المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فتى قيبار


AshganMohamed
02-03-2020, 08:15 AM
نيروز مالك






فتى قيبار

رواية






منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب
وزارة الثقافة – دمشق 2009












-1-

أخذت أنشئ في خيالي عناصر سيرة حياتي. فرأيتني في أول الأمر أذكر من حياتي ما فيها من خير، وأدع ما عدا ذلك. ثم لما فكرت فيما كانت عليه حياتي بمزيد من الجد، أدركت أن هذه السيرة التي تخيلتها إن لم تكن كذباً في الواقع فهي على الأقل صورة خادعة.. فانتويت أن أقول الحقيقة كلها.
ليف تولستوي
• سأقول لك شيئاً عن حياتي. فأنا لا أريد أن تأخذ فكرة خاطئة بسبب كل هذه القصص التي تسمعها.
ف. سكوت فيتزجرالد
•إنني أصف جميع المشاهد دون رحمة لنفسي، وذلك حتى يكون كل شيء واضحاً، ذكريات كان أو انطباعات.
دوستويفسكي

تابع الفتى: قبل أن أبدأ بالحديث عن حياة والدي وفقره، وقصة قهره وذله.. لا بد لي أن أشير إلى نقطة أثارت اهتمامي طويلاً، فمنذ أن كنت في الرابعة من عمري.. كنت أفكر وأسأل نفسي دائماً: لماذا لدى جميع أترابي من الفتيان جدان وجدتان إلا أنا.. ليس لدي سوى جد واحد وجدة واحدة.. وهما والدا أمي؟
أذكر، ذات يوم، سألت والدي من دون مقدمات عن هذا الأمر، التفت ونظر إلي طويلاً، ما لبث أن أدار وجهه عني، وراح يحدثني عن ذلك: «لقد مات والدي، أي جدك يا بني، وأنا طفل في الثانية من العمر. لم أعرفه، ولم أتذكره فيما بعد، رغم محاولات أمي، أي جدتك، في وصفه ورسم صورته لي باستمرار.. لم أعرف في تلك الأيام، لماذا كانت تصر على وصفه لي؟ أبيض، له شعر أسود وعينان رماديتان. كان مربوع القامة. ولكنه لا يميل إلى البدانة، إنما إلى الامتلاء فقط. كان مثله مثل كل الفلاحين يحرث ويزرع ويحصد ما كان قد زرعه في الأرض. وكان ما يحصل عليه من المال، بعد بيع المحصول، يدخر قسماً منه وينفق الباقي على أسرته. ولكنه ذات يوم لم يستيقظ! نام معكر المزاج، لأن بعض المنتفعين طالبوه بعمل سخرة لأحد أغنياء القرية. جاء جدك، إلى البيت مقهوراً وهو يشتم ويلعن.. ثم نام ولم يستيقظ».
تابع والدي: «كانت أمي، أي جدتك، ما تزال في أول صباها، لم تزل في السابعة عشرة من العمر.. ولم تمض شهور على موت جدك حتى فرغ البيت من الطعام والمال. كان لا بد لها أن تبحث عن حل، وكان الحل في زواجها من عمي! رغم زواجه من اثنتين. كانت جدتك، تقول عنه: «لو لم تكن عينه علي حتى قبل موت والدك يا بني لما تزوجني! ثم تضيف موضحة: لم يتزوجني من أجل أن يبقى بيت أخيه عامراً، أو من أجل أن لا تتزوج امرأة أخيه من رجل غريب.. كان نذلاً، لم يتزوجني إلا لإرواء غرائزه الحيوانية التي كان يظهرها لي في بعض الأحيان حتى قبل موت والدك!«تتابع جدتك يا بني بقهر: «كان لا بد لي من الموافقة، لأنني لم أجد حيلة من دونه في معيشتي..»، واليوم أتساءل، تابع والدي: «هل كانت جدتك تُذكّرني بأ بي كي لا أنساه؟ كي أعرف أن الذي أصبح زوج أمي هو عم وليس أباً لي؟ لا أعرف! كان إصرار جدتك في وصف صورة جدك، وطبع قسماته في نفسي، وسرد قصصه وحكاياته علي، كل هذا أثار التساؤلات لدي. إلا إني لم أستطع أن أجد الأجوبة على تصرف جدتك ذاك!».
تابع الفتى: شب والدي في بيت عمه، وكان يعامل كفرد من الدرجة الثانية في العائلة، حتى أنه، أي عمه، كان قد أهمل جدتي تماماً، خاصة عندما علم بأنها تلجأ إلى كل الأساليب من أجل أن لا تحمل منه طفلاً، كانت لا تريد منه أولاداً، خوفاً من أن تكرههم بسبب كرهها له. كانت تقول: «لدي ابن.. وهذا يكفي»، وما أن بلغ والدي الثامنة عشرة حتى رحل عن قرية«قيبار» إلى مدينة حلب، وفيها عمل أول الأمر في«كوبانية» فرنسية، قبل أن يتطوع في الجيش كنفر.. ما لبث بعد سنة أن عاد إلى القرية ليتزوج فيها من بنت لأسرة فقيرة أيضاً، ثم أدار ظهره للقرية في سنة1939، ولم يعد إليها إلا محمولاً على الأكتاف بعد أكثر من خمس وأربعين سنة، ليدفن في تراب مسقط رأسه.
كان أبي، عندما يحدثني عن حياته، يتحدث بصوت خافت حزين، وعيناه شاردتان كأنه ينظر إلى أمر لا يراه أحد سواه، كأنه يرى أيامه البائسة في بيت عمه، كأنه يراقب أمه الذليلة كالخادمة وهي الزوج!
عاش والدي غريباً بين أبناء عمومته، عمل منذ صغره راعياً لمواشي عمه،حتى عرف بين أفراد الأسرة بالراعي، فقد لحقه ظلم كما لم يلحق بأحد من أبناء قريته. كان يتساءل فيما بينه وبين نفسه عن أسباب المعاملة القاسية والمذلة التي يعامله بها عمه؟ إلا أنه لم يجد جواباً على تساؤلاته تلك أبداً.
كانت والدته تقول له بإصرار، وهي تكرر: «لا تفكر باليوم، إنما فكر بالغد.. فكر عندما تصبح شاباً ورجلاً، ماذا ستعمل؟ وكيف ستعيل نفسك؟ثم تردف: «يجب أن تبحث عن الأجوبة خارج هذه القرية اللعينة يا بني».
كان أبي يسأل جدتي: «وأنت، ماذا سيكون من شأنك إن نفّذت ما تطلبينه مني؟». تجيبه جدتي: «لا تفكر بي. فكر بذاتك.. أما عندما تستطيع أن تعيل نفسك، فيمكنك بعد ذلك أن تفكر بأمري. هل سمعتني؟ لا تفكر إلا بنفسك».
* * *
قيل لي،تابع الفتى: أن حكاية زواج جديك «والدا أمي» غريبة، وغير معقولة!هذا.. وقد سمعتها من كثيرين، أقرباء وأصدقاء ومعارف.. ولكن الغريب في الأمر، لم أسمعها من صاحبيّ العلاقة.. أذكر عندما سألت أمي عن الحكاية ومدى صدق رواتها، نظرت إلي، ثم قالت بحدة غاضبة: «وهل عرفت الكذب عن جديك؟».
أطرقت خجلاً ولم أنبث بحرف، رغم أني كنت أود أن أقول لها، أنا لا أكذبهما، لأني لم أسمع الحكاية منهما، إنما من الآخرين.. إلا أني لم أفعل.
أستطيع القول اليوم، لم ألمس فوارق كبيرة بين الحكايات التي رواها لي الرواة، أقارب كانوا أم معارف.. كان الجميع يؤكد على تفاصيل الحكاية، ولم تختلف الواحدة عن الأخرى إلا بالتقديم والتأخير فصلاً عن فصل أو فقرة عن أخرى.. لقد أكد الجميع، على أن جدي عندما تزوج جدتي كان يكبرها بأربعين سنة.. ولم تنجب جدتي إلا بعد مرور سبع سنوات على زواجهما، أنجبت ثلاث إناث وذكرين اثنين.
وهنا أريد أن أشير إلى النقطة التي كانت حديث قرية«قيبار». أولاً: إنهما، أقصد جدي وجدتي من قرية واحدة، وما عرفته عن جدي، كان فقيراً لأب فقير، أما جدتي فكانت ابنة لفلاح متوسط الحال، يملك أرضاً زراعية وحقلاً من أشجار الزيتون والتين والكرمة.. ولكن رغم هذه الفوارق لم يمانع والد جدتي الموافقة على زواج ابنته من جدي.
طبعاً ما تقدمت به، ليس النقطة الهامة في أحوال جديّ، إنما قصة زواجهما الغريبة!
بدأت الحكاية عندما كانت والدة جدتي تغسل ثياب أفراد أسرتها أمام دارها.. وبينما هي منهمكة في الغسيل تعالى صراخ ابنتها«ريحانة«التي لم يتجاوز عمرها آن ذاك الشهور الثلاثة، ولم تجد وسيلة لإسكاتها، خاصة وأن جميع أفراد أسرتها خرجوا منذ الصباح إلى«بازار عفرين»، فوقفت حائرة لا تعرف التصرف..
في تلك اللحظة مر بهما جدي، بعد أن كان قد تأخر في الذهاب إلى البازار.. وعندما حيا جدي والدة جدتي، هتفت به بعد أن ردت على تحيته، أن يحمل«ريحانة» للحظة فقط بين يديه، ريثما تنهي ما بين يديها من شال تغسله.. فرد عليها جدي، إن هذا الأمر سيؤخره فوق تأخره في الذهاب إلى البازار.. ثم مازحها قائلاً: «لقد سمعت عنك تقولين، إن بكاء الأطفال يساعد على نموهم؟». أجابته والدة جدتي: «هذا صحيح.. ولكن بكاءها يجعلني مضطربة، ومكتوفة اليدين، لا أستطيع أن أنجز غسيلي»، ثم مازحته: «تعال يا شيخو.. إن استطعت إسكاتها سأزوجك إياها عندما تكبر وتصبح صبية يافعة!». ضحك جدي طويلاً وقال لها: «ها أنت تريدين لي الخير الكثير يا أم حسن، لأنك تريدين مني، وأنا في الأربعين من العمر، أن أنتظر لتكبر«ريحانة ابنة الشهور الثلاثة، لكي أتزوج منها!». ثم علق جدي: «رغم هذا فلا بأس سأحاول أن أحملها بين يدي لعلها تكف عن بكائها، لتنهي غسيلك الذي بين يديك».
يتابع الرواة: «لقد كبرت«ريحانة» أمام أنظار شيخو.. كبرت وأصبحت ذات جمال نادر، خمرية البشرة، ذات عينين بنيتين غامقتين، وذقن مدورة، وأنف صغير. تقدم جدي ذات يوم ضاحكاً من والدة جدتي وقال مذكراً إياها: «أما زلت على عهدك يا أم حسن؟». يقصد والدة جدتي، يقال أنها التفتت إليه باستغراب وسألته: «أي عهد تقصد يا شيخو؟». أجابها: «عهدك بزواجي من«ريحانة يوم حملتها على ساعدي فسكتت ثم نامت وأنت تتمين غسيلك». هزت أم جدتي رأسها وقالت: «هل أنت جاد؟». أجابها جدي: «نعم». ضحكت والدة جدتي وقالت: «رغم أن عهدي الذي عاهدتك به قد قام على مزاح، رغم هذا، فأنا سأدعمك عند أبو حسن، تقصد زوجها، إن استطعت إقناعه بالزواج من ابنته؟».
فكر جدي بالأمر طويلاً، لأنه عندما فاتح والدة جدتي، فاتحها مازحاً، ولكنه عندما سمع منها ما سمع، قال في نفسه، لماذا لا تحاول طلب يدها، ما دامت قد وعدتك بأن تدعمك في طلبك لدى زوجها أبو حسن؟.
قد يسأل سائل: عن أسباب تأخر جدي في الزواج؟ أما الجواب فهناك كثرة من الحكايات..
عندما كان يُسأل جدي عن ذلك كان يجيب: حرب السفر برلك هي السبب!
ومختصر حكاية جدي عن هذه الحرب، أنه دعي إليها، فذهب من دون إثارة مشاكل، أي طائعاً، لم يتهرب كما كان يفعل معظم شبان ذلك الزمن القاسي والدموي كما قرأنا عنه في كتب التاريخ. ولكن، ما عاناه جدي منها بعد ذلك اضطره إلى البحث عن طريقة للهرب.. وعندما نجح في ذلك ظل لسنوات طويلة حذراً في تنقلاته بعد عودته إلى القرية. كان ما أن يسمع أن رجلاً ما يمت بصلة قريبة كانت أم بعيدة، ممن يعملون لدى الدولة حتى ولو كان موظفاً عادياً، يختفي من القرية ولا يعود إليها إلا بعد اطمئنانه وتأكده من خبر ذهاب ذاك الموظف..
وقد قال: «إن عدم زواجه يعطيه حرية التنقل والاختباء والاختفاء، وبقاؤه عازباً كان يشعره بشيء من الأمان والاطمئنان بعدم تحمله للمسؤولية تجاه الزوجة والأولاد في حال اختفائه وابتعاده عن حياتهم».
وذات يوم، يقال، إن أحدهم حاول أن يستفزه فقال له: «هل أنت جبان حتى هربت من الحرب؟». أجابه جدي: «لا..». ثم أضاف بخبث موضحاً: «وأنت هل كنت ستبقى في خدمة جيش لا يستطيع إطعامك سوى قضبان الثيران؟».
وحكاية قضبان الثيران، كما سمعتها، أن جدي وبعض أبناء قريته قد تناوبوا على مصها ومحاولة أكلها من شدة الجوع الذي عانوا منه بعد أن هزموا في إحدى المعارك، وهي المعركة التي هرب جدي على إثرها من الجيش العثماني.. «إلا أننا، يقول جدي ضاحكاً، فشلنا في اقتطاع جزء صغير من القضيب الذي تناوبنا عليه». كان جدي يضحك بشدة وهو يسرد على مستمعيه هذه الحكاية.
ولكن، هناك حكاية أخرى، حول أسباب عدم زواج جدي في السن الطبيعية التي يتزوج فيها معظم الشبان في الريف كانوا أو المدينة.. ومختصر الحكاية، أن جدي كان صاحب مزاج غريب.. يحب الغناء، أقصد الاستماع إليه،وقضاء الليالي الطويلة ساهراً لسماع القوالين وهم ينشدون الملاحم التي تتحدث عن الحب والحرب والعشق والموت التي تنتهي بالنهايات المأساوية لأبطالها. كان مزاجه يدفعه دائماً للانتقال مع هؤلاء القوالين عبر القرى قرية وراء أخرى لشهور وأحياناً لسنوات.
وأنا اليوم، يقول الفتى: أميل إلى تصديق هذه الحكاية، لأنني عشت في أجواء هذه السهرات في ليالي الشتاء الطويلة التي كنت أقضيها لدى جدي في أثناء عطلتي الانتصافية أثناء دراستي.
أذكر أنه تشاجر عدة مرات مع جدتي لأنها كانت تطلب مني أن أقوم للنوم، لأن الصباح أوشك على الطلوع، فكان جدي يصرخ بها زاجراً، أن تدعني، ويسألها غاضباً: «ألا ترينه كم هو شغوف بسماع ما يقوله القوال من الحكايات؟».
كان جدي في قوله هذا صادقاً، كنت لا أريد القيام من مجلسه، ولكني كنت أيضاً لا أريد أن أتمرد على طلب جدتي خوفاً من أن تزعل مني.. وما أذكره اليوم كنت في معظم الأحيان أبقى وأستمع إلى حكايات القوالين والرواة..
كما ذكرت سابقاً، أن جدتي أنجبت ذكرين وثلاث إناث. أما إن كان قد مات لها أولاد، فلا أعرف، ولم أعلم بذلك، كما أن أمي لم تذكر أمامي أن أمراً من هذا قد حدث..
كانت أمي بكر أولادهما، كانت جدتي قد ولدت بعد سبع سنوات من زواجها من جدي.. ثم جاء خالي جعفر، بعد ذلك خالتي جميلة، ثم عائشة، ثم مراد.. عندما كبرت قليلاً، لم أعرف منهم عازباً إلا خالي الصغير مراد.. فخالي جعفر كان متزوجاً من ابنة خاله، وعائشة متزوجة من ابن خالها. وكان زواج مقايضة.. أما خالتي جميلة فلم أكن أعرف عنها شيئاً، لم أرها أبداً إلا بعد أن بلغت الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمري.. وعندما كنت أسأل أمي عنها، كانت تغضب مني وتقول: «لقد تزوجت رجلاً من قرية أخرى غير قريتنا».
سأترك الحديث عن هذه الخالة اللغز إلى وقت آخر.
كان خالي جعفر رجلاً غامضاً، يحمل جانباً هاماً من صفات جدي.. لم أره إلا نادراً، في أثناء زياراتي المتعددة إلى بيت جدي في القرية. كان غائباً بشكل دائم عن البيت، دائم السفر.. إلى أين؟ لا أحد يعرف. يغيب شهوراً طويلة، يعمل بكل الأعمال، من فلاحة الأرض وحصادها إلى النجارة وتصليح الأحذية.. وما أن يجمع مبلغاً من المال حتى يعود مسرعاً إلى القرية، دون أن يخبر جدي أو جدتي أين كان طوال مدة غيابه.. فما أن يجلس ساعة مع زوجه حتى يقوم متوجهاً إلى دكان القرية، حيث خصص صاحبه قسماً منه كمكان للعب القمار والورق.. فيظل فيه، لا يخرج منه ليلاً ولا نهاراً، حتى يخسر آخر قرش كان قد جمعه من عمله طوال مدة غيابه، ليعود منكس الرأس إلى البيت، ما يلبث أن يغادره من جديد بعد عدة أيام من مكوثه فيه إلى وجهة غير معلومة.
في بداية الأمر كانت جدتي تغضب منه، تتشاجر معه، تقول له: اعمل في قريتك. كان يجيبها مازحاًً، إن هواء«قيبار» لا يواتيني..
كانت جدتي تشكو حظها العاثر في أولادها دائماً. كانت تقول: «الكبرى، تقصد أمي، لا تمل ولا تكل من طلب الطلاق وإزكاء الخلاف والشجار بينها وبين زوجها، تقصد أبي، أما تلك الـ... كانت تلفظ كلمة فاجرة بحق خالتي جميلة التي لم أعرفها ولم أرها كما ذكرت سابقاً. أما عائشة فهي أشبه بميت!».
ما الأسباب التي كانت جدتي تهاجم أولادها من أجلها؟ لا أعرف.. ولم أكن معنياً بالأمر أبداً، وأنا في السابعة من العمر أو الثامنة.
كانت خالتي عائشة جميلة جداً، دائمة الفرح والمرح والضحك والسرور. أذكر أنها زارتنا في أثناء العدوان الثلاثي على مصر سنة1956، وهي حامل في شهرها الثامن أو التاسع.. كانت أخبار الحرب اليومية التي كنا نسمع بها من الراديو تطغى على الأحداث الأخرى.. وذات يوم سمعت أمي تقول لها: «لو تلدين قبل أن تقع واقعة ما لا سمح الله» قالت والدتي هذا، لأن أجواء الحرب كانت قد فرضت علينا أن نصبغ زجاج النوافذ باللون الأزرق والنزول إلى الملاجئ، والمقاومة الشعبية آخذة بالتوسع في كل حي وفي كل بيت.. إلى صفارات الإنذار اليومية التي كانت تعلو في أجواء مدينة حلب، وتحليق الطائرات الحربية المستمر في سمائها.. كان هذا الجو قد ألقى الخوف في قلب أمي.. من أن اليهود يقتلون المرأة الحامل ويخرجون الأجنة من بطونهن، ليعلقوها فوق الرماح..
ضحكت خالتي طويلاً ثم علقت على كلام أمي: «لا تخافي يا أختاه لن يقدر أحد من اليهود على الاقتراب مني، لأني، إن فعلوا ذلك، سأفجر هذه القنبلة التي أحملها في بطني في وجوههم!».
ضحكت جميع النسوة الجالسات، كما أذكر، ذات صباح وهن يشربن القهوة في منزلنا.
أما الحديث عن الخال مراد، وهو أصغر أولاد جديّ ففيه المتعة والحنين.. هذا الخال كان لا يحب القيود، كان منطلقاً بشكل دائم، لا يعرف الهدوء، كانت له روح برية متحررة، دائم التنقل في البراري، أو يقوم برحلات ما بين القرى، لم أعرف في يوم من الأيام عن ماذا يبحث.. كان لا يستطيع البقاء في مكان، كما كانت له روح مغامرة، فمن يديه أكلت لأول مرة لحم العصافير التي كان يصطادها، خاصة عصافير الدوري الخبيثة. وأيضاً حصلت منه على أولى الدحل الزجاجية الشفافة في سنة1952 أو 1953، كنا، نحن صبيان تلك السنوات، نلعب في أوقات فراغنا، بعيداً عن الدراسة بالدحل، وأذكر أن دحل تلك الأيام كانت من الزجاج الكتيم الذي يشبه الخزف.. هذا النوع من الدحل، حل مكان الدحل الحجرية التي كانت رائجة في الريف بشكل خاص..
أذكر عندما رأيت، لأول مرة، الدحل البللورية الشفافة، أصبت بالدهشة فقد كانت أشبه بكرات الساحر التي كنا نراها في السينما، ففي ذلك اليوم الذي رأيت فيه تلك الدحل الشفافة بين يدي طفل، كان الوقت ربيعاً، وكان الخال مراد في زيارة لنا، أذكر أنه نظر إلي طويلاً، ثم ابتسم وسألني: «هل تريد أن تحصل على بعض منها؟». نظرت إليه وأنا أهز رأسي موافقاً. قال الخال: «لا بأس».
كان الخال في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من العمر فراح يشارك الأولاد، وكان جميعهم أكبر مني سناً في اللعب. ومع مضي الوقت راح الخال يكسب في لعبه مع الأولاد جميع الدحل التي كانت لديهم، بحيث لم يبق واحداً معهم. ابتسم خالي ثم قدمها لي جميعاً.
هرعت إلى أمي أطلب منها أن تخيط لي كيساً من القماش السميك لأضع فيه دحلي..
نظرت إليّ أمي طويلاً، ثم ، نظرت إلى جيوبي التي رحت أفرغها من الدحل. سألتني: «من أين لك هذه؟ هل اشتريتها من الدكان؟». أجبتها بالنفي، ولكني لم أقل لها أن الخال مراد هو الذي وهبها لي بعد أن ربحها في اللعب من أولاد الحارة.
خالي هذا، كما قلت: كان روحاً هائمة، حائرة، قلقة لا تعرف الاستقرار.. كأنها روح طفل. لم أعرف أسباب حب أمي الخاص له، ليس كأخ صغير فقط، لأن أمي كانت تحب جميع أخوتها وشقيقاتها. حتى خالتي جميلة، التي كان يقترن ذكر اسمها ببعض الشتائم، كانت أمي تستنكر تلك الشتائم.. كانت هناك علاقة حب خاصة بينها وبين خالي مراد. لقد رعته دائماً، خاصة في فترة مرض جدتي الذي طال عدة سنوات، بينما كان خالي ما يزال صغيراً، في سن اليفاع.. هذا إلى جانب بقائه معظم أيام السنة لدينا قبل أن يصيبه اليأس في علاقة طبيعية متوازنة فيما بينه وبين جدي بعد موت جدتي.
كان وجدي على طرفي نقيض. لم أسمع إلا كلمة: عاق، بحق خالي، ولم أسمع من خالي إلا صفة العجوز الخرف بحق جدي.. كانا في حالة نقار وشجار دائم كصبيين صغيرين.
كنت أسمع في بعض الأحيان، والدتي وهي تعاتب خالي مراد قائلة: «عليك أن لا تنسى أنه أباك». كنت أسمع خالي يعلق وهو يضحك: «أنا لا أنسى ذلك يا أختاه، ولكن هو.. هو الذي ينسى أنني ابنه!».
كنت أسمع أمي، تناقش جدي بشيء من العتاب وحمله على أن يشعر بالذنب تجاه ابنه، فكانت تقول لجدي: «أستغرب منك يا أبي تصرفك تجاه مراد. أشعر كأنه ابن زوج وليس ابناً لك؟». كان جدي يبتسم بسخرية ويقول معلقاً: «إنه ابني.. ولكني كم تمنيت من الله لو ابن زوجتي!».
لم أعرف في يوم من الأيام أسباب هذه العلاقة الشاذة غير السوية بين جدي وخالي حتى اليوم..
لهذا كله، كما أعتقد، جاءنا ذات يوم شتائي بارد من القرية، يحمل حقيبة من الصفيح، يضع فيها كل ما يملك من ثياب، وهو في طريقه إلى دمشق.. وعندما سألته أمي عن الأسباب أجابها: «لقد قررت أن أتطوع في الجيش».
وهذا ما كان منه..
تبقى الخالة جميلة.
يتابع الفتى: كان اسمها يتردد على ألسنة جدي وجدتي وأمي وخؤولتي.. إلا أني لم أرها أبداً حتى عام1961.
لقد وقفت أمامها أنظر إليها كأني أنظر إلى كائن قادم من كوكب آخر غير الأرض!
كانت امرأة ضئيلة، تشبه والدتي كثيراً. كانت ما تزال ترتدي لباساً غير ما ترتديه والدتي، تتكلم بلكنة، يقال عنها«جزراوية» أي من سكان أهل الجزيرة.
كانت امرأة عادية جداً، إلا أنها كانت- هكذا تكون الانطباع لدي- تنطوي على نفس لا أستطيع أن أقول عنها خبيثة، إلا أنها نفس لا يرتاح المرء لها. إنما يأخذ منها موقفاً حذراً..
هذه الخالة ظلت طويلاً غريبة علي، قبل أن تمتد بيننا جسور الكلام القائم على الثقة والأريحية.
سأدع تقييمي لها الآن، لأعود إلى حكايتها.. قلت أكثر من مرة، أن جل ما سمعته عنها: كانت فتاة مارقة.... أما سبب مروقها هذا الذي يتحدثون عنه، فلأنها تزوجت من رجل رغم إرادة أهلها. فتاة حملت ثيابها، وكل ما يخصها من أشياء شخصية من البيت ورحلت مع الرجل الذي اختارته زوجاً.
ولما كان الرجل الذي اختارته زوجاً فقيراً، لا يملك شيئاً في القرية سوى بيت طيني لا يحيط به حتى سور يحدد حدوده ويحميه، قرر مع زوجته أن يهجرا القرية إلى غير رجعة بسبب معاناتهما من أسرتها.. رحلا وهما لا يحملان معهما سوى ثيابهما. سافرا إلى حلب ومنها توجها إلى منطقة الجزيرة. في البداية لم يعرف أهلها إلى أين رحلا، ولم يخبرا أحداً بالمكان الذي حطا فيه إلا بعد عدة سنوات. فقد توقف أهلها عن ذكرها في البيت. وإن ذكر اسمها أمامهم كان الجواب: ليكن الجحيم مأواها، أو لتدفن في أرض لا تطؤها قدم.. الخ
هذه الفتاة/ الخالة، منذ أن سمعت باسمها وحكايتها، لم تغب يوماً عن ذهني، كنت باستمرار أتساءل فيما بيني وبين نفسي: كيف هي؟ أهي جميلة كاسم على مسمى؟ طويلة أم قصيرة؟ أتملك عينان رماديتان كالخالة عائشة أم بنيتين كعيني أمي؟ ثم أسأل إن كانت حكاية زواجها، كما سمعت عنها من الناس صحيحة،أم أنها عارية من الصحة، أم أن هناك حكاية أخرى غير شائعة؟
ظلت هذه التساؤلات تدور في ذهني دون أن أجد لها أجوبة شافية حتى كانت أيام سنة1961، أما الأمر الغريب الذي وجدت الخالة عليه، فكان عدم إنجابها أو بالأحرى أنجبت ابنة واحدة، ولكنها ماتت وهي طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها الرابعة أو الخامسة.
أما زوجها فكان شيخاً، عرف بلقب«الشيخ حسين» كان نحيلاً، يملك روحاً مرحة، وذا حديث طلي، كما أنه يملك مخزوناً كبيراً من الحكايات. جاء حلب يعمل فيها عدة سنوات، ثم مات إثر عمل جراحي غير ناجح.. وقبل أن أنتهي من حكاية الخالة جميلة أريد الحديث عن حكاية كانت جدتي قد روتها لي وأنا طفل صغير، لا يتجاوز عمري الخامسة أو السادسة من السنين، بعد أن جاء في سياق الحديث ذكر اسم الخالة لسبب لا أذكره، فسألت جدتي: «لماذا لا تعود الخالة جميلة إلى البيت يا جدتي؟». نظرت إلي طويلاً ثم قالت: «لا تستطيع العودة، لأنها ماتت». ثم تابعت: «لقد ابتلعتها أفعى كبيرة!».
لم أصدق ما قالته إلا أني سألتها باستغراب: «كيف؟». قالت: «لا بأس هيا إلى المصطبة، وهناك سأحدثك كيف؟».
قبل أن أتحدث عما حكته لي جدتي عن الأفعى التي ابتلعت الخالة، أريد أن أصف بيت جدي. كان موقعه في غرب القرية التي تقع على حدود بيادرها التي عادة تكون في الصيف أرضاً لدرس الحنطة والشعير وبقية الحبوب من عدس وحمص وفول..
كان البيت يحيط به سور حجري يرتفع إلى ما يقرب المترين، وله باب خشبي كبير جداً. ستجد وأنت تعبره على يسارك بيت الخلاء ذا السقف المفتوح على السماء، ثم تمر بشجرة توت ضخمة، اعتدت أن أنصب بين أغصانها الغليظة أرجوحة في زياراتي لبيت جدي في الصيف. وفي عمق الحوش، على يسار البيت كانت حظيرة الحيوانات.. لم تكن، أقصد الحيوانات، كثيرة، بقرة وحمار، وأحياناً بضعة خرفان.. وإلى جانب الحظيرة كان خن الدجاج، هذا الخن الذي لا يمكن لي أن أنساه ما دمت حياً. والسبب، قلت لجدتي، بعد أن لعبت طويلاً مع أولاد القرية: «إني جائع» قالت لي: «اذهب إلى«القناق» وكل ما تريد». قلت لها: «أرغب في أن آكل بيضاً مقلياً». قالت لي: «اذهب واحضر من «القناق» بيضتين».
إلى هنا والأمر طبيعي، أما غير الطبيعي فقد حصل بعد ذلك. فأنا لم أستوعب قول جدتي، إنه علي الذهاب إلى«القناق» لجلب البيض منه، إنما ظننت أنها طلبت مني الذهاب إلى الخن وسحب بيضتين منه،كان من عادة جدتي أن تترك البيض في الخن يومين أو ثلاثة ليصبح عددها لا بأس به لتسحبه بعد ذلك من الخن.
اندفعت راكضاً باتجاه الخن وكان بابه الصغير مفتوحاً، مددت يدي إلى الداخل أبحث عن البيض، وفي أثناء بحثي لمست شيئاً طرياً، بارداً، له ملمس حرشفي.. شعرت بتموجه تحت أصابعي. إلا أني لم أسأل نفسي ماذا لمست؟ ظننت أن يدي قد وقعت على ساق دجاجة. سحبت بيضتين من الخن وركضت عائداً إلى البيت.
هذا الأمر تم في ساعة الظهيرة القائظة. أما في ساعة العصر عندما بدأت الدجاجات بالعودة إلى الخن، سمعنا قوقوة كبيرة ورفضت الدجاجات أن تدخل إلى الخن.. ولم تمر لحظة حتى رأينا خروج أفعى سوداء رقطاء من الخن، بعد أن كانت قد ابتلعت عدة بيضات بحيث أصبحت ثقيلة لم تستطع الهرب والاختفاء بين حجارة الحوش فقتلتها جدتي.
عندما رأيت مشهد الأفعى وهي ميتة أصابتني قشعريرة على طول عمودي الفقري. لأنني تذكرت ذاك الشيء المحرشف الذي لمسته بأطراف أصابعي في ساعة الظهيرة.
أذكر، عندما حفرت جدتي حفرة عميقة، ثم وضعت فيها الأفعى الميتة وطمرتها بالتراب، أخبرت جدتي بما حدث معي.
التفتت إلي مرعوبة، ثم تنهدت وقالت لي: «لولا البيض الذي كان في فمها لعضتك وغرزت نابها في يدك». ثم قالت: «إياك أن تمد يدك مرة ثانية إلى داخل الخن».
تابع الفتى: لنعد إلى وصف البيت حيث المصطبة تقع في شمال الحوش وعلى يسار باب البيت وهي، عادة تستعمل للجلوس والنوم عليها في أيام الصيف الحارة.
أما هيكل البيت فكان ينقسم إلى قسمين، الأول منه يتألف من مصطبة داخلية، تستعمل أيضاً للنوم، أما الـ(به خورا) فهو الفرن حيث يصنع فيه الخبز ويطبخ فيه الطعام. ويستعمل أيضاً كمدفأة في أيام الشتاء الباردة. أما القسم الثاني فيسمى(القناق) وهو قسم خلفي توضع فيه الأفرشة، والمواد التموينية من زيوت وبرغل، وكل ما يؤكل صيفاً وشتاء.. لأنه، أي(القناق) يكون بارداً.
أذكر أن جدتي أمسكت بيدي، لتخرجني معها إلى المصطبة، وهناك تمددت في حضنها، وهي تحدثني عن الفتاة التي ابتلعتها الأفعى. وأول ما ابتدأت به جدتي حديثها، كان: «قبل أن تبتلعها الأفعى، كانت فتاة صغيرة، جميلة، مرحة.. بها شيء من الخبث الطفولي الذي يدل على ذكاء حاد. كان والداها مبهورين بها. كل واحد منهما يعاملها برقة شديدة، محاولاً بذلك استمالتها إلى نفسه أكثر من الآخر.. ولكن والديها ما لبثا أن تساءلا بعد تمرد ابنتهما عليهما، إن كانت هذه المعاملة هي التي أفسدتها؟ المهم.. قالت جدتي متابعة: كبرت الفتاة الصغيرة التي كانت تشبه الأميرات، وترعرعت بين أخوتها من ذكور وإناث، كأنها الابنة الوحيدة لوالديها. هذه المعاملة الخاصة من قبل الوالدين لها، دفعت بالغيرة لتغلي في صدور الإناث من أخواتها، كما دفعت بالاستياء لدى الذكور من إخوتها.
رغم هذه المشاعر، ظل جميع إخوتها وأخواتها يعاملونها كما يرغب والداها. هذه الفتاة الصغيرة التي كبرت وأصبحت في الرابعة عشرة من العمر، بدأت تعامل إخوتها والإناث منهم بشكل خاص بشيء من قلة الاحترام وكثير من الأنانية.. فبدأ الوالدان ينتبهان إلى السلوك غير السوي لابنتهما التي لم تعد صغيرة، بعد أن أصبحت يافعة، وبدأ بعض الشبان يدفعون بأهاليهم من أجل خطبتها لهم.
راحت هذه الفتاة ترفض كل شاب يتقدم لها. وكان معظمهم من خيرة شبان القرية، يملكون المال والجاه والسمعة الحسنة.
سأل والد الفتاة زوجه، بعد أن تكرر رفض ابنتهم للعرسان عن أسباب ذلك؟ أجابت الأم بكلام غير مقنع للأب: ما تزال صغيرة..
نظر الأب إلى زوجه وقال باستغراب: أتقولين عنها صغيرة؟ ثم قال قبل أن تجيب زوجه على تساؤله: كم كان عمرك يوم تزوجنا؟ ألم تكوني في الثالثة عشرة من العمر؟ ثم أضاف الأب: وهل هناك فتاة في قريتنا يمكن لها أن تبقى برغبة منها أو أهلها، بلا زواج إن بلغت الثانية عشرة، و لا أريد أن أقول الثالثة عشرة؟
قالت الأم لزوجها: علينا أن نصبر عليها قليلاً.. لا بد أن تمل من دلالها ودلعها ذات يوم، لتقبل بأحد الشبان زوجاً لها.
هز الأب رأسه حزيناً ومضى دون أن ينطق بحرف.
هذا الحوار أثار لدى والدتها شيئاً من القلق. فجلست إلى ابنتها وسألتها عن أسباب هذا العزوف عن قبول الشبان واختيار أحدهم زوجاً لها؟ ثم سألتها، إن كان هناك شاب ما تنتظر منه أن يتقدم لخطبتها؟
هزت الفتاة رأسها نفياً.
ومرت شهور طويلة قبل أن يتقدم أحد الرجال من القرية طالباً يدها من والدها.
استغرب والدا الفتاة من جرأة هذا الرجل الذي كان قد تخطى مرحلة الشباب بالعديد من السنوات! هذا إلى جانب كونه فقيراً، لا بل معدماً. لا يملك مالاً أو أرضاً أو حتى حاكورة صغيرة يمكن له أن يزرع فيها ما يحتاج بيته من الخضار.
رفض والدا الفتاة طلب الرجل دون أن يسألا ابنتهما، فقد كانا على قناعة من أنها سترفضه بعد أن رفضت خيرة شبان القرية. إلا أن والديها استغربا وتعجبا لحظة تقدم ابنتهما منهما لتخبرهما بموافقتها على طلب الرجل بالزواج منها!
وقف والداها ينظران إليها غير مصدقين، حتى أنهما ظنا أن ما قالته هو شيء من الخبث الممزوج بالدلع الذي عرفت به.. ولكن خيبة والديها كانت كبيرة عندما عرفا أنها جادة في كلامها، وليس فيما قالته لهما شيء من المزاح والخبث والعبث الصبياني..
عندما عرف إخوتها من إناث وذكور بالأمر أصابهم شيء من الجنون، فتقدم منها الشقيق الأكبر وهو غير متمالك لنفسه، وقال لها بقسوة: انظري أيتها الـ... أنا لست بوالدك حتى أغمض عيني، وأغض الطرف عن جنونك الصبياني الذي تريدين أن تظهريه لنا. ثم تابع موضحاً: هذه الأسرة التي تنتمين إليها، أسرة محترمة، أعطاها الله من خيراته الكثير.. إياك والعبث بسمعة الأسرة. أكرر ذلك: إياك والعبث بسمعتنا؟.
أما شقيقتها الكبرى فتقدمت منها، ثم مدت يدها إلى شعر شقيقتها المجنونة، كما ادعت، وراحت تلفه على يدها حتى بات وجه الفتاة مشدوداً إلى راحة يدها، ثم قالت لها بلسان يقطر سماً: أتعلمين.. والله العظيم، سيكون قتلك على يدي.. ليس هذا وحسب، إنما لن أتردد في أن أشرب دمك! مضيفة، أيتها المجنونة، عليك أن تفكري بأنك عمة لستة عشر صبياً وصبية، فلا يمكن لك أن تسيئي إلى سمعتهم.
أما والداها، فقاطعاها، ولم يعودا يكلمانها..
سمع الرجل الذي تقدم لخطبتها بكل حرف مما قيل لها من قبل أشقائها وشقيقاتها، كما علم بموقف والديها منها.. وكان الرجل يخمن مسبقاً بموقف أهل الفتاة.
والحل؟
هذا ما طرحه الرجل على نفسه، ثم راح يبحث عن الجواب». تابعت الجدة قائلة: «هنا سأترك أمر الفتاة من أجل أن أحدثك عن أمر الرجل يا بني..
عندما شاعت حكاية الرجل والفتاة في القرية، التفت أهاليها إلى موضوع لم يحاول أي واحد منهم أن يبحث فيه سابقاً، ألا وهو.. تاريخ أسرة هذا الرجل!
قيل إن الرجل جاء صغيراً مع أسرته إلى القرية، هارباً من قرية أخرى لأمر ما. لم يعرف أي واحد من أهالي القرية سبب هرب أسرة الرجل.
وقيل أيضاً، أن الرجل، عندما جاء إلى القرية، كان وحيد والديه.. جاء صبياً وعمل لدى أهالي القرية طويلاً كفلاح أجير، قبل أن يستقل بعمل خاص به، بعد أن استطاع أن يشتري قطعة أرض صغيرة من أراضي القرية.
وقيل أيضاً وأيضاً.. أنه، أي الرجل، ولد في القرية بعد أن جاء والداه إليها بعد عدة سنوات، كبر الرجل فيها مثله مثل كل أولاد القرية.
أما رجال القرية، الذين كانوا أولاداً ذات يوم، عندما كان الرجل ولداً مثلهم، فقالوا: لم نعرفه أبداً ولداً بيننا.. لم نره، لم نلعب معه في يوم من الأيام! وأضاف بعضهم: لم نره إلا وهو رجل مثله مثلنا.
أما الحقيقة التي لا يمكن لأحد من أهالي القرية نكرانها يا بني، فهي أن الرجل جاء مع أسرته التي كانت مكونة من رجل وامرأة وثلاثة أبناء، صبيان وبنت.. البنت تزوجت لرجل غريب عن القرية، قيل على لسان والدتها، كان ابن عمها الذي تزوجها. جاء من قريته وعاد بها مرة ثانية إلى بيته فيها.
أما الرأي الذي انتشر في القرية حول زواج البنت، فهو أن والد البنت كان مديناً للرجل الغريب الذي جاء إلى القرية، فلم يجد والد البنت إمكانية في إيفاء دينه إلا بدفع ابنته زوجاً للرجل الدائن.
أما الصبي شقيق الرجل، فقد رحل مع مخيم للقرباط كان قد حط في أراضي القرية ذات صيف، وبعد انتهاء الموسم الزراعي، رفع القرباط مخيمهم ورحلوا إلى أمكنة أخرى كعادتهم دائماً.
أما والدا الرجل فقد اختفيا ذات يوم بصورة فجائية، ولم يعرف أحد من أهالي القرية شيئاً عن سر اختفاء الوالدين..
وهكذا لم يبق من الأسرة الغريبة إلا الرجل الذي عاش على هامش القرية وحياة أهلها، غريباً إلى أقصى حد.. لقد تجاهله الناس كشيء زائد عن قريتهم. لهذا، تابعت جدتي، عندما تقدم الرجل لخطبة الفتاة، تذكروا وجوده بين ظهرانيهم. ولكنهم، على ما يبدو لم يصدقوا عيونهم عندما رأوا الرجل ينبثق بينهم كنبت غريب، لذا تساءلوا: أين كان هذا الرجل؟».
ابتسمت جدتي، وهي تحدق بي بعينيها الرماديتين، عندما رأت، على ما يبدو، على وجهي علامات لا تمت بصلة إلى الدهشة التي، من المفترض أن تراني فيها، إنما على عكس ذلك، رأت ابتسامة ساخرة، فاستشفت ما كنت أقوله لنفسي: إن الأمر الذي يبدو غريباً، ليس الرجل وأسرته، إنما الغريب في الأمر هو أهل القرية!
تابعت جدتي قائلة: «أرى على وجهك خبثاً يا بني». ثم هزت رأسها وتابعت: «معك الحق في أن تنظر إلي بخبث!». المهم. قالت جدتي، ثم تابعت: «قد تسأل كما سألت نفسي أيضاً، كيف يمكن لرجل، هذا تاريخه، أن يتقدم للزواج من فتاة ذات جمال، ومن أسرة كريمة أيضاً؟.
هذا السؤال دار بين أهالي القرية جميعهم. وقد أجاب كل واحد منهم بالطريقة التي رآها مناسبة له من جهة، ومن جهة أخرى، حسب علاقته وموقفه من أسرة الفتاة.
أما الفتاة فقد وقفت أمام والدتها التي سألتها: ما الذي دفعك إلى رفض خيرة شباب القرية، وقبولك لرجل يكبرك بضعفي عمرك، وأيضاً لا أحد يعرف قرعة أبيه من أين؟.
يقال أن الفتاة ظلت تنظر إلى والدتها طويلاً قبل أن تجيب على سؤالها بأمر عجيب غير معقول أبداً. قالت الفتاة: عندما رفعت رأسي بعد أن وجدت نفسي في وضع لا خلاص لي منه، كنت في حكم الميتة، تقدم مني الرجل ومد يده إلي، وأنقذني من موتي المحتم..
كنت في النفق، لا أدري كيف وصلت إليه؟ وكيف وجدت نفسي فيه؟ كان كل ما فيه يشي بالوحشية، من النباتات التي كانت تزحف بين قدمي، ومن أغصان الأشجار الغريبة التي لم أر مثلها من قبل، تميل، وهي في عليائها على النفق لتسد عني أشعة الشمس ونور القمر..
أذكر عندما فتحت عيني وجدت نفسي في الموقف الذي حدثتك عنه، أما قبل ذلك فلا علم لي أين كنت! ما أذكره أنني توجهت باكراً إلى الفراش،كنت أشعر بتعب وشيء من انحطاط في جسمي. نمت باكراً، وأنت تعلمين أن هذا الأمر ليس من طبعي.. فأنا أظل ساهرة مادام إنسان ما في القرية سهران. لا أستطيع النوم ولا أقدر عليه قبل أن تنام القرية كلها، كأنني حارسة ليلية لها..
فتحت عيني وكلي ذعر وخوف مما وجدت نفسي فيه. نفق وكل ما فيه يشي بموتي المحتم..
ابتسمت الفتاة رغم ملامح الحزن المرسومة على وجهها وتابعت: أنت تذكرين يا أماه، أنك حكيت لي حكايات كثيرة.. هذه الحكايات تذكرتها فجأة، وأنا في وضعي الذي لا رجاء منه، فعاهدت نفسي أن أتزوج الشاب الذي ينقذني من وضعي اليائس المميت، وأنا في النفق.. رغم أني كنت على قناعة أن لا أمل لي في النجاة، لأن المكان الذي وجدت نفسي فيه كان مجهولاً، غير معلوم للبشر.. فأي شاب يمكن له أن يأتي إلى هذا النفق الضائع في شعاب الجبال العالية أو الوديان السحيقة أو في دروب سماء لا أحد يعرف لها باباً.. قلت، وأنا في وضعي هذا والخوف يأكلني، وجدت انفتاح كوة أشبه بنافذة صغيرة، دخلت منها أشعة شمس قوية، فأغمضت عيني من شدة نورها الباهر، ولكني بعد لحظات، شعرت كأن ظلاً قد انوجد ما بيني وبين تلك الأشعة الساطعة. فتحت عيني، لأجد وجه الرجل يطل علي، وهو يقول لي: تقدمي إلى الأمام عشر خطوات فقط، ثم أثبتي في مكانك.
فعلت ما طلبه مني الرجل، فوجدت نفسي أمام مدخل ضيق يفضي إلى ظلام. إلا أن صوت الرجل ناداني من وراء ذلك الظلام، أن أتقدم منه، ثم طلب مني أن لا أخاف.. فهو بانتظاري وراء ذلك الليل الكالح.. ففعلت.
وكم كانت دهشتي كبيرة، عندما وجدت نفسي أقف وجهاً لوجه، وفي مساحة لا تحدها حدود من أشعة الشمس، أمام الرجل وهو يأخذ بيدي ويطلب مني أن أتقدم عبر الشمس إلى الأمام.
سرنا معاً طويلاً قبل أن أسأله عن المكان الغريب الذي نحن فيه. قال نحن الآن تحت الأرض! لم أصدق ما قاله، ظننت أنه يمازحني. إلا أنه تابع: ولكن لن نلبث بعد قليل أن نخرج إلى الفضاء فوق الأرض.
عندما تذكرت أني سرت مسافة طويلة، ولمدة زمنية مديدة من دون أن أشعر بالتعب أو الإرهاق، أصبت بدهشة كبيرة. قلت للرجل: هل سيطول بنا الطريق، قبل أن نصل إلى القرية،؟.
تلكأ الرجل قليلاً، وهو ينظر إلي، إلا أنه ظل مستمراً في سيره وهو يقول: ومن قال لك إننا عائدان إلى القرية؟.
توقفت للحظة قبل أن أتابع سيري مبطئة من خطوي، وقلت: ولكن إلى أين نحن ذاهبان؟. أجابني: إلى الحياة! ثم أضاف: ولكن ليس قبل خروجنا من بطن الموت، حيث نحن نسير بين جنباته!.
لم أعلق على ما قاله الرجل خوفاً، لأنه، هكذا ظننت، بات مجنوناً.. وقبل أن أفكر بقول آخر، رأيت الرجل يبتسم بسخرية ويقول: حتماً أنت الآن تقولين عني في نفسك، أني مجنون.. وهذا الأمر، سيزرع الخوف في نفسك، أقصد خوفك مني.. ولكن؟. ثم صمت ولم يكمل إلا بعد حين: ألم تسألي نفسك أي جنون دفعك للمجيء إلى نفق الموت هذا الذي نسير فيه؟.
عندما لم أجبه، لأنني لم أستوعب المقصد من كلامه، تابع: لا تخافي، لأن مصيري في الخلاص من نفق الموت هذا مرتبط بمصيرك أيضاً، كما أن مصيرك مرتبط بمصيري.
شعرت بشيء من الهناء والاطمئنان بعد قوله هذا، فقلت لنفسي، لا داعي للخوف فنحن الاثنان معلقان بالموت والحياة، فإن سقط أحدنا باتجاه الموت، لا بد أن يسقط الآخر، وكذلك سقوطنا باتجاه الحياة.
خلال المدة التي سرناها أنا والرجل، لم أر شيئاً في الطريق، لم أر سوى أشعة الشمس الساطعة التي تعمي العيون ببهائها وقوة شعاعها.. إلا أني فجأة شاهدت في البعيد تلالاً صغيرة متصلة ببعضها بلون أزرق سماوي. ظننت أني أرى سراباً، إلا أن الرجل قال: ها نحن نقترب من حدود الحياة، إنها وراء تلك التلال الصغيرة، علينا أن نتحمل قسوة الموت فيما تبقى لنا من النفق.
إلى هنا أذكر كل شيء مر بي أو مررت به، إلا أني بعد هذا غمضت علي الأمور. كأنني غفوت، أو نمت نوماً طويلاً. ولكني عندما استيقظت، أو هكذا بدا لي، وجدت نفسي ممددة على عشب طري، تظللني شجرة وارفة الأغصان، وعلى مبعدة مني ببضعة أمتار كان الرجل غارقاً في النوم.
التفت حولي، وأنا أنقل نظري ما بين الأشياء المحيطة بي، أبحث عن أمر ما، وجود بشر أو حيوانات أو طيور.. إلا أني لم أجد شيئاً مما في نفسي أن أجده. كانت الشمس ساطعة ببهاء، أما الأرض فمعشوشبة على مد النظر، بحيث لا تستطيع أن تميز خط الأفق الذي يفصل ما بين الأرض والسماء.
التفت مرة أخرى إلى الرجل النائم. وبعد طول تأمل قلت لنفسي، أحقاً ستوافقين على الزواج منه إن هو طلب يدك؟ أجبت، لولا العهد لما وافقت..
صمتت الفتاة يا بني طويلاً، قالت جدتي، كأنها تنتظر تعليقاً من والدتها التي ربتها على الإيفاء بالوعد وعدم الانسحاب من العهد الذي يقطعه المرء على نفسه. ولكن والدتها لم تنبس ببنت شفة، ثم قامت تاركة ابنتها مع نفسها في غرفتها.
أما ما جرى بعد ذلك للفتاة والرجل، سأحدثك عنه في الليلة القادمة، لأنني أشعر بالنعاس الآن».
لم أطلب في الليلة التالية من جدتي أن تكمل لي حكاية الرجل والفتاة، إنما ندهت علي جدتي قائلة: «ألا تريد أن أكمل لك بقية الحكاية؟.
هززت لها رأسي أن نعم. ثم تحركت إليها، أرمي بنفسي إلى حضنها وأنا أضحك.
راحت جدتي تداعب شعري، وهي تشرد بعيداً عني، ولكن رغم حالها هذه، تابعت من دون مقدمات تحدثني قائلة: «ظلت الفتاة نائمة. كانت قد وضعت رأسها على ساق الرجل، وهما جالسان بقرب نبع للماء. وفوقهما شجرة ضخمة تظللهما بفيء أوراقها».
رفعت نظري إلى جدتي أريد أن أنبهها إلى أمر نسيته في الحكاية، ألا وهو، أن الفتاة هي التي كانت يقظى، أما الرجل فكان نائماً. إلا أني وجدت جدتي على قدر كبير من الاندماج فيما ترويه لي. لذا عدت إلى وضعي السابق في حضنها، مستمعاً إلى كل كلمة تنطق بها: «كان الرجل، وهو يسند ظهره إلى الشجرة الكبيرة ويطلق راحة يده مع مياه النبع الباردة، متأملاً وجه الفتاة التي عصت أوامر والديها وأشقائها وشقيقاتها، راحلة مع من تريد.
كان وجهها أشبه بالقمر. كان لا يصدق أن مثل هذه الفتاة التي تملك كل هذا الجمال، قد قبلت به زوجاً، لا يصدق أن مثل هذه الفتاة المنحدرة من أسرة غنية لها شأن كبير في القرية يمكن لها أن تتخلى عن كل الترف والرفاه اللذين كانت تعيش فيهما، وتلحق به، هو الرجل الفقير الذي لا يملك من مال هذه الدنيا شيئاً يذكر.
كان الرجل لا يصدق ما وجد نفسه فيه من حظ لا يمكن لأي امرئ أن يجد نفسه فيه.
أغمض الرجل عينيه لذلك وراح يحلم، راح يتصور الكيفية التي سيبني بيته عليها، والحديقة الصغيرة التي سيزرعها بالأشجار والحشائش وكل الأشياء الجميلة التي سيشتريها لزوحه، ثم راح يتخيل عدد الأولاد الذين سينجبهم، كيف سيكبر أولاده أمامه واحداً بعد الآخر. أما هو وفتاته كيف سيشيخان معاً. وبعد طول صمت، تابع لنفسه، وكل ما أتمناه أن يكون يوم وفاتي قبل يوم وفاتها، لكي لا أعيش تلك اللحظات المريرة من الحزن والشقاء. ثم حاول الرجل أن يرفع يديه إلى السماء ليدعو الله أن يحقق له هذه الأمنية.
شعر برأس فتاته يتحرك فوق ساقه، ثم تناهى إلى سمعه صوتها، وهي مابين النوم واليقظة يقول له: دعني أنم، لا تدغدغ لي باطن قدمي.
ابتسم الرجل ولم يعلق، ظل مغمضاً عينيه وهو يحاول أن يتصور العالم الذي سيعيش فيه مع فتاته. إلا أنه سمع صوتها من جديد، ولكن هذه المرة بلهجة فيها شيء من الاحتجاج: قلت لك دعني.. لا تحاول أن تمسك بقدمي.. دعني أنم..
فتح الرجل عينيه وهو يقول: ولكني بعيد عن قدميك فكيف لي أن... وقبل أن يتابع كلامه، نظر إلى الأسفل، حيث قدمي فتاته، فرأى أمراً مهولاً، رأى أفعى هائلة، منحدرة من أعلى الشجرة، فاتحة شدقها على طوله، وهي تهم بابتلاع قدمي فتاته!
لم يصدق ما رأت عيناه، ولم يصدق ما رأى بعينيه. كانت الصورة التي رآها غريبة، أيمكن لأفعى مهما كبرت وثخن وسطها، أن تبتلع قدمي فتاة؟ لا يمكن.. ولكن ما رآه كان حقيقة، لقد رأى الأفعى بأم عينيه وهي تهم بابتلاع قدمي فتاته. شعر برغبة في أن يتابع المشهد الذي رآه، وأن يخمن ويتساءل: لأرى كيف يمكن لهذه الأفعى أن تبتلع قدمي فتاتي؟.
كانت الأفعى من فصيلة غريبة، لم ير مثلها في سابق حياته، لها عينان آدميتان، وفي وسط رأسها من الأعلى، قرن عظميم يبلغ طوله أكثر من عشرين سنتمتراً. أما جسمها فكان بطول خمسة أمتار تقريباً، هذا إن لم يكن أطول، لأن جذعها كان ممتداً من أعلى الشجرة إلى الأرض، لينتهي رأسها عند قدمي فتاته، بينما لاحظ، عندما رفع وجهه إلى الأعلى، لاحظ أن ذيل الأفعى مختف بين أغصان الشجرة في أعاليها.
ابتسم الرجل بهزء وسخرية وهو يتساءل: أيمكن أن تنوجد مثل هذه الأفعى؟ هز رأسه وهو ما زال على ابتسامته الهازئة، وتساؤله مجيباً: أن لا. ثم تابع: إن ما أراه هو مجرد كابوس أو حلم أو شيء من هذا القبيل.
ولكن الأمر الذي جعله ألاّ يصدق نفسه، هو صراخ فتاته الذي راح يتعالى وهي تحاول الإمساك بقدميه، لأن الأفعى كانت قد أطبقت بشدقيها على قدميها بالكامل، وراحت تبتلعها بإصرار.
ظل الرجل لا يصدق ما يرى، رغم صوت الفتاة طالبة منه أن ينجيها مما هي واقعة فيه من خطر. ظل الرجل يحدق إلى عيني الأفعى اللتين تحدقان به بإصرار..
وأمام صراخ الفتاة يا بني، حاول الرجل القيام والتحرك لنجدة فتاته، إلا أنه لم يقدر، شعر كأنه مقعد لا يستطيع الحراك، كأنه عاجز، مشلول غير قادر على فعل شيء. فظل يراقب الأفعى تبتلع فتاته بإصرار، ظل يرى كيف تختفي فتاته شيئاً فشيئاً في بطن الأفعى حتى النهاية، حتى اللحظة التي أغلقت فيها شدقيها، وراحت تحاول الانسحاب للمضي في طريقها.
عند هذه النقطة، وهذا المشهد، استيقظ الرجل مما كان فيه من العجز، فقام بحركة عنيفة مهاجماً الأفعى التي ثقل جسمها، ولم تعد تستطيع التحرك بمرونة.
دار الرجل حول نفسه، ثم استل من وسطه خنجراً، كان يتمنطق به منذ لحظة خروجه من القرية مع فتاته.. وراح ينهال طعناً في جسد الأفعى حتى مزقها تمزيقاً، ثم راح يقشر جلدها بسكينه عن جسد فتاته، حتى استطاع إخراجه من جوف الأفعى.
كانت الفتاة، ميتة.. جلس الرجل أمام جثمانها منتحباً باكياً وهو يتساءل: كيف لم يدرك ما كان يشاهده، بأنه حقيقة وليس خيالاً؟ كيف ظن صراخ فتاته مزاحاً ودلالاً وليس جدياً؟ ظل الرجل على هذه الحال عدة أيام، كان قد دفن فتاته، وسحب جسد الأفعى بعيداً، تركها في مكان يمكن للطيور الجارحة تقطيعها والتهامها قطعة وراء قطعة».
سكتت جدتي طويلاً، ثم تابعت: «هذه الحكاية انتهت بعدة نهايات يا بني، لأن كل راو لها أراد نهاية كما يرغب، فمنهم أنهاها، على أنها، أي الفتاة، عندما قشر الرجل جلد الأفعى عنها، كانت ما تزال حية. ومنهم من أنهاها بأن الرجل بعد أن دفن فتاته، أقام على قبرها سقفاً وزرع حوله الزهور والورود والأشجار، جعل من تلك البقعة جنة، قضى الرجل حياته في خدمة قبر فتاته حتى بات مزاراً يحج إليه العشاق، ومنهم من قال: إن الرجل لم يدفن الفتاة لأن لوثة أصابت عقله. كما أن هناك رواية أخرى تداولها الناس، أن الرجل حفر قبراً واسعاً يسع لإثنين مدد الفتاة في القبر، ثم انتحر إلى جانبها».
على هذه الصورة أنهت جدتي حكاية الرجل والفتاة.
في تلك السنوات البعيدة، يتابع الفتى: وأنا في الثامنة أو دونها بقليل، لم أشعر إلا بالحزن لمصير تلك الفتاة، من دون أن أشعر تجاه الرجل بأي مشاعر محددة، إنما بقيت مشاعري حيادية تجاهه، أو هكذا خلتها. أما عندما كبرت وأصبحت يافعاً، وتناهى إلى مسامعي قصة خالتي، كيف أنها تمردت على إرادة أفراد أسرتها جميعاً، وذهبت مع الرجل الذي تحب، فحاولت أن أربط بين حكاية الخالة وحكاية تلك الفتاة التي ابتلعتها الأفعى، كلاهما، أقصد الفتاتين، ذهبتا من دون إرادة والديهما مع من تحبان.. وأن مصيريهما تقريباً كان مشتركاً، لأنني كنت دائماً أسمع من جدي وجدتي على وجه الخصوص، عندما يأتي ذكرلخالتي، كانا يقولان: لقد ماتت منذ زمن كاف لنسيانها!
ظل سؤالاً يدور في ذهني طويلاً: لماذا هذا الموقف القاسي من قبل جديّ ضد ابنتهما؟ ولكني لم أجد له جواباً في نفسي، رغم أني حاولت أكثر من مرة أن أبحث عنه لدى جدتي وأمي وجدي.. إلا أن أحداً منهم لم يقدم لي الجواب الشافي.
أما عندما رأيت خالتي لأول مرة، بعد أن جاءت هي وزوجها الشيخ حسين إلى مدينة حلب، فقد قصصت عليها حكاية الفتاة التي ابتلعتها الأفعى. ثم سألتها إلى أي مدى تجد نفسها في تلك الفتاة، كما حاولت جدتي/ أمها أن توحي لي بذلك؟.
هزت الخالة رأسها وقالت عن والدتها/ جدتي: لقد ارتحلت إلى ديار الحق، فأنا اليوم لا يسعني سوى أن أطلب لها الرحمة، وأطلب من الله أن يجعلها من أهل الجنة، رغم الظلم الذي ألحقته بي وأنا صغيرة ابنة الرابعة عشرة من العمر.
هذه الشكوى والدعوة التي رفعتها خالتي إلى الله بحق والدتها، غيرت الصورة القديمة التي كانت قد تكونت عنها في ذاكرتي، بعد أن اعتمدت في رسمها على أقوال جديّ وخالتّي وخالّي، طبعاً إلى جانب أمي أيضاً، فقلت لنفسي، أعرف أن خالتي قد أخطأت خطأ ما في الرابعة عشرة من عمرها، ولكن من الظلم أن تدفع طوال حياتها ثمناً لهذا الخطأ، لا بد أن يكون هناك رحمة مهما كبر الخطأ وتعاظم، لا بد أن يكون هناك غفران ومسامحة.
طبعاً لم أستطع أن أفعل شيئاً لخالتي، أن أحاول، مثلاً القيام بدور المصلح بينها وبين والديها، لأن الاثنين، جدي وجدتي كانا قد توفيا قبل أن أرى خالتي وأتعرف إليها.
* * *
في عطلة كل عيد من أعياد السنة، كنت أذهب مع أفراد أسرتي إلى بيت جدي في(قيبار)، وأذكر في أحد الأعياد، وأنا في السادسة من عمري، كنا نستعد للذهاب كالعادة إلى القرية.. في ذلك العيد ضربتني أمي علقة مبرحة، وسبب العلقة، كان.. ونحن في طريقنا إلى(الكراج)، لننطلق منه مسافرين إلى القرية. كان لا بد لنا من المرور بعشرات الحوانيت، في سوق منطقة(باب الفرج)، حيث يقع(الكراج)، وفيها، أقصد الحوانيت، كل ما يمكن للمرء أن يفكر فيه، من أطعمة وألبسة وألعاب وتسالي.
يتابع الفتى: واليوم لا أذكر الأسباب التي دعت والدتي إلى دخول أحد الحوانيت، لشراء حاجة ما.. أما أنا فوقفت خارج الحانوت، أمام واجهة تلاصق الحانوت الذي دخلت أمي إليه. وقفت أتأمل ما تحويه الدكان.. وكانت المفاجأة هي أني أينما حولت نظري في الواجهة لا أرى سوى الألعاب الخاصة بالأطفال.
وقفت أنظر إلى الألعاب المعروضة بدهشة، وأيضاً تلك الموزعة على الرفوف في داخل الدكان. شعرت بلعابي يسيل أمام هذا الحشد الكبير من الألعاب، كأنني أمام أطعمة لم أرها سابقاً، ولم أتذوقها من قبل. لذا اجتاحتني رغبة قاتلة في شراء لعبة تمثل دراجة نارية صغيرة رأيتها أمامي، على مستوى نظري، وراء الزجاج.. فرحت أتحرك يميناً ويساراً، أمط جذعي إلى الأعلى، وأقلص ظهري، أنظر وأراقب بدهشة الدراجة النارية الصغيرة. خرجت أمي من الحانوت، ومدت يدها إلى يدي لنتابع السير باتجاه (الكراج)، الذي كان قد بات قريباً منا. إلا أني سحبت يدي من يدها، وبقيت واقفاً أحدق إلى الدراجة النارية. كانت مؤلفة من قسمين، الأول، الدراجة أما الثاني فكان كبيناً ملحقاً بها لراكب إضافي. وقد رأيت فيما بعد، عندما أخذت أتردد على دور السينما، كثيراً من هذا النوع للدراجات النارية، وخاصة في الأفلام الحربية.
عندما سحبت يدي من كف أمي التفتت تنظر إلي باستنكار لتصرفي ذاك. ثم قالت لي: «هيا، لقد تأخرنا..»، إلا أني لم ألتفت إليها، إنما ظللت أنظر إلى الواجهة الزجاجية للدكان، حيث اللعبة. تقدمت أمي لترى إلى ماذا أنظر؟ سألتني: «ما بك؟ لماذا أنت واقف؟ هيا تحرك..».
لم أرد، ولكني التفت إليها وقلت: «أريد هذه الدراجة».
نظرت أمي إلى حيث أشرت، ثم قالت لي: «هيا، ليس لدينا وقت كاف».
لم أتحرك. قلت لها: «أريد الدراجة».
نظرت أمي إلي باحتجاج، ولكنها أمام إلحاحي وتناحتي، دخلت إلى الدكان وسألت عن ثمنها.. لا أذكر اليوم المبلغ الذي أعلن البائع عنه لوالدتي، إلا أني عرفت أن ثمنها كان باهظاً جداً.
أمسكت أمي بيدي وسحبتني وراءها وهي تقول: «سأشتريها لك بعد عودتنا من بيت جدك». ولكني لم أتحرك بعد أن سحبت يدي من يدها من جديد، ورحت أبكي صارخاً أريد الدراجة..
وعلى هذا الوضع، بين بكائي ورفضي التحرك من أمام الدكان، وبين طلب والدتي مني التحرك، ووعدها لي بشراء اللعبة، فور عودتنا من القرية، أصاب أمي الجنون، فراحت تضربني بقوة.. أذكر اليوم كان الضرب مبرحاً، إلا أني رغم الدم الذي سال من أنفي لم أتحرك من مكاني، أمام الدكان.. حتى اضطرت أمي إلى شراء اللعبة لي.
هذا إلى جانب تأخرنا في السفر لأكثر من ربع ساعة، حتى استطاع صاحب الحانوت، أن يعلمني طريقة تشغيلها..
إلى هنا تنتهي قصتي مع الدراجة النارية. لتبدأ مع جدي قصة أخرى عندما وصلنا إلى القرية.. بدا جدي كطفل صغير عندما تقدم مني، وطلب أن أعطيه الدراجة النارية! راح يقلبها بين يديه متأملاً تفاصيلها، يلمس بأصابعه وجه السائق الوردي، ووجه معاونه الجالس في الكبين الملحق بها.
ضحك جدي وهو ينظر إلي ويقول: «هاك دراجتك.. أخبرني كيف يمكنك تشغيلها؟». أخذت منه الدراجة وأنا أشعر بنشوة ومتعة، وبوضعي المميز الذي شعرت به، بعد أن طلب جدي مني أن أساعده، وهو الرجل الكبير الذي يملك لحية رمادية طويلة تغطي صدره بالكامل.
قلت له: «إنه عمل بسيط». ثم حركت النابض باتجاه الأمام، وأنا أشد عليه حتى الأخير، ثم وضعت الدراجة على الأرض، ورفعت يدي عن النابض، فتحركت إلى الأمام محدثة ضجة قوية، بينما تطلق من فوهتها الخلفية شرارات نارية كثيفة، وهي تدور في مكانها، وأحياناً تتقدم إلى الأمام. ظلت على هذه الحال حتى فرغ نابضها من قوة الدفع.
تناول جدي الدراجة عن الأرض، وقلبها بين يديه بحذر، وهو يداعب مفتاح النابض، ما لبث أن راح يدوره كما دورته أنا من قبل إلى حده الأقصى، ثم وضعها على الأرض، رافعاً يده بعد تردد قصير عن النابض.
انطلقت الدراجة من بين يدي جدي إلى الأمام.
راح جدي يلاحقها بصخب، وهو يضحك ويقفز وراءها كطفل صغير، مما دفع بي إلى الركض والضحك معه ونحن الاثنين نلاحق الدراجة التي راحت تدور في كل الاتجاهات قبل أن تتوقف.
ما أذكره اليوم أن جدي في ذلك اليوم، أصبح طفلاً مثلي تماماً! فظل يلعب بها ويركض وراءها، ضاحكاً صاخباً طوال اليوم، ما لبث أن هرع إلى بيت أحد أصدقائه المقربين جداً، وكانا رفاق طفولة أيضاً، جاء به إلى البيت ليريه أعجوبة الزمان!
لم يكن صخب صاحب جدي بأقل من صخب جدي، لقد انقلبا إلى طفلين صغيرين، هذا إن لم يصبحا أصغر مني سناً.. ظلا يلعبان بالدراجة طويلاً، وعندما استعادا هدوءهما، قال جدي وهو يحاول أن يشرح لصاحبه ميزات وحسنات الدراجة النارية فقال: «انظر يا صاحبي، هذه الدراجة مختصة باختطاف النساء! انظر إلى هذا الكبين الملحق بها، إنه المكان الذي تجلس فيه المرأة المخطوفة، ثم عليك أن تعرف، ما أن تنطلق هذه الدراجة فلا أحد يستطيع اللحاق بها.. حتى الجيوش غير قادرة على قهرها! أما عندما تبلغ أقصى سرعتها، فلا تقدر الطائرة بنفسها اللحاق بها.
في تلك السنوات البعيدة لم أستطع استيعاب كلام جدي، إلا أني حفظته غيباً. لأن ما قاله كان غامضاً بالنسبة إلي، كان أشبه بإحدى الحكايات التي كانت جدتي تحكيها لي بين الفينة والأخرى.
* * *
أذكر، يتابع الفتى: بعد أن توفيت جدتي في عام1955، أصبحت زياراتي قليلة لمنزل جدي، لأنه لم تمض سنة على موتها حتى كان خالي جعفر قد انقطع عن زيارة القرية ثلاث سنوات تاركاً وراءه زوجة وطفلين أو ثلاثة، لم أعد أذكر. أما خالتي عائشة فكانت هي وزوجها قد رحلا أيضاً عن القرية بحثاً عن لقمة العيش في المدينة. أما خالي مراد فقد ظل مقيماً في دمشق بعد أن تطوع في الجيش. لم يبق إلا جدي وزوجة ابنه جعفر وحفيداه.
كان الذهاب إلى القرية من دون وجود جدتي، تعني الذكريات الحزينة بالنسبة لي.. لقد تغير الجد تماماً بعد موت الجدة، لم يعد ذاك المرح، الضاحك، صاحب السهرات الطويلة، حيث الغناء والعزف على البزق، والصخب المتصاعد حتى ساعات الفجر مع صحبه.
كنت أراه، في المرات القليلة التي زرته فيها بعد وفاة جدتي، جالساً في عزلة، في أشد الأماكن ظلالاً، كأنه بذلك يختبئ من شيء ما لا يريد لأحد أن يراه، لا يريد أن يختلط بالآخرين، كأنه قد نسي الضحك والصخب والعزف والغناء.. ولم يبق له سوى الغرق في الصمت، مسترجعاً عالماً كان قائماً مع جدتي، وما أن ماتت حتى رحل معها ذاك العالم الذي أحبه بشغف يصل حد التهور والتطرف في بعض الأحيان..
كنت أحاول، وأنا الصبي، أن أخرجه من عالمه هذا بكل الوسائل، ولكني كنت أفشل، أفشل دائماً في تحقيق ما أريد. أما الأمر الذي أبعدني تماماً عن القرية، أقصد بيت جدي.. فكان أني ذات يوم، طلبت من زوجة خالي أن تحضر لي بيضاً مقلياً لجوع أحسست به بعد لعب طويل مع أترابي على أرض البيادر. بحثت زوجة خالي عن الزيت الذي كانت ستقلي به البيض، إلا أنها لم تجد لديها ما يكفي، فخرجت إلى الحوش حيث يفصل سور واطئ ما بين بيت جدي ومنزل والديها.. نادت على شقيقتها الصغرى أن تعطيها قليلاً من الزيت، يكفي لقلي بيضتين، ثم أتمت: «ابن بنت عمتي، تقصدني، جائع يريد أن يأكل».
ردت عليها خالتها، زوجة والدها الثانية، بلهجة قاسية: «أن لا زيت لديهم» ثم قالت لها: «اغلي له البيضتين في الماء، ووفري الزيت لوضعه في الطبخ».
ظلت زوجة خالي واقفة بجوار السور والسم يقطر من وجهها بسبب ما سمعته من خالتها.. إلا أن شقيقتها الصغرى استطاعت أن تسرق كوباً من الزيت، وسربته سراً لزوجة خالي.
في ذلك اليوم، لم أستطع أن آكل البيضتين، لم أستطع أن أبتلع أكثر من لقمة.. وقد لاحظت زوجة خالي ذلك. حاولت أن تهون علي الأمر، فأخبرتني أن خالتها كانت تمزح فيما قالته.
وما أذكره عن زوجة خال أمي، أنها كانت امرأة شرسة، أذاقت خال أمي الأمرين.. لم يحبها أي ولد من أولادها، كانت بخيلة، شحيحة اليد. وما أذكره أيضاً، أن أمي سألتني كثيراً، عن أسباب عودتي السريعة من القرية، أخبرتها بغير السبب الحقيقي لذلك.. ولم أخبرها إلا بعد سنوات طويلة من موت جدي، وبيع البيت في القرية.
هزت أمي رأسها وقالت كلاماً غمض علي معناه.
في سنة1960، جاء خالي جعفر إلى القرية، ورحل مع زوجه وأطفاله عنها نهائياً، إلى(الجزيرة)،حيث كان قد ابتاع في إحدى قراها دكاناً صغيرة، وراح يعتاش منها بعد أن هجر لعبة القمار إلى الأبد.
بقي جدي وحيداً في القرية، إلا أن والدتي ذهبت ذات يوم إلى القرية وعادت برفقته إلى البيت، وظل يشاركنا الحياة اليومية حتى يوم وفاته في نيسان 1963.
ما أذكره عن هذه الفترة من حياة جدي، أنه تغير تماماً، كأن شيخاً آخر قد حل في ثيابه، شيخاً لا يعرف سوى الصمت والشرود والتدخين بشراهة، وإن شاء أن يتحدث فيكون حديثه في معظمه عن حياته الماضية، يوم كانت جدتي على قيد الحياة.
لقد فكرت كثيراً بأسباب هذا الانقلاب الكبير في حياته وطريقة عيشه فلم أجد ما يقنعني من أجوبة. لذا علقت الأمر بموقف واحد لاغير، ألا وهو الوحدة، ماتت زوجه، ثم هجره أولاده واحداً بعد الآخر، ثم اضطراره العيش في كنف ابنته، وليس في كنف أحد ولديه كما تعارف عليه العرف والشريعة.
هذا الأمر، ما أعتقده، هو الذي دفعه إلى الصمت والشرود والانغلاق على نفسه والعيش في ذاته. أذكر أن والدتي، عندما لاحظت عليه أعراض الوهن والمرض خاصة عندما كان يكثر الحديث عن ليرات الذهب التي جلبها معه من حرب(سفر برلك)، كانت جدتي قد سألته ذات يوم: «لمن خبأت ليراتك يا شيخو؟».
ضحك جدي وقال: «للأيام السود يا ريحانة».
سألته جدتي: «وهل هناك أيام أشد سواداً من التي نعيشها يا شيخو؟».
ضحك وأجاب: «نعم يا ريحانة.. إنها الأيام الأخيرة من حياتنا، التي سنموت فيها، لأنني على قناعة أن أولادك لن يشتروا لي أو لك حتى قطعة قماش بيضاء تصلح كفناً لنا».
كانت جدتي تستاء منه وتقول له: «أنت دائماً كنت ظالماً بحق أولادك، أنت دائماً ركضت وراء نزواتك، وتركت الأولاد لحالهم يكبرون من دون أن تعلمهم شيئاً».
كان جدي يجيب على اتهامها: «ما أعرفه يا امرأة، أن الأم هي التي تعلم أولادها وليس الأب. ثم يضيف موضحاً، واحدة من اثنتين، إما لم يحاول أولادك التعلم منك؟ أو فشلت أنت مثلي في تعليم أولادك».
نظرت والدتي إليه طويلاً، ثم سألته بقلق: «أبي، أراك واهناً في هذه الأيام، هل أنت مريض؟».
ضحك جدي وقال بعد شرود قصير: «كلا يا ابنتي لست مريضاً، إنما صوت ريحانة، ينادي علي كلما حاولت النوم. فأفيق. أنظر حولي، أبحث عن صاحب الصوت إلا أني لا أرى أحداً». ثم يتابع: «هذا الوهن الذي تتحدثين عنه سببه قلة النوم يا بنتي، وكأن أمك تعرف أمري هذا، لذا لا تنفك في هذه الأيام الأخيرة أن تنادي باسمي لكي ألحق بها، لكي أنام نومتي الأخيرة».
ضحكت والدتي وقالت له: «ما زال الوقت باكراً للحديث عن الموت، فلا تفوّل على نفسك».
ابتسم جدي بحزن وقال: «المهم يا بنتي.. أرى أن وراء كلامك هذا كلام آخر.. فما هو؟».
أجابته والدتي: «ليس لدي أي كلام آخر، إنما سؤال أريد أن أطرحه عليك».
قال لها: «تفضلي، اسألي ما تشائين».
قالت له: «أما زلت تعتقد بأن ليراتك الذهبية التي جلبتها معك من(سفر برلك) مخبأة في مكان ما، كما كنت تتحدث عنها لأمي؟».
رأيت جدي في حالة كمن أسقط في يده. فتلكأ لحظة بعد أن تلعثم قليلاً، ثم ابتسم بخبث وقال: «ألم تخبريني منذ قليل، أن لا أفوّل على نفسي، وأن الوقت ما زال باكراً للحديث عن الموت؟».
أجابته والدتي: «نعم.. قلت. ولكن من الأفضل، إن كان هناك كما أشرت سابقاً لأمي، أن نخرج الليرات الذهبية من مخبئها، قبل الموت من جهة، ومن جهة أخرى، قبل أن يباع البيت. لقد جاءك أكثر من شار له.. أليس كذلك يا أبي؟».
هز جدي رأسه وقال: «كلامك صحيح، وفيه حكمة، لأننا لا نستطيع حفر جدران البيت بعد أن نسلمه للذين يريدون شراءه». ثم قال لأمي: «متى تريدين أن نذهب إلى الضيعة فأنا على استعداد لذلك».
هزت أمي رأسها وقالت: «لا بأس سنختار يوماً مشمساً، دافئاً».
كانت أمي على قناعة، أنه ليس لدى جدي أي مال سوى بيته. كانت تقول: أنا لم أصدق في يوم من الأيام ما زعمه من امتلاكه لليرات ذهبية عثمنلية. ولكنها في الوقت نفسه كانت تقول: لن نخسر شيئاً إن ذهبنا إلى القرية وبحثنا عما يزعم من امتلاكه لمال مخبأ في أحد جدران البيت.
أذكر، عندما عادت أمي من القرية، تجمّع حولها بعض الجيران، وكان جلهم من أبناء القرية الذين يعيشون في حلب، وسألوها عن نتائج رحلتها إلى القرية.. ضحكت أمي وقالت: «كما توقعت. ليس هناك أي مال. لقد حفرنا معظم جدران البيت.. ولكنه في النهاية ادعى أنه نسي في أي جدار من جدران البيت دس ليرات الذهب. وعندما قلت له: «علينا أن نعود إلى حلب يا أبي.. سنأتي في يوم آخر، نعاود فيه الحفر. ولكن ليس قبل أن تتذكر مكان ليراتك الذهبية. فوافق مباشرة، وطلب أن نعود قبل أن يكتشف الناس الأسباب الحقيقية لمجيئنا إلى القرية».
تساءلت النسوة عن أسباب هذا الادعاء من قبل جدي، ضحكت والدتي وقالت: «يعتقد لو أسمعنا بأنه يملك مالاً ما سنرعاه أكثر مما رعيناه.. أي يريد لنفسه وضعاً مميزاً، وضعاً كوضع مالك المال قبل الوفاة». ثم أضافت بلهجة بدت لي حزينة، أسيانة: «وكأننا لا نرعاه!».
ولم يمض على هذه الواقعة سوى أقل من شهر، حتى توفي جدي، وعاد إلى القرية هذه المرة عودته النهائية. ناسياً ليراته الذهبية، على ما يبدو، في إحدى جدران بيته الذي بيع لابن حميه الذي كان في الوقت نفسه خال والدتي.


