المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : آلة الزمن


AshganMohamed
02-02-2020, 07:40 AM
Table of Contents
الفصل الأول‏
الفصل الثاني‏
الفصل الثالث‏
الفصل الرابع‏
الفصل الخامس‏
الفصل السادس‏
الفصل السابع‏
الفصل الثامن‏
الفصل التاسع‏
الفصل العاشر‏
الفصل الحادي عشر‏
الفصل الثاني عشر‏
الخاتمة‏
نبذة عن المؤلف‏
آلة الزمن
آلة الزمن
تأليف
هربرت جورج ويلز
ترجمة
كوثر محمود محمد
مراجعة
هاني فتحي سليمان

آلة الزمن
The Time Machine
هربرت جورج ويلز
Herbert George Wells

الطبعة الأولى ٢٠١٣م
رقم إيداع ٢٠١٢/١٣٣٦٨
جميع الحقوق محفوظة للناشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
المشهرة برقم ٨٨٦٢ بتاريخ ٢٦ / ٨ / ٢٠١٢
مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
إن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة غير مسئولة عن آراء المؤلف وأفكاره
وإنما يعبِّر الكتاب عن آراء مؤلفه
٥٤ عمارات الفتح، حي السفارات، مدينة نصر ١١٤٧١، القاهرة
جمهورية مصر العربية
تليفون: *+ ٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥٢‬ فاكس: *+ ٢٠٢ ٣٥٣٦٥٨٥٣‬
البريد الإلكتروني: hindawi@hindawi.org
الموقع الإلكتروني: http://www.hindawi.org

ويلز، هربرت جورج، ١٨٦٦–١٩٤٦.
آلة الزمن/تأليف هربرت جورج ويلز.
تدمك: *٩٧٨ ٩٧٧ ٥١٧١ ٢٦ ٩‬
١- القصص الإنجليزية
أ- العنوان
٨٢٣

تصميم الغلاف: إيهاب سالم.

يمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو إلكترونية أو ميكانيكية، ويشمل ذلك التصوير الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو أقراص مضغوطة أو استخدام أية وسيلة نشر أخرى، بما في ذلك حفظ المعلومات واسترجاعها، دون إذن خطي من الناشر.
Arabic Language Translation Copyright © 2013 Hindawi Foundation for Education and Culture.
The Time Machine
All rights reserved.

«يحتل ويلز مكانة رفيعة في أدب الخيال العلمي، والواقع أني لم أكن لأتصور ظهور هذا الأدب من دونه.»
كينجسلي أميس
«ألمعية جامحة من الشابّ إتش جي ويلز … الرواية الأروع على الإطلاق عبر تاريخ روايات الخيال العلمي كله.»
ستيفن باكستر
مقدمة
بقلم جوينيث جونز
«آلة الزمن» هي أول عمل أدبي يكتبه هربرت جورج ويلز. نُشرت الرواية في سلسلة من الأجزاء من عام ١٨٩٤ إلى عام ١٨٩٥ في صحيفة «نيو ريفيو»، وكانت قد نُشرت قبل ذلك بنحو عشرة أعوام في صحيفة «ذا ساينس سكول جورنال»، ثم نشرتها أخيرًا دار نشر «هاينمان» عام ١٨٩٥. نمّت ردود فعل النقاد إزاء الرواية عن تباين وحيرة، لكن لم يلبث إتش جي ويلز أن حاز إعجاب جوزيف كونراد عن جدارة، وازدراء الطبقة العليا ممثلة في فيرجينيا وولف، فضلًا عن أنه أصبح أحد الأصوات البارزة التي تخاطب جميع القراء في عصره. أصبحت آلة الزمن شأنها شأن روايتي «حرب العوالم» و«جزيرة الدكتور مورو» أيقونة في القرن العشرين، واستُخدمت قصتها مرارًا في إنتاج الأعمال السينمائية والتليفزيونية والإذاعية، وأيضًا استُغلت في العديد من السرقات الفكرية والأعمال المحاكية والنسخ المنقحة، ومن أبرزها رواية «سفن الزمن» لستيفن باكستر، ١٩٩٥ — وهي تتمَّة لرواية «آلة الزمن» وحاصلة على تصريح من مؤسسة ويلز استيت — ورواية «آلة الفضاء» لكريستوفر بريست (١٩٧٦) التي ينقل فيها بريست ببراعة «المسافر عبر الزمن» إلى كوكب المريخ ليكتشف الاستعدادات التي كانت تجري من أجل «حرب العوالم» من خلال إدخال تعديلات على تقديرات ويلز الزمكانية، لكن تظل رواية «آلة الزمن» المقتضبة على نحو يثير الدهشة (٣٢٠٠٠ كلمة) رائعة ومشوقة وحافلة بالأحداث والغموض، نُسجت خيوطها بالبراعة التي ابتكرت بها آلة الزمن نفسها.
الإطار الذي تدور فيه أحداث الرواية هو المفضل في العصرين الفيكتوري والإدواردي؛ حفل عشاء للعزَّاب. ولا يرد تعريف لضيوف العشاء في مدينة «ريتشموند» الغنَّاء إلا على أنهم مهنيُّون مخضرمون (بعكس الشاب المكافح إتش جي ويلز!)؛ فمن بينهم المحرر والصحفي والطبيب، وجميعهم على استعداد لسماع قصة طويلة. وتتناقض مظاهر الترف — ممثلة في كئوس الشمبانيا الفضية زنبقية الشكل، والخدم المتوارين عن الأنظار، وأضواء الشموع التي لا حصر لها — مع الأنباء التي يسوقها صديقهم القديم، وهنا ينتهي مناخ الألفة. إنها ليست قصة عن الأشباح ولا عن الأماكن التي يعمها ظلام الجهل ولم تصلها الحضارة بعد. العالم الآخر في هذه الحالة هو زمنٌ أصبحت الحضارة فيه جزءًا من الماضي أودى بها «البُعد الرابع» بغير رجعة.
ملخص القصة بسيط وجريء. يطرح «المسافر عبر الزمن» — الذي لن يرد ذكر اسمه أبدًا — على ضيوفه في حفل العشاء الأول بعض الأفكار الجديدة المحيرة. فسؤاله «هل يمكن أن يكون هناك وجود حقيقي لمكعب لا يدوم لأي فترة زمنية على الإطلاق؟» يعيد إلى الأذهان الفكرة المطروحة في رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» (إدوين أبوت، ١٨٨٤)، ويستوقف المحادثة التي تدور على العشاء، لكن لا يزال هناك المزيد. يُخرِج «المسافر عبر الزمن» نموذجًا لآلة ستحمله إلى المستقبل أو الماضي، وهي لعبة متقنة الصنع من العاج والبرونز والكوارتز الشفاف، يجعلها تختفي لتظهر من جديد، فيسود التوتر والدهشة بين الحضور حتى إنهم يعجزون عن التفكير في الأمر. يتغيب «المسافر عبر الزمن» عن حفل العشاء التالي عندما يجتمع ضيوفه، ثم ينضم إليهم بعد فترة وهو يسير متعثرًا وشاحبًا وهزيلًا، يحدق مرتاعًا، وقد تخللت بعض أوراق الأشجار شعره، وعلت وجهه بعض الندوب غير المندملة؛ فقد عاد لتوه من رحلته الأولى على متن آلة الزمن، ومن ثم يحكي عن زيارته إلى المستقبل البعيد لوادي نهر التيمز نحو عام ٨٠٠٠٠٠ ميلادية؛ وهي الرحلة التي كان لها امتداد بلغ قرابة ثلاثين مليون عام. أما اللقاء الثالث مع «المسافر عبر الزمن» فلا يحضره إلا راوي القصة (غير معروف الاسم أيضًا). ويَعِد «المسافر عبر الزمن» بشرح كل شيء على الغداء، ثم يختفي بضع دقائق في مختبره …
سلَّط الفيلمان السينمائيان المأخوذان عن الرواية (اللذان أُطلق فيهما العنان للحبكة الدرامية) الضوء على مغامرات «المسافر عبر الزمن» بين جنسي «الإيلوي» و«المورلوك»، مع أن عنصر المغامرة في القصة الأصلية مستخدَم بقلة. لا تبدو مدينة «ريتشموند» في عام ٨٠٠٧٠١ بعد الميلاد غريبة كليًّا لوقت طويل، فسرعان ما يحلل «المسافر عبر الزمن» نفسه مشهد الحديقة الخاوية التي تتناثر في أرجائها تماثيل محيرة ويسكنها جنس من الأقزام وسيمي الطلعة — يُفترض فيهم «التقدم» و«التفوق»، لكن من الواضح أنهم ليسوا كذلك — على أنه النتيجة المنطقية للاتجاهات السائدة في مجتمعه وزمنه هو نفسه. جنس «الإيلوي» الشبيهون بالأطفال هم المتحولون عن نبلاء العصر الفيكتوري؛ يسترخون في منازلهم الفسيحة الفخمة، ويتصرفون بتكاسل غير مبرر، ويتغذون على ثمار الدفيئات، ويزركشون أنفسهم بأزهار دفيئات بديعة. انتقل كل ما يتسم بوضاعة القدر وكل ما يؤدي عملًا — منذ دهور — إلى عالم تحت الأرض يكدح فيه «المورلوك» الذين تدهوروا بالقدر نفسه لكن على نحو مختلف. نسي «المورلوك» الدافع من وراء عملهم، وعُنُوا كالنمل بآلات «الإيلوي» بلا وعي، أما «الإيلوي» فقد نسوا أنهم حكموا العالم يومًا. يمكن القول إن ويلز لم يكن قد تحول إلى الاشتراكية بعد عندما فكَّر في قصته. كان ويلز الابن النابغ لوالدين يشتغلان بالخدمة في المنازل، متخوفًا من فرصه المحدودة، ينظر إلى كلا «الجنسين» بقدر مماثل من التهكم، لكنه بلا شك لم يوظف الأهوال التي تحدث بين «المورلوك» و«الإيلوي» في التنفيس. لا مجال لنشوب «حرب» بين الجنسين اللذين تفرعا من الجنس البشري. بعض الحماقات العبثية فقط هي التي تثير الأزمة، وتدفع «المسافر عبر الزمن» نحو الشاطئ المتداعي الأخير الذي يشهد آخر أيام الحياة على الأرض.
يصيح أول واحد يظهر في الرواية من «سادة الزمن»: «لو أن لدي رفيقًا!» دون أن ينتبه إلى أن «وينا» — تلك المرأة الصغيرة من جنس «الإيلوي» ومرشدته في هذا العالم الغريب — قد وقعت في غرامه. عندما أعدتُ قراءة القصة لكتابة هذه المقدمة، وجدت نفسي أتمتم: «سيكون لك هذا يا دكتور، سيكون لك هذا …» لا تبدو آلة الزمن «تارديس» — في المسلسل التليفزيوني الشهير «دكتور هو» — مركبة ذات طراز خاص، علاوة على أن «سيد الزمن» ليس بشرًا، لكن «الدكتور» لا يفقد اتصاله قط برفيقته في ظل الظروف الصعبة التي يواجهها. غير أنه يصعب إغفال العلاقة بين الفكرة التي طرحها إتش جي ويلز وبين مسلسل الخيال العلمي الأكثر شهرة في إنجلترا، ولعل هذا ميراث كافٍ لأي عمل كلاسيكي.
يحكي ويلز أنه أدرك «فكرة وجود إطار رباعي الأبعاد يمكن من خلاله التوصل إلى فهم جديد للظواهر الفيزيائية» عبر جمعية المناظرات داخل ما أصبح يعرف بعد ذلك بجامعة «إمبريال كوليدج» في لندن. قوبل بحثه في هذا الشأن بالرفض بوصفه مبهمًا، لكنه أمدَّه بالأساس الذي بنى عليه أولى قصص الخيال العلمي التي كتبها؛ الأمر الذي كان له أثر هائل على هذا اللون الأدبي الوليد. تكتنف المغامرةَ النظرةُ التشاؤمية الويلزية، فضلًا عن اختطاف أفكار داروين لتوظيفها في النقد الاجتماعي. حتى التثبُّت (الروائي) من قصة «المسافر عبر الزمن» أمر محل شك، بالإشارة إلى الخدعة السحرية التي انطوى عليها اختفاء الآلة الأول، وإلى تلميحات أخرى تدفعنا إلى تأجيل تصديقنا للقصة أو عدم تصديقنا لها. مؤكد أن شباب العصر الفيكتوري واسعي الاطلاع أدركوا أن الإشارة إلى العاج — الداخل في تصنيع آلة الزمن — يستحضر في الأذهان فكرة الأحلام الزائفة. لكن تعليق القطع بصدق القصة أو كذبها هو إحدى قواعد اللعبة، وتظل اللعبة بالضبط كما يصفها الراوي عندما يحلل تأثير الحكاية التي يرويها «المسافر عبر الزمن»؛ فهو يحكي قصة مذهلة يصعب تصديقها وبأسلوب متَّزن جدير بالتصديق يبث في الحاضرين الرغبة في سماعها وربما التعلم منها.
الفصل الأول
أخذ «المسافر عبر الزمن» (الذي سيكون من المناسب أن نشير إليه بهذا الاسم) يشرح لنا مسألة معقدة. تلألأت عيناه الرماديتان وتورد وجهه — الذي كان في العادة شاحبًا — وفاضت ملامحه بالحيوية. توهجت نيران المدفأة وانعكس الضوء الخافت للمصابيح المتوهجة فضية اللون زنبقية الشكل على الفقاعات التي لمعت ثم خبَت في كئوسنا. عانقتنا المقاعد — التي اخترعها — وداعبتنا بدلًا من أن تذعن لجلوسنا عليها، وخيمت علينا أجواء الترف التي تعقب العشاء حيث تنساب الخواطر بسلاسة محررة من قيود التمحيص؛ فشرح لنا المسافر المسألة محددًا النقاط بسبابته النحيلة ونحن نجلس في خمول معجَبين بجديَّته وهو يصف تلك المفارقة الجديدة (كما بدت لنا).
قال: «عليكم أن تتابعوني بانتباه، سيتعين علي أن أدحض فكرة أو فكرتين مسلمًا بهما على نحو يكاد يكون عامًّا. الهندسة التي درستموها في المدارس على سبيل المثال أُسست على تصور خاطئ.»
قال فيلبي وهو رجل أصهب الشعر مولع بالجدل: «أليس من الصعب أن تتوقع منا أن نبدأ على هذا الأساس.»
«لن أسألكم القبول بأي شيء بلا أساس منطقي. لن تلبثوا أن تقروا بأقصى ما أحتاج منكم أن تقروا به. أنتم تعلمون بالطبع أن الخط — الذي يساوي سمكه صفرًا — في الحساب ليس له وجود فعلي. هل درستم هذا؟ والمستوى أيضًا. كلها أشياء مجردة.»
قال عالم النفس: «هذا كله صحيح.»
«وليس بالإمكان أن يوجد مكعب ذو طول وعرض وسُمك فقط.»
قال فيلبي: «هنا أنا أعترض. بالقطع يمكن وجود أي جسم ثلاثي الأبعاد. كل الأجسام الحقيقية …»
«هذا هو ما يعتقده السواد الأعظم من الناس، لكن مهلًا … هل يمكن أن يكون هناك مكعب «لحْظيًّا»؟»
رد فيلبي: «لا أفهمك.»
«هل يمكن أن يكون مكعب لا يبقى في الوجود لأي فترة زمنية على الإطلاق؟»
استغرق فيلبي في التفكير، فتابع «المسافر عبر الزمن» كلامه قائلًا: «لا شك أن أي جسم حقيقي يجب أن تكون له أربعة أبعاد: «طول» و«عرض» و«سُمك» و«فترة زمنية»، لكننا نميل إلى إغفال هذه الحقيقة بسبب قصور جسماني طبيعي. هناك في الواقع أربعة أبعاد، نسمي ثلاثًا منها أبعادًا مكانية، والبعد الرابع هو الزمان، إلا أننا نميل إلى رسم خط فاصل وهمي بين الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الرابع، إذ يتصادف أن وعينا يتحرك على نحو متقطع في اتجاه واحد على البعد الرابع من لحظة ميلادنا إلى لحظة مماتنا.»
قال شاب في مقتبل العمر وهو يبذل عدة محاولات متقطعة لإعادة إشعال سيجارته على ضوء المصباح: «هذا … هذا بالفعل أمر جلي.»
تابع المسافر عبر الزمن وقد تسلل إليه شيء من البهجة: «من اللافت بحق أن هذه الحقيقة تُغفل إلى حد بعيد. هذا هو ما يعنيه البعد الرابع بالفعل، مع أن البعض يتحدث عنه دون أن يدري أن ما يتحدث عنه هو البعد الرابع. هذا ليس إلا منظورًا آخر للزمن. الزمن لا يختلف عن أي من أبعاد المكان الثلاثة الأخرى إلا في أن إدراكنا يسير معه. لكن بعض الحمقى أخطئوا فهم هذه الفكرة. لقد سمعتم جميعًا ما قالوه عن البعد الرابع، أليس كذلك؟»
أجاب عمدة المقاطعة: «أنا لم أسمع ذلك.»
«الأمر ببساطة كما يأتي: المكان على حد اعتقاد علماء الرياضيات لدينا يشار إليه بأن له ثلاثة أبعاد يمكن أن يُطلَق عليها الطول والعرض والسمك، ودائمًا ما تتحدد معالمه بالإشارة إلى ثلاثة مستويات كل منها يصنع زاوية قائمة مع المستويين الآخرين. لكن بعض الفلاسفة تساءلوا لِمَ يكون ثلاثي الأبعاد بالتحديد — لم لا يكون هناك بعد آخر يصنع زاوية قائمة مع باقي الأبعاد الثلاثة؟ — بل حاولوا أيضًا تأسيس هندسة قائمة على الأبعاد الأربعة. شرح البروفسور سايمون نيوكوم الأمر لجمعية الرياضيات في نيويورك قبل شهر أو نحو ذلك. تعلمون أننا نستطيع أن نرسم جسمًا ثلاثي الأبعاد على سطح مستو ليس له إلا بعدان. بالمثل، يرى هؤلاء الفلاسفة أنهم عن طريق نماذج ثلاثية الأبعاد، يستطيعون تمثيل جسم رباعي الأبعاد إن هم ألمّوا بأبعاده إلمامًا تامًّا. هل فهمتم؟»
تمتم عمدة المقاطعة: «أعتقد ذلك …» ثم انعقد حاجباه وغرق في حالة من التأمل الداخلي، وتحركت شفتاه كأنه يردد كلمات غامضة ليقول بعد برهة من الوقت وقد بدا عليه الاستبشار لوهلة: «أجل، أعتقد أنني فهمت الآن.»
«حسنًا، لا أمانع في إخباركم بأنني درست هندسة الأجسام رباعية الأبعاد لبعض الوقت، وبعض نتائجي كانت مثيرة للفضول. على سبيل المثال: هذه صورة لرجل وهو في الثامنة من العمر، وهذه صورة أخرى له في الخامسة عشرة، وثالثة له في السابعة عشرة، ورابعة له في الثالثة والعشرين وهكذا. من الواضح أن كل هذه قطاعات على ما يبدو، أو صور ثلاثية الأبعاد لوجوده ككيان رباعي الأبعاد، وهو شيء ثابت لا يمكن أن يتغير.»
ثم أردف المسافر عبر الزمن قائلًا، بعد أن توقف لبرهة كانت لازمة لاستيعاب الأمر: «يدرك أهل العلم جيدًا أن الزمن ليس إلا ضربًا من المكان. إليكم نموذجًا علميًّا شهيرًا، مقياسًا لحالة الجو؛ هذا الباروميتر: كان مؤشره بالأمس في غاية الارتفاع، ثم هبط ليلًا، ثم ارتفع مجددًا هذا الصباح، وهكذا واصل ارتفاعه ببطء إلى أن وصل إلى هنا. لا شك أن زئبق الباروميتر لم يسلك هذا المسلك بناءً على أي من أبعاد المكان المتعارف عليها عمومًا؟ لكن المؤكد أنه سلك مساره هذا. من هنا يجب أن نستنتج أن هذا المسار كان بموازاة البعد الزمني.
قال الطبيب وهو يحدق بقوة في قطعة فحم بالمدفأة: «إن كان الزمن بالفعل مجرد بعد مكاني رابع، فلم عُدَّ إلى الآن شيئًا مختلفًا؟ ولماذا لا نستطيع التحرك في الزمن كما نتحرك في الأبعاد المكانية الأخرى؟»
ابتسم المسافر عبر الزمن وقال: «هل أنت موقن من أننا نستطيع التحرك بحرية في المكان؟ يمكننا أن نتحرك يمينًا ويسارًا، وأمامًا وخلفًا بحرية كافية. لطالما استطاع الإنسان هذا. أقر بأننا نتحرك بحرية في بعدين، لكن ماذا عن حركتنا إلى أعلى وإلى أسفل؟ هنا الجاذبية تضع قيودًا علينا.»
قال الطبيب: «هذا ليس صحيحًا تمامًا. هناك المناطيد.»
«لكن قبل ابتكار المناطيد، باستثناء الوثبات القصيرة والأسطح متباينة الارتفاع لم يتمتع الإنسان بحرية الحركة عموديًّا.»
قال الطبيب: «مع هذا يستطيع أن يتحرك قليلًا إلى أعلى وإلى أسفل.»
«والحركة إلى أسفل أسهل بكثير منها إلى أعلى.»
«أما في الزمان، فلا يسعك أن تفلت من اللحظة الراهنة.»
«وفي هذه النقطة تحديدًا يا سيدي العزيز أنت مخطئ. في هذه النقطة تحديدًا أخطأ العالم بأسره. نحن نفلت على الدوام من اللحظة الراهنة. وجودنا العقلي غير المادي، الذي لا أبعاد له يسير مع البعد الزمني بسرعة ثابتة من المهد إلى اللحد. الأمر يشبه اضطرارنا إلى الهبوط إن بدأنا وجودنا على ارتفاع خمسين ميلًا فوق سطح الأرض.»
قال عالم النفس: «لكن المشكلة الكبرى هي أنك تستطيع أن تتحرك في جميع الاتجاهات في المكان، أما عبر الزمن فلا يسعك أن تتجول بحرية.»
«اكتشافي العظيم ما يزال في مراحله الأولى، لكنك مخطئ في قولك إننا لا نستطيع التحرك عبر الزمن. إن تذكرتُ أنا على سبيل المثال حادثًا بوضوح شديد، أعود إلى لحظة وقوعه؛ عندئذ يشرد ذهني كما تقول. هنا أقفز إلى الخلف لحظة. لا شك أننا لا نستطيع أن نظل في الماضي طويلًا تمامًا كما لا يستطيع إنسان بدائي أو حيوان أن يظل على ارتفاع ستة أقدام فوق سطح الأرض، لكن الرجل المتحضر يتفوق على البدائي هنا؛ فهو يستطيع أن يرتفع عن سطح الأرض متحديًا الجاذبية بمنطاد، فلماذا لا يأمل في أن يستطيع في نهاية الأمر أن يوقف حركته عبر الزمن أو أن يسرعها؟ بل لماذا لا يأمل في أن يعكس اتجاهه ويسافر في اتجاه مغاير؟»
أخذ فيلبي يقول: «آه، هذا كله …»
فقاطعه المسافر عبر الزمن قائلًا: «لم لا؟»
فأجاب فيلبي: «هذا مناف للمنطق.»
سأل المسافر عبر الزمن: «أي منطق؟»
رد فيلبي: «يمكنك أن تظهر الأسود أبيض بالجدل، لكنك لن تفلح في إقناعي قط.»
فقال المسافر عبر الزمن: «ربما، لكنكم الآن تستطيعون أن تفهموا هدف أبحاثي في الهندسة رباعية الأبعاد. خطر لي قبل وقت طويل صنع آلة …»
سأل الشاب اليافع متعجبًا: «لتسافر عبر الزمن؟!»
أجاب المسافر عبر الزمن: «بل لتسافر في أي اتجاه بالمكان والزمان حسبما يملي سائقها.»
أغرق فيلبي في الضحك.
فقال المسافر عبر الزمن: «لكن لدي شواهد تجريبية.»
قال عالم النفس: «سيكون هذا ابتكارًا مناسبًا إلى حد مذهل للمؤرخين. قد يسافر المرء إلى الماضي ويتحقق من صحة الرواية المتداولة عن معركة هاستينجز مثلًا.»
قال الطبيب: «ألا تعتقد أنه سيجذب عندئذ الانتباه؟ لم يكن لدى أسلافنا تقبل كبير للمفارقات التاريخية.»
قال الشاب: «قد يتعلم المرء اليونانية من هوميروس وأفلاطون نفسيهما.»
قال أحد الحضور: «في هذه الحالة، لا شك أنهم سيجهزونك للاختبار الذي يُعقد في السنة الثانية بالجامعة؛ لقد طور الباحثون الألمان اليونانية كثيرًا.»
قال الشاب: «ثم إن هناك المستقبل. تخيلوا الأمر وحسب. قد يستثمر المرء جميع أمواله ويترك الفوائد تتراكم ويقفز نحو المستقبل ليفوز بها.»
قلت أنا: «ليكتشف مجتمعًا قائمًا على أساس شيوعي صارم.»
قال عالم النفس: «بأكثر النظريات تطرفًا!»
فقال المسافر عبر الزمن: «نعم، بدا هذا لي أيضًا؛ لذا لم أتحدث قط عن الأمر إلى أن …»
صحت: «البرهان التجريبي! هل ستتحقق من هذا؟»
فصاح فيلبي الذي سئم الأمر: «بالتجربة!»
قال عالم النفس: «لنرَ تجربتك على أي حال، مع أن المسألة برمتها هراء كما تعلم.»
ابتسم المسافر عبر الزمن لنا ثم سار ببطء، وهو لا يزال يبتسم ابتسامة خافتة، مغادرًا الغرفة، وواضعًا يديه في جيبي بنطاله، ثم سمعناه وهو يجرجر خفه عبر الرواق الطويل المؤدي إلى مختبره.
نظر عالم النفس إلينا وقال: «ترى ماذا لديه؟»
قال الطبيب: «حيلة تمارس بخفة اليد أو شيء آخر من هذا القبيل.» وحاول فيلبي أن يخبرنا عن حاوٍ رآه في بورسليم، لكن قبل أن يفرغ من التمهيد لقصته، عاد المسافر عبر الزمن، فتداعت قصة فيلبي.
حمل المسافر عبر الزمن في يده إطارًا معدنيًّا براقًا صنع بإتقان شديد، يزيد حجمه بالكاد عن حجم ساعة صغيرة، وصُنع بدقة شديدة، وحوى بداخله عاجًا ومادة بلورية شفافة. الآن علي أن أشرح بالتفصيل، فما يلي لا تفسير له على الإطلاق، إلا إذا قبلنا تفسير المسافر عبر الزمن. أخذ الأخير إحدى المناضد ثمانية الشكل التي تناثرت في أرجاء الغرفة ووضعها أمام المدفأة، بحيث أصبح اثنان من قوائمها على البساط المفروش أمام المدفأة، ثم وضع على المنضدة آلته، وجذب مقعدًا وجلس عليه. لم يكن على المنضدة شيء آخر سوى مصباح صغير بمظلة سطع ضوءه على الآلة. تناثرت في أرجاء الغرفة أيضًا حوالي اثنتي عشرة شمعة، منها اثنتان موضوعتان في عمودي شمعدان نحاسيين على رف المدفأة، فيما تناثر الكثير منها على حاملات المصابيح الجدارية، فسطعت الغرفة بالضوء. جلست على كرسي ذي ذراعين أقرب من المدفأة، جذبته للأمام بحيث صرت أجلس تقريبًا بين المسافر عبر الزمن والمدفأة، أما فيلبي، فجلس خلفه ينظر من فوق كتفه، فيما شاهده عمدة المقاطعة والطبيب من الجهة اليمنى، وعالم النفس من الجهة اليسرى، ووقف الشاب خلف عالم النفس. كلنا كنا في غاية الانتباه. يبدو لي أنه من غير المصدق أن نكون قد تعرضنا لخدعة في هذه الظروف مهما بلغت براعة منفذ الحيلة ومهما صعبت ملاحظتها.
نظر المسافر عبر الزمن إلينا ثم إلى الآلة. فقال عالم النفس: «وماذا بعد؟»
قال المسافر عبر الزمن وهو يستند بمرفقه إلى المنضدة ويضم كلتا يديه إحداهما إلى الأخرى فوق الآلة: «هذا الجهاز الصغير ليس إلا نموذجًا مصغرًا لآلة تسافر عبر الزمن. ستلاحظون أنه يبدو مائلًا على نحو عجيب وأن هذه الرافعة تلمع على نحو غريب كما لو أنها بصورة ما غير حقيقية.» ثم قال مشيرًا بإصبعه إلى الجزء: «وهذه رافعة بيضاء صغيرة، وتلك رافعة أخرى.»
