم الليالي : أخبرني هل مكتوب في لوحك المسطور أن اتنفس
الألم وأشقي بالعذاب ؟ كيف تسلل الموت إلي أبنائي بينما يحوطني ؟ يترقب روحي ، هل زهدني ؟ كيف فر مني إليهم ؟ بالأمس القريب حشد يار ونظم يار وغدا ... لماذا
؟ لماذا لا يتركهم ويحنو عليَ يحتويني ، يفك اسر روحي ؟ يكتب أخر سطوري اليوم فأنا لا أشتهي غدا أي غد .

يغلق حكيم الليالي كتابه القديم ، يمضي ليدوُن آخر الفصول في تاريخ مملكة آل يار ، تعلو زفرات تكويها اللوعة تقول شهرزاد .. بلغني أيتها الأخت العزيزة :

إن مئات العيون تحدق دهشة لما تنقله عدسات المصورين والمراسلين ومندوبي الجمعيات والمنظمات الدولية من الميدان التاريخي الفسيح ، والذي تحمل جدرانه قصة كفاح
هذا الشعب وتسجل حضارته وعلومه ومجده القديم ، ذُعرت الفئران من الأضواء وفلاش الكاميرات التي احاطت بهم فهربوا فرادي وجماعات ، أما المتمرسون منهم فوقفوا مبتسمين
، واستعاد بعضهم الوقفات المعتادة لالتقاط عدة صور من مختلف الزوايا ، وشقت فأرة بنية الزحام تخطف الميكروفون من إحدي المراسلات ، تتخذ وضعا استعراضيا أمام
الكاميرا وسط دهشة الجميع الذين ظنوا أن ذلك عملها الأصلي ، ولم يستطع أحد تفسير صوت الفئران ، لذا لم يتمكن المراسلون من إجراء أي حوار مع شعب الفئران ، وانتهز
أعضاء وفود منظمات حقوق الإنسان وجمعيات الرفق بالحيوان الفرصة لتسجيل احتجاجهم واعتراضهم أمام الوسائل المرئية علي الظروف الوضيعة وغير الملائمة التي يعيش
فيها الفئران ، واختتم المراسلون تغطيتهم بتسجيل الخناقة التي نشبت بين مسئولة جمعية الرفق بالحيوان وزميلتها مسئولة حقوق الانسان لاعتراضها علي وصف الفئران
بالحيوانات ، فهم في الاصل بشر ، تدافع عنهم الشرعية الدولية وكافة منظمات حقوق الانسان العالمية .

***********

في لمح البصر نجح الساحر في إخفاء ملايين الدولارات التي حصل عليها وفشل في إعادة الشعب بشرا ، فتوعده الحاكم بالقتل إن لم يغادر المدينة خلال ساعة ، فخرج مطرودا
، وأمام أعوانه استعرض الحاكم خسائر المدينة منذ بداية الأزمة منبها إلي ما تعانيه الميزانية من عجز متراكم ، وأعلن حالة التقشف منذ هذا التاريخ !

العلم ، العلم ياسادة ، ردد كبير الأطباء : كيف تجهلون التقدم العلمي المذهل خاصة في الطب وتلجأون للدجل والشعوذة ، وكأننا نعيش عصور الظلام ، لقد أعددت قائمة
بالأطباء العالميين الذين حققوا معجزات في الطب ومازالوا ، وبالفعل وبعد أذن سيدي الحاكم أجريت اتصالات مكثفة معهم ، وقد أبدوا استعدادهم لعلاج الشعب مجانا
، فقط الانتقالات والإقامة ، واستيراد بعض الأجهزة الطبية التي يحددونها لتساعدهم في تشخيص الحالة ، وتحدوهم رغبة أن يوافق سيدي الحاكم علي حصولهم علي بضع مئات
من شعب الفئران يجرون عليه تجاربهم العلمية وهذا من أجل خدمة الانسانية .

************

بأجهزتهم العلمية الحديثة نجح الاطباء العالميون في التقاط أعداد قليلة من الفئران الهاربة إلي الجحور التي حفروها في جدران الميدان التاريخي واضطروا إلي هدمها
حتي يحصلوا عليهم ، وبعد كثير من الفحوص والأبحاث الدقيقة أعلن الأطباء عجزهم عن إيجاد علاج ، وذكر التقرير الطبي الذي تركوه للحاكم أن جميع خلايا الفئران بشرية
، ولا يوجد خلل واحد في وظائف أجهزة الجسم الحيوية ، والمخ في حالة نشاط طبيعي ، واختتم التقرير بنتيجة وهي أن نسبة ذكاء الفئران تصل إلي مائة في المائة ، ولكنهم
لم بستطيعوا تقديم تفسير علمي لذلك .

بنفاد صبر ألقي الحاكم بالتقرير الطبي ، وعاد السؤال يتأرجح ما هو الحل ؟

************

بعد طول تردد اقترحت الفنانة الكبيرة ذات الصيت المعروف استخدام الموسيقي والغناء لعلاج شعب الفئران ، تقول ضاحكة : طول عمره شعبنا فنان بيعشق الموسيقي والغنا
ـ تمصمص شفتيها ـ ياسلام الشعب ده هو اللي توجني نجمة الجماهير ياخسارة ، قلبي بيتقطع حسرة عليه ، أنا مستعدة انطلاقا من واجبي الوطني اتبرع بكل البوماتي وشرائط
الفيديو كليب وأفلامي لعرضها مجانا !

بتهكم يقول أحد المشايخ : يبدو أن الست بالها رايق ، موسيقي ايه وغنا ياست ؟ أحنا في كارثة ـ يتمتم ـ صحيح ناقصات عقل ودين " يهب واقفا يتبعه زملاؤه ، يلملم
جبته وقفطانه : هيا يامشايخ نقيم صلاة استغاثة لعل الله يرحمنا ........سبحانه .

*****************

تنتقل سيدة الاعمال الجميلة بجانب المطربة التي اصابها الوجوم والاحباط ، تربت علي كتفيها : ولا يهمك صدقيني بدون مجاملة فكرتك رائعة وفنك كمان ، ده انا من
زمان نفسي اقابلك ونعمل بزنس مع بعض .