-2-
• إن المرء لا يستطيع أبداً أن يعرف نفسه، ولكنه فقط أن يروي قصته.
سيمون دي بوفوار
•وأنا أرقد في المساء على ضفة النهر، في قلب الأغصان المعتم، وأتذكر..
بريخت
•لا نتأمل الذكريات، بل نرويها.
ناظم حكمت

ما بين عامي 1950/1951 حيث اختلطت فيهما الوقائع والأحداث إلى حد لا يستطيع اليوم أن يميز حادثة ما عن الأخرى، أو أن يحدد زمن واقعة بعينها، رغم أنه يستطيع أن يسترجع أدق تفاصيلها..
ما يذكره الفتى.. الآن، هو أن أسرته كانت تسكن في(كامب) كان فيما مضى سكناً للجنود الفرنسيين، يقع في جنوب (ثكنة طارق بن زياد) حيث كان والده أحد المتطوعين في الجيش الوطني.
كان (الكامب) عبارة عن مبنى مستطيل مؤلف من عدة أقسام، مبنياً من الحجر الأبيض السوري، المنحوت بأشكال هندسية جميلة، أما السقف فكان مغطى بصفائح من التوتياء القصديرية اللون، له جدران عالية تقارب في علوها الأمتار الأربعة. ويود الفتى أن يشير إلى أنه قد يكون يبالغ في أمر ارتفاع الجدران، وسبب ذلك في رأيه يرجع إلى تساؤله الدائم عن أسباب ارتفاع جدران الكامب هذا الارتفاع الكبير؟
كان مجمع (الكامبات) ينقسم إلى قسمين، الأول خاص بالضباط وعائلاتهم، وهو يبتعد عن القسم الثاني، الخاص بالجنود وضباط الصف، عدة مئات من الأمتار.
كان القسم الخاص بالضباط، بيوتاً مبنية على شكل فيلات صغيرة مزدانة بأعمدة كهربائية وشوارع وأرصفة مزروعة بالأشجار، كما كان للقسم ثلاثة مراكز حراسة، يقوم عليها بعض الجنود ليلاً ونهاراً.
أما القسم الثاني من التجمع فكانت بيوته مبنية على شكل مهاجع مقسمة إلى غرف، تسكن كل غرفة منها عائلة واحدة مؤلفة من عدة أفراد. كانت العائلات التي يعمل أربابها في ثكنة(طارق بن زياد) تتجمع في خمس(كامبات) على شكل دائرة، وفي وسطها ساحة ترابية، كانت ملعباً لطفولة الفتى.. الأولى، وعلى شمال المجمع هذا كان المرحاض العام، وهو مؤلف من قسمين، أحدهما للنساء والآخر للرجال.
هذه أولى ذكريات الفتى.. عن هذا العالم الغريب الذي وجد نفسه فيه، ولم يعرف خارج هذا التجمع شيئاً لعدة سنوات، هذا إذا استثنينا عالم القرية.
ففي سنواته تلك، وهو في الرابعة أو الخامسة، بدأ يتعرف إلى الدنيا.. وكان أول عالم تعرف إليه، هو القسم الخاص بسكن الضباط.
يذكر الفتى.. يوم رافق والدته مع جارة لهما إلى بيت أحد الضباط، ليجلبوا منه دواء. كان أحد أبناء التجمع الثاني بحاجة ماسة إليه، ولما كان مستوصف(الكامبات) مغلقاً، والوقت تخطى منتصف الليل، دفعهم أحد ممرضي المستوصف إلى القسم الخاص بالضباط لجلب الدواء منه.
يذكر الفتى.. مشاعره في تلك اللحظة كانت تشبه مشاعر من يتوجه إلى عالم مجهول لا يعرف عنه شيئاً. بدا له العالم الذي توجه إليه مع والدته والجارة، غامضاً! قال الفتى.. لنفسه: «لن يكون مثل العالم الذي نعيش فيه«لأن المظهر الخارجي للفيلا التي قصدها كان يختلف تماماً عن المظهر الخارجي (للكامب) الذي يعيش فيه. ثم أكد قائلاً: « يكفي أن ترى سقف (الكامب) التوتيائي، وأن ترى بالوقت نفسه، السقف القرميدي الأحمر للفيلا حتى تشعر بالاختلاف». قال أيضاَ: «حتماً، هم، أقصد الناس الذين يقطنون الفيلا، يختلفون عن الناس الذين يقطنون(الكامبات)». ولكنه تساءل في ذلك اليوم البعيد، سؤالاً غبياً: «يا ترى، كيف هو شكلهم؟ هل يشبهوننا في التقاطيع؟ هل لهم الوجوه نفسها التي لنا؟ أم لوجوههم سمات أخرى لا توجد على وجوهنا؟ هل لهم ثلاثة أنوف؟ أم أذنان كبيرتان؟ أم لهم أكثر من فم، أو ربما يكونون برأسين!».
وراح الفتى.. يتخيل أشياء كثيرة في تلك الرحلة الليلية التي قام بها مع أمه والجارة لجلب الدواء من فيلا بعينها.. وكان اسم الدواء مكتوباً على ورقة ملفوفة معلقة في زنار الجارة. هذا وقد غضب الطبيب كثيراً للمدة التي استغرقتها الجارة لفك زنارها وإخراج الورقة التي دوّن الممرض اسم الدواء عليها. سمع منه كلمة غاضبة، وهو ينتر الورقة بغضب من يد الجارة، كانت الكلمة(دواب).
لم يعرف الفتى.. معناها إلا بعد مدة طويلة من الزمن، لذا ظلت محفورة في ذهنه لا يستطيع نسيانها، كأنها قيلت له أو لأمه. لقد تذكر الفتى.. كثيراً من الأشياء، إلا أنه نسي معظمها اليوم، ولكنه أيضاً لم ينس أشياء بعينها.
كانت حديقة(السبيل) هي التي تفصل بين قسم الفيلات وقسم(الكامبات)، هذه الحديقة التي لعبت دوراً كبيراً في وعيه. ولكن الحديث عنها ما زال باكراً، فهو يريد أن يتحدث الآن عن تلك الحكايات والمشاهد والوقائع التي عاشها، أو كان شاهداً عليها. هذا العالم الصغير الذي لعب دوراً رئيساً في عملية بناء وعيه بعد ذلك بسنوات طويلة، هذا العالم الذي طرح عليه أسئلة لم يجد لها جواباً في حينها، ولكنه حفز الفتى.. على التبصر فيه، وإمعان العين الفاحصة بين ثناياه.
يذكر الفتى.. أن(الكامب) الواحد كان مقسماً إلى عدة غرف، تسكن في كل غرفة منها عائلة واحدة. فهو ما يزال يذكر حتى اليوم، بعض الجيران، يتذكر أسماءهم، تقاطيع وجوههم، لهجاتهم.. كانوا من شتى المدن السورية وقراها. كان الفتى.. يتمدد على الحصير، واضعاً راحتيه تحت رأسه، محدقاً في السقف وهو يتساءل: «كم هي عالية هذه الحيطان؟ كم هو بعيد هذا السقف؟ ويسأل نفسه من جديد: هل كان المخطط الأولي(للكامب) وبقية(الكامبات) مخططاً لبناء سجن؟ أو مصح لمرضى العقل.. حتى جعلوا جدرانه عالية كل هذا العلو؟» لم يصل في يوم من الأيام، إلى جواب على تساؤلاته. لذلك اعتقد الفتى.. بأن المرء، عندما لا يجد أجوبة عما يدور في نفسه من التساؤلات، في أمور الدنيا ومناحي الحياة، فلا بد له أن يصاب بالحزن والإحباط، ويحس بالخيبة المريرة، ليرسم له وضعه هذا، صورة عن انغلاق أسرار الحياة أمام عينيه، مشيرة إلى أنه كائن صغير، تافه، لا يقدر على حل أبسط أمور دنيانا! لذا عليه في هذه الحالة احد الأمرين: أن يدير ظهره لكل الأسئلة، أو أن يستمر بإصرار وعناد في البحث عن إيجاد الأجوبة عن تلك الأسئلة التي لا يكف عن طرحها على نفسه.
أمام هذا الطرح، قال الفتى.. لنفسه: « دعك اليوم من معرفة أسباب بناء حيطان(الكامب) بهذا العلو، وعلى هذه الشاكلة، إنما عليك أن تبحث عن أسباب قناعة والدك بالسكن في هذا(الكامب)؟».
يذكر أن السبب الأول كان الفقر.. فوالده، مجرد نفر متطوع في الجيش، وهو رب أسرة مؤلفة من زوجة وثلاثة ذكور، مات الثاني في الثالثة من العمر، لهذا كان الفارق بين الفتى.. وأخيه البكر ست سنوات. وهنا يود الفتى.. أن يشير إلى مصادفة يمكن أن يعدها غريبة، وهي: أن الفتى.. ولد في الأسبوع نفسه الذي مات فيه شقيقه الوليد الثاني لوالديه عن ثلاث سنوات.
أما (الكامب) وما يذكره من أحوال العيش فيه فكان أشبه بعالم يلفه الضباب، لا ملامح له ولا تفاصيل.. يذكر، في الركن الغربي من الغرفة كانت بلاطة رمادية كبيرة تعلو أرضية(الكامب) الإسمنتية مسافة متر أو أكثر بقليل. هذه البلاطة كانت أشبه بالمطبخ. حيث كانت أمه تجهز عليها طبخ الطعام، ووضع الملاعق والصحون والطناجر وموقد الكاز من ماركة(بريموس) المصنوع من النحاس الأصفر، هذا إلى جانب كثير من الأوعية الزجاجية المملوءة بالمخللات، خاصة الفليفلة الخضراء منها، وبعض الأكياس المملوءة بالعدس، وما تحتاجه الأسرة الفقيرة في الشتاء من الخضار المجففة والحبوب والبقوليات، وبعض تنكات الزيت.
أما في الزاوية الشرقية فكان الفراش مرصوفاً على شكل تل صغير فوق عنبر، قد يكون صغيراً أو كبيراً، حسب عدد أفراد الأسرة. وكان يستعمل عادة لتخزين(البرغل) فيه.
كان(البرغل) هو(المونة) الرئيسية، والمادة الغذائية الأساسية لجميع الأسر الفقيرة في تلك السنوات البعيدة. أما الرز فلم يكن معروفاً لديهم إلا في حالة واحدة، وهي حالة(طبخ المحشي)، أو بعض الطعام الذي لا يمكن أن يتم طبخه إلا في استعمال الرز فقط. وكانت هذه الطبخات، على ما يذكر، قليلة جداً في حياتهم. مثال: المحشي. فقد كانت والدته تطبخه مرة أو مرتين على مدار السنة.
رغم هذا الفقر، كان أمثال أسرته، ترفع أنوفها عالياً عن الأسر التي كانت لا تطبخ مثل هذه الطبخة إلا مرة كل سنتين أو ثلاث. كانوا ينظرون إليهم بإشفاق وهم يقولون: «الله يساعدهم على هذه العيشة» ويفرحون متنهدين، وهم يحمدون الله على أنهم ليسوا أفقر الناس في(الكامب).
وما يذكره الفتى.. عن كمية(المونة) من البرغل، كانت تقارب مابين ثلاثمائة كيلوغرام أو أربعمائة في الموسم الواحد. ولا يدري الآن إن كانت ذاكرته دقيقة في تقديرها أم لا، إن وضع(مونة) بهذه الكمية في الموسم الواحد، كان على أسرته أن تدفع ما يقارب المئتين من الليرات ثمناً له. كانت والدته تدفع هذا المبلغ الضخم، في تلك الأيام، على شكل أقساط شهرية، يتراوح الواحد ما بين خمسة عشر وخمسة وعشرين ليرة سورية لا غير.
كانت أسرة الفتى.. في كثير من المواسم، لا تستطيع تسديد المبلغ بالكامل عبر مدار شهور السنة، وكثيراً ما كانت أسرته تشتري(المونة) للسنة الجديدة قبل أن تسدد ثمن(مونة) السنة الفائتة التي استهلكتها أسرته. أما الجبنة فلم تكن الأسرة تعرف لها وجوداً في البيت. كان، على ما يذكر، البرغل والزيت هما الطعام الرئيسي الذي يتناولونه على مدار السنة.
أما الزاوية الجنوبية من الغرفة، فكانت موقعاً(لمونة) الأسرة في الشتاء، من حطب الزيتون، بعد أن احتلت مدافئ الحطب مكان المناقل والكوانين التي كانت سائدة قبل ذلك لسنوات طويلة.. يذكر أن أسرته كانت قد تأخرت عما حولها من الجيران في استبدال التدفئة على المنقل والكوانين بمدفأة الحطب.
كان والده، في مطلع كل شتاء، بعد أن يتشاور مع والدته، يذهب إلى السوق، كانوا يسمونه (البلد) ليركب عائداً مع سائق عربة تجرها دابة، حصان عجوز أو بغل أو حمار وهي تحمل (المونة) الشتوية من الحطب. كان الفتى يرى العربة، من أول الطريق الإسفلتي الوحيد الذي يربط (الكامب) بالشارع الرئيسي الذي يمر من أمام حديقة السبيل.. هذه الحديقة التي كانت ملعباً واسعاً لسنوات طفولته وصباه.
كان ينتظر العربة، وعلى متنها والده الجالس إلى جانب السائق، وهما يتحدثان. طبعاً لم يعرف في يوم من الأيام عما يتكلمان.. ولكنه، هذا ما يعتقده اليوم، أن مثل هذين الرجلين الفقيرين لا يمكنهما أن يتحدثا سوى عن الحياة القاسية والصعبة التي يعيشها الفقراء من أمثالهما.
وما أن كانت العربة تقترب من(الكامب) وهي تقرقع بدواليبها، وقوائم الدابة الأربعة المحدية، حتى كان يهرع إلى البيت صارخاً على والدته، يخبرها، على أن الحطب قد جاء، ثم يعود ليهرع إلى الطريق، حيث العربة تنحدر عنه إلى الدرب الترابي الذي يفضي إلى أمام الغرفة التي تشغلها أسرته من غرف(الكامب) الكثيرة.. وأمام الباب، يفرغ سائق العربة حمولته من الحطب على الأرض ثم يتناول من والده مبلغاً من المال لا يعرف، إن كان ذلك ثمناً للحطب أم أجرة نقله! وقبل أن تغيب العربة عن أنظار الفتى.. حتى يكون وكثير من الأولاد يتسابقون في نقل الحطب من الفسحة الواقعة أمام الغرفة إلى داخلها، لترصفه والدته بشكل هندسي بحيث يشغل أقل مساحة ممكنة من الزاوية الجنوبية من الغرفة.
كان يشعر، عندما ينتهي والده من وضع (المونة) من الحطب والبرغل والزيت، بالراحة ويضحك ويغني في بعض الأحيان، ويتحدث بانشراح كأنه قد أ ّمن لأسرته سنة أخرى من الحياة..
هنا، وقبل أن ينتقل الفتى.. للحديث عن الحياة المعاشية للناس يريد أن يتحدث عن قضية شغلت باله كثيراً، منذ أن كان في الخامسة، إلى اليوم..
لم تكن حياة أسرته وطريقة عيشها تختلف عن معظم قاطني(الكامب) إنما الاختلاف كان في اختلاف الأماكن والمدن والقرى التي جاء منها الناس وليس الفقر ودرجته. مثال: كانت أسرته كأسرة كردية لا تعرف مثلاً(الشنكليش) الذي كانت تضعه الأسر من الساحل أو من مدينة حمص وريفها.
يذكر الفتى.. أنه لم يستسغ طعمه، فكان يرفض تناوله رفضاً باتاً، بينما كان يلتهم ما تطبخه والدته من طعام اسمه(الخبيزة). هذه(الأكلة) لم تكن العائلات المنحدرة من الساحل أو المنطقة الوسطى تعرفها.. ولكن الفتى.. لاحظ في وقت متأخر، كيف أن الأسر راحت تتناقل عادات الطعام هذه فيما بينها، فأصبح معروفاً لدى أسرة كردية طعام أسرة من الساحل، والعكس صحيح.
وهكذا تداخلت عادات وتشابكت في مجتمع صغير، مرمي على أطراف مدينة حلب. كان جنوب ثكنة(طارق بن زياد) التي بناها الفرنسيون في الثلاثينات من القرن الماضي على حد معلومات الفتى.. التي استقاها، وهو طفل من بعض الخبراء العسكريين في الثكنة. يود الفتى.. أن يشير إلى ضرورة حديثه عن الثكنة و(الكامبات) والحياة اليومية للأسر القاطنة في ذلك التجمع الذي جمعته الظروف، ظروف البحث عن لقمة العيش عن طريق التطوع في الجيش الوطني في تلك السنوات البعيدة.. أي، حتى قبل سنوات الاستقلال، فالفتى.. على حد علمه، أن والده قد جاء إلى المدينة متطوعاً بعد زواجه بسنة واحدة.
مازال يذكر الطريق الإسفلتي الضيق الذي كان يصل ما بين الثكنة والطريق العام، ذاك الطريق الذي لم يبق اليوم إلا جزء يسير منه. كان يمتد من نهاية(الكامبات) على اليمين، حتى باب الثكنة. هذا الباب لم يكن موجوداً في تلك الأيام التي يتحدث عنها الآن، إنما هو باب حديث تم تركيبه، بعد توسيع المساحة التي تحيط بالثكنة.. فالباب القديم كان يقع في أعلى التل، قريباً من البيوت المسماة بالمساكن الشعبية وكان الفتى قد عبره برفقة والده مرات عديدة وهما يتخطيان ذاك الحارس الدائم الوقوف أمام الباب.
عندما كان ينهمك والده في عمله، كطباخ، كان هو يسرح ويمرح كما يقولون بين جنبات الثكنة.. ولكنه، أي والده، كان يحذره من الابتعاد عنه. ولكن الفتى.. رغم تحذيرات والده هذه، كان يذهب بعيداً، يلف و يدور بين أقسام الثكنة، يصعد من ا لطابق الأول إلى الثاني ثم ينزل إلى الطابق الأرضي. لقد أصبحت صور الغرف والممرات اليوم ضبابية تماماً في ذهن الفتى.. لا يستطيع أن يرسم ملامحها بشكل دقيق، ولكنه يستطيع أن يتحدث عنها من دون مبالغة في الوصف.
كان المبنى ككل المباني- يقصد المباني العسكرية- خاصة القديمة منها، عبارة عن بناء مستطيل، مؤلف من ممر يطل من جهة، عادة تكون غربية، عبر نوافذ كثيرة وكبيرة على باحة الثكنة، ومن الجهة الشرقية، على أبواب غرف واسعة، عالية الجدران والسقوف، بعضها تستعمل كمكاتب تجد فيها طاولات عدة، يقبع وراء كل واحدة منها عسكري تتراوح رتبهم ما بين جندي أول ووكيل أول أما الغرف التي كان فيها بعض الأسرّة فكانت للجنود المناوبين، طبعاً، لا يستطيع الفتى.. اليوم أن يقدر عدد العسكريين في الثكنة ولكنه يذكر، لم يكن كثيراً. كان عددهم قليلاً بالنسبة إلى ضخامة الثكنة واتساعها.
يذكر أن إحدى أهم رغباته التي كانت تدفعه للذهاب إلى الثكنة، هي الأكل! كان عندما يرافق والده إليها، يشبع من أكل اللحم والفواكه، كون والده أحد الطباخين الذين يعملون في مطبخ الثكنة. أما الرغبة الثانية فكانت أحد العرفاء الذين تعرف إليهم في الثكنة، بعد أن أصبحا صديقين حميمين. كان الفتى.. قد لقيه في الثكنة جالساً ذات يوم إلى شجرة سرو باسقة، طويلة كرمح، بين مجموعة من الأشجار القزمة التي لا يذكر اليوم اسماً لها. ولكن ما يذكره عنها، كانت ذات جذوع ثخينة وقصيرة، أما أغصانها فمعوجة ذات عقد وكتل، كأنها ظهور حدباء بأوراق صغيرة كريهة الرائحة إذا ما فركتها بين أصابعك.
يذكر عندما اقترب من العريف، كان جالساً على الأرض، مسنداً ظهره إلى جذع شجرة السرو، يحدق أمامه في الفضاء بعينين دامعتين! وهنا يود الفتى.. أن يشير، إلى أنه نسي أن يذكر، أن الثكنة كمعظم الثكنات المبنية في حلب، مبنية على تلة عالية، قبل امتداد العمران إليها كما هي اليوم، ظاهرة للعيان من بعيد، كأنها قلعة عتيدة في أعلى ا لتلة، بلونها الأصفر ونوافذها الزرقاء العديدة.
وصل الفتى.. إلى العريف من دون أن يصدر صوتاً في أثناء سيره. وقف قريباً منه، طبعاً الأمر الذي دفعه للوقوف هو الدمع الذي رآه معلقاً بأهداب العريف! هذا العريف، وكان اسمه درويش سيتحدث عنه الفتى.. بالتفصيل حين يحين وقت الحديث عنه.
كانت (الكامبات) تقع ما بين حديقة السبيل، وبين الطريق الإسفلتي الضيق المتجه إلى الشمال، إلى منطقة عفرين، إلى قرية(قيبار)، هذا الطريق الذي سافر عليه الفتى.. كثيراً في سيارات كبيرة وأخرى صغيرة، في أيام الصيف بعد أن تعطّل المدارس، ذاهباً إلى بيت جده، وفي أحيان أخرى، نادرة، كان يذهب إليها في أيام الشتاء الباردة.
كان بمحاذاة الطريق، مستودع لشركة الكهرباء، وهو ما زال إلى اليوم يستعمل كمرآب يقع قبيل ثكنة(طارق بن زياد) ببضعة مئات من الأمتار. في تلك السنوات البعيدة، كانت الأرض التي أقيم عليها المستودع واسعة وشاسعة، انتشرت فوقها الكوابل والأسلاك والأعمدة والصحون الزجاجية والحديدية والبرونزية التي تعلق بها الأسلاك عبر الأعمدة، وتوزع على البيوت، بحيث كان المستودع بحاجة إلى حراس كثر.. ما زال الفتى.. يذكر بصورة شاحبة، طريقاً ترابياً ضيقاً يشق المستودع إلى نصفين، ليفضي الطريق إلى صنبور ماء كان سكان(الكامبات) يشربون منه. وما يذكره، أنه كثيراً ما رافق والدته ليساعدها في جلب الماء عندما كان صغيراً، لا يقدر وحده على حمل(التنكة) المملوءة بالماء. أما عندما بلغ سناً تمكنه من حمل سطل صغير أو نصف(تنكة) كان يذهب وحده لجلب الماء. هذا الأمر كان يبغضه ويرميه في شجار مع أمه، خاصة في فصل الشتاء، لأن الماء كان ينسكب على قدميه ويديه كلما حاول نقل السطل أو(التنكة) من يد إلى أخرى. فما أن يصل إلى البيت حتى يكون قد بكى مرات عدة من شدة البرد.
أما في فصل الصيف فكان الفتى.. يسعد لأمر والدته، أن يذهب لجلب الماء لها. كان يلعب هو وبقية الصبيان والبنات طويلاً بالماء قبل أن ينقل منه قليلاً إلى البيت.
واليوم، يقول الفتى: «لو رجعنا قليلاً إلى الوراء وارتقينا التلة العالية الواقعة في حي(براكات السريان) الذي كان على يمين(الكامبات) لوجدنا التالي: برية تمتد باتجاهات أربعة، وفي غرب(الكامبات) تقع حديقة(السبيل) وهي حديقة كبيرة بالنسبة إلى الحدائق المتعارف عليها.. وأهم ما يميزها النوافير المائية، خاصة نافورة(رأس الأسد الحجري) الذي يفتح شدقيه على الماء المنسكب منهما إلى حوض واسع يطفح منه، ثم ينزلق منسكباً بسلاسة إلى الأسفل، إلى حوض حجري أصفر اللون، ومنه إلى مصرف فني جميل النقش. أما قاعة الموسيقا الواقعة في وسط الحديقة فهي قبة حجرية قائمة على مجموعة من الأعمدة».
يذكر: «كانت فرقة موسيقية من العساكر تأتي يوم الثلاثاء من كل أسبوع، إلى الحديقة وتبدأ العزف على مجموعة من الآلات والصنوج النحاسية.. مرشات عسكرية وأناشيد وطنية مدة ساعة تقريباً. كان يلتم لذلك كل المتنزهين في الحديقة، يتراصون حول القاعة المفتوحة الجنبات، يستمعون إلى الموسيقا الصاخبة التي كانت تضج بها الآلات وصدى الصنوج الذي تحدثه القاعة بسقفها العالي».
كان الفتى.. يهرع إلى الحديقة صباح كل ثلاثاء ليستمع إلى الموسيقا العسكرية التي كانت تعزفها الفرقة المؤلفة من ستة أو سبعة عسكريين، يلبسون البنطالات الشورت الخاكية اللون في الصيف.
وهنا يود الفتى.. أن يقول: « أعتقد بأن الفرقة كانت تأتي في فصل الصيف فقط لعزف موسيقاها» لأنه لا يتذكر اليوم، مما بقي في ذاكرته من صورهم، أنه رآهم بغير لباس الشورت، لا يذكر أبداً أنه رآهم ببنطالات طويلة، كما كان يلبس العساكر في فصل الشتاء.
كان المرء، هذا مايذكره، ينحدر عبر طريق إسفلتي يشق البرية ما بين حي(براكات السريان) وبين(الكامبات). هذه البرية التي كانت ملاعبه في الطفولة الأولى لا تشحب صورها في ذهنه أبداً.
ليعد الفتى.. إلى الحديث ثانية عن المستودع: « كنا أطفالاً أشقياء، رغم صغر سننا. كنا نقوم بسرقة الأسلاك النحاسية التي كانت تستعمل في مد الكهرباء إلى الأحياء، كنا ندقها بالحجر، لنجعل منها كتلاً صغيرة، ثم نضعها في أكياس ونذهب لبيعها في حي (براكات السريان) لشيخ مقدود، نحيف بشكل لا تصدقه العين، كان الشيخ خبيثاً بشكل لا يصدق، يغشنا بالوزن والسعر، حتى بالبضاعة التي كنا نشتريها من دكانه الحقيرة. كنا بعد أن نقبض منه بضعة(فرنكات) نشتري منه الأفلام والدحل والصياييح، أي البرام، أو شرائط المطاط التي نستعملها في اصطياد العصافير. هذا الشيخ الخبيث كان يحمل اسماً غريباً لم أنسه أبداً.. تصور أن يكون للمرء اسم يدعى «دادا».
يذكر الفتى.. قبل انتسابه إلى المدرسة، كان يحب العصافير لصلته اليومية بها، وذلك بسبب البرية التي تحيط(بالكامبات) وحديقة(السبيل). كان الصيد إحدى أهم شقاوة أترابه، ولكن الفتى.. كان خائباً في هذا المجال، رغم سلاحه الجيد! وهو «نقافة»، بمطاط أحمر، كان من المعروف بين الفتيان، أن المطاط الأحمر الذي يقص على شكل شرائط يبلغ عرض الواحد منها سنتمتراً واحداً، هو الأجود والأفضل بين الشرائط الأخرى.. الأسود مثلاً. كان الأخير قاسياً لا يمكن شده والتحكم به، أثناء الصيد، لأنه سرعان ما يتعب الصائد من قسوة الشد وصعوبته وعدم مرونته.
«قد يسألني أحد، يقول القتى: إذاً لماذا كنا نبتاعه؟ الجواب بسيط: كان ثمن المطاط الأسود عشرة قروش، أما الأحمر فكان ثمنه عشرين قرشاً. يتابع الفتى: لا شك سيضحك كل من سيسمع اليوم بهذه المبالغ المالية التافهة، ولكن في ذلك الزمن الذي أتحدث عنه كانت العشرون قرشاً مبلغاً كبيراً، كبيراً جداً.. كان لو أضفنا إليها خمسة قروش أخرى فيشكل مصروفاً لمدة أسبوع كامل لصبي مثلي.. لهذا السبب كنا، نحن الأطفال، نضطر إلى شراء المطاط الأسود لنوفر عشرة قروش من ثمن المطاط الأحمر».
كانت طامة الفتى.. ليست في خيبته كصياد، إنما أيضاً في نوع المطاط الذي كان يشتريه. لذا كان يفشل دائماً في صيده.. يذكر أنه في ذات يوم ضربته أمه ضرباً مبرحاً وهي تقول له: « لم أر فيك سوى الخيبة!» وكان سبب ذلك، أنه جرى بينه وبين والدته خلاف، بعد أن طلبت منه أن يجلب لها ماء (تنكة) بعد نفاذه من البيت، في اللحظة التي كان وبقية الأولاد يستعدون للذهاب إلى حديقة(السبيل) من أجل الصيد، فأخبرها إنه والأولاد ذاهبون لصيد العصافير.كررت أمه قائلة: « عليك جلب الماء قبل الذهاب إلى الصيد».
بكى رافضاً ذلك. ولكن أمه أصرت، ثم ضربته عندما وجدت منه العناد في عدم تنفيذ طلبها. ما لبثت أن قالت له: « تمنيت يا بن الكلب، لو جلبت معك ذات يوم من الأيام التي تذهب فيها إلى الصيد، عصفوراً واحداً اصطدته مثل بقية الأولاد.. لشفيت غليلي أمام الجارات، وتباهيت بك أمامهن مثلما يتباهين بأولادهن أمامي».
«المهم. يقول الفتى: بعد أن جلبت الماء ركضت ألحق بالصبية من أجل الصيد.. كعادتي مرت علي ساعات واحدة بعد الأخرى وأنا لم أصطد شيئاً، أما عندما قاربت ساعة العودة فلم أحمل إلى أمي عصفوراً واحداً كما كانت تتمنى ذلك. ولكي أحقق رغبتها هذه، لتفاخر بي أمام الجارات، على أني لست خائباً كما تتصورني، كان لا بد لي من التصرف، لا بد لي من حمل عصفور ما لأمي.. ولكن من أين لي العصافير؟
وأنا، يتابع الفتى: على هذه الحالة من اليأس، ونحن نصعد الطريق إلى البيت.. كنا ستة صبيان باستثنائي يحملون في أياديهم ما اصطادوه من العصافير المدماة إلا أنا.. وفجأة طلبت منهم الوقوف. قلت لهم: «ما رأيكم لو باعني كل واحد منكم عصفوراً من عصافيره؟ أريد أن أقدم أنا أيضاً لأمي بعض العصافير».
نظر الأولاد إلى بعضهم وهم مندهشون لما قلته!
كيف يمكن أن..
قال أحدهم، وكان اسمه أمير، ولاسمه الغريب هذا لم تغب صورته عن ذاكرتي أبداً، برأسه الصلعاء وأذنيه الرقيقتين الشفافتين، وشفته المشرومة كشفة الأرنب. قال: « لا بأس. ثم أردف بخبث: ولكن ما الثمن الذي ستدفعه لنا للعصفور الواحد؟» بعد طول نقاش تقرر أن أدفع(فرنك) واحد للعصفور، أذكر أني اشتريت خمسة عصافير، أي دفعت مصروفي الأسبوعي كله دفعة واحدة.
وهكذا دخلنا، نحن الصبية إلى بيوتنا، وكل واحد منا يحمل بيده عصافيراصطادها. وهنا، يقول الفتى.. لا أريد الحديث عن الأطفال الذين قدموا لأمهاتهم العصافير في ذلك اليوم، إنما أريد الحديث عن نفسي، وعن اليوم الذي افتضح فيه أمري، والخدعة التي حاولت أن أمارسها ضد أمي.
تناولت والدتي العصافير الخمسة من يدي وهي فرحة، وغير مصدقة عينيها ما تريان! أيعقل أن يأتي ولدها بهذا العدد الكبير، نسبياً، من العصافير، وهو الذي خاب حتى يوم أمس في جلب عصفور واحد؟ ناولتها العصافير دون أن أنظر إلى عينيها، إلا أني لمست نشاطاً في حركة أمي وانشراحاً في صوتها، ولكنها في اليوم التالي سألتني عن الطريقة التي اصطدت بها العصافير؟
لا أدري لماذا لمست في سؤالها أمراً ما؟ ولا أدري أيضاً، ماذا حل بي بعد أن أنهت أمي سؤالها، فلم يتح الوقت الذي منحتني إياه ما بين سؤالها وبين ضرورة الجواب عليها، التفكير مطولاً، إلا أني قلت في نفسي، سأخبرها عن حكاية من حكايات جدتي التي حدثتني عنها ذات يوم.. ولكني سألت نفسي: ماذا لو أن جدتي كانت قد سردت الحكاية نفسها على أمي عندما كانت طفلة؟ أليست أمها؟ والحكاية التي يمكن للجدة أن تحكيها لحفيدها، يمكن قبل ذلك أن تكون قد حكتها لابنتها! لذا قلت لنفسي عليك أن تحرّف كثيراً من جوانب الحكاية، عليك أن تصف لها حديقة(السبيل)، لكي تعرف بأنك لا تكذب.
وها أنت تتحدث لها عن رحلة الصيد-أقصد- صيدي في الحديقة، وها أنا، ابنها، لم يعد خائباً، يعود وهو يحمل عصافيراً في نطاقه، وغداً سيحمل لها أرانب وطيوراً برية.. وقد، هكذا قلت، أحمل لها بعض الغزلان من صيدي، ولكن-أقول لنفسي- كيف يمكنك أن تقنع والدتك بأنك اصطدت الغزلان في حديقة(السبيل) والغزلان لا توجد سوى في الغابات أو الصحارى، وفي الواحات كما هو معروف. لذا قلت، عندما تحدثها عن رحلة الصيد: حاول أن تقنعها اليوم بصيدك المقتصر على العصافير! قلت لها، وأنا أتذكر سؤالها عن الطريقة التي اصطدت بها العصافير: هل تعتقدين بأن أمر الصيد صعب؟ طبعاً، أضفت، ليس سهلاً أيضاً.. ولكن المرء، أقصد الصائد، تلزمه الشجاعة.. التي لولاها لما استطاع أن يتنكب بندقيته، ويجري أمامه كلاب الصيد، يخوض في مياه آسنة ورمال متحركة، أو يعبر جسوراً قديمة تخلى عنها البشر منذ عشرات السنين، بعد أن سكنتها الأرواح لتدفع المارين عليها إلى القناعة بأنهم ضلوا الطريق التي يبتغونها، فظلوا تائهين سنوات وسنوات، من دون أن يتمكن صائد واحد منهم العودة إلى دياره!
ويقال، أخبرت أمي، إن واحداً من هؤلاء الصيادين فقط عاد إلى بيته، كما قلت بعد سنوات! إلا أن أحداً من أهل بيته لم يعرفه، تنكروا له وقالوا: إن الذي جاء قد مات منذ أكثر من أربعين سنة، أما أنت فلا نعرف عنك شيئاً، ولا نعرف من تكون، وماذا تريد؟
عاد الصياد التائه مرة ثانية إلى المكان الذي جاء منه، يعيش في الأرض المجهولة التي دفعته إليها أول الأمر تلك الأرواح! طبعاً عندما يسأل سائل: لماذا لم يتعرف أحد من أهله بعد أن عرفوا فيه ذاك العزيز الذي غاب عن أنظارهم منذ سنوات عديدة، ذهب يافعاً وعاد شيخاً مهدماً.. هم الذين بحثوا عنه لسنوات طوال حتى اليوم والساعة واللحظة التي هلّ فيها عليهم ذلك الصياد التائه! يذكرون أنهم بحثوا عنه فلم تكل لهم قدم وخطو.. ولكن قبل أن يصل التائه، كانت أخباره قد وصلت إلى أهله، أوصلت الأرواح أخباره للأهل: أن روحاً خبيثة قد حلت بقريبهم العائد بعد أربعين سنة، عاد إليهم ليس كما كان بريئاً، إنما بعد أن أصبح روحاً شريرة. جاء لينقل الشر إليهم ويخرب بيوتهم فوق رؤوسهم. جاء ليميتهم واحداً بعد الآخر!
أذكر، يتابع الفتى.. أن أمي ظلت تنظر إلي وتستمع إلى حكايتي التي تابعتها قائلاً: أما عندما كان الصياد التائه في طريق عودته إلى حيث تلك الأرض، كانت الأرواح التي دفعته إليها ترافقه من جديد وهي تنشد له أغنيات فيها السخرية والهزء والحديث عن قدرتها وقوتها، وأن أحداً لا يستطيع الفكاك من سيطرتها، حتى لو عرف الصياد التائه وتلمس العودة إلى أهله بعد أن يكون قد أضاعه أو تاه عنه لمئات السنين..
قاطعتني أمي تسألني: «وبعد ذلك؟».
تابعت: يقال أن الصياد التائه كان قبل أن يصل إلى تلك الأرض اللعينة قد وقف عند أول جسر وصل إليه، وقف على طرفه ثم ألقى بنفسه إلى مياه النهر الجارية تحته، ولكن، لا أحد يعرف حتى اليوم يا أماه، إن كان الصياد التائه قد سقط في المياه فجرفته بعيداً ليموت بين جذوع الأشجار والنبات من قصب وغيره، أم سقط فوق الصخور وتحطمت أضلاعه وتهشمت عظامه؟
ويقال، ما أن غاب الصياد التائه حتى كفت الأرواح عن سخريتها وهزئها منه، لتجلس فوق الجسر، وتنظر إلى المكان الذي غاب فيه الصياد، تغني له أغنيات حزينة حتى تتلاشى الجثة ذوباً في الماء أو طعاماً للسمك. وعندما لا يبقى من الجثة سوى عظامها البيضاء كانوا يرفعونها في غطاء مضفور من العشب الأخضر ويرحلون بها إلى أهله، يرقدونها في أول الليل، يشعلون حولها النار حتى لحظة شروق الشمس، أي في اللحظة التي يخرج فيها أفراد عشيرته من بيوتهم إلى أعمالهم، فيردون عظامها لهم.. هنا كان أفراد عشيرته يرمون أنفسهم عليها ويبكون منشدين إن التائه قد عاد، عاد.. ويردف موضحاً أقرب الناس إلى جثة الصياد، زوجه مثلاً، أو أحد أولاده قائلاً: عاد وهو رميم..
لم تعجبني هذه القصة/الحكاية، يتابع الفتى: لأنها غير مقنعة.. لن تقنع والدتي، على أني كنت ذاك الصياد التائه الذي عاد إلى والدته، ولكنه ليس كوم عظام، إنما يحمل في نطاقه عصافيراً اصطادها.. وقبل أن أكشف لوالدتي التي سألتني جواباً عن الطريقة التي اصطدت بها عصافيري، قالت تنبهني:«ها أنت تحدثني بإحدى حكايات جدتك عوضاً عن الإجابة على سؤالي الذي طرحته عليك!».
لم أجبها، إنما أطرقت برأسي، بعد أن عرفت أن أخبار صيدي المزعوم قد وصلت إلى أمي، فما كان منها إلا أن هزت رأسها وقالت: «ستبقى خائباً رغم عصافيرك الخمسة التي حملتها لنا البارحة». ثم تابعت حانقة:« اصطد جرادة خير لك من أن تشتري خمسة عصافير لتخدعني على أنك صائدها، تفو.. يا ابن الكلب!».
استقرت البصقة على وجهي. رفعت رأسي، ثم هربت عندما تقدمت أمي تريد الإمساك بي، ومناولتي علقة لا رحمة فيها.
هربت إلى الحديقة من جديد، وعلى أحد كراسيها استلقيت مفكراً بأحوالي، ومسترجعاً مشاعري والانطباعات التي تركتها أمي في نفسي، عندما بصقت في وجهي، ومخاوفي وأنا أهرب منها، ثم تساؤلاتي: كيف يمكنني أن أعود إلى البيت بعد أن نفدت من بين يديها؟ لو أني تركتها تمسك بي، لتصفعني مرة وأخرى، لكانت قد تركتني لشأني بعد أن تكون قد نفّست عن غضبها.. لعدت إلى البيت من دون حرج، أما هربي من دون أن أمكنها من تنفيث غضبها فهذا يعني أن تظل تغلي إلى أن أنال عقوبتي، وهي الضرب المبرح هذه المرة! لذا علي الآن أن أفكر بكيفية عودتي إلى البيت.. وبعد تفكير طويل لم يكن أمامي سوى خيارين، الأول: أن أعود إلى البيت لأنال علقة مرتبة من أمي الغاضبة. والثاني: أن أجد مكاناً آوي إليه خلال هذه الليلة».
يتذكر الفتى.. أن هذا الأمر لم يأخذ من تفكيره إلا الوقت القليل، لأنه كان يفكر بأمر آخر تماماً. كان يفكر بسهولة الحياة التي وجدها عندما سرد الحكايات على لسان جدته، وكيف وجد الصيغ التي تمكنه من تبرير كثير من القضايا في حياته.
وعلى ذلك الكرسي الخشبي الذي تمدد عليه، راح يفكر بالطريقة السهلة التي حلل بها سبب خيبته في الصيد، ثم ما فكر به، وما سرده على والدته ليقنعها بما قام به، ليقنعها بأنه الذي اصطاد العصافير. أما ما قاله أمير لها، فهو محض افتراض! ثم كيف ألف حكاية طويلة حتى كاد أن يصدق نفسه على أنها الحقيقة.
« أذكر منذ ذلك اليوم، يتابع الفتى: استحوذت علي فكرة الأحلام والخيالات والرحلات الذهنية.. أي أخذت أبني وأشيد عوالماً في خيالي أكثر مما أشارك العالم في صناعته وصناعة تاريخه. واليوم، يتابع الفتى: أشعر بعجزي عن القيام بأي تصرف عملي ناجح، مثلاً: تركيب جرة غاز. واذكر أيضاً عندما كنت أتحدى نفسي في لحظات، كنت مضطراً إلى تركيب جرة الغاز، كنت أحس بأن العالم يقف ضدي،لما أحسه من قهر ليس له حدود.
كان هذا الوضع بالنسبة لي رحمة ولعنة بآن واحد! رحمة لأنه أصبح زادي كإنسان، ولعنة، لأنه، كان علي أن أحيا في عالم ككل الناس الذين يخوضون صراعاً تلو الصراع من أجل البقاء، بدءاً من تأمين لقمة العيش، وانتهاء بتحقيق الأحلام الكبرى.
هذا الأمر، يتابع الفتى: تحقيق الأحلام الكبرى، لم يحن أوانه بعد، لأنني ما زلت أتحدث عن طفل صغير كنته ذات يوم».
ذات صباح، عندما استيقظ الفتى.. شعر، وهو ما زال في الفراش، بأنه تأخر في نومه، لذا لا بد أن ساعة الظهيرة قد حلت. فدفع عنه اللحاف، وقام عن الفراش مندفعاً باتجاه الباب، وهو يفرك عينيه ليزيل عنهما العمش والغبش اللذين يمنعان الرؤية الواضحة عنه.
التفت حوله بعد أن شعر بغياب أمه عن البيت. فتساءل: «غريب! إلى أين ذهبت؟».
وصل إلى الباب، كان مغلقاً، فدفعه أمامه متوقعاً أن تغمره أشعة الشمس وهي في عز الظهيرة.. ولكنه فوجئ، عندما لم يجد شيئاً من بهاء الشمس تغمر عتبات (الكامبات)! كان الظل، رغم أن الوقت نهاراً، يمتد بعيداً عن حيطان (الكامبات). فخرج ملتفتاً حوله، استغرب الفتى.. لأن الوقت ما زال صباحاً!
سمع صوت أمه- كانت جالسة مع بعض الجارات في ظلال جدران (الكامب) العالية، وهن يشربن الشاي- تسأله: «استيقظت أخيراً؟».
نظر إليها وهو يهز رأسه بالإيجاب، ثم عاد أدراجه من جديد إلى داخل البيت. ذهب إلى (قلة الماء) يسكب منها الماء على رأسه، ليغسل وجهه.. وما إن انتهى من ذلك حتى سمع الباب يفتح لتدخل أمه عليه.
وقفت بالباب وهي لا تصدق ما رأت، ثم قالت معلقة: «أيعقل؟ تغسل وجهك قبل أن تتناول إفطارك!».
ابتسم لها متوجهاً إلى (النملية) فتح بابها الخشبي، حيث يغطيه شبك منخلي بالكامل. نظر إلى داخلها فلم يجد سوى الزيت والزعتر. بلع ريقه وهو يشعر مسبقاً بشيء من الحموضة في معدته، لذا انسدت شهيته، ولم يعد يشعر بالجوع.
التفت باتجاه اليمين، حيث كانت أمه واقفة، تنظر إليه، عندما سألته: « ما بك؟ ألا تريد أن تتناول فطورك؟».
أجابها: « لا».
تابعت أمه بعد أن خمنت ما كان يريد قوله: «ماذا أفعل يا بني.. لم يصل راتب والدك بعد. وما لدي من المال لا يسمح لنا بالتبذير. علينا أن نتحمل».
ثارت في نفسه موجة من الحقد الممزوج برغبة في البكاء. إلا أنه مد يده مرغماً إلى الخبز وراح يغمس ما يقطعه منه بالزيت والزعتر، ويرفع اللقمة إلى فمه، ثم يلوكها كأنه يلوك تبناً.
سأل والدته وهو مستمر في الأكل على رغمه: «ماذا، هل جاءت جدتي؟».
استغربت أمه السؤال، وقالت: «من قال إن جدتك قد جاءت؟».
أجابها: «لا أدري.. ولكني سمعت صوتها.. سمعته قبل أن أستيقظ بوقت قليل، سمعتها تقول: لقد جلبت لكم نصف (تنكة) من الزيتون الأخضر، ونصف آخر من العطون الأسود».
سألته أمه باستغراب: « هل سمعت جدتك تقول هذا؟».
أجابها: « نعم. لقد سمعتها.. إلى أين ذهبت؟ هل ذهبت إلى بيت جارتنا، كلي؟».
صرخت أمه في وجهه: «بماذا تخرف يا ولد؟ لا بد أنك رأيت ذلك في المنام، أو رغبتك في أكل الزيتون هي التي دفعتك إلى أن تتخيل مجيء جدتك!».
قال لها باحتجاج وغضب، وهو يغلق باب (النملية): « أنا لا أتخيل.. أنا رأيتها بعيني».
قالت أمه: « نعم. ولكن في النوم».
ثم تقدمت من البلاطة حيث هي بمثابة مطبخ، يطبخ فوقها الأكل،ويوضع عليها، أيضاً الأوعية الزجاجية والفخارية المملوءة بالبرغل والزيت والبهارات، وبعض الأكياس القماشية التي تحتوي على (المونة) السنوية. قالت أمه: «إن موسم الزيتون لم يأت بعد.. حتى تأتي جدتك حاملة لك الزيتون والعطون، فنحن لا نزال في أول أيلول».
نظر إليها وهويمسح ما علق بيده من زيت وزعتر بطرف سرواله.. مما أدى بأمه أن تصرخ به، ألاّ يفعل. أن يبقي ثيابه نظيفة، ولو ليوم واحد.. إلا أنه هرب منها، منطلقاً خارج البيت.
انحدر الفتى.. إلى الساحة، حيث تعوّد أن يلتقي بالأطفال، ومنها ينطلقون إلى حديقة (السبيل)، أو يتجولون في أطراف (الكامبات)، وأحياناً، وهي نادرة جداً، كانوا يتسللون إلى منطقة (الفيلات) والخوف يملأ صدورهم. تذكر الفتى.. كيف كانوا يسيرون حذرين وهم يتلفتون فيما حولهم، كأنهم في بستان يريدون سرقة الفاكهة منه، دون أن يراهم الحارس.. ولكنه يذكر، ما أن يخرج بعض قاطني (الفيلات) من أبوابها، حتى كان الفتى.. وصحبه الأطفال يختفون في أقرب منعطف لهم، يهربون كما يهرب الناس من المصابين بالجذام.
تجول في الساحة كما كان يتجول فيها كل يوم، ولكنه، يا للغرابة، لم يجد أي طفل من الأطفال الذين يعرفهم ويشاركهم اللعب موجوداً في الساحة! ليس هذا فقط، إنما لم يجد حتى الأطفال الذين كانوا يكبرونه بأكثر من سنة.. كانت الساحة خالية تماماً. التفت فيما حوله ثم راح يلف ويدور، ينظر إلى مداخل (الكامبات) لعل وعسى يرى طفلاً فيها، أو أكثر ليهرع إليه ويبدأ باللعب والتجوال في البرية المحيطة (بالكامبات).
بقي الفتى.. وحده بعد طول تجوال، فجلس فوق بعض الحجارة وهو لا يعرف ماذا يفعل؟ رأى بعض النسوة، يذهبن لجلب الماء من القسطل الرئيسي للمياه أو يتوجهن إلى بعض جاراتهن للتسلية وتزجية الوقت.
مازال يذكر ذلك اليوم، أو بشكل أدق، ذلك الصباح، كان من أطول الصباحات والأيام التي قضاها فيما بعد.. وهو ينتظر هذا الأمر أو ذاك. كان انتظاره طويلاً جداً. ولكنه في ساعة الظهيرة يرى أول الأطفال من الشلة.. ثم ظهر الثاني والثالث.. الخ. حتى أولئك الأطفال الكبار ظهروا الواحد تلو الآخر، قادمين من طريق واحد، الطريق الترابي الذي يشق البرية الممتدة ما بين (الكامبات) وبين حي (براكات السريان) هرع إليهم، وهو يشعر كأنه قد أنقذ من ضياع أو من غرق وشيك وهو يصرخ بهم: «أين كنتم؟» ولكنه ما إن وصل إليهم، ورأى الحقائب المصنوعة من الخرق المعلقة بأكتافهم حتى توضحت له الصورة، وتكشفت أسباب غيابهم الطويل هذا الصباح.
كانوا قادمين من المدرسة.
كان قد نسي تماماً أن المدرسة فتحت أبوابها هذا الصباح.. شعر بشيء من الحزن، رغم أنه في يوم البارحة كان فرحاً لأنه لن يذهب إلى المدرسة، لن يستيقظ باكراً في البرد شتاءً والحر صيفاً.. نعم. يذكر الفتى.. بأن حزناً عميقاً قد انتابه، لذا تمنى لو ذهب مثلهم إلى المدرسة. كانت أمه تريد مثلها مثل بقية الأمهات أن ترسله إلى المدرسة إلا أن غياب والده، بسبب عمله، عن البيت هو الذي مانع في التحاقه بالمدرسة.
في ذلك اليوم لم يسأل الأطفال عن المدرسة، هل هي جيدة أم؟؟؟ إلا أنه خمن عبر مشاهدته ومراقبته لوجوه الأطفال لا بد أن تكون المدرسة جيدة. يذكر الفتى.. كيف رافق أترابه من الأطفال صامتاً وهو مطرق.. / قد يسأل سائل عن أسباب عدم انضمامي، يقول الفتى.. إلى المدرسة كباقي الصبيان: يعود ذلك إلى أن والدي كان في ذلك العام في الجبهة، أما والدتي فلم تكن تحمّل نفسها مثل هذه الأعباء لقلة درايتها بها. لذا في صباح اليوم التالي، استيقظت مبكراً جداً، قبل طلوع الشمس وخرجت من (الكامب).. كان الجو في ذلك الصباح بارداً إلى حد ما، والظلال الرمادية تغطي الأرض المحيطة (بالكامبات) ظللت واقفاً أمام الباب أكثر من ساعة، قبل أن أرى خروج الصبيان من بيوتهم متوجهين إلى المدرسة. كانوا يضحكون ويتشاجرون ويتشاتمون.. وفجأة توقفوا ونظروا إلي باستغراب، ثم قالوا: «ماذا بك؟ لماذا أنت واقف كالأبله؟ هيا معنا على المدرسة!».
قلت لهم لحظة، دخلت إلى البيت وتناولت حقيبة من الخرق كانت أمي تستعملها في شراء بعض الحاجيات، وعدت إلى الأطفال من دون أن تعلم أمي بذلك.. فراح الأطفال يضحكون من الحقيبة المعلقة بكتفي، لأنها كانت كبيرة، كانت واضحة لمن يراها، أنها حقيبة للخضار وليست للكتب المدرسية ودفاترها.
ما زلت أذكر كلما اقتربت من المدرسة كيف كنت أبطئ من سيري، ثم ما ألبث أن أحث الخطى لألحق بالأطفال، وأنا أتطلع فيما حولي بعد أن خرجت من البرية، ودخلت حارة (براكات السريان) بينما الأطفال من حولي يتراكضون وراء بعضهم، يتشاتمون، يقهقهون، ويطلقون من بين شفاههم موجة من الصفير الحاد حيناً، والغليظ في أحيان أخرى. ومع دخولنا إلى حارة (براكات السريان) شعرت بدق عنيف في صدري.. كنت دائب التلفت، أنظر فيما حولي، كأني أبحث عن أحد أعرفه لينقذني مما أنا فيه.. كنت أقول، لو رأيت أحداً ما من الذين أعرفهم لهرعت إليه، ألوذ به، طالباً منه ان يعود بي إلى المنزل!.
كانت البيوت التي أخذت تحف بي، واطئة الأسقف، معظمها مبني من البلوك الحواّري الأصفر الشاحب، تغطي أسطحتها صفائح صدئة وبعض الأعمدة الخشبية، هذا إلى جانب، كان كل بيت من بيوت الحي يحيط به حوش حجري، يرتفع وراءه بعض الأشجار، وكانت معظمها من التوت والسرو..
وفجأة.. عندما خرجنا من زقاق ضيق إلى آخر واسع، أصبحنا في زقاق ينفتح وسطه كساحة صغيرة، فواجهني مبنى كبير من الحجر، تتوسط واجهته بوابة حديدية واسعة، كان الملفت فيها، أنها مزينة بصلبان حديدية، وإلى جانب البوابة، باب خشبي سميك، ليس كبيراً، وأيضاً ليس بالصغير.. شعرت بلكزة في خاصرتي من أحد الأطفال الذين أرافقهم، قائلاً وهو يضحك: « لقد وصلنا».
دخلنا باحة المدرسة، كانت متوسطة الحجم يقوم حولها بناء ذو طابق واحد، مقسم إلى غرف تسمى، الصفوف.. رأيت عدداً كبيراً من الأولاد والبنات، كان بعضهم كبيراً مثلهم مثل البنات كان عدد منهن شابات، حتى أن صدورهن كانت نافرة تحت (المريول) الأسود ذي الياقة البيضاء، حيث يرتديها جميع التلاميذ والتلميذات.
دخلت الباحة وأنا مستمر في الالتفات حولي، كأنني أدخل إلى مدينة مجهولة، أو إلى بناء غريب، وخوف يقرصني في قلبي. كان الوقت باكراً على دخولنا إلى الصفوف، لذا أخذت شيئاً فشيئاً أشارك الأطفال في ألعابهم، ويزول ما كنت أحس به من مشاعر العزلة والخوف والتردد من صدري أيضاً.. إلى أن دق الجرس.
تم جمعنا في أرتال، كل صف في رتل واحد للصبيان وآخر يحاذيه للبنات.. ثم بعد تحية العلم، وإطلاق بعض الشعارات التي نسيتها تماماً، دخلنا إلى الصفوف رتلاً وراء رتل. جلس كل تلميذ إلى مقعد معين، وإلى جانبه جلست تلميذة.. لم يبق خارج المقاعد أحد سواي.. رحت أتلفت فيما حولي، أبحث بعيني عن مقعد أجلس عليه، إلا أنني لم أجد أي واحد خال.. شعرت بخوف واضطراب، خاصة عندما دخلت علينا فتاة كبيرة، لها شعر أسود وعينان سوداوان، ترتدي ثوباً زهرياً، بقبة زرقاء، دخلت علينا وهي تضحك ملقية علينا تحية الصباح. ثم دعت التلاميذ إلى الوقوف.