نهض الطبيب من مقعده وأنعم النظر في الآلة، ثم قال: «إنها جميلة الصنع.»
رد المسافر عبر الزمن في حدة: «استغرقت في صنعها عامين.» فلما حذونا جميعًا حذو الطبيب، قال: «أريدكم أن تفهموا جيدًا أن هذه الرافعة لدى الضغط عليها تنقل الآلة إلى المستقبل، والرافعة الأخرى تعكس اتجاهها، أما هذا المقعد الجلدي فهو مقعد المسافر عبر الزمن. سأضغط الآن على الرافعة فتنطلق الآلة، ستتلاشى وتنتقل إلى المستقبل وتختفي. أنعموا النظر فيها وتأملوا المنضدة أيضًا، وتأكدوا أنني لا أمارس حيلة هنا. لا أريد أن أهدر هذا النموذج ثم يقال عني إني دجال.»
ساد السكون لدقيقة تقريبًا. بدا أن عالم النفس يريد إخباري بأمر ما، لكنه عدل عن رأيه، ثم اتجه إصبع المسافر عبر الزمن إلى الرافعة، وفجأة قال: «لا»، واستطرد قائلًا: «أعطني يدك.» والتفت إلى عالم النفس وأمسك بيده وطلب منه أن يرفع سبابته ليكون هو من يرسل النموذج المصغر لآلة الزمن في رحلتها الطويلة. رأينا جميعًا الرافعة وهي تدور. أجزم بأنه لم تكن هناك أي خدعة. هب نسيم، وتحرك لهب المصباح أكثر وانطفأت إحدى الشمعتين اللتين حملهما رف المدفأة، وأخذت الآلة الصغيرة فجأة تدور حتى تعذر تمييزها. بدت للحظة وكأنها شبح، كما لو أنها دوامة من النحاس المتلألئ نوعًا ما والعاج، ثم تلاشت؛ اختفت من الوجود! ولم يعد على المنضدة إلا المصباح.
سكت الجميع برهة، ثم قال فيلبي: «تبًّا!»
أفاق عالم النفس من دهشته ثم أخذ فجأة ينظر أسفل المنضدة، فضحك منه المسافر عبر الزمن في سعادة وقال متذكرًا ما قاله عالم النفس: «وماذا بعد؟» ثم نهض واتجه إلى جرة تبغ حملها رف المدفأة وأخذ يملأ غليونه وهو يولينا ظهره.
حدق بعضنا في بعض، ثم قال الطبيب: «اسمعوا، هل أنتم جادون في هذا؟ هل تعتقدون حقًّا أن الآلة سافرت عبر الزمن؟»
قال المسافر عبر الزمن وهو ينحني ليشعل لفافة التبغ من نيران المدفأة: «بالتأكيد»، ثم استدار وهو يشعل غليونه لينظر في وجه عالم النفس الذي أخفى اضطرابه بأن تناول سيجارًا وحاول أن يشعله، فاستطرد المسافر عبر الزمن قائلًا: «فوق ذلك، لدي آلة ضخمة كدت أن أفرغ من صنعها هناك (مشيرًا إلى مختبره)، وعندما أفرغ من تجميعها، أنوي القيام برحلة بنفسي.»
قال فيلبي: «هل تقصد أن هذه الآلة سافرت إلى المستقبل؟»
– «إلى المستقبل أو الماضي، لست متأكدًا إلى أي منهما.»
بعد برهة خطرت لعالم النفس فكرة، فقال: «إن كانت تلك الآلة قد سافرت إلى أي مكان، فلا شك أنها سافرت إلى الماضي.»
سأله المسافر عبر الزمن: «لماذا؟»
قال: «لأنني أفترض أنها لم تتحرك عبر المكان؛ وإن كانت قد سافرت إلى المستقبل لظلت أمامنا هنا طوال هذا الوقت، لأنها لا بد أن تكون قد مرت بهذا الزمن.»
قلت أنا: «لكن إن كانت قد سافرت إلى الماضي، كنا سنراها لدى قدومنا إلى هذه الغرفة وكنا سنراها الخميس الماضي عندما كنا هنا والخميس السابق عليه، وهكذا!»
قال عمدة المقاطعة متصنعًا الحيادية وهو يلتفت إلى المسافر عبر الزمن: «اعتراضات جادة.»
قال المسافر عبر الزمن: «على الإطلاق»، ثم قال لعالم النفس: «فكر أنت. أنت قادر على شرح الأمر. إنه ظهور يصعب إدراكه فهو كما تعلم أدنى من عتبة الإدراك؛ ظهور باهت.»
فقال عالم النفس: «بالطبع» ثم استطرد يؤكد لنا: «إنها مسألة نفسية بسيطة. كان علي أن أفكر في هذا. المسألة بالوضوح الكافي وتفسر هذه المفارقة تفسيرًا رائعًا. نحن لا نستطيع أن نرى الآلة أو نتعرف عليها أكثر مما نستطيع أن نرى أو نتعرف على برمق عجلة يدور أو رصاصة تطير في الهواء. إن كانت الآلة تسافر عبر الزمن بسرعة تفوق سرعتنا بخمسين أو مائة مرة، إن كانت تجتاز الدقيقة في الوقت الذي نستغرقه لنجتاز الثانية، فإدراكنا لها لن يساوي إلا واحدًا على خمسين أو واحدًا على مائة من إدراكنا لها إن لم تكن تسافر عبر الزمن. المسألة واضحة بما يكفي.» ثم مرر يده في الموضع الذي كانت فيه الآلة وقال ضاحكًا: «أرأيتم؟»
جلسنا نحدق في المنضدة الخاوية لدقيقة أو نحو ذلك، ثم سألَنا المسافر عبر الزمن عن رأينا في المسألة برمتها.
قال الطبيب: «يبدو الأمر مقبولًا الليلة، لكن انتظر الغد، انتظر الحكم الصائب صباحًا.»
قال المسافر عبر الزمن: «هل تودون رؤية آلة الزمن نفسها؟» وحمل في يده المصباح، ثم قادنا عبر الردهة الطويلة ذات الهواء البارد التي تؤدي إلى مختبره. أذكر بوضوح الضوء المتلألئ، وظِل رأسه العريض الغريب كما أذكر تراقُص الظلال، أذكرنا ونحن نتبعه ذاهلين وغير مصدقين، وأذكر كيف أننا وجدنا في مختبره نموذجًا أكبر من الآلة الصغيرة التي رأيناها تتلاشى أمام أعيننا. كانت أجزاء منها من النيكل، وأخرى من العاج وأخرى بُردت بمبرد أو قطعت من البلور بمنشار. كانت بوجه عام مكتملة الصنع، لكن الرافعات البلورية المتلوية لم ينتهِ صنعها، وكانت موضوعة على مقعد إلى جانب بعض الرسومات على الألواح. تناولت إحداها لأتأملها على نحو أفضل، بدا أنها مصنوعة من الكوارتز.
قال الطبيب: «اسمع، هل أنت جاد حقًّا أم أن هذه حيلة كالشبح الذي أريتنا إياه في عيد رأس السنة الماضي؟»
فقال المسافر عبر الزمن: «بهذه الآلة أعتزم سبر أغوار الزمن، هل هذا واضح لكم؟ لم أكن قط جادًّا في حياتي كما أنا الآن.»
لم يدر أي منا كيف يتقبل الأمر.
لمحت عين فيلبي من وراء كتف الطبيب، غمز بعينه لي والجدية تبدو عليه.
الفصل الثاني
أعتقد أننا جميعًا لم نصدق قصة آلة الزمن آنذاك؛ فالمسافر عبر الزمن كان في الواقع واحدًا من هؤلاء الذين يحول دهاؤهم الشديد دون تصديقهم. لم يكن بوسعك أن تلم بشخصيته؛ ستشك دائمًا في أن صراحته الواضحة تخفي تحفظًا خفيًّا وشيئًا من البراعة المستترة. فلو أن فيلبي كان قد عرض مثلًا النموذج علينا وشرح لنا المسألة بأسلوب المسافر عبر الزمن، لكان شكنا حياله أقل كثيرًا؛ إذ كنا سنبصر دوافعه؛ فأي شخص بإمكانه أن يفهم فيلبي، أما المسافر عبر الزمن فقد اتسم بالتقلب ولم ينل ثقتنا، فالأشياء التي من الممكن أن تحقق الشهرة لإنسان أقل ذكاءً بدت في غاية السهولة بين يديه. من الخطأ فعل الأشياء بسهولة مبالغ فيها. الجادون الذين نظروا إليه على محمل الجد تشككوا دائمًا في سلوكه، ووعوا بدرجة ما أنهم يغامرون بسمعتهم معه؛ لذا لا أعتقد أن أيًّا منا تحدث كثيرًا عن السفر عبر الزمن خلال الفاصل الزمني بين ذاك الخميس والخميس الذي تلاه، مع أن إمكاناته العجيبة ظلت تراود أغلبنا بلا شك: إمكانية حدوثه، أي عدم معقوليته عمليًّا، والمفارقات التاريخية العجيبة التي قد يصنعها، والحيرة التامة التي يحدثها. أنا عن نفسي انشغلت بالتفكير في الخدعة وراء تلك الآلة، حتى إنني أذكر أنه دار نقاش في الأمر بيني وبين الطبيب الذي التقيته الجمعة الماضية في لينيان. أخبرني بأنه شهد أمرًا مماثلًا في توبينجين، وأولى انطفاء الشمعة دورًا كبيرًا، لكنه لم يستطع أن يفسر كيف أجريت الخدعة.
ذهبت الخميس التالي إلى ريتشموند مرة أخرى. أعتقد أنني كنت واحدًا من أكثر من يداومون على زيارة المسافر عبر الزمن. وصلت إلى هناك متأخرًا فوجدت أربعة أو خمسة رجال مجتمعين بغرفة الجلوس. كان الطبيب واقفًا أمام مدفأة الغرفة حاملًا في يده ورقة، وفي يده الأخرى ساعته. نظرت حولي لأبحث عن المسافر عبر الزمن، فقال الطبيب: «الساعة الآن السابعة والنصف. أعتقد أنه من الأفضل أن نتناول العشاء، أليس كذلك؟»
سألت عن مكان مضيفنا؛ المسافر عبر الزمن.
فأجابني الطبيب: «هل أتيت لتوك؟ الأمر شديد الغرابة. لقد تأخر لظرف طارئ وطلب مني في هذه الرسالة أن أفتتح العشاء في السابعة إن لم يعد. قال إنه سيشرح المسألة عندما يأتي.»
قال محرر جريدة يومية شهيرة بين الحاضرين: «يبدو لي أنه من المؤسف أن نترك العشاء يفسد.» فدق الطبيب جرس الخدم ليبدأ تقديم العشاء.
لم يكن سوى عالم النفس والطبيب وأنا من حضر العشاء السابق. الباقون هم بلانك محرر الجريدة الشهيرة الذي سبقت الإشارة إليه، وصحفي، وصحفي آخر ملتحٍ، كان هادئًا وخجولًا لم تجمعني به معرفة سابقة، ولاحظت أنه لم ينبس بكلمة طوال الأمسية. دارت التساؤلات على مائدة العشاء حول سبب غياب مضيفنا، فقلت بشيء من الدعابة إنه يسافر عبر الزمن. طلب المحرر شرح الأمر له، فتطوع عالم النفس بشرح «الحيلة أو المفارقة المذهلة» التي شهدناها الأسبوع الماضي شرحًا مملًّا، لكن أثناء قصته انفتح باب الممر المؤدي إلى الغرفة ببطء وهدوء. كنت أجلس في مواجهة باب الغرفة آنذاك فكنت أول من يبصر المسافر عبر الزمن. قلت: «مرحبًا! أخيرًا!» اتسعت فتحة الباب ووقف أمامنا المسافر عبر الزمن. صحت في دهشة وصاح الطبيب لما رآه من بعدي قائلًا: «بحق السماء! ما الأمر؟» فالتفت الجميع على المائدة إلى الباب.
بدت عليه المعاناة الشديدة. معطفه كان متسخًا يغطيه التراب، وتَلَطخ الجزء الأسفل من كميه بلون أخضر، أما شعره فكان ثائرًا، بدا لي أن اللون الرمادي قد زحف أكثر إلى شعره، إما بفعل التراب والغبار أو لأن لونه قد بهت بالفعل. أما وجهه فكان شاحبًا على نحو مخيف؛ شق ذقنَه جرح بني لم يلتئم تمامًا، وبدا على وجهه التعب والإنهاك كما لو أنه ينضح بمعاناة هائلة. تردد لحظة عند مدخل الغرفة كما لو أن ضوءها يغشي بصره، ثم دخل؛ عرج بصعوبة كما لو أن قدميه قد تقرحتا وجعلتاه يمشي بصعوبة، فحدقنا فيه بصمت منتظرين أن يبدأ الكلام.
لكنه لم ينبس ببنت شفة. سار متألمًا إلى المائدة واتجه إلى الخمر الموجودة عليها، فملأ له المحرر كأسًا من الشامبانيا ودفعه نحوه، فتجرعه وبدا أنه أشعره بالتحسن، إذ دار ببصره على الجالسين حول المائدة، وارتسمت على شفتيه ابتسامة واهية تذكر بابتسامته القديمة. فقال الطبيب: «بحق السماء، ماذا كنت تفعل يا رجل؟» بدا وكأنه لم يسمعه، وقال متلعثمًا بعض الشيء: «لا تدعوني أزعجكم. أنا بخير.» ثم سكت عن الكلام ومد كأسه ليملأه بمزيد من الشراب ثم شربه دفعة واحدة، وقال: «هذا جيد!» التمعت عيناه وتوردت وجنتاه قليلًا، ثم تَأمَّلَنا سريعًا بمزيج من الرضا والتبلد، ثم جال في الغرفة الدافئة المريحة وبدأ الكلام مجددًا، كما لو أنه يحاول أن يجد الكلمات. قال: «سأغتسل وأغير ملابسي ثم أنزل إليكم لأشرح لكم … اتركوا لي بعضًا من هذا الضأن. أتوق لأكل بعض اللحم.»
ثم نظر إلى المحرر الذي لم يزره إلا نادرًا وتمنى أن يكون على ما يرام؛ فهمَّ الأخير بسؤاله عن شيء ما، فقال له: «أقول لك إنني أبدو غريبًا الآن! سأكون بخير بعد وهلة.»
ترك كأسه ثم سار إلى الباب المؤدي إلى سلم المنزل. لاحظت مجددًا مشيته العرجاء ووقع قدميه الخفيف الهادئ على الأرض. ومن مكاني الذي أقف فيه رأيت قدميه وهو يغادر الغرفة؛ لا يرتدِي إلا زوجًا من الجوارب الممزقة المبقعة بالدم. أغلق الباب خلفه، فهممت أن أتبعه، لكنني تذكرت كم يكره إثارة جلبة حوله. شرد ذهني دقيقة تقريبًا ثم سمعت المحرر يقول وهو يفكر بلغة عناوين الصحف (كعادته): «سلوك غريب من عالم بارز.»، وأعاد هذا ذهني إلى مائدة العشاء المبهجة.
قال الصحفي: «ما الأمر؟ هل كان يمثل دور شحاذ هاوٍ؟ لا أفهمه.» التقت عيناي بعيني عالم النفس وقرأت فيهما التفسير نفسه. فكرت في المسافر عبر الزمن وهو يعرج في ألم إلى الطابق العلوي. لا أظن أن هناك من لاحظ أنه يعرج بخلافي.
كان أول من أفاق من دهشته تمامًا هو الطبيب الذي دق جرس الخدم طلبًا لطبق ساخن — إذ كان المسافر عبر الزمن يكره وقوف الخدم بجوار مائدة العشاء — وعليه عاد المحرر إلى الإمساك بشوكته وسكينه مزمجرًا وحذا حذوه الصحفي الصامت، واستأنفنا عشاءنا. دارت محادثة ملؤها التساؤلات لبعض الوقت وفترات الدهشة ثم ثار فضول المحرر بشدة وقال: «هل يزيد صاحبنا دخله المتواضع بالاحتيال؟ أم تأتي عليه لحظات ثمالة؟» فقلت: «أنا واثق أن الأمر يتعلق بآلة الزمن تلك.» وواصلت سرد أحداث لقائنا الماضي بالمسافر عبر الزمن التي قصها عالم النفس. في الواقع، لم يصدق أي من الحاضرين الجدد الأمر. أخذ المحرر يبدي اعتراضاته قائلًا: «ما الذي يعنيه السفر عبر الزمن؟ وما علاقة السفر عبر الزمن بأن يكسو التراب المرء؟» وبعدما تشرب أكثر بالفكرة لجأ إلى الصور الكاريكاتورية الساخرة فقال: «ألا يوجد في المستقبل فرشاة ثياب؟» رفض الصحفي بدوره أن يصدق الأمر بأي حال من الأحوال وانضم إلى المحرر في الكيل بالسخرية، ولم يكن هذا صعبًا. كانا من طراز الصحافيين الجدد؛ شابين مرحين ساخرين. كان الصحفي يقول أو بالأحرى يصيح: «مراسلنا الخاص في صحيفة «ما بعد الغد» يقول …» حينما عاد المسافر عبر الزمن مرتديًا ملابس سهرة عادية، لا يظهر عليه شيء من أثر الاختلاف الذي طرأ على مظهره، ولم يبق شيء من التغيير الذي كان قد أجفلني سوى مظهره المنهك.
قال المحرر مازحًا: «اسمع، هؤلاء يقولون إنك سافرت عبر منتصف الأسبوع القادم! هلا حدثتنا قليلًا عن روزبيري الصغير؟ هل ستخبرنا بكل شيء؟»
عاد المسافر عبر الزمن إلى المكان الذي خصص له دون أن ينبس بكلمة وابتسم في هدوء كعهده ثم قال: «أين الضأن المخصص لي، يا له من أمر ممتع أن أدس شوكة الطعام في اللحم من جديد!»
صاح المحرر: «نريد القصة التي ستدلي بها!»
قال المسافر عبر الزمن: «فلتذهب القصة إلى الجحيم! أريد أن آكل شيئًا. لن أتفوه بكلمة قبل أن آكل بعض اللحم. شكرًا. والملح أيضًا.»
قلت: «فقط أخبرنا، هل كنت مسافرًا عبر الزمن؟»
أجاب مومئًا برأسه وفمه ممتلئ بالطعام: «نعم.»
فقال المحرر: «سأدفع سنتًا على كل سطر مما تقوله.» فدفع المسافر عبر الزمن كأسه إلى الرجل الصامت وطرقه بظفره، فانتفض الرجل الصامت الذي كان يحملق في وجهه وصب له بعض الخمر، بعدئذ خيم علينا شعور بالارتباك طيلة العشاء. كادت أسئلة مفاجئة كثيرة تقفز إلى شفتي، وأجزم بأن ذلك كان حال الآخرين أيضًا. حاول الصحفي أن يخفف من حدة التوتر الذي ساد برواية قصة عن هيتي بوتر، أما المسافر عبر الزمن فقد ركز اهتمامه على العشاء وأكل بنهم شديد. دخن الطبيب سيجارًا وهو يرمق المسافر عبر الزمن بطرف عينه، أما الرجل الصامت فبدا أخرق أكثر من ذي قبل، إذ شرب الشمبانيا بانتظام وبتصميم، لشعوره بالتوتر. أخيرًا نحى المسافر عبر الزمن طبقه جانبًا وتلفت يتأملنا، ثم قال: «أعتقد أن علي أن أعتذر. كل ما في الأمر هو أنني كنت جائعًا. لقد قضيت وقتًا مذهلًا للغاية.» ثم مد يده طالبًا سيجارًا أزال عقبه ثم قال: «لكن تعالوا إلى غرفة التدخين. إنها قصة طويلة لا يمكن روايتها وأمامنا هذه الأطباق المزيتة.» ثم دق جرس الخدم وهو يقودنا إلى الغرفة المجاورة.
قال لي وهو يتراجع بظهره مستندًا إلى كرسيه المريح: «هل أخبرت بلانك وداش وتشوز عن الآلة؟» مشيرًا إلى الضيوف الثلاثة الجدد.
قال المحرر: «لكن هذا الشيء مفارقة.»
«لا يمكنني أن أجادل الليلة. لا أمانع إخباركم بالقصة، لكنني لا أقوى على الجدال.» ثم استطرد: سأخبركم بما حدث لي إن شئتم، لكن عليكم ألا تقاطعوني. أريد أن أرويها على مسامعكم. أود هذا بشدة. أغلبها سيبدو لكم كذبًا، لكن ليكن! إنها الحقيقة برغم ذلك، كل كلمة فيها. كنت في مختبري في الرابعة وبدءًا من تلك اللحظة … عشت ثمانية أيام … لم يشهدها من قبلي بشر! أشعر بأن قواي خائرة، لكنني لن أخلد إلى النوم قبل أن أخبركم بالقصة، بعدها سأنام، لكنكم لن تقاطعوني، اتفقنا؟»
قال المحرر: «اتفقنا»، وحذونا جميعًا حذوه، فبدأ المسافر عبر الزمن سرد قصته كما سأسردها. أراح ظهره على كرسيه ثم تحدث بوهن، بعدها دبت فيه الحيوية. أشعر وأنا أكتب ما يرويه بحماسة شديدة أن القلم والمداد لا يفيان القصة حقها من الوصف، بل أشعر بأنني نفسي لا أستطيع أن أفيها حقها من الوصف. سأفترض أنك تقرأ بانتباه شديد، لكنك لا تستطيع أن ترى وجه الراوي الشاحب الذي يبدو عليه الصدق في الهالة التي صنعها ضوء المصباح الصغير، ولا تستطيع سماع نبرته، لا يسعك أن تتابع تعبيرات وجهه مع منعطفات القصة! أغلبنا نحن السامعين قبع في الظل، فالشموع بالغرفة لم تكن مضاءة، لم يظهر في الضوء إلا وجه الصحفي وساقا الرجل الصامت من ركبتيه إلى أسفل. في البداية نظر بعضنا من حين لآخر إلى بعض، لكن بعد بعض الوقت، كففنا عن هذا ولم نطالع إلا وجه المسافر عبر الزمن.
الفصل الثالث
أطلعت بعضكم الخميس الماضي على الأسس التي قام عليها اختراع آلة الزمن، وأريتكم الآلة نفسها قبل أن يكتمل صنعها في مختبري. ها هي الآن. لا شك أن السفر قد أبلاها قليلًا، وتشققت إحدى رافعاتها العاجية وانثنى قضيب نحاسي بها، لكن بقيتها سليمة إلى حد بعيد. توقعت أن أفرغ يوم الجمعة من صنعها، لكن ما إن كدت أنتهي من تجميعها، حتى اكتشفت أن أحد أسلاك النيكل بها كان أقصر من اللازم بمقدار بوصة، فاضطررت إلى إعادة تصنيعه، من ثم لم يكتمل صنع الآلة إلا صباح اليوم، وفي العاشرة بدأت أولى آلات الزمن في العمل؛ ربتُّ عليها للمرة الأخيرة وجربت كل مساميرها الملولبة، ثم وضعت قطرة أخرى من الزيت على عصا الكوارتز بها وجلست على مقعدها. أعتقد أنني انتابتني حالة من الترقب لما سيحدث، كتلك التي يشعر بها من يُقدم على الانتحار مصوبًا مسدسًا نحو رأسه. أمسكت برافعة التشغيل في يد ورافعة الإيقاف في يد أخرى، ودفعت الأولى ثم الثانية بعدها مباشرة تقريبًا. بدا لي أنني أدور، شعرت بأنني في كابوس أهوي فيه، نظرت حولي فوجدت مختبري كما هو بالضبط. هل حدث شيء؟ ظننت لوهلة أن عقلي قد خدعني، ثم نظرت للساعة. قبل لحظة، كما خُيل لي، أشارت عقاربها إلى العاشرة ودقيقة أو نحو ذلك، أما الآن فقد أشارت إلى الثالثة والنصف تقريبًا!
أخذت نفسًا عميقًا، وضغطت على أسناني بقوة ثم جذبت رافعة التشغيل بكلتا يدي، وانطلقت في رحلتي محدثًا صوتًا مكتومًا. بدا المختبر غائمًا وخيم عليه الظلام، دخلته السيدة واتشيت وسارت إلى باب الحديقة دون أن تلحظني على ما يبدو. أعتقد أنها جالت المكان دقيقة أو نحو ذلك، لكن بدا لي أنها تمرق كالسهم في أرجائه. دفعت الرافعة إلى الدرجة القصوى؛ فحل الليل كما لو أنني قد أطفأت مصباحًا، ثم حلَّ الغد. تعذرت رؤية المختبر وبدا غائمًا ثم تعذرت رؤيته أكثر فأكثر. حلَّ ظلام ليل الغد وأتى بعده الصبح من جديد، ثم الليل مجددًا، ثم الصبح. تسارعت هذه الوتيرة أكثر فأكثر وامتلأت أذناي بزوبعة من الأصوات غير الواضحة، وسيطر على عقلي شعور غريب بالحيرة والذهول.
أخشى أنني لا أستطيع أن أعبر لكم عن المشاعر الغريبة التي انتابتني وأنا أسافر عبر الزمن. إنها مشاعر سيئة جدًّا. هناك ذلك الشعور الذي يساور المرء عندما يسير على طريق مليء بالتعرجات الحادة، شعور بالاندفاع السريع الذي لا سبيل إلى إيقافه! بل انتابني خوف رهيب من تهشم وشيك. بدا لي أن المختبر الذي أضحى غير متضح المعالم ينهار حولي. رأيت الشمس تثب سريعًا في السماء، تقفز إليها كل دقيقة لتؤذن بقدوم النهار. افترضت أن المختبر دُمِّرَ؛ كنت قد أصبحت في الهواء الطلق، هُيئ لي أنني لمحت سقالات بناء، لكنني كنت أمضي بسرعة هائلة تحول بين إدراك الأشياء المتحركة. كان أبطأ حلزون على وجه الأرض يندفع مارًّا بي بسرعة تفوق إدراكي. أرهق عينيَّ تعاقب الضوء والظلام بسرعة شديدة، ثم رأيت في الظلام المتقطع القمر يدور بخفة مارًّا بأطواره من هلال إلى بدر ولمحت بالكاد بعض النجوم تدور في السماء. بعد ذلك وبينما أنا مستمر في اندفاعي تحولت صورة تعاقب الليل والنهار المرتعشة مع ازدياد سرعتي إلى لون رمادي متصل؛ إذ اصطبغت السماء بلون أزرق داكن التمع فيه ضوء لونه كلون أول الشفق. بدت الشمس المتواثبة كأنها خيط من نار أو قوس مضيء في السماء، أما القمر فبدا وكأنه حزام ضوء ذو إضاءة أكثر خفوتًا، ولم أرَ شيئًا من النجوم إلا أنه بين حين وآخر كنت أرى حلقة أكثر تألقًا تتلألأ في السماء.
خيم على المشهد أمامي الضباب والغموض. كنت لا أزال على منحدر التل الذي يقبع فوقه هذا المنزل. رأيت التل يرتفع أمامي بلون رمادي داكن، وشاهدت الأشجار تنمو وتتلون كنفحات بخار متصاعدة، يتغير لونها من البني إلى الأخضر، تنمو وتنتشر وترتجف ثم تهلك. رأيت مباني جميلة غير متضحة المعالم ترتفع ثم تختفي وكأنها حلم. بدا أن سطح الأرض يتبدل أمام ناظري، يذوب ويتحرك. تسارع دوران العقارب الصغيرة على قرص العداد الذي سجل سرعتي أكثر فأكثر، ولاحظت أن حزام ضوء الشمس يميل صعودًا وهبوطًا من انقلاب شمسي إلى آخر في دقيقة أو أقل، وأن سرعتي تجاوزت عامًا في الدقيقة؛ كان الثلج الأبيض يبزغ في العالم كل دقيقة ثم سرعان ما كان يختفي لتكتسي الأرض بخضرة الربيع الزاهية لوقت قصير.