بإبتسامة يقول الحاكم " شر البلية ما يضحك " فلنجرب ، أنا فاكر مرة قريت إن الموسيقي علاج.. يحزم أمره أوكيه ، أنا موافق ونشوف النتيجة .

**************

ما إن صخبت الموسيقي حتي تملك شعب الفئران الذعر وولوا هاربين في كل الشقوق والجحور التي زاد عددها ما بين الحوائط وتحت الأرصفة ، وعندما اعتادت هذا الصخب والصوت
الزاعق بدا تنطيطهم مع الموسيقي وأخذت بعضهم النشوة فراحوا يرقصون حتي أغمي عليهم ، ولم تخف المطربة سعادتها بنجاح أغانيها في ترقيص شعب الفئران ، فاندست بينهم
تشاركهم الرقص والغناء .

************

طالت مدة الجدل حول مشكلة الشعب الذي تحول فئرانا ما بين علاجه واستبداله ، ولم يهتم الحاكم وأعوانه بتوفير أي رعاية له ، الشوارع نظيفة حتي من التراب والقمامة
التي اجهزت عليها الفئران بعدما استنفدت كل ما توفر من طعام داخل البيوت وخارجها ، ولكنها فشلت في الدخول للقصور الفخمة ذات الحراسة الاليكترونية التي تمنع
حتي دخول نملة ، وبمهارة استطاعت الإفلات من المصائد ونهش الكلاب وفخاخ الطعام المسموم في البيوت القليلة للجاليات الاجنبية ، فراحت تنبش بطول المدينة وعرضها
عما يسد جوعها ، فلم تجد سوي دواليب وخزائن مكدسة بما لا يحصي من الاموال والذهب ، احتاروا ماذا يفعلون بها ، وبدون اتفاق بينهم جمعوها ما بين ارجلهم وايديهم
إلي الميدان ، فاضت نشوتهم ، عبثوا ماشاؤا بالاموال ، مزاقوا بعضها ، وبالوا علي البعض منها ، وأوقدوا الكثير منها نارا يستدفئون بها ليلا ، تفنن عشاق الذهب
منهم في التزين بالجواهر والذهب المنثور حولهم ، وحينما زهدوا في اللهو والزينة احتجت عصافير بطونهم جوعا ـ القوا بكل هذا ، وراحو يبحثون بجنون عن فتفوتة خبز
بلا جدوي واستمروا في بحثهم يقطعون المدينة جريا وصراخا .
الفصل السادس
إن من يسكت علي إساءة المتبجح يضر بنفسه ضررا عظيما !!
من تعاليم مري كارع
مثل راقص مجذوب يدور حول شهرزاد ، يدمدم بالسؤال : لماذا تقتلونني ياأبناء روحي وعمري المهدر ؟ لماذا ياشهر زاد ؟ لماذا تتركينني سجين الاسئلة ؟
: لأنهم أبناء العنف والقسوة ياشهريار ، تجيب شهرزاد ، ماذا كنت تتوقع ؟ ألم تحملهم أحشائي غيلة وقهرا ؟ هل جرؤت يوما علي لفظ ما أسكنت برحمي ؟ لست مندهشة ولا فزعة ، هذا مصير محتوم أعلمه مسبقا وتأهبت ألامي لستقباله ، لا ثمرة بغير اوان .
بوجه منكس يلقي حكيم الليالي بالخبر المتوقع ، قتل الملك حزم يار أخاه الأمير فخر يار في سجنه بعد زيارة قصيرة له أثر احتداد المناقشة بينهما ، قام الملك بخنق أخيه بعمامة رأسه الحريرية البيضاء ، وحرم الصلاة عليه ، وغسله وتكفينه ، وفي سرية تامة نقل جثمانه من مقره الاخير بالسجن إلي مكان لا يعلمه أحد .
يعوي شهريار الملك الملكوم يستجدي شهرزاد : امنحيني بقعة في قلبك الواسع كمحيط ، ضميني لدائرة السحر والحلم ، شعورا بالشفقة يسري مع انفاسها المضطربة ، توحدت مع دفء دموعه ، امسكت بيده تهدهد شيخوخته ، تقول شهرزاد : بلغني أيها الملك الحزين : أن الحاكم وأعوانه استأنفوا اجتماعاتهم بحثا عن حل المشكلة ، وبمزيد من الإلحاح تقدم سيدة الأعمال الجميلة عرضا مغريا مدعما بالأدلة والأسانيد علي عمق وطنيتها ، تمثل العرض في استيراد أطفال تبدأ أعمارهم من الثانية ودون الخامسة يمكن تشكيلهم وفق رغبة الحاكم والأعوان ، وبهم نبدأ تكوين نواة شعب جديد ، وتنهي عرضها " أنه ح يكون شعب علي مزاجنا " ، بلهفة وترحاب يستقبل الحاكم عرض السيدة ، يراوده أمل عودة سلطانه وسلطاته علي شعب حقيقي ، بشر من لحم ودم ، أصوات ، صرخات ، وجوه ، ضحكات ، بعدما طال انتظاره لعودة شعب لم ينفع معه طب ولا سحر ، وأصابه في سبيل ذلك إهانات وتوبيخ من البلدان المجاورة ، والذين يطلقون عليه " قط يأكل شعبه " وهم لا يعلمون معاناته وحسرته .
مستبشرا عاد من تأملاته وأمانيه معلنا سرعة استيراد الأطفال خاصة من الدول الفقيرة ، وقبل أن تلملم سيدة الأعمال أوراقها نبه المحروس باشا الوزير المسجون سابقا إلي ضرورة التخلص من شعب الفئران وإبادته استعدادا لاستقبال الشعب الجديد ، محاولا بين فوضي الأصوات التوضيح قائلا : يا سادة لقد استنفدنا كل طرق ووسائل العلاج ، ونحن مضطرون ، وبغض النظر عما أنفقته المدينة وخزانتها علي وشك الإفلاس ، فإن موقفنا أمام العالم في غاية السوء، ولم يبق لدينا مبرر مقنع نعلنه لتفسير الحالة الراهنة .
: إنهم في الأصل بشر ، أرواح من عند الله ، كيف نستبيح قتلهم ؟ تساءل كبير القساوسة ، وأجابه مسئول الخبز : أن الضرورات تبيح المحظورات ، يعترض كبير المشايخ محتدا : ولكنها لا تبيح المحرمات ، وقال تعالي في كتابه العزيز " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق " فأين الحق الذي تبيحون به قتل أنفس بريئة ، ينضم إليه قاضي المدينة مضيفا : كما أنه ليس لدينا قانون ولا مادة في الدستور يخول لنا حق القتل الجماعي لهذه الكائنات حيوانات كانت أم بشر !