وقف الصف كله صبياناً وبناتاً.. ثم سمعت، عندما اتخذت الفتاة مكاناً لها وراء طاولة يعلوها على الحائط سبورة سوداء، سمعت كلمة: جلوس.
جلس جميع الصبيان والبنات. التفت أنظر إليها وأنا أشعر برعب حقيقي! خاصة عندما رأيتها تنظر إلي وفي عينيها سؤال.. اقتربت مني وهي تسألني، أو تسأل الصف: «أرى أن لدينا تلميذاً جديداً؟» وصلت إلي، انحنت فوقي، وهي تضع يدها على كتفي وتسألني: «ما اسمك يا شاطر؟» لم أستطع أن أجيب. رحت أتلفت فيما حولي وكلي ذعر.. حتى أن صبيان الصف وبناته انفجروا بالضحك مني. أما أنا فانفجرت ببكاء مع صرخة أطلب فيها أمي.
أخذتني الفتاة من يدي، وهي تهدئني وتقول: «لا تخف، أنت هنا في مدرسة.. لقد أصبحت شاباً، لم تعد طفلاً صغيراً حتى تنادي على أمك». ثم أخرجت من حقيبتها قطعة من السكر ملفوفة بورقة ملونة، وقدمتها لي قائلة: «خذ هذه (البونبونة) فهي فقط للتلاميذ الشاطرين الذين لا يبكون».
سكت وأنا أضع قطعة السكر في فمي، فضج التلاميذ مرة ثانية بالضحك، مما سبب لي هذه المرة ردة فعل عكسية، فرحت أشاركهم الضحك أيضاً.
أخذتني الفتاة التي عرفت فيما بعد أنها تدعى في الصف والمدرسة بـ (الآنسة)، أخذتني برفق إلى مقعد وطلبت من الصبي الجالس عليه، أن يفسح لي مكاناً ريثما تطلب من (الآذن) في (الفرصة) أن يحضر مقعداً آخر إلى الصف.
لم أصدق أبداً ما رأت عيناي عندما صمت جميع الصبيان والبنات عندما طلبت منهم الآنسة ذلك. ثم بدأت تلقي علينا درسها، لم أعد أذكر عن ماذا كان.. إلا أنني طوال فترة الدرس كنت أتلفت فيما حولي، وأنا لا اصدق أذناي، بأن هناك صمتاً يمكن أن يكون بوجود أكثر من ثلاثين صبياً وبنتاً.
مر الدرس دون أن أحس بوطأة الزمن، وهذا الأمر حدث عندما بدأ الدرس الثاني.. إلا أن رجلاً، جاء يقرع الباب علينا، وما إن دخل إلى الصف حتى سمعت من الآنسة تهتف بنا: قيام. ثم تطلب منا الجلوس، وهي تخاطب الرجل بكلمة غريبة لم أفهم معناها، كانت تقول له وهي تخاطبه (ملفونو) عبد النور. ثم رأيت أن حواراً جرى بين الآنسة وملفونو عبد النور وهما ينظران إلي.
اقترب الرجل مني.. وهو يرسم على وجهه ابتسامة، وقف أمامي وسألني بعض الأسئلة، كانت تتعلق بأمر انتسابي إلى المدرسة، ثم طلب من الآنسة أن تحضرني معها في أثناء (الفرصة) إلى الإدارة.
التفت فيما حولي كأني أبحث عمن يفسر لي ما قاله الرجل. إلا أن الآنسة ضحكت في وجهي وهي تقول: «لا تخف.. سنذهب إلى الإدارة في الفرصة.أما الآن..هيا إلى مقعدك واستمع إلى الدرس».
طوال الدرس كنت أفكر بكلمة (ملفونو) فلم أعرف لها معنى، هذا إلى جانب طلبه، لي، من دون الآخرين أن أزوره في غرفة الإدارة. أمسكت الآنسة بيدي وهي تشجعني: «هيا، علينا أن نذهب إلى (ملفونو) عبد النور».
في غرفة صغيرة إلى حد ما، وقفنا أنا والآنسة بعد أن صعدنا إليها عبر درجتين قبل أن نتخطى عتبة الغرفة. استقبلنا(ملفونو) وهو جالس وراء طاولة متوسطة الحجم، فوقها جهاز أسود له شريط، كان هاتفاً، طبعاً عرفت هذا فيما بعد بعدة سنوات. طلب الرجل منا أن نتقدم من الطاولة، ثم طلب من الآنسة أن تجلس على كرسي خيزراني قريب من الطاولة. ثم التفت إلي وتأملني وهو يبتسم.. وبعد حين سألني: «لماذا لم تسجل اسمك لدي يا بني؟ وأنا أرى فيك من يحب المدرسة».
التفت إلى الآنسة أطلب منها العون والمساعدة. ابتسمت الآنسة وقالت: «هيا. أخبر(ملفونو) ولا تخف».
قلت:«لم أعرف أن المجيء إلى المدرسة بحاجة إلى التسجيل».
ضحك(ملفونو) وقال: « ألم تسأل زملاءك الطلاب؟».
أجبته بالنفي.. سألني: «أين تسكن؟».
أجبته: «في(الكامب)».
سألني: «ماذا يعمل والدك؟».
أجبته: «لا أعرف.. ولكنه يعمل في الجيش».
هز(ملفونو) رأسه وقال: « إذاً بّلغ والدك أن يأتي معك في الغد لكي يسجل اسمك في المدرسة».
رفعت رأسي إليه، وقلت بصوت عال وبحركة، كأني كنت أخاف أن تهرب مني الكلمات، وأنسى الأسباب التي منعتني من التسجيل في المدرسة. قلت: «والدي ليس في البيت، وأمي لا تعرف كيف.. لها أن تسجلني في المدرسة».
ابتسم الرجل وسألني: «لماذا؟ هل تخاف أمك الخروج من البيت؟ وقبل أن أجيب على سؤاله، تابع في أمر آخر: أين ذهب والدك، أليس في البيت؟».
أجبته: « ليس في البيت، فهو يغيب أحياناً أسبوعاً أو شهراً عن البيت».
هز الرجل رأسه وقال: « لا بأس.. سأكتب لك يا بني ما يتطلبه من الوثائق لتسجيلك في المدرسة، وعلى والدك أن يجهزها فور عودته.. ثم تابع في أمر آخر: أما الآنسة مريم ستخبرك، عما يجب عليك أن تشتريه من دفاتر وأقلام.. وعندما يأتي والدك، عليه أن يأتي معك لتتم عملية تسجيلك بشكل رسمي».
وصمت، ثم تابع: « أما الآن فعليك أن تتابع دروسك.. وألاّ تنقطع عن المجيء إلى المدرسة. هل اتفقنا؟».
أجبته وأنا فرح: « نعم».
«إذاً هيا إلى الصف. قال(ملفونو) ونظر إلى الآنسة مريم وقال لها: اهتمي به.. تبدو عليه علائم النباهة».
خرجنا من غرفة الرجل.. إلى الباحة، ولم تمض دقيقة حتى دق الجرس، ثم ما لبثنا أن توجهنا إلى الصفوف لحضور الدرس الأخير في اليوم الأول لي، في المدرسة.
يذكر الفتى.. أن أمه كانت قد قلبت الدنيا باحثة عنه، عندما لاحظت غيابه، ولم يعرف مدى الحماقة التي ارتكبها، إلا في لحظة عودته مع الصبيان إلى البيت.. أما ما جرى له بعد ذلك، فيذكره بكل تفاصيله، لأنه نال علقة لم ينسها أبداً.
عاد إلى البيت مع بقية الصبيان وهو فرح وسعيد.. ولكنه، ما أن اقترب من البيت حتى رأى أمه واقفة أمام الباب .. ما لبثت أن تقدمت وهي تنظر إليه نظرة- لم يرها على وجهها إلا في ذلك اليوم، أو يفسرها. أو يسأل نفسه: ماذا تحمل وراءها؟ لأنه كما أخبرنا الفتى.. منذ حين، كانت في تلك اللحظة: كل مشاعره متوجهة إلى المدرسة والصبيان الذين درس معهم، ولكنه اليوم، وهو يتحدث عن تلك الساعات، خاصة لحظة وقوفه أمام أمه.. عرف كيف كانت نظرتها. وماذا تحمل من علامات ومعنى؟
كانت أمي، يقول الفتى: «تنظر إلي وأنا أقترب منها، بنظرة منحرفة جهة اليسار، حيث كنت والصبيان مقبلون منها. لم أر، أو لم أنظر إلى يديها، كانت بلا يدين. مجرد عضدين يميلان إلى الخلف ويختفيان وراء ظهرها. لم أر أمي في يوم من الأيام في مثل تلك الوقفة التي كانت تنتظرني بها أمام باب(الكامب).
أذكر، ما إن وصلت إليها، وقبل أن أقول لها: أمي، يجب أن أذهب في الغد مع الصبيان، كانت قد أمسكتني من رقبتي النحيلة، ورفعتني عالياً، ثم رمتني بعد أن خطت ثلاث خطوات واسعة باتجاه باب بيتنا، وهي تصرخ بي في وحشية: «أين كنت يابن الكلب؟».
سقطت على الأرض، فشعرت مع ارتطامي بالإسمنت بأن عظام حوضي قد تحطمت، فأطلقت صرخة وجع هائلة، وأنا أمد يدي إلى قفاي أتلمس مكان الوجع.
ارتفع صوت أمي ثانية: «قل يابن الكلب، أين كنت طوال هذا النهار؟».
صرخت بها، وأنا أرفع يدي اليمنى أمام وجهي، أمدها باتجاه وجهها: «في المدرسة. لقد ذهبت مع الصبيان إلى المدرسة».
كانت أمي، في تلك اللحظة، قد مدت يدها تريد أن تمسكني من رقبتي مرة ثانية، لترفعني عالياً.. لا أدري اليوم، إن كانت سترميني إلى الأرض، كما رمتني في المرة الأولى، أم أنها كانت ستلوح بي وتقذفني إلى الحائط لأرتطم به، ثم أسقط كجوال فارغ على الأرض.
وقفت، بعد أن أوقفت أمي اندفاعها باتجاهي، وسكن ساعدها أمام وجهي بخمس أصابع مفردة، وهي تقطب ما بين حاجبيها. قالت: «ماذا؟ كنت في المدرسة! أي مدرسة يا..؟».
تهدلت قامة أمي وحلت أعصابها، فجلست على الأرض إلى جانبي وقالت: «احك لي.. أي مدرسة كنت فيها؟».
قصصت عليها وقائع يومي منذ الصباح إلى ساعة عودتي إلى البيت في ساعة الظهيرة.
سألتني، وأنا ألمس لهجة الندم في سؤالها: «أتريد أن تذهب إلى المدرسة؟».
أجبتها: «نعم».
قامت عن الأرض، وراحت تفكر. ما لبثت أن ذهبت إلى (الوكيل) عبد الرحمن معمو، وأخبرته برغبتي، وطلبت منه إن كان ليس لديه مانع، أن يأخذني غداً إلى(براكات السريان) ليسجلني في المدرسة، لأن والدي كان في تلك السنة، في مدينة بانياس على حدود فلسطين.
وما أذكره عن تلك الليلة، أن أمي قضتها وهي تجهز حقيبتي المدرسية. كانت عبارة عن كيس مصنوع من القماش السميك، أضع فيه كتبي ودفاتري وبعض الأطعمة لأتناولها في المدرسة. كان الكيس مشدود الطرف بحبل صوفي لأعلقه بكتفي.. وهكذا بعد يومين لا غير كنت تلميذاً نظامياً مثل بقية التلاميذ.
* * *
في شهر أيلول، يذكر الفتى.. أنه قاطع جميع التلاميذ الذين كانوا يماثلونه في السن والصف.. لا يعرف اليوم سبب ذلك، ولكن ما يخطر بباله الآن، كان السبب هو غمزهم ولمزهم من(ماري روز) كان خلال الأيام الماضية قد استاء جداً من تصرفاتهم وسلوكهم تجاهها، لذا صرخ أن يكفوا عن ذلك، ثم تابع مهدداً: إن لم يكفوا، سيتصرف..
كان من حيث البنية الجسدية، أكثرهم قوة ومتانة، لذا خاف الصبيان منه، ثم ما لبثوا أن ابتعدوا عنه فوجد نفسه بعد ذلك وحيداً مع(ماري روز) يذهبان معاً إلى المدرسة ويعودان منها سوية.
كانت سعادتنا، يقول الفتى.. كبيرة فلم يعد يزعجنا أحد، كنا نسلك وحيدين الطريق البرية التي تعلوها الحجارة البيضاء، وقليلاً من الشوك. كنا نسرع أحياناً، نسبق التلاميذ بعدة مئات من الأمتار، بحيث لا نسمع منهم أي صوت. كنا نصل إلى المدرسة قبل أن يصلوها بأكثر من ربع ساعة. وأحياناً كنا نتأخر عنهم عندما نجد لدينا بعض الوقت، نذهب إلى المدرسة ونحن مرتاحان ومن دون منغصات منهم.
اليوم، يحاول الفتى.. أن يتذكر بكثير من تفاصيل بعض الأمور التي لعبت دوراً هاماً في حياته، وقلبت بعضاً من القناعات في نفسه رغم صغر سنه.. وكان السبب الحاسم في ذلك.. آنسته مريم. في تلك الفترة وهو طفل لا يتعدى السابعة، كان قد اطلع عن طريقها على حياة السيد المسيح عليه السلام. عرف منها عذابه وآلامه، ثم صلبه بعد أن خانه(يهوذا الأسخريوطي) وتخلى عنه بطرس.
يتذكر اليوم كيف كانت آنسته مريم تقوم بالتمثيل وهي تسرد على التلاميذ مقاطع من وقوف السيد المسيح أمام(بيلاطس). كان ينظر إلى وجه آنسته مريم، يمعن النظر في تقاسيمها التي كانت تنقبض وتنفرج مع كل حركة تقوم بها، وهي تحكي بأسلوب تمثيلي حياة المسيح عليه السلام. كانت ترسم الخوف واللامبالاة والحيرة والنرفزة، وهي تتحدث ما كان يقوله(بيلاطس) لليهود المتجمعين الذين يطالبونه بصلب السيد المسيح..
كما كانت ترسم الطيبة والحب والكبرياء والأنفة الممزوجة بالحزن وهي تتحدث على لسان السيد المسيح، ما كان يقوله لـ(بيلاطس).
ولعل الفتى.. رأى أفظع صورة على وجه آنسته عندما كانت تتحدث عن تلميذ المسيح الخائن. كانت تقوم بحركات من يديها، بحيث ترسم على وجهها الجميل كرهها لـ(يهوذا الأسخريوطي)، وهي تصفه بالخائن الأكبر.
والصورة الأخرى التي لا يمكن للفتى.. أن ينساها، هي عندما كانت تحدثهم عن اللص الذي أطلقه(بيلاطس) من سجنه بعد أن افتداه اليهود بالمسيح عليه السلام.
كنا نرى، يقول الفتى: على وجهها البلاهة والدهشة والمعجزة و(براباس) اللص لا يصدق أن سراحه قد تم.. كان يمشي بقدمين متعثرتين وهو يتلفت حوله غير مصدق ما سمع، وما رأى من أشعة الشمس وهو يهرب منطلقاً في البرية تحت الشمس.
أما عن بطرس، فكانت تحدثنا بحزن، بحزن شديد وأسف، لتخاذله، لخوفه عندما أنكر على نفسه معرفة السيد المسيح.
أما الأمر الذي أثر فيه بقوة فهو شخصية آنسته مريم..
مريم.. يقول الفتى: لقد نسيت كنيتها، وهي اليوم امرأة تقترب من الستين وكانت آخر مرة رأيتها فيها منذ ثلاثة أشهر، كانت تملك مسحة من ذاك الجمال الغابر، عندما كانت في العشرين أو الواحد والعشرين..
هذه الفتاة التي كانت ذائبة في حب السيد المسيح، كنت لا أراها إلا فرحة، ضاحكة، تلاعب التلاميذ، تحكي لهم الحكايات والقصص، كانت كتلة من الحركة لا تعرف الوقوف أو التوقف، ففي أيام الآحاد، وهي أيام عطلة رسمية لمدرستنا، تطلب منا أن نحضر إلى الكنيسة لأداء الصلوات.. طبعاً كانت تقصد التلاميذ ذوي الديانة المسيحية.. لقد أحببتها جداً.. وذات يوم، وكان يوم سبت سألتها، إن كان هناك مانع لديها أن أحضر غداً إلى الكنيسة لأداء الصلوات! فأجابت وهي تبتسم لي: ليس هناك أي مانع، تعال غداً.. ثم وقفت تنظر إلي، كأنها تراجع في نفسها ما قالته لي، كأنها قالت لنفسها، ولكنه مسلم. لقد شعرت في تلك اللحظة بالخوف من أن ترفض طلبي، وتقول لي: لا. عليك الذهاب إلى الجامع.. ولكنها لم تنطق بحرف.
وفي صباح يوم الأحد، لبست أفضل ثيابي، ثم ذهبت إلى بيت(ماري روز) ومنه انطلقنا إلى(براكات السريان) لحضور الصلوات.
استغربت أمي، عندما وجدتني ألبس ثياب العيد، وهي ثياب كنت أرتديها مرتين في السنة، في عيد الفطر مرة وعيد الأضحى مرة أخرى. كنت أستمر في ارتدائها إلى حين أن تضيق علي، فتجد أمي حلاً لها، وهو توسيع الثياب قليلاً لكي تلائم قامتي التي تنمو يوماً بعد يوم.
سألتني أمي في الصباح: «أين أنت ذاهب؟ أليس اليوم هو يوم عطلة؟».
أجبتها: نعم. ولكن هناك احتفال في المدرسة، طلبوا منا أن نحضره.. وها أنا سأمر على ماري لنذهب سوية.
انطلقت أنا وماري روز باتجاه(براكات السريان). كان صباح ذلك اليوم مشرقاً، دافئاً. رغم أنّا، كنا في أواخر شهر تشرين الثاني، وكانت الأمطار قد هطلت بغزارة في الأسبوع الفائت، ثم انقطعت لمدة أسبوع. كانت الشمس خلال ذلك الأسبوع مستمرة في سطوعها، فنما العشب التشريني، وغطت زهور صغيرة، جميلة، زاهية الألوان البرية التي كانت تفصل(الكامبات) عن حي(براكات السريان). كنا فرحين، أنا وماري روز، وكل واحد منا يمسك بيد الآخر، نلوح قبضتينا المتماسكتين إلى الأمام وإلى الخلف، ونحن نغني بعض الأناشيد التي تعلمناها في المدرسة. ثم ما نلبث أن نركض بفرح مسافة طويلة، لنقف بعد ذلك، ثم نعاود سيرنا الهادئ ونحن نلهث. نضحك، وخدودنا تشع بالحرارة، بعد أن تصبح بلون الشمندر.. ولكنا، في أحيان أخرى، نمشي، نقطع مسافات طويلة صامتين، لا ننطق بحرف واحد إلى أن نصل المدرسة.
كانت الآنسة مريم تجمعنا في صفوف، ثم تقوم بجولة تفتيشية علينا، تنظر إلى ثيابنا ونظافتها، قبل أن نتوجه إلى باب الكنيسة. كان الباب من الخشب السميك المزخرف، وفي أعلاه يدان تتقاطعان بحنان، ترفعان راحتيهما إلى الأعلى، كأنهما تحميان شيئاً ما، مقدساً ما، تخافان سقوط ذاك المقدس الذي يحميانه، إلى الأرض. أما ما بين محيط اليدين فينتصب نقش الصليب ذهبي اللون.
أذكر،عندما دخلت أنا وماري روز إلى الكنيسة، شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، تضربني كسلك كهربائي، تهزني كالحمى. كنت لا أستطيع أن أحرك رأسي، أنظر إلى الأمام فقط.. وأبصاري معلقة بالثريات الضخمة التي تزن مئات الكيلوغرامات. تشع بمئات المصابيح، وفي مقدمة المحراب، عشرات الشموع الطويلة المنتصبة هنا وهناك، وهي تنشر أضواء شاحبة تذكرك بحزن خفيف يجوب الحنايا، وأنت تتأمل وجه السيد المسيح بقسماته الهادئة.
كانت رائحة البخور تفوح في فضاء الكنيسة، تبدو للوهلة الأولى، ثقيلة، غير محببة للنفس، تكاد أن تكتم الأنفاس.. ولكن ما تلبث بعد حين أن تفتح لك الصدر فتنساب إلى كيانك، لتصبح بعد ذلك جزءاً منك، وأنت قابع وراء مقعد، تنتظر بدء الصلوات.
طبعاً لا أريد هنا، أن أدخل في تفاصيل تلك اللحظات التي كانت بالنسبة لي مثيرة، لأنها كانت مجهولة، كنت أدخل إلى عالم جديد، غير معروف لدي.. تلك اللحظات، أذكرها الآن، كانت واحدة من أجمل وأحّن لحظات حياتي..
لماذا؟ أسأل اليوم نفسي.. لا جواب دقيق لدي. إنما، هكذا ظننت فيما مضى من الأيام، كما أظن اليوم أيضاً. لأنها كانت مرتبطة بذكريات تتعلق باثنتين من البنات أحببتهما وأنا طفل صغير لا يتجاوز السابعة، الأولى ماري روز رفيقة دربي التي اختفت بعد مقتل أمها، والثانية مريم، آنستي التي ما زلت أحمل لها في نفسي أجمل الذكريات.. فهي اليوم، كلما تمر بي، بعد أن أصبحت عجوزاً تبتسم لي.. لا أعرف إن كانت تتذكر أم لا، أني أحد تلاميذها الصغار الذين كانوا شهود عيان على قصة حبها الحزينة».
لم يستطع الفتى.. أن ينسى قصة الآنسة مريم حتى اليوم، ويعتقد بأنه لن ينساها أبداً، ويعتقد أيضاً بأنها ستذهب معه إلى الأبدية يوم يضع قدمه فيها، بعد عمر طويل كما يقولون.
بدأت القصة، يتابع الفتى: بطريقة غير متوقعة. جاء شاب راهب إلى مدرستنا، في حي(براكات السريان) ظل فيها ما يقرب الشهور الثلاثة. كان الراهب كما قلت شاباً، وجهه أشبه بوجه السيد المسيح المرسوم على الأيقونات التي رأيتها في الكنيسة، وجه نحيل، شاحب، يزين جبينه العريض شعر أصفر اللون، وفي أيقونات أخرى بشعر بني كاشف اللون، مسبل الأجفان، وجسد عار إلا من رداء يستر عورته، نحيل بحيث يمكن للمرء أن يعد أضلاعه البارزة على الطرفين من الصدر، ولحية نابتة، ناعمة، مهدلة الشعيرات..
كان الراهب يعتمر قلنسوة سوداء. بالأحرى كان متشحاً بثياب سوداء. يدخل علينا إلى الصف، يسأل عن دروسنا، يقدم لنا بعض القطع من السكاكر، وكان نصيب الشاطر أكبر من نصيب الكسالى، ما يلبث أن يقبل وجناتنا، ورؤوس أصابعنا. ثم يمضي عنا.
طبعاً، يتابع الفتى: كلما أتذكراليوم ما كنت أشاهده بأم عيني، أقول أن قصة الراهب ومعلمتي مريم واحدة من أعظم قصص الحب. القصص التي نتغنى بها مثل روميو وجولييت، مع فارق أن قصة روميو وجولييت كان لها مؤلف عبقري عالجها في أعظم قصة حب عبر التاريخ، ولكن هذين المسكينين لم يجدا من يتحدث عن قصة حبهما العظيمة.
لم أعرف بالضبط ما كان يجري بينهما، وهما واقفان وراء الطاولة، وأمام السبورة السوداء، لا يظهر لنا منهما إلا نصفهما الأعلى، لأن نصفهما الثاني، أي الأسفل كان يختفي وراء طاولة الآنسة مريم. كانا يميلان برأسيهما باتجاه واحد وهما يتحدثان. كنت أراقبهما. كان الراهب يضع يده على طرف الطاولة ويضغط عليها بأصابعه بحركة عصبية. أرى على وجهه تقاطيع حزن ورجاء وألم. كنت أرى نصف وجهه فقط، أرى(بروفيل) وجهه. أما آنستي فكنت أرى ثلاثة أرباع وجهها. أرى حزناً قاتلاً في عينيها كلما رفعت أهدابها إلى الأعلى، ورمت الراهب المطرق بنظرة فيها الضراعة التامة.
لا أعرف ماذا كانا يتحدثان، ولكني كنت أرى أنهما يعانيان المرارة والقسوة. أرى الألم على وجهه، علاوة على الحزن.. كنت أرى الدموع، وهي تتساقط من عيني آنستي بين فترة وأخرى.
كلنا نعرف ماذا يمكن لأطفال صغار لا يتجاوز الواحد منهم الثامنة، أن يتصرفوا وهم قابعون وراء مقاعدهم لا يلهيهم درس أو وظيفة، وآنستهم منفصلة عنهم تماماً. كنت أشعر لو أن أحد التلاميذ رمى بإبرة لسمع الصف، جميع الصف صوتها، وهي ترتطم بالأرض.
كان التلاميذ يصمتون، لا ينبسون ببنت شفة، ينظرون إلى وجهي الآنسة مريم والراهب، يرون الألم والعذاب في عينيهما، حتى أني وجدت أكثر من تلميذ وتلميذة، وأنا واحد منهم، يبكي مع بكاء آنستنا. كنا لا نعرف لماذا تبكي؟ ولكن الذي نعرفه، أنها تعاني من أمر رهيب، قوي، لا تستطيع أن تحمل وطأته. لذا كنا، في ذلك اليوم البعيد قد قررنا أن نتضامن معها، أن نبكي برفقتها..
ولن أنسى ما حييت، عندما حاول الراهب الخروج من الصف. كان قد مد يده مصافحاً ومودعاً آنستنا. فرأينا كيف تمسكت بيده، والدموع الكبيرة تنهمر من عينيها، تحاول أن توقفه، لا تريد أن تفقده، لا تريد أن تتركه يمضي في سبيله. كانت تحبه حباً يفوق الوصف، ولكن الراهب مضى أخيراً، كان لا بد له من الذهاب.
انهارت آنستنا على الكرسي، واستمرت بإجهاشها بصوت عال هذه المرة. أما نحن تلاميذ الصف الأول فقد تدافعنا لنسند الآنسة في انهيارها.. ولكن الطاولة هي التي أسندتها.
ما زلت أذكر تقاطيع وجهها، هذه التقاطيع التي لم أنسها، ولن أنساها، لن أنسى لحظة العذاب التي عاشتها، أو تتخطى حالة الألم تلك التي مرت بها، في ذلك اليوم، في ذلك التاريخ الذي أصبح بعيداً.. بعيداً جداً.
* * *
جاءت ماري روز ذات صباح ليوم الثلاثاء إلى الفتى.. في بيته، استأذنت والدته ودخلت عليه..
في ذلك اليوم، كانا في عطلة، أما سبب العطلة فلا يذكره، وفي ذلك الصباح كان الفتى.. قد استيقظ باكراً، ولكنه بقي في فراشه واضعاً راحتي يديه تحت رأسه، محدقاً في السقف، يسترجع ما قالته ماري روز له في عصر يوم أمس، وهما عائدان من المدرسة.
سألته، إن كان باستطاعته في الغد، أن يرافقها لزيارة الحديقة- تقصد حديقة السبيل- سألها: لماذا؟ أجابت: هناك فرقة عسكرية موسيقية ستأتي إليها لتعزف فيها بعض الألحان.
يذكر الفتى.. تلك الفرقة التي كانت تزور الحديقة باستمرار، في كل ثلاثاء من الأسبوع.. بقيت الفرقة، يقول الفتى: على حال زيارتها هذه حتى يوم رحلت مع أسرتي عن «الكامب»، لأنني انقطعت بعد ذلك الرحيل عن زيارة حديقة السبيل سنوات طويلة، وعندما عاودت زيارتها، كان ذلك بشكل متقطع، كان ذاك التقليد قد ألغي، ولم تعد تلك الفرقة العسكرية الموسيقية تقوم بزيارتها كالسابق.
كنت في ذلك الصباح أفكر بماري روز وطلبها الغريب! خاصة عندما سألتها إن كانت قد أخبرت بقية الأطفال من «الكامبات»؟ هزت رأسها نفياً، ثم قالت: أرجو ألاّ تفعل. أريد من هذه الزيارة أن نكون لوحدنا.. أنا وأنت فقط.. أما في المرات القادمة فلا بأس إن دعوناهم إلى زيارة الحديقة معنا.
وافقتها على طلبها، وأنا على شيء من التشويش والتساؤل!
قبل الحديث عن ماري روز، أود الحديث عن حديقة السبيل، لقد سميت بالسبيل، لأن المرء عليه أن يقطع سبيلاً طويلاً من أجل الوصول إليها وزيارتها، فهي في برية بعيدة عن العمار، مقداراً من الساعات.. مشياً على الأقدام..
كانت تقع غرب «الكامبات»، لا تفصل بيننا وبينها سوى مرآب شركة للكهرباء قائم بالقرب من الطريق الترابي الذي يشبه الممر، يقسم المرآب إلى قسمين، وفي نهاية الطريق الترابي، وعلى بعد عشرين متراً أو أكثر بقليل، يقبع باب حديقة السبيل بقوسه القائم على طرفي المدخل فوق عضاضتين عريضتين من الإسمنت المسلح.. أما اليوم، يقول الفتى: فلا أثر لذلك القوس، إنما حل مكانه شكل جديد لا يمت بصلة إلى شكل المدخل القديم للحديقة.
يمكن للزائر أن يدخل الحديقة عبر طريق إسفلتي يلف به على شكل نصف دائرة باتجاه اليمين، ثم ينتهي إلى ساحة صغيرة.. يفضي إلى كشك حجري يجلس فيه الحارس، وإلى جانب الكشك مكان خاص لوضع الدراجات الهوائية للذين يأتون إليها على دراجاتهم. أما على يسارها فبئر مائي تعلوه مروحة هوائية لنضح الماء منه، مع مؤشر على شكل سهم يشير في حركته المرافقة لحركة المروحة إلى اتجاه الهواء والريح.
ومع تقدمنا باتجاه اليمين، عبر ممرات الحديقة الضيقة منها والعريضة، أي الرئيسية، كان أول ما يلفت النظر قفص كبير فيه طيور الطاووس.
أذكر، يتابع الفتى: كنا نتحايل عليها، عندما نريد انتزاع ريشة من ذيلها الملون الجميل.. كنا نطعمها، في أول الأمر، بعض الحبوب بأيدينا، وما أن تنتهي الحبوب لدينا، كنا نصرخ بها لنفزعها فتهرب منا، وفي حركة هروبها هذه كانت تلف بذيلها الطويل فتصبح أرياشه على الشبك الحديدي الذي يلف القفص الكبير، فنمسك ببعض أرياشه ونشدها بعنف وقوة.. لننتزعها من ذيولها.
أما إذا تابعنا سيرنا، متخطين قفص طيور الطاووس، فسنصل إلى قفص آخر به جملة من النسانيس والقردة الصغيرة، كنا نقف أمامها ساعات طويلة، نراقب حركاتها. كانت، عندما تستثار، تشن علينا هجوماً فنهرب مبتعدين عن القفص ونحن نضحك منها ثم نعود إليها لنصرخ بها من جديد، ونقوم بحركات لإثارتها وهيجانها.. وعندما يتم لنا ذلك، كنا نشعر بأننا فزنا في معركة، لنعود إلى البيت مزهوين بأنفسنا كتلك الطيور- طيور الطاووس- ممتلئين نشوة وغروراً.
كنا نستمر في السير، يتابع الفتى: فنصل إلى بركة ماء من الحجر المنحوت، والمزخرف الجوانب. وخلف البركة كانت تقوم واجهة حجرية ينبثق منها رأس أسد حجري، يتدفق من شدقه نافورة ماء عذب، في منظر جميل وساحر.. خاصة في ساعة الصباح الباكرة، حيث الشمس تكون في لحظة شروقها الأولى، كانت النافورة ورأس الأسد يبدوان كأنهما ينبثقان من نور في صورة ساحرة وخلابة.
كنا بعد ذلك نصل إلى تلك الممرات القصيرة والضيقة التي تتوزع الحديقة، حيث تعلو أشجارها هنا وهناك في جزر صغيرة، لتميل ذراها فوق جسور وقناطر واطئة، يتسلقها الزائر بسهولة وهو يلتفت إلى يساره فيرى المياه الشفافة المتدفقة، حيث تجري إلى أمكنة مجهولة تختفي ما بين صخور وأعمدة ملقاة بفوضى في مجرى الماء.
وقبل أن أتحدث عن كشك الموسيقا، أريد أن أتحدث عن قفص آخر، ولكنه يمتاز هذا في بنائه، وتصميمه عن الأقفاص الأخرى للطيور والنسانيس، فهو مبني خصيصاً للغزلان، كان عددها أحياناً في ازدياد وأحياناً أخرى في نقصان.. أما منظرها فكان جميلاً بحيث كنا نجلس أمامها، على الكراسي الخشبية، ونراقبها ساعات طويلة. ننظر إلى عيونها السود، وإلى سيقانها الرفيعة الرشيقة، وإلى وجوهها المرسومة بإتقان، وإلى آذانها الناعمة الصغيرة، وإلى خصورها الضامرة، وبطونها المسحوبة إلى الداخل.
واليوم أذكر، كم من المرات أغمضت فيها عيني، لأستعيد المشهد وأتخيله من دون ملل، لأنتهي إلى قول: سبحان الله ما أجمل ما خلق وما أبدع! أذكر، كم كانت تلك الحيوانات تدخل الطمأنينة والهدوء إلى النفس.
* * *
استغربت والدتي، يتابع الفتى: مجيء ماري روز في ذاك الصباح الباكر.. وقبل أن تفتح أمي معها باب السؤال والجواب، أمسكت بيدها وقلت لها: هيا.. ثم اندفعت بها إلى خارج «الكامب» قبل أن تتمكن أمي من سؤالي: إلى أين؟ وعلى الطريق الترابي الذي يقطع تجمع «الكامبات» انحدرنا باتجاه باب حديقة السبيل. كان الصمت قد لازمنا حتى وصولنا إلى الحديقة. التفت إليها وأنا أبتسم. ابتسمت لي وقالت سائلة: أحقاً لم تر الفرقة الموسيقية من قبل؟
أجبتها: لا.. ولكني سمعت باسمها.
قالت: الآن سترى أي فرقة رائعة هي، وأي عازفين رائعين هم.
سألتها: ولكن ما الغاية من هذا الأمر؟ أقصد عزف الموسيقا.
أجابتني: لا أعرف. ولكني سمعت من بعضهم، من أجل إدخال السعادة إلى قلوب الناس.
رددت كالببغاء: من أجل إدخال السعادة إلى قلوب الناس!
أجابت: نعم..
كان كشك الموسيقا الذي وصلناه بناء كبيراً، كنت قد مررت به أكثر من مرة فيما سبق من زياراتي إلى الحديقة ولكنه لم يثر انتباهي أو فضولي ذات يوم. كان البناء يرتقي إليه الناس عبر درجات خمس، حجرية، جميلة على شكل نصف دائري، كان بناء الكشك دائرياً، يرتفع سقفه الذي يشبه القبعة على ستة أعمدة حجرية رشيقة.. توزعت حول البناء كراسي خشبية جميلة، للجلوس عليها والاستماع إلى ما يعزفه العازفون.
أذكر، مع وصولنا إلى الكشك وصلت الفرقة الموسيقية التي صعدت الدرجات، وتوزع أفرادها جالسين فوق الكراسي الحجرية، وهم يحملون آلاتهم الموسيقية، وكانت جميعها آلات نحاسية نفخية، منها الكبير، وفيها الصغير. أما العازفون فكانوا يرتدون ثياب «الشرطة»، سراويل قصيرة كشورتات وكتافيات وبعض الأشرطة الذهبية المتدلية عن الكتف إلى الصدر، وقبعات خاكية اللون، وما أن جلسوا وأخذوا يدوزنون آلا تهم حتى وجدت ماري روز قد اندمجت بالجو كاملاً، بعد أن أمسكت بيدي وضغطت عليها عندما أردت سؤالها عن الفرقة، تعلمني بذلك أن أسكت وأستمع.
وهذا ما كان مني خلال أكثر من ثلاثة أرباع الساعة.. وما أن انتهوا حتى سألتني: هل أعجبك العزف؟
لم أقل لها لا، وأيضاً لم أستطع أن أقول لها نعم.. نظرت إليها..
يا ليتني لم أنظر إليها، لأنني وجدت على خديها دمعتين كانتا قد انزلقتا من عينيها. استغربت الأمر تماماً. أمسكت بيدها وضغطت عليها، لأنني لم أستطع سؤالها عن سبب البكاء.
ظللنا جالسين على الكرسي بعد أن ذهبت الفرقة، وبقي الكشك فارغاً يعاني من الصمت بعد أن كان يضج بالصخب والموسيقا قبل حين.
قامت ماري روز وهي ما تزال ممسكة بيدي، بحيث لم أجرؤ على سؤالها إلا بعد أن خرجنا من الحديقة وابتعدنا عنها: كأني رأيتك تبكين؟
لم تجب، ظلت صامتة وهي تسير إلى جانبي شاردة..
هتفت بها: روز.. ما بك؟
التفتت إلي، ما لبثت أن ضحكت، أو حاولت الضحك، ولكنها لم تنجح في ذلك كاملاً. كان الانفعال والافتعال سائداً في سلوكها وحديثها..
عدت إلى سؤالها: ما الأمر الذي أبكاك في الموسيقا التي سمعناها يا روز؟
أجابتني: لم تبكني الموسيقا، إنما عازف الموسيقا!
استغربت جوابها فقلت: أي عازف منهم، لقد كانوا ستة عازفين؟
أجابت: واحد منهم.
سألتها: لماذا؟
لم تجبني، ظلت صامتة وهي تسير إلى جانبي.. ما لبثت أن أجابت قبل أن نصل إلى «الكامبات»: لأنه يشبه أبي.
قلت بدهشة: يشبه أباك؟
أجابت: نعم.
ثم هرعت مهرولة إلى «الكامب» الذي يقع فيه بيتها، وهي تقول بصوت عال: سأخبرك الحكاية كاملة ذات يوم.
وقفت أنظر إليها وهي تتوجه إلى بيتها في «الكامب» القصي البعيد عن «الكامبات» الأخرى.
كان لا بد للفتى.. أن يعود إلى البداية وهو يتساءل: كيف له أن ينسى تلك الطفلة التي ماثلته في السن، طوال هذه السنوات، تلك الطفلة الصغيرة ذات العينين الزرقاوين والشعر الأحمر الناري الذي كانت أمه تصفه بشرائط النار.. تلك الطفلة التي ذهب وإياها، لأول مرة إلى المدرسة، إلى صف«الشعبة» أي «الحضانة» بلغة اليوم. قبل أن ينتقلا معاً إلى الصف الأول الذي افترقا عند نهايته إلى الأبد.
هذه الطفلة ذات الشعر الأحمر التي لم ينسها أبداً، أحاط بحياتها وحياة والدتها كثير من الغموض والألغاز! أما حديث الفتى.. عنهما قد لا يصدق. قد يقال: مجرد أحداث ووقائع خيالية أراد بها أن يثبت مقدرته على التخيل.. ولكن الفتى.. لن ينقل إلا ما علق بذاكرته..
وأول ما يريد الحديث عنه، هو العلاقة التي كانت بينهما.. وهما في السابعة من العمر. كانت علاقة غامضة، رغم صغر سنهما، كانا يتعاملان مع بعضهما كالكبار. أحبها، كما أحبته هي.. دون أن يعرفا معنى الحب. إنما- هذا ما يستطيع أن يسجله عن نفسه على الأقل- الفطرة والغريزة هما اللتان كانتا تدفعانه إليها وتدفعانها إليه. كان قبل أن ينام لا يستطيع إلا أن يفكر بها.. ويتساءل الفتى.. اليوم: كم كانت قريبة مني عندما كنت أراها بثوبها الأحمر أو السماوي. ويضيف: وأحياناً أخرى، كانت نادرة، أراها بثوب أسود.. كانت تأتي إلي وتجلس إلى جانبي على الحجر الكبير الذي كان قائماً بقرب «الكامب» القصي، البعيد.. حيث تسكن مع والدتها.
اليوم، أتساءل كيف سكنت أمها في «الكامب» الخاص بالعائلات العسكرية. كان شقيقها، أي خال ماري روز، عسكرياً.. ربما لهذا السبب استطاعت أن تحصل على رخصة السكن في «الكامبات»، كان الخال برتبة عريف..
يتابع الفتى: ما أتذكره اليوم عن والدة ماري روز، كان مليئاً بالشكوك. قيل عنها: امرأة سافرة، متحررة، حتى إنها تستقبل الرجال الأغراب في بيتها.. أما أنا، فلا أستطيع أن أؤكد هذا الكلام أو أنفيه. كل الذي أذكره اليوم هو تلك العلاقة البريئة التي كانت تقوم بين طفلين، بيني وبين ماري روز..
أذكر في أول يوم لنا، بعد انتقالنا إلى الصف الأول، ذهبت إليها من أجل أن نذهب سوية إلى المدرسة ونعود معاً منها كما طلبت مني والدتها. كنت سعيداً برفقتها. أذكر أني عندما ذهبت إلى بيتها استقبلتني والدتها وقادتني إلى الداخل بعد أن طبعت قبلة على خدي. لم يكن أحد في المنزل سوى ماري روز. طلبت الأم مني أن أجلس ريثما تنتهي ابنتها من عقد ضفيرتيها.. وأثناء قبوعي وانتظاري الذي لم يطل عن الدقائق الخمس، شعرت كأنني أعيش في جو غير كل الأجواء التي عشت فيها سابقاً. بدءاً من بيتي وانتهاء ببيوت الأقرباء والجيران. كانوا جميعاً في فقرهم مثل فقر أهلي.
لذا استغربت غنى ماري روز الواضح، وأنا أدير نظري في البيت وأثاثه، ليس هذا وحسب، إنما الجو الذي يسوده. أنا لا أتذكر ما شاهدته بالتفصيل في بيت ماري روز ولكن الذي لا أقدر على نسيانه، هو أن البيت كان ممتلئاً بالأشياء حتى أن السقف بدا واطئاً أكثر من سقوف بقية «الكامبات». كانت الحاجات كثيرة وغير مرتبة أومنظمة، إنما مبعثرة هنا وهنالك.. رحت ألتفت فيما حولي مبهوراً، لا أعرف ماذا أقول؟ أي جو غريب وجدت نفسي فيه؟
أحسست بشيء من الفزع، تمنيت لو أسرعت ماري روز بالخروج إلي، حتماً لو خرجت في لحظة معينة، وهي اللحظة التي وصلت مشاعري فيها من خوف وحقد وانبساط إلى أقصاها، لقلت لها: هيا نهرب من هذا البيت الغريب يا ماري!
وفجأة، يتابع الفتى: رأيت والدة ماري روز تخرج إلي، لا أدري من أين! ولكني وجدتها تقترب مني.. كانت امرأة شابة، شقراء الشعر، ترتدي ثوب نوم حريري. شعرت كأن المكان الذي خرجت منه فيه بعض الرجال، لأنني كنت أسمع أصواتاً خشنة، أو هكذا خيل لي.
خرجت إلي ضاحكة، وهي تحمل على يديها قطعة كبيرة من(الكاتو)، موضوعة على صحن بللوري أزرق اللون، وإلىجانبها أقصد (الكاتو) سكين وشوكة.. وضعت الصحن أمامي وهي تقول: كل إلى حين تخرج ماري روز إليك.
كانت والدة ماري روز تنظر إلي نظرة غريبة. كانت تضع ساقاً على ساق.. والذي أذكره اليوم، كانت شبه عارية. كان ثوب النوم شفافاً عليها.. واليوم ما زلت أستغرب المشهد الذي رأيته، كيف كانت ترتدي مثل ذلك الثوب في ذلك الجو البارد من أواخر فصل الخريف. كانت تهز ساقها العارية الموضوعة فوق ساقها الأخرى بحركة رتيبة، وهي تشجعني على ا لأكل.
كانت تعرف، على ما يبدو أني لم أذق(الكاتو) في يوم من أيام حياتي. كانت تعرف أني سأتناول (الكاتو) لأول مرة. كانت تضحك وتقول: لا تخجل.. كل.
عندما قامت من جانبي، بعد أن انتهيت من الأكل، وهي تأخذ الصحن من يدي، كان قفاها عندما استدارت شبه عار.. كان سروالها الداخلي صغيراً إلى درجة ظننت أنها من غير سروال.
أذكر، يتابع الفتى: لم أر سروالها، ولم أتبينه إلا بعد أن تمعنت في عجيزتها.. واليوم، يتابع الفتى: لا أدري لماذا أحتقر كلمة(العجيزة) ألأنها تعني أمراً حقيراً غير جميل؟ رغم أني لست من أصحاب هذه النظرة، ولكني بحثت مطولاً لأجد كلمة بديلة لها فلم أجد واحدة أخرى تعبر عن شيء شفاف، جميل، مغر، مثير.
عندما قامت ومضت وظهرها لي، تأملت، وأنا الطفل في السابعة من عمري، قفاها بنظرة شهوانية، لا أدري اليوم وأنا أستعيد هذه الذكريات، إن كنت حقاً شهوانياً في تلك اللحظة البعيدة؟
مضت وهي تنادي: روز، روز..
في طريقنا، أنا وماري روز إلى المدرسة، كنا نسير إلى جانب بعضنا بعضاً، متجهان عبر البرية التي كانت تفصل ما بين «الكامبات» وحي «براكات السريان»، تلك البرية التي شهدت فصولاً مطولة من حياتي، عبر جميع مراحل عمري، حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها..
قالت ماري روز تحدثني عن حياتها، وحياة أسرتها: كنا نقطن في مدينة بعيدة عن حلب، لا أعرف لها اسماً، كان بيتنا واسعاً وأبي غنياً.. ولكن ذات يوم جرى شجار بين أبي وأمي. وكانا كثيراً ما يتشاجران. ولكن شجار تلك الليلة لم أر مثله من قبل، لم أعش فظائعه سابقاً، ظللت أبكي طويلاً رغم أن أمي ضمتني إلى صدرها وطلبت مني أن أكف عن البكاء، وأن أصعد إلى سريري كي أنام. ولكني لم أستطع النوم أو الكف عن البكاء.
عندما هدأ الجو في بيتنا خرج والدي أما والدتي فجلست بقرب المدفأة تفكر. كنت أحياناً أرى بعض الدموع تنزلق على خديها، وتتساقط إلى الأرض. كانت في ذهولها وشرودها أشبه بتمثال. كانت بين الفينة والأخرى تحرك أجفانها، تطبقهما بحركة سريعة، ثم تفتحهما.. ولكن هذه المرة بحركة بطيئة تماماً، كأنها لا تقدر أن تتغلب على النوم الثقيل الذي داهمها فأثقل من حركة أجفانها.
في الصباح، لا أعرف في أية ساعة، كان استيقاظي، وجدت خالي لدينا وهو يدخن بشرود. ركضت إليه وأنا أضحك.. ولكني توقفت عن الضحك عندما لم أجد على وجهه العلامات التي كنت أراها سابقاً عليه. أخذني بين ساعديه، وضمني إلى صدره، وضغط بوجهي إلى صدره وهو يطلق دخان سيكارته في الفضاء. سألني إن نمت نوماً جيداً؟ أجبته: نعم. فقال معلقاً: عال. والتزم الصمت. ظللت صامتة ساكنة، ثم ما لبثت أن ابتعدت عنه خطوتين ورحت أنظر إليه. قلت في نفسي: هذا ليس خالي الذي أعرفه! لأنني لم أجده في يوم من الأيام، على الصورة التي أراه فيها الآن. لم أره إلا ضاحكاً، يتحدث بحرارة، يلعب معي بحماس، يجعل من نفسه حصاناً لأمتطي ظهره. فيذهب في اللف والدوران على أربع..
أذكر ذات مرة سألته: لماذا تقول، سأجعل من نفسي حصاناً، وعليك بامتطاء ظهري؟
سألني بدهشة: وماذا تريدين مني أن أقول؟
أجبته: اجعل نفسك اليوم جحشاً. أليس هو أيضاً حيوان يركبه الناس؟
صرخت بي أمي، واقتربت مني مهددة بالضرب والغضب يطير من عينيها، وهي تلعنني وتلعن آباء آبائي.. فلم أجد مكاناً ألوذ به من غضبها سوى حضن خالي.. فحماني من عقاب والدتي وهو يضحك.. وفيما بعد، بعد أن مات الغضب عند أمي، وبختني، طبعاً بعد أن كان خالي قد مضى. وقالت: عيب يا ابنتي، كيف يمكن أن يقول الإنسان لخاله، أنت جحش؟ ألا تعرفين بأن هذا القول يعني الشتم؟ وعلى الطفل أن لا يشتم أحداً.
وعدتها بألاّ أعيد ما قلته لخالي أبداً.
في ذلك الصباح الذي وجدت فيه خالي على غير ما عرفته عليه سابقاً، جاءت شاحنة كبيرة، ومعها بضعة رجال لنقل اثاث بيتنا إليها. وعندما تم نقل آخر قطعة منه إلى الشاحنة، صعدت إلى كبينها أنتظر خالي ووالدتي، لنهرع إلى مدينة حلب. وجدت والدتي وخالي يقفان أمام بعضهما وكل واحد منهما يمسك بيد الآخر.
كان الدمع في مقلتي والدتي، والحزن الأسود على وجه خالي. تأثرت لمشهدهما ذاك وتساءلت: ماذا. هل يودع أحدهما الآخر؟ وأنا في حيرتي تلك رأيت خالي يميل بوجهه فوق وجه أمي، ويرفعه بأصابعه إلى الأعلى، ثم يقبلها قبلة طويلة على شفتيها!
استغربت تماماً ما شاهدت. كنت أقول: كيف.. أبي هو الوحيد الذي كنت أشاهده يقبل أمي على فمها.. أما خالي فمن المفروض أن يقبل خدها.. ولكني نسيت هذا الأمر بعد أن انطلقت بنا السيارة دون أن تحمل معها خالي الذي وعدنا بأنه سيأتي إلينا عن قريب.
ومنذ ذلك اليوم، تتابع ماري روز: اختفى والدي، لم أره أبداً، أما خالي فجاءنا بعد مدة وسكن معنا في حارة «بوابة القصب» وذلك قبل أن ننتقل إلى هنا- تقصد الكامبات.
أنا لا أنكر، يتابع الفتى: أني أحببت ماري روز. كنت أحس، وأنا في تلك السن، في السابعة، برغبة قوية أن أكون إلى جانبها. لأخفف عنها ألمها عندما كنت أراها تعاني منه. كنت أحس برغبة قوية في لمس أطراف ثوبها عندما كنا نجلس على العشب أو على حجر. أو أن أمسك برؤوس أناملها.. وفي لحظة وجد كنت أرفعها إلى فمي لأقبلها.
كانت تدعني أتصرف معها مثل هذه التصرفات، وهي تضحك وتقول لي: لماذا تفعل هذا؟ وكنت أحياناً أجرؤ على الالتصاق بها ولثم خدها، أو قطف قبلة سريعة من ثغرها، لأهرب بعد ذلك بأقصى سرعة ممكنة إلى البيت. أذكر، في اليوم التالي الذي يعقب مشاغباتي هذه، كنت أخجل من الذهاب إليها. فكانت هي تأتي إلي وفي عينيها حزن أسود! تنظر إلى عيني طويلاً، ما تلبث أن تمد يديها وتمسك يدي، تضغط عليهما، ثم تسحبني وراءها لنخرج من البيت إلى حديقة السبيل، أو إلى الجلوس تحت شجرة الزعرور البرية القائمة على أطراف المرآب لمدة طويلة.
يتابع الفتى: عندما انتهى العام الدراسي، ذهبت كالعادة إلى القرية، وبقيت الصيف كله لدى جدي، أما عندما عدت فكان أول عمل قمت به، أن ركضت إلى «الكامب» القصي حيث بيت ماري روز.
وصلت «الكامب»، وكان صغيراً بالنسبة إلى «الكامبات» الأخرى. كان مؤلفاً من ثلاث أو أربع غرف، لم أعد أذكر، تسكن كل أسرة من الأسر في غرفة واحدة. كانت الغرفة، حيث تسكن ماري روز، فارغة، لا أحد فيها! وقفت أنظر إلى الفراغ الذي جابهني، لا شيء في الغرفة سوى طبقة حديثة من الغبار ديست بأقدام صغيرة وأخرى كبيرة. وكان الصمت، حتى الآن أذكره، مضخماً، كان الصمت سيد الموقف الذي وجدت نفسي فيه.
ماذا يعني أن تكون الغرفة التي سكنتها أسرة ماري روز فارغة؟ ماذا يعني هذا الفراغ الذي وجدت نفسي فيه؟ ماذا يعني هذا الصمت الذي قابلني وحيداً؟ لم أجد لتساؤلاتي هذه أجوبة تنقذني من حيرتي إلا بعد عدة أيام، كنت، في كل يوم، أسمع نتفاً من الحكاية التي كان بسببها، أني وجدت الغرفة فارغة، تغرق في الصمت الذي تحدثت عنه.
يتابع الفتى: كانت الحكاية.. سكت الفتى.. ثم تابع مصححاً: لكي أكون موضوعياً سأسرد بقايا الحكاية بعد مضي هذه السنوات على وقائعها. قد أضيف بعض الوقائع أو أحذف بعضها الآخر، ولكني يقيناً لن أتحدث إلا عن جوهرها.. لأنها غريبة، هكذا وجدتها في ذلك اليوم، وهكذا أجدها اليوم بعد أن أعدت صياغتها في نفسي مئات المرات..
لا أحد من ساكني «الكامبات»عرف لماذا تم ما تم؟ وكيف وقع ما وقع؟ كل الذي عرفوه أو سمعوا به، أن عدة طلقات نارية دوت في إحدى غرف «الكامب»حيث بيت ماري روز، في ساعة العصر. قبل غروب الشمس. فخرجوا من بيوتهم ووقفوا بأبوابها وهم ينظرون باتجاه مصدر طلقات النار باستغراب.. ظلوا يحدقون باتجاه «الكامب»كأنهم يحاولون بذلك، وهم يركزون انتباههم، بتكذيب ما سمعت آذانهم.. كـأنهم يقولون لأنفسهم، لقد تخيلتم ما سمعتموه، لماذا الرصاص في مثل هذا الوقت الطيب من أواخر الصيف، وقبل أن يتنهدوا بارتياح، ثم يعودوا إلى داخل بيوتهم، وهم ينفضون الوهم والقلق وحتى الرعب الذي أحس به بعضهم. شاهدوا خروج خال ماري روز، والدماء تغطي صدره وهو يبكي ليرمي نفسه على الأرض، أمام باب «الكامب» ويعفر رأسه بالتراب.
ندت من بعض الجيران صرخات، وأصابهم كثير من الرعب وهرع بعض آخر باتجاه «الكامب»فشاهدوا والدة ماري روز جثة هامدة، وشقيقها غائب عن الوعي بعد أن غطى رأسه بالتراب تماماً..
طبعاً جاءت مفرزة من شرطة الثكنة، أخذته، ثم جاءت الجنائية لتأخذ جثة والدة ماري روز إلى المشرحة في الطبابة الشرعية، بعد أن قاموا بالإجراءات اللازمة.
ومنذ تلك الساعة ولمدة عدة شهور كان الناس يؤلفون قصصاً وحكايات حول حادث القتل ذاك. ولكن الجميع اتفق في نهاية الأمر، أن القاتل لم يكن شقيقاً لوالدة ماري روز، إنما كان عشيقها! أما أسباب قتله لعشيقته فلا أحد يعرفها، إنما جرت حكايات وقصص أخرى، ولكن جميعها كانت تصب في أن الغيرة هي السبب. أما ماري روز فلا أحد يعرف مصيرها، لأنها ذهبت، أو الأصح، أخذها رجال الجنائية لكونها ابنة وحيدة للمغدورة، ولا أحد يمكن حمايتها سوى الحكومة.
على هذه الصورة اختفت ماري روز من حياة الفتى.. ولكن صورتها لم تختف من ذاكرته أبداً، ما زالت حية في داخله، لا يقدر على نسيانها رغم أنه حاول ذلك مراراً.