خفت حدة شعور الاندفاع البغيض هذا، وتحول إلى شعور هستيري بالنشوة. لاحظت بالفعل أن الآلة قد مالت على نحو عجيب لم أجد له تفسيرًا، لكن ارتباكي الشديد منعني من الانشغال بهذا. قفزت بكل كياني إلى المستقبل وقد أخذ مس من الجنون يتسلل إلى عقلي. كانت هناك أحيان نادرة فكرت فيها في التوقف، لكن لم يسيطر على عقلي شعور آخر بخلاف هذه النشوة إلا نادرًا، بعدئذ زحفت مشاعر أخرى إلى عقلي؛ انتابني فضول ممتزج بشيء من الخوف سيطر في آخر الأمر على عقلي. فكرت في التطورات البشرية العجيبة والتقدم الرائع في حضارتنا البدائية التي لم تكن لتظهر عندما أنظر عن كثب إلى العالم المراوغ الذي كان يتسارع ويتبدل أمام عينيَّ. رأيت مباني هائلة ساحرة ترتفع من حولي، أضخم من أي بناء شهده زماننا، ومع ذلك كانت مشيدة على ما يبدو من الوميض والضباب. رأيت خضرة أكثر إيناعًا من ذي قبل تزحف على منحدر التل وتستقر عليه بدون أي فاصل شتائي. بدت لي البسيطة بالرغم من ارتباكي في غاية الجمال، من ثم انشغلت بفكرة التوقف.
واجهت مجازفة فريدة من نوعها تكمن في احتمال أن أجد شيئًا ما في الفضاء الذي أشغله أنا أو آلتي. وحيث إنني كنت أسافر بسرعة كبيرة عبر الزمن، لم أعبأ كثيرًا بهذا؛ كنت واهيًا؛ فكنت أنسل كالبخار عبر المواد التي تعترض طريقي! لكن الوقوف كان معناه أن ينحشر كل جزيء من جسدي في أي شيء يعترض طريقي، كان معناه أن تلتقي ذرات جسدي التقاءً وثيقًا بذرات العائق الذي يعترض طريقي بحيث تنتج ردة فعل كيميائية قوية قد تكون انفجارًا واسع المدى ينفجر بي مع آلتي خارج كل الأبعاد الممكنة ويقذف بي إلى المجهول. خطر لي هذا الاحتمال مرارًا وتكرارًا وأنا أصنع الآلة، لكني بعدئذ تقبلته على أنه مجازفة لا مفر منها، مجازفة لا بد من خوضها. والآن أصبحت هذه المجازفة محتومة، لكنني لم أعد أنظر إليها بهذا التفاؤل. كانت الغرابة المطلقة لكل شيء حولي وتمايل وارتجاج الآلة اللذان يبعثان على الغثيان، وقبل هذا وذاك الشعور الممتد بالسقوط، قد أرهق أعصابي. حدثت نفسي بأنه لن يمكنني أن أتوقف أبدًا، من ثم قررت في لحظة ضاق صدري فيها أن أتوقف حالًا، فجذبت الرافعة كأحمق متهور فتقلبت الآلة على نحو لا يمكن السيطرة عليه وقُذف جسدي بقوة في الهواء.
تنامى إلى أذني صوت هزيم رعد؛ ربما كان الذهول قد سيطر عليَّ لحظة. تساقط وابل من البَرَد بقسوة من حولي. كنت أجلس على أرض مكسوة بعشب لين أمام الآلة التي انقلبت. ظل كل شيء يبدو لي رمادي اللون، لكنني لاحظت أن زوبعة الأصوات التي ملأت أذني اختفت. نظرت حولي. وجدت نفسي على ما تراءى لي أنه مرج أخضر صغير وسط حديقة محاطة بشجيرات نبات الوردية التي لاحظت أن براعمها البنفسجية والأرجوانية تتساقط كوابل بفعل ضربات كريات البَرَد. هطلت كرات البرد المرتدة والمتراقصة من سحابة تعلو الآلة وانتشرت على الأرض كالدخان، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت مبللًا تمامًا، فقلت: «يا له من استقبال حار لرجل سافر عبر سنوات لا تحصى لرؤيتكم.»
شعرت بالحمق لأنني تركت نفسي أبتل. نهضت لألقي نظرة على ما حولي. لاح وسط الغشاوة التي صنعها البرد المنهمر كيان هائل غير واضح المعالم نُحِتَ على ما يبدو من حجر أبيض خلف شجيرات نبات الوردية، لكنه وحده الذي برز في المشهد.
شعرت شعورًا لا يوصف. رأيت مع تناقص هطول البرد الكيان الأبيض بوضوح أكبر. كان شديد الضخامة، إذ لامست كتفه شجرة بتيولا فضية. كان مشيدًا من المرمر الأبيض، وبدا كتمثال مجنح لأبي الهول، لكنه لم يضمم جناحيه إلى جانبيه، وإنما بسطهما، فبدا كأنه يحلق، أما القاعدة التي ارتكز عليها فبدت لي من البرونز، تغطيها طبقة سميكة من الصدأ. صودف أن وجهه كان ينظر تجاهي، فبدا لي أن عينيه الخاويتين من الحياة ترقباني. أما شفتاه فقد ارتسم عليهما ظل لابتسامة واهية. كان الطقس قد أبلاه إلى حد بعيد مما أعطى إيحاءً كريهًا بمعاناته المرض. وقفت أتأمله وقتًا قصيرًا؛ نصف دقيقة أو نصف ساعة تقريبًا. بدا لي أنه يتقدم مع ازدياد كثافة البرد المنهمر، ويتقهقر مع تناقصه. صرفت بصري عنه في آخر الأمر لوهلة فوجدت ستار البرد المنهمر قد توانى في هطوله ووجدت السماء تنير إيذانًا بشروق الشمس.
نظرت مجددًا إلى الكيان الأبيض المنحني ثم تنبهت فجأة إلى مدى الجسارة التي تنطوي عليها رحلتي. ما الذي قد يظهر عندما ينقشع هذا الستار الغائم كليةً؟ ما الذي تراه حدث لبني الإنسان؟ ماذا لو كانت القسوة أصبحت نزعة عامة؟ ماذا إن كان الجنس البشري قد فقد في هذه الحقبة آدميته وتحول إلى جنس وحشي يتمتع بقوى هائلة ولا يعرف الرأفة؟ وقد أبدو لهم كحيوان بدائي من العالم القديم، أكثر فظاعة وإثارة للاشمئزاز؛ مخلوق كريه يجب قتله على الفور.
بحلول هذا الوقت اتضحت لي معالم أخرى. رأيت صروحًا ضخمة ومتاريس معقدة البناء وأعمدة طويلة ومنحدر تل تغطيه الغابات أخذ يتراءى لي وسط العاصفة التي بدأت تهدأ. تملكني الذعر، فالتفتُّ إلى آلة الزمن وحاولت جاهدًا أن أعدل وضعها من جديد، لكن أثناء قيامي بذلك سطعت أشعة الشمس وسط العاصفة الرعدية، وتوقف المطر الرمادي المنهمر واختفى كما لو كان ذيلًا لعباءة شبح. أبصرت وسط سماء الصيف الزرقاء الداكنة قطعًا من الغيم تدور في الفضاء، وبرزت المباني الهائلة حولي واضحة للعيان تبرق بعد أن ابتلت بفعل العاصفة الرعدية، برزت جلية بيضاء بفعل البرد الذي لم يذب وتراكم عليها أثناء سقوطه. شعرت بضعفي في هذا العالم الغريب. شعرت بما قد يشعر به طائر يطير في الفضاء الرحب وهو يعلم أن صقرًا يحلق فوقه سينقض عليه. تحول خوفي إلى هلع، فالتقطت أنفاسي لبرهة ثم أطبقت على أسناني وحاولت بقوة ضبط الآلة مستخدمًا معصمي وركبتي، فأذعنت لمحاولتي اليائسة وانقلبت لكنها اصطدمت بذقني بعنف. وقفت لاهثًا وأنا أضع يدًا على المقعد ويدًا أخرى على الرافعة متأهبًا لركوب الآلة مجددًا.
لكن بعد أن عدلت من وضعها استعدت شجاعتي. نظرت بمزيد من الفضول وقد هدأ روعي قليلًا نحو هذا العالم من المستقبل البعيد. أبصرت عند فتحة مستديرة في أعلى حائط لأحد البيوت القريبة أجسام أشخاص يرتدون أردية ناعمة جميلة. لقد رأوني؛ إذ كانت وجوههم تنظر إليَّ.
بعدئذ تنامى إلى سمعي أصوات تقترب. أبصرت بين الأشجار بجانب التمثال الأبيض رءوسًا وأكتاف رجال يركضون، أحدهم برز في الممر الذي يؤدي مباشرة إلى المرج الأخضر الذي وقفت عليه مع آلتي. كان رجلًا هزيلًا، لعل طوله يبلغ أربعة أقدام. كان يرتدي رداءً بنفسجيًّا يصل إلى ركبتيه، ووضع حزامًا من الجلد حول خصره، وانتعل صندلًا أو حذاءً يصل إلى منتصف ساقه. كانت ساقاه عاريتين حتى ركبتيه، ورأسه مكشوفًا. وهنا لاحظت للمرة الأولى مدى دفء الجو.
بدا لي مخلوقًا في غاية الجمال والأناقة، لكنه بدا هزيلًا على نحو لا يوصف. ذكرني وجهه المتورد بجمال المصابين بداء السل؛ هذا الجمال المتورد من أثر الحمى الذي سمعنا عنه كثيرًا. استعدت ثقتي فجأة عندما رأيته، وأزحت يدي عن الآلة.
الفصل الرابع
وقفت أنا والمخلوق المستقبلي الهزيل متواجهين. أتاني مباشرة وضحك ناظرًا في عيني. لم يبد عليه الخوف على الإطلاق، الأمر الذي أدهشني كثيرًا. ثم استدار إلى المخلوقين اللذين تبعاه وتحدث إليهما بلغة غريبة شديدة العذوبة للسامع وواضحة المخارج.
أتى آخرون وسرعان ما وجدت حولي مجموعة صغيرة من ثمانية أو عشرة أفراد من هذه المخلوقات المبهرة. خاطبني أحدهم. العجيب أنه خطر ببالي عندئذ أن صوتي سيبدو لهم غليظًا وطنانًا بشدة، فهززت رأسي نفيًا ثم أشرت إلى أذني وأنا أهز رأسي مجددًا. اقترب المخلوق خطوة مني ثم تردد ثم لامس يدي. شعرت بأطراف أخرى صغيرة رقيقة على ظهري وكتفي؛ أرادوا التأكد من أنني حقيقي، لكن لم يخفني أي من هذا. كان هناك شيء ما في هؤلاء القوم الصغار الوسيمين ألهمني الثقة فيهم، وهو تصرفهم بلطف ورقة مثل الأطفال، علاوة على أنهم بدوا شديدي الضعف حتى إنني شعرت أن بإمكاني أن أطرحهم جميعًا أرضًا كقناني البولينج، لكنني أشرت لهم فجأة محذرًا عندما رأيت أيديهم الوردية الصغيرة تتحسس آلتي. من حسن الحظ أنني انتبهت عندئذ قبل فوات الأوان إلى خطر كنت قد أغفلته، فمددت يدي إلى قضبان الآلة وفككت مسامير رافعات تشغيلها الملولبة الصغيرة ووضعتها في جيبي، ثم استدرت إلى المخلوقات مجددًا لأرى ما بوسعي فعله لأتواصل معهم.
لما تأملتهم من مسافة أقصر، لاحظت خصائص أخرى تميز هيئتهم الجميلة. جميعهم امتلك شعرًا مموجًا ينتهي بالضبط عند الرقبة والوجنة ولم ينمُ على وجوههم أي شعر على الإطلاق، أما آذانهم فكانت صغيرة إلى حد عجيب، وامتلكوا فمًا دقيقًا ذا شفاه رفيعة حمراء لامعة. أذقانهم الصغيرة كانت مدببة، أما أعينهم فكانت كبيرة وأطلت منها وداعة، لكن خيل لي أنهم يبدون اهتمامًا بي أقل من المتوقع. قد يبدو لكم هذا غرورًا مني.
وبما أنهم لم يبذلوا أي محاولات للتواصل معي ووقفوا حولي يبتسمون ويتحدثون بنبرة ناعمة رقيقة وحسب، شرعت في محادثتهم. أشرت إلى آلة الزمن ثم إلى نفسي ثم ترددت لحظة احترت فيها كيف أعبر لهم عن الزمن، فأشرت إلى الشمس، فأخذ على الفور فرد صغير عجيب وسيم الطلعة منهم يرتدي زيًّا يجمع لونه بين البنفسجي والأبيض يقلد إيماءتي، ثم أدهشني بتقليد صوت الرعد.
شعرت بالذهول لوهلة، مع أن مفاد إيماءته كان بالوضوح الكافي. طرأ على ذهني فجأة سؤال: هل هؤلاء القوم حمقى؟ ربما يصعب عليكم أن تتصوروا كيف صدمت؛ فلطالما توقعت أن يسبقنا البشر بعد عام ثمانمائة ألف وألفين بفارق هائل في المعارف والفنون وكل شيء، وها قد سألني أحدهم فجأة سؤالًا ينم عن أنه يتمتع بذكاء طفل في الخامسة من العمر. في الواقع سألني إن كنت قد قدمت من الشمس في عاصفة رعدية! بذا تأكد حكمي على ملابسهم وأطرافهم الضعيفة الهزيلة وملامحهم الرقيقة، فشعرت بالإحباط الشديد، واعتقدت لوهلة أنني بنيت آلة الزمن سدى.
أومأت برأسي وأشرت إلى الشمس وقلدت صوت هزيم الرعد بدقة أدهشتهم، فتراجعوا جميعًا خطوة إلى الوراء وانحنوا، ثم تقدم أحدهم نحوي ضاحكًا وهو يحمل حلقة من الزهور الجميلة التي لم أر مثلها من قبل ووضعها حول رقبتي، فصفق الباقون تصفيقًا شجيًّا استحسانًا لفكرته وأخذوا جميعًا يركضون جيئة وذهابًا بحثًا عن الزهور التي أخذوا يقذفونني بها ضاحكين، إلى أن كسيت بها على نحو شبه تام. بما أنكم لم تشهدوا موقفًا كهذا من قبل، فلن تستطيعوا على الأرجح أن تتخيلوا الزهور الرائعة الجميلة التي أثمرتها سنوات لا تحصى من الاستنبات. بعدئذ اقترح أحدهم عَرض لُعبتهم في أقرب مبنى، فقادوني مرورًا بأبي الهول المصنوع من المرمر الأبيض — الذي بدا أنه يراقبني طيلة الوقت مبتسمًا من دهشتي — إلى صرح رمادي كبير من أحجار متآكلة. تذكرت أثناء ذهابي معهم توقعي بثقة أن الأجيال القادمة ستتمتع برزانة وذكاء كبيرين، لم أستطيع أن أقاوم شعوري بطرافة الموقف.
كان للصرح مدخل ضخم وكانت أبعاده هائلة. انهمكت بالطبع في مراقبة القوم الصغار الذين تزاحموا أكثر فأكثر، وبمشاهدة البوابات الضخمة التي انفتحت على مصاريعها وبدت لي مظلمة يكتنفها الغموض. انطباعي العام عن العالم الذي احتضن هؤلاء القوم هو أنه أرض خربة ضربتها الفوضى تمتلئ بالشجيرات والأزهار الجميلة؛ حديقة أهملت منذ زمن لكن لم تنمُ بها الأعشاب الضارة. رأيت عددًا من العناقيد الزهرية الطويلة التي يبلغ طولها نحو قدم وتحمل زهورًا بيضاء عجيبة تنتشر بين بتلاتها الشاحبة. تناثرت تلك العناقيد كأنها نمت من تلقاء نفسها بين الشجيرات المتنوعة، لكنني لم أتفحصها عن كثب آنذاك وتركت آلة الزمن على قطعة الأرض المكسوة بالعشب بين شجيرات نبات الوردية.
نُحت باب المدخل نحتًا متأنقًا على شكل قوس، لكنني لم أتأمله عن كثب بالطبع ولو أنه هُيئ لي وأنا أمر عبره أنني رأيت ما يبدو كزخارف فينيقية دهشت من أنها تحطمت بشدة وتآكلت بفعل عوامل التعرية. التقيت عند باب المدخل المزيد من الأشخاص الذين ارتدوا ثيابًا فاتحة الألوان ودخلنا الصرح. كنت أرتدي ثيابًا متسخة من القرن التاسع عشر، وأبدو مضحكًا غريب الهيئة إلى حد ما، وأنا أضع أكاليل الزهر وتحيط بي دائرة محتشدة من الأشخاص الذين ارتدوا ملابس ناعمة فاتحة الألوان وحملوا مصابيح بيضاء ساطعة. انطلقت آنذاك وأنا محاط بعاصفة من الأصوات الضاحكة العذبة والكلام الذي يتخلله الضحك.
قاد المدخل الكبير إلى قاعة ضخمة نسبيًّا بنية اللون. سقفها غمره الظل، أما نوافذها فقد أطل منها ضوء معتدل، بعضها كان زجاجه ملونًا وبعضها بلا زجاج، أما أرضية القاعة فقد افترشت بأحجار هائلة من معدن أبيض شديد الصلابة لا بألواح أو بلاط بل بأحجار تآكلت كثيرًا بفعل الأجيال التي داستها على مر الأزمان جيئة وذهابًا على حد اعتقادي بحيث امتدت تآكلاتها على نحو أعمق بطول أكثر الطرق ارتيادًا. وجدت على طول الطريق عددًا لا حصر له من الموائد التي صنعت من ألواح من الحجر المصقول، وعلت الأرض بنحو قدم، وتراكمت عليها أكوام من الفاكهة. لاحظت أن من بينها برتقالًا وتوتًا كبير الحجم، أما أغلبها فكان غريبًا.
تناثر بين الموائد عدد كبير من الوسائد جلس عليها من قادوني، ثم أشاروا إلي أن أجلس بدوري، وأخذوا يأكلون الفاكهة بأيديهم بعفوية وهم يلقون بالقشور والسوق وما إلى ذلك في الفتحات الموجودة بجوانب الموائد. لم أنفر من حذو حذوهم، فقد شعرت بالعطش والجوع، وفيما فعلت هذا أخذت أتأمل القاعة كما يحلو لي.
لعل أكثر ما أدهشني هو أن القاعة بدت متهالكة. كانت نوافذها ذات الزجاج الملون التي لم تُظهر إلا شكلًا هندسيًّا مكسورة في مواضع عديدة، أما الستائر التي تدلت منها فقد غطاها غبار كثيف، وقد لفت انتباهي أن أحد أطراف المائدة المصنوعة من المرمر قد شُرخ، مع ذلك كان المكان بوجه عام ساحرًا يوحي بالفخامة الشديدة. ضمت القاعة ما يقرب من مائتي شخص يتناولون الطعام جلس أغلبهم على أقصر مسافة ممكنة مني وهم يتأملونني باهتمام. التمعت أعينهم الصغيرة وهم يتناولون الفاكهة وارتدى جميعهم الأردية الحريرية الناعمة القوية ذاتها.
في الواقع، كانت الفاكهة هي كل ما يتغذون عليه. لم يأكل هؤلاء القوم من المستقبل البعيد اللحم على الإطلاق، من ثم اضطررت أثناء إقامتي معهم إلى أن أحيا بدوري على الثمار، مع أنني تقت إلى تناول اللحم. تبين لي فيما بعد أن الخيول والماشية والأغنام والكلاب قد انقرضت كالديناصورات، إلا أن الفاكهة كانت طيبة الطعم جدًّا لا سيما نوع منها بدا متوفرًا طيلة فترة إقامتي هناك؛ ثمرة ناعمة تحيط بها قشرة لها ثلاثة جوانب، صرت بعدئذ أتناولها طوال الوقت. أدهشتني في البداية كل الفاكهة العجيبة والزهور التي رأيتها هناك، لكن فيما بعد أدركت مصدرها.
ها أنا ذا أحدثكم عن الفاكهة التي تناولتها على العشاء في المستقبل البعيد! ما إن أشبعت جوعي بعض الشيء، حتى عزمت على تعلم لغة هؤلاء القوم. لا شك أن هذا هو ما كان علي القيام به بعدئذ. بدت لي الفاكهة موضوعًا مناسبًا أبدأ التعلم منه، فحملت إحدى الثمار وأخذت أتحدث بنبرات استفهام وأشير مستفهمًا. واجهت في البداية صعوبة كبيرة في إيضاح مقصدي، إذ قوبلت محاولاتي بنظرات الدهشة والضحك بلا توقف، لكن بعدئذ بدا أن مخلوقًا أشقر ضئيل الحجم منهم قد فهم مقصدي فكرر لي اسمًا. كان عليهم أن يثرثروا طويلًا ويشرحوا المسألة بعضهم لبعض، وتسلوا كثيرًا بأولى محاولاتي لتقليد أصوات لغتهم الرقيقة الرفيعة، إلا أنني شعرت بينهم كمعلم وسط أطفال، فثابرت في محاولاتي إلى أن تعرفت على الكثير من أسماء الأشياء ثم انتهيت إلى ضمائر الإشارة والفعل «يأكل»، لكن هذا استغرق وقتًا طويلًا، فسرعان ما مل القوم مني وأرادوا التملص من أسئلتي، فقررت مضطرًّا أن أتركهم يعلمونني بجرعات ضئيلة، عندما يجدون في أنفسهم ميلًا لتعليمي، وبالفعل كانت الجرعات ضئيلة للغاية في واقع الأمر؛ إذ لم ألق في حياتي قومًا أكثر كسلًا أو قومًا يملون بهذه السهولة.
سرعان ما اكتشفت سمة عجيبة في مضيفي الصغار، وهو أنهم غير مبالين؛ كانوا يأتونني كالأطفال صائحين في لهفة ودهشة ثم يكفون سريعًا عن تأملي ويبتعدون بحثًا عن تسلية أخرى. وقد لاحظت أن العشاء وبداية حواري معهم انتهيا ولاحظت أنه انصرف تقريبًا كل من أحاطوا بي أولًا، ومن العجيب أيضًا أنني سرعان ما فقدت اهتمامي بهم. خرجت من بوابة هذا الصرح إلى العالم الذي غمره ضوء الشمس مجددًا ما إن شبعت. ظللت ألقى المزيد من هؤلاء القوم الذين تعقبوني لمسافة قصيرة وثرثروا وضحكوا مني ثم تركوني وشأني بعد أن ابتسموا وأومئوا لي بإشارات ودودة.
عندما خرجت من القاعة الهائلة، كان هدوء المساء يخيم على العالم، وقد أضاءت المشهد أشعة الشمس الدافئة التي آذنت بالمغيب. بدت الأشياء في البداية محيرة بدرجة كبيرة، إذ كان كل شيء مختلفًا تمامًا عن العالم الذي عهدته، حتى الزهور. كان الصرح الذي غادرته يقع على منحدر وادي نهر شاسع، أما نهر التيمز فقد ابتعد ميلًا تقريبًا عن موقعه الحالي. ارتأيت الصعود إلى قمة التل التي تقع على مسافة ميل ونصف تقريبًا ليتاح لي إلقاء نظرة أشمل على كوكبنا في العام ٨٠٢٧٠١ (ثمانمائة ألف وألفين وسبعمائة وواحد) ميلادية؛ فهذا هو التاريخ الذي سجله العداد الصغير بآلتي.
بحثت أثناء سيري عن أي انطباع قد يساعدني على فهم قصة الأطلال الساحرة التي انتهى إليها العالم؛ فقد آل بالفعل إلى أطلال. تكدست على سبيل المثال كومة هائلة من الجرانيت في نقطة مرتفعة قليلًا من التل تختلط بكمية هائلة من الألومينيوم، مشكِّلةً تكدسًا من الجدران الهائلة والحطام الذي نمت بينه نباتات تشبه أبنية الباغودا — لعلها من الفصيلة القراصية — إلا أن أوراقها شابتها مسحة من اللون البني ولم تكن بها أشواك. لم يكن لدي شك في أنها أطلال مهجورة لبناء هائل لا أستطيع أن أجزم لِمَ بُني. قُدر لي — فيما بعد — أن أخوض في تلك النقطة تجربة شديدة الغرابة، هي الخيط الأول الذي قادني لاكتشاف أعجب، لكنني سأتحدث عن ذلك في الوقت المناسب.
نظرت حولي وقد خطرت لي فكرة على نحو مفاجئ؛ أدركت وأنا أستلقي على مرتفع لبعض الوقت أن المنازل الصغيرة لم يعد لها وجود. لم تعد هناك على ما يبدو بيوت أو منازل للأسر؛ تناثرت مبان تشبه القصور في كل مكان بين الخضرة، أما المنازل والأكواخ التي تميز ريفنا الإنجليزي فقد اختفت.
قلت لنفسي: «إنها الشيوعية.»
وبعدها مباشرة واتتني فكرة أخرى. نظرت إلى الأشخاص الستة الصغار الذين تعقبوني، فلاحظت على الفور أنهم يرتدون جميعًا زيًّا بنفس الشكل، ولا ينمو على وجوههم أي شعر ويملكون أذرعًا وسيقانًا مستديرة كالنساء. ربما قد يبدو مستغربًا أنني لم ألحظ هذا من قبل. لكن كل شيء كان شديد الغرابة. حينئٍذ رأيت الحقيقة بالوضوح الكافي. بدا هؤلاء القوم متشابهين في الملبس والمظهر وفي كل ما يفصل الآن بين الذكر والأنثى من حيث البنية. بدا أطفالهم لي كأنهم نموذج مصغر من آبائهم، من ثم استنتجت أن أطفال هذا الزمن ينضجون مبكرًا جدًّا، وقد عثرت فيما بعد على شواهد كثيرة تدل على هذا.
عندما لاحظت الحياة اليسيرة الآمنة التي يعيشها هؤلاء القوم، شعرت أن تشابه الجنسين هو ما قد يتوقعه المرء على أية حال، فقوة الرجل ورقة المرأة ومنظومة الأسرة واختلاف وظائف الرجل عن المرأة هي ضرورات قتالية في عصر تحكمه القوة البدنية. فعندما يكون عدد السكان متوازنًا وكبيرًا تكون كثرة الإنجاب نقمة لا مزية للدولة، وعندما يندر وقوع العنف ويعيش الأطفال في مأمن تقل — بل تنعدم — الحاجة إلى الأسرة كثيرة الإنجاب، وتختفي الحاجة إلى اختصاص كل من الذكر والأنثى بوظيفة معينة حسب احتياجات الأطفال، ولا تكون هناك حاجة إلى ذلك حقيقة. نحن نشهد اليوم بدايات هذا التحول في زماننا، وفي المستقبل سيصبح تامًّا، لكنني أدركت فيما بعد كم كنت مخطئًا.
فيما استغرقت في هذه التأملات، لفت انتباهي هيكل صغير جميل يبدو كبئر تحت قبة. فكرت برهة في غرابة وجود الآبار إلى ذلك الوقت، ثم واصلت سلسلة تخميناتي. لم تكن هناك مبان كبيرة بالقرب من قمة التل، وبما أن قدرتي على المشي بدت خارقة لهؤلاء القوم، تُركت وشأني للمرة الأولى، فصعدت إلى قمة التل وقد تملكني شعور بالحرية ورغبة في المغامرة.
هنا عثرت على كرسي من معدن أصفر أجهله، تآكل وعلاه صدأ وردي وغطت الطحالب نصفه، شُكِلت ذراعه ونحتت على هيئة رأس عنقاء. جلست عليه وتأملت عالمنا القديم مترامي الأطراف تحت الشمس الآخذة في الغروب في هذا اليوم الطويل، فرأيت أعذب مشهد وقعت عليه عيناي في حياتي. كانت الشمس قد غابت وراء الأفق وسطع الغرب بسنًا ذهبي شابته مسحة من أشعة بنفسجية وقرمزية، وافترش وادي نهر التيمز أسفل التل، حيث امتد النهر كفولاذ مصقول. حدثتكم من قبل عن القصور الهائلة التي تناثرت بين المساحات الخضراء متنوعة الألوان، بعضها أصبح أطلالًا وبعضها ما يزال عامرًا. برز في كل مكان هيكل فضي أو أبيض في حديقة أطلال كوكب الأرض وتناثرت قبب أو مسلات رأسية مدببة. لم تكن هناك أسوار أو لوحات تدل على ملكية، أو أثر على قيام الزراعة. تحول الكوكب بأسره إلى حديقة.
أثناء تأملي بدأت أضع تفسيرًا لمشاهداتي، وبدا هذا التفسير كالآتي (أدركت فيما بعد أنني لم أصل إلا إلى نصف الحقيقة أو لمحة عن أحد وجوهها).
بدا لي أنني وجدت البشرية في مرحلة من مراحل اضمحلالها. دعتني حمرة الغروب إلى التفكر في نهاية البشرية. انتبهت للمرة الأولى إلى أن الجهود التي نبذلها اليوم على الصعيد الاجتماعي قد أثمرت نتاجًا عجيبًا، لكنكم لو أعدتم تأملها ستجدونها قد أثمرت نتاجًا منطقيًّا. القوة تتولد عن الحاجة، والأمن يعطي قيمة وأهمية للضعف. العمل على تحسين الظروف المعيشية — وهو العملية الفعلية التي تدفع نحو التحضر، لتجعل الحياة شيئًا فشيئًا أكثر أمنًا — تواصل بخطى ثابتة إلى أن بلغ ذروته، وانتصرت البشرية على الطبيعة مرة تلو الأخرى، وصارت الأحلام التي نحلم بها الآن مشروعات، أُديرت ونُفذت، فكانت النتيجة هي ما رأيت!