: " سهلة " يقول مسئول شئون مجلس الحاكم نصوغ قانوناً جديداً و " نًُدَسِتُُرُه " ، والحمد لله العدد القانوني من الأعضاء مازالوا بيننا وهم الموافقون علي قوانيننا حتي التي لم نفكر فيها بعد .
يرشم كبير القساوسة علامة الصليب متمتما : إنهم أرواح يملكها الرب ، ولا يحق لمخلوق التصرف فيها .
متثائبا يقول المحامي الكبير : كدت أنسي أن أعلنكم بالدعاوي القضائية التي أقامتها ضدنا منظمات حقوق الإنسان وجمعيات الرفق بالحيوان أمام المحاكم الدولية .
: " قضاء وقدر " أطلقها المحروس باشا .. هل يملك أحدنا دفع القضاء والقدر ، متبرئا يعلن كبير المشايخ رفضه وانسحابه يتبعه القساوسة تضامناً ورفضاً لما يحدث .
ينهي الحاكم توتر الموقف فيأمر المحروس باشا باستكمال عرض فكرته .
: بالفهلوة كده وبعون الله سأثبت لكم أن القضاء والقدر هو الحل الوحيد المتاح أمامنا .
بتهكم يسأله الحاكم : وكيف سنبرر يا فهلوي إبادة شعب ومفتشي الدولة العلمية القوية يتعقبوننا ، وأقمارهم تتجسس علينا ليلاً ونهاراً .
: ماذا لو استوردنا أعدداً كبيرة من الخيول الجامحة نطلقها في ميدان تجمع الفئران ، فتدهمها ، تفعصها ، حادثة .. قضاء وقدر .
**********************
بفرح فوضوي استقبل شعب الفئران الخيول المستوردة التي ما أن وطأت أرض الميدان حتي ساد العبث واللهو .
اختلطت أصوات دهشة الحاكم وأعوانه بالخيول ، بحركة الفئران تقفز سريعا فوق ظهور الخيل ، تنطلق بخفة ونشاط ، أصبح كل عشرين فأراً فوق ظهر حصان ، صنعوا أدوارا مركبة لا تستطيع عدها ، ينزلق بعضهم فيعيد المحاولة بإصرار ورشاقة بلغت حد التهور والتراشق بصغارها الذين طاروا في الهواء يَُلقفونهم لبعض ، وتولي الأشقياء الصغار خمش كل موضع في جسم الخيول وبخاصة الأماكن الحساسة ، وكسيل باحث عن مأوي انطلقت الخيول بعيدا حيث لا ملاذ .
**********************
لم يفرغ بعد جراب الحاكم وأعوانه من حيلة للتخلص من شعب الفئران ، فتقدم المحراث باشا ثالث المليونيرات بمشروع أعتبره الأكثر فعالية " استيراد فيلة " بضخامتها تدهس الفئران في دقائق .
بالقفز والصراخ استقبل شعب الفئران الفيلة ، وهرب الحاكم وأعوانه تاركين الفيلة مضطربة ، وكأنها دقت بوتد في الأرض ، فأخذت الفئران تحوم حولها ، واستغل النحاف منهم الفرصة للتجول داخل خراطيم الفيلة ، فانحشر بعضهم وسد منافذ التنفس فمات أكثرهم ، والقليل الذي نجا صنع لهم الفئران سورا عاليا ، و أسكنوهم مكانا آمنا لاستخدامهم كوسائل ترفيه فيما بعد .
*****************
ضج الحاكم وأعوانه من الفشل المتلاحق للتخلص من الفئران ، ولم يعد هناك أمل في العثور علي حل يبدو قدرياً ، فتقدم الحارثي باشا رابع المليونيرات بمشروع حل وصفه بالأكثر عبقرية ، ولكنه اشترط الحصول علي كامل الثمن مقدما ، تفتق اقتراحه عن استيراد أسود متوحشة يقول : في غفلة منا خرجت أسود الحديقة والتي سيتم استيرادها بتاريخ قديم لرفاهية الشعب ، افترست الفئران ولا حيلة لنا ولا ذنب .
بنفاد صبر هتف الجميع في صوت واحد " موافقووووووووووووووون .
مقدما قبض الحارثي باشا عدة ملايين نظير صفقة طارت تسابق ريح طائرته الراحلة بأوراقه وملياراته ، ولم تصل الأسود المستوردة ، وبدلاً منها وصل خبر هروبه بأموال المدينة ، وطلبه اللجوء السياسي للدولة التي أصبحت صديقة ، وتعاطف العالم مع قضيته التي حكي فيها تاريخه الوطني واضطهاده سجنا وتعذيبا بغير ذنب ، فقط لمجرد رغبته في تغيير ديانته واعتناق ديانة الدولة اللاجئ إليها .
****************
أصدر الحاكم قراراً بمنع مناقشة موقف المدينة من قضية هروب الحارثي باشا ، وواصل البحث عن وسيلة تبدو قدرية للتخلص من الفئران ، لفت انتباهه همهمة الفيلسوف الذي غاب صوته في كل ما حدث ، فسأله ما الحل ؟ .
****************
بلهجة الواثق قال الفيلسوف : الحل بسيط ومنطقي كيف غاب عن فطنتكم ؟ القطط السلاح التقليدي للقضاء علي الفئران منذ بداية البشرية .
بتهور أدي إلي تصادمهم اندفعوا جميعا بحثا عن القطط ، حتي قطط الحاكم المدللة تنازل عنها مشاركة منه في قتل الفئران .
********************
بتحفز تستطلع الموقف ، وقفت القطط علي حدود تجمع كتل الفئران ، تقترب ببطء استجابة لدفعات الأعوان لاختراق الميدان ، تتمهل .. تحبو .. تشمشم .. تندس بين جموع الفئران ، حتي المستوردة منها صارت تتمسح بهم في ودَ ، وهكذا كان من الصعب أن تحدد موقع القطط من الفئران إلا كبقع مختلفة الألوان والأحجام في مواضع متفرقة من اللون الأسود الذي يشكل تكوين شعب الفئران .