3-
لئن بقيت على قيد الحياة فسأتذكر هذا المساء إلى الأبد.
إيفان بونين
• إن قلبي هو الذي يقص.
أندريه جيد
• ما أسرع ما تمضي الحياة! كل شيء يجري، كل شيء يتغير.
دوستويفسكي
•يجب أن أقول كل شيء. كل شيء. أجل كل شيء!
أليخو كار بنتيه
عندما انتهى فصل الصيف، وقبيل افتتاح المدرسة أبوابها، كان الفتى يعد نفسه ويجهزها للقاء آنسته مريم ويدخل إلى الكنيسة ليشم رائحة البخور، ويرى السيد المسيح، ويتأمل الملائكة الذين يضمون أياديهم إلى بعضها، وهم يرفعون وجوههم إلى السماء، باتجاه السيد المسيح المصلوب في الأعلى وهو «أي الفتى»ينظر إلى رمح القديس جرجس المنغرس بالتنين، أو يغفو دون نوم على تراتيل الأطفال التي ينشدونها. كان الفتى.. في حالة استعداده هذه، عندما جاء والده في إجازة، وفي اليوم الثاني أو الثالث. لم يعد يذكر، ذهب به إلى مدرسة(حطين) الرسمية ليسجله فيها لمتابعة دراسته الابتدائية.
كانت المدرسة تقع ما بين «الكامبات» وبين حي براكات السريان، وهي مدرسة تابعة للتعليم الحكومي، تنقسم إلى قسمين، قسم نهاري وقسم آخر ليلي. كان القسم الليلي تابعاً إلى إحدى الجمعيات الخيرية التي ترعى اليتامى في تعليمهم. أما القسم النهاري فكان للتلاميذ غير اليتامى.
كانت الصدمة التي تلقاها الفتى كبيرة في اليوم الأول من ذهابه إلى المدرسة: كانت، يقول الفتى.. حديثة البناء، مقسومة إلى قسمين، الأول يقيم التلاميذ اليتامى وينامون فيه، يتناولون طعامهم ويغتسلون فيه. أما القسم الثاني فكان مؤلفاً من صفوف الدراسة النهارية.
كان المبنى بقسميه على شكل مثلث غير متساوي الأضلع. فمن جهة الشرق كان الضلع ينتهي قبل أن يلتقي بالضلع الشمالي، ينتهي بردم ترابي ضخم، يحاذي طريق إسفلتي. أما الضلع الجنوبي فكان ينتهي أيضاً، دون الالتقاء بالضلع الشرقي، حيث ينتهي بسور المدرسة، رغم(وساعة وفساحة) باحة المدرسة، إلا أني، يقول الفتى: كنت أشعر بالاختناق.
وجدت نفسي غريباً فيها، رغم أن معظم التلاميذ كانوا أصدقائي الذين انتقلوا مثلي من مدرسة (بني تغلب) في براكات السريان. كنت أشعر بغربة وحشية، أبكي ما بيني وبين نفسي، وأقول: أريد أن أعود إلى مدرستي في براكات السريان، ثم أوضح: هذه ليست مدرسة، هذه كل شيء ولكنها ليست مدرسة! ثم راحت العداوة تنشأ بيني وبين مدرسة حطين وبما تحويه جدرانها من أساتذة ومدير ومعاونين وتلاميذ نهاريين كانوا أم ليليين. كنت ابكي وأطلب العودة إلى آنستي، أريد أن أصلي، أريد أن أتأمل المسيح، أريد أن أرتل الأغاني والأناشيد مع أترابي من الأطفال الصغار.
ولم ألق جراء هذا، سوى الإهمال من الجميع، خاصة من قبل والدي.. وذات يوم لم أحتمل وضعي أكثر مما احتملت، فهربت من المدرسة باتجاه حي براكات السريان، ومن ثم توجهت إلى مدرستي. وأنا اشعر بمشاعر غريبة من الفرح والشوق والحنين، ومشاعر أخرى غامضة ما تزال تمور حتى اليوم في صدري، مكان القلب.
كانت حالتي، في الساعة التي توجهت فيها إلى المدرسة في حي براكات السريان، غريبة، لا شيء يشبهها سوى حالة العائد إلى الحياة بعد موت دام أياماً!
كنت أحث قدمي رغم ركضي، من أجل أن أصل إلى مدرستي وآنستي بأقصى سرعة ممكنة.. وها أنذا أقترب منها، أكاد أن أصل إلى جدار باحتها، ألمسه وأنا لا أصدق بأني أصبحت أمام الباب الحديدي الكبير المدهون باللون الأسود. لا أصدق أني وصلت.. فمددت رأسي محاولاً أن أدخل وجهي بين تربيعات الباب الحديدي المزخرف، لأرى وجوه التلاميذ في الباحة.. ولكن المفاجأة كانت كبيرة لي، عندما وجدتها مغلقة الأبواب! كان اليوم، يوم أحد..كيف نسيت ذلك؟ يسأل الفتى..
استيقظت، كمن سكب على رأسه سطل من الماء. صحيح، إنه يوم أحد، يوم عطلة. كيف لم أفكر في ذلك قبل هربي من المدرسة التي نقلت إليها متوجهاً إلى مدرستي القديمة التي نقلت منها. ودون وعي مني، جلست على العتبة، كانت عبارة عن حجر يعلو الرصيف كدرجة في ارتفاعها. جلست مسنداً ظهري إلى حديد الباب الأسود صامتاً، حزيناً، خائباً.. ولم أستيقظ وأتنبه إلى ما حولي إلا على صوت قصف الرعد ولمعان البرق.
كانت السماء فوقي فاحمة، مثقلة بكتل الغيوم الزاحفة على مستوى منخفض جداً، حتى أني تخيلت، لو رفعت يدي لأمسكت بأطراف هذه الغيمة القاتمة أو تلك السوداء. شعرت لو أني قفزت إلى الأعلى قفزة واحدة لتعلقت بأسلاك البرق التي تدلت من بين الغيوم كشرارات، ثم تنفجر بين طياتها السود مدوية كقنابل موقوتة.
في البداية، شعرت بالفرح! رحت أركض مع تساقط أولى حبات المطر الكبيرة التي كانت تحفر وجه الأرض حفراً، وتتناثر من حولها الأتربة والغبار، فتصعد إلى الأنف رائحة الأرض الزكية والعبقة المحببة إلى النفس.. ولما كانت المدرسة على أطراف حي براكات السريان، فكان الوصول إلى أطراف البرية سهلاً علي.. فركضت أريد أن أجد نفسي وسط البرية، لأرى السماء كلها، أرى السماء في عليائها، سماء لا تحدها البيوت.. كانت غايتي من ذلك أن أسمع صوت الرعد بالكامل، وأرى شرارات البرق على مداها. لا أريد أن يحد نظري أو يمنعه من رؤية ما أريد، وما أشاهد.. لذا أخذت أركض وأركض وأنا فرحان، أنشد مع نفسي التراتيل والأناشيد التي تعلمتها في كنيسة المدرسة. كنت أرفع وجهي إلى السماء، عندما بدأت قطرات المطر الكبيرة في التساقط، ثم التهاطل، التي أصبحت بعد دقائق سيولاً، تنسكب من الأعلى، مع استمرار قصف الرعود بين طيات غيومها السود.
أذكر اليوم، يتابع الفتى: لم تمر دقائق حتى شعرت بالألم في وجهي، شعرت كأنه يجلد بالسياط، فأخفضته، وحاولت أن أخفيه بين كتفي. وبعد مضي دقائق أخرى، وجدت نفسي أزرب ماء، بعد أن تبللت، لا بل غرقت ثيابي بالماء. ومع مرور دقائق أخرى، بدأت أشعر بالخوف، وأنا في وسط البرية الواقعة ما بين حي براكات السريان وبين(الكامبات). كنت أحس بأن البرق يضيئني مع كل لمعة من لمعانه، ولن يلبث الرعد أن يقتلعني من الأرض مع قصفاته.. خاصة، عندما تذكرت عن جدتي، قولها إن الرعد ضرب في قريتنا رجلاً مع ثوره وبقرته ومحراثه وهم في وسط البرية حيث توجد أرضه، كان يحرثها، فأصبح الجميع دفعة واحدة فحماً اسود بعد أن احترقوا بالنار التي أشعلتها فيهم الرعود والبروق. لهذا شعرت بخوف شديد يعصف بكياني، فرحت أبكي بشدة.
أذكر أن الخوف كان قد اشتد بي مع لمعان البرق وقصف الرعد، لذا كنت تراني أركض من دون وجهة محددة أقصدها، وأنا أصرخ منادياً على أمي وأبي.
لا أعرف اليوم كم من الوقت ظللت على حالي هذه في تلك البرية. لأني فجأة وجدت نفسي أمام جدتي، وهي تحمل بيمناها كيساً من أكياس الطحين السميكة، تلفني به، ثم تحملني على ظهرها، وتهرع بي إلى البيت.. لأصاب بعد ذلك بالحمى لأول مرة والتي عانيت منها لسنوات طويلة.. لمدة أربعة أيام وحرارتي لا تنخفض عن الأربعين درجة، حتى أنهم يئسوا تماماً من شفائي.
كانت أمي وجدتي وأبي قد قالوا لي فيما بعد: كنا قد فقدنا الأمل في شفائك، حتى إنني- يقول أبي- في إحدى المرات، قمت وتوجهت إلى سوق المدينة لأجهز لك الكفن ظناً منا، أنك ميت لا محالة.. لا بل، في لحظة بعينها مت تماماً، وعندما عدت أحمل لك الكفن، كانت الحياة قد عادت إليك من جديد!
قبل اليوم الخامس أخذت الحرارة تنخفض رويداً رويداً، إلى أن بلغت حدها الطبيعي.. ولكن الحمى لم تترك منك إلا صبياً من جلد وعظم. رغم هذا، حمدنا الله على العظم والجلد اللذين بقيا لنا.
كانت جدتي في تلك السنة، قد بدأت بزيارتنا المتكررة لأسباب طبية، بعد ان أخذت تعاني آلاماً رهيبة في رأسها، كانت تقول: أشعر بصداع مخدر، يذهب بي بعيداً، يرميني في نوم ثقيل، لا أستطيع أن أفيق منه.. ثم تضيف: لو انتهى مرضي بهذا الحد فقط، لما راجعت طبيباً، لفضلت الخدر الذي أعاني منه، الخدر الذي يرميني في نوم حرمت منه طويلاً.. ولكن الألم الناري، أو الجهنمي كما كانت تقول عنه، ما يلبث أن يتسلل إلى رأسي، ويعصف به، يحرقه من الداخل، يفرغه، ثم يفجره بقوة.. فأقع أرضاً، وأنا آخذ رأسي بين يدي، أضغط عليه براحتي، أحاول أن أوقف فيه الألم، أو أضغط عليه لكي لا ينتشر في أرجاء جمجمتي.. أريد أن أحصره في أصغر بقعة ممكنة من رأسي، ولكني أفشل، لينتشر الألم وينتشر وينتشر حتى يلف كامل رأسي، أحس بدماغي يغلي ويفور، ثم ينسرب من فتحتي أذني وأنفي ومن عيني.. يسيل الدماغ من الفتحات التي ذكرتها حتى تفرغ جمجمتي تماماً، لا يبقى فيها شيء.. لأهدأ بعد ذلك، مع ابتراد رأسي، لأشعر بثقل في أجفاني وأنام، أنام على خوف.. وأنا أسأل نفسي ماذا لو عاودني الألم؟ ماذا لو سال الدماغ من جديد من فتحات رأسي؟ وأظل على خوفي هذا حتى أغفو وأنام.
هذا ما كانت جدتي تقوله لكل النساء اللواتي كن يلتممن حولها، يسألنها عن مرضها وألمها الغريب الذي لم يكتشف الأطباء سبباً له. كانت جدتي تغير طبيباً بعد آخر، كلما فشل الجديد في إيقاف آلامها، تعرج على طبيب آخر.. على أنه بارع وناجح. وعندما فشل جميع الأطباء مع أدويتهم التي كانوا يصفونها لها، من إيقاف الألم الذي كان ينتشر ويمتد من رأسها إلى بقايا جسدها، اقتنعت بأن لا دواء لمرضها عند الأطباء، فلجأت إلى المشايخ ورجال الدين.
هكذا بدأت رحلتها لسنة أخرى مع الألم، ومع جلسات المشايخ الذين توصلوا في نهاية المطاف، بعد أن فشلوا في شفاء جدتي، على أن جنياً، لا يذكر اسمه، خوفاً ورعباً منه، قد تسلل إلى رأسها، واستقر فيه، وهو لا يريد الخروج منه. لقد حاول المشايخ معرفة الأسباب التي دخل من أجلها ذاك الجني إلى رأس جدتي، ففشلوا.. وبذلك فشلوا في معرفة مطالب الجني القابع في رأس جدتي. قال أحدهم، وكان قوله فيه الجد أكثر مما يحمل المزاح الذي حمله قوله، على أن جدتي عشيقة لذاك الجني رغم إرادتها، لذا فهو يرفض الخروج من رأسها. يطلب منها أن ترضخ له، ولكن ليس رغماً عنها، إنما عن محبة وعشق.
كانت جدتي تضحك لمثل هذا الكلام وتقول: ألم يبق من النساء، خاصة العجائز، في هذه الدنيا سواي، حتى يتخذني عشيقة له؟ ثم تذهب في ذكر أسماء بعض النساء اللواتي كانت القرية تشهد لهن بالجمال والحلاوة، وتضحك طويلاً وتقول: لا تجنوا يا ناس!
وهكذا ذوت جدتي يوماً بعد يوم وهي تعاني من مرضها الأمرين إلى يوم وفاتها، وكان ذلك في أحد الأيام من شهر أيار في سنة 1955».
لقد ذهبت، يتابع الفتى: بعيداً عما كنت أسرده.. لنرجع إلى حكاية هروبي من المدرسة.. كان تلاميذ صفي، وبقية الصفوف قد انصرفوا منها ظهراً إلى البيت، وصل الجميع إلا أنا، والجو في ذلك اليوم ينبئ بيوم شتوي رهيب. كانت السماء جهة الشرق تمتلئ بالغيوم السود، وتزحف ببطء وثقل باتجاه الغرب. مع اشتداد البرد وهبوب الريح في هبات قوية، وفجائية بحيث تقتلع الأشياء من جذورها.
كانت جدتي خائفة، لقد مال الوقت باتجاه ساعة العصر ولم يعد حفيدها، لقد عاد جميع التلاميذ إلا أنا. أمي لم تكن في البيت، أما والدي فكان في زيارة لأسرة أحد الجنود في الجبهة الذي أوصاه بزيارة عائلته، وحمل بعض الحاجيات لها، وإعلامها بأن ربها سيعاودهم خلال الشهر القادم في إجازة.
لم يكن في البيت سوى جدتي. كانت قد سألت عن سبب غيابي جميع التلاميذ الذين عادوا إلى بيوتهم، فلم يسعفها أحدهم بجواب. كان جواب الجميع، لم نره في المدرسة، باستثناء واحد فقط، قال لها: لقد رأيته في فرصة الحصة الثالثة. كان حزيناً.
عندما بدأت قطرات المطر الأولى بالتساقط، عرفت جدتي أن مطراً مجنوناً سيهطل، وجواً رهيباً، مرعباً سيسيطر على السماء. عرفت أيضاً، أن الغيم الأسود سيكون منخفضاً، قريباً من سطح الأرض، سيكون الرعد والبرق فوق الرؤوس، بشراً كانوا أم أشجاراً أم أعمدة هاتف أو كهرباء، قد تلامس بعضها وجه الأرض فتحرق كل ما تحس به وتلامسه.
كانت جدتي تخاف البقاء في البرية، في مثل هذا الجو، لأن البرق يبحث عن كل ارتفاع، ولو لعدة أشبار، لينقض عليه فيلفه بناره، يجعل فيه شرارته الجهنمية، لا يتركه إلا كومة من الفحم الأسود. لذا خرجت جدتي، ووقفت أمام باب البيت تنظر جهة الشرق الذي أصبح أسود، بحيث تدلت الغيوم بانحناءات واستطالات حتى لامست الأرض.. ومع أولى القطرات الكبيرة من المطر التي أخذت تحفر وجه الأرض كما يحفر الجدري الوجوه الآدمية، بسملت جدتي في نفسها: بسم الله الرحمن الرحيم.. ومع قصفة من قصفات الرعد القوية ارتدّت إلى داخل البيت، وسحبت كيساً فارغاً من أكياس الطحين.. ألقته على ظهرها وهرعت إلى الخارج، لتسلك الطريق الترابي المؤدي إلى المدرسة عبر تلك البرية التي باتت تخيف للسواد الذي حط عليها.
سلكت جدتي الطريق الترابي والسماء في بداية اعتصارها وانطلاق أولى قطراتها باتجاه الأرض. كانت وهي تسرع في خطوها، تشعر كأن رأسها يختفي بين أطراف الغيوم السود المتدلية. بحيث لا ترى أمام عينيها الطريق».
كنت، قالت جدتي: مضطرة إلى أن أنظر إلى الأسفل، لأرى الطريق الذي أسير عليه، لأتأكد من أني أسير على الطريق الذي سيؤدي بي إلى حفيدي.. وفي منتصف الطريق، شعرت.. كأن الغيوم التي كانت تحبس الماء في جوفها، قد فتحت نوافذها لتهطل منها الأمطار.. وأي أمطار تلك التي هطلت؟ رغم هذا، أضافت جدتي، لم أبطء من سيري. تابعت بأقصى سرعة، لأقطع الطريق إلى المدرسة.. وفجأة رأيت نفسي أمام حفيدي. كان واقفاً وهو مبلل بالكامل، يبكي بصمت. لم أسأله عن أسباب بكائه، نزعت عن نفسي الكيس ولففته به، ثم رفعته عن الأرض، وحملته على ظهري، وهرعت به إلى البيت.
حاولت أن لا أقف، أن أسرع بقدر ما أستطيع، لأنهم قديماً قالوا، في الوقوف تحت العاصفة موت، لأن العاصفة ستلم رأس الواقف ورأس البرق والرعد في عناق نتيجته الموت المحتم! لهذا، تابعت جدتي: ما كان أمامي سوى الركض لكي أحبط محاولات البرق والرعد لنيلهما مني ومن حفيدي.
ومع وصولي إلى البيت، قابلت صهري وابنتي بوجهين أصفرين يكاد الموت أن يخطفهما. قلت لهما: لا تخافا.. إنه بخير».
أما الحقيقة، يقول الفتى: «فلم أكن بخير. كنت أرتجف من البرد، رغم تغيير ثيابي المبللة بأخرى جافة. ولكن هذه المرة ليس برداً، إنما ارتجاف الحمى.
سألني أبي بعد بلائي من المرض، عن أسباب هربي من المدرسة؟ قلت له، لم أهرب، إنما ذهبت إلى مدرستي في حي براكات السريان، ولكني وجدتها مغلقة.
قال أبي: ولكني قلت لك يا بني، أنك انتقلت إلى مدرسة أخرى.
وأراد أن يتابع، ولكنه لم يستطع، فقام، دار حول نفسه دورة كاملة، ثم جلس مقرفصاً فوق حصير ممدد على الأرض. أمسك بعضديّ المسبلين إلى جانبي وقال: بني، يجب أن تعرف. نحن فقراء.. وليس بإمكاني أن أعيدك إلى مدرسة السريان..
ظل والدي ينظر إلى وجهي بعد أن صمت. كان يحاول بذلك أن يتأكد من أني فهمت واستوعبت ما قاله لي.
شد على عضديّ مرة أخرى، ثم قام ومضى.
ما قاله والدي في ذلك اليوم البعيد، كان أول يوم بالنسبة لي أعرف فيه بشكل مباشر ماذا يعني الفقر؟ منذ ذلك اليوم عرفت أن الفقر يحرم الإنسان من الأشياء الجميلة التي لا يستطيع الوصول إليها إلا بالمال. يعني أن لا يندفع باتجاه الحياة، وأن يخاف من الانخراط فيها، أن يظل بينه وبين ما يريد فاصلاً، حاجزاً غير إنساني، لا يقدر على اختراقه! لذا، على الإنسان أن يكون مستعداً في كل لحظة له بالانسحاب من الحياة، لأن الفقر هو ظل الحياة، وليس الحياة نفسها.
أما لقائي الثاني مع الفقر، يتابع الفتى: أثبت لي بشكل كلي ونهائي وقاطع مسألة، أنني ابن رجل فقير، معدم.. عليه أن يجابه الحياة على هذا الأساس من دون أوهام أو أحلام زائفة.
أذكر: عندما اجتاحتني الحمى وألقتني طريحاً بين الموت والحياة في الفراش، واللهب يتصاعد مني، كنت أمزق كل الألبسة التي كانت تلبسني إياها أمي. أدفع عن نفسي كل ما كانت تحاول أن تدثرني به. كنت أجن، أثور، أرغي، أزبد.. ثم فجأة أهدأ، أو لأقل أنطرح انطراحاً على الفراش فتأخذني الحمى بين أذرعها المئة، تضمني أياديها، تخفيني في قلبها! ثم تعود وترميني بين هذيان، ورؤى، وصور، وأحلام لها طابع الكوابيس..
قيل لي، بعد أن أبليت من المرض، وعدت إلى الحياة، على أن حرارتي كانت تصل إلى أربعين درجة وعدة شخطات.. ولكن الله كان رفيقاً بي، فلم يخترني إلى جواره. عندما وقعت طريح الفراش، وارتفعت درجة حرارتي، واجتاحتني الحمى، نصحت جارات والدتي، أن تحملني إلى الطبيب بأقصى سرعة، ولكن أمي لم تحرك ساكناً، إنما أجابت قائلة: سيهدأ بعد حين.. لقد تعود جسده على المرض، وهذه المرة ليست الأولى التي يصاب بالحمى.
كانت أمي صادقة فيما قالته. ولكن اليوم هو المرة الأولى التي ينهك فيها جسدي هذا الإنهاك، وتطرحني هذا الانطراح. كانت، ولأول مرة، تدفعني الحمى باتجاه سرير الموت. هذا السرير الذي خطف من أسرتي أخين وأخت واحدة، وكنت المرشح لأكون الصبي الثالث والمولود الرابع لأمي.
كنت أشعر وأنا شبه غائب عن الوعي، بازدياد الزوار من حولي، كان معظمهم من النساء، وأسمع علو موجة البكاء بينهن بين الفينة والأخرى، كأني ميت. لقد وصلت بعض النسوة الزائرات إلى قناعة، أنني سأموت لا محالة هذه اللحظة أو تلك.
كنت أحترق، أجف، تتبخر المياه من جلدي. لقد دفعت أكثر من واحدة مصاغها لأمي، لكي تبيعه وتأخذني بثمنه إلى ا لطبيب.. ولكن أمي كانت صابرة، تبكي بصمت، تقول لهن: أشكركن، ستخف حرارته بعد قليل، ويوم الثلاثاء قريب؟
كان مشفى(فريشو) يستقبل مرضاه الفقراء بالمجان في يوم الثلاثاء من كل أسبوع. أذكر، يتابع الفتى: كنت تجد طابوراً لا آخر له من الأمهات، وكل واحدة منهن تحمل طفلاً أو اثنين، وأحياناً ثلاثة مهزولي الجسم، مرضى بشكل لا يصدق، ينتظرن الطبيب، أو ينتظرن دورهم في الوصول إلى الطبيب.
كانت تساعده في عمله امرأة تلبس رداء أبيض، ذات قسمات جهمة، تملك ساعدين كساعدي المصارعين، وأحياناً كساعدي الملاكمين من الوزن الثقيل. كانت الممرضة تدفع بالصبي المريض باتجاه الطبيب بيد، وتبعد الأم بالأخرى إلى بضعة أمتار، تصرخ بها، ابتعدي عن الطبيب، قولي مما يعاني ابنك، تكلمي دون أن تقتربي منه.
كانت الأم تحاول أن تشرح للطبيب ما يعانيه ابنها المريض.. ولكن الطبيب، كان ينظر إلى الصبي المريض نظرة عابرة، ثم ينهمك بالكتابة على ورقة بيضاء عن نوعين من الأدوية، قبل أن تنتهي الأم من وصف أعراض المرض، فتدفعها الممرضة إلى الأم وتقول لها آمرة: هيا.. هيا إلى (الأزخانة) على اليمين.
كانت الأم ترخي حنكها وهي تتوقف عن الكلام لتخطف الورقة البيضاء من يد الممرضة، وتهرع مع مريضها إلى (الأزخانة)، وهكذا كان الطبيب خلال ثلاث ساعات لا غير، عادة تبدأ من الساعة التاسعة صباحاً وتنتهي في الثانية عشرة، من تقديم العون الطبي المجاني لأكثر من مئة وخمسين مريضاً ومريضة، كان معظمهم من الأطفال الذين لا يتجاوزون العاشرة من العمر.
رسخ مرضي هذا، من دون كل أمراضي الأخرى التي عانيت منها في طفولتي، القناعة في نفسي بأنني، حقاً، ابن رجل فقير.. لا بل في أشد حالات الفقر..
كانت الحمى التي علقت بي سبباً في مشاهدتي رؤى وخيالات، وإعادة صور لذكريات غابت عن ذهني، وإحياء لوقائع حاولت دائماً نسيانها، أو إخفائها تحت طبقات كتيمة في نفسي.. ألا وهي الواقعة الجنسية التي كانت بيني وبين(بوران) ذات يوم.
رأيت نفسي وأنا أتقلب على الفراش كأنني أتقلب على نار متأججة، كأنهم يحاولون شيي وحرقي بأقصى سرعة ممكنة لهم.
شعرت، وأنا في تلك الحالة بحرارة ما بين فخذي، وبانتصاب عضوي الصغير في تلك الأيام.
هكذا تخيلت، لا أدري إن كان ذلك قد تم في الواقع أم لا؟ كنت على طرف برية. أما في الواقع فكنت على طرف حوض فارغ، أو قريباً من بيت(بوران) وكان الحوض يستعمل، عادة لوضع القمامة فيه. كنت أركض باتجاه مستقيم، ألاحق خيط الماء الحار الذي يندفع من عضوي المنتصب إلى الأعلى، على شكل قوس مائي ذي لون أصفر، ورائحة حادة نفاذة. أما في الواقع فكنت جالساً بثوبي، عندما جاءت (بوران) وكانت فتاة سمراء البشرة بعنين خضراوين وشعر طويل، ترتدي ثوباً أبيض بكمين مكشكشين، به دانتيلا..
لا أذكر كيف بدأت اللعبة فيما بيننا، أنا وبوران، كلانا طفلان صغيران لا يتجاوز الثامنة من العمر، وما قمنا به لم يعن لنا أي شيء. كل الذي قمنا به، هو محاولة اكتشاف تلك الأعضاء التي يمنع علينا اكتشافها، أو الكشف عنها..
كنت كل ما حاولت، وخاصة في الصباح، عندما أستيقظ، أن أرفع ثوبي لأفرغ مثانتي، كانت أمي تصرخ أن أترك ثوبي. ثم تصرخ بي هيا إلى المرحاض. وكان المرحاض بالنسبة لنا نحن الأطفال، وإلى كثير من الشبان وأيضاً الرجال، هو البرية الواسعة.
كان أحدهم يبتعد ويبتعد حتى يختفي عن الأنظار فيرفع ثوبه أو يهدل سرواله عن وسطه، ويبول وهو يلتفت بين حين وآخر فيما حوله ليطمئن، على أنه وحيد لا أحد يشاركه في امتلاك البرية التي يبول على صفحتها.
أما النساء فكان لهن مرحاض خاص، لا يجرؤ أي رجل أو صبي بالغ على الاقتراب منه، علاوة على الذهاب إليه. كان يبعد بضعة عشرات من الأمتار عن (الكامبات)، كانت النسوة من عادتهن أن تذهبن إليه جماعات، كأنهن بذلك يجدن الأمان لأنفسهن، حتى أن الواحدة منهن ترفض الذهاب وحدها لقضاء حاجتها. لذا، كن ينادين على بعضهن من أجل سيرهن الجماعي إلى المرحاض. كنت أستغرب: كيف يمكن لكل واحدة منهن أن تعرف حاجة الأخرى. طبعاً هذا الأمر والبحث فيه، ليس مهماً لي، إنما المهم هو ما تم بيني وبين(بوران).
في ذلك الصباح من الصيف، خلعنا سروالينا الداخليين، ثم قعدنا على حافة الجرن العالي الذي كان يستعمل كحاوية للقمامة، وكل واحد منا يحاول أن يكتشف عضوه التناسلي من جهة وعضو الآخر من جهة أخرى. ثم ما لبث أن حاول كل واحد منا أن يداعب الجهاز التناسلي للآخر، ثم، وبدون قصد منا تمددنا عاريين إلى جانب بعضنا، ثم قمنا نفعل ما كان يفعله الكبار في ممارسة الحب.
في هذا الغياب عن أنفسنا نحن الاثنين، وجدت رعباً قاتلاً على وجه بوران، هي المتمددة على ظهرها، وأنا المتمدد فوقها، وقبل أن أستغرب رعب بوران، شعرت بيد قوية تمسك بنقرتي وترفعني إلى الأعلى.
ما زلت إلى اليوم أتذكر العقاب الذي نلته على يدي أمي، كان عقاباً شديداً وكـأنني البنت وليس الصبي.
هذا ما جرى في الواقع. أما ما شاهدته، وأنا في حالة الحمى، وهذياني من آثارها فيختلف تماماً. لقد اقتربت مني بوران، أمسكت يدي رغم حرارتي وتوهج جلدي، شعرت بيدها المثلجة.. لقد انقدت وراءها أو بالأحرى وراء يدها المثلجة. كنت أحس بأن جسدي كتلة من النار المشتعلة، ولكن يد بوران ها هي تطفئ النار أولاً في راحة يدي، ثم في جسدي كله.
أمامنا البحر ومجموعة من الأنهار وجبل من الثلج الأبيض. أمامنا بساط من العشب الذي يغطيه الندى. أمامنا سماء خفيضة تقطر منها قطرات عذبة من الماء..
وها أنا، يتابع الفتى: ذات صباح استيقظت من نومي، لأرى باب(الكامب) مفتوحاً وخلفه السماء زرقاء وأشعة الشمس تلون كل ما تحط عليه باللون البرتقالي. كان البرد قارساً في ذلك الصباح، حتى أني وجدت أعمدة وخيوطاً متدلية من سقوف كافة(الكامبات)، كانت تشبه الصواعد والنوازل.. تحت هذه السماء الباردة الصقيعية ظللنا نركض أنا وبوران حتى وصلنا إلى أرض حمراء. طبعاً لم تكن مغطاة بتراب أحمر، إنما بعشب، أي والله، هكذا وجدت في مرضي وأنا أعاني من الحمى. كان العشب الأحمر به زهور بنفسجية صغيرة، تميل وتتراقص رؤوسها كلما هب الهواء بدفعات هادئة.
كان كل شيء من حولنا يوحي بالبرد القارس، رغم هذا بدأنا نخلع الثياب عن جسدينا. لماذا؟ لا أعرف الجواب. خلعنا الثياب قطعة وراء أخرى، أصبحنا عاريين، لا يستر جسدينا حتى ورقة التوت، وحولنا برية واسعة، مليئة بالزهور والعشب الأخضر، مع تواجد شجرة واحدة، كانت أحياناً تبدو لنا بعيدة، وأحياناً نراها قريبة، حتى أنه كان بإمكاننا أن نمد يدنا لنقطف منها تفاحة أو أكثر!
ولعل الأمر الغريب الذي وجدت نفسي فيه، في تلك الرؤى والهذيان والخيالات التي اجتاحتني، وأنا أعاني من الحمى، هو أني شاب، يظهر على عانتي شعر أسود مخشوشن، كثيف، كما كان لبوران أيضاً الشعر نفسه.. ولكني الآن، في هذه اللحظة، أحاول أن أتذكر، إن كان لها ثديان أم لا؟ لا أستطيع الجزم بجواب، لأننا، بعد أن أصبحنا عاريين، لم أهتم بالأمر.. أما في الواقع، فكنا مجرد طفلين في الثامنة.. وما أذكره عن تلك الخيالات، أن بوران سألتني من دون حياء أو خجل إن كنت مسيحياً؟ استغربت سؤالها. فأجبتها: لا. ثم أضفت سائلاً: لماذا هذا السؤال؟
لم تنظر إلي. طلبت مني أن أنظر إلى نفسي، أو بصورة أدق إلى ما بين فخذي. فعلت. ثم رفعت نظري إليها وسألتها: ماذا؟
أجابت وهي تلوي شفتها السفلى وتتساءل باستغراب: ماذا؟ ألم تجد جواباً على سؤالي؟ ثم أضافت مفسرة: أقصد ألم تدرك أسباب سؤالي؟
أجبتها: لا.
قالت: أراه بغلفة.
أطرقت وجهي أنظر إليه. كانت بوران محقة. كان عضوي بغلفة!
غريب! قلت لنفسي قبل أن أقولها لبوران، لأني لم أنس بعد ما جرى لي ذات صباح على يد رجل ذي لحية طويلة. يحمل بيده حقيبة جلدية ثخينة وهو يصرخ بأعلى صوته: مطهر أولاد..
أذكر، كان للرجل شكل غريب! يرتدي بنطالاً أصفر اللون، أي والله.. بنطالاً أصفر اللون، ينهضه إلى وسطه، ويشده بحزام جلدي عريض بني اللون، وفوق البنطال كان يرتدي قميصاً أزرق اللون، ويضع سلسلة ذهبية تنتهي بميدالية دائرية، محفور على وجهيها آيات وكتابات ورسوم.
ما زلت أتذكر: كيف نادت عليه أمي، وطلبت منه أن يأتي إلى بيتنا.كان عمري في ذلك اليوم ما بين الخامسة أو السادسة. ولكن أمي كانت على خلاف معي حول هذا التاريخ، كانت تؤكد، على أني كنت في الثالثة والنصف. المهم.. يقول الفتى: جاء الرجل ببنطاله الأصفر، وقميصه الأزرق، وميداليته الذهبية، وحقيبته الجلدية إلى بيتنا.. فتح الحقيبة وهو يطلب من أمي أن تحضر له ماء ساخناً، ثم أردف موضحاً: الأفضل أن تجلب لي وابوراً. وبعض القطع من الخرق إن وجدت في البيت؟
كنت مبهوراً بالرجل، وخاصة ثيابه. كان رجلاً جديراً بالتأمل.. وهذا ما فعلت. ولكني اليوم ألوم نفسي على رغبتي تلك.. لأن ذاك التأمل كان سبباً في أن أذاقني ألماً فظيعاً لا أنساه أبداً!
أخذ الرجل وهو يحضر عدته، ويغني عن الحمام الذي يطير في السماء، ويجلب بمنقاره للأطفال الذين يسمعون كلام أمهاتهم، قطع الحلوى.. أما أولئك الذين يبكون ويخبطون الأرض بأقدامهم، ويرفضون ما تطالبه منهم أمهاتهم، فيأتي طائر الغراب بجناحيه الأسودين، ومنقاره العريض، وعينيه.. يا لطيف! ويتابع الرجل صارخاً: الصفراوين اللتين استعارهما من الأفعى، ثم يقول موضحاً، بل من الحية، يأتي الغراب مرفرفاً بجناحيه فوق الصبي، ثم يهبط فوق رأسه لينقر له وجنتيه، ثم عينيه، ثم أنفه.. وهكذا حتى يتركه الغراب هيكلاً عظمياً صغيراً..
انكمش شيء ما في نفسي، وأنا أشعر بالخوف، غير مصدق أن الغراب، هذا الطائر التعس، فوق تعاسته يمكنه أن يقوم بفعل ما أخبرنا به الرجل الغريب! فأنا أعرف تماماً طيور الغربان.. ولكن، طالما أن الكبار يقولون ذلك، فلا بد أن يكون شيئ ما صحيحاً في كلامهم.
وهكذا انتهى الرجل من تحضير عدته. ثم طلب من أمي أن تجهز نفسها لمساعدته..
حتى هذه اللحظة، كنت لا أعرف بالضبط، لماذا يقوم هذا الرجل بما يقوم به؟ ولكني فجأة رأيت جيراننا، وكانوا جلهم من النسوة قد جئن إلى دارنا، يضحكن وهن ينظرن إلي.
استغربت، لماذا ينظرن إلي؟ وفجأة، أقولها مرة أخرى، صرخت إحدى النسوة، كان اسمها هدى، على أمي قائلة: لماذا تلبسين ابنك هذا البنطال القديم؟ أليس لديه آخر جديد؟
أجابتها أمي: بلى.. لقد اشتريت له بنطالاً جديداً على العيد وهو، تقصدني، لم يرتده إلا ثلاثة أيام فقط.
إذاَ، قالت المرأة: هاته.. فأنا لا أحبذ أن يرتدي ابني- هكذا كانت تطلق علي، لأنها كانت عاقر- هذا البنطال القديم. خاصة أمام عمه- تقصد الرجل صاحب البنطال الأصفر- الذي جلب له بعض الهدايا.
وعلى هذه الصورة، يتابع الفتى: صورة الرجل ، وما قالته هدى الجارة، وما أكدته بعض النسوة«شوَّ شو» علي الصورة الحقيقية التي سأكون عليها بعد قليل. بدأت الجارة، مساعدتي في خلع البنطال عني، ولكنها لم تكتف بذلك، إنما خلعت عني السروال الداخلي أيضاً بعد أن أطلقت صرخة استنكار قائلة: يا إلهي.. أي أم أنت؟ منذ كم من الوقت لم تخلعي عن ابني سرواله الداخلي؟ انظري كيف أصبح أسود اللون من كثرة ما علق به من الأوساخ.
لم أصدق قولها، لأنني في الصباح خلعت سروالي الداخلي، وارتديت آخر نظيفاً. أدرت نظري فيما حولي، أريد أن أرى أمي، ولكنها اختفت عن أنظاري، لم أتساءل في ذلك اليوم عن أسباب اختفائها.. كنت مبهوراً بالرجل وهو يجهز أموره، محاولاً أن لا يريني ما يقوم به من أعمال وما يعد له.. فكان يغني فقط عن الحمامة الجميلة والغراب القبيح.
عندما أصبح جسدي عارياً من النصف الأسفل، شدتني الجارة هدى إلى حضنها، وقالت لي: ما بك؟ هل أنت خجل مني؟ طبعاً لم أكن خجلاً، لأنني لم أكن أعرف بالضبط ماذا يعني أن يكون صبي مثلي خجلاً، من امرأة تقوم مقام والدته، ثم قالت لي: اجلس ريثما تجلب لك أمك بنطالك الجديد.
وأخذت ترفع صوتها تنادي على أمي، أن تسرع، قبل أن يبرد ابنها، تقصدني: خافي الله.. هيا بسرعة، اجلبي لابني السروال، لقد بردت ساقاه. بينما كان الرجل مستمراً في غنائه.
وفجأة سكت الرجل. التفت إليه. ابتسم في وجهي وقال: قل لي، أيهما تحب الحمامة الجميلة أم الغراب القبيح؟
أجبته بمرح: الحمامة الجميلة.
قال: شاطر. ثم أضاف: إذاً انظر إلى الأعلى، حاول أن تثبت نظرك فوق رأسي، لأن حمامة ما ستنطلق منه، يجب أن تكون الأول في مشاهدة انطلاقتها وهي طائرة، هيا أعدد معي: واحد، اثنان، ثلاثة.. ها هي تطير.
وكان الألم، يتابع الفتى: فظيعاً ما بين فخذي.
بهذه الطريقة خدعوني، بهذه الطريقة المخادعة قطعوا غلفتي. ولكن بوران هزت رأسها وقالت: غير صحيح.. لأنك بغلفة.
صحيح. كنت بغلفة. كيف؟ لم اجد جواباً على سؤالي في ذلك الهذيان الذي كنت أغوص في تفاصيله من جراء الحمى الجهنمية التي كنت أعاني منها.
رغم هذا تمددنا على العشب، سحقت أسفل ظهرينا تلك الزهور البنفسجية الصغيرة، ثم ما لبثنا أن مارسنا الحب.
كم كانت الشمس، في تلك اللحظة، مشرقة ودافئة؟ كم كان العشب طرياً؟ كم كان للزهور رائحة زكية؟ كان أريج البنفسج يفوح من حولنا ويتصاعد إلى الأعلى.
هذا ما كان في الهذيان، وفي رؤاي. أما ما كان في الواقع فلا أستطيع أن أصفه، أو أقارنه سوى بالعذاب الذي عانيت منه مدة ثلاثة أيام، بعد أن تمت عملية (ختاني). اليوم أتذكر كم كرهت طيور الحمام التي خدعتني لمدة طويلة من السنوات، أما الغربان فلم تحظ بكرهي إنما بشفقتي، فهي، هذا ما أعتقده، طيور مظلومة من البشر.
* * *
لأول مرة يحاول الفتى.. أن يكتب قصة وهو في السابعة أو الثامنة من العمر.. والقصة في مختصرها، قصته وقصة أترابه من الأطفال. لذا يقول بحماسة منقطعة النظير مؤكداً على أن السيرك ظل حديث(الكامب) الذي نسكنه نحن، عصابة الصبيان، لمدة تزيد عن الأسبوع، قبل أن نقرر زيارته، طبعاً من دون أن يكون لدينا القدرة على الدخول إليه ومشاهدة عروضه الليلية. لقد جاءت زيارتنا للسيرك في النهار بعد أن جمعنا أنفسنا، واتجهنا إلى البلد.. وكلمة البلد هذه عادة يقصد بها إلى قلب المدينة. مدينة حلب.
رأينا حول السيرك سياجاً ملوناً، ومزيناً بمجموعة من الأعلام التي ترفرف فوق السور. كان السور مؤلفاً من«شادر» سميك، مرسوم عليه شتى الرسومات، خاصة الحيوانات منها، مثل القرود والفيلة والدببة، والفهود والنمور والأسود والأحصنة.. ثم رسوم أخرى، في مشاهد تمثل حركات رجال السيرك وما يقومون به من ألعاب بهلوانية، بعضها خطر وآخر سهل.. كما أن رسوماً أخرى رأيناها على السور- الشادر، كانت لأقزام وقزمات وما يقومون به من التهريج، ودراجات نارية وهوائية تطير في الجو، أو تدور في حلقات بسرعة هائلة.. ثم رأينا، في وسط السور العالي، الخيمة العملاقة التي تجري في داخلها، وتحت سقفها استعراضات السيرك وألعابه التي يقوم بها الرجال والنساء والحيوانات.
أذكر أن السيرك، يتابع الفتى: استمر أكثر من شهر. وكان الصيف في أوله عندما بدأ استعراضاته الأولى. كنت وبقية عصابة الصبيان، نخرج مبكرين من بيوتنا في(الكامب) متوجهين إلى السيرك. ندور حول سوره العالي، ونحن نرفع وجوهنا بين فينة وأخرى إلى الأعلى، إلى تلك الخيمة العملاقة الزرقاء اللون.. ننظر إليها ولا نمل، وكل واحد منا يحاول أن يتخيل ما يجري فيها مساء، في ساعات العرض، وأي أناس يزورونه؟
كنا نقف أمام بابه المغلق، وكان من خشب رقيق يغلفه القماش السميك الملون والمزين برسوم الطيور والقردة والأشجار. كنا، وما إن يبتعد الحارس عن الباب قليلاً حتى نقترب من الباب لندفعه إلى الداخل ونحن نمط رقابنا مسترقين النظر مما يقع وراء الباب. ننظر إلى باحة السيرك حيث الأقفاص الحديدية القوية القضبان التي تقبع وراءها الحيوانات الكاسرة، كما كنا نرى مرور الذين يعملون بالسيرك من رجال ونساء بثيابهم الغريبة وطراطيرهم المضحكة، وأنوفهم الحمراء الكبيرة البارزة في مقدمة وجوههم.
كنا، ونحن نسترق النظر منهم، وهم يتدربون على ألعابهم واستعراضاتهم، نشعر بدق عنيف في صدورنا، وخوف شديد يقبض على قلوبنا كلما قام أحدهم بلعبة خطرة، كنا في طريق العودة إلى بيوتنا، ونحن ما نزال نعيش تلك المشاعر المضطربة، نطرح ما بأنفسنا، ونتحدث عما نشعر به..
ما زلت أذكر عبد المجيد، وهو صبي ذو لياقة بدنية عالية، كان يتيم الأب. يقول لنا: لقد شعرت بالرعب، لأنني كنت أتصور، ما أن نطيل مكوثنا أمام الباب، حتى يطلق الحارس مجموعة من كواسره باتجاهنا فتندفع إلينا لتمزقنا إربا.. بصراحة، يقطع حديثه، ليتابع في أمر آخر: تصورت نمراً يحملني بين فكيه إلى قفصه، وهناك على أرضيته الخشبية، وبين بقايا العظام التي لاكها من قبل، يلوك عظامي لينتزع عنها لحمي قطعة وراء قطعة، ولا يتركني سوى هيكل عظمي يصلح أن يوضع في غرفة العلوم والتشريح في مدرستنا.
كنا نضحك منه لمخاوفه، أما مصطفى، شجاع العصابة، وقد عرف عنه التهور فكان يقول: أما أنا، فبصراحة وددت لو دفعت باب القفص إلى آخره، ودخلت إليه مرتدياً ثياب العاملين بالسيرك، لأقف أمام الفهد، أمسكه من أذنيه وأجره خلفي.. فيتدخل أولاد عمومته من النمور وأولاد خؤولته من الأسود ما بيني وبين الفهد، يعتذرون مني ويطلبون أن أسامح هذا الفهد الطائش الذي لا يقدر الرجال حقهم!
أما عبد اللطيف فقد قال، وتقاسيم حادة ترتسم على وجهه: بصراحة وددت لو دخلت إلى السيرك، وطلبت من سائق(الموتوسيكل) أن يعيرني إياه لمدة قليلة، لكي أقوم باللعب عليه، كذاك اللاعب الذي رأيته ذات يوم في السينما..
ضحك محمد وقال: قبل أن تركب (الموتوسيكل) تعلم ركوب الدراجة الهوائية أولاً..
ضحكنا جميعاً لمزاح محمد.
يتابع الفتى قصته: عدنا إلى البيت، وكان النهار قد تلاشى ضوءه وظهر الليل من جديد بنجومه وقمره الأصفر الذي كان هلالاً في تلك الليلة..
لقد حاولنا جميعاً نحن الصبيان، في تلك الليلة، قبل أن نذهب إلى بيوتنا، أن نلعب ألعابنا المعتادة التي تعودنا أن نلعبها في كل ليلة، إلا إنا لم نستطع، كان هناك أمر ما يأمرنا أن نذهب إلى بيوتنا، قبل أن نجد أنفسنا محاصرين بين حيوانات السيرك الكاسرة..
لهذا انسحب كل واحد منا إلى بيته، وفي رأسه خيمة أو أرنب أو نمر أو فيل أو موتوسيكل أو فهد..
في الفراش، وهذا ما تحدثنا عنه في نهار اليوم التالي، يوم عدنا عصابة واحدة من الصبيان، كيف لم نقدر على النوم..
قال عبد الله، وهو صبي ضئيل الجسم: لن يهنأ لي عيش يا أولاد، إن لم أدخل إلى السيرك، وارى بأم عيني ما يتحدث عنه أولئك الذين دخلوا إلى السيرك وشاهدوا ألعابه..
هذه الرغبة، كانت أيضاً رغبتنا جميعاً. ولكن كيف يمكن لنا أن نحقق هذه الرغبة؟ فنحن مجموعة من صبيان أهلوهم من الفقراء المعدمين..
ظللنا لمدة تزيد عن ثلاثة أيام نفكر ونفكر بكيفية تحقيق هذه الرغبة، إلا أنا لم نتوصل إلى حل.. فاجتاحتنا مشاعر الخيبة والإحباط.. ما لبثنا أن شتمنا الفقر ابن الكلب.. الذي يمنعنا من زيارة السيرك، ومشاهدة برنامجه الليلي الذي يمتد ثلاث ساعات بالتمام والكمال.
لقد أخبرنا بهذا الأمر أحد الأولاد الذين قاموا بزيارة السيرك مع أهاليهم..
وفي اليوم الرابع، طرأت لي فكرة. ماذا لو جمعنا، نحن الصبيان، مالاً فيما بيننا، ودفعنا واحداً منا إلى زيارة السيرك، ليحدثنا بعد ذلك بشيء من التفصيل عما شاهده من ألعاب واستعراضات وبهلوانيات تحت الخيمة الزرقاء العملاقة؟ هذه الفكرة، ما إن طرحتها على عصابة الصبيان حتى تحمس لها الجميع، وبدأنا بجمع أموالنا، وهي(قروش) قليلة وضئيلة في مبلغ موحد، ساوى ثمن بطاقة واحدة فقط للسيرك..
شعرنا بفرح غامر ينبع من صدورنا، قلنا: وأخيراً سنحقق الرغبة التي تجوب نفوسنا منذ أكثر من أسبوع.. ولكن الخلافات ما لبثت أن دبت بيننا، وسبب الخلاف كان، من منا سيذهب إلى السيرك ليرى برنامجه على الطبيعة؟
وبعد أخذ ورد ونقاش توصلنا جميعاً إلى اقتراح أن نجري قرعة فيما بيننا.. وبما إنا ثمانية من الصبيان، أجرينا على كل صبيين قرعة، كان الخاسر ينسحب والرابح يتقدم إلى الدور التالي من القرعة.. حتى كانت نتيجة الدور الأول للقرعة، أن أربعة صبيان ربحوا، ومثلهم في العدد كانوا من الخاسرين.. ثم جرى الدور التالي فربح من الأربعة صبيان اثنان، ثم جرى الدور الثالث للقرعة، ما بين الرابحين الأخيرين، فربح مصطفى، وكان للمصادفة أكبرنا وأكثرنا جرأة.
كان السيرك، وهذا من حظنا، في برية قريبة من تجمع (الكامب) الذي نسكن فيه.. رحنا نؤكد لمصطفى عن ضرورة مراقبة كل ما يجري من ألعاب ليصفها لنا فور خروجه بالتفصيل. ومشاهدة كل الحيوانات، وخاصة الفيلة، لأنها حيوانات ضخمة تثير الرعب في النفوس، رغم أنها، كما قرأنا عنها في الكتب، حيوانات أليفة لا تؤذي أحداً، تألف رفقة الإنسان وتأنس إليه.
وفي اليوم المقرر، يتابع الفتى: وساعة العصر قد أزفت، وهي الساعة التي يفتح فيها السيرك أبوابه، ويبدأ في تقديم برنامجه اليومي.. فوجئنا، عندما ذهبنا جموعاً، برفقة مصطفى إلى السيرك، فوجئنا بإغلاق بابه الملون!
سألنا، ونحن مستغربون، البواب الواقف بقرب الباب، عن السبب، ومتى سيفتح السيرك أبوابه، ويستقبل زواره كالأيام السابقة؟
أجابنا البواب: لا أعرف. ثم أضاف: ما أعرفه، لن يفتح أبوابه اليوم.
عدنا إلى البيت محبطين، ومضينا من دون أن يتذكر أي واحد منا، ضرورة توزيع المال الذي جمعناه، ليأخذ كل واحد منا ما ساهم به من أجل شراء البطاقة.
في اليوم الثاني، عرفنا، أن سبب إغلاق السيرك لأبوابه، كان نفوق أحد الفيلة.. طبعاً تأسفنا لذلك وحزنا كثيراً، وأكبرنا بأصحاب السيرك والذين يعملون فيه، البادرة الإنسانية الرائعة في إغلاق السيرك أبوابه حداداً على الفيل النافق.
ما لبث أسفنا أن ازداد، ثم تحول إلى غضب ضد ذاك «الإنسان»الذي وضع قطعاً مكسرة من الشفرات والمسامير الحادة في رغيف من الخبز وأطعمها للفيل المسكين الذي لم يكن يعرف أنه يتناول لقمة الموت.
بحثنا، نحن الصبية طويلاً، الأمر فيما بيننا وكيف يمكن لنا الانتقام من هذا «الإنسان»الذي لا يملك ذرة من الضمير والوجدان. ولكنا، يا للأسف لم نكن نعرف الفاعل، فانتهى بنا أمر الانتقام أن ندعو الله عز وجل أن يدق عنق الفاعل الظالم.
وفي المساء، بعد أن عاد كل واحد منا، نحن عصابة الصبيان، إلى بيته حزيناً وخائباً، وبعد أن تمددنا في فراشنا، أذكر، وأنا ما بين النائم واليقظان، رأيت فيلاً جميلاً بأجنحة يحط أمام بيتنا من السماء، ثم رأيته يهز بمرح أذنيه العريضتين كأنه يطلب مني أن أجمع الصبيان أترابي، ليضعنا فوق ظهره، ويذهب بنا إلى حيث نريد.
وعندما فتحت عيني كان النهار يحدد النافذة بأضوائه، فهرعت إلى الباب، فتحته وخرجت منه مسرعاً إلى خارج البيت. ولكني يا للأسف، لم أر شيئاً، فطأطأت رأسي أسيفاً وأنا أقول لنفسي: على ما يبدو قد تهيأ لي رؤية الفيل الطائر.. رغم ذلك أمعنت نظري في أطراف السماء الزرقاء ولكنها كانت صافية، خالية ليس من الفيل فقط، إنما من العصافير أيضاً!
* * *
يتابع الفتى: كانا زوجين ليسا من حلب، إنما من قرية تابعة لمدينة حمص. كانت هدى، الزوجة تقضي معظم وقتها لدى والدتي، لم يكن لها أولاداً، رغم أنها كانت متزوجة منذ أكثر من عشر سنوات. أما يوسف، زوجها، فكان نحيلاً ذا وجه قاسي الملامح، له شارب دقيق فوق الشفة ويغلظ تحت الأنف. كان كثير السعال والكح من دون مرض. أما هدى، فكانت «مربربة» بيضاء البشرة، ذات عينين ساخرتين، كانا يعانيان من وضعهما في عدم الإنجاب أمام الناس وتساؤلاتهم وأمام نفسيهما. كان على ما يبدو، يشعر كل واحد منهما، أنه السبب في عدم الإنجاب. لقد عاشا على هذه الحال سنوات طويلة، حتى أقنعا نفسيهما بأن الله عز وجل قسم لهما هذه القسمة في الدنيا.