لا تزال الزراعة والصحة العامة في طورهما البدائي اليوم. علوم زماننا لم تكافح إلا جانبًا صغيرًا من الأمراض البشرية، لكنها مع ذلك تنشر عملياتها بخطًى ثابتة مستمرة. وعلم الزراعة والبستنة لدينا اليوم يقضيان على الأعشاب الضارة هنا وهناك وينبتان عشرين نوعًا أو نحو ذلك من النباتات الصحية، تاركين العدد الأكبر كي يسهم في تحقيق التوازن بقدر المستطاع، ونعمل اليوم على تحسين سلالات النباتات والحيوانات — المحدودة جدًّا — التي نفضلها تدريجيًّا عبر التربية الانتقائية، فننتج اليوم ثمرة خوخ جديدة أفضل جودة، وثمرة عنب بلا بذور، وزهورًا أجمل وأكبر، وقطيعًا أفضل من الماشية. نفعل هذا تدريجيًّا لأن الأمور لم تتضح لنا بعد، ولم نصل إلى حقائق ثابتة، ومعارفنا محدودة، علاوة على أن الطبيعة تقاومنا وتتجاوب ببطء لأيدينا الخرقاء، لكن يومًا ما كل هذا سيسير على نسق أفضل وتتحسن الأمور. هذا هو ما نتجه إليه الآن بالرغم من العواصف التي نواجهها. سيصبح العالم بأسره ذكيًّا مثقفًا متعاونًا، ونتجه أسرع فأسرع إلى تسخير الطبيعة، وفي النهاية سوف نعيد ضبط التوازن بين الحيوان والنبات بما يناسب حاجات الإنسان.
في رأيي، لا بد أن عملية الضبط تلك قد جرت على نحو جيد على مر الأزمان أو على مر الفترة الزمنية التي قفزت عبرها آلتي، فقد خلا الهواء من الحشرات، ولم تنمُ الأعشاب الضارة أو الفطريات، وإنما نمت الفاكهة والأزهار المبهجة الجميلة في كل مكان، وطارت الفراشات زاهية الألوان هنا وهناك. بعبارة أخرى، تحققت الغاية المثلى للطب الوقائي، وقُضي على الأمراض، ولم أجد أثرًا للأمراض المعدية طوال فترة إقامتي. سيتعين علي أن أخبركم فيما بعد أنه حتى عمليتا التعفن والتحلل قد تأثرتا إلى حد بعيد بتلك التغيرات.
تحققت أيضًا انتصارات على الصعيد الاجتماعي؛ فقد وجدت البشر يسكنون مساكن فخمة، ويرتدون ثيابًا رائعة الجمال، لكنني وجدتهم بلا عمل. لم يكن هناك أثر لصراع اجتماعي أو اقتصادي، واختفت المحال والإعلانات والمرور وكل أشكال التجارة التي تشكل عالمنا اليوم. كان من البديهي أن تخطر بذهني في تلك الأمسية الذهبية فكرة الجنة الاجتماعية. ظننت أن مشكلة الزيادة السكانية عولجت وتوقف عدد السكان عن الارتفاع.
لكن واكب هذا التغيير في الظروف تأقلم حتمي، فما هو سبب ذكاء الإنسان وقوته؛ ما لم يكن علم الأحياء إلا مجموعة من الأخطاء؟ إنها الحرية والمصاعب؛ بعبارة أخرى، السبب هو الظروف التي تجعل النشيط، القوي، الذكي يحيا، فيما ينهزم الضعيف؛ الظروف التي تشدد على أهمية تحالف القادرين وضبط النفس والصبر والحسم. منظومة الأسرة والمشاعر التي نشأت منها، من الغيرة الضارية، وحنان الأب والأم على أطفالهما وتفانيهما من أجلهم، كل هذا كان له ما يبرر وجوده ويدعمه في ظل عرضة الصغار للخطر الوشيك، لكن أين هذا الخطر الوشيك في هذا الوقت؟ يبرز اليوم شعور سوف يتنامى يعارض الغيرة الزوجية ومشاعر الأمومة الحادة والعاطفة بكل صورها؛ هذه المشاعر التي لا حاجة لها الآن، والتي تُشعرنا بعدم الارتياح وتصبغنا بنوع من الهمجية وتعكر صفو الحياة المتمدنة الهادئة.
فكرت في الأجسام الهزيلة لهؤلاء القوم وفي ذكائهم المحدود، وفي تلك الأطلال الضخمة الكثيرة، فزاد اقتناعي بانتصار الإنسان تمامًا على الطبيعة. تمتعت البشرية بالقوة والحيوية والذكاء واستخدمت طاقاتها الوافرة في تغيير ظروف حياتها، وها قد أتت نتيجة هذا التغيير.
أضحت همة الإنسان التي لا تفتر — والتي ننظر نحن إليها على أنها قوة — ضعفًا مع تبدل ظروف الحياة إلى الراحة والأمان التام؛ فحتى في زماننا اليوم بعض الميول والرغبات التي كانت فيما مضى ضرورية للبقاء تسبب الفشل على الدوام. على سبيل المثال: الشجاعة البدنية وحب القتال لا يساعدان كثيرًا الإنسان المتحضر، بل ربما يسببان له المتاعب، وفي ظل الأمن والاستقرار، لا تصبح هناك حاجة للقوة البدنية والذهنية. قدرت أنه لسنوات لا حصر لها لم تعد الحروب وعنف الأفراد والحيوانات الضارية تمثل خطرًا، ولم تعد هناك أمراض موهنة تتطلب بنية جسمانية قوية، ولا حاجة للكدح. وفي ظل حياة كهذه من نعدهم ضعفاء مهيئون تمامًا كالأقوياء؛ فلم تعد سمة الضعف تنطبق عليهم فعليًّا، بل إنهم حقيقة مهيئون أكثر من الأقوياء؛ إذ إن الأقوياء تزعجهم طاقتهم التي لا يجدون لها متنفسًا. لا شك أن بهاء البنايات التي رأيتها كان نتاجًا لفيض الطاقات البشرية — التي لم تعد لها حاجة الآن — قبل أن ينتهي بالإنسان الحال إلى الانسجام مع ظروف معيشته التي كانت ثمرة الانتصار الذي بدأ السلام النهائي الرائع. لطالما كان هذا هو مصير الطاقات البشرية في ظل الأمن؛ إنها تقود إلى الفن والشهوانية ثم إلى الإعياء والاضمحلال.
لكن حتى هذا الباعث على الإبداع سيتلاشى في نهاية الأمر، وقد تلاشى تقريبًا في الزمن الذي رأيته. كل ما تبقى من عشق الفن في هذا الزمن هو التزين بالأزهار، والرقص والغناء تحت ضوء الشمس، لا أكثر، وحتى تلك الممارسات ستتلاشى في نهاية الأمر، وتتحول إلى قنوع بالتراخي. ما يجعلنا حريصين على الكدح باستمرار هو المعاناة والضرورة، وقد بدا لي آنذاك أن هذا الكدح البغيض قد آل أخيرًا إلى نهاية.
اعتقدت وأنا أقف في الظلام الذي أخذ يلقي بظلاله أنني بهذا التفسير قد أحطت بمشكلة العالم وسر هؤلاء القوم اللطفاء. لعل الضوابط التي ابتكروها للحيلولة دون الزيادة السكانية قد نجحت أكثر من اللازم وأخذت أعدادهم في التضاؤل بدلًا من أن تظل ثابتة. هذا يفسر الأطلال المهجورة. ومع ذلك كان تفسيري أبسط وأسهل مما ينبغي، شأنه شأن أغلب النظريات الخاطئة!
الفصل الخامس
فيما وقفت مستغرقًا في التفكير في هذا الانتصار البشري التام على الطبيعة، طلع البدر مصفرًّا في طوره الأحدب وسط فيض من ضوء فضي برز من الشمال الشرقي. كف القوم الصغار المرحون أسفل التل عن التجوال، ومرت بجانبي بومة مرفرفة بجناحيها كالسهم في صمت. جعلني صقيع الليل أرتجف، فقررت أن أهبط التل لأجد مكانًا أنام فيه.
بحثت عن البناء الذي زرته ثم مددت بصري إلى تمثال أبي الهول الأبيض الذي يرتكز على قاعدته البرونزية وقد أخذ يتضح شيئًا فشيئًا مع سطوع ضوء القمر التدريجي. استطعت أن أبصر شجر البتولة أمامه وشجيرات نبات الوردية المتشابكة التي بدت سوداء في ضوء القمر الشاحب، كما كان هناك المرج الصغير. نظرت ثانية إلى المرج فتسلل إلى نفسي شك غريب قذف في قلبي الرعب وأذهب عني صفائي. قلت لنفسي بإصرار: «ليس هذا هو المرج.»
لكنه كان بالفعل المرج الصغير؛ إذ كان وجه التمثال الأبيض الشاحب ينظر صوبه. هل بإمكانكم أن تتخيلوا شعوري عندما أدركت هذا؟ لكن لن يسعكم هذا. كانت آلتي قد ضاعت!
خطر لي على الفور احتمال ألا أعود إلى عصري، أن أترك بلا حيلة في هذا العالم الجديد العجيب ونزلت علي هذه الخاطرة كالصاعقة، شعرت بآثارها في جسدي؛ احتبست أنفاسي في حلقي ووجدت نفسي أركض في ذعر واثبًا بخطى كبيرة هابطًا منحدر التل. هويت إحدى المرات برأسي وأصبت بجرح في وجهي، لكنني نهضت واثبًا، واستمررت في الركض شاعرًا بسيل من الدم الدافئ يتدفق إلى وجنتي وذقني. ظللت طوال هذا الوقت أحدث نفسي قائلًا: «لا بد أنهم حركوا الآلة قليلًا ودفعوها تحت الشجيرات لإفساح الطريق.» لكنني ركضت بكل قوتي مطمئنًا نفسي طيلة الوقت — طمأنينة تقترن أحيانًا بلحظات ارتياع — وأنا أدرك أنه من الحمق أن أطمئن إلى هذا، وقد تنبهت غريزيًّا إلى أن الآلة قد سلبت مني. أعتقد أنني قطعت المسافة كلها من قمة التل إلى المرج الصغير (وهي مسافة تبلغ نحو ميلين) في غضون عشر دقائق تقريبًا، وأنا لست شابًّا. لعنت بصوت مرتفع حماقتي التي ارتكبتها بسذاجة عندما تركت الآلة، فأهدرت بعضًا من أنفاسي. صحت عاليًا، لكن لم يجبني أحد. بدا أن هذا العالم كله يخيم عليه السكون تحت ضوء القمر.
عندما وصلت إلى المرج تحققت أسوأ مخاوفي؛ لم أجد أثرًا للآلة. وعندما نظرت إلى المنطقة الخالية بين الشجيرات السوداء المتشابكة، سرت في جسدي قشعريرة وشعرت بأنه قد يغشى علي. ركضت حولها ثائرًا، وكأن الآلة قد خُبئت في ركن، ثم توقفت فجأة وأنا أمسك بشعري بين يدي. كان تمثال أبي الهول منتصبًا على قاعدته البرونزية فوقي بلونه الأبيض، يلمع ويبدو شاحبًا تحت ضوء القمر البازغ، وبدا أنه يبتسم ساخرًا مما أصابني من يأس.
ربما كنت سأواسي نفسي بالتعلل بأن القوم الصغار وضعوا الآلة في مكان آمن من أجلي، لولا أنني كنت واثقًا من أنهم غير قادرين بدنيًّا وذهنيًّا على هذا. وهو ما ألقى في نفسي الرعب؛ شعوري بوجود قوة خفية حتى هذا الوقت تدخلت لتخفي آلتي. لكنّ ثمة أمرًا واحدًا كنت موقنًا منه؛ لا يمكن أن تكون الآلة قد انتقلت عبر الزمن إلا إذا كان عصر آخر قد أنتج نسخة مطابقة منها. فعند ربط الرافعات بإحكام — سوف أريكم طريقة ذلك فيما بعد — لا يستطيع أي شخص أن يعبث بالآلة لتسافر عبر الزمن. لقد نُقلت مكانيًّا وخُبئت، لكن أين عساها تكون؟
لعلي أصبت بنوبة هستيرية آنذاك. أذكر أنني ركضت بقوة بين الشجيرات المحيطة بتمثال أبي الهول من كل جانب التي أضاءها ضوء القمر، وأخفتُ حيوانًا أبيض اللون حسبته في الضوء الخافت غزالة صغيرة. وأذكر أيضًا أنني أخذت أضرب الشجيرات بقبضة يدي حتى أصيبت مفاصل أصابعي بجروح بليغة ونزفت دمًا بفعل الأغصان المتكسرة، ثم اتجهت إلى المبنى الحجري الضخم باكيًا وأنا أهذي كالمجنون من أثر معاناتي. كانت القاعة الضخمة مظلمة ومهجورة، يخيم عليها الصمت. انزلقت على الأرض غير المستوية، وسقطت فوق إحدى النضد المصنوعة من حجر الملكيت؛ وكدت أهشم قصبة ساقي. أشعلت عود ثقاب وسرت مارًّا بالستائر التي غطاها التراب التي حدثتكم عنها.
وهنا عثرت على قاعة أخرى ضخمة تغطي أرضها وسائد نام عليها عشرون فردًا أو نحو ذلك من القوم الصغار. لم يكن لدي شك في أنهم وجدوا ظهوري للمرة الثانية غريبًا بدرجة كافية؛ إذ أتيت من جوف الظلام الساكن أصيح بأصوات غير مفهومة حاملًا عود ثقاب متوهجًا. لقد نسوا أعواد الثقاب. أخذت أصيح فيهم كطفل غاضب وأنا أمسك بهم وأهزهم معًا: «أين آلتي؟» لا بد أنهم وجدوا هذا شديد الغرابة. بعضهم ضحك، لكن أغلبهم بدا عليه الخوف الشديد. وعندما شاهدتهم وهم يقفون حولي خطر لي أن محاولة إحياء الشعور بالخوف فيهم هو أكثر ما قد ينم عن حمق في ظل هذه الظروف، فقد استنتجت من سلوكهم نهارًا أن الخوف قد آل إلى النسيان بلا شك.
ألقيت فجأة عود الثقاب، وطرحت في طريقي أحد القوم الصغار أرضًا، وسرت متخبطًا عبر قاعة تناول الطعام الضخمة مغادرًا القصر ليغمرني ضوء القمر. سمعت صرخات رعب ووقع أقدامهم الصغيرة وهم يركضون ويتعثرون في كل مكان. لا أذكر كل ما فعلته أثناء طلوع القمر. أعتقد أن شعوري المفاجئ بالضياع جعلني أجن. شعرت في يأس بالانقطاع عن بني جنسي؛ بأنني مخلوق عجيب في عالم مجهول. الأرجح أنني أخذت أهذي على نحو هستيري، أصرخ مستغيثًا بالسماء وبالأقدار. أذكر أنه انتابني شعور شديد بالتعب مع مضي الليل الطويل الذي هجره الأمل، وأنني فتشت في أماكن غير منطقية في كل حدب وصوب، وتحسست طريقي بين الأطلال التي غمرها ضوء القمر لألمس مخلوقات عجيبة بين الظلال السوداء، وأنني تمددت آخر الأمر بالقرب من تمثال أبي الهول أبكي في منتهى التعاسة. لم أكن أملك سوى البؤس. ثم نمت واستيقظت مجددًا وقد اكتمل طلوع النهار، وعلى مقربة مني وثب عصفوران على الأرض المكسوة بالعشب.
جلست في باكورة ذاك الصباح أحاول أن أتذكر كيف بلغت هذا المكان ولِمَ ساورني هذا الشعور العميق بالخذلان واليأس، ثم اتضحت لي الأمور. مع تجلي ضوء النهار على نحو كافٍ، أمكنني إلى حد ما أن أتأمل حالي بوضوح. تذكرت الحماقات الهوجاء التي ارتكبتها مع الجنون الذي تملكني الليلة الماضية وحدثت نفسي أحثها على التعقل. قلت: «لنفترض الأسوأ؛ لنفترض أن آلة الزمن فُقدت تمامًا، أو لعلها حُطمت. عليّ إذن أن أهدأ وأصبر، وأن أتعلم أسلوب حياة هؤلاء القوم لأكوِّن فكرة واضحة عن ماهية مشكلتي وعن وسائل الحصول على خامات وأدوات جديدة؛ لعلي أصنع في نهاية المطاف آلة أخرى.» سيكون هذا هو أملي الوحيد. لعله أمل ضعيف لكنه أفضل من أن يتسلل إلي اليأس. وقد كان على أي حال عالمًا عجيبًا وجميلًا.
لكن آلة الزمن على الأرجح قد أُخذت. مع هذا علي أن أهدأ وأصبر وأن أعثر على مخبئها وأستعيدها بالقوة أو بالحيلة. من ثم نهضت مسرعًا وتأملت المكان من حولي متسائلًا أين يمكنني أن أستحم، فقد شعرت بالتعب وبأن عظامي متيبسة وكنت أحمل أدران السفر. أشعرني هذا الصباح المنعش بالرغبة في أن أحظى بانتعاش مماثل. كنت قد استنزفت مشاعري. وعندما انصرفت لأهتم بشئوني وجدت نفسي أتعجب من نوبة الاهتياج الشديد التي انتابتني الليلة الماضية. فحصت بعناية الأرض المحيطة بالمرج الأخضر الصغير، وأهدرت بعض الوقت في سؤال المارين من القوم الصغار بلا جدوى. جميعهم لم يفهم إشاراتي. البعض منهم قابلها بالتبلد وحسب، والبعض الآخر حسبها مزحة وضحك ساخرًا مني. كان أصعب ما واجهته هو أن أمنع نفسي من صفع وجوههم الوسيمة الضاحكة. كانت غريزة حمقاء، لكنني لم أستطع أن أكبح جيدًا الشيطان الذي ولده الخوف والغضب الأعمى بداخلي، وقد ظل متلهفًا لاستغلال حيرتي. هدتني أرض المرج إلى ما هو أفضل؛ وجدت حفرة به تقع في منتصف الطريق تقريبًا بين قاعدة تمثال أبي الهول وآثار قدمي في المكان الذي جاهدت فيه لرفع الآلة التي انقلبت على الأرض، وكانت هناك حولي آثار أخرى لإزالتها مع آثار أقدام عجيبة رفيعة بدا لي أنها لحيوان الكسلان، مما جعلني أنتبه أكثر إلى قاعدة التمثال. أعتقد أنني أخبرتكم أنها كانت مصنوعة من البرونز ولم تكن مجرد كتلة حجرية، بل زُينت جيدًا بلوحين مثبتين بقوة على كلا جانبيها، قرعتهما فوجدت القاعدة خاوية، ثم درست بعناية اللوحين فوجدتهما منفصلتين عن أجزاء قاعدة التمثال. لم يكن بهما مقبض باب أو ثقب مفتاح بل يحتمل أنهما — إن كانا بابين كما حسبتهما — كانا يفتحان من الداخل. من ثم بدت لي حقيقة واحدة واضحة؛ لم يتطلب الاستنتاج بأن آلتي داخل قاعدة التمثال الكثير من التفكير، لكن كانت المشكلة كيف أصل إلى هناك.
أبصرتْ رأسي اثنين من القوم الصغار يرتديان رداءين برتقاليي اللون بين شجيرات تحت بعض أشجار التفاح المزهرة. كانا يتجهان صوبي فالتفتُّ إليهما ودعوتهما إلى القدوم، فأتيا وحاولت أن أُوصل إليهما رغبتي في فتح قاعدة التمثال البرونزية مشيرًا إليها، لكن ما إن فعلت، حتى تصرفا بمنتهى الغرابة. لا أعرف كيف أصف لكم التعبير الذي ارتسم على وجهيهما. إنه التعبير ذاته الذي سيرتسم على وجه امرأة رقيقة إن أشرت إليها بإشارة تتنافى على نحو صارخ مع ما تقتضيه اللياقة، وغادرا كما لو أنهما تلقيا أكبر إهانة قد يتلقاها شخص. جربت الأمر نفسه مع فتى صغير يرتدي رداءً أبيض اللون ويبدو لطيفًا لأحصل على النتيجة نفسها. أشعرني سلوكه نوعًا ما بالخجل من نفسي، لكنني كما تعلمون أردت آلة الزمن. من ثم كررت المحاولة معه، فلما ولى عني شأنه شأن الآخرين، لم أستطع تمالك أعصابي. لحقت به في ثلاث خطوات وأمسكت به من الجزء المرتخي من ردائه حول عنقه وأخذت أجذبه نحو التمثال، لكن عندما لاحظت الهلع والنفور اللذين ارتسما على وجهه أطلقت سراحه فجأة.
لكنني لم أنهزم بعد. قرعت الألواح البرونزية بقبضتي، فحسبت أنني سمعت شيئًا يتحرك بداخل قاعدة التمثال. لأكون أكثر وضوحًا، حسبت أنني سمعت صوت ضحك مكتوم، لكنني على الأرجح كنت مخطئًا. بعدئذ أخذت حصاة كبيرة من النهر وعدت وقرعت قاعدة التمثال إلى أن صنعت دائرة في زخارفها وزال صدأ البرونز عنها في هيئة رقائق مفتتة. لا شك أن صوت قرعي لقاعدة التمثال تنامى إلى أسماع القوم الصغار الضعفاء على مسافة ميل على كلا الجانبين، لكن بلا طائل. رأيت حشدًا منهم على المنحدرات وهم يتأملونني خلسة. في نهاية الأمر جلست شاعرًا بالحر والتعب أتأمل المكان، غير أن قلقي الشديد منعني من إطالة التأمل، فطباعي الغربية لا تسمح بهذا. يمكنني أن أعكف على حل مشكلة لأعوام، أما أن أنتظر مكتوف الأيدي لأربع وعشرين ساعة، فهذا أمر آخر.
نهضت بعد فترة، وأخذت أسير بلا هدى بين الشجيرات نحو التل من جديد. حدثت نفسي قائلًا: «عليَّ أن أصبر، وأن أترك تمثال أبي الهول وشأنه إن أردت آلتي من جديد. إن كان هؤلاء القوم قد تعمدوا أخذ آلتي فتحطيم ألواحهم البرونزية لن يجدي الكثير، وإن لم تكن تلك هي غايتهم، فسأستعيدها ما إن أطلب منهم ذلك. لا أمل في الجلوس بين كل هذه الأشياء المجهولة والتوقف عند لغز كهذا؛ هنا قد يستحيل الأمر هوسًا. علي أن أواجه هذا العالم، وأن أدرس أساليبه، وأراقبه، وأن أحاذر من تعجل تخمين معناه، وفي النهاية سأجد مفتاح حل جميع تلك الألغاز.» ثم خطرت لي فجأة طرافة موقفي؛ لقد أمضيت أعوامًا من العمل والكدح لأصل إلى المستقبل وها أنا ذا أتوق بشدة إلى مغادرته. لقد أوقعت نفسي في أعقد وأصعب فخ صنعه إنسان على الإطلاق. أنا من وضعت نفسي في هذه الورطة، ولا أستطيع إخراج نفسي منها. وضحكت بصوت مرتفع.
بدا لي وأنا أستكشف القصر الكبير أن القوم الصغار يتجنبونني. ربما هُيئ لي ذلك، ولعل لهذا علاقة بقرعي لبوابات قاعدة التمثال البرونزية، لكنني كنت موقنًا بقدر لا بأس به من أنهم يتحاشونني. بيْد أنني حرصت على ألا أظهر أنني أعبأ بذلك وأن أمتنع عن ملاحقة أي منهم. وفي غضون يوم أو اثنين عادت الأمور سيرتها الأولى. أحرزت تقدمًا قدر المستطاع في فهم لغتهم، وتوسعت في استكشافاتي هنا وهناك، لكن بدا لي أن لغتهم مفرطة في البساطة؛ إما هذا أو أن هناك ما خفي عني وفاتني في فهمها. لم تشتمل لغتهم تقريبًا إلا على الكلمات التي تشير إلى المادي الملموس والأفعال، وبدا أنها لا تشمل إلا القليل من الأسماء المجردة، ولا تستخدم إلا القليل من المجاز. كانت جمل هؤلاء القوم في العادة بسيطة، تتكون من كلمتين، وقد عجزت عن نقل أو فهم أي جمل سوى الجمل الأبسط، فحسمت أمري بأن أتناسى قدر الإمكان آلة الزمن ولغز الأبواب البرونزية تحت تمثال أبي الهول إلى أن تقودني معرفتي مع اتساعها إليهما بصورة طبيعية. لكن ظل شعور ما يقيدني في محيط لا يبعد إلا أميالًا قليلة عن نقطة وصولي.
بدا كل ما رأيته من هذا العالم غنيًّا بالثروات كوادي نهر التيمز. لقد أبصرت من فوق كل تل تسلقته الكثير من المباني الرائعة التي تتنوع في مادة بنائها وشكلها، ووجدت أدغال النباتات دائمة الخضرة ذاتها في كل مكان، والأشجار المزهرة ذاتها، وأشجار السرخس، وجرى الماء ملتمعًا بلون كلون الفضة في كل مكان، ومن خلفه علت أرض التلال الزرقاء وهبطت كالموج واختبأت وسط السماء الصافية. من الغرائب التي لفتت انتباهي بعض الوقت وجود العديد من الآبار دائرية الشكل، شديدة العمق. أحدها كان يقع بجانب طريق صعود التل الذي سلكته في أول مرة أجول بها المكان. كان إطاره شأنه شأن الآبار الأخرى من البرونز، مزخرفًا ومحميًّا على نحو عجيب من خلال قبة صغيرة تقيه المطر، لكنني عندما جلست إلى جانب تلك الآبار، وأنعمت النظر بداخلها، لم أجد أثرًا للماء، ولم يتبد لي أي شيء عندما أشعلت عود ثقاب. غير أنني سمعت فيها كلها صوتًا كالهدير المكتوم المتواصل، يشبه صوت عمل محرك ضخم، واكتشفت من وهج أعواد الثقاب التي أشعلتها أن تيارًا منتظمًا من الهواء يسري عبر تلك المهاوي، ولما ألقيت قصاصة ورق في جوف أحدها امتُصت القصاصة بداخل البئر سريعًا واختفت بدلًا من أن تهبطه بنعومة وبطء.
بعد وهلة قادتني أفكاري إلى الربط بين تلك الآبار وبين أبراج طويلة تتناثر في كل مكان على المنحدرات؛ ففوق هذه الأبراج كان هناك اهتزاز في الهواء كهذا الذي يراه المرء في يوم حار أعلى شاطئ ملتهب من شدة الحر. بالربط بين كل تلك المعطيات، توصلت إلى احتمال قوي وهو وجود نظام تهوية تحت الأرض تعذر علي فهم مغزاه. في البداية، ملت إلى الربط بينه وبين نظام الصرف الصحي عند هؤلاء القوم. كان هذا استنتاجًا بديهيًّا، لكنني كنت مخطئًا تمامًا.
عليَّ هنا أن أقر بأن درايتي بالمصارف وطرق النقل وما إلى ذلك كانت بسيطة جدًّا في هذا المستقبل الواقعي. ورد في بعض ما قرأت عن الرؤى التي تتناول المدينة الفاضلة والأزمان القادمة الكثير من التفاصيل عن المباني والنسق الاجتماعي المتصور وما إلى ذلك، لكن فيما يسهل الحصول على كل هذه التفاصيل عندما يكون العالم كله في مخيلة المرء يصعب على مسافر حقيقي الوصول إليها وسط وقائع كتلك التي وجدتها في هذا الزمن. تخيل ما الذي سيقصه زنجي قدم لتوه من وسط أفريقيا عن لندن عندما يعود إلى قبيلته! ما الذي يعرفه عن شركات السكك الحديدية؟ عن الحركات الاجتماعية؟ وأسلاك التلغراف؟ والهاتف؟ وشركة نقل الطرود والنظام البريدي وما شابه؟ علينا أن نكون على استعداد كاف لشرح هذه الأشياء له! وحتى مع ما علمه، إلى أي مدى بمقدوره إفهام أو إقناع أصدقائه الذين لم يسافروا بما عرفه؟ فكروا إذن في الفجوة البسيطة التي تفصل بين الزنجي والرجل الأبيض في زماننا، والفجوة الكبيرة التي تفصل بيني وبين أبناء العصر الذهبي! لقد انتبهت إلى الكثير مما لا يُرى بالعين، مما أسهم في راحتي، لكن بخلاف شعوري العام بأن هناك منظومة تلقائية، أخشى أنني لا أستطيع أن أنقل لكم ما يكفي عن أوجه الاختلاف.