**********************
بالجهود الذاتية جمع الأعوان جميع أنواع السموم المحلية والمستوردة ، نثروها في كل الجحور والشقوق والطرق ، حتي السماء تقطر سماً ينتشر في الهواء ، وإلي قصورهم المنيعة بأجهزتها صانعة الهواء النقي هرب الحاكم وأعوانه .
وانشغل شعب الفئران بمراقبة وميض البرق ، ولوا وجوههم شطر السماء ، فأرسلت إليهم بترياق النجاة ، مطراً طهوراً يغسل الأرض والهواء وجلودهم فصاروا أكثر لمعانا وسمكا وسواداً .
******************
ممسكاً بصليبه الخشبي العتيق ، غائباً في تهجده يجلس القس يحتويهم بعيون تتدفق طيبة وحنان ، يرشم علامة الصليب ، يدعو : يا رب ارحم ، تعهدهم بالمراحم والرأفات ، اشفهم ، انزع عنهم وعنا كل مرض ، وكل سقم ، وروح الأمراض اطرده ، والذين أبطئوا مطروحين في الأمراض أقمهم وعزهم ، والمعذبون من الأرواح النجسة اعتقهم جميعا .
**************
لم يهتم بالأحجبة والرقي الورقية التي تسقط من بين يديه وجيوبه والجراب الذي يحمله ، يطوف حول الدائرة ، يعلق حجاب برقبة كل فأر ، يردد : إنما اجري علي الله ، لا أريد منكم جزاءاً ولا شكوراً ، عودوا إلي بارئكم ، ادعوه مغفرة ورحمة ، اللهم نجنا مما نخاف .
يخترق الدائرة يذهله منظر القس ، تتحلق حوله الفئران ، يجاوبه القس آمين ، يرشم علامة الصليب يتمتم ، باسم الرب أدعو ، إنهم أبناؤك ، روح منك ، امنحهم رضاك وبركاتك " يؤمن الشيخ آمين .
----------------------------
الفصل السابع
عندما يرفع فرعون السوط بيده اليمني يسقط الميزان من يده اليسري
من برديات منف
تحت قدمي شهرزاد يركع حزم يار ، يغسل بدموعه غضبها المكبوت ، يتمني أن تعنفه ، تطرده ، تلعنه حتي ، لكنها لا تفعل ، يستعطفها طالبا النصح والمشورة ، تقاوم رغبتها في ضمه إليها ، أو طرده خارجا ، ضاربا كفا بكف .. كل شيء يضيع ، تركني وزرائي وأصدقائي تحالفوا مع حكم يار والأعداء ، أنهم علي أطراف المدينة لم يبق إلا الضياع ، لم يعد أمامي اختيار ولا أمل ، يجاوبه صمتها ، مهتاجا يلقي باللعنات يمضي حزم يار .
: لن أترك عرشي ، لا احتاج مشورتك يا شهرزاد ، سأقاوم حتي آخر أنفاسي ، وآخر سيف في يد جنودي .
جنودك !!! ساخراً يردد شهريار : جنودك باعوك وتركوك نهباً للهزيمة والانكسار ، قبضوا ثمنك دنانير ووعوداً ستتبخر في الهواء .
ينادي شهر يار أبناءه القتلي ، أنقذوا مملكتي يا أبناء شهر زاد ، أين صمودك يا حشد يار ، هل اكتملت خططك القتالية يا نظم يار ، فك قيودي وقيودك يا فخر يار ، بجانب أبيك وأخيك كن يا حكم يار .
لا ثمرة بغير أوان ، : هكذا بلغني أيها الملك الـ .... تقول شهرزاد .