كنا نلاحظ عليهما الاستياء إن حاول أحد ما الحديث عن «الخلفة»والذرية وشيئاً من الغضب، خاصة من يوسف، على كل من يحدثه عن ضرورة الزواج للمرة الثانية لعل وعسى أن يرزقه الله بولد.
ذات يوم سافرت هدى إلى القرية. أما بعد عودتها فتناهى إلى أسماعنا أن زوجها سيتزوج. وهذا القرار كان قد اتخذه بموافقة زوجه. ضج مجتمع «الكامبات»الصغير للخبر. وتساءلوا وبحثوا إلى أن أجلي لهم الأمر.
هناك حكايتان، إحداها تقول: أن هدى كانت تعرف أن سبب عدم الإنجاب يعود إلى زوجها يوسف. لذا وافقت على الزواج. لا بل سعت إليه في أثناء ذهابها للقرية بحيث بحثت له عن زوجة حتى اهتدت إلى فتاة جميلة، صغيرة وخطبتها ليوسف من أهلها.
كانت هدى تحب زوجها حباً شديداً، وكان يوسف بدوره يبادلها الحب بالقوة نفسها. ولم يكن منغص في حياتهما سوى قضية عدم الإنجاب.. ولكي لا تشعر هدى بالذنب، ولكي يعرف زوجها أن السبب في عدم إنجابها، منه.. وليس منها. طرحت عليه فكرة الزواج. يقال إن هدى قد راهنت على حب زوجها لها، لأنها تخيلت، أنه سيطلق زوجه الجديدة في حال عدم إنجابها له ولداً، وبهذا، ستشعر هدى بالأمان أكثر، ولن ترى بعد ذلك، في عيني زوجها يوسف، نظرة ذات معنى أو إدانة بعدم إنجابها.
ولكن الأمر الذي حدث بعد زواج يوسف كان العكس تماماً. فقد كانت الزوجة الثانية ليوسف، صغيرة وجميلة، وعلى ما يبدو كانت تعرف كيف ترضي زوجها في الفراش، في شيء من الشبق، هذا وقد سمعت من هدى تقول لأمي: إنها عاهرة، فأنا برغم أني في الغرفة الثانية، كنت أسمع صوت تأوهاتها ويوسف يقول لها أن تكف عن هذا الأمر، فكانت تقول له مجيبة، لا أستطيع. لا أستطيع.. فهذا الأمر يثيرني حتى النخاع.
مضى على زواج يوسف أكثر من عامين دون أن تنجب له الزوجة الجديدة مولوداً.. طبعاً سعدت هدى لهذا الأمر، ولكن الأمر الذي لم تسعد منه هو انصراف يوسف عنها تماماً إلى زوجه الجديدة، كأن أمر الذرية لم يعد يهمه في شيء، إنما جل ما يهمه الآن هو إشباع رغبته بين أحضان الزوجة الجديدة التي كانت تعرف كيف تشبعه بحيث يسقط بعد الانتهاء من ممارسة الحب كالخرقة التي لا نفع منها.
هكذا قالت هدى لأمي.
أخذت الغيرة تأكل كبد هدى، لقد أضاعت زوجها من يديها نتيجة حماقة ارتكبتها. وغلط وقعت فيه، غلط لا يمكن لأبسط امرأة أن تقع فيه. وهو أن تطلب منه الزواج دون أن تخبره بأن سبب عدم الذرية منه هو وليس منها.
يقال إن هدى ظلت ثلاث سنوات تخطط لطريقة الإيقاع بين يوسف وزوجه الثانية، من دون آثار ومعالم تدل على خططها. هذا وقد توصلت إلى خطة، وكأن الشيطان بنفسه قد رسمها لها.
راحت هدى تسرد على أسماع ضرتها كثيراً من القصص عن الحب والحب الذي يموت في آخر المطاف. ولكي يستمر هذا الحب فلا بد لرابط يربط الزوجين به، وهذا الرابط، أجابت هدى على تساؤلات ضرتها التي رأتها في عينيها، هو إنجاب ولد.
هزت الضرة رأسها باستياء وقالت: لقد مضى ثلاث سنوات على زواجنا من دون أن أحمل منه. ثم أضافت: وعلى ما يبدو يا خالة، يوسفنا هذا عقيم.
هزت هدى رأسها وقالت: هذا على ما يبدو. وأضافت: لقد حرمني ولداً. وإن ظل بكما الأمر على هذا المنوال سيحرمك أيضاً الذرية.
والحل..
هذا ما سألت عنه الضرة.
هزت هدى رأسها وقالت: لا أعرف. ثم أضافت: ولكن علينا أن نفكر.. لا بد لنا من إيجاد حل يا بنتي.
تابع الفتى.. قصته: أما الحل فكان شيطانياً من قبل هدى. فقد دفعت ضرتها إلى خيانة زوجها يوسف. وأن تحمل ابن زنا، وبذلك تكون قد ربطت بينها وبين يوسف إلى الأبد. يقال إن الضرة لم توافق على هذه الخطة أول الأمر، ولكنها بعد ضغط كبير من هدى وافقت عليها على مضض.
لقد طار عقل يوسف عندما ولدت زوجه الثانية بنتاً، ولم تمض أيام وقبل أن تبلغ شهراً، كانت هدى انتقلت إلى تنفيذ الشق الثاني من الخطة، وهو إعلام زوجها بأمر خيانة زوجته الثانية.
لم يصدق يوسف كلام هدى، ظن أن دوافعها هي الغيرة فقط، ولكنه لم ينس الأمر، ظل يدوّره بينه وبين نفسه ثم ما لبث أن اقتنع بما أخبرته به هدى.
يقال أن يوسف ظل زمناً طويلاً يفكر ويبحث عن طريقة للتصرف مع زوجته الثانية، وإيجاد حل للوضع غير السليم الذي وقع فيه ووقعت فيه زوجه الثانية. فاتحها يوسف بأمر بنت الزنى التي تتربى وتكبر في بيته على أساس أنها ابنته، ثم سألها عن الأسباب التي دفعتها إلى هذا السلوك، وهو الذي لم يسألها أبداً عن الذرية والخلفة التي يطمح إليها كل زوج؟ ولماذا قضت على السعادة التي كانا يعيشان فيها معاً؟
قد يدور السؤال كما دار في ذهني، يقول الفتى: لماذا سلكت هدى هذا السلوك مع ضرتها، ومن ثم زوجها.. أجابت هدى، أنا أعرف أن يوسف لا يمكن له أن يقبل زوجه الثانية أن تستمر في الحياة معه، سيطلقها، أولاً سيعود إلي، لأنه لن يجد في البيت سواي، ثانياً سأكون بذلك قد حصلت على بنت أربيها كابنتي.. لأن يوسف لا يمكن له أن يبعد الطفلة الصغيرة عنه.
مرة أخرى وقعت هدى في الخطـأ.. خاصة عندما أجابت الزوجة الثانية على أسئلة زوجها، على أن هدى، هي التي رسمت لها هذا الطريق لتسلكه حتى النهاية.
عندما سمع يوسف هذا الكلام هز رأسه وقال: لا بأس..
فكر يوسف طويلاً بأمر يحل هذه المشكلة العويصة التي وجد نفسه فيها. لو كانت خلافات نسوة لما أعارها اهتماماً، لو كانت مجرد أكاذيب صغيرة مبعثها الغيرة، لما أصاخ بسمعه لهدى أو لفيروز زوجه الثانية.. إنما هي مشكلة تمس الشرف والكرامة. قال في نفسه: طلقها، لتذهب إلى بيت والديها كالكلبة الذليلة. ثم أضاف: لا.. اقتلها. وتمثل نفسه كيف قتلها، وكيف اقتيد من قبل الشرطة إلى السجن، وإن لم يعدم فهناك حتماً سنوات طويلة من عمره يقضيها وراء القضبان الحديدية.. ليس هذا وحسب، إنما ستجد هدى الصغيرة، وهي ابنة فيروز، والدها (على أساس الخانة) في السجن. فأي مستقبل سيكون لبنت والدها داخل السجون.
قال لنفسه: عليك أن تفكر بحكمة، عليك أن لا تهدر حياتك من أجل عاهرة، خائنة للمواثيق والعهود. عليك أن تنتقم منها شر انتقام، وتحفظ فيها ماء وجهك من العار الذي قد يلحقك لو انتشر خبر ما قامت به زوجه الثانية.
بعد تفكير طويل، أضاف: عليك أيضاً أن لا تنسى هدى زوجك الأولى، رأس الأفعى وأساس البلية.
يقال إن يوسف استدعى هدى وسألها: هل صحيح ما سمعته من فيروز؟
سألته: ماذا سمعت؟
أجابها: على أنك كنت وراء سلوكها الذي أخبرتني به.
قالت: نعم.. وما سلوكي هذا إلا لخيرك وخيري.
سألها هازئاً: كيف؟
أجابته: أنا أحبك. انصرافك عني إليها، يشعل النيران في كياني.. لذا فكرت أن أبعدها عن طريقنا، لنعود مرة أخرى إلى بعض كما كنا سابقاً، هذا إلى جانب حصولنا على ابنة كنا قد حرمنا منها ومن الصبيان أيضاً.
سألها هازئاً: أقلت تحبينني؟
أجابت: نعم. إلى حد الموت.
سألها: كيف تحبينني وأنت بفعلتك مرغت هامتي في الوحل؟
أجابته: لم أفكر في يوم من الأيام، أو في لحظة من لحظات حياتي أن أتصرف مثلما قلت. كل ما قمت به هو لأنني أحبك ولا أستطيع أن أراك بعيداً عني، وفي أحضان امرأة أخرى.
هز يوسف رأسه وقال: لا بأس.
يقال إن يوسف عالج الأمر طويلاً في نفسه، لذا كان عليه أن يتصرف بحكمة، والحكمة هنا تقتضي أن يأخذ المذنب عقابه، وأن يسعى إلى أن لا يدمر حياته وحياة الصغيرة.. فاستدعى زوجه هدى وسألها: أقلت بأنك تحبينني ولا تقدرين على فراقي؟
أجابته: نعم.
قال لها: لا بأس. ثم أضاف: ولكي يتحقق هذا الأمر يا هدى علينا إبعاد فيروز من بيننا. علينا إخراجها من حياتنا. كما قلت، والاحتفاظ بهدى الصغيرة.
سألته بلهفة: وكيف سيتحقق ذلك، هل ستطلقها؟
أجابها: كلا. لن أطلقها. أخاف أن يكون طلاقي لها سبباً في انتشار رائحة فعل الخيانة الذي قامت به.
سألته هدى: إذاً كيف التصرف؟
أجابها: دعينا نفكر..
وبعد طول تفكير قال يوسف لهدى: لقد وصلت إلى حل.
سألته بلهفة: ما هو؟
أجابها ببرود: القتل!
سرت قشعريرة باردة في كيان هدى وهي تتساءل: القتل! كيف؟
أجابها: لنختر أية طريقة يمكن للإنسان أن يموت بها.
سألته: كيف ستقتلها؟
ابتسم يوسف وقال: كلا. بل أنت التي ستقتلينها.
شحب وجه هدى وقالت بتردد: أنا!
أجابها: نعم. ألست أنت صاحبة الخطط. إذاً تابعي خططك. وما أن تموت فيروز، وننتهي من دفنها حتى نعود مرة ثانية إلى حياتنا السابقة مع طفلتنا هدى الصغيرة.
سألته: أتقصد.. نقتلها من دون أن يعرف أحد ما بأننا قتلناها؟
أجابها: هذا ما فكرت به.
يقال إن هدى نشطت في البحث عن الطريقة التي ستنفذها في قتل فيروز من دون أن تدل على فعل القتل، إنما كل مظاهرها تدل على موت طبيعي بأمر من الله تعالى..
حدثتنا جارة لنا في (الكامبات): لقد سمعت صراخاً في الخارج بينما هي تجهز الفطور لأولادها. ما لبث الصراخ أن تكرر. وقد عرفنا صاحب الصراخ، كانت هدى زوجة يوسف. فهرعنا إليها ونحن نقول، لا بد أن أمراً رهيباً قد حدث. لو لم يحدث لما صرخت هدى هذا الصراخ.. وصلنا إلى البيت. فواجهتنا هدى بقول يكسر الظهر، أن فيروز ماتت.. ثم راحت تتحدث عن الوقائع في موتها. قالت: استيقظت في الساعة السادسة صباحاً، جهزت الإفطار ليوسف ريثما ينتهي من حلاقة ذقنه، قمت أنا بتجهيز الإفطار وليس فيروز لأنه، كان قد أمضى ليله معي. وبعد أن ذهب يوسف إلى الثكنة سمعت تأوهاً من فيروز سألتها إن كانت تعاني شيئاً، فأجابتني: نعم. رأسي.. أحس به ثقيلاً. قلت لها: نامي.. عندما تستيقظين ستكونين في حال جيدة. وذهبت إلى فراشي أكمل نومي. ما لبثت أن استيقظت في الثامنة دون أن تستيقظ فيروز. قلت، لا بد أنها غارقة في النوم.. فأفطرت من دون أن أوقظها. ولكني وأنا أمام الطاولة أتناول فطوري سمعت بكاء الصغيرة. ثم تكرر من دون أن أسمع أية حركة من فيروز لإسكات هدى، فنادت عليها مرة وثانية فلم أتلق أي جواب منها، قمت إلى غرفتها فوجدتها مفتحة العينين باردة الجسد.. ميتة..
يقال: «أن أحد الصبيان ركض إلى الثكنة وهي لا تبعد عن«الكامبات»كثيراً وأخبر الحارس الذي على باب الثكنة، والأخير أخبر يوسف. نزل يوسف من الثكنة وهو يكرر ما بينه وبين نفسه، لقد فعلتها ابنة الكلب المجرمة.. لقد صرخت في وجهي أكثر من مرة، إن لم أطلقها ستقتلها..»
انتشر قول يوسف هذا بين الناس، ثم وصل إلى الشرطة الجنائية التي شرحت الجثة، فتأكد لها أن موتها كان بفعل مادة سامة، وقد حدثت الوفاة ما بين السابعة والنصف والثامنة والنصف، وفي هذا الوقت كان يوسف في الثكنة.. أي أنه كان بعيداً عن الشبهات.
يقال إن هدى اختلت بيوسف وسألته: لماذا فعلت بي هذا؟ لماذا دفعتني لقتلها؟ ومن ثم أخبرت عني! وهذا الأمر لم نتفق عليه أبداً.. لقد اتفقنا على..
يقال إن يوسف لم يدعها تكمل وهو يقول لها: لم نتفق على شيء، لقد قتلتها أنت بيديك.
يقال إن هدى ذرفت دموعاً سخية وهي تقول له: أتمنى ألا تطلقني.. لأنني عندما أخرج من السجن سأعود إليك.. فأنا أحبك رغم كل شيء.
يقال أن يوسف لم يعلق بكلمة على ما قالته هدى! وما أن دفنوا فيروز، وذهبت هدى إلى السجن، حتى حمل يوسف صغيرته هدى ورحل عن (الكامبات) إلى جهة مجهولة لم يره أحد بعد ذلك أبداً!
* * *
أتساءل، يتابع الفتى: «متى برز درويش كعسكري متطوع في (الكامبات) لأول مرة؟ فجأة رأيناه يسعى بيننا. كان شاباً، تخطى العشرين، وربما كان في الخامسة والعشرين؟
شاب أسمر البشرة، طويل إلى حد ما، صاحب عينين سوداوين كسواد الليل.. مما ألقى ذلك ظلالاً قاتمة حول عينيه. رأيناه أكثر من مرة يصعد إلى الثكنة في الصباح بشورته الخاكي القصير، وينزل منها في الساعة الثانية بعد الظهر. وذات يوم، كان ذلك بعد شهور عدة من ظهوره بيننا، أشار إلي أن أقترب منه، وكان واقفاً أمام باب الكامب الذي يسكنه. ذهبت إليه وعلى وجهي الاستغراب والدهشة! سألني وهو يضحك: «ما اسمك؟ أجبته. قال: اسم غريب!»لم أعلق أو أوضح له معنى الاسم، لأنني كنت على قناعة بأن اسمي واضح المعنى إلى أبعد الحدود. سألني إن كان والدي عسكريأً؟ أجبته، أن نعم.
ابتسم ولم يعلق.
هذا الحوار القصير الذي دار بيني وبينه كان السبب في توطيد علاقتي معه..
واليوم أستغرب تماماً، كيف يمكن لعلاقة تقوم بين شاب تخطى العشرين وصبي لم يتجاوز الثامنة من العمر؟ لم تكن العلاقة التي كانت بيني وبين درويش علاقة صبي صغير مع شاب. كلا.. إنما كانت علاقة ودية، كأنني مثله شاب أو كأنه مثلي صبي. لم نجد، الفارق في السن، يمكن له أن يكون عائقاً في صداقة.
ذات يوم سألني، إن كنت أرغب في الصعود معه إلى الثكنة؟ قلت بابتهاج: أرغب بشدة. فضحك وقال: إذاً هيئ نفسك في صباح الغد.
لم أنس إلى هذه اللحظة، ذلك اليوم الذي قضيته برفقته في الثكنة. لأنني لأول مرة أطل على مطبخ فيه كمية هائلة من اللحوم، والرز والبرغل، والمربيات.. والسمون والحليب والألبان.
سألني عندما رأى الدهشة في عيني: أتريد أن تأكل لحماً هذا الصباح؟
لم أجبه، خجلت أن أقول له نعم. عرف ذلك، فضحك وأشار إلى رجل كبير في السن، أن يجهز لي رغيفاً محشواً بقطع اللحم المسلوق..
ابتسم الرجل الكبير وقال: تكرم حضرة العريف. ثم رأيت فرناً هائلاً يخرج منه كمية كبيرة من الخبز(الصمن)، ثم مررنا بمهاجع للجنود، ضخمة، فيها كثير من الأسرّة، وعدة دكاكين للحلاقة وكواء الألبسة.. ثم عدد آخر من المكاتب التي يعمل فيها مجموعة من العساكر.
عند الظهيرة، يتابع الفتى: انحدرنا إلى بقعة رملية في جنوب الثكنة. يظللها صف من أشجار السرو والنخيل والزيزفون. قعدنا في ظلها طويلاً. لفنا، في أكثر الأوقات الصمت. كنت حائراً، ما معنى أن يأتي بي درويش إلى هذه البقعة المعزولة إلى حد ما عن بقية مباني الثكنة، ثم يجلس صامتاً من دون أن يحدثني؟ ما لبث أن قام وقال لي: هيا.. لقد حان موعد الغداء، علينا أن نكون في الوقت المحدد في قاعة الطعام، وإلا انتهى الطعام، ولن يتركوا لنا شيئاً من الأكل.
سألته باستغراب: أيمكن أن يأكلوا الطعام الذي رأيناه؟
ابتسم وقال: على الآخر.. لن يتركوا منه لقمة واحدة.
في الساعة الثانية انحدرنا على الطريق الإسفلتي الذي يصل الثكنة بالشارع العام، وما إن وصلنا إلى مفرق الكامبات حتى انحدرنا عليه ليذهب كل واحد منا إلى بيته.
منذ ذلك اليوم توطدت العلاقة بيننا.. بدا درويش غامضاً بالنسبة لي، لم أجرؤ، أو أستحسن أن أسأله عن حياته.. لماذا هو وحده؟ غير متزوج ككل الذين يسكنون الكامبات؟ أين كان قبل أن يأتي إلينا؟ أليس لديه والدان أو إخوة؟ لقد أوغرت هذه الأسئلة صدري ضده، ولكني لم أجد المناسبة التي يمكنني أن أستغلها في سؤاله. لذا تركت الأمر للمصادفة المناسبة.
وهذا ما كان.
ذات يوم، وكان يوم جمعة، أي يوم عطلة، قمت بزيارته في الكامب، لأنه كان قد وعدني أن نذهب إلى الحديقة معاً لصيد العصافير.. وما أن طرقت الباب حتى فتحه لي، كأنه كان بانتظاري. قال لي: تفضل لقد جئت بوقتك. ثم تراجع إلى الوراء، ليجلس على كرسي خيزراني قديم.
أدرت نظري في داخل البيت الذي كان قد سكنه يوسف وهدى قبل مأساتهما، أعرف جدرانه وسطحه ونافذته الوحيدة، كما أني رحت أتخيل كل قطعة أثاث من أثاث بيت يوسف وهدى في أثناء زياراتي لهما فيما مضى من الأيام.
كان الكامب بحضور درويش قد أصبح أمراً آخر. لقد أصبحت الصورة التي كانت في ذهني من قبل جديدة تماماً. بعد أن أصبح البيت شيئاً آخر، غير الذي أعرفه، لقد أصبح بيتاً يثير التساؤل والدهشة للأشياء الغريبة التي رأيتها فيه.
تابع الفتى: واليوم لا أستطيع أن أتذكر مما رأيت إلا شيئاً واحداً، وهو صورة.. صورة لامرأة في وضعيات مختلفة. كان درويش قد علق عشرات منها على جدرانها! بعض منها بإطار من خشب وزجاج، وأخرى بإطار من الورق المقوى، وبعضها الآخر ملصقة على الحيطان.
استغربت تماماً ما رأيت، رحت أتأمل الصور جميعها. كانت لامرأة واحدة لا تتجاوز العشرين من العمر. امرأة بأنف صقري وعينين كبيرتين وفم قاسي التقاطيع، حازم.. وفجأة سمعته يسألني: هل تعرف فيروز؟
كدت أن أجيبه، نعم. ولكني في اللحظة الأخيرة أدركت أنه يقصد صاحبة الصورة، وليست فيروز القتيلة، زوجة يوسف.
نظرت إليه، ثم هززت له رأسي بالنفي.
ابتسم هازئاً وقال: أيمكن.. أيمكن لا تعرف فيروز؟
سألته: من تكون؟
لم يجبني.. قام إلى مذياعه، وأدار إبرته بين الأرقام المرسومة على واجهته..
كنت قد سمعت بالمذياع، وسمعت منه بعض الأغاني من بعيد، أي كان صوته يصلني من هذا البيت أو ذاك، إلا أنني لم أره هكذا قريباً مني.. تقدمت من درويش، وأنا أسأله: هل هذا هو الراديو الذي يتحدثون عنه؟
أجابني: نعم.
سألته: ولكني لا أسمع منه شيئاً، الأغاني مثلاً..
ابتسم وقال: يجب أن نثبت الإبرة على محطة ما لكي تنساب منها الأغاني.
سألته: لماذا لا تثبتها إذاً؟
أجابني: لأنني أبحث عن فيروز.. عندما أجدها في محطة ما سأثبتها.. نعم سأثبتها لتستمع إلى فيروز التي لا تعرفها.
سألته: أهي مغنية؟
أجابني: لا. إنها ملاك!
ولكن مع الأسف، يتابع الفتى: لم يستطع درويش أن يجد في ذلك اليوم البعيد، فيروز في أية محطة من محطات المذياع الكثيرة. كان درويش لا يكف عن سماع أغاني فيروز، يبحث عنها ليل نهار، كان يملك دفتراً صغيراً، يدون فيه كلمات أغنيات فيروز، ثم يحفظها عن ظهر قلب، ليغنيها لنفسه في الساعات التي لا يستطيع أن يستمع إليها في المذياع. كان يغنيها بصوت عال.. كان يملك صوتاً عذباً وجميلاً، يمكن للمرء أن يستمع إليه بإعجاب.
وذات يوم، يتابع الفتى: بعد أن انتهى درويش من غنائه، نظر إلي ملياً وقال: هل تعلم بأن الفتاة التي كنت أحبها وما زلت، كان اسمها فيروز؟ ثم راح يصفها لي: فتاة سمراء، جميلة.. أحببتها وأحبتني، ولكن الظروف فرقتنا، ظننت أول الأمر ستفرقنا مؤقتاً، ظننت ما أن أتطوع في الجيش، حتى أعود إلى قريتي أخطبها من عمها، لأن والديها كانا ميتين، وأرحل بها بعيداً عن القرية، ولكني لم أعرف، بعد تطوعي في الجيش إنني لن أستطيع أن أحصل على إجازة إلا بعد مضي شهور طويلة، لأذهب لزيارة أهلي.. وعندما تم لي ذلك كانت فيروز قد تزوجت رغماً عنها.. لأنه، أي عمها، قال لها: لو كان درويشك يريدك عن جد لأخبرك بيوم عودته، وها هو الشهر الثالث يمضي من دون أن نعرف عنه شيئاً. فما كان مني إلا أن أخذت البحث عنها، لقد تنقلت عبر ثلاث مدن، قضيت في كل مدينة مدة من الزمن، أبحث وأبحث ولكن دون جدوى.. حتى كانت هذه المدينة الرابعة في طريق بحثي، ولقد أخبرني أكثر من شخص من القرية، بأنها تزوجت من رجل يعيش في حلب. فها هو الشهر السابع يمر من دون أن أعثر على أثر لها أو على زوجها.
في تلك اللحظة أردت أن أخبره بالحكاية كلها، ولكني فكرت هل فيروز التي يتحدث عنها، هي نفسها فيروز التي قتلتها هدى، هدى التي حكم عليها بالسجن والأعمال الشاقة؟
قلت لنفسي، يتابع الفتى: هل أخبره بأنه يسير فوق أرض الغرفة التي سارت عليها فيروز، وأنه يتنفس الهواء الذي تنفسته فيروز بين جدران هذه الغرفة، وأنه ينام في المكان الذي نامت فيه فيروز ولم تستيقظ منه أبداً؟
لم أستطع أن أقول لدرويش كلمة واحدة عن فيروز.. ربما تكون هي ذاتها التي يبحث عنها منذ شهور وشهور، وربما تكون أخرى لا علاقة لها بفيروز القتيلة.
وفجأة، يتابع الفتى: خرجت من نفسي على صوت فيروز وهو ينساب من المذياع عذباً كالحليب، يتسلل دافئاً كالخمر المعتقة إلى الأعماق. سألته، رغم أني سمعته يقول: ها هي فيروز. سألته إن كانت الفتاة التي ينساب صوتها من الراديو، هي فيروز؟
نظر إلي طويلاً، ثم هز رأسه، أن نعم، وهو يغمض عينيه ويذهب حالماً مع اللحن والغناء.
درويش هذا، اختفى ذات يوم كما ظهر.. ذهب، هذا ما بدا لي، يبحث عن فيروزه، على ما يبدو في مدينة أخرى، بعد أن يئس من البحث عن وجودها في حلب، ذهب، ولم أره بعد ذلك أبداً.
* * *
كان الطب قد قال كلمته في أسرة «حميد مامو» قالها بكل وضوح: ما كان عليكما أن تتزوجا، لأنه في وضع مثل وضعكما لن تنجبا سوى أولاداً مختلي العقل والجسم، بعضهم مختل بالكامل، وبعضهم نصف اختلال. ثم أشار الطبيب لحميد، أن يكف هو وزوجته عن إنجاب الأولاد.
أذكر، يقول الفتى: خلال خمس عشرة سنة أنجبت زوج حميد ست بنات وجميعهن مختلات العقل، لا ينمون بعد السنة الثانية من أعمارهن..
عندما عاد إلى البيت وأخبر زوجه بما قاله الأطباء سابقاً ولاحقاً، خصوصاً طبيب اليوم، أحس بشيء ما في نفسه ينهار. هذا ما قاله حميد لابنة عمه زينب التي تكبره بعشر سنوات وهي زوجة لعريف في الجيش. هونت عليه زينب، وطلبت منه أن لا ييأس، وأن يكون أمله بالله، بالله وحده.
أجابها: لا إله إلا الله. ثم أضاف كأنه يتحدث مع نفسه: إنها اللعنة! اللعنة التي حلت بنا، بعد فعلتنا التي قمنا بها أنا وعائشة.
وعائشة هذه، كانت زوجه. واللعنة التي تحدث عنها حميد، كنت شاهداً عليها، قال الفتى: عندما كنت في السابعة أو الثامنة، في الكامب، كانت زينب ابنة عم حميد تسكن قريباً منا، لا يفصل بين بيتينا إلا جدار. ذات صباح، وكان باكراً، رأيت زينب تطرق الباب علينا، وعلى وجهها آيات من الخوف والفزع. وقفت مع أمي، وتحدثتا بأمر ما بصوت خافت. رأيت أمي تضرب بقبضتها على صدرها، ثم تهرع معها خارجة..
استغربت الأمر وأنا أجهز نفسي للذهاب إلى المدرسة.. وفي لحظة خروجي من البيت، ومروري بالممر الطويل الذي يفضي في نهايته إلى خارج الكامب، رأيت عائشة تخرج من بيت زينب صفراء الوجه، شاحبة.. ترددت في خطوتي التالية وأنا أنظر إليها بخوف. سألتها إن كانت تريد مساعدة. هزت رأسها أن لا.. ولكني ما أن خرجت من الكامب حتى عدت أتذكر يوم مجيء عائشة للعيش في بيت زينب قبل تسعة شهور. أذكر يومها شاع خبر عن مرضها، وقيل عنه مرض مزمن. جاءت من قريتها لمراجعة الأطباء والبقاء إلى يوم برائها من المرض. ولكن ما علمته فيما بعد، أن حكاية أخرى كانت وراء قدوم عائشة إلى بيت زينب، والحكاية تقول أن حميداً وعائشة قد أحبا بعضهما، وفي لحظة طيش قبل الزواج، فرطت في أعز ما تملكه الفتاة، ما لبثت أن ظهرت عليها أعراض الحمل بعد شهر، وعندما تقدم حميد لخطبتها من والدها، رفض الأخير أن يزوج ابنته منه، بحجة أنه ليس بمستوى العائلة- عائلة والد عائشة.
ومع مرور الأيام أخذت بطن عائشة بالبروز، ولكي تخفي هذا البروز كانت تشد بطنها تحت الثوب بقوة مما أوقعها في مشاكل صحية، كانت السبب في مجيئها إلى بيت زينب لتبقى فيه إلى حين وضع مولودها.
في ذلك الصباح الذي جاءت فيه زينب إلى والدتي، كانت عائشة قد وضعت بنتاً. وكان حميد حاضراً في تلك اللحظة. وكان الاتفاق بين الثلاثة أن يذهب بالصغيرة الوليدة، في ذلك الصباح الباكر، ليضعها بقرب باب جامع أو أي مكان آخر.
ولم تمض عدة أيام على وضع عائشة لوليدها، حتى عادت إلى بيت أهلها في القرية من دون أن يعلم أحد بالأمر سوى والدتها، وبعد ذلك بأكثر من سنة استطاع الناس إقناع والد عائشة بالموافقة على زواج ابنته من حميد.
يقال، هذا ما سمعته من والدتي بعد ذلك بعدة سنوات: ما أن تم لهما الزواج حتى أتيا إلى حلب، ليعمل فيها حميد ويعيش.
ومنذ اليوم الثاني، عاد حميد إلى المكان الذي وضع فيه ابنته. قالت والدتي: مسكين كان يبكي وهو يقول: لقد راقبت الباب طويلاً، لم أتحرك وأنا أراقب من وراء الشجرة، أراقب اللفة التي تضم ابنتي التي وضعتها أمام باب مدرسة ودير للراهبات في السبيل.. يقول: لقد رأيت بأم عيني كيف خرجت إحدى النسوة المرتديات ثياباً سوداء، وكيف دهشت عندما رأت اللفة؟ كيف التفتت ذات اليمين وذات اليسار؟ كيف انحنت والتقطت اللفة بيديها وعادت بها ثانية إلى داخل المدرسة؟ هنا، عندما رأيت أن ابنتي أصبحت في أيد أمينة تابعت طريق عودتي إلى البيت.
ولكني اليوم ذهبت وطرقت باب المدرسة بكلتا يدي، فتحت لي امرأة تلبس ثياباً سوداء. طلبت منها أن أقابل مديرة المدرسة. سألتني: لماذا؟ قلت لها: لأمر هام. نظرت إلي المرأة كأنها تتأملني، تريد أن تخمن إن كنت أبغي تصرفاً ما. ثم قالت: لا بأس. هيا معي.. وعند المديرة طلبت منها أن نبقى لوحدنا. ثم قصصت عليها الحكاية. قلت لها: والآن أريد ابنتي، لكي أربيها في حضن والدتها. هزت المديرة رأسها وقالت: أنت مخطئ.. لم تلتقط أية امرأة كما تزعم مولودة من أمام المدرسة، وإن حدث هذا الأمر، فلا شك أنه حدث أن امرأة لا نعرفها كانت تراجع المدرسة لشأن من شؤون أولادها الذين يدرسون لدينا، ربما، أقول ربما رأت اللفة كما تزعم وأخذتها.
وهكذا ضاعت ابنتي.. ها نحن اليوم دفعنا الثمن في دنيانا هذه كاملاً. أما ما هو عقابنا في الآخرة ، فعلم ذلك عند الله.
كان يقول لزوجه، إنها إرادة الله يا مرأة، والطب الذي قال كلمته، لا يحمل ذنباً، نحن الذين نحمل الذنب، نحن السبب، علينا أن نكف عن الإنجاب، لكي لا نزيد عدد الأولاد المعتوهين؟.
ولكن عائشة رفضت ما قاله الطب، ظلت تنجب.. ولكن لم تنجب سوى معتوهات، لم تنجب سوى البنات، بنات معتوهات إلى يوم دخولها سن اليأس.
واليوم عندما تراها في الشارع، لا تظن أنك أمام امرأة إنما أمام مخلوق غريب، قادم من عالم آخر، كوكب ناء، بعيد.
* * *
يتابع الفتى حكاياته: أما حكايتي التالية فيمتد تاريخ وقائعها إلى أكثر من ثلاثين سنة. ما زلت أذكر، وأنا ممدد في فراشي، والصباح في ساعاته الأولى، أي لم تشرق الشمس بعد، والجو بارد جداً.. سمعت، وأنا في فراشي أغطي رأسي بلحاف سميك، صوت ضحك صاخب وحديث مجنون! صوت رجل وامرأة. صوتان غريبان يلعلعان تحت سقف الكامب الذي نسكنه. أزحت اللحاف عن وجهي، أنظر بفضول إلى صاحب الصوت. فوقع نظري على وجه شاب يقارب الثلاثين من العمر، وإلى جانبه امرأة أصغر منه سناً بحدود الخامسة والعشرين، لم أرهما فيما مضى.
ما إن رفعت رأسي عن الوسادة وأنا أفرك عيني، حتى خيم الصمت جو الغرفة الواسعة. كان الشاب ينظر إلي بدهشة، وعلى وجهه ابتسامة خبيثة، ما لبث أن قال: عفاك يا عم حسن.. والله أنت تعرف جيداً كيف تخلف صبياناً جميلين.
ضحكت أمي وقالت: سم بالرحمن يا مستو آغا، ألا تخاف أن تصيب الولد بالعين؟
هتف الشاب مبسملاً وهو يقول: معك حق يا بنت شيخو.
لا أدري كيف سحبت من فراشي، لأجد نفسي في حضن المرأة التي برفقة الشاب مستو آغا كما أسمته أمي.. لقد أسكرني في لحظتها، عطرها. حتى انطبق صدري من نفاذ رائحته وثقله على نفسي. ولكني رفعت رأسي بعد أن تلقيت أكثر من قبلة على خدي وصوت المرأة يقول: ما أجمله..
ضحكت أمي ولم تعلق.
تأملت المرأة. كانت جميلة، جميلة جداً، ذات طول فارع، ووجه مدور، وفم رقيق الشفتين.. أما الأنف، فرغم عكوفه إلا أنه كان مميزاً، مميزاً بشكل صارخ.
عادت المرأة إلى جانب الشاب- زوجها، واستمرت الثرثرة العالية بينهما وبين أمي.
خمنت، بيني وبين نفسي، أنهما من قرية والديّ. إلا أني لم أرهما فيما سبق من الأيام. ثم سمعت منها، أنهما سيسافران إلى دمشق، ومنها إلى بيروت.
لم أعرف في تلك السنة البعيدة ماذا تعني كلمتي دمشق وبيروت.. ظننت أنهما قريتين مثل قريتنا.
هذان الشابان، تابع الفتى: عاشا، على ما أذكر، مجنونين. لقد قاما بمغامرات جنونية.. أذكر عنهما، أنه، أي الشاب، ابن لأحد الأغوات في قريتنا.. عرف عن والده البخل والشح، وكثيراً من البدائية! يقال عنه، ما إن يسمع بأن رجال الدرك يتوجهون إلى القرية، حتى كان يهرب من بيته إلى خارج القرية، حيث يقبع بعيداً عنها، في جرف صخري، أو حرش صغير، يظل يراقب القرية حتى يرى بأم عينيه خروج الدرك منها ورحيلهم عنها، فيعود إلى بيته متلمساً طريقه تلمساً.
هذا الرجل رغم فطرته، كان صارماً مع أولاده، فقد زوج ابنه البكر وهو الشاب موضع الحديث، من فتاة عادية رغماً عنه، إلا أنها ابنة آغا. فعانى الشاب من العذاب طويلاً، ولكنه في يوم وفاة والده، قيل عنه، قبل أن يحزن على والده قال فرحاً: الحمد لله.. لقد تحررت من عزيزة- زوجته. وانقلب ذلك الخوف والقهر والاضطهاد الذي عانى منه بسبب والده إلى حياة فيها انطلاق إلى حد الجنون. كان أول عمل قام به أن تزوج تلك الفتاة التي رأيتها معه في بيتنا. ما لبث أن باع جميع ما يملك من الأراضي والبساتين، لم يترك شيئاً مما ورثه عن والده سوى البيت الذي تسكنه زوجه عزيزة مع ثلاثة من أولاده، ثم وضع أثمان أملاكه في حقيبة يدوية، وانطلق يسوح في المدن، من استانبول إلى حلب إلى دمشق وبيروت وعمان. كان يقول: اللعنة على المال. لقد خلقه الله من أجل أن يتمتع به الإنسان، لا من أجل أن يكنزه ذهباً وفضة!
ما قام به مستو آغا أثار الناس مجتمعين، على سلوكه، ثم قاموا بتحريض إخوته عليه من أنه سرقهم حتى آخر قرش مما تركه والدهم لهم.
عندما وصله هذا الكلام، جمع أخويه، وكانا يصغرانه في السن وسألهما، إن كانا هما اللذان أشاعا هذا الكلام؟ أجابا: أبداً. حتى أنهما لم يفكرا بمثل هذا القول. إلا أنهما، تساءل كل واحد منهما، بينه وبين نفسه: إن كان لشقيقهم الأكبر، مستو.. الحق في ذلك؟ كيف لم يعطهما حصتهما من المال الذي ورثاه من والديهما.. ولكنهما لم يجهرا بهذا القول أبداً.
ما زلت أذكر زياراته المتكررة مع زوجه إلى بيتنا.. كان بيتنا أشبه بمحطة راحة لدى مستو آغا، في كل عودة له من مدينة ما، وهو في طريقه إلى القرية، كان يمر علينا وينام لدينا أكثر من ليلة. كان شاباً مرحاً لا يعرف سوى اللهو والبحث عن المتع، أما زوجه فكانت قبل أن تتزوج منه قد زوجوها رغماً عنها لابن عم لها.. وقد أشيع عنها بعض الأمور الغريبة، يقال إنها لم تدع ابن عمها يقترب منها لعدة شهور، فلجأ إلى الحيلة والخديعة فأخذها مرغمة. يقال عندما علمت بذلك، بعد أن خرجت من غيابها عن الوعي، أغلقت الباب على نفسيهما برتاج ضخم، ثم تعرت أمامه وهي في حالة جنون لا يوصف. وقالت له: هل تظن بأنك رجل عندما أخذتني بالطريقة الخسيسة التي اتبعتها؟ ثم ضحكت بجنون وقالت: هيا اخلع الثياب عن نفسك وتعال إن كنت رجلاً وواقعني.
لم يصدق ابن عمها الزوج ففعل.. يقال إنهما تعاركا طويلاً، حتى أن أهل البيت من أهله قد تجمعوا أمام البيت المغلق الباب وهم يستمعون إلى العراك الشديد الجاري بين الكنة وابنهم خلف الباب.
يقال إنها استطاعت أن تعض له عضوه، وتشد بأسنانها عليه تريد أن تقطعه له. ولم تتركه، حتى راح يصرخ بأعلى صوته ليسمع جميع أهله الذين في الخارج: أنت طالق بالثلاث.
كثيراً ما سمعت من والدتي وهي تضحك وتطلب منها أن تحدثها عن هذه الواقعة إن كانت صحيحة أم لا. كانت تهز رأسها وهي تبتسم بخبث: لم يكن رجلاً.. لذا أشاع عني هذه الإشاعة لكي يبرر ما قام به أمام الناس.
أذكر، يتابع الفتى: أن مستو آغا، ظل يسوح في المدن لمدة طويلة، ظل إلى يوم فرغت فيه حقيبته من المال، ولم يبق لديه قرش واحد، وأمام هذا الواقع اضطر أن يتوظف ويعيش بقية حياته موظفاً بسيطاً، يتنقل من بيت إلى آخر بالأجرة. إلى أن جاء يوم سمعت فيه أن مستو آغا قد تزوج للمرة الثالثة من امرأة تصغره بأكثر من عشرين سنة.
لولا بعض التفاصيل التي كنا نسمعها بين حين وآخر عن حياته لنسي الناس قصته تماماً، ولكنها، أي القصة، كانت تطفو على السطح، فيسردها هذا ويرويها ذاك من جديد. إما إخواه في هذا الوقت فكانا عندما يشتركان في الحديث فيقولان: أنه، أي شقيقهما، قد ظلمهما ظلماً فادحاً عندما لم يعطهما قرشاً واحداً مما أحله الله من مال أبيهم. فكان مستو آغا يضحك ساخراً منهما ويقول لهما: اذهبا عني أيها الجربانان أأنتما رجلان تعرفان التصرف بالمال؟ أنتما لا تعرفان العيش..
أما الأمر الطريف، وربما يكون الأمر ليس طريفاً، إنما حزيناً لا بل مأساوياً، ففي يوم وفاته ترك وراءه امرأتين الأولى لا أولاد لها، لأنها عاقر والثانية لها ولدان صغيران. مات مستو آغا ولم يترك وراءه شيئاً من موارد المال، فدفع هذا الوضع بأخويه أن يتزوج كل واحد منهما زوجة من زوجتيه. وبهذا الوضع انتهت حكاية مستو آغا وطواها النسيان بعد أن ظلت لأكثر من أربعين سنة يتداولها الناس أحياناً باتهام، على أنه رجل متهتك لا يعرف حرمة لشيء، وأحياناً بإشفاق على أنه رجل سكنه شيطان المتعة لا غير.
* * *
كان الفتى قد تساءل دائماً عن أسباب تعلقه بخاله مراد، وتعلق خاله به. كان الخال يكبر الفتى بأكثر من عشرين سنة. كان يقضي معظم وقته لدى شقيقته، والدة الفتى، في حلب.
كان يحبني كثيراً، يتابع الفتى: يعاملني كابن له، يلبي طلباتي مهما كانت. يصطاد العصافير من أجلي، يذهب معي إلى المزارات التي تكثر في القرية، يحدثني عن الأولياء والصالحين الذين يقبعون تحت قبابها الخضراء، ويعلمني الصيد بالنقيفة، ويلعب من أجلي، وهو الرجل الكبير، مع الأطفال الآخرين في الدحل، فيربح دائماً، ليعطيني الدحل التي يربحها في اللعب.
هذا الخال، عاش حياة غريبة عجيبة، ثم مات دون الأربعين. لقد ظل لسنوات طويلة، تعدت الخمس، وهو في صراع مع والده(جدي)، كان الصراع يتعلق بالعمل.. كان جدي رجلاًً فقيراً، لا يملك سوى قطعة من الأرض البور..
كان خالي لا يحب العمل في الأرض، ليس هذا وحسب، إنما كان يكره العمل في الزراعة بكل أشكالها. لذا ما إن بلغ سن البلوغ حتى راح يسافر إلى المدينة باستمرار، بحجة زيارة شقيقته(أمي)، فخلع بذلك لباسه الريفي مرتدياً لباس المدينة.. وحول هذه الواقعة حكايات وحكايات بين الخال وأبيه. لقد ظلا أكثر من شهر يتشاجران حول اللباس. كان جدي يسخر من ابنه(خالي) وهو يراه في البنطال والقميص، يقول عنه ما أنت الآن إلا مهرجاً.. ويضيف: لماذا لا تذهب يا بني إلى السيرك لتعمل فيه لإضحاك الناس عليك.
كان خالي لا يرد عليه، يدير ظهره ويمضي عنه وهو حانق غاضب، غير قادر على الرد. لو فعل ذلك لحلت عليه لعنات أهل القرية، فآثر الهرب من القرية إلى المدينة والعمل فيها، ولكنه لم يتأقلم مع الأعمال التي مارسها. كان يقول، أريد أن أكون سيد نفسي، فأنا لم أتحمل نفسي ليكون أبي سيدي، فكيف أستطيع أن أتحمل نفسي والغريب عني هو سيدي..
جاءني ذات يوم، وكان يوم جمعة، أحد الأطفال في الصباح، وأشار أن أذهب إلى خالي. سألته باستغراب: خالي؟
كان، تابع الفتى: قد عاد إلى القرية منذ أكثر من شهر، واستقر فيها إلى جانب أمه (جدتي) التي كانت تعاني من مرضها الذي اشتد عليها في الآونة الأخيرة. قلت للصبي: كف عن مزاحك. لو كان خالي قد جاء، حتماً لجاء إلى بيتنا، وكلمني بالذي يريد. ليس به حاجة لأن يطلبني خارج البيت.
غضب الصبي وقال: ولماذا أكذب عليك؟ لقد أخبرني هو بنفسه أن أطلب منك أن توافيه، من دون أن تخبر أحداً من أهلك، خاصة والدتك.
لعب الفأر بعبي كما يقول المثل. لا بد أن هناك أمراً ما لتصرف الخال هذا. سألت الصبي: أين هو؟ أجابني: هيا.. إنه بالجوار.
كان خالي ينتظرني على أحر من الجمر كما يقال، استغربت تصرفه هذا، وقبل أن أسأله عن أسباب ذلك. قال لي: لا تسألني عن السبب.. أريد أن أقول لك، إني ذاهب إلى الشام (دمشق) لقد تشاجرت مع أبي مشاجرة كبيرة، لقد ارتكبت خلالها حماقة، فلم يعد أمامي سوى الرحيل عن القرية والابتعاد عدة سنوات لعل وعسى ينسى أهلها حماقتي.
أردت أن أسأله، لماذا الشام وليست حلب؟ إلا أنه تابع أنا ذاهب لأتطوع في الجيش.. سأعيش هناك حتى إن لم يقبلوا تطوعي. سأجرب حظي يا بن أختي، لو جئت إليك في المنزل، لما تركتني أمك أرحل.. لذا لا تخبر أحداً الآن. ثم أضاف الخال: ولكن لا بأس إن أخبرتها بعد عدة أيام. لأنه عند ذلك، لا أعتقد بأن أحداً منهم سيذهب إلى الشام للسؤال عني. هل اتفقنا؟ لم أجبه، لأنني رحت أبكي بشدة، فضمني إلى صدره وهدهدني ثم طلب مني أن أكف عن البكاء، لأنني أصبحت شاباً على حد زعمه. وأكد لي بأنه لن ينساني، ولن يتأخر في المجيء إلى هنا.
وعلى هذه الحال سافر الخال إلى دمشق، وظل فيها أكثر من سبع سنوات، كان قد تطوع في الجيش.. يأتي إلينا في زيارات خاطفة، لم يذهب إلى القرية أبداً، أما عندما أراد رؤية أمه قبل يدي والدتي وطلب منها أن تذهب إلى القرية وتجلب معها أمه(جدتي) مؤكداً على أنه اشتاق إليها إلى حد الموت. بكت أمي وحققت له مطلبه.
في الشام(دمشق) بدأ خالي حياة تختلف تماماً عن تلك التي عاشها في القرية وحلب على حد سواء. كان يحدثني كثيراً عنها، كان معجباً أشد العجب بدمشق. ظل منتشياً بحياته هذه حتى كانت الكارثة.
كان خالي أمين مستودع ذخيرة وسلاح في الثكنة التي يخدم فيها. في تلك السنوات، يتابع الفتى موضحاً: كانت سنة الصراعات بين القوى العسكرية، كل واحدة منها تنتمي إلى حزب ما. كانت حالة البلاد في غليان، وما إن تم الانفصال حتى تتالت الحركات الانقلابية، الناجح منها مثل(8 آذار) والفاشل منها مثل(حركة الضابط جاسم علوان) لم يكن خالي يهتم بكل هذا الأمر، كان همه الوحيد أن يحصل على راتبه ليصرفه على النساء، هذا ما استشفيته من خلال أحاديثه معي عن الشام(دمشق) وعجائب الشام، خاصة نسائها.
ذات صباح باكر، أيقظه قائده وكان برتبة رائد، وطلب منه أن يفتح مخزن الذخيرة والسلاح، تردد في البداية، عرف أن أمراً ما وقع أو سيقع، ما هو؟ لا علم له. ولكنه امتثل للأمر، أمر قائده الضابط.
وما إن فتح المخزن حتى تسلل إليه عشرة جنود وراحوا يفرغونه من الأسلحة والذخيرة. ولم تمر ساعات الصباح الأولى، حتى تكشف لخالي، أن قائده الضابط كان واحداً من المساهمين في انقلاب(جاسم علوان) الفاشل. ولم تأت ساعة العصر حتى تم إلقاء القبض عليه بتهمة التآمر على سلامة الدولة.
ظل خالي في السجن أكثر من شهر، ذاق خلالها كل ألوان العذاب. كان يقول لي بحزن: ما زلت أرتجف حتى الآن كلما أتذكر وقائع تلك الفترة من حياتي. كانوا بعد كل تحقيق معي، ينادون على بعض الجنود وصف الضباط والضباط، يأخذونهم في عتمة الليل، ثم نسمع بآذاننا تنفيذ حكم الإعدام بهم بتهمة الخيانة العظمى. كنت، يقول خالي، أقول لنفسي: الآن سينادون علي، اليوم سيرفعون صوتهم باسمي، الآن سيعصبون لي عيني ويصوبون فوهات البنادق إلى صدري، ثم أسمع كلمة نار، فتنهمر علي الطلقات، لأسقط صريعاً بعدها، ثم يحملونني في سيارة قديمة، كما كنا نرى بأم أعيننا، يكوموننا فوق بعضنا بعضاً، ويخرجون بنا، ونحن جثث صفيت دماؤها إلى ظاهر المدينة، إلى إحدى المقابر الجماعية، يرموننا فيها كالكلاب النافقة، ثم يردون علينا التراب ويهيلونه فوقنا، لنصبح مجهولين، لا أحد من أهالينا يعرف قبراً لنا أو شاهدة حفر عليها كلمة«الفاتحة» مثلنا مثل كل الموتى.
في تلك الساعات، يتابع خالي: كنت أتذكر كثيراً من الأشياء، أستعيد حياتي بكل تفاصيلها، كأني بذلك أريد أن أستعيد كل ساعة أو دقيقة عشتها من حياتي.. ولكن بعد شهر من التحقيق، تم تسريحي من الجيش بعد أن وصل المحقق العسكري إلى قناعة، أنني لم أكن عنصراً من عناصر الانقلاب الفاشل، إنما نفذت أمراً عسكرياً أمرني به قائدي الضابط.
لم يمض على خروج خالي من سجنه وتسريحه من الجيش فترة من الزمن، حتى ظهرت عليه علائم مرض السل. في البداية أهمل الأمر، لأنه كان يعتقد بأن ما يحس به من ألم وسعال ما هو إلا بعض رشح. لذا لم يراجع الطبيب إلا عندما رأى ذات صباح، بعد سعال حاد، خيوطاً من الدم في بصاقه.
في ذلك اليوم، ذهبت معه إلى الطبيب.. وبعد الكشف والتصوير، أكد الطبيب لخالي، بأن هناك في صدره تدرناً. ولكنه في بدايته، يمكن أن ينجو منه، قال الطبيب، لو اتبعت نصائحي، في تناول الدواء ونوع الأكل والشرب والنوم.
شعر خالي بعد أن عرف الناس بمرضه، أنه غير مرغوب فيه، كما كان سابقاً في زياراته لمعارفه وأصدقائه وحتى أقربائه.
حزن لذلك حزناً شديداً فأهمل نفسه، ولم يعد يتناول الدواء، ولم يلتزم نصائح الطبيب، في الأكل والشرب والنوم. فاستفحل المرض به، أدخل إلى المستشفى وظل فيها أكثر من شهر، إلا أنه خرج منه قبل أن يبرأ من مرضه. فعاوده المرض بصورة أشد، وظل بعد ذلك هائماً على وجهه يبكي ساعة في حياته، تلك الساعة التي ماتت فيها(جدتي) دون أن يحضر موتها ودفنها. كان يقول لي وهو يحاول أن يبعد وجهه عني، ويدير فمه بعيداً مني خوفاً منه علي من العدوى: لم يعد لقائي بها بعيداً. ثم يرفع وجهه إلى السماء ويقول: أنا قادم إليك يا أمي.. أنا قادم.
كنت أبكي، وأنا ألعن الدنيا والحياة وكل شيء.. وفي صباح أحد الأيام، يتابع الفتى: مات بصمت بعد أن أصبح جلداً على عظم كما يقولون، مات في بيت شقيقته (أمي) وهو ينظر إلي كأنه لا يريد أن يغمض الموت له عينيه إلا على وجهي.