على سبيل المثال، فيما يتصل بالتخلص من جثث الموتى، لم أر أثرًا لحرق جثث أو أي شيء يوحي بوجود مقابر، لكن خطر لي أنه من المحتمل أن تكون هناك مدافن في مكان ما لم أصل إليه في استكشافاتي. من هنا، طرحت على نفسي من جديد هذا السؤال عامدًا، وفي البداية عجز فضولي تمامًا عن إماطة اللثام عن الأمر. شعرت بالحيرة إزاء تلك المسألة، وهداني التفكير إلى الانتباه لشيء آخر زاد من حيرتي. لم يكن هناك مسن واحد أو مقعد بين هؤلاء القوم.
يجب أن أقر بأن قناعتي بنظرياتي الأولى عن التحضر التلقائي وعن ترف البشرية لم تصمد طويلًا، لكنني لم أستطع أن أتوصل إلى غيرها. دعوني أطرح عليكم الإشكاليات التي واجهتني. القصور العديدة الضخمة التي استكشفتها لم تكن إلا أماكن معيشة، وصالات عظيمة لتناول العشاء وغرف نوم، ولم أجد أي آلات أو أجهزة من أي نوع، إلا أن هؤلاء القوم كانوا يرتدون أردية من أقمشة جميلة، لا شك أنها تحتاج إلى تجديد أحيانًا، والصنادل التي انتعلوها كانت ذات تصميم معدني معقد إلى حد ما، رغم عدم زخرفتها. لا بد أن تلك الأشياء صنعت بطريقة ما، لكن لم يظهر القوم الصغار أي دلائل على ميل نحو الابتكار؛ فلم تكن هناك محال أو ورش عمل أو أي علامات تبادل يجري بينهم. أمضوا وقتهم كله في اللعب برقة، أو الاستحمام في النهر، أو مطارحة بعضهم بعضًا الغرام على نحو لعوب، أو تناول الفاكهة، أو النوم. لم أستطع أن أفهم كيف يسيرون أمور حياتهم.
أما آلة الزمن فقد حملها شيء أجهله إلى قاعدة التمثال الخاوية، لكن لماذا؟ لم أستطع تخيل السبب على الإطلاق. هناك أيضًا تلك الآبار الجافة، وتلك الأعمدة الوامضة. شعرت بأنني أفتقد مفتاح اللغز؛ بأنني … كيف أصف الأمر؟ هب أنكم عثرتم على نقش بعبارات متناثرة في كل مكان بلغة واضحة ممتازة تتداخل معها عبارات أخرى من كلمات بل أحرف تجهلونها، كيف ستشعرون؟ حسنًا، هكذا بدا لي عالم عام ٨٠٢٧٠١ (ثمانمائة ألف وألفين وسبعمائة وواحد).
كونت ذاك اليوم أيضًا نوعًا من الصداقة مع شخص ما. تصادف أن واحدة من القوم الصغار أصيبت بتشنج أثناء مشاهدتي لهم وهم يستحمون في ماء ضحل، وبدأ تيار الماء يجرفها معه. كان التيار سريعًا، إلا أنه لم يكن أقوى من أن يقاومه سبَّاح عادي، ولم يتحرك أي من القوم قيد أنملة لإنقاذ المخلوقة الصغيرة الضعيفة التي أخذت تصرخ وهي تغرق أمام عيونهم، مما يدلكم على القصور الجسماني العجيب الذي يتسمون به. وعندما لاحظت ذلك سارعت بخلع ملابسي، وخضت في الماء إلى نقطة موغلة به، وأمسكت بالمخلوقة الصغيرة المسكينة وجذبتها سالمة إلى الشاطئ، ولم تلبث أن استعادت عافيتها بحك أطرافها، واطمأننت إلى أنها على ما يرام قبل أن أتركها. لم أكن أحمل لبني جنسها كثيرًا من التقدير ومن ثم لم أتوقع أن تبدي لي امتنانًا، غير أنني أخطأت في ذلك.
حدث هذا صباح ذاك اليوم. وبعد الظهر التقيت تلك المرأة الصغيرة — أو ما أحسبه كذلك — وأنا عائد إلى النقطة التي تتمركز حولها استطلاعاتي فاستقبلتني بصيحات فرح وقدمت لي إكليل زهر كبيرًا. كان من الواضح أنها صنعته من أجلي خاصة. أسرتني تلك المخلوقة؛ كنت على الأرجح أشعر بالوحدة، وحاولت قدر استطاعتي أن أظهر لها تقديري لهديتها. ولم يمض وقت طويل حتى جلسنا معًا تحت تعريشة حجرية صغيرة وانخرطنا في محادثة أغلبها من الابتسامات. تأثرت بودها كما يتأثر المرء بود الأطفال بالضبط. تبادلنا الزهور، وقبلت هي يدي، ففعلت مثل ذلك معها، ثم حاولت مخاطبتها وعلمت أن اسمها وينا، وهو اسم بدا لي نوعًا ما مناسبًا مع أنني لا أعرف معناه. ومن هنا بدأت صداقة عجيبة دامت أسبوعًا، ثم انقضت كما سأخبركم لاحقًا.
كانت كالأطفال بالضبط. أرادت أن تكون معي على الدوام، وحاولت تعقبي في كل مكان. آلمني أن أرهقها وأتركها آخر الأمر منهكة القوى تنادي علي بشجن، لكن كان علي أن أواجه عقبات هذا العالم وأهزمها. حدثتني نفسي بأنني لم آت إلى هذا العالم لأغازل قزمة. لكن حزنها عندما تركتها كان شديدًا، وعارضت أحيانًا فراقي لها على نحو هستيري. أعتقد أن إخلاصها لي سبب لي المتاعب بقدر ما كان مبعث راحة لي، إلا أنها كانت إلى حد بعيد تبث في شعورًا بالارتياح. أعتقد أن ما جعلها تتشبث بي لم يكن إلا شغف طفولي. لم يتضح لي ما جعلتها تعانيه عندما فارقتها إلا بعد وقت طويل، كما لم يتضح لي ما تعنيه لي إلا بعد فوات الأوان. فمجرد ظهورها بمظهر المغرمة بي، وإظهارها أنها تهتم لأمري بطريقتها الضعيفة غير المفيدة، جعلني أشعر عند عودتي إلى منطقة تمثال أبي الهول الأبيض وكأنني عائد إلى موطني تقريبًا؛ فكنت أترقب قدوم تلك البيضاء الشقراء الصغيرة ما إن آتي إلى التل.
منها أيضًا أدركت أن الخوف ما يزال يسكن العالم. كانت مطمئنة نهارًا وأولتني ثقة عجيبة؛ ففي لحظة مزاح عبست في وجهها عبوسًا مخيفًا، فلم يكن منها إلا أن قابلت ذلك بالضحك. غير أنها خشيت الظلام والظلال والأشياء السوداء. كان الظلام هو كل ما يخيفها، وتلك كانت عاطفة فريدة، دفعتني إلى التفكير والملاحظة. من ثم اكتشفت — من بين أشياء أخرى — أن هؤلاء القوم الصغار يحتشدون في المنازل الكبيرة بعد الظلام وينامون في جماعات. كان الدخول عليهم بدون ضوء كفيلًا بأن يدفعهم إلى الاضطراب والتوجس، ولم أجد أحدهم ينام خارج المنازل قط، أو ينام وحده بها بعد حلول الظلام. مع هذا بلغ الحمق مني مبلغه حتى إنه فاتني الاعتبار من خوفهم، وصممت على النوم بعيدًا عن حشد النائمين بالرغم من قلق وينا.
أقلق هذا وينا قلقًا شديدًا، لكن في النهاية انتصرت عاطفتها العجيبة تجاهي ونامت خمس ليال من معرفتي بها متوسدة ذراعي؛ من بينها آخر ليلة لي في ذلك العالم. لكنني أبتعد عن سياق القصة عند الحديث عنها. لا بد أنها كانت الليلة السابقة لإنقاذها هي تلك التي استيقظت فيها قرب الفجر. كنت أشعر بعدم الارتياح؛ أحلم حلمًا مزعجًا للغاية تراءى لي فيه أنني غرقت وأن نباتات شقائق النعمان البحرية تتحسس وجهي بلوامسها الناعمة. هببت من نومي فزعًا وقد هُيئ لي على نحو عجيب أن حيوانًا رمادي اللون هرع خارجًا لتوه من الغرفة. حاولت معاودة النوم مجددًا، لكنني كنت أشعر بالانزعاج وعدم الارتياح. كان هذا في تلك الساعة المظلمة التي تسبق طلوع ضوء النهار عندما تبدأ جميع الكائنات في التسلل بارزة من الظلام، حيث يبدو كل شيء بلا لون، وفي غاية الوضوح، ومع ذلك يبدو غير واقعي. نهضت وسرت عبر قاعة القصر الهائلة وغادرته إلى الأحجار التي ترصف الطريق أمامه، وارتأيت أن أغتنم الفرصة مما تقتضيه ضرورة الموقف، وأن أشاهد مطلع الشمس.
كان القمر يؤذن بالمغيب، وقد اختلط ضوءه المحتضر مع أول ضوء الفجر الشاحب صانعين ضوءًا رماديًّا مخيفًا، فيما بدت الآجام سوداء كالحبر، واكتست الأرض بلون رمادي داكن وبدت السماء شاحبة تبعث كآبة في النفس. هُيئ لي فوق التل أنني أرى أشباحًا؛ إذ أبصرت عدة مرات وأنا أستطلع التل كائنات بيضاء، وخيل لي مرتين أنني لمحت مخلوقًا أبيض اللون يشبه القرد يركض صاعدًا التل بسرعة بالغة، وأبصرت في إحدى المرات ثلاثًا من تلك المخلوقات بالقرب من الأطلال وهم يحملون جسدًا داكنًا. كانوا يتحركون على عجل، فلم أرَ أين اختفوا، لكن خيل لي أنهم اختفوا عند نقطة ما بين الآجام. عليكم أن تتفهموا أن الفجر لم يكن قد طلع بعد، وقد انتابتني تلك القشعريرة وهذا الشعور بالاضطراب اللذين ينتابان المرء في الصباح الباكر، هذا الشعور الذي ربما جربتموه. لم أصدق ما رأته عيناي.
مع تخلل الضوء سماء الشرق أكثر، وبزوغ ضوء النهار وعودة ألوانه القوية الواضحة إلى العالم من جديد، أنعمت النظر من حولي، لكنني لم أجد أثرًا للكائنات البيضاء. لم تكن سوى مخلوقات خُيلت لي بفعل عدم وضوح الرؤية. قلت لنفسي: «لا بد أنها كانت أشباحًا.» وتساءلت: «من أين أتت؟» إذ واتتني فكرة عجيبة لجرانت آلان راقتني؛ فقد كان يرى أنه إن توفي كل جيل تاركًا خلفه أشباحًا، فسيزدحم العالم في النهاية بالأشباح، وعليه فإن عددها ربما أصبح لا يحصى بعد ثمانمائة ألف عام من الوقت الحالي. لا عجب إذن إن وجدت أربعة منها دفعة واحدة، لكنني لم أقنع بهذا التفسير الطريف، وأخذت أفكر في تلك الكائنات البيضاء طوال الصباح إلى أن انتزعها إنقاذ وينا من رأسي. حاولت بطريقة مبهمة أن أربط بينها وبين الحيوان الأبيض الذي أفزعته أثناء لهفتي في بحثي عن آلة الزمن، لكن وينا كانت بديلًا لطيفًا يشغلني. ولم يمض وقت طويل قبل أن تشاء الأقدار أن تعود تلك الكائنات لتستحوذ على أفكاري على نحو أقوى بكثير من ذي قبل.
أعتقد أنني ذكرت من قبل كم أن المناخ في هذا العصر الذهبي أشد حرًّا من مناخنا. لا أستطيع تفسير السبب. لعل حرارة الشمس أصبحت أكثر قوة أو أن الأرض أصبحت أقرب إلى الشمس. المعتاد أن نفترض أن حرارة الشمس ستضعف بثبات في المستقبل، لكن يتناسى من يجهلون الفرضيات المماثلة لفرضيات داروين في شبابه أن الأجرام السماوية لا بد أن تسقط في نهاية المطاف واحدة تلو الأخرى في الجرم المركزي، وهو الشمس. وبحدوث تلك الكوارث تتوهج الشمس بطاقة جديدة، ولعل هذا قد حدث لأحد الكواكب الأربعة الأقرب إلى الشمس، لكن أيًّا كان السبب، فالثابت هو أن حرارة الشمس كانت أقوى بكثير مما عهدناه.
في صباح يوم حار جدًّا — اليوم الرابع لي في ذلك الزمان على ما أظن — فيما كنت أبحث عن ملاذ يقيني الحر ووهج الشمس بين أطلال هائلة تجاور المنزل الضخم الذي كنت أنام وآكل فيه، حدث شيء غريب. أثناء تسلق أطلال المباني عثرت على دهليز ضيق تسد كتل من الأحجار المتساقطة نوافذه الجانبية والطرفية. بدا في البداية حالك الظلام لي بعكس النور الساطع في الخارج. دخلته متحسسًا طريقي، إذ غشيت عينيّ قطع من الألوان السابحة من أثر الانتقال من النور إلى الظلام. وفجأة تسمرت في مكاني ذاهلًا؛ كانت هناك عينان مضيئتان بضوء النهار المنعكس عليهما تطلان من الظلام وتراقباني.
استيقظت بداخلي غريزة الخوف القديمة من الحيوانات البرية، فقبضت يدي ونظرت بثبات إلى العينين المتوهجتين. خفت أن أستدير بجسدي، ثم جالت بخاطري فكرة الأمان التام الذي ظننت أن البشر ينعمون به. ثم تذكرت ذلك الخوف العجيب من الظلام. وبعد أن تغلبت على مخاوفي خطوت خطوة إلى الأمام وتحدثت. أقر بأن صوتي خرج مبحوحًا متوترًا، ثم مددت يدي ولامست شيئًا ناعمًا، فاندفعت العينان جانبًا على الفور، وركض شيء أبيض اللون مارًّا بي، فاستدرت وقد قفز قلبي من موضعه من الخوف. أبصرت كيانًا عجيبًا ضئيلًا يشبه جسد قرد، انحنت رأسه على نحو غريب وهو يركض عبر الفراغ الذي أضاءته أشعة الشمس من خلفي، ثم تعثر على نحو أخرق بكتلة من الجرانيت وترنح جانبًا واختفى لوهلة في ظل داكن تحت كومة أخرى من الأطلال الحجرية.
لم أبصره تمامًا بالطبع، لكنني أدركت أنه كائن أبيض باهت اللون ذو عينين رماديتين حمراوين كبيرتين عجيبتين، يكسو رأسه وأسفل ظهره شعر أصفر باهت، لكنه — كما ذكرت من قبل — مضى بسرعة كبيرة فلم أستطع رؤيته بوضوح. لا يسعني حتى أن أجزم إن كان قد ركض على أربع أم على ساقين فقط وساعداه منخفضان بشدة. وبعد أن توقفت في مكاني لوهلة، تبعته بين كومة الأطلال الثانية، ولم أجده في البداية، لكن بعد برهة من الظلام الدامس، اكتشفت إحدى تلك الفتحات المستديرة الشبيهة بالآبار التي حدثتكم عنها ووجدتها نصف مغلقة بعمود سقط عليها، فخطرت لي فكرة: هل يعقل أن يكون هذا الشيء قد اختفى بداخل هذا المهوى؟ أشعلت عود ثقاب ونظرت أسفل البئر، لأبصر كائنًا ضئيلًا أبيض اللون ذا عينين حمراوين كبيرتين متوهجتين يتحرك بداخله وينظر إلي بثبات وهو يتقهقر. لقد جعلني أرتعد خوفًا. بدا كعنكبوت بشري! تسلق جدار البئر هابطًا، فأبصرت للمرة الأولى عددًا من مساند اليد والقدمين المعدنية التي تشكل معًا ما يشبه سلمًا بداخل البئر، لكن عود الثقاب أحرق يدي وسقط منها منطفئًا، وعندما أشعلت عود ثقاب آخر، كان الوحش الصغير قد اختفى.
لا أدري كم مضى علي من الوقت وأنا أجلس محدقًا بداخل البئر. ولم أقتنع بأن ما أبصرته كان بشريًّا إلا بعد برهة من الزمن. لكن الحقيقة اتضحت لي شيئًا فشيئًا؛ لم يبقَ الجنس البشري نوعًا واحدًا، بل انقسم إلى نوعين مختلفين؛ القوم الصغار الذين يسكنون سطح الأرض ليسوا وحدهم أحفاد الجنس البشري، بل هذا الكائن الليلي الأبيض القبيح الذي تبدى لي لوهلة قصيرة يمثل وريثًا للبشرية.
فكرت في الأعمدة الوامضة ونظريتي عن التهوية تحت الأرض، وبدأت أشك في مغزاها الحقيقي، وتساءلت ما الذي يفعله هذا الكائن الشبيه بالقرد في منظومة متوازنة تمامًا. ما علاقته بهؤلاء القوم الذين يتمتعون بقدر هائل من الوسامة في عالم يعمه السلام والهدوء المشوب بالتراخي؟ وما الذي يختبئ أسفل ذلك المهوى؟ جلست عند حافة البئر أحدث نفسي بأنه ليس هناك ما يجب أن أخشاه، وبأن علي أن أهبط البئر لأضع حلًّا لجميع مشكلاتي، غير أنني كنت متخوفًا تمامًا من ذلك! وفيما أنا في حيرتي تلك، ظهر في ضوء النهار تحت الظل اثنان من القوم الصغار الوسماء يركضان مرحين وهما يتغازلان، والذكر يقذف الأنثى بالزهور.
بدا عليهما القلق عندما وجداني أجلس محدقًا بقاع البئر وذراعي متكئة على العمود المقلوب. بدا أن الإشارة إلى تلك الفتحات يُعد تصرفًا غير مقبول؛ فعندما أشرت إلى البئر وحاولت سؤالهما عنها بلغتهما، بدا عليهما القلق أكثر وأشاحا عني، لكنهما أبديا اهتمامًا بأعواد ثقابي وقد أشعلت بعضها لتسليتهما، وحاولت معهما لكنني فشلت. من ثم تركتهما لأعود إلى وينا لأرى ما الذي قد أعرفه منها. لكن عقلي بحلول ذلك الوقت كان يعصف بالأفكار؛ كانت استنتاجاتي وانطباعاتي تنزلق لتأخذ منحى جديدًا. صرت الآن أملك مفتاح لغز الآبار وأبراج التهوية والأشباح، ناهيكم عن لمحة عن مغزى البوابات البرونزية وعما حل بآلتي. وبطريقة ما خطر لي احتمال قد يسهم في حل اللغز الاقتصادي الذي حيرني.
إليكم نظريتي الجديدة: من الواضح أن الجنس البشري الثاني كان يسكن تحت الأرض، وثمة ثلاثة عوامل بالأخص قادتني إلى الاعتقاد بأن ظهور هذ الجنس النادر الذي يسكن فوق الأرض هو امتداد لعادات تسلكها الكائنات تحت الأرضية، فهناك أولًا هذا المظهر الشاحب الذي يجمع بين أغلب الحيوانات التي تحيا بالأساس في الظلام، كسمك كهوف كنتاكي الأبيض على سبيل المثال، ثم هاتان العينان الكبيرتان بقدرتهما على عكس الضوء؛ كلها خصائص تميز الكائنات الليلية كالبوم والقطط مثلًا. وأخيرًا هناك هذا الارتباك الواضح الذي يظهر على هذا الجنس لدى التعرض لضوء الشمس؛ هذا الفرار المتخبط الأخرق نحو الظل الداكن ووَضع الرأس العجيب عند الوجود في الضوء. كل هذا يؤيد الحساسية الشديدة للضوء التي تمتاز بها شبكية عين هذا الجنس.
لا بد أن الأرض تحت قدمي امتلأت بالكثير من الأنفاق التي اتخذ منها هذا الجنس الجديد موطنًا. دلت مهاوي التهوية تلك والآبار بجانب منحدرات التلال في كل مكان — عدا محاذاة وادي النهر — على مدى انتشار تلك الأنفاق، من ثم يكون من المنطقي جدًّا أن تتم الأعمال الضرورية لتحقيق رفاهية الجنس الذي يسكن فوق الأرض في هذا العالم الصناعي الكائن تحت الأرض. كانت تلك النظرية إلى حد بعيد قابلة للتصديق حتى إنني سلّمت بها على الفور، ومضيت إلى افتراض الكيفية التي انقسم بها الجنس البشري. أظن أنكم ستتوقعون نظريتي، لكنني — عن نفسي — ما لبثت أن أدركت أنها قاصرة.
في البداية، انطلاقًا من مشكلات عصرنا، بدا من الواضح لي بما لا يقبل الشك أن مفتاح حل اللغز بأكمله يكمن في الاتساع التدريجي للفجوة المؤقتة والاجتماعية الحالية بين المجتمع الرأسمالي والطبقة العاملة. لا شك أن هذا التفسير سيبدو لكم مستغربًا، ومتعذر التصديق تمامًا، لكن حتى اليوم هناك عوامل تشير إلى صحته. ثمة هذا الاتجاه إلى استخدام باطن الأرض للأغراض الحضارية الأقل زخرفية؛ فهناك السكك الحديدية بالعاصمة لندن على سبيل المثال، وسكك حديدية كهربية جديدة، وخطوط مترو الأنفاق وورش العمل تحت الأرضية والمطاعم، وعددها يتزايد ويتضاعف. لا شك أن هذا الاتجاه قد تزايد إلى أن خسرت الصناعة مكانها تحت الشمس؛ حيث وُلدت. أعني أنها انتقلت أكثر فأكثر إلى مصانع تحت الأرض جرى التوسع في بنائها وأخذت الصناعة تُزاول فيها أكثر فأكثر! وحتى الآن، أليس أرباب الطبقة العاملة يحيون في هذه البيئة الصناعية إلى حد أنهم انقطعوا تقريبًا عن سطح الأرض الطبيعي؟
إلى جانب أن التوجه المقتصر على الأثرياء — الذي يرجع بلا شك إلى ارتقاء مستوى تعليمهم على نحو متزايد واتساع الفجوة بينهم وبين عنف الفقراء الصادم — يؤدي بالفعل إلى إغلاق أجزاء كبيرة من سطح الأرض لمصلحتهم؛ ففي لندن على سبيل المثال نصف أرجاء المدينة الجميلة توصد الباب في وجه تطفل الطبقات الدنيا، وهذه الفجوة الآخذة في الاتساع نفسها — التي تعود إلى طول العملية التعليمية وتكلفتها الباهظة وتزايد المرافق المخصصة لعادات الأثرياء الرفيعة وإغراءاتها — ستقلل تدريجيًّا من معدل التفاعل بين طبقة وأخرى، أو الارتقاء عن طريق الزواج بين الطبقات، الذي يعوق حاليًّا انقسام جنسنا البشري على نحو يتفق مع انقسام الطبقات الاجتماعية. وسنجد في نهاية المطاف الأثرياء الساعين وراء المتعة والرفاهية والجمال على سطح الأرض من ناحية، ونجد تحت سطح الأرض الفقراء العاملين يتأقلمون باستمرار مع ظروف عملهم، ولا شك أنهم هناك سيضطرون إلى دفع مبالغ كبيرة نظير الإيجار، وإلى دفع مبالغ نظير تهوية كهوفهم الكبيرة، وإن رفضوا فسيتضورون جوعًا أو يموتون اختناقًا لتخلفهم عن سداد ديونهم، ومن جُبِلَ فيهم على الرفض والتمرد فسيفنى. وفي النهاية يدوم هذا التوازن ويتأقلم الأحياء منهم مع ظروف الحياة تحت الأرض ويصبحون سعداء على طريقتهم، شأنهم شأن سكان سطح الأرض. وبدا لي أن الجمال الصافي وشحوب اللون أعقبا ذلك كنتيجة طبيعية.
اتخذ الانتصار العظيم للجنس البشري الذي طالما حلمت به شكلًا آخر في مخيلتي. لم يكن انتصارًا للتربية الأخلاقية والتعاون بوجه عام كما خُيل لي، بل وجدت أرستقراطية حقيقية مسلحة بعلم مصقل، ومنظومة صناعية لهذا العصر تقود إلى نتيجة منطقية. انتصار الجنس البشري لم يكن انتصارًا على الطبيعة وحسب، بل كان انتصارًا على الطبيعة، وانتصارًا للإنسان على أخيه الإنسان. علي أن أنبهكم إلى أن تلك كانت فرضيتي آنذاك. لم أملك دليلًا إرشاديًّا يساعدني ككتب المدينة الفاضلة. قد يكون تفسيري خاطئًا تمامًا، لكنني ما زلت أرى أنه الأكثر منطقية. لكن حتى بناءً على هذه الفرضية، الأرجح أن الحضارة المتوازنة التي بلغتها البشرية في نهاية المطاف قد تجاوزت النقطة التي بلغت فيها أوج قوتها وآلت إلى الاضمحلال، فقاد الأمان التام المفرط الذي تمتع به سكان سطح الأرض إلى عملية تدهور بطيء ونقص عام في الحجم والقوة والذكاء. أمكنني ملاحظة هذا بوضوح كاف بالفعل. أما ما آل إليه السكان تحت الأرض فلم أستطع تصوره، غير أنني من مشاهدتي لقوم المورلوك — وهذا بالمناسبة هو الاسم الذي أُطلق على هذه المخلوقات — تصورت أن التغيرات التي طرأت على هذا النوع البشري كانت أقوى بكثير منها بين جنس الإيلوي، هذا الجنس الوسيم الذي تعرفت عليه بالفعل.
ثم ساورتني شكوك مقلقة. لم أخذ قوم المورلوك آلة الزمن؟ لقد كنت موقنًا من أنهم من أخذوها. وإن كان قوم الإيلوي أسيادهم، فلم لم يتمكنوا من إعادتها لي؟ ولم يخشون الظلام كل هذه الخشية؟ من ثم اتجهت كما ذكرت من قبل إلى وينا لسؤالها عن هذا العالم تحت الأرضي. لكنني أحبطت من جديد. لم تستطع وينا في البداية فهم أسئلتي وها هي الآن ترفض الإجابة عنها، وارتعدت كما لو أن موضوع النقاش لا يمكن احتماله. وعندما ألححت عليها بالسؤال — ربما بقليل من القسوة — انفجرت باكية. كانت تلك هي الدموع الوحيدة التي رأيتها في هذا العصر الذهبي بخلاف دموعي؛ ولما رأيتها توقفت فجأة عن الانشغال بجنس المورلوك ولم أهتم إلا بكف هذه الدموع التي تنبئ عن إرث بشري في عيني وينا. وفي غضون وقت قصير جدًّا، أخذت تبتسم وتصفق بيديها وأنا أشعل مغتمًّا عود ثقاب.
الفصل السادس
قد تستغربون هذا، لكن مرَّ يومان قبل أن أتمكن من مواصلة تعقب مفتاح اللغز الجديد الذي اكتشفته. شعرت بخوف عجيب من تلك الكائنات الشاحبة. كان لونها شبيهًا بلون الديدان المائل إلى الشحوب ولون تلك المخلوقات التي يراها المرء محنطة في متاحف الحيوانات، وكان ملمسها البارد مقززًا. لعل خوفي عاد في جزء كبير منه لردة فعل جنس الإيلوي إزاءهم وقد بدأت أتفهم سبب نفورهم من جنس المورلوك.
لم أنم الليلة التالية جيدًا. لعلي كنت معتلًّا قليلًا. غلبتني الحيرة والشك وساورني لمرات عديدة شعور بالخوف الشديد لم أعرف له سببًا محددًا. أذكر أنني تسللت محدثًا ضوضاء إلى القاعة الكبيرة التي نام فيها القوم الصغار في ضوء القمر — وكانت وينا تنام بينهم تلك الليلة — واطمأننت إلى وجودهم. خطر لي عندئذ أنه في غضون بضعة أيام سيمر القمر بطوره الأخير ويشتد ظلام الليل وقد يتزايد عندئذ ظهور تلك المخلوقات البغيضة التي تسكن تحت الأرض. تلك الكائنات البيضاء الشبيهة بالقرود. حشرات العالم الجديدة التي حلت محل الحشرات القديمة. غير أنه ساورني في أحد الأيام هذا الشعور بعدم الارتياح الذي يصيب المرء عندما يتملص من واجب حتمي. كنت موقنًا من أنني لن أستعيد آلة الزمن إلا بفك غموض هذه الألغاز التي تكمن في باطن الأرض، إلا أنني لم أستطع مجابهتها. لو أن لدي من يرافقني لاختلف الأمر، لكنني كنت أشعر بوحدة فظيعة وحتى فكرة الهبوط إلى ظلام البئر بثت فيّ الرعب. لا أدري إن كنتم ستتفهمون شعوري أم لا، لكنني لم أشعر بالأمان قط.