إن الحاكم صار قلقا يتخبط في قراراته بعد فشله في التخلص من شعب الفئران ، وتعثر صفقة استيراد الأطفال لعدم مطابقتها للمواصفات المطلوبة ، وإذا توفرت كان خوف الدول المصدرة علي أطفالها من أمراض الطاعون المرتبط بوجود الفئران عائق آخر أفسد حلم الحاكم بشعبه المنتظر ، فأعلن أنه علي كل الأعوان والمسئولين في المدينة تعلم لغة الفئران ، وبصرامة كبح الهمسات المعترضة ، : أنها وظيفتكم وواجبكم .
***********************
تأهبا للاختلاط بالفئران وتجنباً للعدوي والأمراض استورد الأعوان أحدث أنواع المطهرات والكمامات الطبية ، وعلي حدود الكتلة السوداء في الميدان الكبير وقف الأعوان يرقبون شعب الفئران صامتين إلا من خروشة الاحتكاك بالجحور، وفقد الأعوان الأمل في سماع أي صوت أو أشارة يتلمسون بها طريقا للتفاهم معهم ، وأن بهرتهم الهزات الجسمانية الجماعية للفئران كتلك التي يهتز لها الجسد عند الضحك ، بينما انتشت الفئران بتبادل أدوار الانتظار الذي يمر به الأعوان ، ووجدها فأر فهلوي فرصة للسخرية فنقش بأظافره فوق الأرض : قاعدين ليه ما تقوموا تروحوا ، قلده آخر بالحفر أسفل الحوائط : مش عايزين النهاردة ولا أي يوم تاني .
**********************
أعقب ذلك همسات تنتقل بين الفئران ، يهتزون أثرها في حركات إيقاعية ، وأفرط البعض فأستلقي علي قفاه يرفس بقدميه .
فشل الأعوان في تعلم لغة الفئران ، بات مؤكدا بعد الذي قرءوه أن الفئران تعمدت الصمت في حضرتهم ويتخذون ضدهم موقفا عدائيا .
*******************
تحول فزع الحاكم وأعوانه من مجموعة الفئران التي قفزت فوق منضدة الاجتماع إلي ضحكة سخرية حينما قرأ الطبيب البيطري للحيوانات المدللة للحاكم والأعوان ما حاول وفد الفئران نقشه بأظافرهم معلنين رغبتهم في التفاوض وعقد اتفاق بين الطرفين ، بعدما اقنع الفأر السمين الحاكم أنه الممثل الشرعي لشعب الفئران الذين اختاروه حسب قوله والوفد المرافق له بأغلبية ساحقة ، وبناء علي رغبتهم أن يحكمهم واحد منهم ، ويطالب بتعينه ملكاً عليهم " ملك " وليس أي منصب آخر ، ودفعاً لغضب الحاكم الذي بدأ يلوح أكد الفأر أن ذلك لمدة قد تطول أو تقصر ، ولكن يشترط أن تكون كافية لدراسة الأسباب التي حولت الشعب إلي فئران ، كما يتعهد بالمشاركة في إيجاد علاج حتي يعود الشعب بشراً في أسرع وقت ، واختتم الطرفان الاتفاقية بأنه منذ هذا التاريخ يصبح شعب الفئران مسؤولية الملك الفأر تحت رعاية الحاكم وأعوانه .
مستغرقا في الضحك وافق الحاكم وتم تعيين الفأر ملكاً ، يقول متعجباً : وأهي فرصة بعد حل المشكلة نعلنها ملكية .
علي قدم وساق تجري طقوس تنصيب الملك الفأر ، يشارك فيها الحاكم والأعوان ، ويُنقل الحدث لحظة بلحظة في كافة الوسائل المرئية والمسموعة.
تآكلت كل الموانع الحجرية والصلبة في الميدان التاريخي الكبير وما حوله ، ونفذت كل الفئران من الفتحات التي اتسعت يكنوُن فيها ، وفي رحلة قرضها لكل ما تجده كغذاء ، ونحت لقواطع إنسانها الأمامية لتحفظها حادة باستمرار وكي لا تنمو إلي الحد الذي يمنعها من غلق فكيها والتي قد تخترق سقف حلقها فتموت ، وتلاشي ما كان مكتوبا بلغتهم القديمة علي الأحجار والأخشاب وفي الأوراق والكتب وتصف حضارتهم العظيمة فصارت أمجادهم مجرد حفائر بلا معني تكمن في عمق الحجر ، أتاحت مثوى للسوس أن ينخر فيها ، بعدما نبش الفئران بأظافرهم أحجار الميدان لصنع جحور تؤويهم .
منتشيا وحوله مستشاروه وقف الملك الفأر وسط الميدان يلقي الخطاب الأول لشعبه : ـ
شعبي الحبيب ، بايعتموني لأني منكم ..
تسري همهمة بين الفئران ، بتجاهل يواصل الملك الفأر :ـ إن هذا الشعب الطيب عنواني ، ومن أجلكم ح اعمل قلبي جحور شعبية أدفنكم ـ قصدي أريحكم فيها .
بغير صوت أو هم الذين أصبحوا صًُما لا يسمعون ، يكمل الملك الفأر : ـ شعبي الحبيب أعدكم أن عهدي سيصبح عهداً من النهضة والرفاهية .
موجة تسري توقظ نبض الأنسجة والأعصاب ، تمس الجميع ، صراخا وقفزا ، تتحول الفئران إلي أشباح مجنونة راقصة ، يذمون ، يدمدمون ، يلقون بالحجارة علي منصة الملك الفأر ومستشاريه الفارين هربًا.
------
صار معروفا للجميع في المدينة أنه إذا همس الحاكم في مقره هز الرعب والفزع الملك الفأر الذي يتخذ من جحراً علي أطراف الميدان التاريخي وموقعا له ، وفشل مستشاروه في شد أزره وبث القوة داخله لدرجة استعانتهم بطبيب نفسي ليخلصه من المبالغة المفرطة في رعبه من الحاكم ، وأن أرجعوا هذا السلوك لما لاقاه في بداية تنصيبه حينما صورت له خيالاته أنه يستطيع المطالبة باختصاصات تدبير شئون مملكته من وجهة نظره .
كان الحاكم قد استدرج الملك الفار ، وفي مصيدة حديدية حبسه بدون طعام أو شراب ، وتفنن الأعوان في تعذيبه والسخرية منه ، وصارت هوايته الخاصة إجباره علي تقديم عروض بهلوانية مختلفة كنط الحبل وتقليد الحيوانات ، وأخيرا الرقص عشرة بلدي ، وبتحريض من مستشاروه أضطر مرعوبا إلي إرسال احتجاج ودود يشجب فيه ما يتعرض له شعب الفئران من محاولات مستمرة لإبادته وسرقته من قٍبل الأعوان .
كشف الاحتجاج الودود الذي أرسله الملك الفأر سر الجرح الغائر الذي يخفيه كبير الأطباء في يديه، حينما خمشه فار بعنف حاول اصطياده ، وحول السؤال الوارد في الاحتجاج ، أجاب احد الخبثاء من الأعوان أن كبير الأطباء يُتاجر في تصدير الفئران خارج البلاد ، وضبطه المستشار الأمني للملك الفار حيث رصدت التقارير أن بعض المعامل الدولية جعلت من كبير الأطباء وكيلها في سد حاجاتها من فئران التجارب ، ولم يلحظ الجميع القلق الذي ينهش قلب كبير الأطباء انتظارا للحصول علي موافقة الحاكم علاجه علي حساب المدينة خشية الإصابة بالطاعون ، ورغم ذلك لم ينس أبدا أن يأخذ معه بعض الفئران ، وعلي حد تعبيره " أهي علاج وزيارة وتجارة ... " .