-4-

• .. وأنا أنظر خلفي في هذا الليل
في أوراق الأشجار وفي أوراق العمر
وأحدق في ذاكرة الماء وفي ذاكرة الرمل.
محمود درويش
• يا لها من سنين بعيدة، نائية!
سألتقط هذه الأطياف بلا سرد تاريخي متصل
مثل الأمواج التي تروح وتجيء.
بابلو نيرودا
• بعض الذين يكتبون مذكراتهم، يريدون بذلك أن يحيوا سنوات صباهم السعيدة مرة أخرى.
ب. غارشن
• إن الذي بعث غير الذي كان حياً، إنهما متشابهان.
أندريه مالرو
• يا للأشرعة التي تطوى..
سان جون بيرس
ما زال المشهد ماثلاً أمام عيني الفتى..
عربة محملة باثاث البيت، يجرها بغل عبر البرية الواقعة ما بين حي الكامبات وبين حي براكات السريان. ما زال يذكر القبو المؤلف من غرفة واحدة التي نزلت أسرته فيها بعد أن أحيل والده إلى التقاعد.
تساءل كثيراً عن معنى كلمة «تقاعد» إلا أنه لم يعرف معناها إلا بعد سنوات طويلة.. وكل ما يذكره الفتى، بعد أن سمع هذه الكلمة التي قالها والده أكثر من مرة وهو يناقش زوجه، عليهم إخلاء البيت في الكامب. لأنه أصبح خارج الخدمة، أصبح من المتقاعدين، والبيوت هذه في الكامبات هي مخصصة لجنود داخل الخدمة.
يذكر الفتى، أنه لم يعرف يوماً بيتاً له سوى ذاك الكامب. لقد سمع من والدته، أنهما، هي وزوجها، والده، وابنها البكر، عندما جاؤوا إلى حلب، سكنوا في منطقة تسمى«كرم الجبل»، لقد سمع شقيقه الكبير يتحدث عن تلك المنطقة، وعن تلك الغرفة التي سكن فيها مع والديه.. سمعه يقول بكثير من الخيبة: لقد كانت الغربة التي عشتها فظيعة وقاسية، حتى أنها كانت تدفعني في كثير من الأوقات إلى البكاء، طالباً من أمي العودة إلى القرية التي رحلنا عنها.
أما الفتى، فلم يعرف عن أسرته شيئاً في تلك السنوات التي تحدث عنها شقيقه الكبير، لأنه ببساطة لم يكن مولوداً بعد. لم يعرف الفتى، ولا يذكر عن هذه المرحلة شيئاً.. كما إن والديه لم يتحدثا عنها أمامه. بقيت السنوات الخمس الأولى من رحيلهما عن القرية إلى مدينة حلب، غامضة.. وغير جلية الملامح والوقائع، حتى أن شقيقه الأكبر، وكان يكبره بست سنوات لم يخبره شيئاً مفيداً عن تلك المرحلة. أما شقيقه الثاني الذي كان يكبره بثلاث سنوات والذي مات في الأسبوع نفسه الذي ولد الفتى فيه فلم يعرف عنه شيئاً أيضاً..
وقبل الحديث عن مرحلة ما بعد تقاعد والده، كان لا بد للفتى أن يتحدث عن شقيقه الأكبر، أو بالأحرى عن شذرات من حياته منذ أن وعاها وهو طفل صغير لا يتجاوز السادسة.
ولكن هذه الشذرات، يقول الفتى: عندما أرصفها اليوم إلى جانب بعضها بعضاً، لا تبين لي سوى الصورة العامة لحياة أخي البكر، أما تفاصيلها فلا أتذكرها.. هذا من جهة ومن جهة أخرى، أن لهذه التفاصيل بعض الخصوصية، والخوض- برأيي- فيها ليس مفيداً، وأيضاً ليس أخلاقياً. لأن لكل واحد منا خصوصياته لذا سأهمل الحديث عنها.
أولى هذه الشذرات وكأنها خيال يعبر ذاكرتي: تلك الهرة البيضاء التي كان أخي قد اشرف على تربيتها، لا أذكر متى أو كيف ضم تلك الهرة البيضاء إلى حياته، بصفة خاصة، وإلى حياة الأسرة بصفة عامة. أتذكرها كيف كانت تعود من الخارج، تنتقل بيننا فرداً فرداً، تشم رأس كل واحد منا، ونحن نيام في الفراش، كانت ما إن تصل إلى أخي حتى تدس نفسها إلى جانبه لتنام معه حتى الصباح.
ذات يوم عدنا من القرية في أواخر الصيف، قبل أن تفتتح المدارس أبوابها، لم نجد الهرة في البيت.. أنا لا أذكر إن كان أخي قد ترك الهرة لدى بعض أصحابه الذين يماثلونه في السن عندما سافرنا إلى بيت جدي في القرية، أم أنه تركها في البيت، أو خارجه.. أما لماذا لم يأخذها معه إلى القرية؟ فلا أعرف جواباً لهذا السؤال. لقد سمعت أمي تتحدث مع من؟ لا أذكر، إنما أتذكر حديثها فقط. كانت تقول: المسكينة، رأيناها متفسخة في البرميل، لعلها كانت تبحث عن الطعام في داخله، أما عندما حاولت الخروج منه فلم تستطع، فماتت جوعاً وعطشاً، يا لها من مسكينة.
ظل أخي حزيناً على هرته البيضاء شهوراً طويلة، ليس هذا وحسب، إنما كان يحس بتأنيب الضمير لإهماله لها في ساعة سفره. كنت أسمعه يقول: ما الأمر الذي ألهاني عنها في ساعة السفر؟ لم يجد جواباً على تساؤله هذا أبداً.
هذا الأخ، كما قلت، كان يكبرني بست سنوات، فأنا لا أذكر أن علاقة قامت بيني وبينه كأخين إنما كانت أشبه بعلاقة الابن بالأب.. خاصة في وضع غياب أبي الدائم عن البيت! كنت أشعر بأن هناك سداً ما يقف بيني وبينه. لا أذكر بتاتاً أننا تجولنا معاً أو لعبنا سوية أو تحادثنا غير الأحاديث التي كنا مضطرين للحديث بها. لذا أهملته تماماً كنت أعتبره غريباً بالنسبة لي.
هذا الغريب، كنت شاهداً على عدة قصص حب عاشها، أذكر منها اثنتين بشيء من التفصيل. الأولى يوم كنا في الكامب مع فتاة شركسية، كانت تربطه بأخيها الذي يماثله في السن علاقة صداقة قوية. ورغم أنهما- أي أخي والفتاة- كانا صغيرين، لا يتجاوز الواحد منهما الخامسة عشرة إلا أن قصة حبهما شاعت في الكامب كله واستمرت حتى رحيلنا عنه، ولم تنته أبداً.. رغم أنها أخذت مساراً آخر، أي ظلا بعد زواجه وزواجها صديقين.. لا أعرف إن كانت الفتاة قد تحسرت على أخي مثلما كان هو يتحسر عليها وظل كذلك حتى اليوم. أما الفتاة الأخرى فكانت مسيحية، بعد انتقالنا إلى براكات السريان، كانت جارة لنا، كانا قد أحبا بعضهما، ولقد حاولت أن تستخدمني مراسلاً بينهما، إلا أني تملصت من المهمة بتهذيب.. إلى اليوم الذي رأيت فيه تحول أخي عنها، لماذا؟ لا أعرف. ولم أعرفه حتى اليوم. لقد رأيتها أكثر من مرة تبكي أمام النافذة، وهي تحاول بكل الوسائل أن ترده إليها. إلا أنه لم يرضخ لدموعها، حتى أنني كرهته لذلك وقلت عنه: له قلب من حجر..
هذا الأخ الذي قلبه من حجر، فشل في دراسته مثله مثل معظم أبناء جيله من أصدقائه الذين عرفتهم فانخرط في العمل بعد ذلك.. هذه المرحلة من حياته أجهلها تماماً، إلا أنه كان دائب التأنق يعمل طوال الأسبوع ليصرف على نفسه ما كان يتقاضاه من أجر.. عرفت فيه حبه الكبير للسينما، خاصة أفلام فريد الأطرش، وحبه الكبير أيضاً لكرة القدم. كنت أحسده! أولاً لأنه يعمل ويحصل على المال ليعيش حياته مستقلاً عن الأسرة كما يرغب ويشاء، يذهب إلى السينما أو المسبح أو إلى الملعب لمشاهدة مباريات كرة القدم. ثانياً: لأنه لا يرتبط بالدراسة التي أخذت أملّها في تلك السنوات.
هذا الأخ، روّعنا ذات يوم. لقد جاءنا أحد أصدقائه وقال لنا: أن المباحث أخذته من مكان عمله!
وفي تلك السنة 1959، كانت الاعتقالات على أشدها في صفوف الشيوعيين والوطنيين، أذكر اليوم كيف ضحكت لناقل الخبر ضحكة قوية، حتى أنه، أي ناقل الخبر، التبس عليه أمر ضحكتي، فانسحب خائفاً وسارع في سيره واختفائه.. نهرتني أمي بشدة لذلك. فقلت لها: لا تصدقي هذا الأمر. ثم سألتها: لماذا يعتقلونه؟ أولاً لا علاقة له بالسياسة أو بأي نشاط يفضي إلى هذا الطريق.. ولكن أمر الاعتقال تأكد لنا في المساء عندما لم يعد إلى البيت. ذهبنا إلى منزل صاحب عمله وكان في الحارة، سألناه عن الأمر. أكد لنا أمر اعتقاله، ثم أضاف لم يأخذوه وحده، إنما أخذوا معه اثنين آخرين، وذكر لنا اسميهما، لقد نسيتهما، إذاً خبر اعتقال أخيك صحيح يا فتى.. شعرت بالخوف والحزن.
لقد عانى البيت في اليومين اللذين أمضاهما في المخفر للتحقيق معه، ضياعاً تاماً. كان الاضطراب والبكاء والخوف.. كل هذه المشاعر لا تسكن في صدورنا فقط إنما تحلق فوق رؤوسنا أيضاً. وعندما أطلق سراحه حدثنا عن سبب اعتقاله، وهو أن أحد أصدقائه الذين يعملون معه كان شيوعياً، أوفي حكمه، فشمله الاعتقال أيضاً ولم يطلق سراحه إلا بعد أن وجدوا في حقيبته الصغيرة صورة للزعيم.
حتى اليوم أتساءل، لماذا حوت حقيبة أخي تلك الصورة، لأنه لم يكن في يوم من الأيام من المشتغلين في السياسة، أو حب فلان أو علان من القادة السياسيين، ولقد حاولت أكثر من مرة أن أسأله عن ذلك، ولكني لم أجرؤ! كنت صغيراً يوم اعتقاله، ولم أسأله بعد أن كبرت، لأن القضية برأيي لم تعد «محرزة» كما يقولون. لقد أهملت الأمر برمته بعد ذلك.
هذه الشذرات التي أذكرها عن أخي البكر، عمرها أكثر من خمس وأربعين سنة مضت.
سأعود، يتابع الفتى: إلى الحديث عن أيام تقاعد والدي. عندما تسلقت العربة وجلست فوق «عفش البيت» الذي حمّلناه، شعرت لأول مرة بأن أسرتي من الأسر الفقيرة، وعليها الرحيل ككل الفقراء إلى «براكات السريان»لتبدأ حياة جديدة.
ظللت أنظر إلى الوراء والعربة تتقدم إلى الأمام، إلى عكس ما كنت أنظر إليه، حتى شعرت بألم حاد في عنقي مما اضطرني ذلك إلى أن أغير من جلستي، فقمت أدير ظهري للحي الذي نذهب إليه للسكنى، أما وجهي فكان لحي الكامبات الذي نرحل عنه.
كان اليوم بارداً، رغم أن الشمس كانت ساطعة بقوة والسماء، أذكرها تماماً، كانت زرقاء بصورة غريبة، حتى أني لم أرها فيما بعد بتلك الزرقة الزاهية أبداً.. كان والداي يتابعان العربة سيراً على الأقدام، أما سائق العربة فكان يغني بصوت أجش أغنية ما تزال كلماتها الحزينة تدور في أذني من دون أن أقدر على حفظها.
عندما بدأت بيوت براكات السريان بالظهور، بدأت الكامبات بالاختفاء رويداً رويداً حتى اختفت تماماً وراء خط التل المنحدر من أعالي ثكنة «طارق بن زياد» إلى الطريق الإسفلتي الذي يؤدي براكبه إلى قريتي.. عند هذه النقطة تساقطت الدموع من عيني، ثم بعد ذلك انفجرت ببكاء مر وطويل بعد أن عرفت أن مرحلة من حياتي قد انتهت.
وبعد مرور العربة بين بيوت براكات السريان التي اختفت ملامحها وراء الدموع التي كانت ما تزال عالقة بأهداب عيني، توقفت أمام دار لأنزل من العربة ونبدأ بنقل «الأثاث» إلى غرفة وحيدة معتمة، وضيقة وغائصة في الأرض عدة درجات. هذه الغرفة/ القبو لا أذكر شيئاً من حياتنا التي عشنا فيها لمدة شهور لا غير قبل أن ننتقل منها في يوم شتائي عاصف إلى حوش «نجيب غنيمة»في الحي نفسه.
كانت الحوش مؤلفة من أربع غرف، تقابل كل اثنتين بعضهما بعضاً، تحيط بها حديقة ليس فيها سوى شجرة واحدة مهملة. أما صاحب الدار فكان شيخاً نحيلاً، بخيلاً، يقارب الستين من العمر. هذا إن لم يتخطاها من زمن. كان يضع طربوشاً أحمر على رأسه، ويرتدي طقماً رمادياً في كل الفصول والشهور خلال السنة.
أذكر عندما انتقلنا إلى حوش «نجيب غنيمة»لم يمر شهر على ذلك حتى استدعي والدي إلى الخدمة الاحتياطية على خلفية العدوان الثلاثي على مصر. هذا الوضع رمانا، أقصد كأسرة، في حالة من عدم الاستقرار المالي الذي أثر على حياتنا بشكل كبير. كان والدي قد أعيد مرة أخرى كعسكري احتياط إلى الجبهة، لذا كان وصول الراتب إلينا يتأخر أحياناً أكثر من شهر. فكانت أمي تضطر إلى الاستدانة، أحياناً من الجيران والأقارب، ولكن في معظم الأحيان تؤمّن مصاريف الأسرة وحاجاتها من أصحاب الدكاكين التي كنا نستدين منها، مثل الخضرجي واللحام والفران.. لهذا كانت الأسرة تقع في كثير من المشاكل عندما كان الراتب يتأخر في الوصول إلينا.
هذا الوضع الذي أتحدث عنه، رماني ذات مرة في حالة غياب عن الوعي، لا أعرف كيف..
هذه الحالة إلى اليوم، أتذكرها بكثير من التفاصيل، لأنها كانت قاسية وشديدة الوقع علي بحيث صدعت لي نفسي بالكامل.. لم أعرف كيف غرقت في النوم. ولكني عندما استيقظت وجدت نفسي ألوذ في زاوية من الغرفة الوحيدة التي أسكنها مع أسرتي، وكنت قبل ذلك قد سمعت من أمي تقول: هذا هو الشهر الثالث في تأخر وصول الراتب إلينا. لهذا تراكمت الديون علينا، ولهذا الأمر بالذات امتنع اللحام والفران والخضرجي عن إقراضنا. أما صاحب الدار(غرفتنا) التي نسكن فيها فسأؤجل الحديث عنه إلى فترة لاحقة.
أذكر كنت قابعاً في زاوية البيت، وأنا أسمع صراخ الخباز واللحام والخضرجي بآن واحد، لقد اجتمع الثلاثة معاً، لا أدري إن كان ذلك عن طريق المصادفة أم كان اتفاقاً فيما بينهم؟ اجتمع الثلاثة في جوقة، وراحوا ينوحون من أنهم يريدون أموالهم. ديونهم عن الأكل والشرب الذي قدموه لنا، حتى أن الخباز هدد بأنه سينتحر أمام بيتنا إن لم نسدد ما علينا من دين له! أما أمي فلم يكن بيدها حيلة، راحت تضبط نفسها لكي لا تنفر الدموع من عينيها وهي تقول: ماذا أستطيع أن أفعل لكم، لقد تأخر الراتب؟ لقد.. ثم انفجرت تشهق ببكاء مر.
أذكر، يتابع الفتى: عندما رأيت نشيج أمي ودموعها، صرخت وأنا مشدود إلى الحائط بأعلى صوتي وجسدي كله يرتجف خوفاً وذعراً. سكت الثلاثة والتفتوا إلي باستغراب غير مصدقين ما سمعوه من صراخ! ظلت شفتي العليا ترتجف طويلاً بعد الصرخة التي أطلقتها، وبدأت دموعي تنهمر بغزارة على خديّ. ثم ما لبثت أن غبت عن الوعي.
بعد هذه الواقعة لم يتقدم الثلاثة من البيت، لمدة تزيد عن الشهرين، ولكن خلالهما كانوا قد قطعوا عنا اللحم والخبز والخضار.. وما إن بدأ الجوع يعمل في بطوننا ويرمي أجسادنا إلى الهزال والضعف حتى سرح والدي وعاد إلى البيت.
هذه الصورة تكررت في أحلامي بأوضاع مختلفة في ليالي سهادي الطويلة.. هكذا تخيلت الأمر، ما لبث أن تسلل إلى داخلي صوت لم أعرف صاحبه، يقول لي: لا تحاول أن تخدع نفسك، فأنت لم تحلم إنما تذكرت فقط.. لأن الصورة التي تحاول أن تقنع نفسك بها، على أنها حلم، كانت واقعاً، لقد عشته لحظة بلحظة.. ثم سألني الصوت بشيء من الاستفزاز: حاول أن تكذبني إن استطعت؟
تراخت أعضائي فعدت أجلس على طرف السرير، وأنا أتذكر الصورة التي خيل لي أني رأيتها في الحلم. نعم، لقد تذكرت، يؤكد الفتى لنفسه: تلك الصورة لحظة بلحظة.. ولكني لا أعرف كيف مرت تلك الدقيقة المخادعة التي دفعتني إلى النسيان.. نسيان أمر لا يمكن أن أنساه أبداً..
لذا اختلطت حياتي اختلاطاً عجيباً، فلم أعد أميز الحلم عن الواقع، ولا أفرق بين ما عشته وما حلمت به ورأيته في المنام. لقد تداخلت الصور والأشياء والرغبات والأحلام والأحداث اليومية بشكل غريب! كانت حياتي هذه تضعني أمام التساؤل من جديد: أهذا الأمر كان حلماً رأيته أم واقعة عشتها؟ ولكني مع الأسف لم أكن أجد، كالعادة الإجابة الشافية، إذ كنت أترك نفسي، رغماً عني تتخبط في الضياع والتيهان.. فدفعني هذا الأمر إلى الخروج من نفسي والتوجه إلى الآخرين.
لهذا، يتابع الفتى: استيقظت ذات يوم بعد غفوة قصيرة، أو هكذا خيل لي.. قمت متوجهاً إلى المرحاض، ولكني قبل أن أخرج من الممر الواسع العاري الذي يفصل بين كل غرفتين سمعت صوت أمي وهي في جمع من النسوة تقول: المصادفة وحدها دفعتني لرؤية ما رأيت، وسماع ما سمعت. رأيت زينب تخرج من غرفتها والدنيا ما بين الساعة الواحدة والثانية من الليل، استغربت ماذا دفعها لتخرج وهي بكامل زينتها من البيت في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ رأيتها تتوجه إلى بيت صاحب الدار.. وحسب معرفتنا كان إيجار البيت قد تراكم على والدة زينب التي كانت قد تخطت الستين منذ زمن طويل، كانت والدتها امرأة سمينة، عوراء، يدل مظهرها الخارجي على الفقر المدقع القادم من الريف لا غير.
تابعت أمي قائلة: خرجت زينب بخطوات هرة مدربة، من دون صوت أو حس.. وما أن وصلت إلى باب غرفة صاحب البيت حتى تسللت إليه بخفة.
وتضحك أمي وهي تتابع: لا أعرف الأمر الذي شجعني على الانسحاب من الفراش والخروج إلى الصالة، متقدمة من باب صاحب الحوش الذي لم يكن مغلقاً بإحكام.
تضحك أمي وتتابع: صحيح لم أر ما كان يقومان به، إلا أنني، ومن صوتهما، عرفت ما يقومان به.. كان العجوز، على ما يبدو، لا يستطيع أن يجاري زينب، كان يكح وهو عاجز عن إتمام ما كان يقوم به.. لقد ظل المسكين أكثر من ساعة في محاولاته دون جدوى حتى سمعته يقول لها: لقد تعبت، لم تعد لدي القدرة على المتابعة.. وساد صمت ما لبث أن ارتفع صوت العجوز وقال: خذي.. هذه أجور الشهور الثلاثة.. وغداً، أمام بقية المستأجرين ادفعيها لي كأجور الشهور التي بذمة والدتك.
تابعت والدتي: وقبل أن تخرج زينب، انسحبت عائدة إلى غرفتي.
ضجت النسوة بالضحك بينما واحدة منهن تقول معلقة: الآن عرفت سبب الطريقة التي قدمت بها زينب، صباح اليوم، نقود الآجار للقرد نجيب.. لقد استغربت تماماً ما قامت به، شعرت كأنها تريد بذلك أن أرى وهي تدفع له ما بذمتها من المال.
هذه الحكاية التي سمعتها من فم والدتي، رغم أنها حكاية مريرة، إلا أنها مضحكة، لهذا كانت النسوة ومن بينهن أمي، قد أطلقن حناجرهن بالضحك الصاخب، حتى أن زينب خرجت من غرفتها رغم أنها كانت في أقصى الحوش تستطلع أمر ضحكهن.
واليوم أتذكر تلك العائلة وفيما شاهدت من حياتها وما رأيت من عيشها.
لقد جاءت ذات يوم شتائي لتستأجر إحدى غرف الحوش الفارغة منذ ثلاثة شهور، أول الأمر بدت لنا العائلة غريبة! حاول معظم قاطني الحوش معرفة شيء عن حياتها، بعد أن لفت نفسها بالغموض، فلم يستطع أحد من قاطني الحوش انتزاع معلومة مهما بدت صغيرة منها. كانت الأسرة مؤلفة من أخ يعمل في صباغة الأحذية، وأختين، الكبرى، كانت تدعى زينب، أما الصغرى فكانت بنصف عقل كما يقولون، ولكنها كانت ذات جسد بديع متناسق، مكتمل كأنه لأنثى ناضجة، رغم أنها كانت في الثالثة عشرة من العمر.. ولما كانت الأسر الأربع فقيرة، ولها من المشاكل ما يكفيها شر البحث في أمور العائلات الأخرى أهملوا السؤال عن العائلة الجديدة التي سكنت معهم في الحوش، ولم يهتموا بها إلى أن جاء يوم، وتم فيه فضح كل شيء!
كان للأسرة بعض المعارف يترددون عليها، ومن بينهم رجل أربعيني يرتدي قمبازاً وطربوشاً أحمر اللون، عرفت فيه العائلات، كما أشارت أسرة زينب، عماً لها.. وكان يطلق عليه لقب عم البنات.
هذه الصفة لم يقتنع بها أحد من قاطني الحوش. كانت ترى فيه، أي العم، رجلاً غامضاً وراءه حكاية ما! ولكن شهادة لله، كما يقولون، كان مهذباً، وخيّراً، كنا نراه يحمل بين الفينة والأخرى من زياراته للأسرة بضعة أكياس من الفاكهة والخضار والحلويات كلما جاء إلى بيت أخيه المتوفي كما زعموا. ولكن العائلات ما لبثت أن تجاهلت أمره كأنها اتفقت فيما بينها، مادام الرجل يأتي بشرف ويذهب بشرف فما دخلنا نحن، إن أمره كان مريباً أو واضحاً.
ولكنا، ذات يوم، كان الليل في أوله، جاء العم وهو في وضع مزر، لا يقوى على الوقوف، حيث رائحة الخمر تفوح منه..
دخل إلى الحوش بصخب منادياً على زينب أن تأتي إليه.. كان يضحك ويغني، وفي آخر الأمر أخذ بالرقص طالباً من النسوة اللواتي خرجن من بيوتهن أن ترقصن معه.
كانت فضيحة.. بعد أن اتضح للجميع أن العم المزعوم ما هو إلا عشيق لزينب.. ولم تمر أيام حتى هربت الأسرة بعد افتضاح أمرها من الحوش إلى جهة مجهولة.
* * *
يتابع الفتى حكايات حوش نجيب غنيمة ويقول: ذات يوم سمعت إحدى جاراتنا، وكانت تدعى فهيمة، تحدّث أمي عن الأحلام التي تعيشها وهي مستيقظة. استنكرت أمي قول الجارة، وقالت لها: ما أعرفه يا فهيمة، أن الإنسان يحلم عندما يكون نائماً، أما عندما يكون يقظاً فهو لا يحلم، لأنه مفتوح العينين، لأنه يعيش يومه بكل ساعاته ودقائقه حتى ساعة المساء حيث النوم يكون في الختام.. وعندها، تتابع أمي: يمكن للإنسان أن يحلم!
كنت موافقاً على رأي أمي هذا، لأنني بدوري، لم أسمع بأحلام اليقظة هذه التي قالت بها جارتنا. إلا أن الجارة كانت تضحك وتقول متسائلة: أحقاً لا تعرفين أحلام اليقظة أم أنك تحاولين أن تعرفي بما أحلم وأنا يقظة؟
كانت أمي تهز رأسها وهي تقسم بالله، أنها لا تعرف شيئاً عن أحلام اليقظة هذه. ثم كان من أمي أن سألت الجارة: ولكن قولي بحق الله، بمَ تحلمين وأنت يقظة؟
كانت الجارة تنفجر بالضحك وهي تقول: كلا.. أنا الآن لا أحلم، لأن أحلام اليقظة لا يمكن للإنسان أن يحلم بها إلا إذا كان بمفرده، وحده في البيت، مغلقاً على نفسه الباب والنوافذ، أو من كان في برية واسعة، حوله الهدوء والسكون، وفوقه السماء..
تسألها أمي: وكيف تحلمين. ما هي الأحلام التي ترينها؟
تضحك الجارة وتقول: لا تأتيني الأحلام كما تأتي المرء عندما يكون نائماً، إنما أنا، أنا أختار الحلم الذي أريد. وتحدق في عيني أمي وتقول سائلة: هل تريدين أن أحدثك عن حلم من هذه الأحلام؟
تفرح أمي كطفل صغير وتقول: نعم.. هاتي يا فهيمة، احكي لي عن أحلامك.
تبدأ الجارة بالحديث: كثيراً ما حلمت ببيت واسع، أشبه ببيوت الأغنياء، حيث الغرف الكثيرة، الواسعة، والممرات العريضة التي توصل ما بينها.. أحياناً أحلم ببيت واحد، مثله مثل كل الناس الذين نعرفهم، بيت ذي طابق واحد، يعلوه طابق أو اثنان، وآخر تحت طابقك الذي نقطنه، أنزل في زيارة لساكنيه، نشرب القهوة- وتضحك فهيمة وهي تكرر لأمي- أسمعت؟ نشرب القهوة فقط، أو أصعد للطابق الذي يعلو الطابق الذي أسكنه، أجالس صاحبة البيت نتحدث عن جميع أمور هذه الدنيا، لا يتصل بحديثنا مهما طال، حديث الفقر والعوز والمرض.. وأيضاً الذل الذي لا نعرف غيره يا أم عبدو، نتحدث عن مباهج الحياة وحلاوتها، وأيامها التي تركض بنا بين فرح ومرح، نرى أولادنا يكبرون أمام عيوننا أصحاء، موردين، أنيقين لا يعرف أحدهم لباساً به رقع أو مزق، كلما احتاج أحدهم إلى لباس ننزل إلى السوق لنتسوق ما نحتاجه.
هذه الرغبة التي في صدري يا أم عبدو، هي صورة من أحلام يقظتي، أما الصور الأخرى فأشتط في حلمي كثيراً، لا أقبل ببيت ذي طابق، إنما ببيت واسع، كثير الغرف والممرات، تحيط به الحدائق، تعلوه الأشجار، وتخفيه عن أبصار السماء الأغصان والظلال والأوراق. ترفعين رأسك فلا ترين فوقك أي قطعة من السماء، إنما بساط من الأوراق الخضر والظلال الظليلة التي تبعث في صدرك ولحم يديك المعرى البرودة والانتعاش.. في هذا البيت الكبير تلف وتدور في حدائقه أياماً وشهوراً دون أن تمل من مناظرها أو مشاهدها من ماء وأعشاب.. أما عندما تدخل إلى البيت، فتجد الأرياش.. أحلم وأنا مفتحة العينين قابعة وحدي أمام النافذة الوحيدة التي في داري، أحدق عبرها إلى الخارج، أنظر إلى جذع الشجرة اليابسة العارية، فأرى في يقظتي، الستائر المزدانة بالألوان والورود والمشغولة بالتخريم. أرى الأرائك والكراسي المنجدة بالمخامل، أرى الأسرّة المذهبة الأرجل، تعلوها الأفرش الصوفية والأغطية الحريرية، أرى في الأعالي، حيث تتدلى الثريات من السقوف، ويستقيم على الحيطان والجدران الكريستال في مصابيح صغيرة تنيرها بكل الألوان، أرى السجاد العجمي على الأرض تغطي الأرضيات والممرات، سجاد أحمر وأزرق وأخضر وكرزي وأبيض، أرى من حولي الخدم يقومون بكل الأعمال من طبخ وغسل وتنظيف، أرى خادمة خاصة بي وحدي.
تصمت فهيمة وهي تضحك، وعلى محياها شيء من الحزن وأشياء كثيرة من الخيبة والقهر وهي تقول: هل عرفت يا أم عبدو بماذا أحلم وأنا في يقظتي؟
كانت أمي تهز رأسها وعلى وجهها مسحة شرود، كأنها هي بدورها بدأت تحلم أحلام يقظة كما فهيمة تحلم.
لا أريد هنا أن أتحدث كيف انتقلت هذه اللغة التي سمعتها على لسان فهيمة، كيف انتقلت إلي؟ أي كيف أصابتني عدوى الحلم باليقظة؟ قبل الحديث عن جوانب أخرى كنت قد سمعتها هنا وهنالك من الجيران عن جارتنا فهيمة التي ماتت بداء السل بعد ذلك بسنوات طويلة. يقال: إن فهيمة كانت فتاة جميلة، رغم أني لم أجد فيها أي ملمح من ملامح الجمال، رغم أنها كانت ما تزال امرأة شابة إلى حد ما، فهي ما بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من العمر.. إلا أنها مرت بتجربة قاسية جداً قبل زواجها. كانت في الخامسة عشرة من العمر عندما اعتدى عليها عشرون رجلاً في يوم واحد، اعتدى عليها العشرون بالتناوب، كانوا قد جاؤوا لمخفر القرية لأمر لم يعرفه أحد. كانت الخمرة قد أخذتهم في دروب الشيطان، هكذا قالوا. أما فهيمة فقد اعتادت أن تأتي إلى المخفر، إلى العم أبو مصطفى، وكان هذا عريفاً، تجاوز الخمسين، كان يرفع لها ما يزيد من طعام وخبز عن عساكر المخفر، لتذهب به إلى أهلها ليقتاتوا به. ولكن العريف في ذلك اليوم لم يكن موجوداً، كان قد رحل إلى المدينة بمهمة. وقد جاء العسكر العشرون منذ الصباح، ومنذ الصباح كانوا قد أخذوا في شرب الخمرة، يقال، عندما وصلت فهيمة إلى المخفر كان عساكرها قد لعبت الخمرة في عقولهم لعباً، فأخذتها أخذاً.. فوجدوا في فهيمة امرأة ناضجة، وليس صبية صغيرة بالكاد نما لها صدر..
بعد هذه الحادثة رحلت أسرة فهيمة من القرية إلى قرية أخرى، وفيها تم زواجها من رجل فقير مثل أهلها، ولكنه حملها مع ولدها الأول إلى المدينة، حيث عمل فيها خادماً في أحد الفنادق.. وما زال حتى الآن رغم بلوغه عمراً كان عليه أن يجلس في بيته ويرتاح.
هذه المرأة هي التي زرعت بذرة أحلام اليقظة في نفسي، فرحت أحلم وأحلم بكثير من الأمور، وكان جل ما أحلم به هو الانتقام من الذين يسيئون إلى أمي أو أبي عندما يأتون ويطالبون بطرق فظة ما استدانه والدي منهم ثمناً للخبز واللحم والخضار.
وكنت، يتابع الفتى: أحاول أن أخترع طرقاً بعينها للانتقام من الخباز واللحام والخضرجي. ثم أختار لكل واحد منهم طريقة معينة للموت.. ولكني كنت ما ألبث أن أنسى حلمي لأتابع حياتي مثلي مثل كل الأطفال الذين لا يتعدى عمرهم العاشرة.
في هذه السن، جلست وردة، وهي الابنة الصغرى لجارتنا فهيمة، وكانت تماثلني سناً أو أصغر مني بعام واحد.. كان جل حديثي معها، أن تحدثني عن والدتها وهي تحلم كما أخبرت أمي. كانت وردة تضحك وتقول: لم أر أمي ذات يوم تحلم. ثم تضيف: ولكني أسمعها في بعض الأحيان تتحدث عن أحلام رأتها في المنام، وتطالب من تحادثهم تفسيراً لها. كنت أستغرب التناقض ما بين كلام وردة وبين كلام والدتها، لما سمعته وهي تحدث أمي.
إلا إني لم أنس الأمر أو أهمله.. فلجأت إلى وداد الأخت الكبرى لوردة، وطلبت منها ما كنت طلبته من شقيقتها وردة. كانت وداد في الثالثة عشرة أو أكبر بسنة. كانت تضحك بخبث وتقول: وماذا تريد من أحلام والدتي؟ تعال لأدلك على لعبة نسعد بها نحن الاثنين.
سألتها بفضول: أي لعبة تقصدين؟
أجابت: تعال معي.
أمسكت بيدي وجرتني صاعداً وراءها إلى سطح الحوش.. حيث السكون التام والعزلة عن الآخرين. حيث أصبح فيما بعد ملعباً دائماً من ملاعب يفاعتنا. كانت قد دفعتني أمامها أول الأمر، وما أن أصبحنا بحذاء الحائط الذي يفصل سطح حوشنا عن سطح الحوش الملاصق حتى سألتني، إن كنت قد لعبت مع أختها وردة لعبة العروس والعريس؟ لم أستوعب ما قالته لأنني لم أشارك في مثل هذه اللعبة من قبل. قلت: لا.. هيا علميني إياها.
ضحكت بخبث وقالت: هل أنت صادق معي، من أنك لم تلعب مع أختي؟
أقسمت لها برأس والدتي، إني لم أفعل. قالت: صدقتك. ثم قالت بعد تردد: أتريد أن نلعبها؟
أجبتها: نعم.
قالت: إذاً هيا اخلع عن نفسك الثياب.
قلت لها مستغرباً: لماذا؟ وما دخل الثياب باللعبة؟
قالت: لأن اللعبة لا يمكن أن تتم إن لم نخلع عن جسدينا الثياب..
التفت حولي بعد أن زحف الخوف إلى نفسي، خاصة عندما تذكرت أن هناك بعض الجيران يصعدون إلى السطح لأمر ما، ومنهم أمي. فقلت بتردد: ماذا لو صعد أحدهم إلى السطح؟
أجابت بحماس: لن يصعد إليه أحد.
ولكني لم أفعل.. وعندما حاولت إرغامي على ذلك، ركضت نازلاً عن السطح.
هذه الواقعة ظلت في نفسي طويلاً، خاصة عندما كانت وداد تحدجني بنظرة فيها شيء من الازدراء، وأحياناً كنت أسمع منها كلمة: جبان..
ذات يوم، كنت مع وردة، في بيتنا، ولم يكن فيه أحد، لقد خرجت أمي إلى السوق ووالدي إلى عمله، سألتها، إن كانت تعرف لعبة العريس والعروس؟
نظرت إلي باستفهام وقالت ببطء: لماذا تسأل؟
قلت لها:إن كانت تعرف، هل لديها المانع في أن نلعبها سوية؟
ضحكت وهي تتمنع قائلة: وأنت هل تعرفها؟
قلت بعد صمت بتردد: يعني..
قالت سائلة: مع من كنت تلعب هذه اللعبة؟
قلت مجيباً: ليس مع أحد..
ضحكت قائلة: إذاً كيف كنت تلعب.. أمع نفسك؟
أجبتها: كلا.
هزت رأسها وقالت: لا بأس. هيا.. وأمسكت بيدي وشدتني إلى الأريكة القائمة بقرب الباب. ثم تمددت فوقها وقالت: تعال تمدد إلى جانبي.
لم أفعل ما طلبته مني. ظللت واقفاً بقربها متردداً. سألتني: ما بك.. ألا تريد أن تلعب؟
أجبتها: أريد.. ولكن ألا تريدين أن نخلع الثياب عنا..
نظرت إلي باستغراب كأنها تسألني: لماذا؟
لم أقو على الصمت وأيضاً على الجواب، لأني لم أكن أعرفه. إنما قلت لها: لا أعرف.. هذا ما أخبرتني به وداد.
ضحكت وقالت: لا بأس.. لنخلع ثيابنا.. لا بد أن وداد تعرف أكثر منا.
هذه الواقعة، طبعاً تلتها وقائع أخرى، لم أنسها حتى اليوم، وأيضاً لم تنسها وردة، لأنني كلما أراها اليوم في شوارع الحي وذلك عن طريق المصادفة، تطرق وجهها إلى الأرض ولا ترفعه إلا بعد أن تتخطاني بعيداً، رغم أنها تزوجت وأنجبت أولاداً وأصبحت جدة أيضاً. كنت أمر بها مرفوع الرأس، أضحك فيما بيني وبين نفسي بغرور.
* * *
أفقنا، نحن سكان الحوش، ذات صباح من صباحات الأيام الأخيرة للربيع،على صوت قرقعة عجلات عربة وهي تقف أمام باب الحوش، لتنزل منها عائلة مؤلفة من بنت وصبيين مع والديهما. هذه العائلة كانت تختلف عن العائلات الثلاث التي تسكن الحوش. هذه العائلة كانت لا تمت إلينا بصلة.. كانت غريبة على جونا، استغربت أول الأمر، كيف لمثل هذه العائلة أن تأتي لتسكن في الحوش الذي تسكنه ثلاث عائلات فقيرة، لا بل معدمة.. ولم تمر أيام حتى عرفنا بعض التفاصيل عن الأسرة وعن الأسباب التي دفعتها إلى المجيء والسكنى معنا.
كان رب العائلة، واسمه حكمت، شقيق صاحب الحوش نجيب غنيمة. جاء من أعماق منطقة الجزيرة، وما مكوثه مع أسرته في حلب إلا محطة أخيرة لانتقالهم بعد ذلك إلى بيروت.
هذه العائلة فتحت عيني على أمور كثيرة.. ولكني قبل أن أتحدث عن هذه الأمور، بي رغبة قوية للحديث عن الأسرة فرداً فرداً.
كان رب الأسرة، رجل يقارب الخمسين من العمر، ولكنه مازال يحتفظ بكثير من شبابه، كان دائم الأناقة، كنت أحسده على ذلك، كنت أقول لنفسي، عندما أكبر سأسعى إلى أن أكون أنيقاً مثل الـ(عمو) حكمت.
وعمو حكمت هذا كان دائم المرح، يضحك كثيراً ولكن بصوت خافت، كثير الثرثرة، كانت ثرثرته في معظمها على أن الإنسان يجب ألا ييأس وأن يقاوم، ولا بد له في يوم من الأيام أن ينتصر.. كان يملك صوتاً عذباً. كنت كثيراً ما أراه، وهو يلف أولاده الثلاثة حوله ويغني لهم أغنيات كانت معظمها لفيروز.. وبعض منها لمحمد عبد الوهاب. أما الأم، فكانت تكنى بـ(مدام ماريا)، كانت نحيلة، شاحبة الوجه، بها مرض دائم، كانت، لا أستطيع أن أقول عنها، تكره الحياة، إنما أستطيع أن أقول عنها، كانت تقول بأن الحياة ظالمة، وتعتبر نفسها مظلومة، لأن الحياة لم تعطها ما كانت تستحقه. لذا كانت دائمة الصمت، سريعة الهياج والبكاء. أما الابن الأكبر(سيمون) فكان يملك موقف والدته وآراءها في الحياة، إنما كان يشبه والده خاصة عينيه. كان مترفعاً، يدخل إلى الحوش ويخرج منها دون الاختلاط بأفراد الجيران. رغم أنه كان شاباً ما بين الثامنة عشرة والعشرين من العمر. كنت ألمس احتقاره لنا، رغم أنه كان يحاول أن يخفي ذلك عنا. كان ووالده كثيري الشجار والنقار. وكثيراً ما سمعت والده ينهي مناقرته معه بقوله: بحق المسيح لن تصبح بشراً يا بني!
أما الابن الثاني، وهو الأصغر، كان مثل أبيه دائم الحركة والضحك، حتى أنه انخرط بين صفوفنا حتى قبل أن نسمح له بذلك.. فجأة رأيناه بيننا كأنه يعرفنا منذ سنوات.
أما البنت فكانت من طينة أخرى تماماً. كان الولد الثاني في العاشرة أما البنت ففي الثالثة عشرة أو أكثر بقليل.. كان الصبي الثاني واسمه صبحي والابنة اسمها راحيل.. وهي على اسم جدتها- كما أخبرتني ذات يوم. كانت راحيل تملك روحاً بريئة، ولكنها على شيء من طبع والدتها، إلا أنها لم تنفر منا نحن الفقراء، صحيح هي لم تنخرط معنا مثل شقيقها الصغير صبحي، إلا أنها شاركتنا طوال أربعة أشهر من بقائها معنا في كل ألعابنا الجماعية.
لقد دخلت إلى بيوتنا، أقصد الغرفة الوحيدة التي كانت تسكنها كل أسرة من سكان الحوش، وأكلت معنا وشربت، ساعدت أمهاتنا في أعمالهن.. إلا أنها كثيراً ما كانت تبتعد عنا وتشرد بعيداً، كنت أشعر بأنها تنسحب إلى عالم آخر، كأنه ذاك العالم الذي جاءت منه، ذاك العالم الذي خرجت منه مرغمة لتعيش فيه من جديد عبر ذكرياتها عنه فقط.
بدأت يقظتي، وأنا أرى حياة جديدة في أسرة العم حكمت.. لأول مرة أرى أسرة تجتمع معاً على طاولة واحدة للطعام، وأمام كل فرد منها صحن وملعقة، يسكب من الطعام في صحنه، ويبدأ أكله منه فقط. لأول مرة أرى عادة خروج جميع أفراد الأسرة وهم يرتدون الثياب الجديدة والروائح الطيبة تفوح منهم وتلاحقهم، وتبقى وراءهم طويلاً بعد أن يكونوا قد اختفوا عن الأنظار، كانوا يخرجون جموعاً للصلاة في الكنيسة من صباح كل يوم أحد.
تعرفت لديهم على بعض الأطعمة التي لم أكن أعرفها سابقاً، ولم أرها فيما قبل أبداً! ذات يوم اقتربت مني راحيل، وفي يدها صندويشة. وقفت أمامي وهي تمضغ ما قطعته بأسنانها من الصندويش. سألتني إن كنت أرغب في بعض من الطعام الذي تأكله؟ فوجئت بسؤالها، لأنني لم أكن أتوقع ذلك. وبصورة عفوية سألتها ماذا تحتويه الصندويشة. قالت: مرتديلا.
سألتها باستغراب: ماذا؟
أجابت: مرتديلا.
سألتها: ماذا تعني.. ومم تتألف؟
ضحكت وهي تقول: أحقاً لا تعرف؟ ثم أضافت، إنها نوع من اللحوم المعلبة، إنه لحم غنم.
ثم قسمت قليلاً من الصندويش، وقالت: خذ ذقه.. إنه لحم طيب لذيذ.
نعم كان لحماً طيباً ولذيذاً.. ومنذ ذلك اليوم بدأت أحلم به، وما إن كبرت حتى رحت لا أستغني عنه إلى اليوم. كما أن هناك بعض الألعاب التي لم نكن نعرفها أبداً، أي قبل تعرفنا إلى هذه الأسرة.. منها لعبة(الباتيناج) هذه اللعبة المعدنية التي تشد إلى القدمين كأنهما فردتي حذاء، ولكن لها دواليب يمكنك أن تسير بهما بسرعة هائلة إن كنت تستطيع الجري عليهما. كان صبحي هو الوحيد الذي يلعب لعبة(الباتيناج) وأحياناً كانت أخته راحيل تنتعلهما.
كنت مبهوراً باللعبة، وأيضاً بحياة أسرة العم حكمت. قلت لنفسي، على ما يبدو أن هناك أكثر من حياة يحياها البشر، وأكثر من طريقة وأسلوب.. كان أبرز هذه الطرق والأساليب، هوالفارق بين حياة الأغنياء وحياة الفقراء، عرفت فيما بعد لا الأغنياء يعرفون حياة الفقراء ولا الفقراء يعرفون حياة الأغنياء، لكل واحد منهم حياته، وطريقته الخاصة في عيشها.. هذه الحقيقة فتحت عيني وأيقظتني مبكراً في سن لا يستطيع المرء أن يميز تمييزاً فاصلاً بين الحلم واليقظة.
ولكني تساءلت ذات يوم، ما الأسباب التي حطت بحياة هذه الأسرة إلى هذا الدرك الذي دفعها إلى أن تقيم معنا وتعيش في غرفة وحيدة مثلنا؟ هذا السؤال ظل غامضاً علي إلى أن جاء اليوم الذي تحدثت فيه راحيل لي عن ذلك.
كان أبي يملك بنكاً صغيراً، يسيّر بالدرجة الأولى شؤون الفلاحين إلى أن جاء يوم أفلس بعد أن افتتح في القامشلي بنك كبير، تحول جميع الفلاحين إليه بفائدة أكبر من الفائدة التي كان أبي يدفعها لهم.
حاول والدي أن يقنع عمي نجيب في أن يمده بالمعونة، إلا أنه رفض، لقد كان عمي دائماً بخيلاً، لا يعرف عمل الخير، حتى أن (أبونا يوحنا) قال له: إن مثل هذه الأخلاق تؤدي إلى النار يا نجيب. أمام هذا التهديد ابتسم عمي ولم يرد على (أبونا)، إنما تركه ومضى مبتعداً عنه.. حاول والدي أن يقوم بمجموعة من الأعمال إلا أنه فشل في كلها، لأن والدي لم يعتد على العمل إلا في البنك، فقد كان منذ يفاعته يعمل في البنوك. هذا وقد طرح والدي الأمر على والدتي سائلاً، ماذا تقترح عليه لينقذ العائلة من الفقر والعوز؟
أمام هذا السؤال عادت والدتي إلى نغمة قديمة كانت تؤمن بها منذ أيام شبابها، ألا وهي الهجرة.. إلى بيروت، ومن ثم إلى كندا، حيث أخوتها الأربعة.
هز والدي رأسه يائساً، فيما مضى كان يرفض فكرة الهجرة رفضاً باتاً. ولكنه، أمام الواقع المر الذي وجد نفسه فيه كان لا بد له من الإذعان.
وهكذا، بدأنا ببيع كل ممتلكاتنا.. وكما ترى فنحن منذ ثلاثة أشهر نعيش في هذه الغرفة الوحيدة بانتظار الوثائق من أخوالي في كندا، هذه الوثائق التي ستخولنا بموجبها للسفر والهجرة.. ثم تابعت راحيل. كنا فيما مضى لا نعلم أن عمي نجيب يملك عدة عقارات تدر عليه مبلغاً كبيراً من المال.. سامحه الله، كنت شاهدة على نقاشه مع والدي، يوم طلب منه أبي إحدى الشقق لنسكن فيها مؤقتاً ريثما تأتي وثائق السفر، ولكنه رفض. قال بحدة: لا أستطيع أن أعطيكم سوى غرفة وحيدة في الحوش. وأمام هذا الأمر لم يكن بيدنا حيلة سوى أن نقبل بهذه الغرفة والعيش فيها.
كنت، وأنا أستمع إلى راحيل، وهي تقص علي جانباً من حياة أسرتها، على قناعة بأنها تتحدث مع نفسها، لا معي، شعرت كأنها استيقظت من حلم جميل كانت تعيش فيه، استيقظت على كابوس مرير قد حط على صدرها. وكما يقول المثل، ارحموا عزيز قوم ذل. نعم كانت راحيل، وهي تحدثني تحاول أن تستيقظ من النوم، من الحلم، من حياة جميلة لم تعرف غيرها طوال عمرها.. وها هي اليوم تعيش مرارتها بعد أن استيقظت.
ولم يمر شهر آخر حتى كانت وثائق الهجرة لدى أسرة العم حكمت، وعندما سافرت العائلة شعرت بشيء جميل يخرج من حياتي، أذكر، يتابع الفتى: أمسكت راحيل يدي مودعة، وهي تقول: أراك بخير.
نعم هاجرت راحيل مع أسرتها منذ اثنين وأربعين عاماً، لم أنسها خلال السنوات الماضية أبداً، كنت أتذكرها كلما أمر من أمام حوش نجيب غنيمة.. هذه الحوش التي ظلت قائمة كما كانت ولكن بعد أن هجرها قاطنوها، لأنها لم تعد صالحة للسكن، ثم بيعت بعد موت نجيب وأقيم في مكانها مبنى بسبعة طوابق فوق مجموعة من المخازن التي افتتحت كـ(بوتيكات) تباع فيها شتى أنواع الأغراض التي كانت غريبة في تلك الأيام التي أتحدث عنها.
نجيب غنيمة الذي ظل عازباً رغم بلوغه السبعين من العمر، فجأة قرر ذات يوم الزواج.. بعد ان حطته الأمراض. تزوج من امرأة تخطت الخمسين، ولم يمض على زواجه إلا ست سنوات حتى مات مخلفاً وراءه ثروة طائلة.. ذهبت جميعها إلى أرملته. أمام هذا الوضع تذكرت راحيل يوم قالت: سيأتي يوم يموت فيه عمي، من دون أن ينعم بقرش واحد مما يملكه من الأموال.
وهذا ما كان.
* * *
لا يذكر الفتى، في أي سنة بالضبط انتقل مع أسرته إلى حوش(جرجس نعيم)، ولكن بعض الأحداث التي عاشها، أو كان شاهداً عليها، أو تلك التي سمع بها، تذكره بأن وعيه تجاه نفسه وتجاه العالم، كان أكثر توهجاً عما مضى عليه من الأيام، بحيث بات يطرح على نفسه كثيراً من الأسئلة، طبعاً دون أن يجد لها أجوبة لديه.. كانت أسئلة متنافرة، لا يربط بعضها ببعض شيء ما. أراد من خلالها أن يجد تفسيراً مقنعاً لكثير من الأحداث والمشاهد، وأيضاً الأقوال التي كانت تحمله على التساؤل والبحث عن الحياة وأمورها.
هذه ليست مقدمة لما سأسرده في الصفحات التالية، يقول الفتى: إنما هي مجرد إشارة إلى أنني بدأت أتخطى حدود الطفولة باتجاه حدود مرحلة اليفاعة واتساع الرؤيا وتشعب الأسئلة وتحولها من أسئلة بسيطة إلى أخرى معقدة. كنت بحاجة، هكذا شعرت، إلى آخرين في المساهمة على الإجابة عنها. هذه الحوش التي انتقلنا إليها، تركت في نفسي انطباعات لا تنسى أبداً، كما أنها كانت مكاناً، بالنسبة لي أو للآخرين، أكثر ألفة بين الجيران، أكثر حميمية، أكثر تعاوناً.. وأكثر جداً وتفهماًُ من كل الأماكن الأخرى، السابقة التي سكنت فيها مع أسرتي.
هذه الحوش، كما أذكرها..
كانت مؤلفة من أربع غرف واسعة، أرضها مبلطة بأحجار كبيرة، مع مطبخ ومرحاض مشتركين للأسر التي تسكن الحوش. أما الحمام فكانت كل أسرة يستحم أفرادها في الغرفة نفسها التي يقطنونها، وعادة كانت عتبة الغرفة هي الحمام، أو تقوم مقام الحمام، وفي الزاوية الشرقية من الحوش الذي كان على شكل مستطيل، بقرب الباب، تنهض شجرة توت كبيرة وباب خشبي كبير وثخين، يغلق في الليل، أما في النهار فكان مفتوحاً على مصراعيه بالكامل.
ما زلت أذكر تلك العائلة التركمانية المؤلفة من والدين عجوزين وثلاثة أولاد، ذكرين وأنثى.. كان الأب قد تخطى السبعين من عمره، يتكلم العربية بصعوبة، كانت اللهجة التركمانية هي السائدة بين أفراد الأسرة. كان الرجل الشيخ، قاسي الملامح، رغم طيبته وإيثاره لحب العزلة عن الآخرين. كان في معظم الأوقات يجلس مستنداً إلى عكازه، أمام باب الغرفة التي يقطنها مع أولاده، يشرب الشاي ويدخن سجائره بهدوء، وهو سارح عما يجري حوله.. أما امرأته العجوز فكانت لا تكف عن الحديث معه، ولما كانت تكلمه بالتركمانية فلم أكن أفهم عليهما، ولكن من الإشارات والتعبيرات التي كنت أراها على وجهيهما، وحركات أيديهما، أعرف أنهما كانا في صراع دائم، حول ماذا؟ لا أعرف. ولم أعرف في يوم من الأيام، إلا أني أخمن اليوم، إنه الفراغ الذي كانا يعانيان منه كلاهما.. فلم يكن أمامهما إلا النكد والنقار والشجار الفارغ الذي ينشأ عادة من لا شيء.
أما الأولاد، فكان الكبير، واسمه مصطفى يعمل في مجال تصليح السيارات، وكان يعرف كل واحد يعمل في هذا المجال باسم(ميكانسيان) وهذه الكلمة/ المصطلح كان شائعاً في تلك الأيام، وكم كنت أشفق عليه، عندما يعود في المساء وهو في ثياب زرقاء مشبعة بالزيوت والشحوم والأتربة، وبيدين سوداوين.. أما الأخ الأصغر، فلم أعرف عمله في يوم من الأيام، ربما سبب ذلك يعود عدم اهتمامي به، لأن الحكاية التي شاعت عن أخيه الكبير مصطفى طغت على أخبار بقية أفراد العائلة.. وتتلخص حكاية مصطفى..
أنه أحب فتاة تدعى أمينة. ولم تعلم أمينة بحبه في يوم من الأيام طوال سنة كاملة، قبل أن يتقدم لخطبتها، ولكنها رفضته ولم توافق على الزواج به.
قبل تقدمه لخطبتها، كان مصطفى في كل يوم، بعد أن يعود من العمل، في ساعة العصر، وهي ما بين الخامسة والسادسة، يغير ثياب العمل، ويرتدي لباساً نظيفاً.. ويلجأ إلى خمارة صغيرة في الحارة، من عادة صاحبها أن يقدم بعض المشروبات الروحية لرواده القلة، علاوة على بيعه الخمر واللحوم المقددة، مثل البصطرما والسجق والصاصيجو والمرتديلا.
كانت دكانه المسماة من قبل روادها(بالحانة الصغيرة)، تتسع لطاولة يمكن لثلاثة أشخاص أن يجلسوا إليها، ليرتشفوا خمرتهم، ويقضموا صندويشاتهم التي كان يعدها لهم صاحب الحانة.. أما مصطفى، فقد رأيته أكثر من مرة في الحانة، كانت حاله تختلف عن حال الآخرين، كان يرفض الجلوس إلى الطاولة، يظل واقفاً بقرب باب الحانة، خلف الضلفة الثابتة المغلقة من الباب. كان بوقوفه هذا، المطل على الشارع، يراقب الزقاق الضيق الذي يقع فيه بيت من يحب.. كان بوقوفه هذا، وهو يتناول كأساً وراء أخرى من الخمر، ويقضم اللحوم المقددة منتظراً خروج أمينة من الزقاق أو عائدة إليه لتسلكه باتجاه بيتها.
أما في يوم الأحد، وهو يوم عطلة بالنسبة لمصطفى فكان يقضي نهاره بالكامل، وهو واقف في مدخل الحانة الصغيرة، وجزءاً من أول الليل على أمل أن تطل عليه لحظة عبورها الزقاق.. ونظراً للكمية الكبيرة التي كان يتناولها من الخمر، في يوم الأحد، يوم عطلته، كان يعود إلى المنزل وهو في حالة يرثى لها، كان في أكثر أيامه يتشاجر مع والده الذي كان يؤنبه للأفعال التي لا يرضى الله عنها، التي يرتكبها.
أما أمه فكانت كثيراً ما تبكي وتنصحه أن ينسى هذه الـ.... وتطلق على أمينة التي سلبت ابنها عقله، نعتاً سيئاً، فكان يجن جنون مصطفى وهو يشتم أمه صارخاً بها: كيف يمكن لها أن تطلق مثل هذه الصفات السيئة على الفتاة التي ستكون زوجة ابنها ذات يوم. ثم كان يتشاجر مع شقيقه وشقيقته، ويثور في البيت ويكسر ويحطم كل ما تصل يديه إليه، ما يلبث أن ينخرط في البكاء مستسلماً بعد ذلك إلى نوم ثقيل.
أما أمينة فكانت فتاة جميلة، تبلغ من العمر الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة.. كانت ابنة لعائلة مؤلفة من ثلاث بنات وذكرين، كانت هي أكبر الأولاد لأم وأب يعمل حارساً، أما الابنتان فكانتا تعملان في الخياطة لدى إحدى الشركات الخاصة. لقد أحبت أمينة شاباً فقيراً، معدماً. كان طالباً في المرحلة الثانوية وكان قد تقدم إلى الامتحان لمدة ثلاث سنوات دون أن ينجح ويحصل على الشهادة الثانوية.. فما كان منه إلا أن ترك الدراسة وبدأ بالعمل من أجل إعالة الأسرة التي كونها، منه ومن أمينة التي رفض أهلها طويلاً الموافقة على زواجها منه. إلا أن أمينة، قررت ذات يوم أن توضب حاجياتها وتتحدى أسرتها علناً وتذهب معه، لتتزوج به.
قضيا أول الأمر أوضاعاً صعبة، ولكنهما بعد مضي عدة سنوات، وكان زوجها قد عمل «مخلصاً جمركياً» فنقله عمله هذا من شاب فقير ، معدم إلى شاب ذي مورد مالي جيد. ولم تمض عدة سنوات أخرى حتى أصبح أحد الأغنياء.
ولكني أذكر، يتابع الفتى: أنهما بعد مضي عدة سنوات، لم ينجبا أولاداً، في البداية لم يعرف أحد ما من الناس، من هو العقيم بينهما.. إلا أن الأمور توضحت فيما بعد فعرف الناس، أنها العاقر.. وأمام موقفها الذي وقفته ذات يوم من أهلها، عندما تحدتهم وتزوجته وهو الشاب الفقير، وعاشت معه في ضنك وعوز، لم يفكر زوجها أن يتزوج امرأة ثانية.. احتراماً لموقفها ذاك، هذا علاوة على حبه لها.. إلا أنها ذات يوم، وعلى ما يبدو لكثرة ما سمعته من الناس، على أنها تحمل وزر زوجها الذي سيمضي دون أن يخلف وراءه ذرية ترث الأموال الطائلة التي بات يملكها، عليها أن تشجعه على الزواج، ثم أكد آخرون لها، وموقفك هذا سيدل على حبك له عن حقيقة مصدرها التضحية لا الأنانية.
وعلى ما يبدو، بعد أن فكرت طويلاً، رأت في أمر زواجه الصواب. ففاتحته بالأمر. في البداية رفض الفكرة تماماً، وقال لها: لو كان الله يريد لنا أولاداً لما حرمنا منهم. إنها إرادة الله يا أمينة.
ولكن أمينة راحت تلح عليه يوماً بعد يوم، حتى استطاعت إقناعه بالأمر في النهاية.. ولكنها، طلبت منه أن يؤمن لها كل أسباب الرفاهية. وافق الزوج.. وحقق لها ما أرادته.
بعد زواجه، قيل عنها كثيراً، أنها أصيبت بحمى الإتلاف، فكانت تتلف الأموال إتلافاً.. في السفر والأماكن العامة والسهرات.. الخ.
ويقال، عندما حاولت الزوجة الثانية، بعد أن ولدت لزوج أمينة أكثر من ولد، حاولت أن تنبهه إلى سلوك أمينة في إتلاف الأموال.. يقال إن زوجها كان فظاً معها. قال لها: هذه أول مرة، ويجب أن تكون الأخيرة التي تتحدثين فيها عن أمينة بهذه الطريقة، فأنا، ليكن بعلمك، أعمل من أجلها فقط.. وأنا سعيد جداً لسعادتها، حتى لو كانت سعادتها في إتلاف أموالي.
وذات يوم، تابع الفتى: كما سمعت، أصيبت بمرض سرطان الثدي وماتت به بعد خمس سنوات من مرضها. وقيل أيضاً إن زوجها قد أهمل عمله.. لم يعد يهمه شيئ من هذه الدنيا.. أما مصطفى، فقد أغرق نفسه في الشراب اليومي بعد أن سمع بزواج أمينة، حتى تلف كبده.. فآثر الانتحار على البقاء في الحياة بعيداً عمن أحب. وقيل، عندما أخبروا أمينة بانتحار مصطفى، نظرت إليهم باستغراب، ثم تساءلت: مصطفى! من يكون؟
* * *
مازال الفتى يقص علينا الوقائع التي عاشها أو سمع بها أو شهد عليها، فقال: في مدخل الحوش، وعلى اليمين، كانت غرفة صغيرة، بباب خشبي قديم، مقشور اللون، كان اللون فيما سبق من الأيام، أخضر.. هذه الغرفة لم أرها إلا مغلقة، أما مفتاحها فكان لدى صاحب الحوش.
ذات يوم، سمعت حديثاً جرى ما بين والدي وصاحب الحوش، حول محتويات الغرفة.. فكان جواب صاحب الحوش: فيها بعض الحاجات الخاصة. خاصة بعدة العمل الذي مارسه طيلة خمسين سنة، قبل أن يحيل نفسه إلى التقاعد بعد أن لم تعد تسعفه صحته.. وفي مرات نادرة رأيته يتسلل إلى داخل الحوش، يقف أمام باب الغرفة القديم طويلاً، يلتفت فيما حوله، مراقباً قاطني الحوش كأنه ينتظر أن يدخلوا إلى غرفهم، قبل أن يفتح باب الغرفة ويختفي فيها، مغلقاً على نفسه الباب بإحكام.
أذكر، أن كثيراً من الجيران، أقصد قاطني الحوش كانوا يدقون عليه الباب وهم يحملون بأياديهم أكواب الشاي، أو اللبن الرائب، أو حتى بعض الأشربة السكرية الباردة إن كان الفصل صيفاً. يطلبون منه أن يفتح الباب من أجل أن يقدموا له الضيافة المستحقة عليهم بسبب زيارته لهم. فكان، وهذا سمعته أكثر من مرة، يرد عليهم: مشغول، لا أستطيع فتح الباب. ثم يطلب منهم أن يضعوا الأكواب التي يحملونها أمام عتبة الغرفة الحجرية.. وما إن يسمح له وقته فيفرغ من الأمر الذي بين يديه، حتى يفتح الباب ويأخذ ما قدموه له شاكراً لهم حسن الضيافة.
كان صاحب الحوش يبقى في غرفته طويلاً، أحياناً تمتد إلى عدة ساعات، حتى أنني كنت في بعض الأحيان أظنه قد خرج ومضى.. إلا أني، فجأة أرى انفتاح باب الغرفة وخروج الشيخ منها، ثم رده للباب بسرعة، كأنه يحاول بذلك أن لا يعرف أحد ما من قاطني الحوش ماذا تحوي غرفته، ويغلق الباب بمفتاح كبير بمقاييس ذاك الزمن.
هذا المشهد، تكررت مشاهدتي له، وبما أني كنت فتى في العاشرة أو الحادية عشرة، فترك في نفسي سؤالاً: ماذا يخفي الشيخ في غرفته الصغيرة هذه؟
وبما أني يافع، وما تزال حكايات جدتي تعشعش في رأسي، جدتي التي لم يمض على وفاتها أكثر من ثلاث سنوات، بما أني، كنت في تلك السنة أو قبلها بسنة واحدة، قد بدأت بقراءة القصص بصورة منتظمة، وكانت في معظمها حكايات كتلك التي كانت جدتي تسردها علي.. لهذا كله، كنت قد أجبت على تساؤلاتي، حول الغرفة الصغيرة وما تحويه..
كانت أجوبتي كلها تخبرني بأن الجن والعفاريت وبعض العمالقة والوحوش الخرافية تملأ الغرفة.. وهذا الأمر، دفعني إلى الاهتمام كثيراً بالغرفة الصغيرة المغلقة، والتفكير بمحتوياتها التي، ربما تكون غريبة، هكذا خمنت، وقد حاولت أكثر من مرة أن أسترجع حوارات صاحب الحوش وأبي حول الغرفة، إلا أني لم أصدق كلمة واحدة مما قالها الشيخ لوالدي.. كنت أقول، لا بد أنه قد خبأ فيها ما كان قد خبأته تلك الساحرة العجوز التي حدثتني عنها جدتي ذات يوم، أو أن الغرفة الصغيرة، ما هي إلا مدخلاً لكهف أو ممر سري أو طريق تحت الأرض يؤدي بك إن سرت فيه إلى مكان ما مجهول من الأرض. ربما يؤدي بك إلى أرض أخرى، أو غابة فيها كل الحيوانات، أو صحراء واسعة شاسعة مغطاة بالواحات التي يعيش فيها الجن الأزرق الذي هاجر من هذه الدنيا إلى أرض أخرى كما أخبرتني جدتي، بعد انتهاء الحرب الطاحنة بينه وبين الجن الأحمر.
لا يمكن، كنت أقول، عن صاحب الحوش أن يكون حريصاً على الغرفة الصغيرة كما يدعي، حريصاً على الدخول إليها من دون السماح لأحد برؤية ما بداخلها إن لم تضم هذه الغرفة كنوزاً ما، أو بعض الأسرار التي يحرص على أن لا يكتشفها أحد! هذه التساؤلات والتخيلات التي كانت تجتاحني، جاء اليوم الذي رأيت فيه بابها مفتوحاً على مصراعيه، على أيدي أولاد صاحب الحوش.
وقبل أن أتحدث، يتابع الفتى: عما رأيت في الغرفة، أود الحديث عن حوار جرى ذات يوم بين ابي وصاحب الحوش، حول أولاده الثلاثة الذين لا يمكن له، أي للشيخ إلا أن يطلق عليهم: أولاد عاقون. كان الحوار قد بدأه أبي بسؤال عن أسباب الشجار والمشاحنات التي يسمع بها من هنا وهناك من الناس بينه وبين أولاده؟
كان صاحب الحوش يؤكد قائلاً: لأنهم أولاد عاقون لا غير..
كيف؟ يسأل والدي.
وكان صاحب الحوش ينتظر من والدي أن يطرح عليه هذا السؤال لينطلق في الحديث طويلاً.. وأستطيع أن أوجز، هنا، حديثه، على أنه قضى عمره، منذ يوم زواجه الأول، وهو في الثالثة والعشرين وحتى الثالثة والسبعين التي تخطاها منذ خمس سنوات، عمل بجد وكد بتفان من أجلهم. وهذا واجبه طبعاً تجاه أفراد أسرته، فهو لا يمننهم بشيء، ولكن، كان يضيف، عليهم، يقصد أولاده، أن يرحموه.. فقد اشترى لكل واحد منهم بيتاً، كما أنه زوجهم جميعاً، وقد بات لبعضهم أولاد شبان وساعدهم في كل خطوة لهم في الحياة، على طريق تأسيس بيوتهم وعملهم.. حتى باتوا، جميعاً من دون استثناء، مستقلين وليسوا بحاجة إليه.. إلا أنهم، يضيف، جشعون. ثم يتساءل: ولكن ما أستغربه يا أبو عبدو، يقصد والدي، لا أعرف من أين جاءهم الجشع هذا؟ فأنا لم أكن في يوم من الأيام جشعاً، وأيضاً أبي، لقد عملنا بجد، وعشنا حياة جيدة، لذا أتساءل عن جد، من أين لهم هذا الجشع، من ورثهم إياه، فأنا لا أذكر أنه كان لدينا في الأسرة جشع ما!
لقد بدأ جشعهم، عندما طلبوا مني أن أبيع البيت الذي قضيت فيه مع أمهم حياتي، وعندما سألتهم، وأنا مندهش لطلبهم ذاك، قالوا، كأنهم كانوا على اتفاق، أو كأنهم قد تباحثوا معاً حول الموضوع وتوصلوا إلى قناعة بما طرحوه علي، قالوا لي معاً: اسكن لدينا.. كل شهر لدى واحد منا.. كل أسبوع، اختر الطريقة التي تعجبك. قلت لهم الأمر الذي أحبه ويعجبني، هو أن أبقى في بيتي الذي عشت فيه مع والدتكم أكثر من أربعين سنة. ثم أضفت لهم موضحاً: أما عندما أموت.. فلكم الحق في امتلاك البيت، وهو لكم إرثاً حلالاً. إلا أنهم يا أبوعبدو لم يتراجعوا عن طلبهم.. صحيح أنهم كفوا عن مطالبتي به، ولكن كان ذلك إلى حين.. ليعودوا إلى المطالبة به، تحت حجة أن البيت كبير وأنا فرد واحد.. وأنت قد أصبحت شيخاً، تحتاج إلى عناية ورعاية. قلت لهم حاسماً: لن أترك البيت إلا في حالة واحدة، وهي خروجي إلى المقبرة لا غير.. فلا تحاولوا. ثم، أضفت، هل شكوت لكم عن حاجتي إلى الرعاية والعناية؟ عندما أطلبها منكم فلا تلبوها لي إلا في حال تحقيق ما تريدونه.
عندما لمسوا مني العناد في رفض بيع البيت، أخذوا يطلبون مني بيع الحوش، هذه الحوش التي تسكنها أنت وأسرتك مع بقية جيرانك.. بحجة أنهم بحاجة إلى رأسمال يريدون أن يوسعوا به أعمالهم. أخبرتهم بالرفض، مقدماً لهم حجة لا يمكن أن يدحضوها، أن أجرة الغرف المستأجرة في الحوش هي التي أعتاش منها بعد أن أحالتني الشيخوخة إلى التقاعد رغماً عني. قالوا، نحن سنتكفل بإعالتك، سيقدم كل واحد منا المبلغ الذي تريده، كل شهر. أجبتهم: لم أتعود في يوم من الأيام على مد يدي إلى أموال ليست أموالي! كفوا عن إلحاحهم في بيع الحوش فترة أخرى من الزمن. ولكني لم أتوقع منهم ذات يوم، أن يصدقوا ما قالته أمهم ذات يوم، من أن الغرفة الصغيرة التي في الحوش، مليئة بذهب ورثه والدكم عن جدكم.
طبعاً، هذه الحكاية كانت زوجتي قد رمتها في وجوههم مازحة، عندما تكرر طلبهم لها، في إخبارهم عن سر الغرفة الصغيرة المغلقة التي يحرص والدنا على زيارتها منفرداً، يقبع فيها ساعات دون أن يخبرنا عما يفعله فيها.
على ما يبدو يا أبو عبدو، ظلت هذه المزحة عالقة في أذهانهم، لم يتوقعوا أبداً بأن والدتهم مازحتهم في ذلك اليوم البعيد.. فظلت الحكاية في عقولهم حتى صدقوها واعتقدوا بصحتها. لذا فقد فاجؤوني عندما سألني أحدهم عن محتويات الغرفة الصغيرة؟ ضحكت بعد أن نظرت إلى وجوههم طويلاً، ثم قلت لهم بطريقة مازحة: ألم تخبركم والدتكم بما في الغرفة الصغيرة ذات يوم؟ وظننت أن الأمر قد انتهى هنا. لم أكن أعرف أنهم أخذوا يخططون للإطلاع على ما تحتويه الغرفة الصغيرة من دون علم مني. وهذا ما كان.. وكم كانت المفاجأة كبيرة لهم عندما لم يروا فيها شيئاً، أقصد جرار الذهب التي ظنوا أنها بداخل الغرفة.. لم يجدوا فيها سوى «العدّة» التي استعملتها طوال ستين سنة قبل أن أحيل نفسي إلى التقاعد تحت ضغط الشيخوخة التي بت عليها. هذه الشيخوخة التي أجبرتني على أن أكف عن العمل كحجار، لم تر مدينة حلب مثيلاً له ذات يوم.. هذه المهنة التي كانت ترتقي إلى مهنة الفن..
صمت صاحب الحوش طويلاً قبل أن يتابع: عندما كنت أجلس وراء قطعة الحجر، وأنا أحمل بيد المطرقة والإزميل بالأخرى، كنت أنسى نفسي، كنت أنسى أني مجرد حجار، إنما فنان أرسم على الحجر وأخط كل ما هو جميل عليه.. ولكن مع الأسف لم أستطع أن أنافس المناشير الحجرية التي دخلت في عمل الحجار من جهة، والشيخوخة التي أناخت قامتي، وأضعفت يدي تحت ثقل المطرقة والإزميل فدفعاني إلى التقاعد.. وعرفاناً مني لكل الأدوات التي رافقتني مدة ستين سنة من عملي كحجار، جمعتها في تلك الغرفة الصغيرة مرتباً إياها، على جدرانها الأربعة، لقد جعلت منها أشبه بمتحف صغير لي، ألجا إليه كلما يشتد بي الوجد والحنين إلى ذكريات أيام عشتها مع أدواتي، ومع القطع الحجرية الجميلة التي كنت، أحياناً أرفض أن أضعها في إحدى الواجهات للبيوت السكنية التي كنت أعمل لها. كنت أحمل حجري المنقوش إلى غرفتي الصغيرة وأضعه فيها، لكي يتسنى لي من أن أمتع نظري بما قمت به في الأيام الماضية.
كانت خيبتهم كبيرة يا أبو عبدو.. أما أنا، فلا أخفيك سراً كانت خيبتي بهم أكبر وأشد.
ما تحدث به صاحب الحوش إلى أبي، يتابع الفتى: ترك لدي انطباعاً عن الظلم الذي لحق به من قبل أولاده. لهذا عندما شاهدتهم ذات يوم، بعد أن جاؤوا معاً إلى الحوش، ووقفوا أمام باب الغرفة الصغيرة، وكسروا المفتاح الذي كان معلقاً بضلفتي الباب، ويشدهما إلى بعضهما بإحكام، اقتربت منهم ثم رحت أنظر إليهم بعد أن أصبحوا داخل الغرفة، وهم يفتشونها تفتيشاً دقيقاً، كأنهم يبحثون عن أمر ما بين الأغراض والحاجيات المتناثرة في الغرفة الصغيرة. كأنهم لم يصدقوا والدهم عندما أخبرهم بما تحتويه الغرفة، كأنهم شكوا في قوله لهم واعترافه بأنهم لن يجدوا فيها سوى عدة الشغل التي عمل بها أكثر من ستين سنة، وبعض الأحجار ذات النقوش الفريدة التي كان قد نقشها ذات يوم على الحجر، وثبتها في هذا المبنى أو ذاك من مباني مدينة حلب الحجرية المميزة في العالم أجمع.
أذكر، بعد هذا العمل الذي قام به أولاد صاحب الحوش، لم يمض سوى أسبوع حتى نقل إلينا خبر وفاته بحادث سيارة. قيل إنه، أي صاحب الحوش كان سائراً في وسط الشارع كالمسرنم.. والخطأ لم يكن خطأ السائق أبداً إنما، هكذا قال من شاهد الحادث، كان خطأ الرجل، صاحب الحوش..
وما أذكره أيضاً،أن أولاده أفرغوا الغرفة الصغيرة من محتوياتها، ثم أجروا عليها بعض التحسينات وعرضوها للإيجار رغم صغر مساحتها.
هذا ما أذكره عن تلك الغرفة الصغيرة التي ظننت ذات يوم أن فيها كثيراً من الخيول البيضاء والسوداء، والجبال المكللة بالثلوج، وبعض الفرسان الأبطال وهم ينحدرون من القرى لملاقاة العدو، أو كما جدتي تقول، وهي تشير إلى الجبال المحيطة بقريتنا، من هنا، عبر هذه الأخاديد كان المتمردون الشجعان يتقدمون لملاقاة جنود الجن الذين ظهروا فجأة في ليلنا بالمئات.
أذكر، يتابع الفتى: وأنا أنظر إلى الباب المغلق للغرفة الصغيرة، كيف كانت جدتي تشدني إلى صدرها، ثم تذهب في غناء عذب طويل عن الشعر والفنون والجبال وزرقة السماء.. وأذكر أيضاً، أنه قبل انتهاء جدتي من غنائها، كيف كنت أبكي لعذوبة صوتها وحزن أغانيها. نعم كنت أبكي. هذا ما أذكره.. ولن أنساه أبداً.
* * *
في الغرفة الرابعة، يتابع الفتى: حيث تقع في الجهة الجنوبية من الحوش، كان خالد يقطن مع أسرته، وهو صبي يماثلني في السن والصف الدراسي.
كانت أسرته مؤلفة من أربعة أولاد إلى جانب والديه.. ومما عرفته عن أخوته، أن أخته الكبرى، وكانت تقارب السابعة عشرة من العمر، كانت شقيقة من غير والده، إنما من زوج أمه الأول.
خالد هذا، كان له أكبر الأثر في حياتي التالية.. رغم أن تعارفنا لم يدم سوى سنة واحدة، وهي السنة التي عاشتها أسرته معنا في الحوش قبل أن تنتقل إلى القرية التي كان منها بالأصل.. أذكر بعد اعتقال والده للمرة الثانية، وكانت لمدة طويلة، غادرتنا أسرته وانقطعت عنا أخبارها.. وكما أشرت أعلاه، أن خالداً كان قد أثر تأثيراً كبيراً في حياتي، بعد أن تخطيت سن اليفاع وعشت صدر شباب الأول. خالد هذا، كان تلميذاً مجداً، لم يرسب طوال دراسته في صفه، لم يحصل في امتحان ما على علامة متدنية في يوم من الأيام، كنا، هو وأنا، نذهب معاً إلى الحدائق أو إلى البرية المحيطة بحينا، وأحياناً كنا نقوم بالرحلة نفسها ولكن مع جماعة من الصبية للعب أو الصيد أو لقضاء ما يمكن لنا من الوقت نهيم على وجوهنا ونحن نتراكض أو نتباطح أو نتدارس.. وخلال هذه الأوقات كان خالد صبياً يختلف عن الصبية الذين رافقتهم وتعرفت إليهم.
إلى جانب الأدب والتهذيب اللذين كان يتمتع بهما، كان يملك عقلاً مدهشاً، فيناقشنا في كثير من القضايا نعجز عن مجاراته في نقاشها. أذكر، كان هو، أول من تساءل أمامي عن أسباب فقرنا وأسباب غنى بعض الأولاد الآخرين؟ كما أنه طرح أمامي أسئلة تتعلق بالله والأنبياء والجنة والنار؟ كان يتساءل عن ماهية هذا الكون الرهيب العجيب، وعن سر الموت والحياة، وبحث الإنسان عن الخلود؟ طرح خالد كثيراً من الأسئلة المحيرة التي لا جواب لدي عليها.
كان صبياً متواضعاً، لم يحاول في يوم من الأيام أن يظهر أمامنا بمظهر الصبي العارف، وأن يوحي إلينا بأننا مجموعة من الصبية الأغبياء الذين لا يعرفون شيئاً في هذه الدنيا سوى اللعب وهدر الوقت بلا معنى أو الفائدة. كان دائماً، هكذا رأيته أنا، متواضعاً ومتسائلاً: هل تعرف، هذه الأسئلة تحرق دمي ليلاً ونهاراً، لأنني لا أستطيع الإجابة عليها، أظل أفكر بها من دون أن أصل إلى قناعة حول هذا الجواب أو ذاك مما كنت أتلقاه من أجوبة.
كنت أمام أسئلته هذه، ولكي لا أبدو له غبياً، أسأله: أخبرني ماذا تريد من ذلك؟
كان يضحك ويقول من دون ادعاء: لا أعرف! ثم يضيف بعد فترة: إنه الفضول.. فضول لا غير.
لم يقنعني، يتابع الفتى: جوابه هذا في يوم من الأيام. كنت أقول لنفسي: حتماً يريد من تساؤلاته هذه أمراً ما. ما هو؟ لا جواب لدي!
أما والده فما تركه في نفسي من إعجاب كان لا يقل عما تركه ابنه خالد لدي.. كان يقارب الخمسين من العمر، يميل إلى قصر في قامته، بديناً إلى حد ما، ذا طبع هادئ، يميل إلى الحوار والنقاش في علاقته مع الآخرين. وقد شاهدته مراراً يجالس والدي وهما يغرقان في حديث كان يبدو لي، أنهما على طرفي خلاف فيه.
كان والدي يغضب أحياناً فيعلو صوته، وهو يحرك يديه بحركات فيها العصبية والنرفزة.. خاصة عندما كان يتعلق الأمر في الدين. كان والد خالد يقول لوالدي: ما يقال غير حقيقي يا أبو عبدو. فأنا لم أتعرض في يوم من الأيام لقناعات الناس الدينية.. ولا يمكن لي أن أتعرض لها في حياتي. لأنها، أقصد القناعات، هي من الأمور الخاصة بهم، فأنا أحترمها وأجلّها.
كان والدي يهدأ عندما يسمع من والد خالد هذا الكلام، ويقول له: ما تقوله حق. فأنا لم أسمعك في يوم من الأيام تتحدث بطريقة تريد فيها هدم أو زعزعة هذه القناعات لدى الناس. كان والدي ما يلبث أن يتساءل: ولكن يا أبو خالد، لماذا يحاول الناس تشويه هذا الأمر عنكم؟
كان والد خالد يجيب: ليس الناس جميعاً، إنما بعض منهم، وذلك لغاية في نفوسهم.
كان والدي يسأله: وما هذه الغاية يا أبو خالد؟
كان يجيب: لكي نبقى أنا وأنت نعيش هذا الفقر الذي نحن فيه.
يهز والدي رأسه بحيرة ويردد كما كنت أردد أنا أمام خالد: ولكن لماذا؟
هذا من جهة أما من جهة أخرى، كنت معجباً جداً بالعلاقة التي كانت بين والد خالد وبين أفراد أسرته، إن كانت على مستوى الفرد مع أولاده، أو على مستوى العلاقة الجماعية مع أسرته.
كانت أسرة متآلفة، محبة لبعضها بعضاً وخلال سكناهم معنا في الحوش لم نسمع منهم في يوم من الأيام صراخاً أو شتائم فيما بينهم كعائلة. أذكر أن والد خالد كان عاملاً في أحد معامل النسيج، كان كثير من الزوار يأتون إليه في البيت، حتى أني سألت خالداً ذات يوم، من يكون هؤلاء الرجال الذين يزورونهم في البيت بصفة دائمة؟ سألني بعد أن أطال النظر إلي: أتريد أن تجالسهم؟
شعرت بشيء من الخوف، فبلعت ريقي، وقلت له سائلاً: لماذا؟
أجابني: لكي تتعرف إليهم..
سألته: ولكنهم رجال كبار، أما أنا.. ثم أضفت: وأنت، ما نحن إلا صبيين صغيرين. فلا أعتقد أن هناك أمراً ما يمكن أن يجمعنا بهم، كما يجمع والدك معهم.
ابتسم خالد وقال: كأنك خفت من الدعوة التي وجهتها لك! ثم أضاف: ألم تسألني عنهم.. لا بأس، يمكن لنا أن نجالسهم أنا وأنت من دون أن نتدخل في شؤون حديثهم. ثم سألني: ما رأيك؟
أجبته بعد أن شعرت بالإحراج منه: ليكن.
ما زلت أذكر رغم مرور سنوات طويلة على ذلك الاجتماع الذي حضرته مع خالد، كيف أني ظللت لمدة تزيد عن الساعتين، أستمع إلى حوارات ونقاشات، وأحياناً نرفزات ما بين المجتمعين، من دون أن أستوعب حرفاً واحداً مما كانوا يتكلمون به.
في اليوم الثاني سألت خالداً بشيء من الحرج: أخبرني.. هل فهمت منهم شيئاً؟ أنا، بصراحة لم أستوعب منهم جملة واحدة مما سمعته البارحة.
ضحك خالد وقال: ماذا؟ أتريد عبر جلسة واحدة أن تستوعب كل الكلام الذي تجمع لديهم عبر مئات الجلسات التي سبقت جلستهم الأخيرة؟
هززت رأسي وأنا أهتف بدهشة: أقسم بالله.. كانوا يتكلمون العربية، ولكني رغم هذا لم..
ولم أكمل كلامي..
ضحك خالد وقال: لا تستعجل الأمور، سيأتي اليوم الذي نستطيع، أنا وأنت أن نستوعب كل الكلام الذي سمعناه معاً ليلة البارحة. ولكن علينا بقليل من الصبر.
أطرقت رأسي وقلت له معلقاً: معك كامل الحق.
ولكن مع الأسف لم يأت ذلك اليوم، لأن أموراً استجدت ظلت لفترة طويلة غامضة علي، لم استطع أن أستوعب أسباب ما حدث إلا بعد فترة طويلة من الزمن.
وكان الأمر قد بدأ، يتابع الفتى: بعدم حضور الرجال الذين كانوا يأتون إلى منزل خالد في الأسبوع الواحد مرة أو مرتين في بعض الأحيان. ثم بغياب والد خالد عن البيت لعدة أيام، ثم القلق والاضطراب اللذين رأيتهما على وجه خالد.. حاولت أن أسأله عن أسباب ذلك إلا أني لم افعل. آثرت أن أفكر وحدي، وأن أسأل نفسي بعد أن سمعت من الناس، أن اعتقالات ما قد بدأت بحق بعض الرجال والشبان والشيوخ أيضاً! وسمعت أيضاً أن هناك بعض النسوة بين المعتقلين إلا أني لم أصدق هذا الأمر، لأنني تصورت والدتي وهي رهن الاعتقال فضحكت لذلك ولم أصدق الأمر.
ما زلت أتذكر الاعتقال كأنه حدث اللحظة..
لا أذكر في أي شهر كنا، ولكن ما أذكره كان الفصل صيفاً، لأنني كنت نائماً على أرض الحوش، ووجهي باتجاه السور الجنوبي له، وهو السور الوحيد لأن بقية أسواره كانت مؤلفة من حيطان الغرف التي نسكنها.
كان السور يميل إلى الارتفاع ويطل على سماء قاتمة مليئة بالنجوم، والصمت أذكره، كان مخيماً.. لا أسمع سوى غناء بعض الصراصير بين فينة وأخرى. لم استطع أن أغفو في تلك الليلة، لماذا؟ لا أعرف.. كانت الساعة قد تخطت منتصف الليل، كنت، وأنا أحدق إلى حافة السور العالي، رأيت فجأة ظلاً لرجل يمتطي السور، ولم تمر دقيقة حتى رأيت آخر يمتطي السور، ثم ما لبث أن سار عليه وتخطاه إلى سطح الغرفة التي يسكنها خالد وأسرته.
أصبت برعب شديد، حتى أني لم أعد أقدر على التنفس بحرية، شعرت بشيء ما يضغط على صدري، وأنا أحدق في الرجلين اللذين حسبتهما أول الأمر لصين لا غير.. ولكني ما لبثت أن سمعت دقاً وقرعاً شديدين على باب الحوش.. وقبل أن يتكرر القرع، كان الضغط الذي يعاني منه الباب من الخارج قد حطم القفل الذي نقفل به الباب، فاندفع الباب إلى الداخل بقوة.
عند هذه النقطة من أحداث تلك الليلة، كان قاطنوالحوش قد أضاؤوا مصابيح الكهرباء وفتحوا أبواب غرفهم.
اندفع إلى الداخل أربعة أو خمسة رجال، لا أتذكر الآن وهم يحملون بأياديهم مسدسات كبيرة، أو هكذا بدت لي في تلك الليلة.
اندفع ثلاثة منهم إلى غرفة أسرة خالد، أما الاثنان الآخران فوقف كل واحد منهما إلى جانب من جانبي الباب من الخارج، ثم راحا يصرخان علينا، أن يدخل كل واحد منا إلى بيته.. قبل أن يلقى القبض عليه.
تراجع الجيران إلى الوراء بتردد، وتحت ضغط صرخات الرجلين ما لبثوا أن دخلوا إلى غرفهم، ولكن بعضهم كان بين فينة وأخرى، يفرج الباب قليلاً ليراقب ما يحدث في بيت جارهم أبو خالد..
أذكر ظللت متمدداً في فراشي خوفاً ورعباً، وأنا أتصور بأنهم، ما أن يروني حتى يطلقوا علي النار من مسدساتهم الكبيرة. وراح الرجال الثلاثة الذين اندفعوا إلى غرفة خالد، يطرقون الباب بقوة وعنف، قبل أن يفتح أبو خالد الباب.. فاندفع الثلاثة إلى الداخل، من دون رعاية لحرمة البيت أو للنساء اللواتي ما زلن في فرشهن. كنت، من مكاني في الفراش المنزوي، أراقب ظلال الرجال وهي تتحرك، في خارج الغرفة، على أرض الحوش، وفي داخل الغرفة، تحت الضوء الشحيح المتساقط من المصباح المعلق بالسقف.
رأيت مرور خالد بينهم وبين أبيه، وهو يحاول أن يدافع عنه، يحاول أن يدفع أحد الرجال الثلاثة خارج الغرفة، ثم سمعت صوت بكائه، وصراخ أمه، وشقيقته تشتما الرجال الثلاثة وتنعتانهم بالسفلة، وبقليلي الشرف والناموس.
سمعت صوت صفعة، وصرخة يائسة مكتومة.. ثم غامت الأشياء أمام أنظاري للحظة، وفي اللحظة التالية التي عادت فيها الأشياء إلى التبيان والانكشاف، رغم غرقها بالظل حيناً، وانغمارها بالضوء الشاحب حيناً آخر.. في هذه اللحظة شعرت بقوة غريبة تدفعني إلى الخروج من الفراش، شعرت بجرأة فجائية دفعتني باتجاه الباب غير سائل عن الرجلين الواقفين بالخارج.. ومع اندفاعي ذاك سمعت صوت أحد الرجلين أن أقف، وأن لا أتقدم، وأن أعود إلى فراشي..
شعرت بصدمة. إذاً هم كانوا يرونني ممدداً في فراشي! لم يكونا غافلين عن وجودي، إلا أني لم آخذ صرختهم بي على محمل الجد.. فتوقفت هنيهة، ثم اندفعت ثانية باتجاه الباب، وبحركة شيطانية استطعت أن أمرق كالسهم من بين أيدي الرجلين إلى الداخل، وأنا أهتف بخالد سائلاً ماذا يحدث؟
في تلك الليلة شاهدت مشهداً لم أنسه حتى اليوم، وأعتقد بأني لن أنساه ما حييت.
كانت المرأتان، أم خالد وأخت خالد محصورتين في الزاوية الشمالية من الغرفة، وأحد الرجال الثلاثة يشهر مسدسه في وجهيهما، وهو يهددهما بالقتل إن تحركتا من مكانهما. أما خالد فكان مطروحاً على ظهره، كأنه غائب عن الوعي، هكذا خمنت، وقميصه عند الصدر مغطى بالدم الذي كان ينبثق من فمه، بعد أن تلقى صفعة، أو لكمة، أو ضربة بعقب مسدس من مسدسات الرجال الثلاثة. أما والد خالد فكان محصوراً بين الرجلين الآخرين، يقبض كل واحد منهما على إحدى أذنيه وشعره، يهتفان به أن يدوس الصورة..
رغم رعبي، أمام المشهد الدامي الذي رأيت فيه أسرة خالد، سألت نفسي عن أي صورة يتحدثان؟
وقعت أنظاري على صورة ملقاة على الأرض، تذكرتها بوضوح، رغم الظلال الملقاة عليها من الرجال الذين يقفون فوقها، أذكر أني وقفت ذات يوم أمامها طويلاً. كانت الصورة لرجل في الأربعين أو أكثر بسنة أو اثنتين. ذي شعر فاحم، وشارب رقيق يزين الشفة العليا وأنف، وهذا ما كان يميزه عن تقاطيع وجهه، أفطس.. كأن صاحبه قد وقع ذات يوم على وجهه فأصاب أنفه ما أصابه من تشويه..
كانت الصورة على الأرض مكسورة الزجاج، والرجلان ما زالا يصرخان بوالد خالد، أن يدوس بقدميه الصورة، إلا أن والد خالد كان يرفض.. وأمام إصراره هذا، أخذا يشدان بأصابعهما على أذنيه، وهما يمسكان بهما ويجرانه باتجاه الصورة، ما لبثا أن رفعاه إلى الأعلى بعد أن يئسا من أن يطأ الصورة بقدميه. رفعاه من أذنيه، وحاولا أن يحطاه فوق الصورة، إلا أن والد خالد رفع قدميه وجعلهما في بطنه رافضاً أن يطأ الصورة.
أذكر عندما شاهدت الدم يسيل بغزارة من بين كفي الرجلين وأصابع يديهما الممسكتين بأذني والد خالد، شعرت بانقصاف شيء في داخلي، فلم أتحمل ما رأيت.. خاصة ذاك الدم الذي يسيل غزيراً على صدغي والد خالد. لم أستطع إلا أن أخرج من الغرفة وأندفع كالسهم المنطلق من القوس، عابراً باب الحوش المحطوم، أصرخ بأعلى ما أستطيع من قوة: حرامي.. يا ناس حرامي..
ظللت ألف وأدور في الشوارع المحيطة بالحوش وأنا أصرخ، حرامي.. فاستيقظ جميع من سمع صوتي وهتافي وصراخي مندفعين رجالاً ونساء وأطفالاً باتجاه الحوش. اندفع الجميع إلى الحوش، إلا أنا، جلست في الشارع بقرب عتبة عالية، وأجهشت بالبكاء.
ما أذكره اليوم، يتابع الفتى: بعد بكائي بثلاثة أشهر تم إطلاق سراح والد خالد، خرج ضعيفاً لا يقوى السير على قدميه لمدة طويلة.. كنت خلال الشهور الثلاثة، أفكر بالواقعة التي حدثت أمامي. كما أني رأيتها مراراً وتكراراً في منامي.
سألت خالداً ذات يوم، إن كان حقاً والده من رجال العصابات التي أشيع خبرها بين طلاب مدرستنا؟ سألته بصعوبة، لأنني كنت أشعر في تلك اللحظة بخجل شديد منه، خاصة أنا الذي أعرفه، وأعرف والده وبقية أفراد أسرته.. رغم قناعتي بأن والده لا يمكن أن يكون رجل عصابة، إلا أن الإشاعة، لا أعرف من أطلقها في المدرسة، كانت قوية.
نظر خالد إلي طويلاً، مما اضطرني خجلي أن أطرق وجهي إلى الأرض.. أتاني صوته حزيناً يقول: ارفع وجهك، وانظر إلى عيني.. أعرف ما تفكر به، ولكن من حقك أن تسأل وتتساءل.
رفعت وجهي ونظرت إلى عينيه كما طلب مني، أنتظر منه أن يتابع ما بدأه. قال: يجب أن تعرف، أن سبب اعتقال والدي، لأنه شيوعي..
شيوعي!
لأول مرة أسمع بهذه الكلمة..
سألته بتردد: ماذا تعني؟
أجابني محاولاً أن يكون بسيطاً وواضحاً في جوابه: أنت تعرف أن المؤمن يحاول أن يعمل الصالح ويطيع الله الذي خلقه، ويمتنع عن إتيان الأعمال الشريرة.. من أجل أن يدخل بعد موته، في دنيا الآخرة، إلى الجنة. هذا ما وعد الله به المؤمنين.
توقف خالد عن الكلام وعلى ملامحه مسحة من الهدوء والسكينة لم أتعود أن أراهما على وجهه في تلك الأيام التي أعقبت اعتقال والده. ثم تابع وهو على الهدوء نفسه: أما الشيوعي فيعمل من أجل أن يبني الفقراء من الناس جنتهم على هذه الأرض!
عندما سمعت منه هذا الكلام ظننت أنه يمزح معي. رغم أني لم أر في قوله ميلاً إلى المزاح. فسألته: هل هناك من يمنع بناء الجنة التي تحدثت عنها على هذه الأرض؟
أجاب: نعم، الأغنياء؟
سألته باستغراب: الأغنياء! كيف؟
أجابني: عبر الرجال الذين رأيتهم وهم يعتقلون والدي..
لم أعلق، لأن الأمر، رغم شرح خالد، بدا لي أكثر غموضاً.
أذكر، في المرة الثانية التي اعتقلوا فيها والد خالد، بقي طويلاً في المعتقل، وبعد مضي ثمانية أشهر جاء أحد أعمام خالد، اصطحب معه أسرة أخيه السجين إلى القرية بعد أن ضاقت الحياة والمعيشة بها. ظل خالد في ذاكرتي، لم أره أبداً، ظل السؤال يلح علي: ماذا حدث له ولبقية أفراد أسرته؟ وما زال السؤال بلا جواب حتى الآن.