لعل هذا الشعور بالتوتر والخوف هو ما قادني إلى أن أوغل أكثر في استطلاعاتي. وعندما اتجهت إلى الجهة الجنوبية الغربية نحو البلدة الناشئة التي تدعى اليوم بكومب وود، لاحظت من بعيد صوب مدينة بانستيد التي تأسست في القرن التاسع عشر، بناءً أخضر ضخمًا مختلفًا عن أي بناء رأيته من قبل. كان أكبر من كافة القصور والأطلال التي رأيتها. واجهته ذات طابع شرقي؛ التمعت ولونت بلون أخضر فاتح يميل إلى الزرقة، كأحد أنواع البورسلين الصيني. دل اختلاف مظهر البناء على أنه يستخدم لغرض مختلف وقد أردت أن أمضي أكثر وأجري المزيد من الاستطلاعات، لكن الوقت كان قد تأخر، وكنت قد بلغت القصر بعد رحلة طويلة وشاقة. من ثم قررت أن أرجئ هذه المغامرة لليوم التالي وعدت إلى وينا الصغيرة لتستقبلني بالترحاب والملاطفة، غير أنني أدركت في اليوم التالي أن الفضول الذي شعرت به حيال القصر المشيد من البورسلين الأخضر لم يكن إلا ضربًا من خداع الذات لأتملص ليوم آخر من تجربة أرهبها، وهكذا عقدت العزم على أن أهبط البئر دون إضاعة المزيد من الوقت، وبدأت في الصباح الباكر رحلتي إلى بئر قريب من أطلال الجرانيت والألمونيوم.
ركضت وينا الصغيرة معي، ورقصت بجانبي عند البئر، لكن لما رأتني أميل على فتحته وأنظر أسفله، بدا عليها القلق على نحو غريب، فقلت لها: «وداعًا أيتها الصغيرة وينا.» ثم قبلتها ووضعتها على الأرض وبدأت أتحسس جدران البئر بحثًا عن كلاليب تسلقه. عليّ أن أقر بأنني قمت بهذا على عجل إذ تخوفت من أن تفتر همتي! شاهدتني وينا في البداية بدهشة، ثم أطلقت صيحة تنضح بالحزن، وركضت نحوي وبدأت تجذبني بيديها الصغيرتين. أعتقد أن معارضتها جعلتني أقلق من المضي في الأمر، لكنني أزحتها عني — ربما ببعض العنف — وقبل أن يمضي وقت طويل كنت أهبط إلى جوف البئر. رأيت وجهها الذي ارتسم عليه حزن عميق عند فوهة البئر، فابتسمت مطمئنًا إياها، بعدئذ كان علي أن أنظر إلى أسفل إلى الكلاليب غير المستقرة التي تشبثت بها.
كان علي أن أهبط مهوى طوله مائتا ياردة باستخدام قضبان معدنية تبرز من جانبي البئر، تناسب مخلوقًا أصغر حجمًا وأخف وزنًا بكثير مني، لكنني لم ألبث أن أصبت بتقلص عضلي وشعرت بالتعب من أثر الهبوط. غير أن الأمر لم يقتصر على الشعور بالتعب! انحنى أحد القضبان المعدنية فجأة متأثرًا بوزني وكاد يميل ملقيًا بي في الظلام الدامس من تحتي، فتعلقت به بيد واحدة لوهلة وبعدها لم أجرؤ على الاسترخاء مجددًا. تابعت هبوط المهوى العميق بأسرع ما أمكنني، ثم نظرت إلى أعلى لأجد فتحة البئر قد استحالت إلى دائرة زرقاء صغيرة، يبين فيها نجم فيما بدا رأس وينا الصغيرة كشيء أسود مستدير بارز. علا صوت هدير آلة بالأسفل وصار أقوى، وعندما نظرت إلى أعلى مجددًا، كان رأس وينا قد اختفى.
عذبني القلق. خطر لي أن أحاول صعود المهوى من جديد وترك هذا العالم السفلي وشأنه، لكنني واصلت هبوطي حتى وأنا أقلب هذه الفكرة برأسي. في نهاية الأمر، رأيت بغير وضوح على مسافة قدم إلى يميني منفذًا صغيرًا في الحائط أخذ يقترب مني، مما أشعرني بارتياح جم. تأرجحت داخلًا إياه، فوجدت أنه منفذ لنفق ضيق أفقي، أمكنني أن أستلقي وأسترخي به، لكنني لم ألبث أن شعرت بألم في ذراعي وتقلص في عضلات ظهري، وكنت أرتجف من أثر خوفي الممتد من السقوط، علاوة على أن الظلام الدامس أرهق عينيَّ ودوى صوت ارتجاج وهدير الآلات التي تضخ الهواء بأسفل المهوى.
لا أدري كم مضى علي من الوقت وأنا مستلقٍ. أيقظتني يد ناعمة لامست وجهي، فهببت في الظلام وانتزعت أعواد الثقاب الخاصة بي وأشعلت واحدًا منها على عجل، فرأيت ثلاثة كائنات بيضاء مقوسة تشبه المخلوق الذي رأيته على سطح الأرض بين الأطلال. تراجع الثلاثة على عجل أمام ضوء عود الثقاب. كانت أعينهم من أثر العيش في الظلام الذي بدا لي دامسًا كبيرة إلى حد عجيب وحساسة للضوء، تشبه بالضبط بؤبؤ العين لدى أسماك الأعماق، إذ عكست الضوء على النحو نفسه؛ لم يكن لدي شك في أنهم يستطيعون إبصاري في هذا الظلام الحالك، ولم يبد أن هناك ما يخيفهم مني سوى الضوء. لكنني فور أن أشعلت عود الثقاب لأراهم، فروا في الحال واختفوا في أنفاق وحفر مظلمة توهجت فيها أعينهم وهي تحدق بي على نحو شديد الغرابة.
حاولت أن أناديهم، لكن لغتهم كانت على ما يبدو مختلفة عن لغة ساكني سطح الأرض، وهكذا تُركت بمقتضى الحال أحاول مخاطبتهم بلا عون، وحتى آنذاك كنت أفكر في الفرار قبل أن أستطلع المكان، لكن نفسي حدثتني بأنه لا مجال للتراجع الآن. شعرت وأنا أتحسس طريقي عبر النفق أن صوت الآلات يتنامى، ولم يمض وقت طويل قبل أن أصل إلى نهاية الجدران، وبلغت ساحة مفتوحة، فلما أشعلت عود ثقاب آخر، وجدتني قد دلفت إلى كهف محدب شاسع امتد في الظلام الحالك بما يتجاوز نطاق ضوئي، ولم أبصر منه إلا ما يمكن للمرء أن يبصره على ضوء عود ثقاب.
ذاكرتي بطبيعة الحال مشوشة. أخذتْ أشكال كبيرة تشبه الماكينات الضخمة تبرز في الظلام وألقت بظلال داكنة مخيفة، اختبأت بينها مخلوقات المورلوك الشاحبة الشبيهة بالأشباح من الضوء. شيئًا فشيئًا وجدت المكان قد أصبح خانقًا ومقبضًا للصدر، وقد انبعثت رائحة ضعيفة لدم مراق حديثًا. قبع في نقطة ما في الوسط ما تراءى لي أنه منضدة صغيرة من الحديد الأبيض تمدد عليها ما بدا وكأنه وجبة؛ كان جنس المورلوك بلا شك آكلي لحوم! أذكر آنذاك أنني تساءلت أي حيوان ضخم استطاع أن يظل على قيد الحياة ليقدم المفصل الأحمر الذي رأيته. كل شيء كان ملتبسًا، الرائحة القوية، الأشكال الضخمة المبهمة، والكائنات القبيحة التي تختبئ في الظلام تنتظر وحسب أن يعم الظلام لتأتي إليَّ من جديد! ثم خبا وهج عود الثقاب ولسع أصابعي وسقط كنقطة حمراء شقت خطًّا متمعجًا في الظلام.
عندئذ خطر لي كم كنت غير مهيأ لتلك التجربة. عندما انطلقت في رحلتي بآلة الزمن، بدأت بفرضية سخيفة وهي أن أبناء المستقبل سيكونون بلا شك أكثر تقدمًا منا في أدواتهم. أتيت بلا سلاح وبلا دواء وبدون أي شيء أدخنه — إذ تُقت أحيانًا إلى التبغ بقوة — حتى بدون أن أملك أعواد ثقاب كافية. وآه لو أنني فكرت في جلب آلة تصوير يدوية معي! كنت استطعت بوميضها أن أختلس النظر إلى هذا العالم السفلي في ثانية، وأن أتأمله على مهل، لكنني — إن جاز التعبير — وقفت هناك لا أملك إلا الأسلحة التي حبتني بها الطبيعة: يدين، وقدمين، وأسنانًا، وأربعة أعواد ثقاب تبقت معي إلى ذلك الوقت.
تخوفت من شق طريقي بين كل تلك الماكينات في الظلام، واكتشفت أن ضوء عود الثقاب الذي أحمله يحتضر وأن عدد أعواد الثقاب معي قل. لم يخطر لي حتى تلك اللحظة أنني سأضطر إلى الاقتصاد في استخدامها؛ كنت قد أهدرت نصف علبة من أعواد الثقاب تقريبًا في إذهال ساكني سطح الأرض الذين كانت لهم النار اكتشافًا جديدًا. عندها كما قلت كنت أملك أربعة أعواد ثقاب، وفيما وقفت في الظلام، لامست يد يدي ومرت أصابع رفيعة على وجهي وتنامت إلى أنفي رائحة عجيبة كريهة. خُيل لي أنني سمعت أنفاس حشد من تلك المخلوقات السيئة حولي، وشعرت بعلبة أعواد الثقاب التي أحملها تفلت من يدي برفق، وبأيد أخرى تجذب ملابسي. انتابني شعور فظيع إلى حد لا يوصف، وتلك المخلوقات التي لا أستطيع إبصارها تتفحصني، وفي وسط الظلام أدركت على نحو مفاجئ أنني أجهل طرق تفكيرهم وتصرفهم، صرخت فيهم بأقصى ما أمكنني، فابتعدوا عني فزعين، لكنني بعدئذ أحسست بهم يدنون مني مجددًا. تشبثوا بي بمزيد من الجرأة، وهمس بعضهم إلى بعض بأصوات غريبة، فارتعدت بعنف وصرخت مجددًا على نحو أكثر فظاظة، لكنهم لم ينزعجوا جديًّا هذه المرة كما حدث من قبل، وأطلقوا صيحات ضاحكة عجيبة وهم يدنون مني مجددًا. عليَّ أن أقر بأنني كنت مرتاعًا، من ثم قررت أن أشعل عود ثقاب آخر وأن أفر محتميًا بوهجه. وفيما فعلت ذلك محتفظًا بوهجه بقصاصة ورق من جيبي، تراجعت لمسافة كبيرة نحو النفق الضيق، لكنني لم أكد أدخله حتى انطفأ ضوء عود الثقاب وسمعت في الظلام صوت مخلوقات المورلوك وهي تهرع لتلحق بي مندفعة بسرعة شديدة كالريح بين أوراق الأشجار ووقع أقدامها يطرق الأرض كما يطرقها المطر.
لم تكد دقيقة تمضي حتى أمسكت بي عدة أيدٍ. لا شك أنهم كانوا يحاولون جذبي إليهم من جديد، فأشعلت عود ثقاب آخر ولوحت به أمام وجوههم الذاهلة. لن يسعكم بأي حال من الأحوال تخيل الحد الذي بدت به تلك الكائنات وحشية إلى حد مقزز، وهي تحدق ببلاهة وحيرة بوجوهها الشاحبة التي لا تملك ذقونًا وأعينها الكبيرة التي لا تملك جفونًا ويختلط فيها اللون الوردي بالرمادي، لكنني أؤكد لكم أنني لم أمكث لتأملها؛ تراجعت مجددًا، وعندما انطفأ عود الثقاب الثاني، أشعلت الثالث لكنه أوشك أن ينطفئ عندما بلغت الفتحة التي تؤدي إلى المهوى. تمددت على حافتها، إذ أشعرني ارتجاج المضخة الضخمة الموجودة بالأسفل بالدوار، ثم تحسست جانبي الفتحة بحثًا عن الكلاليب البارزة، لكن فيما فعلت ذلك أُمسكت قدماي من الخلف وجُذبت بعنف إلى الوراء، فأشعلت عود ثقابي الأخير، لكنه انطفأ على الفور، غير أنني بحلول هذا الوقت كنت قد عثرت على قضبان التسلق، واستطعت بالركل بعنف أن أحرر نفسي من قبضة المورلوك وأخذت أسرع في تسلق المهوى، فيما مكثت تلك المخلوقات تحدق بي وتنظر إلى أعلى، عدا مخلوقًا صغيرًا تعسًا منها تبعني لبعض الوقت وكاد أن يظفر بحذائي كتذكار انتصار.
بدا لي أنني لن أفرغ من التسلق. ومع آخر عشرين أو ثلاثين قدمًا انتابني شعور عارم بالغثيان، وواجهت صعوبة شديدة في التشبث بمكاني. خضت في آخر بضع ياردات صراعًا مخيفًا مقاومًا الإغماء؛ شعرت برأسي يدور عدة مرات وبكل المشاعر التي يشعر بها المرء عند سقوطه، لكنني في النهاية، خرجت بطريقة ما من فوهة البئر وترنحت خارجًا من هذا الكابوس إلى ضوء الشمس الذي أغشى بصري، وسقطت على وجهي. حتى رائحة الأرض بدت عذبة نظيفة. أذكر وينا وهي تقبل يديّ وأذنيّ وأصوات آخرين من جنس الإيلوي، ثم فقدت الشعور بما حولي لبعض الوقت.
الفصل السابع
بدا بالفعل أن وضعي صار أسوأ من ذي قبل. حتى ذلك الوقت، علقت أملًا دائمًا على الفرار في نهاية الأمر، باستثناء الليلة التي اعتصر الألم فيها قلبي لضياع الآلة. لكن هذا الأمل أضعفته هذه الاكتشافات الجديدة. حسبت قبل تلك اللحظة أن كل ما يقف عائقًا أمامي هو السذاجة الطفولية التي يتسم بها جنس الإيلوي، وبعض القوى الغامضة التي كان علي وحسب أن ألم بها لأقهرها، لكن كان هناك عنصر جديد تمامًا في طبيعة جنس المورلوك المزعجة؛ شيء همجي وخبيث. كنت أشعر شعورًا غريزيًّا بأنني أبغضهم. شعرت كمن وقع في فخ، وكان مثار قلقي الوحيد هو الكيفية التي سأخرج بها منه، لكنني صرت أشعر كفريسة سقطت في شرك، لن يلبث خصمها أن ينقض عليها.
قد يدهشكم الخصم الذي تخوفت منه؛ إنه ظلمة القمر وهو في طور الهلال. أقحمت وينا هذه الفكرة برأسي ببعض الملاحظات غير المفهومة عن الليالي المظلمة. لم يكن من الصعب حينئذٍ تخمين ما الذي ستسفر عنه الليالي المظلمة التالية. أخذ القمر يتلاشى، وتزايد عدد ساعات الظلام كل ليلة، وقد بت أفهم الآن بدرجة بسيطة على الأقل سبب خوف ساكني سطح الأرض الصغار من الظلام. تساءلت شاردًا عن الشرور المقيتة التي ارتكبها جنس المورلوك عند دخول القمر في طور الهلال. صرت موقنًا الآن بأن فرضيتي الثانية خاطئة تمامًا. لعل ساكني سطح الأرض كانوا يومًا النخبة الأرستقراطية، والمورلوك كانوا خدامهم الذين يديرون آلاتهم، لكن هذا العهد ولى منذ زمن طويل، وأخذ النوعان البشريان اللذان نتجا عن تطور الجنس البشري يتجهان إلى علاقة جديدة أو بلغاها بالفعل. اضمحل جنس الإيلوي شأنهم شأن الملوك الكارولينجيين إلى جنس عبثي لا جدوى منه، على الرغم من وسامته، لكنهم ظلوا ملاك سطح الأرض رغم المعاناة، بما أن جنس المورلوك الذي سكن تحت الأرض لأجيال لا تحصى لم يعد يحتمل في النهاية سطح الأرض بنوره. استنبطت أن المورلوك صنعوا للإيلوي الأردية ووفروا لهم احتياجاتهم المعتادة، ربما لأنهم تعودوا خدمتهم منذ القدم. فعلوا هذا كحصان واقف ينبش بحافره لمجرد تمضية الوقت، أو كإنسان يستمتع بصيد الحيوان على سبيل الهواية؛ لضرورات سالفة ومهجورة تعود إلى القدم فرضت ذلك على المنظومة. لكن من الواضح أن نسق هذه المنظومة انقلب جزئيًّا. أخذ العدو اللدود للقوم الضعاف الصغار في التقدم تدريجيًّا. قبل عدة عصور، وقبل آلاف الأجيال، طرد الإنسان أخاه من حياة اليسر ومن ضوء الشمس، لكن الأخ عاد بوجه جديد! وقد أخذ قوم الإيلوي بالفعل في تعلم درس قديم من جديد؛ أخذوا يتعرفون على الخوف من جديد. تذكرت فجأة اللحم الذي رأيته في العالم السفلي، وتعجبت من الكيفية التي طرأ بها على عقلي. لم يبد أن حبل أفكاري هو ما أثاره، بل بدا سؤالًا دخيلًا على رأسي. حاولت أن أتذكر شكله فقد شعرت شعورًا غامضًا أنه مألوف، لكنني لم أستطع تبين ماهيته آنذاك.
لكن مهما بلغ ضعف القوم الصغار في حضرة خوفهم الغامض، كنت ذا تركيبة مختلفة؛ فقد انحدرت من زماننا، من الجنس البشري في ريعانه وأوج قوته، حيث لا يولد الخوف عجزًا وحيث فقد الغموض رهبته. أنا على أقل تقدير سأدافع عن نفسي. من ثم قررت بدون المزيد من الإبطاء أن أصنع لنفسي الأسلحة وأن أشيد لنفسي مكانًا آمنًا يمكنني النوم فيه. ومن ملاذي هذا سأتخذ قاعدة تمكنني من مواجهة هذا العالم الغريب ببعض الثقة التي كنت قد فقدتها مع اكتشافي للمخلوقات التي تهددني كل ليلة، لكنني شعرت بأنني لن أستطيع النوم مجددًا إلى أن أؤمن نفسي منهم. كنت أرتعد رعبًا بالفعل لمجرد التفكير في الكيفية التي فحصوني بها.
تجولت عصرًا بمحاذاة وادي نهر التيمز، لكن لم يسترع انتباهي أي شيء غامض. بدا تسلق جميع الأشجار والمباني سهلًا لقوم بارعين في التسلق كقوم المورلوك، وهم كذلك بلا شك بالنظر إلى آبارهم. لكن بعدئذ تذكرت أعمدة قصر البورسلين الأخضر ولمعان جدرانه المصقولة، فحملت وينا معي في المساء كالطفل على كتفي وصعدت التلال متجهًا جنوبًا صوب الغرب. كنت قد قدرت المسافة بسبعة أو ثمانية أميال، لكن يرجح أنها كانت تبلغ نحو ثمانية عشر ميلًا؛ فقد أبصرت المكان للمرة الأولى عصر يوم رطب بدت فيه المسافات أقل على نحو خادع. وكان كعب حذائي مفككًا وقد اخترق دبوس نعله — كان حذاءً مريحًا قديمًا أرتديه في أرجاء منزلي — مما جعلني أعرج في سيري. كان الوقت قد جاوز مغيب الشمس بوقت طويل عندما صار القصر على مرمى بصري. لونه الظلام وأحاطت به خلفية من سماء اصطبغت بلون أصفر شاحب.
فرحت وينا فرحًا شديدًا عندما بدأت في حملها، لكنها بعد وهلة أرادتني أن أضعها أرضًا وركضت بجانبي مندفعة بين الحين والآخر على كلا جانبيّ لقطف الأزهار ودسها بجيبي. حيرت جيوبي وينا على الدوام، لكنها في النهاية استنتجت أن جيوبي مزهرية من طراز عجيب للتزين بالزهور، أو على الأقل استخدمتها لهذا الغرض. وهذا يذكرني بشيء ما؛ فقد عثرت وأنا أخلع سترتي على …»
•••
سكت المسافر عبر الزمن عن الكلام لبرهة وأدخل يده في جيبه، ثم وضع في صمت على المنضدة الصغيرة وردتين ذابلتين تبدوان كزهرتين بيضاوين كبيرتين من نبات الخباز، ثم تابع سرد قصته:
«لما خيم سكون الليل على العالم، وجاوزنا قمة التل نحو ويمبلدون، أصاب وينا التعب، وأرادت أن تعود إلى المنزل الحجري الرمادي، لكنني أشرت لها إلى أعمدة قصر البورسلين الأخضر ونجحت في إفهامها أننا نسعى إلى ملاذ هناك نحتمي به. هل تعلمون هذا السكون الشديد الذي يخيم على الأشياء قبل حلول الغسق؟ حتى النسيم الذي يسري بين الأشجار توقف. دائمًا ما يبدو لي أن صمت الليل ينذر بشيء. كانت السماء صافية تمتد لأفق بعيد وخلت إلا من بعض أشعة الغروب الأفقية، وقد اصطبغت توقعاتي بمخاوفي. بدا لي أن حواسي أصبحت مع سكون الليل خارقة للطبيعة، بل هُيئ لي أنه بمقدوري الشعور بأن الأرض مجوفة تحت قدميّ، وأنني أستطيع أن أرى عبرها بالفعل مخلوقات المورلوك في بيوتها تحت الأرض تذهب وتجيء في كل مكان منتظرة حلول الظلام. خُيل لي أنهم سيعدون غزوي لجحورهم إعلان حرب، وتساءلت عن السبب الذي دفعهم لأخذ آلتي.
واصلنا مسيرتنا في السكون الذي خيم، وأظلمت حمرة الشفق لتستحيل ليلًا، وتلاشت زرقة الأفق الصافية، وظهر نجم تلو آخر، وأسدل الظلام ستاره على الأرض والأشجار، وأخذ الخوف والتعب يتملكان وينا، فاحتضنتها بين ذراعي وحدثتها وربت عليها. لكن الظلام بعدئذ اشتد، فطوقت رقبتي بذراعيها مغمضة عينيها وضغطت وجهها بكتفي، ومن ثم هبطنا منحدرًا طويلًا بالوادي. خضت في الظلام نهرًا صغيرًا، انتقلت منه إلى الجهة المقابلة من الوادي مارًّا بعدد من مساكن النوم وبتمثال صغير لجسد بشري له أرجل وقرون ماعز أو كائن مماثل مبتور الرأس، ووجدت هنا أيضًا أشجار صمغ. لم أبصر حتى تلك اللحظة أي أفراد من جنس المورلوك، لكننا كنا في ساعة مبكرة من المساء؛ نترقب ساعات الليل حالكة السواد التي تسبق طلوع القمر.
أبصرت من حافة التل التالي الذي صعدته غابة كثيفة غطت نطاقًا شاسعًا مظلمًا من الأرض أمامي. وهنا ساورني التردد، إذ لم أبصر نهايتها يمينًا أو يسارًا. ولما كنت أشعر بالتعب — كانت قدماي بالأخص تؤلماني — أنزلت وينا بحذر عن كتفي متوقفًا، ثم جلست أرضًا على الأرض المكسوة بالعشب. بحلول ذلك الوقت لم أعد قادرًا على رؤية قصر البورسلين الأخضر وشككت في وجهتي، فتطلعت إلى الغابة الكثيفة وفكرت فيما قد تخفيه. سيتوارى المرء عن النجوم تحت الأغصان الكثيفة المتشابكة، وحتى إن لم تكمن هناك أهوال أخرى — أهوال لم أرد أن أطلق لمخيلتي العنان للتفكير فيها — فلا تزال هناك جذور النباتات التي سأتعثر بها وجذوع الأشجار التي سأصطدم بها.
كنت أشعر بالتعب الشديد بعد أحداث اليوم الحافلة، فقررت ألا أواجه تلك الأهوال وأن أمضي الليلة في العراء على التل.
سعدت عندما وجدت النوم قد غشي وينا في وقت قصير، فدثرتها بعناية بسترتي وجلست إلى جانبها منتظرًا طلوع القمر. كان منحدر التل هادئًا مقفرًا لكن دبت في ظلام الغابة بين الحين والآخر حركة مضطربة لبعض الأحياء. التمعت النجوم في السماء إذ كانت سماء الليل صافية، وأشعرني تلألؤها بنوع من الألفة والارتياح. لكن اختفت كل مجموعات النجوم القديمة من السماء؛ حركتها البطيئة غير الملحوظة على مر حياة مئات الأجيال البشرية جعلتها تنتظم منذ زمن بعيد في مجموعات جديدة غير مألوفة. غير أنه بدا لي أن مجموعة درب التبانة لا تزال تحتفظ بشكل شريط النجوم المتقطع كعهدها منذ القدم. جنوبًا — حسب تقديري — كان هناك نجم أحمر لم آلفه سطع بقوة. كان أكثر روعة من نجم الشعرى الأخضر الذي نعهده، وبين كل تلك النجوم المضيئة التي رقطت السماء تألق كوكب ساطع برقة وثبات كوجه صديق قديم.
أشعرني تأمل تلك النجوم فجأة بضآلة حجم مشكلاتي وكل مآسي الحياة الأرضية. تفكرت في بُعدها الذي لا يمكن سبر غوره، وفي تبدل مسارها الحتمي البطيء من الماضي المجهول إلى المستقبل المجهول، كما تفكرت في الدورة المدارية القطبية أو ما يعرف بالقوس القطبي للأرض. لم تتم هذه الدورة الصامتة إلا أربعين مرة على مدى كل الأعوام التي اجتزتها. وخلال هذه الدورات القليلة كل حراك الجنس البشري — كما عهدته — وتقاليده ومنظوماته المعقدة وأممه ولغاته وآدابه وطموحاته وحتى ذاكرته مُحيت من الوجود، وعوضًا عن ذلك أتت تلك المخلوقات الضعيفة التي نسيت كل شيء عن عظمة أسلافها وتلك الكائنات البيضاء التي بثت فيّ الرعب. بعدئذ تفكرت في الخوف الشديد الذي يحكم العلاقة بين النوعين. وللمرة الأولى اتضح لي ما الذي قد يكونه اللحم الذي رأيته، ومع تلك الفكرة سرت في جسدي فجأة رجفة، لكنه كان احتمالًا قاسيًا للغاية! تأملتُ وينا الصغيرة وهي تنام إلى جانبي ووجهها يبدو ناصعًا مشرقًا تحت ضوء النجوم، وطردت تلك الفكرة من رأسي على الفور.
حاولت قدر استطاعتي طوال تلك الأمسية الطويلة أن أصرف جنس المورلوك عن تفكيري، وأمضيت الوقت محاولًا تخيل أنني أستطيع أن أجد أثرًا لمجموعات النجوم القديمة وسط مزيج النجوم المربك ذاك. ظلت السماء شديدة الصفاء، لا تتخللها إلا سحابة غائمة واحدة تقريبًا. ولا شك أنني غفوت أحيانًا، ولما خفت حدة يقظتي، تخلل السماء شرقًا لون باهت يبدو كانعكاس لوهج بلا لون. وطلع القمر الأزلي رفيعًا، شاحبًا، ناصعًا، وفي إثره أتى الفجر ليطغى عليه ويغمره. جاء في البداية شاحبًا ثم تحول لونه تدريجيًّا إلى لون وردي هادئ. لم يقربنا أي من مخلوقات المورلوك. لم أر بالفعل أيًّا منها على التل تلك الليلة، ومع الثقة التي تولدت بي مع اليوم الجديد، بدا لي أن مخاوفي كانت غير منطقية. وقفت فوجدت كاحل قدمي التي كان كعب حذائها مفككًا متورمًا ويؤلمني تحت كعب الحذاء، فجلست مجددًا وخلعت حذائي وألقيته بعيدًا.