أرسل الحاكم إلي الملك الفأر اعتذاراً نيابة عن كبير الأطباء ، الذي اقسم بعد مرضه الأخير أنه لن يقترب من حدود ميدان الفئران طوال حياته إذا عاد سالما من رحلة علاجه ، وموجها إنذاراً للملك الفأر لتقاعسه إنجاز ما وعد به من دارسة وتقرير عن أحوال شعب الفئران ومشكلاتهم لتحديد العلاج لعودتهم بشرا رغم مرور عدة أشهر.
بهمس خافت : ـ هذا الإنذار مرفوض .
يعترض المستشار القانوني للملك الفأر : ـ بأي حق يوجهه هذا الحاكم لسموك يا مولاي ، الشعب شعبنا ونحن أكثر معرفة به ومسئولين عنه ، أنت الملك الشرعي للمدينة ، يكمل بلهجة خطابية حذرة : ـ فأنت من الشعب وإلي الشعب ، ماذا يعلم الحاكم عن شعبنا ، وماذا فعل من أجله قبل الكارثة أو بعدها ، وإن كان حقاً يهمه فلماذا لم يحافظ علي أمواله التي سرقها كبار رجال الأعمال وهربوا بها خارجاً ، آخرهم الحارثي باشا ؟ وطوال ثلاثين عاماً مدة حكمه لا يملك غير إعلان التقشف وربط الأحزمة فوق البطون بحجة إفلاس خزانة المدينة .
أتعلم يا مولاي بحسبة بسيطة كنت قد أعددتها في دارستي الاقتصادية ، لو حسبنا ما تم نهبه وتهريبه خارج المدينة في العشر سنوات الأخيرة فقط ، وقسمناها علي عدد الشعب ، يصبح نصيب كل فرد منهم نصف مليون دولار علي أقل تقدير .
يتفحص أوراقه ، وبعد مراجعتي لمواد الدستور المنصوص عليها في الاتفاقية التي بيننا وبين الحاكم تأكدتُ أن هذا الإنذار غير قانوني ، وجوده شخصيا بيننا نحن شعب الفئران تحت مُلك مولاي الفأر الأكبر غير مبرر ولا منطقي .
يضيف : ـ كما أن الدارسة التي تعدها لم تنته بعد ، ولا أري ضرورة للتعجيل بها ؟
قلقاً متلفتاً حوله : ـ لماذا ؟؟؟ يتساءل الملك الفأر ؟
بدهاء يؤكد المستشار : ـ بانتهائها ينتهي دورك وتفقد ملكك ونعود إلي ما كنا .
يحتار الملك الفأر : ـ أليس جميلاً أن نعود بشراً ؟
: ـ وبماذا يفيد .. ؟ يجيبه المستشار : ت وماذا جنينا من البشر الذين تتعجل العودة إليهم ؟
: ـ وما ذنب الشعب ؟ يعترض الملك الفأر
: ـ وما ذنبنا نحن ؟ وماذا يضير الشعب لو ظل هكذا عدة سنوات أخري ؟ يتأفف الملك الفأر : ـ ولكني ضقت بالنكات اللاذعة ، وأحيانا الفاحشة التي يمطرنا بها الشعب ، وما يفعله الحاكم كل يوم .
أما بالنسبة للشعب ، عادي طول عمره كده ، يردد المستشارين في صوت جماعي : ـ هما يقوله اللي عاو زينه ، واحتا بنعمل اللي عاو زينه ، أما الحاكم فلا حيلة لنا ولا فرار .
.............................................
الفصل الثامن
ولكن افتح عينيك ، فقد يمتلئ المرء بالثقة ثم يتكشف الأمر عن حسرة لثقة جاءت في غير موضعها ِ.
تعاليم ماري كارع
تدق طبول الحرب حول مملكة آل يار ، تزحف أقدام الداخلين إليها ثقيلة تجثم فوق أنفاس البشر فيها ، ينزوي شهريار في ركن بعيد وحيداً ، مطلقاً لحيته وجنونه ، متنمراً يمنع حكيم الليالي إذاعة المزيد من أخبار توالي سقوط مدن وقري مملكته ، يخاف سماع النبأ الحتمي أن جنود الغزاة بقصره ، بين أهله وجواريه يدقون بابه .
هده الرعب حين راوده خيال أنهم سيحتلون شهزاد ، يعتقلون حكاياتها ولياليها ، أو يسحقون بأحذيتهم حكمتها ونورها ، مازال يراها بهية ، قادرة علي منح الكثير الذي يشتاق إليه .
بتودد يسعي إليها ، هيا يا شهرزاد ، أسعديني بلياليك الجميلة ، دثريني بدفء حكاياتك ، اغمريني بسحر وصالك ، بفكر مشتت تحكي شهر زاد ........ بلغني أيها الملك المخبول
أنه في الوقت المستقطع من العاب الملك الفأر البهلوانية أمام الحاكم قرر إجراء جولة تفقدية لشعبه كما يقول عنه ، والذي حاول عبثاً مد جسور الود والتواصل معه ، فشاهد احدهم يحمل آخر هزيلاً فأشاد ومستشاروه بالتعاون والترابط بين الشعب الذي أصبح كالبنيان المرصوص ، اعترضهم فأر ضجر موضحاً : ـ ده مش تعاون ده من فقر عهد سموكم الدكر .
بتهديد وإلحاح من الحاكم اضطر الملك الفأر ومستشاروه إلي البحث في مشكلة شعب الفئران ، وبفخر انطلق المستشار العلمي للملك في اقتراح حل يقول :ـ اعتقد أنه من الأفضل الإسراع .
سأله : ـ الجميع هل ستأتي بمعجزة ؟
أجاب : ـ الاستنساخ ، معجزة العلم ، خاب أمل الجميع ، كيف ؟ والمستنسخ سيكون بالطبع فأراً ؟
: ـ جهلة يردد المستشار العلمي : ـ بالهندسة الوراثية نتحكم في تكوين الجينات ، ولدينا نموذج ، فاكرين لما حاكم المدينة المجاورة أراد عمل نسخة منه ، وبعد دفع كافة التكاليف كان المستنسخ منه حمار ، وعندما احتج غاضبا قامت مجموعة علماء آخرين باستنساخه طبق الأصل ، وفرحا سألهم من أين حصلوا علي العينة التي اعتمدوا عليها للوصول إلي هذا التطابق ؟
أعلن العلماء أنهم اخذوا العينة من الحمار ، وقياسا علي ذلك سيكون المستنسخ من فئران كان أصلهم بشرا بشرا أيضا .
---------------
بعد الفضيحة المدوية للاستنساخ المشوه لفأر متوحش أثار الذعر في المدينة وهدد وأعوانه بالنهش المسعور ، مما اضطرهم لقتله وغلق باب حل الاستنساخ .
لذا قرر الملك الفأر العمل بجدية لحل مشكلة شعب الفئران ، فأذاع بيانا يطالبهم فيه بالتعاون من اجل مصلحتهم واعدا بحل كل مشكلاته وما ينغص حياتهم خاصة قبل تحولهم فئرانا ، وأضاف البيان : ـ إن باب الملك ومستشاريه مفتوح دائما لتلقي شكاوي ومطالب الشعب .
مئات الآلاف بل الملايين من الأوراق مكدسة في أروقة ودهاليز الملك ومستشاريه ، تئن بشكاوي الشعب ومتاعبه وآلامه ، اكتفي الملك ومستشاروه باختيار نماذج تمثل عينة لمعرفة مشكلات الشعب .