-5-
يا سيدة السكوت
أيتها الهادئة الحزينة الممزقة والمتناهية الكل
يا وردة الذكريات.
ت. س. إليوت
أنا أكتب من أجل ظلي.. يجب أن أقدم
نفسي إليه.
صادق هدايت
هل تتصور أني سأسجن نفسي في هذا المنزل وأصغي إلى»كيرلي«وهو يقص علي أساطيره
جون شتاينبك
لا يذكر الفتى السنة التي انتقلت أسرته فيها إلى حوش(نعيم عبد النور)، إن كان في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر؟ إلا أنه يذكر أن عقد الخمسينيات كان قد انتهى.
كانت الحوش مؤلفة من غرفتين ومطبخ ومرحاض، وباحة صغيرة مكشوفة على السماء، لا أحد يشاركهم في سكناها. كانت الحوش لأسرته وحدها من الباب إلى المحراب كما يقال.
يذكر الفتى، أن شعوره كان مختلفاً تماماً عما سبقه من حالات الانتقال المستمرة من حوش إلى آخر، التي عاشها مع أسرته. هذا الشعور لم يحس به إلا بعد مضي أكثر من شهر خلال عيشه فيها. كان الفتى يحس به كلما ذهب إلى المرحاض في الصباح، يحس باطمئنان من دون قلق وخوف، من أن يكون في المرحاض أحد ما من الجيران رجلاً كان أم امرأة أو طفلاً.
كان يسير إلى المرحاض بثقة، يدفع بابه، ثم يغلقه وراءه من دون خوف من أن أحداً ما سيتقدم من باب المرحاض ليدفعه إلى الداخل، من أجل قضاء حاجته فيه. فكان في هذه الحال فيما مضى من الأيام، يضطر لأن يصدر صوتاً ينبه الشخص أن آخر في الداخل يقضي حاجته، وعليه الانتظار إلى حين انتهائه من ذلك.
يذكر الفتى، أنه كان في مثل هذا الوضع يسارع في قضاء حاجته ليخرج وهو ما يزال على رغبة في بقائه من أجل أن يطمئن إلى إفراغ أمعائه تماماً من الفضلات. ومن جهة أخرى كان يدخل إلى المطبخ فيجد كل ما يخص عائلته في مكانه، من دون أن يعبث به هذا الطفل أو ذاك، يوم كان يسكن في حوش يكون المطبخ فيه مشتركاً، وهذا الأمر ينطبق على الحمام أيضاً.
لأول مرة أحس الفتى بحرية التصرف في الجلوس والقيام والنوم والسهر في الحوش. هذا إلى جانب شعوره بأنه، ولأول مرة في حياته يستقل وشقيقه الأكبر بغرفة واحدة، ينامان فيها، ويقيمان بين جدرانها وتحت سقفها من دون أن يشاركهما والداهما وإخوتهما الصغار.. كان وأسرته يملكان الحوش لوحدهم تماماً.
هذا الشعور تكون لدى الفتى بعد مضي شهر أو أكثر بقليل من سكنه في الحوش.
كثيراً ما كان الفتى يشعر بالخوف والإحراج عندما كان والداه يتشاجران أو يتباحثان في أمر ما بصوت عال. كان جميع الجيران يرهفون السمع ويوجهون آذانهم باتجاه باب الغرفة التي يسكنها مع أسرته.
كثيراً ما كان الفتى يشعر كأنه يمشي عارياً، أو بصورة أدق، يشعر بانه ما أن يصل إلى باب الحوش بعد عودته من المدرسة، أو من ساحة اللعب مع أترابه من الأطفال، كان عليه خلع الثياب عن نفسه ليصبح عارياً وهو يقطع أرض الحوش باتجاه الغرفة التي يقطنها مع أسرته، حتى أنه، هكذا كان يشعر، بعد أن يغلق وراءه باب الغرفة، بأنه عار وأفراد أسرته أمام الجيران، ويشعر أيضاً أن الجيران بدورهم عراة أمامه، لأن جميع مشاكلهم وقضاياهم مكشوفة له. كانوا أشبه بأفراد عائلة واحدة، كل واحد منهم يعرف عن الآخر ما يعرفه هو عن نفسه. لم يشعر الفتى في يوم من الأيام بخصوصيته طوال تلك السنوات التي كان ينتقل مع أفراد أسرته من حوش إلى آخر قبل أن يستقر في حوش نعيم عبد النور، مع أفراد أسرته. فقد شعر لأول مرة بالاطمئنان إلى خصوصيته، كما شعر بأنه يدخل الحوش ويخرج منها مرتدياً ثيابه بالكامل، ولم يشعر بأنه عارإلا في الحمام.
يضحك الفتى ويقول: حتى هذا العري الذي يمارسه في الحمام كان عرياً خاصاً به دون الآخرين. كان عارياً برغبته وليس رغماً عنه. كما أن الفقر الذي كان يعيشه الفتى مع أفراد أسرته، كان مصوناً، غير فاضح، لا يعرفه الآخرون، كما كانت حاله قبل أن ينتقل إلى حوش نعيم عبد النور.
ولعل أسعد لحظات حياته وأجملها، يوم كان يبقى لوحده في الحوش، بعد أن تذهب والدته مع أخوته في زيارة إلى هذه الجارة أو تلك. كان يجلس وهو يسند ظهره إلى جدار إحدى الغرفتين مغمضاً عينيه فيخيم عليه الصمت والسكوت طويلاً. لا أحد يزعجه بمروره من أمامه أو من جانبه، لا أحد يقلق سكينته بصوته وحديثه أو ضحكه وصراخه.
هذا العالم الجديد الذي وجد الفتى نفسه فيه، دفعه إلى الداخل، دفعه إلى أن يطرح على ذاته كثيراً من الأسئلة، كان في معظمها بحثه عن أسباب هذا الفقر الذي تعيش فيه أسرته؟ وعن أسباب ذاك الصراع المرير الذي كان بين والديه؟ وعن صورة المستقبل الذي كان عليه أن يجدها، أو أن يكون عليها في أيامه القادمة، عندما يصبح شاباً، ورجلاً.. أو بصورة أدق، ماذا يريد لنفسه أن تكون؟.
هذه الأسئلة أو التساؤلات التي كان يطرحها على نفسه، راحت تزداد حدة وقسوة، وأيضاً مسؤولية من أجل الجواب عليها.
يذكر الفتى، عندما كان يقترب كل مرة فيها من باب الحوش، كان الخوف ينتابه! والسؤال ينتصب أمام وجهه: من سيقابل عندما يفتح الباب؟ هل سيقابل خالداً أو والده، أو مصطفى أو والدته.. أي من الوجوه سيراه أمامه؟
يدفع الباب ويدخل، يتردد للحظة قبل أن يخطو خطوته التالية إلى الداخل، وهو ينقل نظره في أرجاء الحوش.. ولكنه ما يلبث أن يتنهد ويغمض عينيه ويبتسم عندما لا يجد أحداً أمامه، عندما يجد نفسه وحده في باحة الحوش.. يتذكر الفتى أن الأيام التي كان يعيش فيها، في دار مؤلفة من عدة غرف، تسكن كل غرفة منها أسرة ما، قد ذهبت إلى غير رجعة. يتذكر أن هذه الحوش بغرفتيها وحمامها ومطبخها ومرحاضها له وحده ولأفراد أسرته وحدهم.
يتابع خطواته وسيره بارتياح إلى الداخل..
هذه الراحة التي بات يحس بها ويعيشها في الآونة الأخيرة، طرحت عليه صورة جديدة للحياة، خاصة وقد بلغ الرابعة عشرة من العمر.. صحيح هو لم يغادر مرحلة اليفاع تماماً، ولكنه أيضاً كان قد وضع قدميه كما يقولون على أرض مرحلة الشباب.
فهو يذكر بأن المرحلة الماضية من حياته، شاهد كثيراً من الناس وسمع أكثر بحكاياتهم، كما أنه عاش حياة لا تقل غنى عما شاهده وسمع به من وقائع الحياة وصورها ومصائر الناس الذين تعرف إليهم.
كان، لا بد للفتى أن يجيب على الأسئلة التي بات يطرحها على نفسه في الشهور الأخيرة من حياته، في حوش نعيم عبد النور، هذه الحوش التي أمنت له كثيراً من العزلة وجواً من الهدوء ليفكر ويسأل نفسه: ماذا سأفعل بحياتي التالية، القادمة؟
يذكر الفتى..أنه، في هذه المرحلة بدأت بعض القضايا، المتعلقة بالمستقبل، تشغله.. كان أولها الموهبة التي وجد نفسه عليها، ألا وهي الرسم.. أما الأمر الثاني فكان الفضول، وقد تركز فيما كان يسمعه من الأخبار السياسية ويقرأ في الصحف والجرائد عن الصراعات القائمة في العالم بصورة عامة وفي بلده بصورة خاصة. وسبب هذا الفضول، هو الصورة التي رسمها له بعضهم، من كان أكبر منه قليلاً في العمر. متجسدة في الإثارة والأعمال الجريئة والمغامرات التي يمكن له أن يقول عنها قد تتصف بالبطولة.
أما الأمر الثالث الذي وجد نفسه غارقاً فيه حتى أذنيه، هو قصة حب لم تكن على البال والخاطر كما يقال.. لذا، يتابع الفتى: سأحاول أن أتحدث عن كل أمر من الأمور الثلاثة على حدة، سأتحدث عن كل ما يتعلق بالأمور الثلاثة كما عشته وشاهدته وسمعت عنه أيضاً.
* * *
لا يعرف الفتى في أي سنة بالضبط التقط طبشورة ورسم بها، ولكنه يتذكر تماماً كيف كان يرسم على الإسفلت الأسود، يرسم بيوتاً وأشجاراً وطيوراً، كما أنه يذكر كيف كان يحاول أن يرسم وجوهاً من الذاكرة لبعض الأشخاص المعروفين من الممثلين والمطربين، أو من الأشخاص العاديين الذين كان يعرفهم.
كما أنه لا يعرف في أي يوم من الأيام وقف أمام الطبيعة التي كانت تنبسط أمامه في الريف، في أثناء زياراته لبيت جده، أو في أثناء تجواله في حديقة السبيل حيث البرك المائية والأشجار الباسقة والممرات المتوغلة بين الأعشاب والمروج الخضراء الصغيرة التي كانت لها أشكال هندسية تسحره مناظرها، أو الملتفة على بعضها كأنها دروب مجهولة تفضي إلى أمكنة غامضة.
أما السحر الذي كان الفتى يجد نفسه ما بين طياته، فهو السماء في الصيف والشتاء.. كان العمق الذي يراه أمامه، عندما يرفع رأسه إلى الأعلى يذهله. هذه السماء الزرقاء المترامية الأطراف، الممتدة إلى كل الأمكنة، تلك السماء التي كانت تحيط به، والفتى يمد نظره، فوق الجبال، وذرى الأشجار البعيدة، وأسطح البيوت القريبة، في قريته، حيث يتصاعد من مداخنها الدخان الرمادي حيناً والأبيض في أكثر الأحيان، يتصاعد في حلقات ملولبة سميكة، ثم تترقرق وتتلاشى في الأعالي، مختفية على صفحة السماء الزرقاء.
كان الفتى كثيراً ما يتساءل فيما بينه وبين نفسه: أين يذهب هذا الدخان المتصاعد بكميات كبيرة، في كل صباح من مداخن بيوت القرية؟ ويتساءل أيضاً: وأصواتنا وصرخاتنا وضحكاتنا العالية، أين تذهب؟ كيف تتلاشى فوق رؤوسنا وأمام وجوهنا؟
لا يدري لماذا كان الفتى يتخيل أن السماء ما هي إلا فم يبتلع كل شيء في جوفه! ويذكر، أنه اشتط ذات يوم في خياله، عندما تصور أن السماء قد فتحت شدقيها وراحت تبتلع الكرة الأرضية. شعر في ذلك اليوم بالرعب. وعندما فاتح جدته بالأمر. لم تبتسم، ولم ترتعب كما ارتعب هو، إنما نظرت إليه طويلاً، ثم أمسكت به وشدته إليها وهي تقول: تعال إلي. ثم راحت تبسمل وتقرأ وتمسد للفتى رأسه.. شعر كأن جدته خافت عليه، في تلك اللحظة!
أما في الليل فكان الفتى يفكر بطريقة أخرى.
كان الليل في حياة الفتى أكثر غموضاً! يذكر أنه كان، في ليالي فصل الصيف، يتمدد على ظهره فوق المصطبة الملاصقة لبيت جده في القرية، ويحدق في ذلك البساط الأسود البعيد، حيث النجوم تلمع كأنها ثريات معلقة. أما القمر، فكان أكثر غموضاً من أنه كائن جميل. كان الفتى يتساءل: كيف يصغر هذا القمر الأصفر الشاحب المعلق في السماء رويداً رويداً حتى يتلاشى، ما يلبث بعد عدة أيام أن يظهر كخيط أبيض في حلكة البساط الليلي، ثم يغلظ حتى يعود إلى ما كان عليه قرصاً مدوراً، يسمى القمر.
هذه التحولات التي كان يراها الفتى على السماء وما تحتويه من ألوان سوداء وزرقاء قاتمة، وتلك النقط الملونة وذاك القمر الأصفر الشاحب.. كل هذا العالم كان الفتى يرى فيه مجموعة من الألوان.. أنه مجموعة من الألوان لا غير! ولكنها، يضيف، ألوان بعيدة لا تطالها اليد، ولا تصل إليها الأصابع.
كان في بعض الليالي يصعد إلى سطح البيت ليتأمل بيوت القرية من الأعلى. كان ما يميز القرية، تلك الأشجار الغامقة المنتشرة ما بين بيوتها، تلك الكتل الساكنة التي نادراً ما تحركت، وإن تحركت كان ذلك بفعل الريح. وإذا استثنينا الأشجار بكتلها الغامقة، كانت البيوت بسطوحها تبدو كمساحات لونية لا غير.. حتى الأنوار، هكذا كان يتراءى للفتى، كانت تنبعث كشرارات نارية من النوافذ لتختفي وهي تغوص في لون الليل المعتم. كانت القرية، هكذا بدت للفتى بشكل دائم غامضة غموض الليل نفسه.
يذكر، عندما كان يغمض عينيه بعد أن يستلقي لينام، يشعر بأصابع رخوة، ولكن قوية تضغط على عينيه، يحس بكتلة سميكة تحط على عينيه، لذا كان ما أن يغمض عينيه حتى يغرق في النوم. ولكنه، رغم السرعة التي ينام فيها، كان الفتى يفتح عينيه عدة مرات في الليل، قبل أن تشرق الشمس ويطلع النهار.
كانت جدته، مثلها مثل كل النساء في القرية، تستيقظ في وقت مبكر جداً، قبل شروق الشمس بوقت طويل. كانت تستيقظ من النوم لتقوم إلى أعمال البيت، تنجزها في الساعة الأولى قبل شروق الشمس، وما أن تنتهي من عملها حتى تجلس وراء النول اليدوي لتشتغل عليه حتى ساعة شروق الشمس. كانت جدة الفتى واحدة من النساء الماهرات في القرية في صناعة السجاد الصوفي اليدوي، فكان في كثير من الأيام يستيقظ معها في الصباح، ليجلس إلى جانبها ويتأمل أصابعها وهي تحرك المكوك ذهاباً وإياباً، والخيوط الصوفية الملونة تتراكم فوق بعضها بعضاً لتنسج بساطاً مزخرفاًَ بصور شتى.. عصافير، وحيوانات كاسرة، وزهور ملونة، وأشجار ووجوه لنساء أو رجال بشعور طويلة.
كان الفتى يقف مدهوشاً أمام العالم الذي تنسجه جدته عبر خيوطها الصوفية الملونة. وكان الأمر الآخر الذي يشغله كثيراً هو تلك الألوان الزاهية الجميلة التي تحيك بها تلك الزخارف النباتية والحيوانية والبشرية.
لا يذكر الفتى متى التقط قطعة الطباشير أول مرة لينقل من ذاكرته ما كانت جدته قد نسجته من الزخارف على أبسطها، ولكنه يتذكر، كان أول ما حاول أن يخط بالطباشير على الأرض، هو الوجوه، وجوه البشر، ثم حاول أن يخط أشكال الحيوانات.
يذكر الفتى عندما رأته جدته، وهو يخط بالطباشير على قطعة صاج تالفة علاها الصدأ، قالت له مشجعة: «عَفرم عليك» أما جده فابتسم وقال له معلقاً: ما رسمته يا بني يشبه رأس الكلب. بينما أنت تحاول ان ترسم رأس ذئب! ثم أشار لي أن أذني الذئب صغيرتان ومنتصبتان بقوة.
ومضى عني..
في الليل، يقول الفتى.. متابعاً: بينما كنت جالساً قريباً منه، قال لي: حاول أن ترسم في المرة القادمة رؤوس بشر. لأنك لو أتقنت رسمها، يمكنك حينئذ أن تضمن رغيف خبزك.. خاصة في المدينة، مدينة حلب حيث تقيم يا ولدي.
لم أستوعب ما قاله جدي لي، ولم أسأل نفسي لم قال ذلك؟ إنما استمررت في رسم المناظر الطبيعية التي كانت تحيط بي في القرية، من جبال وحقول ومروج وسماء واسعة زرقاء.
يذكر الفتى أن هواية الرسم قد بدأت معه من دون أن يعرف كيف! أو ما هي الأسباب الخفية التي دفعته إلى أن يقضي من كل يوم عدة ساعات وهو منكب على الطرقات الاسفلتية أو الأرصفة، أو بعض الصخور المستوية الملساء، يرسم عليها بالطباشير الأبيض.. كما أنه يذكر جذوع الأشجار التي كان يحفر عليها، عندما يتوفر لديه مسمار أو أداة معدنية حادة.. وإنه في مرحلة من المراحل، اشترى سكيناً صغيراً من أجل أن يحفر على جذوع الأشجار، يا للغرابة، رسوماً عن الأشجار. أو وجوهاً لبشر.. كان ما أن ينتهي من رسمها، حتى يتركها ويمضي إلى جذع شجرة أخرى، من دون أن يتأمل إن كان ما رسمه جميلاً أم لا، أو جيداً أم رديئاً. كان لا يهتم أبداً بما يرسمه. هذا كان في بداية اهتمامه بالرسم، أما فيما بعد، بعد أن أخذ يهتم بما يرسمه، وذلك بتشجيع من جديه، ثم من أستاذ مادة الفنون عندما أصبح تلميذاً في المدرسة.. راح الفتى يشعر بأن ما ينتجه من الرسوم له قيمة، وجهد يجب الحفاظ عليه، لذا كان لا بد له أن يكف عن الرسم على الطرق الاسفلتية وحيطان البيوت وجذوع الأشجار والحفر عليها. ويتخذ من الورق ملعباً لما كان يرسمه.
في المدرسة، يتذكر الفتى، وكان في الصف الرابع، بدأ يعي ما كان يخطه من الرسوم على الورق، خاصة عندما بدأ أستاذ مادة الفنون(الرسم والأشغال) يهتم به ويشجعه ويرشده إلى الموضوعات التي عليه أن يرسمها، ولأول مرة عرف الفتى أن هناك، إلى جانب المناظر الطبيعية التي كان ينقلها إلى أوراقه، والوجوه البشرية وبعض وجوه الحيوانات، أن هناك مواضيع وطنية وإنسانية ودينية.. وأن هناك أيضاً رسوماً لشخصيات عسكرية ومدنية وإبداعية تركت أثراً كبيراً في حياة البلاد الحديثة أو القديمة، من أمثال يوسف العظمة وصلاح الدين الأيوبي وإبراهيم هنانو وجمال عبد الناصر.
كما أن مدرس مادة الفنون، عرّفه على الرسم بالألوان المائية منها والزيتية، وأيضاً بأصابع الشمع الملونة وأقلام الفحم والرصاص، أما الأدوات فكانت الريشة والسكين.. ولأول مرة عرف على يدي أستاذ المادة الفنية، أن هناك تاريخاً للفن والفنانين ولمذاهب ومدارس فنية، وعلى طالب الفن أن يعرفها ويدرسها، ليختار فيما بعد طريقه لتنفيذ لوحته، إن كانت على الورق أو القماش أو الخشب.
عندما كان الفتى يغمض عينيه وهو يفكر بهذا العالم الجميل الذي أدخله فيه أستاذ مادة الفنون، يضحك ساخراً من نفسه وهو يتخيل ويستعيد في ذاكرته كل الطرقات وجذوع الأشجار وألواح المعدن الصدئة التي كان قد خط عليها بأصابع الطبشور ما كان يرسمه.
كان الفتى قد تمنى دائماً خلال السنوات التالية لتلك السنة، لو أن صورة الأستاذ(توفيق) قد بقيت على تلك الملامح التي صورها أعلاه.
وهنا لابد للفتى أن يتذكر الأسباب التي شوهت فيما بعد صورة الأستاذ في ذهنه.
يذكر الفتى، أنه ذات يوم رأى في أحد المحترَفات الفنية صورة مرسومة بالألوان الزيتية، والصورة كانت عبارة عن سماء عاصفة وفي وسطها يشع برق بمساحات كبيرة وهو يشق تلك السماء القاتمة بضوء قوي، ينبعث من قلب تلك المساحة صورة لوجه فتاة جميلة. ولما كانت الأيام تلك ترصد المد القومي في أيام الوحدة السورية المصرية، وصور الزعيم عبد الناصر موزعة ومنتشرة في كل الأمكنة العامة والمؤسسات الرسمية والبيوت.. كانت الصورة الشهيرة له وهي صورة شبه نصفية، يحدق أمامه، كانه يحدق إلى حلم بعيد المنال. أراد الفتى أن يقدم صورة للزعيم تختلف عن تلك الصورة التي كانت شائعة، وهي صورة لا قيمة جمالية أو فنية لها، إنما مجرد صورة فوتوغرافية لا غير.. طرح على أستاذه الفكرة التالية، عندما كانا في المرسم يعدان معرضاً للمدرسة(مدرسة حطين): أن يرسم صورة زيتية لسماء عاصفة وفي وسطها يشع برق بمساحة واسعة، ليحيط البرق بوجه الزعيم؟
يذكر الفتى، عندما انتهى من طرح فكرته هذه. توقف الأستاذ(توفيق..) عن الرسم، حيث كان يعمل في لوحة تمثل الربيع، ونظر إلى وجه الفتى طويلاً، ثم ابتسم له ابتسامة ساخرة حمّلها تساؤلات غامضة، هكذا خمن الفتى. ما لبث الأستاذ أن قال سائلاً: أتقول سماء مكفهرة وعاصفة، وفي وسطها صورة للرئيس..؟ ولم يلفظ الاسم. ثم سأل الفتى: قل لي من أوحى لك بهذه الفكرة؟ شعر الفتى كأن الأستاذ قد استحسن الفكرة فأجابه بحماس: لا أحد. إنها من بنات أفكاري.
عاد الأستاذ إلى الرسم وهو يقول معلقاً على ما قاله الفتى: أنت تملك أفكاراً خبيثة!
صدم الفتى.. بما سمعه من الأستاذ، ثم تساءل فيما بينه وبين نفسه: أين هي الأفكار الخبيثة؟ ثم لماذا هي خبيثة؟
التفت إليه الأستاذ وقال سائلاً: حقاً، أخبرني من أوحى لك بهذه الفكرة؟ وقبل أن يجيبه الفتى.. تابع بصوت قوي وحازم: وجه الرئيس يجب أن يشع منه النور والضياء والأمل، وأن يكون مرسوماً ضمن سماء ساطعة، مشعة بالشمس، لا سماء مكفهرة عاصفة.
شعر الفتى.. بشيء من الخوف، خاصة عندما أعاد سؤاله للمرة الثالثةعن ذاك الذي أوحى له بالفكرة التي قدمها للأستاذ..
وسبب خوف الفتى.. كان كل الأخبار التي سمعها ولا زال بين فينة وأخرى من الاعتقالات التي تتم بحق بعض الناس، وأخبار بعض المخبرين الذين كانوا لا يخافون الله، عندما يقدمون للأجهزة الأمنية بعض التقارير الصادقة منها أو الكاذبة بحق الناس، فكانوا يعتقلون ويذهبون إلى السجون.
ظل الفتى بعد ذلك، طوال العام الدراسي خائفاً فلم يعد إلى الضحك أمام الأستاذ أو الحديث معه بأريحية كما كان يفعل في الماضي. لقد انقلبت صورة الأستاذ أمام عيني الفتى.. وأصبحت غامضة، حاول الفتى أن يبتعد عنه، وأن لا يتواجد معه إلا في أثناء العمل المتعلق بالرسم فقط.
ربما بالغ الفتى.. في ردة فعله تجاه الأستاذ وسؤاله الملغز، إلا أن الجو العام في تلك الأعوام كان قاتماً، غير صادق، مزق الناس ودفع بالكثيرين منهم إلى الصمت والإحجام عن إبداء الرأي، وتقديم صور، في بعض الأحيان، تنم عن النفاق والتزلف.
ما زال حتى اليوم، يقول الفتى: أتمنى لو بقيت صورة ذلك الأستاذ الذي أحببته كثيراً، نقية، صادقة كما عرفته بها أول الأمر، أن لا تهتز أمامي بعد أن قدمت له تلك الفكرة عن صورة الزعيم وأنا لا أعني إلا شيئاً واحداً، هو تقديمي، صورة فنية، ذات قيمة جمالية للزعيم فقط، وليس الإساءة له كما ظن الأستاذ وخمن!
* * *
ذات يوم، والفتى.. في الثالثة عشرة، جاءه أحد الأصدقاء، وكان مثله من محبي الرسم، وأخبره أن هناك مركزاً لتعليم الفنون التشكيلية قد تم افتتاحه.. فما كان من الفتى إلا أن ذهب وانتسب إليه، كان ذلك في شهر أيلول 1960، ليبدأ فيه دروس تعلم الرسم وتاريخ الفن والنحت بانتظام تحت إشراف مجموعة من الأساتذة تخرجوا من كليات الفنون الجميلة في روما وباريس.
بعد أن انتظم الفتى.. في الدراسة، راحت الأشياء تتغير أمام أنظاره، أو بالأحرى، راح هو ينظر إلى الأشياء بعين مختلفة، وهذا الاختلاف بدأ يراه ويلمسه يوماً بعد يوم من دراسته للفن، وعلى مدى العامين والنصف التي استغرقت دراسته.. خلال هذه المدة كان قد تعرف إلى العديد من الطلاب أمثاله، كان معظمهم تقريباً في عمره. إلا بعض الطلاب كانوا يكبرونه بعدة سنوات، بحيث كانوا بالنسبة له رجالاً. ولعل الأمر الأهم في ذلك الاختلاف، هو الجو الذي كان.. جو مؤلف من اختلاط الشبان والشابات في دروس الفن.
صحيح، كان الفتى يتذكر أيام دراسته في مدرسة بني تغلب الابتدائية المختلطة، إلا أنه كان في تلك الأيام لا يتجاوز السابعة من العمر، وعندما اقترب من التاسعة، نقله والده إلى مدرسة حطين الابتدائية الخاصة بالذكور.
لاحظ الفتى على نفسه، أنه أصبح أكثر هدوءاً وتهذيباً، ورقة في حضور الفتيات، زميلاته في دراسة الفن.. ليس هذا وحسب، إنما رماه هذا الجو، الجو المختلط إلى حالة اليقظة واختلاق قصص وحكايات لنفسه، ويبدأ بعيشها كأنها واقعية!
هذا الوضع كشف له عن حقيقة مرة لم تترك في نفسه، سابقاً، المرارة التي راح يعيشها، ألا وهي الفقر.. صحيح أن الطلاب، كان قلة منهم أولاد أغنياء، إلا أن معظمهم كانوا من متوسطي الحالة المادية.. رغم هذا الوضع للطلاب، كان الفتى أفقرهم.. وقد عانى من هذا الأمر كثيراً. خاصة حالته النفسية، كان يحاول أن يكبتها دائماً، ويخفيها عن الآخرين، فخلق هذا الأمر له كثيراً من الصعوبات في التأقلم مع الآخرين من الطلاب ذكوراً كانوا أم إناثاً.
إلا أنه، في منتصف السنة الدراسية الأولى تعرف إلى طالب مثله، في سنه، وفي مثل أحواله المادية الصعبة، لا أكثر ولا أقل. كانا ابنين لفقر واحد. ولكن الفتى، قبل أن يتحدث عن هذه العلاقة/ الصداقة، لا بد له الحديث عن ناحية هامة تتعلق بوعيه في تلك الفترة الحاسمة، هكذا يعتبرها الفتى من حياته.
يذكر الفتى، أنه إلى جانب اندماجه وحبه لمادة الرسم، كانت مادة تاريخ الفن قد دفعت به إلى البحث عن الكتب التي تتحدث عن حياة الفنانين محدثين وقدماء وكلاسيكيين. هذا البحث وسع من دائرة المطالعة لديه فراح يقرأ حياة الموسيقيين والكتاب وحياة القادة العسكريين ورجالات السياسة.
لم تمض السنة الأولى حتى وجد الفتى نفسه قد وسّع دائرة المطالعة لديه حتى شملت كتاب (اللامنتمي) لكولن ويلسن، فدفعه ذلك إلى البحث عن الكتب التي تحدث عنها وعن أبطالها في كتابه.. ولم تمض سنة ثانية حتى أصبح هاجسه في القراءة يوازي هاجسه في الرسم.
ليس هذا وحسب، إنما راح الفتى يقيم علاقات مع أبطال الكتب التي يقرؤها حتى أنه حاول ذات ليلة أن يفك الاشتباك الذي كان بين غوغان وفان كوخ! إلا أنه كان صغيراً فلم يستطع أن يفرض موقفه عليهما. فوقع أرضاً عندما تماسك غوغان وفان كوخ بالأيدي، وأثناء تدافعهما سقط الفتى ما بينهما على الأرض وشج رأسه بحيث بقي مكان الشج إلى اليوم علامة على ذلك الشجار. أما لورانس العرب، صاحب كتاب(أعمدة الحكمة السبعة) فقد تلقى من الفتى بصقة عندما وقف أمامه وقال له: ما أنت إلا جاسوس قذر يا لورانس.. وعلى يدي ستكون فضيحتك بين العشائر والقبائل والزعماء العرب. وعندما فعل، يذكر الفتى، كيف سخر منه الزعماء وربتوا على كتفه، وقالوا له: يا ولد لا تتدخل بعمل الرجال.. اذهب والعب مع أترابك خارج هذه الخيمة.
خرج الفتى حزيناً، محبطاً مطأطئ الرأس والدمع في عينيه.
أما الراقص (نجينسكي) فلم يقدر أن يستوعب كيف يمكن لرجل أن يكون راقصاً، فالله، كما يعرف، قد خلق المرأة للرقص وليس الرجل. كما أنه، أي الفتى لم يستوعب كيف يمكن للراقص أن يكون شاذاً، وعندما عرف تساءل وهو حزين: هل كان الراقص يأتي أم يؤتى؟ هذا السؤال لم يستطع أن يجيب عليه، مع الأسف، حتى اليوم. ولكنه ذات يوم وقف أمامه وأراد أن يسأله، إلا أنه شعر بالخجل فأطرق وجهه، ثم أدار ظهره للراقص ومضى عنه.
ما زال الفتى يسأل نفسه: لماذا أحب راسكولينكوف، بطل رواية الجريمة والعقاب لدستويفسكي؟ ولكنه لم يجد جواباً لديه. وقد كان هذا الحب سبباً في أن يكون الفتى عيناً لراسكولينكوف عندما كان العذاب ينهشه محاولاً الهرب من عيون رجال الشرطة التي شكّت في أمره. كما أن الفتى أحب اسكندر المقدوني وكره نابليون معتبراً إياه قائداً عسكرياً قذراً.
في تلك السنوات، يتذكر الفتى أنه كان محباً للسينما. فلم يكن يمر أسبوع إلا ويشاهد فيلماً أو اثنين.. وفي بعض الأحيان كان يبلغ عدد الأفلام التي يراها في الأسبوع ثلاثة.. وفي أحيان أخرى كان يضطر لمشاهدة بعض الأفلام أكثر من مرة.. فهو يذكر أنه شاهد فيلم «توماك» وهو من نوع الخيال العلمي يتحدث عن إنسان ما قبل التاريخ، عندما كان يعيش برفقة الحيوانات الضخمة التي انقرضت مثل»الديناصور». كما أنه شاهد فيلم «حصان طروادة» عشر مرات.. الخ
بعد ذلك بعدة سنوات، عرف الفتى أنه اطلع على عيون الأدب الكلاسيكي الإغريقي والروماني عبر تلك الأفلام، مثال ملحمة «الأوديسة»، فيلم «أوليس» وملحمة «الإلياذة»، فيلم «حصان طروادة»وملحمة «الإنياذة» لفرجيل، فيلم«ريموس ورومولوس»، وإلى كثير من الروايات الأدبية التي حولت إلى أفلام سينمائية مثل: حول العالم في ثمانين يوماً، الحرب والسلام، الأحمر والأسود.. الخ
في كتاب صغير، كان مؤلفاً من مئة وخمسين صفحة تقريباً قرأ الفتى ملخصاً لملحمة «دون كيشوت»، قبل أن يقرأها كاملة عدة مرات بعد ذلك بعدة سنوات. في البداية استغرب من الفارس النحيل الذي يطلق على نفسه اسم دون كيشوت، وتعجب من تابعه وخادمه سانشو بانشا.. إلا أن صورة المحبوبة دولسينا قد فتنته، رغم أنها لم تظهر مرة على صفحات الكتاب الصغير، إنما وجدت عبر وصف دون كيشوت لها.
ظلت أحداث الكتاب تهزه وتحيره لمدة أيام قبل أن يسأل رفيقه «حيدر» الذي انتسب وإياه إلى «مركزالفنون التشكيلية» ودرسا فيه، وأقاما معارض مشتركة، وتخرجا معاً، يسأله رأيه في دون كيشوت؟
نظر إليه الصديق طويلاً، ثم أجابه: لا أعرفه. ولكني أعتقد بأني سمعت باسمه. ثم تساءل الصديق: ماذا يعمل دون كيشوت هذا؟
أطرق الفتى رأسه بخيبة ومضى عنه قبل أن يجيبه بحرف، ولكنه في اليوم الثاني جاء بالكتاب وقدمه لصديقه وقال له: أتمنى أن تقرأه هذه الليلة، لأنه في يوم غد، أقصد النهار، سيكون بيننا حوار طويل حوله.
ولكن الصديق لم يقرأ الكتاب إلا بعد ثلاثة اسابيع بعد أن كان الفتى قد يئس من صاحبه وصديقه في إمكانيته قراءة الكتاب، إلا أن الصديق جاءه ذات يوم، وأعاد له الكتاب وهو يضحك. ثم قال: أتدري.. كتابك هذا جميل، وقد أضحكني البارحة بطول ساعاته.. حتى أن أمي كانت تفتح علي الباب، وأنا قابع في سريري أقرأ وأضحك، ظنت، أقول لك بصراحة، بي الظنون!
ضحك الفتى وقال سائلاً: ماذا؟ هل ظنت بأنك جننت؟
أجابه صديقي: على ما يبدو، هكذا كان الأمر بالنسبة لها.
سأل صديقه: إذا تركنا الجانب المضحك والهزلي فيه، ما رأيك بدون كيشوت هذا؟
نظر إليه باستغراب وقال: ماذا تريد أن يكون رأيي؟ إنه مجرد مجنون..
سأله الفتى: أهذا رأيك؟
أجابه صاحبه: وأنت ما هو رأيك؟
أجابه الفتى: رأيي، إنه حالم. ثم أضاف: ألا تعتقد بأنه في عدد من جوانب تفكيره يشبهنا؟
تساءل الصديق: وهل نحن مجنونان؟
عند هذا السؤال توقف الفتى عن سؤال صاحبه. كما أنه أهمل الأمر في نفسه، ولكنه ما لبث أن طرحه على صديق آخر، كان من الطلاب المستجدين بالنسبة له. ولكن بصيغة أخرى: قل لي إن كان دون كيشوت يحمل في ذهنه بذرة الجنون، هذه البذرة التي نبتت من الكتب التي قرأها، واستطالت وأينعت في أعمال ومواقف له، أقصد دون كيشوت. وإذا اعتبرناه في جانب من جوانب عقله مختلاً وغير متوازن، قل لي، ما شأن سانشو بانشا به؟ لقد وجدت، أنا غرابة، في علاقته بدون كيشوت!
ابتسم صديقه وأجاب: أليس هو تابعه؟
أجابه الفتى: نعم.
تساءل الصديق: إذاً..
قال للصديق: أعتقد بأن سانشو بانشا يحمل في جانب ما من جوانب عقله أفكار سيده، دون كيشوت.
هل هذا يعني، أنك تريد أن تقول أنهما مجنونان؟
أجابه: شيء من هذا!
قال الفتى: لا أعتقد الأمر هكذا. ما أعتقده بأن تابعه بانشا إنسان بكامل عقله، إلا أنه مغلوب على أمره.
كيف؟ سأل الصديق.
أجابه الفتى: أليس هو تابعاً، خادماً لسيد؟
أتعتقد بأن سانشو كان عاقلاً؟
هذا ما أعتقده.
ابتسم الصديق وقال: أتدري، أفكارك هذه تقلقني! ثم ضحك وقال: وما عليك سوى أن تقول لي، وعلى التابع أن يثور على سيده..
استغرب الفتى كلام صديقه، إلا أنه لم يأخذه على محمل الجد. ولكنه شعر بأن حوارهما كان يجب أن يدور في اتجاه آخر، اتجاه المحبوبة دولسينا، أجمل نساء العالم حسب قول دون كيشوت. لأنها، لولاها لما خرج الفارس الشاحب الوجه للبحث عن المغامرات ليثبت لها، على أنه فارس، وعلى أن عهد الفروسية لم ينته ولم يمض، وأن جميع الفرسان الذين تحدثت عنهم الكتب القديمة ما زالوا على قيد الحياة، وهم يمارسون دورهم الفروسي في هذه الدنيا.
دولسينا هذه كانت معبراً عاطفياً للفتى الذي كان قد اقترب من سن الرابعة عشرة من عمره، ولكن قبل أن يعبر الفتى بنا إلى عالم عواطفه، لا بد له أن يعود ليحدثنا عن صاحبه حيدر.
لا يذكر الفتى كيف بدأت علاقته بزميله وصديقه، ولكنه يعرف الأسباب التي دفعته إلى هذه الزمالة والصداقة، أولاً كانا في سن واحدة، وثانياً كانا يسكنان في حي واحد «براكات السريان» وثالثاً يأكل الفقر منهما أكلاً. وكانا على شيء من روح خبيثة، تميل في خبثها باتجاه الهزل والسخرية.. يذكر الفتى بأنهما كانا ذات يوم شتائي، عائدين من مركز الفنون.. وكان الأخير يقع في شارع «بارون» فكانا يسلكان طريقاً مختصرة تمر بساحة «سعد الله الجابري» ويمشيان على طول سور الحديقة العامة، حيث كانا يمران به، ثم يتوجهان إلى شركة الكهرباء القديمة، ومنها يعبران من أسفل جسر الخطوط الحديدية ليصعدا بعدها إلى حي «براكات السريان» ثم يتوجه كل منهما إلى بيته.
يذكر الفتى أنه وحيدر كانا ذات يوم عائدين إلى البيت، وكان اليوم شتائياً، وآثار مطر خفيف ما يزال على الأرصفة والشوارع.. ففي مثل هذه الأيام عادة ما، تكون الشوارع فارغة من السيارات، وأيضاً الحديقة العامة من الناس.. وفجأة رأيا الحارس المقيم أمام باب الحديقة الغربي، من الداخل، كان يجهزعلى مهل نيراناً من الحطب منذ مدة من الزمن على ما يبدو، وهو ينتظر خارج كوخه لتصبح جمراً من أجل أن يرفعها ويدخلها إلى كوخه.
ما يزال الفتى يتذكر الصمت الذي يخيم على الجو، ويتذكر هسيس الجمر الذي كان ينبعث من النار التي أصبحت جمراً في ذلك الجو الصامت، وحركات الحارس في توضيب قطع الجمر فوق بعضها بعضاً، ما يزال يذكر كيف أنهما كتما صوتهما وراحا يتلقطان خطواتهما كقطين وهما يقتربان من الباب حيث يقبع الحارس. أما عندما وصلا إليه، ومن دون أن يراهما، فأصدرا صوتاًَ كصوت حيوان كاسر، وهربا ضاحكين بقوة.
وما يذكره الفتى.. كان أشبه بلقطة سريعة لم يستطع أن يلم جميع تفاصيلها بعينيه. عندما أصدرا الصوت، كيف أن الحارس قفز إلى الأعلى وهو يرمي الملقط من يده، وكان ملقطاً كبيراً من الحديد، أداته في توضيب الجمرات في المنقل، وكيف أنه، وهو في لحظة قفزه إلى الأعلى، جدف شاتماً ربهما..
ومن خبثهما أيضاً، أنهما ذات يوم، وكان في تلك الأيام قد أطلق «الإتحاد السوفيتي» أكثر من قمر صناعي «كوزموس» في الفضاء الخارجي بحيث بات الأمر حديث الناس.. فشاهدا موظفاً من موظفي شركة الكهرباء، عرفا ذلك من الثياب الخاصة التي كان يرتديها موظفو شركة الكهرباء.. قادماً باتجاههما. وكان الصمت وقلة المارة والسيارات هو الجو العام في تلك الساعة المسائية.
كان الموظف يحمل على يده صحناً، عرفا فيما بعد أنه صحن مملوء بطعام كان، على ما يبدو، قد ابتاعه للعشاء، من أقرب مطعم لبيع الفول والحمص.. وما أن رأيا الموظف حتى اشتعلت رغبة الخبث في نفسيهما، فرفعا رأسيهما إلى الأعلى وراحا يتحدثان ويلمحان أن شيئاً ما يمر في السماء، ثم يقفان لحظات وهما يشيران بأيديهما إلى الأعلى، كأنهما يريان الشيء المحلق في الفضاء.
راح الموظف، وهو يمشي، يرفع رأسه بدوره إلى الأعلى، إلى السماء ويدور حول نفسه، والصحن المملوء بالطعام على يده الممدودة أمامه، إلى الأعلى قليلاً، ولم تمر المحاولة الثالثة للموظف في رفع رأسه إلى الأعلى قبل أن يصل إليهما بعدة أمتار حتى تعثر وفقد توازنه ثم سقط الصحن عن يده، لينسكب الحمص والزيت وقطع البندورة والمخلل على الأرض.
يذكر الفتى أمام هذا المشهد لم يتمالك أحدهما نفسه فضحكا بشدة وهما يهربان بسرعة، خوفاً من أن يلحق بهما الموظف ويضربهما للعبة التي مارساها ضد الرجل.. رغم أنهما بعد أن قطعا مسافة مبتعدين عن الرجل شعرا بشيء من تأنيب الضمير للخسارة المادية التي لحقت بالرجل المسكين الذي، على ما يبدو، كان قد صدق أن قمراً صناعياً يمر على مرأى البصر في سماء مدينة حلب.
أما الفقر الذي كان يأكل منهما، فيود الفتى أن يذكر أمراً فقط، وهو كاف للدلالة على شدة الفقر الذي كانا يعيشان فيه.
كان على الفتى وهو في الصف السابع الإعدادي أن يستيقظ باكراً، في الساعة السادسة صباحاً، قبل ذهابه إلى المدرسة، من أجل أن يذهب إلى الفرن لجلب الخبز منه.
عن تلك الأيام التي يتحدث عنها الفتى، كان الخبز نوعين، الأول يسمى «الأبيض» وسعر كيلو الغرام الواحد منه، خمسة وثلاثون قرشاً أما الثاني فكان يسمى «الأسمر»، وسعر الكيلو الواحد منه، يساوي خمسة وعشرين قرشاً. ولما كانت أسرة الفتى فقيرة، كانت مضطرة إلى شراء النوع الثاني من الخبز الأسمر.
كانت الأفران الخاصة بصناعة هذا النوع من الخبز قليلة في مدينة حلب، موزعة في عدة أماكن منها.. وكان أقرب فرن لسكن الفتى، كان في «القلة» وهي حارة من حارات المنطقة المسماة «باب الفرج»كانت المسافة ما بين الفرن هذا وبين سكن الفتى تقدر بأكثر من نصف ساعة مشياً على الأقدام ذهاباً ومثلها في الإياب. لذا كان يضطر أن يستيقظ باكراً من أجل أن يذهب برفقة صاحبه وصديقه حيدر.. لجلب الخبز، ومن ثم يتوجه إلى مدرسته «ثانوية المأمون» الواقعة في شارع « اسكندرون»في حي الجميلية.
يذكر الفتى، أنه وصديقه حيدر، كانا في طريقهما لجلب الخبز، يتحدثان كثيراً عن الفن التشكيلي، عن مذاهبه ومدارسه، وفنانيه المحليين والعالميين، يتناقشان ويتحاوران، أما الفقر الذي كانا يعانيان منه فلا يذكر الفتى أنه جرى نقاش بينهما حوله. كانا يهربان من ذكر كلمة «فقر»، رغم أنهما لم ينظرا إليه على أنه عار يكلل جبين المرء. كما أنهما لم يسألا أبداً، عن أسباب فقرهما! كانا يتناولان الخبز من يد الفران الذي كان يزنه لهما، بعد أن يدفعا ثمنه.. كانا يوزعان أرغفة الخبز الطازجة والساخنة فوق بلاطة على جانب الفرن وضعت خصيصاً لتبريد الأرغفة عليها. ومن ثم جمعها ووضعها في حقيبة جلدية خاصة، ثم يعودان طريقاً تدوم أكثر من نصف الساعة سيراً على الأقدام، في حرارة الصيف حيناً وبرودة الشتاء حيناً آخر. كانا يتضاحكان، ويتحدثان في أمور الحياة إلا الفقر. ولكنه ذات يوم، أسلمه هذا الأمر إلى إحساس حاد بفقر أسرته، ولم يستطع بعد ذلك الهروب منه أو الحديث عنه، أو حتى ذكره في أحاديثه مع الناس.
ومن المفارقة الغريبة، أن إحساسه بالفقر بدأ مع أول يوم خفق قلبه كما يقولون، بحب فتاة تماثله في السن، كانت مثله في الرابعة عشرة من العمر.
ما زال الفتى يذكر، رغم مرور أكثر من أربعين سنة، كيف انكمش وهو متمدد في فراشه عندما حاول أن ينام باكراً في تلك الليلة، لأنه، في صباح اليوم التالي، كان سيذهب مع طلاب مركز الفنون، في رحلة إلى منطقة «كفر جنة» في شمال مدينة حلب.
كان الفراش ممدداً على أرض الغرفة، وقد أشار إلى أخته أكثر من مرة، أن تطفئ المصباح الكهربائي، رغم شحوب الضوء لكي يستطيع النوم.. إلا أن أخته لم تلب طلبه، إنما كانت واقفة بباب الحوش تحادث أحداً ما!
كان باب الغرفة مفتوحاً على الليل، في الخارج. كان يسمع صوت أخته فقط، ولكنه لا يرى مع من كانت تتكلم، حتى سمع منها كلمة تقول للذي تتحادث معه: تفضلي..
إذاً، كانت أخته تتحدث مع فتاة. استغرب، أي فتاة يمكن لها أن تأتي إليهم في هذا الوقت من الليل؟ صحيح أن الساعة كانت ما تزال تشير إلى الثامنة مساء، ولكن بالنسبة إلى فتاة، كانت تعتبر وقتاً متأخراً من الليل.
تقدمت أخته من الفتاة وسبقتها في دخول الغرفة وهي تكرر دعوتها لها: تفضلي..
كانتا فتاتين، الكبرى منهما تمسك بيد الصغرى.. يذكر الفتى، في اللحظة التي سمع فيها أخته تقول: تفضلي.. شعر بانزعاج كبير، وسبب ذلك كان في تساؤله، بنت الـ.. ألا تعرف بأن فراشاً ممدداً على الأرض، وهو قريب من باب الغرفة وهناك شخص ما مندس ما بينه وبين اللحاف؟ أي غبية هذه أخته؟
شد اللحاف وغطى به وجهه، ولكنه بعد دقائق وأخته كانت ما تزال تحادث الفتاة، شعر بشيء من الاختناق، فاضطر أن يدفع اللحاف قليلاً عن وجهه، مخرجاً بذلك أنفه ليستنشق قليلاً من الهواء. في هذه اللحظة، وقبل أن يفكر باستنشاق الهواء، رأى وجه الفتاة الواقفة بالباب. رأى الوجه ونسي كل شيء عداه.
ما زالت الصورة التي رأى فيها الفتاة ماثلة أمام عينيه، ثابتة في خياله، مستقرة في نفسه لا تغيب رغم مرور السنوات الكثيرة! كان المشهد الماثل أمامه كالتالي: باب، تقف في إطاره الفارغ فتاة، تقارب الرابعة عشرة من العمر، ذات شعر مضفور على شكل جدائل عديدة، وهي تحيط بوجه الفتاة. هذه الجدائل المفتولة كان قد رآها في عدة صور لفتيات صغيرات، وبعض الشابات في الفن الإيطالي في عصر النهضة، خاصة لدى الفنان الفلورنسي «بوتشيللي» كانت الفتاة ترتدي ثوباً أبيض مزين بكشاكش، ثوب أبيض يمتزج في أطرافه بالليل الأسود الذي كان يملأ الباب خلفها. أما يدها التي كانت تمسك بيد الفتاة الصغيرة، تبين فيما بعد أنها أختها، فكانت شاحبة، فيها كثير من الجمال.. خاصة الطول الذي كانت عليه أصابعها.
كان المشهد برمته أشبه بالحلم.
يذكر لو أنه لم يقابل الفتاة بعد المشهد الذي وصفناه لظن الفتى، أن ما شاهده كان مجرد حلم لا غير. وقد اقتنع بذلك لعدة أيام قبل أن يراها من جديد.
في البداية، لم يسأل الفتى أخته: من كانت تلك الفتاة؟ لا يعرف لماذا لم يسألها لكي يقطع الشك باليقين من أن ما رآه كان مشهداً حقيقياً لفتاة من لحم ودم. لقد منعه كبرياؤه من ذلك. كما أن ظنه بأن أخته ستعلق ساخرة على سؤاله مرة وأخرى.. وربما باستمرار. أي سيكون مجالاً لتعليقاتها وهزئها الدائمين، لذا آثر عدم سؤالها إن كان ما شاهده حلماً أو واقعاً؟
أما الوجه، يتابع الفتى: فكان غريباً! غريباً في تقاطيعه وجماله! كانت أطراف الوجه تذوب في الليل المحيط به، بدا، هكذا رأى الفتى شاحباً.. لم يعرف إن كان الشحوب بسبب الإضاءة الخافتة المنبعثة من المصباح الكهربائي المعلق في سقف الغرفة، أم أن الشحوب هو لون بشرتها.
كان الوجه دائرياً، على شيء من الامتلاء، وقد أعطاه الشعر الأسود الفاحم المحيط به بضفائره الكثيرة، أعطاه شيئاً من الشفافية.. كانت بشرته أشبه بغلالة بيضاء حليبية اللون. أما العينان فكانتا كبيرتين واسعتين. وقد أعطى أجفانهما السميكة اتساعاً جميلاً مختفياً وراء أهدابهما الطويلة. كان لون العينين أسود، قطعة من السواد، بحيث لا تستطيع أن تفرق بين حدقتيهما وبين قزحيتيهما. كانت الحدقة والقزحية ذات لون أسود واحد. أما الحاجبان فكانا خفيفين ورقيقين وطويلين، ولطولهما كانا يمتدان إلى وراء عينيها بخط يتلاشى رويداً رويداً على صدغيها.
ولكن الأمر الذي كان يميز وجهها، هكذا لاحظ الفتى، هو الأنف والفم. كان الأنف ناعماً ورقيقاً، مع استقامة ممتدة من الجبهة حتى الأرنبة. ثم ينتهي بالفتحتين الورديتين. أما الفم، فكان ذا شفتين ممتلئتين تنتهيان بانحناءين إلى الداخل في كل زاوية من زاويتي فمها.
نعم، بدا الوجه، في تلك اللحظة غريباً، لم ير الفتى مثله من قبل أبداً. أما عندما أدارت ظهرها ومضت مع أختها الصغيرة، متلاشيتين في سواد الليل، استيقظ من نومه. أكان نائماً؟ هل رأى حلماً؟ ولكن الفتى في الوقت نفسه لم يصدق ذاته، لم يصدق أنه كان نائماً! كان يقظاً، رأى كل شيء بعينيه، وسمع بأذنيه..
رغم مرور عدة أيام لم ينس الفتى الحالة التي وجد نفسه فيها منذ أسبوع، كان يناقش أمر الفتاة ما بينه وبين نفسه. ولكي يحسم أمر نومه ويقظته، وإن كانت الفتاة واقعاً حياً مثل أمامه في تلك الليلة، أم كانت حلماً رآها في نومه؟ أراد أن يسأل أخته.. إلا أنه شعر بالخجل أولاً، وثانياً بالخوف! شعر بالخجل من أن تسأله: ما شأنك بأمرها ولماذا تسأل عنها؟ لو قال لها، هكذا مجرد فضول. ستضحك منه وتقول له: فضول أم إنه العشق الذي بات يقلق عليك لياليك؟ ثانياً بالخوف من أن يكون ما رآه حلماً، فتستغرب أخته وتسأله: أي فتاة هذه التي تسأل عنها؟ لذا آثر الصمت.
في نهاية الأسبوع والفتى واقف في أحد الشوارع الفرعية الضيقة، أمام أحد معارفه، كان أكبر منه بعدة سنوات.. أو بالأحرى كان من معارف أخيه الأكبر، كان الصديق يحمل بيده ورقة عليها عشرات الأسماء والتواقيع مع مقدمة مكتوبة بالحبر، تطالب هيئة الأمم المتحدة بالتدخل لدى الولايات المتحدة الأمريكية لوقف تدخلها السافر ضد كوبا، جزيرة الحرية.
كان الصديق، على ما يبدو، هكذا خمن الفتى، أحد الشيوعيين السوريين.. ما يذكره الفتى عن تلك الساعة التي وقف فيها أمام الصديق واستمع إليه وهو يشرح له من هي أميركا، ومن هي كوبا، ومن هي الأمم المتحدة.. كان الفتى يسأل نفسه: ما علاقتي أنا بهذا الأمر؟ ثم ماذا يفيد توقيعي على هذه الورقة البيضاء، رغم التواقيع والأسماء التي تسود صفحتها؟
يذكر الفتى، في تلك اللحظة التي لاح الملل والاستياء على وجه الصديق، وهو يكرر طلبه له في أن يضع اسمه على الورقة ويوقع عليها.. في هذه اللحظة رآها.. كانت قادمة من الشارع الرئيسي الذي سمي فيما بعد بشارع «الخضرة» بعد أن أصبح سوقاً لبيع الخضار والفاكهة.
رآها قادمة بثوب أبيض، لوحدها.. لاحظ أنها تنظر إليه، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة، هكذا خيل له.. بينما كان حديث صاحبه مستمراً وهو يؤكد له، على أن أميركا ليست مجرمة بحق كوبا فقط، إنما هي مجرمة بحق جميع الشعوب والبلدان.. وعندما أراد الصديق أن يكمل حديثه كان الفتى قد أخذ القلم بحركة آلية من يد الصديق وكتب اسمه ثم وقع تحته على الصفحة التي كانت بيد الصديق، ثم ابتسم للصديق الذي شكره ومضى تاركاً الفتى وحده ينظر إلى الفتاة القادمة باتجاهه، يتأمل وجهها، وجسمها، وقدميها اللتين تخطوان بهما نحوه.
كانت الفتاة ذات قامة نحيلة، وخصر ضامر، هذا ما أكده الثوب المشدود عند خاصرتها بشريط من القماش الأحمر.. كانت الفتاة قد أصبحت أمامه تماماً. تنظر إليه، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة. لقد بدت للفتى في وضح النهار أجمل مما كانت عليه في الليل الذي رآها فيه.. عندما وصلت إليه، وهي ما تزال تحدق إليه لم يقدر على الاستمرار في النظر إلى عينيها.. شعر بأن عينيها كانتا آثرتين.
عندما مرت من جانبه شعر بهواء خفيف يعبره، بعد أن لفته رائحة عطر،كأن باقة من زهور مرت تحت أنفه، فأغمض عينيه للحظة ولكنه سارع إلى فتحهما خوفاً من غيابها مرة ثانية فلا يصدق أنه كان يقظاً وليس نائماً، أو كانت حقيقة وليس خيالاً.. كان ظهرها المشدود، وكتفاها الضيقان، وقدماها الصغيرتان تحملانها باتجاه شارع فرعي، وقبل أن تختفي وراء صف الأبنية القائمة التفتت إلى الوراء، نظرت إليه وعلى وجهها تلك الابتسامة التي رآها على محياها لحظة قدومها..
شعر بفرح غامر لالتفاتها إلى الوراء والنظر إليه.
أغمض الفتى عينيه وقال لنفسه: هل تعتقد بأنك ما زلت تحلم، أم أن تلك الفتاة التي مرت بك ونظرت إليك، ليست إلا من بنات أفكارك في يقظتك الآن. أجب؟
ابتسم وأجاب: إنها الواقع. ثم أضاف: ولكن رغم هذا، أنا أحلم. وأغمض الفتى عينيه.
زينب..
لا يذكر الفتى كيف تسلل اسم الفتاة إلى مسامعه، ثم راح يبحث عن بعض المعلومات عنها وعن أهلها.. وأثناء بحثه هذا كان قد رآها عدة مرات، وفي كل مرة كانت تهتم به، تنظر إليه طويلاً، ترسم على محياها بسمة خفيفة ولكنها ظاهرة وذات معنى.. أما عندما كانت تمر به، فتطرق بوجهها بعد أن يحمر منه الخدان، ثم ما تلبث أن تلتفت إلى الوراء لترميه بنظرة.. فكان الفتى يجن من الفرح والسعادة. فيعود إلى البيت وهو سعيد نشوان، ونفسه ممتلئة بالفرح، والغبطة والسعادة، وشيء من المشاعر المضطربة. كان يسأل نفسه: هل تحبه؟
كان يتذكر كل تلك الكتب والقصص التي قرأها، كانت جميعها تقول له إنها تحبه. إنه الحب الذي يدفع بالفتاة إلى سلوكها الغريب تجاهه، من ابتسامات خفيفة، ونظرات سريعة ولكنها عميقة، وحركات تلفتها كلما تراه.
ذات يوم وقف الفتى أمام أخته وأراد أن يسألها عن الحب، كيف هو؟ وبماذا يشعر الناس في حالة الحب التي تداهمهم فجأة، وهل يمكن لفتاة، أية فتاة، أن تحب شاباً من النظرة الأولى؟
نظرت إليه أخته بعد أن وقفت تنتظر منه الكلام، إلا أنه أطرق ولم يستطع أن ينطق بحرف واحد. شعر بخجل شديد حتى أنه تعرق رغم أن الجو في ذلك اليوم كان بارداً إلى حد ما. سألته: ما بك؟ أجابها: لا شيء. وهرع خارجاً من البيت. ولكنه، فجأة، نادت عليه أخته، أن لا يذهب. تلكأ في خطوه، والتفت إليها يريد أن يعرف ماذا تريد منه. رآها تبتسم ابتسامة خبيثة، ثم قالت: لقد زرت زينب في بيتها.. تلكأت في إكمال حديثها عن قصد، ثم تابعت وهي تضحك: لقد أرسلت لك معي تحية. ثم أضافت: لقد سألتني والدتها أن تمر عليهم في البيت، لأمر، لم تقله لي..
في اللحظة التي كان الفتى يستمع إلى أخته. كان هو يدخل إلى عالم آخر، مبتعداً عن الواقع الذي كان فيه، عالم شبيه بالغيبوبة، لا يملك شيئاً تجاهه، وحالة الغياب التي وجد نفسه فيها وهو لا يصدق أنها أرسلت له تحية خاصة به، كما أنه لم يصدق أن أمها تبعث في طلبه لأمر ما! تساءل ماذا يكون هذا الأمر، فهو حتى لا يعرفها ولا يعرف أحداً من عائلتها، زوجاً كان أم أولاداً. ولكنه، في الوقت نفسه شعر بشيء من السعادة، فقال لنفسه: لا شك سأكون أسعد إنسان لو كان ما أخبرته أخته حقيقياً.
خرج من البيت. يذكر الفتى، أنه تسكع طويلاً في حدائق المدينة والبراري المتبقية والمحيطة بها، يغني حيناً، يحلم حيناً آخر، ويحلق بعيداً عن الأرض والناس وكل ما يعيق أمر بقائه وحيداً وهو يتصور نفسه متسكعاً مع فتاته في شوارع وأزقة وحدائق وبراري مدينة حلب الفارغة، هكذا تصورها، من الناس. مدينة لا يسكنها أحد. فارغة البيوت والشوارع. لا أحد فيها غيره وغير فتاته.
يذكر الفتى أنه، في أول لقاء له مع والدة زينب، شعر بشيء من الرهبة، كانت ملامحها تدل على أنها امرأة قوية، ذات إرادة صارمة، هذا ما تأكد له بعد شهور عدة من زياراته المتكررة إلى منزلها. كانت والدة الفتى قد تحدثت أكثر من مرة عنها مع بعض الجارات، وما سمعه عنها أثار الفضول لديه في التعرف إليها عن قرب. أما ابنها مصطفى الذي كان يصغره بعام واحد، فكان في الصف السادس الابتدائي، وقد عرف عنه الإهمال في دروسه والكسل في متابعة دراسته، كانت لعبة كرة القدم قد أخذت لبه منذ أن كان في الصف الثالث الابتدائي. ولما كان شقيق زينب في مرحلته الدراسية الفاصلة ما بين الابتدائية ومرحلة الإعدادية، كان لا بد له من الاجتهاد والاهتمام بدراسته جيداً، ولكي يتم هذا الأمر كان لا بد من أحد أن يهتم به. يقول الفتى، ولما كنت وإياه في مدرسة واحدة إلا أني كنت مجداً ونشيطاً في دراستي، فطلبت والدة زينب من والدتي أن تسألني إن كنت أستطيع القيام بمساعدة ابنها مصطفى.
أما شقيقة زينب، أمينة التي كانت تكبرها بثلاث سنوات، كان الفتى شاهداً على قصة حبها الذي خلق مشكلة في العائلة. في هذا الجو الذي وجد نفسه فيه، أصيب بشيء من خيبة أمل وانكسار في أحلامه. عندما تخيل أن تلك الابتسامات والنظرات التي كانت تمنحه زينب إياه، هي نوع من العواطف الحيادية، هي نوع من المشاعر الأخوية..
هذا الوضع، أو هذا التفكير الذي فرضه على نفسه، وإن قصة الحب التي تخيل أنها قامت بينه وبين زينب، ما هي إلا من بنات أوهامه ولا صحة لما اعتقد به. لذا عادت مشاعر الحزن والشرود التي ظن بأنه ودعها إلى الأبد، عادت إلى ذاته من جديد لتفعل ما كانت تفعله فيما سبق من الأيام، أي قبل أن يرى زينب، وقبل أن يلمس منها اهتماماً به من قبلها.. ذات مرة سألته: لماذا أنت حزين بشكل دائم؟
رفع الفتى نظره إليها.. رآها تنظر إليه نظرة مليئة بالود والتعاطف وشيء غامض لم يستطع تفسيره. هذا وقد استغرب سؤالها! ولكنه في الوقت نفسه شعر بشيء من الراحة النفسية وهدوء الحالة المضطربة التي كان يحس بها قبل سؤالها ذاك. شعر، وهذا ما فكر به الفتى، بأنها تهتم لأمره، لولا اهتمامها هذا، لما سألته عن أسباب حزنه، ولما اهتمت به، فابتسم بشيء من الخجل وسألها: أهذا ما رأيته بي؟
هزت رأسها، أن نعم.
أطرق وأجاب: لا أعرف! ولكنه ما لبث أن رفع رأسه، وهو يبتسم لها وقال: ولكني أعدك بعد الآن لن تريني حزيناً.
ابتسمت له، بعد أن تهلل وجهها بالاشراق وقالت: أهذا وعد؟
أجابها: نعم. وعد.
ما تلا ذلك من الأيام، يذكر الفتى، كانت مليئة بالنشوة والحب، كما أنها كانت أيضاً مليئة بالقلق والحيرة وعدم الثقة.. ولكن رغم هذا الشعور اليومي الذي كان يحياه ويحس به، كان هناك حلم واحد، حلم طفولي يقوم على أن هذه الفتاة، هي بالتحديد التي سيقضي حياته إلى جانبها، هي فتاة القدر التي ولدت له وليس لغيره.
كان الفتى يحاول أن يتذكر كل التفاصيل التي عاشها قبل التعرف إلى زينب. هذا اللقاء غير العادي الذي كان بينهما، وتلك اللحظة التي وقفت في إطار الباب، وهو ممدد على فراشه، وتلك اللحظة أو اللحظات التي أوقفه فيها صاحب العريضة -وطلب منه- أن يوقع عليها، وتلك المصادفة التي جعلته وجعلت شقيق زينب في مدرسة واحدة، ومعرفة أمه بوالدة زينب. كان الفتى يقول: لو جمعنا كل هذه المصادفات فهي تعني شيئاً واحداً وحيداً، هو أن القدر كان وراءها ليكونا معاً، هو الفتى وهي زينب.
ويغمض الفتى عينيه ويتذكر كل قصص الحب الكبيرة التي قرأ عنها وسمع بها، روميو وجولييت، قيس وليلى، مم وزين هذا إلى جانب كثير من القصص التي لم يسمع بها.. ستكون قصتنا، قصة الحب، أكبر من جميع هذه القصص، ستكون قصتنا خالدة خلود الزمن والحياة.
هذا كان في حالة الحلم الذي كان الفتى يغرق فيه، أما حالة الحيرة والقلق فكانت تلقي به إلى الشرود والتسكع في الحدائق والبراري المحيطة بحلب. كان هناك سبب واحد يدعه يعيش هذه الحالة ألا وهي الفقر.
نعم الفقر!
إنهما ما زالا في الرابعة عشرة من العمر، فكيف يمكن له أن يتصرف لو جاء غداً شاب يطلب يدها؟ لو سألته زينب إن كان بإمكانه أن يخطبها، لأنها تحبه ولا تحب الشاب الذي تقدم لخطبتها؟ عند هذا السؤال كان يشعر بالقهر ويعيش حالاته ويصيبه الشرود والغياب. ولكنه، عندما كان يصل إلى حد اليأس كان الفتى يضحك ساخراً من نفسه ويقول: ما بالك لا تعيش يومك وتدع المستقبل الذي تناقشه اليوم بينك وبين نفسك إلى الأيام القادمة لترى كيف سيكون؟
عند هذا الرأي كان الفتى يرتاح قليلاً، ويعود إلى أحلامه ولحظات نشوته التي كان يحياها في كل ليلة عندما يذهب إلى منزلها، يلقاها وهي قابعة وراء آلة الخياطة تضحك له وتبتسم.
يذكر الفتى أن الحب الذي كان يحس به، وذاك الميل القوي تجاه زينب عاشه فقط عبر مشاعره، أما الواقع فقد كان الفتى يخلقه لنفسه، ويتصوره ويتخيل القصص والحكايات التي كانا يعيشانها معاً.
يذكر أن علاقتهما، خاصة في البداية، اقتصرت على الجلوس أمام بعضهما، وتأمل كل واحد منهما الآخر، ينسيان ما كان يجري حولهما، ويغيبان عما يحيط بهما، ثم يبتسمان، هي أولاً، ثم هو. ما يلبثا أن يطرقا بوجهيهما، هو إلى صفحات الكتاب الذي كان بين يديه، حيث يستعين به في تدريس أخيها، وهي إلى آلة الخياطة التي كانت تعمل عليها. كانت في بعض الأحيان تمد يدها إليه قائلة: تفضل لقد خبأتها لك. ثم تضيف لقد كنت في ضيافة إحدى صديقاتي.. ثم تبتسم بخبث وتتابع: لم أكتف في أخذ قطعة واحدة من السكاكر «الكرميلا» إنما أخذت اثنتين. فسألتني صديقتي بخبث: لمن القطعة الثانية يا زينب؟ أجبتها لصديق عزيز.. جداً.
ثم ما تلبث أن تذبل أهدابها وتسألني: ألست صديقي؟
كان الفتى.. يطرق خجلاً بعد أن تحمر وجنتاه ويجيب على سؤالها: بلى.. ثم، بعد أن يبلع ريقه عدة مرات، يتابع بصوت بالكاد يسمع: وأنت أيضاً صديقتي.
* * *
في تلك البرية الصغيرة التي تمتد إلى الجنوب من بيت زينب تم العرس. وهو عرس لقريب من أقربائها. مشى الفتى إليه بتردد قبل أن يعرج إلى منزلها، وسبب تردده، هو عدم معرفته إن كانت زينب في البيت أو في العرس. ولكنه، ها هو على حدود البرية، والعرس في أوج احتفاله، رآها.. كانت ترقص برفقة مجموعة من الشابات، بينما كان مجموع آخر من الشبان يحاول التسلل إلى حلقتهن ومشاركتهن الرقص، إلا أن الشابات كن لا يتحن لهم ذلك. وما أن رأته زينب حتى ابتسمت له، ثم ما لبثت أن عبست غاضبة وهي تنقل نظرها عن عينيه، ثم توجهت إلى أمها التي كانت جالسة مع مجموعة من النسوة يماثلنها في السن، طلبت منها مفتاح البيت.. لأنها تود العودة إليه لأمر ما، لم توضحه لوالدتها.
خرجت زينب من الحشد المشارك في العرس، وهي تنظر إليه بتلك النظرة الغاضبة المحتجة.
استغرب الفتى هذا الأمر منها، فهو لم يتصرف أي تصرف سيء أو أخرق منذ قدومه! إذاً تساءل الفتى، لماذا كانت نظرتها تلك التي رمته بها غاضبة؟ وما أن وصلت إليه حتى قالت له: اتبعني بعد قليل إلى البيت.
تابعها الفتى بنظره وهي تبتعد عنه، إلى أن وصلت إلى حدود البرية الصغيرة، ثم عرجت إلى الدرب الترابي القصير الذي أوصلها إلى مدخل الزقاق حيث يقع البيت في نهايته. تساءل الفتى في نفسه: ما بها. كانت غاضبة من شيء ما، ولكن مم؟ لم يعرف. هز رأسه ثم مشى باتجاه بيتها..
كان الباب موارباً. وقف لحظة ثم نقر بإصبعه عدة نقرات قبل أن يدفعه إلى الداخل.. رآها واقفة في نهاية الغرفة تنتظر قدومه. قالت له: ادخل.
دخل الفتى بتردد وقلبه يدق بشيء من العنف.. وقبل أن يسألها: ما بك؟ سألته بغضب: هل كنت سعيداً، وأنت تراني محاطة بالشبان، وكل واحد منهم يحاول أن يظهر لي عواطفه الغليظة؟
لم يعرف الفتى بماذا يجيبها. لأنه، عندما وصل إلى حدود البرية، ورأى ذاك الحشد من الشبان والشابات.. كان الأمر، هكذا بدا للفتى، طبيعياً. إلا أنه أمام غضبها، قال يجيبها: كلا. ولكن..
لم تدعه يكمل فابتسمت وتقدمت منه وهي تمد يدها تصافحه. وتقول له: قبل أن تكمل.. اجلس.
جلس الفتى، أما زينب فجلست بقربه تنظر إليه وتبتسم له.
أمام هذا التحول الذي رآه منها، بلع ريقه ولم يكمل ما كان يريد أن يقوله لها. ظلت تنظر إلى عينيه محدقة.. هذه اللعبة، لعبة التحديق إلى عينيه بشكل مباشر، كانت تمارسها معه في كثير من الأوقات. كان في معظم الأحيان، هو الذي يخفض نظره عن عينيها، يدير رأسه باتجاه آخر.. ولكنه اليوم لم يفعل ذلك، ظل يحدق إلى عينيها، أراد أن يبرهن لها على أنه ليس ضعيفاً الضعف الذي تتصوره حتى «تكسر» نظرته أمام نظرتها القوية.
ولكن زينب، في هذه المرة، لم تكن ترغب في اللعب، لعبة الإرادة، إنما كانت تنظر إليه بحب، بود، وبشيء من اللهفة التي تصاعدت في نفسها، فقربت رأسها منه قليلاً، وقالت له: ألم تشعر بالغيرة من أولئك الشبان الذين كانوا يحيطون بي في العرس؟
أطرق بعد أن أحس بجفاف في حلقه، إلا أن راحتا يديه كانتا تنضحان بالعرق. أجابها: نعم.
سألته: إذاً لماذا لم تنده علي، لم تخرجني من محيطهم؟
لم يجبها. ظل على صمته، إلا أن قلبه كان قد ازداد في دقه، وراح جبينه، علاوة على راحتي يديه، ينضح بالعرق.
سألته: ما بك؟ أرى تعرقاً كثيفاً على جبينك.
لم يجبها. كان عاجزاً عن الكلام، ولا يعرف التصرف. ولكنه، ما لبث أن رفع وجهه إليها، عندما دفعت بإحدى أصابعها بين أصابعه، وأراد أن يقول لها كلمة تعبر عن وضعه..لم يجد ما يعبر عنه بالكلام. كان رأسه فارغاً، حتى من كلمة واحدة. كان غائباً. سمعها تقول له سائلة: ما بك؟ تكلم.. كأنك تريد قول شيء ما. قله.. لا تخجل!
ظل ينظر إليها. ولكنه لا يعرف ماذا يقول؟ كان عاجزاً عن النطق عجزاً تاماً. سألته من جديد: أتريد أن تقول لي، إنك..
وترددت في إتمام ما كانت تريد أن تقوله. ثم تابعت بصوت خافت، فيه من الموسيقا قدراً لا يستطيع أن يتصوره، تابعت: إنك.. تحبني؟
شعر بشيء ضاغط على صدره. ولكنه، رغم الضغط هذا فتح فمه وقال: نعم.. أحبك.
أما بعد تلك اللحظة، فلم يعرف كيف قام وركض بأقصى ما يستطيع من القوة هارباً كأنه يهرب من قدر ظالم يريد أن يمحقه محقاً.
في تلك السنوات البعيدة، يتابع الفتى، كان ما إن يخرج المرء من حارته حتى يجد نفسه في برية واسعة تحيط به. لأن العمار والبناء والشوارع لم تكن كما هي اليوم. لذا وجد الفتى نفسه في قلب برية يعرفها ولا يعرفها!
يعرفها لأنه طوال سنوات كان يقطعها على قدميه متنقلاً ما بين بيته في الكامبات وبين مدرسته في حي السريان القديمة. في البرية خفف من ركضه، وتمالك نفسه، وعاد إلى التنفس البطيء وهو يسترجع تفاصيل الوقائع التي مرت به منذ ساعات، منذ لحظة قدومه إلى العرس، إلى لحظة هروبه، بعد أن ترك بين يدي زينب اعترافاً بحبه لها.. لم يصدق، أنه سيستطيع أن يقدمه لها، أو يضعه بين يديها ذات يوم أبداً!
كان الفتى كلما، في أثناء تجواله الذي كان على غير هدى، اقترب من حدود الأماكن السكنية، يهرب من جديد إلى أعماق البرية، يريد الانفراد بنفسه والغوص في ذاته، والتحدث مع عقله ومحاورته.
كان، بعد خمس ساعات من التجوال، قد هدأ قليلاً، وكفت نفسه عن الاضطراب، ثم راح يطرح الأسئلة على ذاته: ماذا لو كانت زينب لم تقصد بما قالته له ما ذهب إليه تفكيره؟
ماذا لو أنها أرادت أن تقول له أنها تحبه كأخت له؟
ماذا لوكان قد فهم خطأ، بكل ما تصرفت به أمامه؟
ماذا لو كان الأمر بالنسبة لها، مجرد عبث وولدنة وعدم جدية، وأن كل ما في الأمر هو لعب في لعب وهزل؟
ماذا لو كان، كل ما قامت به تجاهه، هو فخ أوقعته به، وغداً عندما يذهب إليها في البيت. لن يجد منها سوى الصد والسخرية، والقول بأنها أوقعتك في الفخ مثل كثير من الفتيات اللواتي يعبثن بالشبان.. وعندما يتم لهن ذلك لا يهتممن بهم. لا، بل ينظرن إليهم بازدراء؟.
ظلت الأسئلة تنهال على رأسه، وهو ما بين سؤال وآخر يضعف أمام نفسه ويظن أنه سيعيش خيبة كبيرة، غداً، عندما يلقاها. سأل الفتى نفسه السؤال الأخير: لو كان الأمر كما يظن، كيف ستتصرف تجاهها؟ كيف ستقبل نفسك بعد أن ورطتها هذه الورطة الكبيرة، هذه الورطة التي تشبه خوض معركة هائلة، فتخرج منها خاسراً ليس نفسك فقط، إنما روحك أيضاً؟
يذكر الفتى أنه أجاب ببساطة وعفوية: سأنتحر. لن أقبل على نفسي أن تهزم، وأعيش بعد الهزيمة لحظة واحدة..
ارتاح الفتى لقراره هذا، وهدأت نفسه من اضطرابها، واستقر وجدانه بحيرة بعد طوال عصف ورياح وشحنات من بروق ورعود. أما عندما فتح عينيه فوجد نفسه على حدود حارة الكامبات.. لا، بل قريباً من الكامب الذي كان تقع فيه الغرفة التي سكنها مع أهله سنوات طفولته الأولى، قبل أن يرحل عنها وهو في التاسعة من العمر.
ما زال يذكر ذاك اليوم بكثير من التفاصيل التي لم تغب عن ذهنه أبداً.
يذكر الفتى، أنه في تلك اللحظة، دفعته رغبة قوية في التجول بين الكامبات ليقف على أحوالها، وحال قاطنيها، هذا إن كان قد بقي أحد ما زال يعيش فيها.
كانت الشمس في تلك الساعة، تميل باتجاه الغرب، والجو كان بارداً إلى حد ما، كان الوقت في أواسط تشرين الثاني على ما يذكر الفتى.
كان الطريق الترابي على حاله، ممتداً من الطريق الاسفلتي، متلولباً في ضيق في أمكنة منه، وفي عرض في أماكن أخرى، حتى يتوغل بين الكامبات، ضائعاً أمام هذا البيت وذاك. ولكن الفتى، مع اقترابه من أول كامب، شعر بشيء من القلق، أنه يتوجه إلى أطلال قائمة منذ زمن طويل.. وكان أول ما أكد له هذا، هو الأبواب، كانت جميعها مخلعة، أو مقفلة بإهمال.
وقف أمام ذاك الكامب الذي قضى فيه أيام طفولته، وتلك الكامبات التي كانت شاهدة على قصص وحكايات ووقائع سمع بها وشاهدها وعاش بعضاً من وقائعها. وكان آخر ما وقف أمامه، هو ذاك المرحاض الذي كان يثير الفزع في نفسه، ببنائه الكبير الواسع، حيث يقع بعيداً عن الكامبات. عاد الفتى أدراجه، مع ميل خفيف في سيره باتجاه الجنوب الغربي، حيث مستودع شركة الكهرباء. توجه مباشرة إلى صنبور الماء الذي كان سبباً في كثير من الأحيان أن نال العقاب على يدي أمه، لأنه كان يتهرب دائماً من الذهاب إليه، لجلب الماء، كان يبتل بالماء من منابت شعره إلى أخمص قدميه كما يقولون. لذا كان يلعن الماء هذا إن كان الأمر في الصيف، أما إن كان في الشتاء فكان يبكي وهو يرتجف من البرد.
فجأة وجد الفتى نفسه أمام رجل جالس بقرب صنبور الماء، كان الرجل، على ما يبدو حارساً، ينظر إليه باستغراب كأنه يتساءل عن أسباب تواجد الفتى في هذه الساعة التي راحت الشمس فيها تغيب عن الدنيا، هنا، في هذا المكان شبه المهجور.
وقف أمام الحارس، ثم بدأه بالسلام والحوار بسؤال عفوي لم يفكر به من قبل، إنما هكذا طرحه على ا لحارس عفو الخاطر: أين ذهب قاطنو هذه الكامبات.. كأنها جميعها فارغة؟
نظر إليه الحارس باستغراب. لم يعرف الفتى استغراب الحارس إن كان بسبب تواجده أو سؤاله الغريب! إلا أن الحارس جابهه بسؤال دون أن يجيب على سؤال الفتى: من أين أنت أيها الفتى؟ وما سبب وجودك هنا؟ وكيف دخلت إلى أملاك مستودع الشركة؟
شعر الفتى بشيء من الخوف أمام الأسئلة التي انهالت عليه من قبل الحارس، وشعر باستغراب لموقف الحارس العدائي منه، فأراد أن يمازحه ساخراً، من أنه جاء يسرق معدن النحاس الموجود في الكابلات، كما كان يفعل منذ عشر سنوات، عندما كان يسكن أحد هذه الكامبات، إلا أنه استدرك موقفه وابتسم في وجه الحارس وقال له: كنت منذ سنوات أسكن في هذه الكامبات، تحديداً ذاك الذي يحاذي الطريق الاسفلتي الصاعد إلى ثكنة طارق بن زياد.. ثم تابع الفتى: لقد مررت بالمصادفة من هنا، فقلت لنفسي اجعل طريقك ما بين هذه الكامبات وانظر ماذا حل بها وبقاطنيها، وابحث عن الذين كنت تعرفهم، إن كان أحد ما زال قاطناً فيها.. ولكن مع الأسف، إنها فارغة، على ما يبدو هجرها قاطنوها.
توقف الفتى عن الكلام.. شعر بأنه قدم نفسه للحارس، على أنه دخل إلى أملاك شركة الكهرباء مسالماً لا غير.
هز الحارس رأسه وقال له: تفضل اجلس يا بني إن كان لديك وقت، لأقدم لك كأس شاي لم يمض إلا دقائق على إنزال البراد عن النار، إنه ما زال ساخناً.
يذكر الفتى أن الحارس قال له: لقد عينت منذ خمس سنوات على أملاك هذا المستودع التابع لشركة الكهرباء. وقد صادقت كثيراً من الناس الذين كانوا يسكنون هذه الكامبات، ولكنهم منذ عامين تقريباً رحلوا عنها، لقد جاء أمر يوضح، على أن هذه الكامبات لم تعد تليق بسكن أفراد الجيش من جنود وصف ضباط، فقد تخربت سقوفها التي من التوتياء، وبعض جدرانها تخلع منها أحجار، ونكش إسمنت ممراتها، أما ترميمها فقد رأت القيادة العسكرية لثكنة طارق بن زياد فأمر مكلف جداً، لذا طلبت من قاطنيها من أفراد الجيش الرحيل عنها.
يقال، تابع الحارس، أن القيادة العسكرية قد عوضتهم عن ذلك ببعض المال، وهذا الأمر غير مؤكد..
أدار الفتى وجهه إلى مشهد الكامبات الذي لا يبعد عنه إلا بضعة عشرات من الأمتار. كانت بقايا اللون الأصفر والبرتقالي ما تزال على واجهاتها حيث كانت تستقبل أضواء الشمس وأنوارها الغاربة، فشعر الفتى لذلك بشيء من الحنين إلى تلك الأيام الماضية التي عاشها بين جنبات هذه الكامبات، ومع الذين قطنوها سنوات طويلة قبل أن يرحلوا عنها، كل، على ما يبدو، إلى دياره التي جاء منها.
أتاه صوت الحارس سائلاً: كم من السنوات بقيت ساكناً مع أهلك في هذه الكامبات أيها الفتى؟
ارتشف الفتى رشفة من الشاي وأجاب: بضعة سنوات، أعتقد أنها بلغت أكثر من خمس. ثم اضاف الفتى موضحاً: لقد مضى على رحيلنا، أقصد أنا وأفراد أسرتي، أكثر من خمس سنوات..
سأل الحارس: لماذا غادرتموها؟
أجاب الفتى: لقد تقاعد والدي.. والكامبات كما تعرف هي ملك الجيش فلا يصح لمدني أن يقطن أملاك الجيش.. لذا رحلنا عنها إلى حارة براكات السريان.
ابتسم الحارس وقال: حي هادئ، لقد أحببناه كثيراً، لأنه أول حي سكناه منذ قدومنا إلى حلب، لقد بقينا فيه عدة سنوات، ثم رحلنا عنه.
سأل الفتى: ما الأسباب التي دفعتكم إلى الرحيل عنه بعد أن أحببتم السكن فيه؟
أجاب الحارس لعدم وجود جامع فيه!
استعرب الفتى قول الحارس، حتى كاد أن يقول له: ولكن هناك كنائس كثيرة.. إلا أنه تذكر أمراً في نفسه، فتداعت كثير من الأمور في ذاته ففضل الصمت وعدم التعليق.
أنهى الفتى شرب شايه، وقام يريد الانصراف فقال: دايمة على الشاي يا حاج. ثم أرجو المعذرة على إشغالك.
ابتسم الحارس وقال: على العكس، فأنا هنا طوال ساعات اليوم أبقى وحيداً، فأحس بالملل وأدعو الله أن يبعث بأحد ما إلي لكي أتسلى معه بتجاذب الأحاديث. ثم أضاف: يمكنك أن تأتي كلما تريد. لدي كثير من الحكايات عن سكان هذه الكامبات التي تبدو اليوم كالخرائب. إن كنت تريد سأحدثك بها!
ابتسم الفتى وأراد أن يقول معلقاً على كلام الحارس: مهما كانت حكاياتك كثيرة فلن تكون أكثر مما لدي من حكاياتهم.. لأنني كنت واحداً من أبطالها.. إلا أن الفتى تنهد حزيناً وقال للحارس: إن شاء الله.. إن سنحت لي الفرصة سآتي إليك.
مضى الفتى نازلاً تلك الطريق الترابية المؤدية إلى الحديقة- حديقة السبيل.
يذكر الفتى، ما كان بين المستودع وحديقة السبيل، مسافة أقل من عشرين متراً، كان طريقاً اسفلتياً يأتي من أواسط المدينة ومن منطقة «الكراجات»في منطقة ما تسمى «باب الفرج» ليمر بجانب الحديقة وعلى طول سورها الشرقي، يؤدي براكبه إلى الشمال حيث يمر بجانب قريته. ويذكر أيضاً أنه، منذ أن وعى ذاته، ركبه عشرات المرات أحياناً لوحده وأحياناً برفقة أسرته لزيارة بيت جده.
عندما وصل الفتى الطريق، بعد أن انحدر من المستودع الذي يقع في أعلى الهضبة المطلة والمنحدرة الجانب إلى الطريق الاسفلتي، توقف وهو يتابع الطريق الذاهب إلى الشمال بعينيه، كأنه يراه لأول مرة.
هز رأسه وابتسم ساخراً من نفسه وقال: كأنك لم تسلكه عشرات المرات ذاهباً إلى بيت جدك؟ وتخطى الطريق متوجهاً إلى باب الحديقة.
كان الباب على حاله، لم يتغير، كما هو حاله اليوم، كبيراً، يمتد فوقه مظلة حجرية تمتد إلى الأمام كأنها غيمة تريد الانطلاق والرحيل عن كتلتها الاسمنتية الأساسية. أما الأشجار فكانت هي، كما كانت قبل عشر سنوات، إلا أنها أصبحت أكثر هرماً وأقل يفاعاً، أما تلك البئر المائية التي يقوم فوقها ذاك الدولاب ذوالشفرات كان على حاله يدور ويتوجه وجهات الريح التي تلعب بشفراته حيث تتوجه.
ذاك الكوخ الحجري ما زال على وضعه، وصاحبه، حيث يقبع في داخله، يلبي طلبات الشارين من بضاعته المعروضة، كان قد ازداد انحناء.
مشى ببطء شديد على جميع ممرات الحديقة دون توقف، ينظر إلى تلك العلامات والملامح التي يحفظها عن ظهر قلب منذ سنوات، رأس الأسد الحجري الذي يتدفق منه الماء، تلك الأقفاص الكبيرة التي تغلق أبوابها على بعض أنواع الطيور، خاصة طيورالطاووس، وتلك القرود التي سميت من قبل الناس، زوار الحديقة، بسعيد وسعيدة.. لا أحد يعرف لماذا أسموهما بهذين الاسمين! أما بيت الموسيقا فكان ما يزال كبيراً مهاباً، يقوم على مجموعة من الأعمدة الضخمة العالية، أمامه.. تلكأ قليلاً حتى شعر بشيء من الحزن القديم يعود لينبعث من جديد وهو يتذكر ماري روز.
عندما وصل إلى حظيرة الغزلان تذكر زينب، لأنه حدثها ذات يوم عن تلك الغزلان الجميلة القابعة فيها. كان يريد أن يقول لها متغزلاً: أنت تشبهينها، خاصة عيناك.. إلا أنه لم يجرؤ على ذلك، اكتفى فقط بالحديث عن الغزلان ووصفه إياها بأجمل الصفات. واليوم يعتقد الفتى بأن الحياء لم يفتها لأنها ابتسمت له، وأطرقت وجهها بعد أن احمر خداها.. يذكر الفتى أنه خلال أسبوع عاش حياة كاملة مع زينب رغم أنه لم يقم بزيارتها في البيت خلال ذلك الأسبوع.
كان الخوف يمنعه من الذهاب إليهم كعادته. كان يخاف إن ذهب ألا تقابله، وربما أخبرت أهلها، خاصة والدتها بأنه غازلها. أي عار سيلحق به إن فعلت ذلك؟
خلال ذلك الأسبوع، يذكر الفتى، أنه تخيل حياة كاملة معها.. كانا يأتيان إلى الحديقة، يجلسان تحت الأشجار الوارفة، يغوصان في مياه البرك الصناعية، هو يرفع طرفي بنطاله، هي ترفع طرف ثوبها إلى الأعلى، كاشفة عن ساقيها الجميلتين.. وقد شعر في كثير من الأحيان بالغضب منها. كانت تضحك وتقول له سائلة: ما بك غاضباً؟ كان لا يجيب على سؤالها، ولكنه يظل على غضبه. كانت تقول له: أتخشى أن يرى أحد ما من زوار الحديقة ساقي؟ هل تشعر بالغيرة؟
كان الفتى لا يجيب، إنما يخرج من المياه، يصعد إلى أعلى صخرة من الصخور المتناثرة حول البركة ويجلس عليها حانقاً. كانت تضحك وتقول له: ما بك خرجت من الماء؟ تضحك مرة أخرى وتتابع: ألا تعرف بأننا وحيدان في الحديقة، لقد أمرنا الحب، أنا وأنت، أن لا يسمح لأي زائر مهما كان أن يدخل إلى الحديقة. ألم تر كيف أغلق الحب باب الحديقة وراءنا، بعد أن دخلناها؟ تعال. انزل إلى الماء ثانية، هيا..
وتمد يدها إليه راجية أن ينزل عن الصخور إلى الأسفل، إلى مياه البرك الباردة، كان، ولم يكن بوسعه الرفض، لم يكن أمامه سوى أن ينزل إلى الماء تحت رغبتها وإلحاحها الشديد.
كان الفتى يتخيل بأنهما، فجأة اكتشفا في عمق المياه المنسكبة من بين الصخور ممراً ينحدر إلى الأسفل، ويلف وراء الصخور، قال لها: أنسلكه لنرى إلى أين يسعى بنا هذا الممر؟
أجابته بعد تردد لمسه منها وخوف رآه في عينيها: لا بأس، لنسلكه.. رغم أني خائفة. ولكن، أضافت: ما دمت معي فلا بأس.. ويتخيل الفتى أنهما عبرا الممر الذي أودى بهما إلى ممرات أخرى مزدانة بالمصابيح والشموع وبقطع من البللور المشع بالأضواء..
تردد الفتى وهو يمسك بيد زينب أمام نهاية الممر الذي سلكاه، لأنه أي الممر أصبح ضيقاً ومعتماً، إلا أنه تابع سيره مبدياً شجاعة ليست من طباعه، كانت أصابع زينب التي يمسك بها هي التي أمدته بالجرأة، وقال: سنضطر إلى متابعة الطريق واحداً وراء الآخر لضيقه.. وخوفاً عليك، سأكون في المقدمة..
سمعها تقول له: هل من الضروري أن نتابع طريقنا عبر ممر لا نعرف إلى أين سيؤدي بنا؟
أجابها حاسماً: نعم.
وما أن خطا الخطوة التالية حتى انفتحت أمامه، في نهاية الممر الذي ضاق كثيراً، قاعة كبيرة لم يستطع أن يلم أرجاءها بعينيه أول الأمر.
توقف بتردد وهو مبهور الأنفاس مما رأى.
قاعة خالية، رغم أنها تبدو للعين صغيرة، إلا أنها بلا نهايات، لا جدران لها، ولا سقف! شيء أشبه بالضباب يغطي أبعادها، كأنه، يخفي جدرانها وراءه ويغطي سقفها بطبقة رقيقة ولكنها كافية لأن تمنع العين من النفاذ إليها.
مد الفتى يده إلى الخلف وأمسك بيد مرافقته. قال لها: تشجعي، علينا أن ندور في هذه القاعة لعل وعسى نجد شيئاً يكشف لنا سرها.. وانطلقا معاً.
بعد أن مضى عليهما وقت طويل، لم يعرف كم من الساعات كان، لأنه عندما نظر إلى ساعته، كانت واقفة العقارب. سأل فتاته عن الساعة، أجابته بأنها لم تجلب معها ساعتها، أو بالأحرى نسيتها في البيت..
وهكذا ظلا يدوران ويدوران ولا يقفان على مخرج أو ممر سوى الممر الذي جاءا منه.
استوقفته زينب وقالت: لقد تعبت، لم تعد لدي المقدرة على متابعة السير، علينا أن نعود من حيث أتينا.
وقف الفتى ونظر إليها نظرة كلها خيبة كأنه يقول لها: أتعبت بهذه السرعة يا جميلتي؟ وأنا الذي كنت أظن بأننا سنستمر في سيرنا وبحثنا حتى نجد لنا درباً يوصلنا إلى عالم كله نور وعشق وهواء نقي، ومناظر ومشاهد لا تمل العين من رؤيتها.
إلا أن الفتى، بعد خيبته أطرق رأسه وقال: لا بأس لنعد..
ولكنهما ما إن حاولا العودة إلى الممر الذي جاءا منه، حتى وجدا نفسيهما في دائرة غامضة.. أما الممر فكان بدوره قد غاب واختفى.. سألته بعد أن شدت بأصابعها على راحة يده: والآن.. ماذا سنفعل؟ لقد أضعنا الممر على ما يبدو!
وأرادت أن تكمل إلا أنها لم تستطع، فسكتت..
تأمل الفتى وجه فتاته طويلاً، ثم سألها سؤالاً غريباً: هل تخبرينني كيف بدأت هذه الحياة؟!
بدا السؤال غامضاً للفتاة. فلم تنطق بجواب، إلا أنها سألته بعد حين: ماذا تقصد؟
ابتسم لها: أقصد ألم يعلمونا بأن الحياة بدأت بآدم وحواء أول الأمر؟
أجابته: نعم..
قال لها: ونحن الآن أشبه بآدم وحواء.. ما رأيك أن..
يذكر الفتى أنه في تلك الأمسية البعيدة شعر بأنه اشتط في خياله. لذا قام عن الكرسي الذي كان جالساً عليه، مطرقاً وعاد أدراجه إلى البيت.
* * *