أيقظت وينا وهبطنا إلى الغابة التي أضحت بحلول هذا الوقت خضراء ومبهجة بعدما بدت مظلمة مخيفة. عثرنا على بعض الفاكهة أفطرنا بها، ولم يمض وقت طويل قبل أن نلقى آخرين من القوم الصغار الوسماء يضحكون ويرقصون وكأن ليلًا لم يكن. عندها خطر لي من جديد اللحم الذي رأيته وأيقنت ماهيته وأشفقت من أعماق قلبي على هذا النوع الضعيف المنحدر من الجنس البشري العظيم. لا شك أن طعام جنس المورلوك في وقت ما من عملية الاضمحلال البشري التي بدأت منذ زمن بعيد قد نضب، ويرجح أنهم تغذوا على الفئران وما شابهها من الآفات، وصار الإنسان الآن أقل ميلًا إلى اصطفاء وانتقاء غذائه من ذي قبل، بل أقل من القردة كافة في ذلك. وبما أن النفور من تناول اللحم البشري ليس غريزة متأصلة، فإن هؤلاء الأحفاد غير البشريين للإنسان … حاولت أن أتأمل الأمر من منظور علمي. كان هذا الجنس البشري بالرغم من كل شيء يملك سمات بشرية أقل وأبعد عن الجنس البشري من أجدادنا آكلي لحوم البشر الذين عاشوا قبل ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف عام من زمننا، وقد زال ذكاؤه الذي كان سيجعل هذا الوضع مؤلمًا. لكن لم أزعج نفسي بالأمر؟ قوم الإيلوي لم يكونوا إلا قطيعًا يُسمن، أبقى عليه جنس المورلوك الشبيه بالنمل وتغذى عليه، ويرجح أنهم عنوا بتربيته أيضًا. وها هي وينا ترقص إلى جانبي!
حاولت أن أقي نفسي هذا الشعور بالهلع الذي تملكني باعتبار هذا الوضع عقابًا قاسيًا للإنسان على أنانيته لأنه ارتضى العيش بيسر وسعادة منتفعًا بكدح أخيه الإنسان، واتخذ من الضرورة شعارًا وذريعة لذلك. لكن بعد مضي وقت كاف عادت الضرورة لتسبب له المشكلات. حاولت حتى النظر بازدراء إلى تلك الأرستقراطية التعسة الآخذة في الاضمحلال، غير أن هذا التوجه كان مستحيلًا، فمهما بلغت درجة التدهور الفكري التي وصل إليها جنس الإيلوي فقد احتفظوا بالكثير من سمات الجنس البشري إلى حد استدعى تعاطفي معهم وأشركني معهم في انحطاطهم وخوفهم رغم أنفي.
آنذاك لم تكن لدي إلا أفكار واهية عن المسلك الذي علي أن أتبعه. أول ما خطر لي هو أن علي أن أبلغ ملاذًا آمنًا لأعد لنفسي أسلحة من المعدن أو الحجارة بقدر ما أستطيع التدبير. احتجت لذلك بوجه عاجل، وأملت أن أجد في المكان التالي الذي أقصده وسائل تمكنني من أن أصنع نارًا لأتسلح بشعلة، فقد كنت موقنًا أن هذا سيكون السلاح الأكثر فعالية في مواجهة جنس المورلوك. بعدئذ أردت أن أتدبر وسيلة لفتح البوابات البرونزية الموجودة تحت تمثال أبي الهول الأبيض. كنت على قناعة بأنني إن استطعت دخول تلك البوابات حاملًا شعلة من الضوء أمامي، فسأتمكن من العثور على آلة الزمن والفرار؛ إذ لم يخيل لي أن جنس المورلوك يتمتع بالقوة الكافية لنقلها بعيدًا. وعقدت العزم على أن أصحب وينا معي إلى زمننا. وبعدما قلبت تلك الخطط برأسي تابعت الاتجاه إلى البناء الذي راق لي ليكون المكان الذي نقطن به.
الفصل الثامن
لما دنونا من قصر البورسلين الأخضر قرب الظهيرة، وجدته مهجورًا يعمه الخراب. لم يتبق في نوافذه إلا آثار بعض الزجاج المهشم، وقد تهاوت من هيكله المعدني المتآكل أجزاء كبيرة من واجهته الخضراء. كان يقع على تل شديد الارتفاع مكسو بالعشب. عندما نظرت ناحية الشمال الشرقي قبل دخوله، دهشت للعثور على مصب نهر كبير أو جدول، ورجحت أنه المكان الذي احتضن فيما مضى مدينتي واندسوورث وباترسي، وعندها فكرت في ما يحتمل أن يكون قد حدث للمخلوقات البحرية، أو لعله يحدث لها اليوم، غير أنني لم أتابع تلك الفكرة بعد ذلك مطلقًا.
تبين لي لدى معاينة مادة بناء القصر أنها من البورسلين بالفعل، وعلى سطحها كُتب نقش بأحرف عجيبة. دفعني الحمق إلى أن أحسب أن وينا قد تساعدني في تفسيرها، لكنني أدركت أن فكرة الكتابة نفسها لم تخطر ببالها قط. أعتقد أنها بدت لي على الدوام أقرب إلى البشر مما كانت عليه فعليًّا، ربما لأن عواطفها كانت بشرية إلى حد بعيد.
لما جاوزنا مصارع الباب الضخمة — التي كانت مفتوحة ومحطمة — عثرنا بدلًا من القاعة المعتادة على رواق طويل أضاءته العديد من النوافذ الجانبية. ذكرني المكان أول وهلة بالمتاحف. غطى التراب بكثافة أرضه المكسوة بالبلاط، وغطى بلونه الرمادي مجموعة رائعة متنوعة من الأشياء، ثم لاحظت جزءًا سفليًّا من هيكل عظمي ضخم كالح يقف منتصبًا على نحو غريب بمنتصف القاعة. أدركت من قدميه المعوجتين أنه مخلوق منقرض يشبه مخلوق الميجاثيريوم. جمجمته وعظامه العلوية كانت ملقاة على التراب الثخين بجانبه، وقد تحلل هذا المخلوق في نفس المكان الذي تساقط فيه ماء المطر عبر فتحة في السقف. وجدت في مكان آخر من الرواق هيكلًا عظميًّا ضخمًا أسطواني الشكل لمخلوق البرونتصور، فتأكدت نظرية المتحف لدي. قصدت أحد جوانب المكان، فوجدت ما بدا كأرفف مائلة، وجدت بعدما أزحت التراب عنها الحاويات الزجاجية القديمة المألوفة في زمننا، لكن يرجح أنها كانت محكمة الغلق لأن محتوياتها كانت محفوظة جيدًا.
لا شك أننا وقفنا بين أطلال مدينة مستقبلية تشبه مدينة جنوب كنسينجتون! وهنا على ما يبدو قبع قسم علم المتحجرات الذي يرجح أنه تشكل من مجموعة مذهلة من الحفريات، لكن عملية التحلل الحتمية التي توقفت لبعض الوقت وفقدت ٩٩٪ من تأثيرها بانقراض البكتريا والفطريات عادت إلى العمل من جديد بخطى واثقة، لكن بطيئة، لتعمل أثرها على كنوز تلك المدينة. وجدت في كل مكان أثر أناس ضئيلي الحجم في هيئة حفريات نادرة مهشمة أو محاطة بخيوط على حزم من الخيزران وقد أزيلت بعض الحاويات جملة واحدة، على يد جنس المورلوك كما أظن. خيم الصمت على المكان، وأخمد التراب الكثيف صوت وقع أقدامنا. وبعدما دحرجت وينا قنفذ بحر على سطح زجاج مائل لإحدى الحاويات، جاءتني على الفور وأنا أحدق بالمكان من حولي وأخذت يدي بهدوء شديد ووقفت إلى جانبي.
ذهلت في البداية ذهولًا شديدًا من تلك الآثار العتيقة التي أتت من عصر فكري لم أفكر من قبل في الاحتمالات التي يطرحها. بل إنني نسيت قليلًا انشغالي بآلة الزمن.
ضم قصر البورسلين الأخضر هذا — بناءً على حجم المكان — ما يجعله لا يقتصر على كونه مجرد معرض متحجرات؛ لعله كان مجمع متاحف تاريخية، بل لعله مكتبة! تلك الأشياء، من منظوري على الأقل في وضعي الحالي، ستكون مثيرة للاهتمام بقدر أكبر بكثير من هذا المشهد للجيولوجيا القديمة التي حل بها الدمار. عثرت وأنا أستطلع المكان على رواق قصير آخر يمتد في الجهة المقابلة للرواق الأول بدا أنه مخصص للمعادن، ودفعتني مشاهدة كتلة من الكبريت إلى التفكير في صنع البارود، لكنني لم أجد نترات الصوديوم أو نترات من أي نوع. لا شك أن هذه العناصر أصبحت سائلة قبل عصور عديدة. لكن الكبريت علق بذهني، وأطلق سلسلة من الأفكار في رأسي، أما سائر محتويات الرواق، فبالرغم من أنها بوجه عام كانت الأفضل احتفاظًا بحالتها من بين كل ما رأيت، فلم تثر اهتمامي كثيرًا، إذ لا أتمتع بخبرة كبيرة في المعادن. من ثم مضيت إلى مجاز عمَّه خراب شديد مواز للقاعة الأولى التي دخلتها. بدا أن هذا الجزء مخصص للتاريخ الطبيعي، لكن كل ما به طواه النسيان منذ زمن بعيد. بقيت آثار قليلة ذابلة كانت يومًا لحيوانات محنطة أو مومياوات مجففة في برطمانات تحركت بالحياة فيما مضى، أو لغبار بني لنباتات هالكة. هذا هو كل شيء! أسفت لهذا؛ إذ كنت سأُسر بتقصي التغيرات الجلية التي قادت إلى اختفاء أشكال الحياة على ذاك النحو. بعدئذ أتينا على رواق ذي أبعاد هائلة، لكنه مظلم على نحو عجيب، أرضه تنحدر بزاوية طفيفة من الطرف الذي دلفت منه وبرزت به من حين لآخر كرات بيضاء متدلية من السقف — شُرخ الكثير منها وتهشم — مما دل على أن المكان كان مضاءً صناعيًّا. وهنا صرت في مجال خبرتي، فعلى كلا جانبيّ وجدت كتلًا ضخمة من آلات كبيرة، جميعها كان متآكلًا بشدة، والكثير منها معطلًا، لكن بعضها ظل إلى حد ما مكتملًا. أنتم تعلمون أنني مولع بصورة ما بالآلات، لذا ملت إلى البقاء بينها، لا سيما أنها بدت في الجزء الأغلب منها مثيرة كالألغاز، لكنني لم أكون إلا فكرة واهية عن الغرض الذي استخدمت له. خُيل لي أنني إن تمكنت من حل تلك الأحجيات فسأتملك قوى قد تساعدني في مواجهة جنس المورلوك.
أتت وينا فجأة إلى جانبي على مسافة قريبة جدًّا مني. أتت على نحو مباغت إلى حد أفزعني. أعتقد أنني لولاها لم أكن سأنتبه مطلقًا إلى أن أرض الرواق منحدرة. كان الطرف الذي دلفت منه إلى الرواق مرتفعًا إلى حد ما عن الأرض ومضاءً بنوافذ قليلة تشبه الشقوق، وعند السير إلى آخر الرواق ترتفع الأرض في مقابل تلك النوافذ إلى أن يظهر في النهاية منخفض أقرب في مساحته إلى مساحة منزل من منازل لندن، أمام كل نافذة من هذه النوافذ، ولا ينفذ إلا خط رفيع من الضوء من أعلى. جلت حول تلك الآلات بحيرة وببطء. انصب تركيزي بشدة عليها إلى حد أنني لم أنتبه إلى أن إضاءة المكان أخذت تخفت إلى أن نبهني خوف وينا المتزايد إلى ذلك، وعندها لاحظت أن الرواق أظلم ظلامًا حالكًا في النهاية، فساورني الشك، وحينما تأملت المكان من حولي وجدت التراب الذي غطى الأرض أقل، وسطحه أقل استواء، وبدا بعيدًا — حيث خيم الظلام — أن آثار أقدام صغيرة رفيعة تتخلله. عندها عاد إليَّ الشعور بوجود جنس المورلوك على مقربة منا من جديد، وأحسست أنني أهدر وقتي في هذه الدراسة الأكاديمية للآلات، وتذكرت أنني لبثت حتى وقت متأخر من عصر اليوم بدون سلاح، أو مأوى، أو وسيلة لإشعال النار، ثم تنامى إلى مسامعي صوت طقطقة غريب والأصوات العجيبة نفسها التي سمعتها من قبل بالبئر.
فأمسكت بيد وينا، ثم التمعت في رأسي فجأة فكرة فتركت وينا والتفت إلى آلة برزت منها رافعة تشبه تلك التي توجد في أكشاك الإشارات، تسلقت بصعوبة قاعدتها وأمسكت بقوة بهذه الرافعة بكلتا يدي وملت بكل ثقلي بها جانبًا. بدأت وينا فجأة في الأنين لما تركتها وحدها في الرواق الأوسط، لكنني كنت مصيبًا إلى حد بعيد في الحكم على قوة تلك الرافعة، فقد انتُزعت بعد محاولات جهيدة استغرقت دقيقة، انضممت بعدها إلى وينا حاملًا بيدي صولجانًا رأيت أنه كفيل بتهشيم رأس أي فرد من جنس المورلوك قد أواجهه، وقد تقت بشدة إلى قتل بعض تلك المخلوقات. قد تحسبون أن رغبة المرء في قتل أحفاد من سلالته تنبئ عن وحشية شديدة، لكن بطريقة ما تعذر علي تصور أن تلك الكائنات تحمل ذرة من الآدمية. لم أكن أمانع في التوجه مباشرة إلى آخر الرواق وقتل تلك المخلوقات الوحشية التي تنامت إليّ أصواتها إلا لأنني لم أرد أن أترك وينا، ولاقتناعي بأنني إن أخذت في إشباع تعطشي للقتل فقد تتضرر آلتي.
غادرت الرواق ممسكًا بوينا بيد وبالصولجان في يدي الأخرى إلى رواق أكبر بدا لي — ما إن وقع عليه بصري — ككنيسة عسكرية علقت بها رايات ممزقة. تبينت على الفور أن الخرق البالية البنية المتفحمة التي تدلت على جانبيه كانت آثار كتب أخذت في التحلل وتداعت منذ زمن طويل إلى أشلاء، واختفى منها كل أثر للطباعة، لكن تناثرت في أرجاء المكان ألواح ملتوية ومشابك معدنية تنبئ بما يكفي بما حل بالمكان. لو كنت أحد رجال الأدب لوعظت بأن الطموحات كلها غير مجدية، لكن بحكم الحال كان أكثر ما أذهلني هو ضياع كل الجهود الهائلة التي يشهد عليها هذا الخراب المقبض للصدر المليء بالأوراق المتعفنة. أقر أنني آنذاك انشغلت بالدرجة الأولى بالتفكير في جريدة المعاملات الفلسفية ورسالتي العلمية المكونة من سبع عشرة ورقة عن البصريات الفيزيائية.
صعدنا بعدئذ سلمًا عريضًا وأتينا إلى مكان يحتمل أنه كان فيما مضى معرضًا للكيمياء الصناعية، لكن لم يكن لدي أدنى أمل في العثور على اكتشافات مفيدة. كان المعرض بحال جيدة فيما عدا طرف انهار سقفه فيه. قصدت بلهفة كل حاوية غير مهشمة به وعثرت أخيرًا في إحدى الحاويات شديدة الإحكام على علبة أعواد ثقاب اختبرت أعوادها فوجدتها بأفضل حال؛ لم تتسلل إليها حتى الرطوبة، فالتفتُّ إلى وينا وصحت لها بلغتها: «ارقصي.» لقد صار بحوزتي سلاح حقيقي أواجه به جنس المورلوك المريع الذي تخوفنا منه، من ثم رقصت على أرض هذا المتحف المهجور المغطاة بتراب كثيف ناعم رقصة متنوعة، وأنا أعزف بصفيري لحن أغنية «أرض الوفاء» محاولًا أن أبدو مبتهجًا قدر الإمكان، الأمر الذي أسعد وينا سعادة بالغة. أديت رقصة تشبه في جزء منها رقصة الكنكان بأداء متواضع والرقص النقري في جزء آخر والرقص بالتنورة في جزء ثالث (بقدر ما مكنني معطفي الطويل من ذلك) وجزء من ابتكاري، فأنا بطبعي مبدع كما تعلمون.
غير أنني ما زلت أجد أن إفلات علبة أعواد الثقاب تلك من تلف الزمن لكل هذه الأعوام التي لا تحصى في غاية الغرابة، غير أن هذا كان من حسن حظي. لكنني عثرت على مادة أخرى كان العثور عليها إلى حد بعيد أشد غرابة وهي الكافور. وجدته في برطمان محكم الإغلاق، شديد الإحكام في الواقع. خُيل لي في البداية أنه شمع البارافين، من ثم حطمت زجاج البرطمان، لكن رائحة الكافور كانت جلية. تصادف أن هذه المادة القابلة للاشتعال صمدت — ربما لآلاف القرون — وسط هذا التدهور الشامل. ذكرتني بلوحة بنية داكنة رأيتها فيما مضى، رسمت بحبر مستقى من حفريات أحد السهميات التي يرجح أنها هلكت وتحجرت منذ ملايين السنين. كدت أن ألقيها لولا أنني تذكرت أنها قابلة للاشتعال وأنها تحترق بوهج قوي ساطع وأنها في الواقع شمعة مذهلة؛ من ثم وضعتها في جيبي، إلا أنني لم أجد أي متفجرات أو أي وسيلة لتحطيم البوابات البرونزية. إلى تلك اللحظة كانت رافعتي الحديدية هي أكثر ما يخدمني بين ما صادفت، لكنني غادرت المتحف شاعرًا بسعادة كبيرة.
لا يسعني أن أقص عليكم كل ما وقع خلال هذه الفترة الطويلة التي أمضيتها بعد الظهر. سيتطلب هذا أن أجهد ذاكرتي في تذكر كافة استكشافاتي بترتيب وقوعها. أذكر رواقًا طويلًا كانت به حوامل صدئة لأسلحة وأنني ترددت في الاختيار ما بين فأس وسيف مع رافعتي، فلم يكن باستطاعتي حمل كليهما، لكن بدا أن رافعتي الحديدية هي الأنفع في فتح البوابات المعدنية. وجدت أعدادًا من البنادق والمسدسات والرشاشات، أغلبها كان صدئًا، لكن الكثير منها صُنع من معدن جديد، وظل إلى حد ما بحالة جيدة، لكن أي أعيرة نارية أو مساحيق بارود قد تكون احتوت عليها تعفنت وتحولت إلى رماد. وجدت ركنًا متفحمًا ومحطمًا، حسبت أنه آل إلى هذه الحال بسبب انفجار بين بعض نماذج العرض. ووجدت في مكان آخر مجموعة كبيرة من التماثيل على حد ظني من بولينيزيا والمكسيك واليونان وفينيقيا ومن كل دول العالم، وهنا لم أستطع أن أقاوم رغبة عارمة في كتابة اسمي على أنف تمثال عملاق من الحجر الصابوني من أمريكا الجنوبية حاز بشدة على إعجابي.
مع اقتراب المساء أخذ اهتمامي يفتر. تنقلت بين متاحف ملأها التراب، وخيم عليها الصمت وعمها في كثير من الأحيان الخراب، ولم يكن بها أحيانًا إلا أكوام من المعادن الصدئة والليجنيت، وأحيانًا معروضات أفضل حالًا. وجدت نفسي في مكان ما بالقرب من نموذج لمنجم قصدير، ثم وجدت بمحض الصدفة في علبة محكمة الإغلاق لفافتي ديناميت، فصحت: «وجدتها!» ثم حطمت العلبة بسعادة. لكن عندها ساورني الشك والتردد، فانتقيت ناحية صغيرة من المتحف وأجريت تجربتي. لم أشعر قط بمثل هذا الإحباط الذي شعرت به وأنا أنتظر لخمس دقائق، ثم لعشر ثم لخمس عشرة دقيقة مترقبًا انفجارًا لم يأت قط. لا شك أن اللفافتين كانتا للعرض فقط، الأمر الذي كان بديهيًّا بالنظر إلى مظهرهما. أظن حقًّا أنهما لو لم تكونا كذلك لهرعت على الفور إلى البوابات البرونزية ونسفت تمثال أبي الهول والبوابات البرونزية ونسفت معها احتمالات عثوري على آلة الزمن (كما تبين لي فيما بعد).
أعتقد أننا بعدها أتينا على فناء صغير مفتوح بالقصر، أرضه كستها الأعشاب ونمت به ثلاثة أشجار فاكهة. استرخينا به واستعدنا قوانا وقرابة غروب الشمس أخذت في تأمل موقفنا. كان الليل قد أخذ يغشانا ولم أعثر على مخبأ حصين بعد، لكنني ما عدت أعبأ كثيرًا بذلك، فقد صرت أملك أفضل سلاح على ما يبدو لمواجهة جنس المورلوك؛ أعواد الثقاب، وكان معي الكافور في جيبي في حال احتجت إلى إشعال شعلة. بدا لي أن أفضل إجراء يمكن اتخاذه هو إمضاء الليل في العراء، احتماءً ببعض النيران، وفي الصباح تبقى مهمة استعادة آلة الزمن، ومعي للحصول عليها رافعتي الحديدية. لكن آنذاك مع نمو معارفي تبدل شعوري حيال البوابات البرونزية. لقد امتنعت إلى تلك اللحظة عن اقتحامها لما وارته من غموض على الجانب الآخر، لكنها لم تبد لي قوية بدرجة كبيرة، وأملت أن أجد رافعتي الحديدية مناسبة لفتحها.
الفصل التاسع
غادرنا القصر وما يزال جزء من الشمس يلوح في الأفق. عزمت على بلوغ تمثال أبي الهول الأبيض بحلول صباح اليوم التالي، أما قبل الغسق فقد عقدت النية على المضي عبر الغابات التي استوقفتني في رحلتي السابقة. خططت للابتعاد قدر الإمكان هذا المساء، وإشعال نار والنوم محتميًا بوهجها، من ثم أخذت أثناء سيرنا في جمع أي أعواد أو أعشاب جافة وقع عليها بصري، ولم يمض وقت طويل قبل أن أجد ذراعيّ محملتين بقدر هائل منها. وعليه مضينا بوتيرة أبطأ مما توقعت، كما أن وينا أصابها التعب، وبدأ النعاس يخامرني بدوري؛ لذا حل الظلام تمامًا قبل أن نبلغ الغابة. كانت وينا ستتوقف عند بلوغ حافة التل المكسوة بالأعشاب متخوفة من الظلام الذي خيم أمامنا، لكن شعورًا غريبًا بخطر وشيك كان بمنزلة إنذار لي دفعني إلى المضي قدمًا. كانت قد مرت علي ليلة ويومان لم أنم طوالهما، وقد شعرت بالحمى وبأنني مرهق الأعصاب، وشعرت بأن النوم سيغشاني وتأتي مخلوقات المورلوك.
فيما ساورنا التردد، أبصرت بين الآجام التي غشيها الظلام خلفنا والأشكال الداكنة التي تراءت من خلفها ثلاثة كيانات تقترب. أحاطت بنا من كل مكان أشجار خفيضة وأعشاب طويلة، ولم أطمئن للخلسة التي اقتربت بها تلك المخلوقات. كان عرض الغابة على حد تقديري أقل من ميل، من ثم بدا لي أنه لو أمكننا اجتيازها إلى جانب التل المقفر فسنكون بأمان أكثر. حسبت أنني بأعواد الثقاب والكافور الذي أحمله أستطيع أن أبقي دربي عبر الغابة مضيئًا، لكن كان من الواضح أنني إن كنت سألوح مهددًا بأعواد الثقاب بيدي فسيتعين علي أن أترك الأحطاب التي حملتها، من ثم تركتها على مضض، ثم خطر لي أنني سأذهل المخلوقات التي تقف من خلفنا بإشعالها. سأكتشف فيما بعد فداحة حماقتي تلك، لكن خطر لي آنذاك أنها خطوة ذكية لتأمين فرارنا.
لا أدري إن كنتم قد فكرتم من قبل في مدى ندرة النيران في غياب الإنسان عن وجه الأرض وفي ظل مناخ معتدل؛ حرارة الشمس نادرًا ما تكفي لإشعال الحرائق، حتى عندما تتركز بفعل قطرات الندى، كما هو الحال في المناطق الأكثر حرًّا. وقد يضرب البرق ويختفي، لكنه نادرًا ما يولد حرائق واسعة الانتشار. وقد تحترق النباتات الذابلة بفعل الحرارة الناجمة عن تخمرها، لكن احتراقها نادرًا ما ينتج لهبًا. وفي ظل هذا الاضمحلال أيضًا، نسي الإنسان كيف يصنع النيران؛ كانت ألسنة اللهب التي تلتهم كومة الأحطاب التي كدستها غير مألوفة وعجيبة لوينا.
أرادت أن تركض إليها وتلهو بها، وأعتقد أنها كانت ستلقي نفسها بها لو لم أمنعها من ذلك. لكنني أمسكتها وحملتها، وقفزت بجرأة بالرغم من مقاومتها إلى الغابة أمامي، أضاء وهج النيران التي أشعلتها دربي لمسافة قصيرة. وعندما التفت خلفي حينئذٍ أمكنني أن أرى بين جذوع النباتات المتزاحمة أن اللهب الذي نما بين كومة الأعواد التي كدست سرى إلى بعض الآجام المجاورة وزخف خط من النيران صاعدًا حشائش التل. ضحكت من ذلك والتفت مجددًا لأواجه الأشجار التي خيم عليها الظلام أمامي. كان الظلام حالكًا؛ تشبثت وينا بي بعنف، لكن مع اعتياد عينيَّ على الظلام ظل هناك ضوء كافٍ لتلافي جذوع النباتات. كانت السماء مظلمة تمامًا باستثناء بقعة زرقاء بعيدة أرسلت إلينا الضوء في أماكن متفرقة. لم أشعل أيًّا من أعواد الثقاب التي معي لأن يديّ كانتا مشغولتين؛ حملت بذراعي اليسرى صغيرتي وينا، وبالذراع الأخرى رافعتي الحديدية.
لم يتنامَ إلى أذنيّ لبعض الوقت سوى صوت الأغصان المتكسرة تحت قدمي، وهفيف النسيم الخافت وصوت أنفاسي وخفقات الأوعية الدموية في أذني، ثم بدا لي أنني أشعر بوقع خطى سريعة خفيفة من حولي، فتابعت المضي بلا توقف، لكن أخذ صوت وقع الخطى يتضح أكثر، ثم تنامت إلى أذني الأصوات العجيبة نفسها التي سمعتها في عالم المورلوك السفلي. لا شك أنه كان من حولي العديد منهم يطبقون علي. لم تكد دقيقة أخرى تمضي حتى شعرت بشيء يجذب معطفي ثم بآخر يجذب ذراعي. ارتعدت وينا بقوة وتسمّرت في مكانها.
حان الوقت لإشعال عود ثقاب، لكن كي أجلب واحدًا تعين علي أن أضع وينا أرضًا، ففعلت وفيما أخذت أتحسس جيبي بارتباك، نشبت معركة في الظلام حول ركبتي؛ وينا في صمت تام من ناحية ومخلوقات المورلوك تصدر الهمهمات العجيبة ذاتها من ناحية أخرى. شعرت كذلك بأيد ناعمة صغيرة تزحف على معطفي وظهري وتلامس حتى رقبتي، لكن هنا اشتعل عود الثقاب محدثًا أزيزًا. أمسكت به وهو يبعث بوهجه ورأيت ظهور مخلوقات المورلوك البيضاء وهي تولي الأدبار فارة بين الأشجار، فأخذت على عجل كتلة من مادة الكافور التي حملتها بجيبي وتأهبت لإشعالها ما إن يخف وهج عود الثقاب، ثم نظرت إلى وينا فوجدتها ممددة متشبثة بقدمي وساكنة تمامًا، ووجهها نحو الأرض، فانحنيت عليها وقد تملكني الارتياع فجأة. بدا أن أنفاسها قد خمدت تقريبًا. أشعلت كتلة الكافور وألقيتها على الأرض، وفيما انشطرت وتوهجت وأبعدت مخلوقات المورلوك جثيت على ركبتي وحملت وينا. بدت الغابة من خلفي ممتلئة بحركة وهمهمات مجموعة كبيرة من تلك المخلوقات!
بدا أن وينا فاقدة الوعي. وضعتها بحذر على كتفي ثم نهضت لأتابع المضي في طريقي، وهنا أدركت أمرًا مخيفًا؛ لقد انعطفت أثناء مناوراتي بأعواد الثقاب ووينا لعدة مرات، ولم يعد لدي أدنى فكرة عن الاتجاه الذي علي أن أسلكه. ربما أصبحت مواجهًا لقصر البورسلين الأخضر من جديد. وجدت نفسي أتصبب عرقًا باردًا. كان علي أن أهتدي بسرعة إلى حل، من ثم قررت أن أشعل نارًا وأن أخيم حيث كنا، فوضعت وينا أرضًا وهي ساكنة بلا حراك على أرض مكسوة بعشب وطمي ناعم وبدأت على عجل شديد في جمع الأعواد وأوراق النباتات في الوقت الذي أخذ فيه وهج كتلة الكافور الأولى التي أشعلتها يخفت. برقت أعين مخلوقات المورلوك في كل مكان بالظلام من حولي كالجمر.