شهور بل سنين نحتاج إليها لقراءة كل هذه الأوراق ، هكذا قرر المستشار الثقافي للملك الفأر ، وأضاف حتي الآن كل ما قرأناه و درسناه لم يكشف أو يحدد السبب الجوهري لما حدث له .
بلا مبالاة خمش المستشار الثقافي للملك الفأر وهو ثائر شعبي سابق أحد الأوراق المكدسة بشكاوي الشعب مطلقا ضحكة مكتومة ، لم يفهم مغزاها الآخرون وراحوا يشكلون بأوراق الشكاوي قراطيس ومراكب يرشقون بها بعضهم ، يعلو بينهم ضجيج السخرية .
..................................
الفصل التاسع
تعلموا ، لتتعلموا كيف تعملون فإتقان العمل صلاة تقربكم من الإله ، وعين الإله لا تغفل عما تعملون .
أناشيد اخناتون
صمد أهالي مملكة آل يار لطول حصار مدينتهم ، رغم ما أشاعه المصير الغامض للملك حزم يار من التناحر والاختلاف ، وما بين الفرح باختفائه وعدم التصديق والتنبوء بعودته للانتقام .
علي قلب رجل واحد أحاطوا بقصر شهرزاد ، يحمونها بأجسادهم المتداعية للسقوط .
حول شهر زاد التف الجميع ، تحصنوا بها ، بهشاشة المقاومة تحاول بث الطمأنينة بينهم : ـ اكتب يا حكيم الليالي .. تقول شهرزاد :ـ الإنسان لا الكنوز ولا التماثيل هو التاريخ فاصنعوا تاريخكم القادم ، لن تزول حضارتكم بحرق كتبكم وإن كانت بالآلاف ما دمتم قادرين علي صنع وكتابة الأعظم منها .
مازال شهريار يهذي : ـ تقدست لياليك يا شهر زاد .
بمرارة تبتسم : ـ بلغني أيها الملك المكسور : ـ
إن الفأرة التي انتفض جسدها المنتفخ تزوم بصوت لم يستطع الآخرون تفسيره ، ترسل حرارة زفراتها دعوة لجاراتها اللاتي تحلقن حولها مشدوهات فاغرات الأفواه لما يعتريها من انقباض وانبساط يكاد يزهق روحها ، أفسحن مكانا لما بدا يظهر من بين رجليها ، قدمان صغيرتان تتبعهما أجزاء بشرية أخري ، وصرخة ضالة تشق الليل أطلقها الطفل الوليد ، دقيق الملامح صغير التكوين ، انحنت أمه الفأرة تهمس : ـ لقد رايته بالأمس في منامي ، إذن لم يكن حلما ، علت الضجة معلنة الحدث السعيد .
وليد طفل السماء ، هكذا اسماه الحاكم واستقبله فرحا ، مستبشرا يتشمم أنفاسه ، يحتضنه بشوق ولهفة الحنين لدفء اللحم الحي ، يتطلع بأمنية حارة إلي مزيد من المواليد تكون نواة لتكوين شعبه الجدية ، بعدما يئس من عودة شعب الفئران إلي بشريتهم ، وأوقف صفقة استيراد الأطفال ، وأعلن أن شعب الفئران صار تحت حمايته شخصيا ، لأنهم كما يقول صُناع شعبه الجديد .
----------------------
برعب حقيقي أيقن الملك الفأر الخراب والزوال السريع لملكه بمجرد سماعه بمجيء الوليد الذي اعتبره شؤما ، يتنطط فزعا : ـ سيعدوننا إلي ما كنا ، لا بل سيقتلوننا ، ما حدث كارثة ، ضاع ملكي .
: ـ يجب استعادة الطفل ولو بالقوة ، يقرر المستشار القانوني للملك ، الطفل من حقك يا مولاي وفق نصوص الاتفاقية .
: ـ وما الفائدة ؟ وماذا أفعل به ؟ تتلاحق أسئلة الملك الفأر .
: ،ـ نفحصه ، نتأكد أنه ينتمي لشعب الفئران ، قد يكون مدسوسا علينا ، كما أننا نتمسك بحقنا القانوني فيه .
يتصنع الملك الفأر الهدوء والوقار ، : ـ نعم من اجل بقاء هذا الشعب الفئراني العظيم لابد من استعادة الطفل ، وإذا اكتشفنا أو شككنا أنه متآمر ومدسوس علينا ، فسيلقي جزاء كل خائن ، وسأحارب بكل ما أملك من قوة للحفاظ علي شعبي إذا رفض الحاكم إعادة هذا المتآمر .
----------------------
فتح مولد الطفل وليد باباً جديداً للقلق ، زاد اتساعا بمجيء " ولادة " ثاني طفلة بشرية ، وتتابعت المواليد المتلاحقة لشعب الفئران ، والذي صار يمارس الإنجاب كالتنفس ، وضاقت الحيل والسبل بالملك الفأر ، بعدما فقد سيطرته علي الشعب والمواليد وحتي مستشاريه .
بعد مشقة توحدت جهود الملك الفأر ومستشاريه لإنقاذ ما تبقي من ملكهم ومناصبهم ، حاولوا تطويق شعب الفئران والتفريق بين ذكوره وإناثه ، و تعددت المبررات ما بين منع الاختلاط بدعوي تجنب الفاحشة ، والتطهر من الرجس الناتج عن التقارب حتي لو كان عرضا ، كما وضعوا شروطاً معقدة للحصول علي تصاريح الاقتراب من أنثي ، والخضوع المستمر للفحص والتفتيش والمراقبة ، ولم تفلح كل هذه الإجراءات في الحد من ارتفاع معدلات المواليد ، فوصل عدد الأطفال في عام واحد إلي مليونا طفل ، وضعهم الحاكم تحت رعايتهشخصيا ، وأقام لهم مدينة صغيرة لتربيتهم وتعليمهم علي احدث الوسائل العلمية وبالفعل شرع في استقدام الأطباء والمعلمين لرعايتهم .
--------------------
من يضمن للملك الفأر وسيلة يقطع بها إنجاب مواليد آخرين ،
: ـ التسريب يا مولاي ، ينصح المستشار السياسي للمك الفأر ، عليك بتسريب هذا الشعب إلي المدن البعيدة والتي لا تدخل ضمن حدود مدينة الحاكم وما بقي من شعب الفئران هو ما يثبت ملكنا ويمنحنا الاستمرارية .
خمسة ملايين وصل عدد الأطفال المواليد خلال أربع سنوات ، ومازال الملك الفأر يجرب كل وسائل منع إنجاب أطفال جدد .
: ـ يا مولاي هذا شعب لا يعرف مصلحته ، يقول المستشار العلمي للملك الفأر ، والحل العلمي في هذا الموقف هو تعقيم الإناث وزيادة في الحيطة والحذر نجري عملية إحصاء للذكور ، وهكذا نحمي الشعب من نفسه ، هم لا يعلمون أن كثرة الإنجاب تعوق معدلات التنمية وتقلص فرص الرفاهية التي تسعي سموكم لتحقيقها لهم .
-------------------------
هباء ضاعت كل محاولات الملك الفأر ومستشاريه في إقناع شعب الفئران بعدم الإنجاب ، ولم تفلح كل عمليات التعقيم والاخصاء التي حاولوا إخضاع الشعب لها بالقوة ، ومازال البحث جاريا عن طريقة لإيقاف طوفان الإنجاب عند الشعب المعروف بخصوبته الإنجابية .
....................................
الفصل العاشر
.... ولا يرض النهر لنفسه أن يبقي مختبئاً ، وإنما يكتسح السد الذي يخفيه . !