يذكر الفتى أنه، بعد مضي أسبوع، وبعد انتهاء دوامه في المدرسة، وفي أثناء عودته إلى البيت، والساعة تشير إلى الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم الخميس، لاقته أمام بيته.
وقف أمامها وهو غير مصدق. كان قلبه قد أخذ يدق بعنف، فاضطرب لذلك وأحس بخجل لم يحس به تجاهها في يوم من الأيام الماضية. ظلت واقفة أمامه، تنظر إليه نظرة عتاب شديد، مع بروز مشاعر الخيبة والإحباط من عينيها.. يذكر لم تحييه في تلك اللحظة، والفتى أيضاً نسي أن يرمي التحية عليها. وقفا أمام بعض، هو مطرق، محمر الوجنتين، جاف الحلق والشفتين، كثير النظر. أما هي فكانت تنظر إليه، وبين يديها محرمة زرقاء اللون، كانت تدعكها بين راحتيها. قالت له: الحمد لله لأني رأيتك. ثم أضافت: وأنت بصحة جيدة.. لقد ظننت بأنك مريض! لأني قلت لنفسي لو لم يكن مريضاً، لما غاب عنا طوال أيام الأسبوع الفائت.
سكتت كأنها بذلك تطلب منه تفسيراً عن سبب غيابه الذي دام سبعة أيام بكاملها. أراد أن يجيبها.. ولكنه لم يستطع. كان حلقه جافاً وشفتاه أيضاً. رفع نظره إليها، عبر بهما وهو ينظر إليها، أن ترحمه، فهو غير قادر على الكلام.
ابتسمت له ومدت يدها إليه، لمست أصابعه الممسكة بدفاتره بحركة عابثة وجريئة. ثم قالت له سائلة: هل ستأتي اليوم. لقد سألت والدتي عنك، أقصد سألت أخي عن أسباب عدم حضورك إلى البيت، وأسباب انقطاع دروسه على يديك.
بلع ريقه بصعوبة وقال: سآتي.. اليوم..
ابتسمت له فرحة وقالت: سيكون لدي عيد..
تركته ومضت باتجاه بيتها.
في المساء، عندما ذهب إلى بيت زينب، طرحت عليه عشرات الأسئلة حتى أنها أثارت شكوك والدتها عن أسباب هذه الأسئلة. فقالت لها بشيء من الاحتجاج: دعيه يعرف كيف يكمل إعطاء درسه لأخيك. ثم اضافت: حتى أخوك لم يسأله كل هذه الأسئلة التي طرحتها عليه.
التفتت إلى والدتها وهي تضحك بخبث وأجابتها: لأن أخي لا يعرف ما يفيده، إنما، أنا.. أعرف مصلحته.
ابتسمت الأم وهي ترميها بنظرة ذات معنى: اهتمي بشغلك، ودعيهما يكملان ما بدآا به..
في البيت، بعد عودته، ارتكن زاويته اليسرى مفكراً بكل الأسئلة التي طرحتها عليه. تلك الأسئلة الواضحة، وتلك التي لها معان ومغاز.. عرف أن صمته هذا لم يعد مفيداً، عليه أن يجيب على أسئلتها، عليه أن يجد طريقة للتواصل معها، عليه أن يتغلب على هذا الخجل، خجله الذي يطحنه، ويمنعه من الكلام والتعبير عما يحس به تجاهها. يجب أن يقول لها كل الكلام الجميل الذي يعبر المرء فيه عن مشاعره وأحاسيسه وحبه تجاه من يحب.
لذا لم يقدر على فعل ذلك سوى بكتابة الرسائل لها. لقد وجد في كتابتها خير منقذ من خجله الذي يحس به في حضورها.
ما يذكره اليوم، أن الفتى خلال ثلاثة شهور، وهي شهور فصل الصيف قد كتب أكثر من مئة رسالة، وكل واحدة منها تتألف ما بين الصفحتين وخمس صفحات من أوراق الدفاتر التي كان يكتب عليها وظائفه المدرسية وواجباته اليومية التي أهملها كثيراً في أيام دراسته الأخيرة حتى أنه كان مهدداً بالرسوب في امتحان آخر السنة.
كان، هذا ما يذكره الفتى، في مجمل ما كتب من الرسائل، هو كلمات عن الحب، وجمل عن الوصف، واسطر عن الأحلام والأماني التي يمني بها نفسه. يذكر أنه تحدث طويلاً وكثيراً في رسائله تلك عن المصاعب التي سيلاقيانها. فهما مجرد شابين صغيرين، هو أمامه طريق عليه أن يقطعه حتى يستطيع أن يتزوجها. ليعيشا معاً إلى الأبد. أما هي، فستعاني من ضغط والديها، بعد سنة أو سنتين، أو ربما بمجرد تقدم شاب خاطب لها، اليوم أو غداً، حتماً سيوافق أهلها، أما هي فسترفض الزواج.. لذا سيحاولان معرفة السبب.
وليس أمامك، هكذا كتب الفتى، سوى المراوغة، لأنك إن قلت لهم، أنك تحبيني، ولا يمكن لك أن تقترني بشاب غيري، سيقول أهلك، هل جننت، ما هو إلا شاب في الرابعة عشرة من عمره، ثم إنه فقير لابن رجل فقير.
ثم يحاولون أن يشككوا بي، سيقولون لك، ومن قال لك في حال انتظارك له عدة سنوات، سيفي بوعده، ويتزوجك، من قال لك، إنه لن يخلف بوعده، ويتزوج فتاة أخرى بعد عدة سنوات؟
يذكر الفتى، كيف كان يكتب عن أحلامه بحماسة، يصفها لها.. كانت، هذا ما يذكره، بمجملها، إنه وإياها انفصلا عن هذا العالم القاسي الظالم، وغير العادل.. انفصلا عن الناس في جزيرة بعيدة، غير مأهولة، لا يوجد فيها سوى الطيور المغردة التي تصدر الأصوات العذبة، والحيوانات الأليفة التي تعيش على الحشائش فقط. أما الأرض فلا يغطيها سوى الحشيش والزهور والأشجار الوارفة الظلال.
كان الفتى يستمد كلامه من الكتب التي يقرؤها.. خاصة القصص والروايات التي تتحدث عن الحب والأحلام والحياة العذبة الهنية، حيث جميع الناس إخوة.
لاحظ الفتى، منذ بداية كتابة رسائله، أن فتاته لم تكتب أية رسالة جواباً على رسائله. عندما فاتحها بالأمر.. انسحبت الابتسامة التي كانت على وجهها، وحل مكانها شيء من الحزن، ثم قالت له بتردد: سأكتب لك.. أنا لاأجد وقتاً كافياً لذلك.. لأن أمي نادراً ما تخرج من البيت.. ثم أن إخوتي طوال اليوم يحومون حولي.
هز الفتى رأسه وقال: لا بأس. ولكني بشوق شديد إلى جواب. جواب واحد على الأقل، على رسائلي.
هذا الطلب، لا يذكر الفتى اليوم، إن كان قد طلبه منها وجهاً لوجه، أم أنه كتبه كملاحظة في إحدى رسائله. وبعد طلبه للمرة الثانية أن تكتب له، أعطته في إحدى الليالي ورقة مطوية على شكل مثلث وقالت: لم أقدر أن أكتب أكثر مما كتبت في رسالتي هذه.
فرح الفتى كثيراً وهو يقبض على الرسالة بعد أن وضعها في جيبه، يذكر أنه في تلك الليلة أنهى مع شقيقها الدرس باكراً. ثم مضى مسرعاً إلى بيته ليقرأ رسالتها في زاوية من زوايا بيته، لوحده.
عندما فتح الورقة/ الرسالة لم يجد فيها سوى أربعة أسطر، فيها من الأغلاط الإملائية والنحوية الشيء الكثير. تذكر الفتى أن فتاته لم تدرس إلا صفين أو ثلاثة من المرحلة الابتدائية دون إكمالها.. ثم كتبت له رسالتين أخريين، ولكنه عرف بعد مقارنتها بالرسالة السابقة، أن الرسالتين ما هما إلا عبارة عن رسائل منقولة عن كتاب بعنوان: كيف تكتب رسالة حب إلى من تحب.
يذكر أنها سألته بخجل إن أعجبته الرسالتان. ابتسم لها وقال: نعم.. ولكن رسالتك الأولى التي نقلتها من صفحة قلبك هي الأحلى والأجمل بالنسبة لي.
ابتسمت راضية عن نفسها وأطرقت بوجهها إلى الأرض.
* * *
يذكر الفتى، قبيل انتهاء العام الدراسي بأسبوع، قالت له: أن والدتها ضبطت إحدى رسائله في حوزتها. فسألتها ممن هذه الرسالة؟ أجابتها لا أدري. ثم أضافت، ربما ليست رسالة، ربما هي مجموعة من الأوراق- أقصد أوراق مصطفى الدراسية.
أخبرته فتاته: ظلت أمي تنظر إلى وجهي، كأنها تحاول أن تلمس حدود الصدق والكذب في حديثي. ولكني لا أعرف كيف ضبطت نفسي ولم أنهر أمامها معترفة لها بالأمر الذي بيني وبينك. هزت والدتي رأسها وأعادت لي الرسالة، ثم أدارت ظهرها وخطت مبتعدة عني خطوتين لا غير، ثم توقفت وعادت مرة ثانية إلي. مدت يدها وقالت: أعطني هذه الأوراق. مددت يدي بالأوراق إليها، أخذتها مني وراحت تمزقها إلى قطع صغيرة وهي تمضي عني من جديد.
هذه الأخبار، أو هذا الخبر بالتحديد ألقى الفزع في نفس الفتى، لأنه سأل نفسه: ماذا لو عرفت والدتها بالحب بينه وبين ابنتها؟ ماذا لو سألته أهكذا تخون أمانة وحرمة البيت الذي وطأت عتبته، وطعمت من أكله وشربه؟
أطرق الفتى خجلاً كأنه أمام والدة من يحب وعليه أن يجيب على الأسئلة التي طرحتها عليه. قال لنفسه: صحيح أنا أحب ابنتك، ولكني أعترف أن ما قمت به يدل على أخلاق سافلة.. ولكنه ما لبث أن رفع رأسه غاضباً ورد على نفسه: ماذا؟ هل من يحب هو سافل؟
شعر الفتى خلال الأسبوع الأخير من العام الدراسي، أن والدة فتاته عاملته بشيء من البرود، لم تعد تهتم به كالسابق، وتسأله عن أحواله الدراسية وأحوال والديه وإخوته كما كانت تفعل في كل مرة يزورهم فيها لإعطاء ابنها الدروس.
أما عندما سأل فتاته إن كان لديها معرفة بأسباب ذلك، فأجابته، لا.. ولكنها أضافت مخمنة، قد يكون سبب ذلك هو الرسالة التي ضبطتها معي.. على ما يبدو، هكذا شرحت، لم تنطل عليها حكاية، على أنها، أي الرسالة هي مجموعة أوراق لأخي تخص دراسته؟ ثم أطرقت قليلاً، ما لبثت أن رفعت رأسها من جديد، استغرب الفتى عندما وجد في عمق عينيها حزناً دفيناً. شعر بالخوف فسألها: أصدقيني، ماذا في الأمر؟ فأنا أرى حزناً في عينيك. هل هناك خبر أو..
لم يكمل، توقف عن الكلام لأنه لم يقدر عليه.. وهو ينتظر منها أن تخبره إن كان هناك شيء ما غير مفرح أو حزين. قالت له بلهجة حزينة: لا أدري.. أقصد لا أدري إن كانت أمي فيما قالته لي منذ يومين صادقة أم أنها قالت ذلك لترى ردة الفعل لدي؟
قاطعها سائلاً: ماذا قالت؟
أجابته: هناك خطيب جاء يطلب يدي منها..
تساءل باستغراب: خطيب! من يكون؟
أجابته والحزن يقطر من كلامها: لا أعرف.
كان الصيف قد انقضى منه أكثر من شهر، والسبب الذي كان يخوله بالذهاب إلى منزل من يحب انتفى مع انتهاء العام الدراسي والامتحان الأخير.. ثم جاء موقف والدة من يحب منه.. لهذا كله أصبح من الصعوبة بمكان أن يلتقيا من دون مشاكل قد يحدثه لقاؤهما، كان أحياناً يمر عليه أكثر من عشرةأيام قبل أن يلقاها، وكيف.. للحظات، وفي أحسن الأحوال لبعض الدقائق؟ كانا لا يلحقان أن يتكلما بضع كلمات حتى كانت تقول له: علي أن أعود إلى البيت.. إن لمست والدتي أي تأخير مني ستذهب في السين والجيم عن أسباب التأخير..
يذكر الفتى أنه، في المرة الأخيرة التي لاقاها سألها: ماذا عن أخبار الخطوبة؟ هل ما زال الأمر قائماً؟ أم مضى إلى..
وسكت وهو يبلع ريقه؟ لأنه لم يستطع أن يكمل. أجابته: ما زال على حاله. ثم أضافت موضحة: لقد طرحت أمي الأمر علي، فلم أجبها، ولكن، تصرفي وردة فعلي على كلامها كان يعني الرفض. ولكنها، أقصد أمي، لم تعلق إنما قالت: ما تفكرين به، وما يدور في رأسك هو عمل صبياني غير مسؤول، وأيضاً لا ينم عن أنك تعرفين مصلحتك كشابة..
تابعت فتاته: لم أعلق على كلامها، ولكني عرفت مغزى ما قصدته.
أطرقت، ثم ما لبثت أن رفعت وجهها إلى وجه الفتى فرأى دمعتين معلقتين بين أهدابها.
يذكر أن ذاك المشهد أول مشهد بكاء لها أمامه، وكان أيضاً آخره.. لأن الأمور تعقدت وظلا لمدة شهر وأكثر لم يستطع أي واحد منهما أن يلتقي بالآخر. وخلال هذه المدة عاش مرارة وتمزقاً أثرت على حياته حتى اليوم. لقد غضب على العالم وشتمه وقال عنه: ظالم وقاس وغير رحيم..
كان دائم الحومان والتسكع في الحدائق والحارات وهو ذاهل عما حوله، كان العمل الوحيد الذي يفعله، في أوقات المساء، هو القراءة..
وذات صباح، وهو جالس في الحديقة العامة، يحمل بين يديه مجموعة من الأوراق يحاول أن يرسم عليها بعض الدراسات والكروكيات، شعر برغبة قوية في الكتابة.. وبعد طول تفكير قال لنفسه: نعم.. عليك الكتابة.. يجب أن تكتب ما تحس به وتعيشه وأنت تفقد حبيبتك يوماً بعد يوم، وهي تتسرب من بين يديك كتسرب حبيبات الرمل من الغربال.
يذكر الفتى عن ذلك اليوم، أنه ما إن عاد إلى البيت حتى بدأ يكتب تلك الرواية على مجموعة من الدفاتر المدرسية الصغيرة التي بلغت خمسة دفاتر.. وعندما انتهى منها، أعاد كتابتها في دفتر واحد، حاول أن يكون الدفتر مميزاً، ليس عادياً، كما أنه حاول أن يكون ذا خط أنيق وجميل، أما الغلاف، غلاف الدفتر فقد زينه بمجموعة من الرسوم التي نقلها في معظمها من صورالتماثيل اليونانية والرومانية.. ثم لونه بألوان زاهية شفافة.
أما موضوع الرواية فقد استمده من مجموع قراءاته للرواية العربية والأجنبية، خاصة تلك الروايات الرومانسية التي تتحدث عن المظالم التي تلحق بالعشاق الذين يفرقهم الموت حيناً وصراع الأهل حيناً آخر، أو الغيرة والحساد والعزال.. ولعل أشهر هذه الروايات التي يذكرها هي «جهاد المحبين» لجرجي زيدان، و«تحت ظلال الزيزفون» المعربة على يدي المنفلوطي، و«غادة الكاميليا» لألكسندر دوماس الابن، وروايات أخرى لم يعد يتذكرها اليوم.
يذكر الفتى، أنه خلال كتابته للرواية، وقد امتد ذلك لأكثر من شهرين تقريباً.. لم يستطع خلالهما أن يرى فتاته، إنما سمع بأخبار خطوبتها من شاب لا يعرفه، ثم التحضير لعرسها في نهاية فصل الصيف، كان كل ما يتمناه هو أن يستطيع أن يراها للمرة الأخيرة، من أجل أن يعطيها الرواية التي كتب، حيث ستقرأ فيها كل عذاباته وحبه وحنينه، ثم رغبته الأكيدة في الانتحار في أول يوم من زواجها. لأنه لا يقدر أن يتصور، على أن رجلاً ما، آخر غيره يمكن له أن يلمسها..
عندما انتهى من كتابة الرواية غلفها بورق ملون ووضعها تحت قميصه إلى جانب القلب. كان يأمل أن يراها عن طريق المصادفة لا غير، ومن غرائب المصادفات أن التقاها كما كان يأمل قبل زواجها بيوم واحد.
يذكر أنه كان في طريقه إلى السوق لشراء شيء ما لم يعد يذكره كانت والدته قد دفعته لشرائه.. كان السوق في ذلك الصباح غير مكتظ بالناس كعادته، كان زائغ النظر، لا يرى الأشياء بوضوح أمامه، إلا أن ثوباً بلون الورد ورأساً لفتاة تزينه جدائل بشعر أسود، وعينين بنيتين غامقتين لفت نظره ودفعه إلى التوقف عن سيره، ثم ما لبث أن تابعه، إنها زينب.. كانت تنظر إليه.
اقترب منها بخطوات بطيئة وهو لا يصدق ما يرى، وبصورة لا شعورية مد يده وتحسس الرواية تحت قميصه، أما قلبه الذي كان وراء غلاف الرواية فيدق بقوة، ويخفق بسرعة، حتى أنه لم يستطع عد نبضاته المتلاحقة عندما حاول ذلك.
يذكر أنه بعد بضع خطوات وصلا إلى بعض، توقفا وعينا كل واحد منهما في عيني الآخر. ظلا صامتين، لم يقدرا على الكلام، ولا حتى النطق بكلمة واحدة أو حتى بحرف.
مد الفتى يده إلى تحت قميصه وسحب الدفتر/ الرواية.. قلبها بين يديه، ثم مدها بتردد إليها. نظرت إلى الدفتر، عرفت أنه انتهى من كتابة روايته التي كان قد أخبرها منذ أكثر من ثلاثة شهور بأنه يكتب رواية عن قصة حبهما.
مدت يدها ببطء وتناولت منه الرواية، ثم ضمتها بكلتا يديها إلى صدرها. أما هو فأسدل ساعديه على جانبيه كعصوين رخوين لا حول لهما ولا قوة.
ظلا واقفين دون حراك ولا كلام. ظلا ينظران إلى بعضهما، هي تشد الرواية إلى صدرها، وهو يضغط بأصابعه على بعضها بعضاً..
يذكر الفتى، أن الناس الذين كانوا يمرون بهما، كانوا ينظرون إليهما باستغراب، ويتساءلون: ما بهما؟ لماذا هما واقفان كتمثالين من حجر؟ لا يذكر الفتى متى أدار كل واحد منهما ظهره للآخر ومضى في طريقه، أو أدار أحدهما ظهره للآخر ومضى.. بينما بقي الثاني ثابتاً في مكانه كتمثال من حجر ينظر في ظهر الآخر وهو يبتعد رويداً رويداً حتى اختفى عن أنظاره، أو مشيا معاً كل واحد منهما في طريق، وكانا كلما قطعا عدة أمتار التفت أحدهما إلى الآخر ونظر إليه، لا يذكر الفتى في أي حال من هذه الحالات قد افترقا إلى الأبد. ولكن الشيء الذي يذكره ولا ينساه، أنه رأى دمعاً في عيني من يحب ينزلق منهما إلى خديها، دمعاً صامتاً.. أما هي فلا يعرف إن رأت دموعه التي انزلقت من عينيه، أم لا..

-6-
وحين أنهي هذا الكتاب سوف أعرف أين أقف، وسوف أستطيع أن أفعل ما أشاء في السنوات المتبقية من عمري.
سومرست موم
حلب/ 1999