من تعاليم ماري كارع
عشرة ملايين وصل عدد المواليد ، وسنوات خمس بلغ عمرهم في المدينة الجديدة ، وأيضا عمر مأساة شعب الفئران الذي عزت عليه فتافيت القوت اليومي ، حتي بقايا موائد الملك الفأر ومستشاريه وما فاض من موائد الحاكم وأعوانه لا يكفي ، وما يتبرع به أصحاب القصور المنيعة الخمسة آلاف حسب آخر إحصاء لهم ، والذين يعيشون حياة أسطورية لم يستطع الشعب سابقا دخولها أو حتي تخيلها في أحلامه ، كل هذا لا يسد جوع الفئران ، فهل يختلف مصير المواليد عن مصير الشعب ؟ .
أصبحت مدينة المواليد تحت رعاية الحاكم وإشرافه ، يشارك في تأليف مناهج الدارسة بعدما ظهرت عليه مواهب احتار الأعوان في تفسيرها من تأليف الرواية والقصة والشعر ، خاصة كتابة أناشيد الصباح ، وباكتمال عدد المواليد عشرة ملايين ، تسلم الحاكم تقارير أطبائهم ومعلميهم التي تؤكد أنهم ذوو نسبة ذكاء مرتفعة كما اثبتوا قدرة مدهشة علي استيعاب كافة العلوم الدراسية وإن ظلت أسئلتهم حائرة بلا إجابات ، من أين جاءوا ؟ ولماذا فقدوا جميعا إباءهم وأمهاتهم ؟
------------------
قرر الحاكم الاحتفال بالأطفال الذين أتموا عامهم الخامس ، فاختار مائة في مقدمتهم الطفل وليد والطفلة ولادة ، وفي غفلة من الجميع اختفي طابور المائة ، فزع الحاضرون من ارتفاع أصوات مزعجة تخمش الأبواب ، وفئران تتوه في كل الاتجاهات لا تعرف مخرجا ، وبعد طول تخبط تهتدي بحاسة الحنين إلي منفذ تجتازه هاربة تتبعها عيون الملاحقين .
وكأنها تتبع بوصلة تجذبها إلي الميدان التاريخي وبلهفة الشوق تندس بين جموع لا حصر لها من فئران تلهو أحيانا ، تلبد في الجحور بعض الوقت ، تنتشر في الحواري والأزقة ليلا ويجمعهم ميدان كبير يسعهم جميعا .
----------------
بامتداد ما بين النهرين صنع الغزاة جسرا من الكتب التي نجت من حريق المكتبة العريقة ، تلك التي نُهبت كنوزها ومخطوطاتها فمروا فوقه ، ومن أجساد البشر قي مملكة آل يار أقام حكم يار وحلفاؤه معبرا لدخول قصر شهرزاد
باهتة كالشبح صارت شهرزاد ، ترتعش ، تدثرها دنيا زاد ، تحيط بها وجوه صنميه كثيرة وغريبة ، تشيع جوا مقبضا حزينا ، يقف الجميع مكتومي الأنفاس مهزومي الروح ، محمومة الجسد ترقد بينهم ، تهذي
:ـ ضاع الوليد ، فئرانا صغيرة صاروا ، أنه ، أنهم ، يخفت صوتها ، يستنطقها شهريار ، تهمد أنفاسها ، تستجديها دنيا زاد ، يتسمع صمتها حكيم الليالي ، سكتت شهرزاد .. سقطت شهرزاد .
(تمت)