ارتعش وهج الكافور، وانطفأ، فأشعلت عود ثقاب آخر وفيما فعلت ذلك، اندفع كيانان أبيضان كانا يقتربان من وينا مبتعدين، أحدهما غشي الضوء بصره إلى حد أنه اتجه نحوي مباشرة وشعرت بعظامه تتهشم من أثر اللكمة التي كلتها له بقبضتي. أطلق صرخة يائسة وترنح قليلًا ثم سقط، فأشعلت قطعة كافور أخرى وواصلت جمع الأغراض التي سأشعل بها النيران. لاحظت على الفور أن بعض أوراق النباتات التي تعلوني شديدة الجفاف إذ لم تهطل أي أمطار منذ وصولي بآلة الزمن، أي منذ ما يقرب من أسبوع. من ثم بدلًا من البحث بين الأشجار عن أغصان متساقطة، أخذت في القفز وجذب أفرع منها، وبذا صارت لدي نيران كثيفة انبعث منها الدخان من أخشاب ندية وأعواد جافة وأمكنني الاقتصاد من استخدام الكافور. بعد ذلك التفت إلى وينا التي تمددت إلى جانب رافعتي الحديدية، وحاولت إنعاشها، لكنها تمددت كالموتى. لم يسعني التأكد هل كانت تتنفس أم لا.
تطاير الدخان المنبعث من النيران نحوي، ولا بد أنه أشعرني بالتثاقل فجأة. تعبق الهواء برائحة الكافور، ولم تكن هناك حاجة لإذكاء النيران التي أشعلت لساعة أو نحو ذلك. كنت أشعر بالتعب الشديد بعد المجهود الذي بذلته، فجلست. امتلأت الغابة بأصوات همهمات ناعسة لم أفهم مبعثها. كان رأسي يتثاقل من أثر النعاس فأفتح عيني، لكن الظلام خيم على كل شيء ونالتني أيدي مخلوقات المورلوك. تحسست على عجل جيبي بحثًا عن علبة أعواد الثقاب وأنا أنفض عني أصابعهم المتشبثة بي، لكنها ضاعت! بعدها أمسكوا بي وأطبقوا علي من جديد. ما لبثت أن أدركت ما حدث؛ غشيني النوم وانطفأت النيران. شعرت بمرارة الموت تسيطر على أفكاري. بدا لي أن الغابة تملؤها رائحة الخشب المحترق. أمسكتني المخلوقات من رقبتي وشعري وذراعي وجذبتني أرضًا. كان الشعور بتلك المخلوقات الملساء وهي تتكتل علي مريعًا إلى حد لا يوصف. شعرت بأنني احتجزت في شبكة عنكبوت بشعة؛ أُخضعت وقهرت. شعرت بأسنان صغيرة تقرض رقبتي، فتقلبت وفيما فعلت ذلك، أتت يدي على رافعتي الحديدية. بث في هذا قوة، فجاهدت للنهوض ثم أخذت ألكز بالرافعة حاملًا إياها على مسافة قصيرة مني؛ أوجهها وفق تقديري لمواضع وجوههم. شعرت بجلودهم المتغضنة وعظامهم وهي تتهشم من أثر ضرباتي، واستطعت أن أتحرر من قبضتهم لفترة وجيزة.
غمرني فجأة هذا الشعور العجيب بنشوة القتال الذي يصاحب في أحيان كثيرة المعارك الشديدة. كنت أعلم أنني ووينا قد صرنا في عداد الموتى، لكنني عزمت على أن أجعل المورلوك يدفعون ثمن وجبتهم غاليًا. وقفت موليًا ظهري شجرة، ملوحًا برافعتي المعدنية أمامي. كانت الغابة تعج بصوت حركاتهم المضطربة وصيحاتهم. مضت دقيقة وبدا أن أصواتهم ترتفع لتكتسب نبرة حماسية وأضحت تحركاتهم أسرع، لكن لم يأت أي منهم ليصل إلى متناولي. وقفت أحدق في الظلام، وفجأة برق الأمل. ماذا لو كان المورلوك أنفسهم يشعرون بالخوف؟ ما لبث أن حدث شيء عجيب، إذ بدا أن الظلام قد أخذ يتسلل إليه الضوء، وبدأت أبصر مخلوقات المورلوك من حولي بغير وضوح. ثلاثة منهم ضربوا قدميّ، ثم لاحظت ما جعلني أندهش غير مصدق عينيّ؛ ركض آخرون منهم في دفعات بلا توقف من نقطة ما خلفي ولم تعد ظهورهم تبدو من بعيد بالغابة بيضاء بل تميل للاحمرار. فيما وقفت فاغرًا فمي من أثر الدهشة، أبصرت شرارة حمراء صغيرة تزحف عبر فجوة أرسلت إليها النجوم الضوء بين أغصان الأشجار ثم تلاشت، ومن ثم فهمت سبب رائحة الخشب المحترق والهمهمات الناعسة — التي تحولت بحلول هذا الوقت إلى صرخات هادرة صاخبة — والوهج الأحمر وفرار مخلوقات المورلوك.
برزت من خلف الشجرة التي وقفت عندها ونظرت خلفي، فأبصرت بين الأعمدة الداكنة التي رسمتها الأشجار القريبة مني ألسنة لهب الغابة المحترقة. كانت النيران الأولى التي أشعلتها قادمة لملاحقتي. بحثت عن وينا، لكنها اختفت. لم يترك صوت الصفير والفرقعة وصوت سقوط الأشجار المكتوم مع اشتعالها باللهب مجالًا كبيرًا من الوقت للتفكير. اتبعت مخلوقات المورلوك وأنا ما أزال قابضًا على رافعتي الحديدية. لم أبعد عنهم بمسافة كبيرة. فور أن زحفت ألسنة اللهب بسرعة كبيرة إلى الأمام على يميني وأنا أركض — حتى إنها أوشكت أن تحاصرني — اضطررت إلى الجنوح يسارًا. لكنني في نهاية المطاف بلغت ساحة مفتوحة صغيرة، وفي الوقت نفسه جاء أحد مخلوقات المورلوك يركض نحوي على نحو أخرق وتجاوزني ليتجه مباشرة إلى قلب النيران!
هنا وقعت عيناي على المشهد الأكثر غرابة وإثارة للفزع فيما أظن في هذا العصر المستقبلي. أضاء الفضاء كله من حولي مع انعكاس وهج النيران وكأنه النهار. وجدت في المنتصف تلًّا صغيرًا أو ركامًا من التراب تعلوه شجيرات زعرور بري محترقة، ومن خلفه شريط متفرع من الغابة المحترقة تنبعث منه ألسنة اللهب الصفراء الملتوية لتطوق تمامًا هذه الساحة الخاوية بجدار من النيران. وقف على جانب التل ما يقرب من ثلاثين أو أربعين مخلوقًا من مخلوقات المورلوك وقد غشي الضوء والحرارة أبصارهم وأخذوا يتخبطون بعضهم في بعض جيئة وذهابًا حائرين. لم أنتبه في البداية إلى أنهم لا يبصرون، فأخذت أسدد لهم الضربات بشراسة برافعتي المعدنية في نوبة هلع هستيرية وهم يدنون مني، فأصرع أحدهم وأُنزل الإصابات بآخرين، لكن عندما لاحظت أحدهم وهو يتحسس طريقه تحت شجيرات الزعرور البري قبالة السماء التي اصطبغت بالحمرة وسمعت أنينهم أيقنت من افتقارهم تمامًا إلى الحيلة وتعاستهم في النور وتوقفت عن تسديد الضربات لهم.
لكن بين الحين والآخر كان أحدهم يتجه مباشرة نحوي ليدب في الرعب إلى حد يجعلني أرتعد خوفًا، وأندفع بسرعة مراوغًا إياهم. خف وهج النيران في نقطة ما وتخوفت من أن تتمكن تلك المخلوقات الكريهة من إبصاري لوهلة، ففكرت في مبادأتهم بالقتال بأن أصرع بعضًا منهم قبل أن يقع ذلك، لكن النيران شبت من جديد بوهج قوي وامتنعت عن ذلك، وسرت في أرجاء التل بينهم متحاشيًا إياهم باحثًا عن أثر لوينا. لكن وينا اختفت.
جلست في النهاية على قمة التل الصغير أشاهد تلك المخلوقات الضريرة العجيبة الرهيبة وهي تتحسس طريقها جيئة وذهابًا وتطلق صيحات غير مفهومة مع توهج النيران بشدة. تدفق الدخان المنبثق صاعدًا السماء وخلال التقطعات النادرة في هذا الغطاء الأحمر الذي بدا بعيدًا كما لو كان من عالم آخر، التمعت النجوم الصغيرة. أتاني مخلوقان أو ثلاثة من مخلوقات المورلوك تتخبط، فأبعدتهم بلكمة كلتها لهم بقبضتي وأنا أرتعد خوفًا.
كنت موقنًا أغلب تلك الليلة من أنني أعيش كابوسًا. عضضت نفسي وصرخت توقًا للاستيقاظ، وضربت الأرض بكلتا يدي ونهضت ثم جلست مجددًا وتجولت جيئة وذهابًا ثم جلست من جديد، ثم أخذت في فرك عينيَّ والابتهال إلى الله ليبقيني يقظًا. رأيت مخلوقات المورلوك ثلاث مرات تخفض رءوسها على نحو ينبئ عن ألم وتندفع نحو النيران. لكن في نهاية الأمر برز ضوء النهار على النيران التي أخذت تخفت، وعلى كتل الدخان الداكن المتدفقة وجذل الأشجار التي ابيضّت وتفحمت ومخلوقات المورلوك الشاحبة التي تضاءلت أعدادها.
بحثت مجددًا عن أثر لوينا، لكنني لم أجدها. كان من الواضح أن مخلوقات المورلوك قد حملت الصغيرة المسكينة إلى الغابة. لا يسعني أن أصف لكم كم شعرت بالارتياح لأنني نجوت من هذا المصير الفظيع الذي بدا أنه ينتظرني. وفيما اعتملت في ذهني تلك الأفكار، شعرت برغبة في بدء مذبحة لتلك المخلوقات الكريهة من حولي وقد صارت بلا حيلة، لكنني تمالكت نفسي. كان التل الصغير كما ذكرت آنفًا يشبه جزيرة وسط الغابة. أمكنني من قمته أن أتبين وسط الضباب الذي ألقى به الدخان قصر البورسلين الأخضر، ومن ثم استطعت أن أتبين الاتجاه الذي علي أن أسلكه لبلوغ تمثال أبي الهول الأبيض، فعقدت بعض الأعشاب حول قدميّ، وعرجت مواصلًا طريقي بين الرماد المنبعث منه الدخان وجذوع النباتات المتفحمة التي ظلت النيران تشتعل بها، قاصدًا مخبأ آلة الزمن، تاركًا ما تبقى من تلك المخلوقات اللعينة وهي تذهب وتجيء وتئن مع ازدياد وضوح ضوء النهار. سرت ببطء إذ خارت قواي تقريبًا وصرت كسيحًا، وشعرت بالأسى الشديد للميتة البشعة التي لاقتها وينا الصغيرة. بدا أن تلك الفاجعة تفوق احتمالي. يبدو لي الآن في هذه الغرفة المألوفة أنها فاجعة حلم وليست فاجعة حقيقية، لكنني شعرت على إثرها ذاك الصباح بالوحدة التامة؛ الوحدة القاتلة. أخذت أفكر في بيتي هذا، وفي هذه المدفأة، وفي بعض منكم، ومع تلك الأفكار خامرني اشتياق آلمني.
لكن فيما سرت على الرماد المنبعث منه الدخان، اكتشفت أنه لا تزال هناك بعض أعواد الثقاب في جيب بنطالي، يرجح أنها سقطت من علبة أعواد الثقاب قبل أن تضيع.
الفصل العاشر
نحو الساعة الثامنة أو التاسعة صباحًا، بلغت المقعد المصنوع من المعدن الأصفر الذي تأملت من عليه العالم في المساء الذي وصلت فيه إلى هذا الزمان. فكرت في الاستنتاجات المتسرعة التي قفزت إليها في ذلك المساء ولم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك بمرارة من ثقتي في استنتاجاتي. امتد أمامي المشهد الرائع نفسه؛ أوراق النباتات الكثيفة نفسها، القصور الرائعة والأطلال الساحرة ذاتها، النهر الفضي ذاته يجري بين ضفتيه الخصبتين، والقوم وسيمي الطلعة الذين يذهبون ويجيئون في أرديتهم المبهجة بين الأشجار. بعضهم كان يستحم في نفس المكان الذي أنقذت فيه وينا. شعرت لدى رؤيتهم بغصة قوية مباغتة، من جهة أخرى برزت القباب المؤدية إلى العالم السفلي كنقاط تشوه جمال المشهد. صرت أعلم ما الذي يخفيه جمال عالم ساكني سطح الأرض. كان يومهم نهارًا سارًّا للغاية كما يكون نهار قطيع ماشية في حقل، وكالقطيع لم يعادوا أحدًا، ولم يضعوا التدابير لمواجهة احتياجاتهم، ولاقوا نفس المصير.
شعرت بالأسى عندما خطر لي كم كان حلم الفكر الإنساني وجيزًا. أودى الفكر الإنساني نفسه بنفسه، فقد كُرس على الدوام لبلوغ اليسر والرخاء والوصول إلى مجتمع متوازن يرفع شعار الأمن والاستمرارية، وحقق آماله ليصل في نهاية المطاف إلى هذا المصير. في مرحلة ما يرجح أن الحياة وأملاك البشرية بلغت الأمان التام. ركن الثري إلى ثروته ورخائه، وركنت الطبقة الكادحة إلى حياتها وأعمالها، ولا شك أنه في ظل هذا العالم المثالي لم تطرأ مشاكل البطالة، ولم تترك إشكاليات اجتماعية بلا حل، وتبع ذلك سكون شديد.
من بين قوانين الطبيعة التي نتجاهلها أن الفكر تتعدد استعمالاته لقاء التغيير ومواجهة الأخطار والمشكلات، وعندما ينسجم الحيوان انسجامًا تامًّا مع بيئته المحيطة تصبح منظومته مثالية. لا تستدعي الطبيعة إعمال الذكاء إلا عندما تصبح العادات السلوكية والغرائز غير مجدية. وبعبارة أخرى، ينتفي إعمال الذكاء عندما ينتفي التغيير والحاجة إليه. الحيوان الذي يحتاج إلى مواجهة الكثير من الاحتياجات والأخطار هو وحده الذي يتمتع بقدر من الذكاء.
من ثم آلت الحال بساكني سطح الأرض — كما أظن — إلى الوسامة والضعف، وبمن يسكنون تحت الأرض إلى الصناعات الميكانيكية. لكن هذا الوضع المثالي كان ينقصه شيء واحد لتكتمل مثالية المنظومة الميكانيكية؛ ألا وهو الاستمرارية المطلقة. يبدو أن غذاء من يسكنون تحت الأرض تأثر مع مضي الزمن وأصبح مختلفًا، وعادت من جديد الحاجة أم الاختراع التي كُبحت لبضعة آلاف سنة وبدأت من باطن الأرض. يرجح أن عالم ساكني باطن الأرض لاتصاله بالآلات — التي تظل بحاجة لإعمال العقل بقدر ما خارج إطار العادة، بصرف النظر عن مدى تقدمها — احتفظ بحكم الضرورة بقدر أكبر من المبادرة مما لدى عالم ساكني سطح الأرض، وإن كان أضعف منه لدى البشر العاديين. وعندما شحت أنواع اللحوم الأخرى، التجأ هذا النوع إلى ما حرمته العادات القديمة. هكذا كان منظوري عندما تأملت عالم عام ٨٠٢٧٠١ (ثمانمائة ألف وألفين وسبعمائة وواحد) للمرة الأخيرة. قد يكون أبعد تفسير عن الصواب يتوصل إليه عقل فانٍ، لكن هكذا بدا لي الأمر، وهكذا أعرضه عليكم.
بعد المتاعب والأحداث الحافلة بالإثارة والأهوال التي واجهتها الأيام الماضية، بدا لي المشهد الهادئ وضوء الشمس الدافئ بالغ العذوبة بالرغم من حزني. كنت أشعر بالتعب والنعاس، ولم يمض وقت طويل قبل أن أنتقل من وضع النظريات إلى الإغفاء، فلما انتبهت إلى ذلك تقبلت رغبتي وحظيت بقسط طويل ممتع من النوم ممددًا على الأرض المكسوة بالعشب.
استيقظت قبل غروب الشمس بوقت قصير وقد صرت مطمئنًا إلى أن مخلوقات المورلوك لن تباغتني أثناء نومي مجددًا. هبطت التل متجهًا نحو تمثال أبي الهول الأبيض حاملًا رافعتي الحديدية في يد ويدي الأخرى تعبث بأعواد الثقاب في جيبي.
لكن جد أمر بعيد كل البعد عن التوقع. عندما دنوت من قاعدة تمثال أبي الهول وجدت المصاريع البرونزية مفتوحة؛ انزلقت إلى أسفل لتدخل في شقوق رفيعة.
توقفت على مسافة قصيرة منها مترددًا في الدخول.
داخل قاعدة التمثال كانت هناك غرفة صغيرة قبعت آلة الزمن في مكان مرتفع بركن منها. كنت أحمل رافعاتها الصغيرة في جيبي. ومن ثم انهارت بسهولة كل خططي المحكمة لحصار التمثال الأبيض، فتخلصت من رافعتي الحديدية آسفًا إلى حد ما لأنني لم أستخدمها.
خطرت لي فجأة فكرة وأنا أنحني متجهًا نحو بوابة قاعدة التمثال. فهمت للمرة الأولى آلية تفكير جنس المورلوك. دلفت إلى داخل قاعدة التمثال البرونزية مقاومًا رغبة قوية في الضحك وصعدت إلى آلة الزمن، ودهشت لما وجدتها منظفة ومزيتة بعناية. لقد ظننت منذ اختفائها أن مخلوقات المورلوك فككتها في محاولة خرقاء لفهم الغرض منها.
فيما وقفت أتأمل الآلة شاعرًا بالسعادة لمجرد لمسها، حدث ما توقعت. رُفعت المصاريع البرونزية فجأة واصطدمت بإطارها محدثة رنينًا. كنت في الظلام حبيسًا. هذا هو ما حسبته مخلوقات المورلوك، الأمر الذي جعلني أضحك ضحكة خافتة وأنا أشعر بالسعادة.
تنامت إلى أذني بالفعل همهمات ضحكاتهم وهم يدنون مني، فحاولت بهدوء أن أشعل عود الثقاب. كل ما كان علي فعله هو أن أثبت رافعات الآلة بها لأختفي كالشبح، غير أنني أغفلت أمرًا بسيطًا؛ كانت أعواد الثقاب من هذا النوع الرديء الذي لا يشتعل إلا بالاحتكاك بعلبته.
لكم أن تتخيلوا كيف زال عني كل هدوئي. كانت هذه المخلوقات الوحشية قريبة جدًّا مني. لامسني أحدهم فسددت ضربات ساحقة لهم في الظلام بالرافعات وشرعت في تسلق مقعد الآلة، لكن طالتني يد بعد أخرى، فكان علي ببساطة أن أقاوم أصابعهم العنيدة التي تحاول الوصول إلى الرافعات، وفي الوقت نفسه أتحسس طريقي في الظلام باحثًا عن القوائم التي تُثبت بها الرافعات. كادت الرافعات بالفعل أن تفلت مني في إحدى المرات؛ عندما انزلقت من يدي اضطررت إلى نطح تلك المخلوقات برأسي في الظلام لاستعادتها، وأمكنني سماع صوت اصطدامي برأس أحدهم. أعتقد أن الاشتباك هذه المرة كان أكثر عنفًا منه في معركة الغابة.
لكنني ثبت الرافعة أخيرًا في موضعها وجذبتها وانزلقت الأيدي التي تشبثت بي عني، وانقشع الظلام على الفور من عينيّ ووجدت نفسي وسط الضوء الرمادي والزوبعة التي وصفتها من قبل.
الفصل الحادي عشر
أخبرتكم من قبل عن الدوار والارتباك اللذين يصاحبان السفر عبر الزمن. ولم أكن هذه المرة أجلس جيدًا على مقعد الآلة، بل جلست مائلًا في وضع غير مستقر. تشبثت بالآلة وهي تميل وتهتز غير آبه لوجهتي، ولما وجدت في نفسي القدرة على النظر إلى أقراص عداد الآلة من جديد ذهلت من النقطة التي بلغتها. كان أحد الأقراص يسجل الأيام بالآحاد وآخر يسجل الأيام بالآلاف وثالث يسجل الأيام بالملايين ورابع بآلاف الملايين. وبدلًا من عكس اتجاه الرافعات، كنت قد جذبتها لأوغل أكثر في المستقبل، فلما نظرت إلى تلك المؤشرات وجدت عقرب القرص الذي يسجل آلاف الأيام يدور كعقرب الثواني بالساعة موغلًا في المستقبل.
اكتسبت الأشياء من حولي مظهرًا غريبًا مع مضيي نحو المستقبل. تحول الضوء الرمادي المرتعش إلى ظلام، ومع أنني تابعت السفر بسرعة مهولة، عاد وميض تعاقب الليل والنهار المرتجف — الذي ينبئ عادة عن وتيرة أبطأ — ليصبح شيئًا فشيئًا أكثر وضوحًا. أشعرني هذا بالحيرة الشديدة في البداية. أضحى تعاقب الليل والنهار ورحلة الشمس في السماء أبطأ من ذي قبل حتى بدا أنهما يمتدان عبر قرون. وأبصرت في النهاية حمرة شفق ثابتة خيمت على وجه الأرض، تخللها بين الفينة والفينة نيزك يسطع مارًّا عبر السماء المظلمة. اختفى شريط الضوء الدال على الشمس منذ وقت طويل، فقد توقفت عن الشروق، بل صعدت وهبطت غربًا وأصبحت أكبر وأكثر حمرة. اختفى كل أثر للقمر، ودارت النجوم بسرعة أبطأ فأبطأ لتحل محلها نقاط من الضوء تزحف عبر السماء. وفي آخر الأمر — قبل أن أتوقف ببعض الوقت — علقت الشمس بلا حراك في الأفق وهي تبدو حمراء هائلة الحجم؛ كقبة هائلة تتوهج بحرارة ضعيفة وتلاشت بين الفينة والفينة لوهلة. بدا في إحدى المرات أنها عادت لوهلة قصيرة لتتوهج بقوة أكبر من جديد. أدركت من تباطؤ شروقها وغروبها أن عملية الجذب أتمت عملها. استقرت الأرض مقابلة الشمس بوجه واحد مثلما يواجه القمر الأرض في زماننا بوجه واحد. بدأت بحذر شديد في عكس حركتي وقد تذكرت تجربتي السابقة المتهورة. دارت عقارب أقراص العداد بسرعة أبطأ فأبطأ حتى بدا أن القرص الذي يسجل مرور آلاف الأيام يقف بلا حراك فيما لم يعد القرص الذي يسجل مرور آحاد الأيام مجرد ضباب على مقياسه المدرج. تباطأت حركة العقارب إلى أن برزت خطوط غير واضحة لشاطئ مقفر.
توقفت ببطء شديد وجلست على آلة الزمن متأملًا المكان من حولي. لم تعد السماء زرقاء؛ خيم ظلام حالك في الجهة الشمالية الشرقية، سطعت خلاله نجوم بيضاء شاحبة بوهج قوي ثابت. وفوق رأسي اصطبغت السماء بحمرة داكنة ضاربة إلى اللون البني وخلت من النجوم، أما الجهة الجنوبية الشرقية فقد تسلل إليها المزيد من الضوء حتى اصطبغت بلون وردي متوهج حيث علق قرص الشمس الهائل الأحمر بلا حراك يشقه خط الأفق. كانت الأحجار من حولي يلونها لون أحمر فاقع، ولم أجد أثرًا للحياة في البداية سوى خضرة كثيفة كست كل مرتفع من الناحية الجنوبية الشرقية. وجدت الخضرة الكثيفة ذاتها التي يجدها المرء على طحالب الغابات أو نباتات الحزاز بالكهوف؛ النباتات التي تشبه تلك التي تنمو على الدوام على ضوء الشفق.
قبعت آلة الزمن على شاطئ مائل امتد بحره بعيدًا إلى الجنوب الغربي ليرسم أفقًا واضح المعالم ترسم خلفيته سماء مصفرة. لم أجد أمواجًا تتكسر عند الشاطئ أو أمواجًا تسري بالبحر، إذ سكن الهواء تمامًا. فقط كانت بعض الأمواج الضعيفة ترتفع وتهبط وكأن البحر يتنفس برفق لتدل على أن هذا البحر الخالد ما يزال يجري وينبض بالحياة. تشكلت على حدوده حيث تكسرت المياه عند الشاطئ أحيانًا طبقة سميكة من الملح، اصطبغت باللون الوردي تحت السماء الملتهبة بالحمرة. شعرت بثقل في رأسي، ولاحظت أنني أتنفس بسرعة كبيرة جدًّا. ذكرني هذا الشعور بالمرة الوحيدة التي جربت فيها تسلق الجبال، ومن ثم استنتجت أن الهواء أقل مما لدينا الآن.
تنامت إلى أسماعي من بعيد من أعلى هذا المنحدر الموحش صرخة عالية خشنة وأبصرت مخلوقًا يشبه فراشة بيضاء كبيرة ارتفع في السماء بميل وهو يرفرف ويدور ليختفي خلف تل صغير. كان صوته مقبضًا للصدر إلى حد أنني ارتعدت خوفًا وجلست مستقرًّا على نحو أفضل على الآلة، لكن عندما نظرت من حولي مجددًا لاحظت أن شيئًا ما كنت أحسبه كتلة حمراء من الصخر يقف على مسافة قصيرة إلى حد ما مني وقد أخذ يدنو ببطء مني، عندها أدركت أن هذا الشيء كان في واقع الأمر مخلوقًا وحشيًّا يشبه السلطعون. هل بإمكانكم أن تتخيلوا سلطعونًا بحجم تلك المنضدة، بأرجله العديدة وهي تتقدم ببطء بخطى غير ثابتة، ومخالبه الكبيرة وهي تتمايل، وقرون استشعاره الطويلة وهي تتلوى وتتحسس حولها، وعينيه المحمولتين على سويقات وهما تبرقان ناظرتين إليكم على كلا جانبي مقدمته الصلبة؟ كان ظهره مجعدًا ومزدانًا بحدبات قبيحة المظهر، ترقطه في كل مكان قشرة خضراء قبيحة. أمكنني أن أرى اللوامس العديدة بفمه المعقد وهي ترتجف وتتحسس حولها وهو يتحرك.
فيما حدقت في هذا المخلوق العجيب المشئوم وهو يزحف نحوي، شعرت بشيء يدغدغ وجنتي وكأن ذبابة حطت عليها. حاولت أن أزيحه بيدي لكنه ما لبث أن عاد وأتى على الفور شيء آخر بجانب أذني، ضربته وأمسكت بشيء يشبه الخيط انسحب سريعًا من يدي. استدرت وقد تملكني خوف مفاجئ لأجد أنني أمسكت بقرن استشعار لسلطعون وحشي آخر وقف خلفي. كانت عيناه اللتان أطل منهما الشر تتلويان على السويقات التي حملتهما وقد نضح فمه بالنهم وهوت مخالبه الكبيرة القبيحة التي تلطخت بطين طحلبي علي، فوضعت يدي على الفور على رافعة الآلة لأفصل بيني وبين تلك الوحوش بشهر من الزمان. لكنني كنت لا أزال على الشاطئ نفسه وأبصرت المخلوقات نفسها بوضوح ما إن توقفت. بدا أن العشرات منها تزحف في كل مكان تحت الضوء الكئيب الذي غمر المكان بين الخضرة الكثيفة المورقة.
لا يسعني أن أصف لكم الوحشة الرهيبة التي خيمت على العالم؛ سماء الشرق التي اصطبغت بالحمرة، الظلام الذي أسدل ستاره شمالًا، البحر الخامل المالح، الشاطئ المليء بالصخر الذي تزحف عليه تلك الوحوش البشعة البطيئة، خضرة نباتات حزاز الصخر المتماثلة التي تبدو سامة، ندرة الهواء التي تؤذي رئتي المرء، كل هذا معًا كان له تأثير مفزع. مضيت قاطعًا مائة عام نحو المستقبل لأجد الشمس الحمراء ذاتها تبدو أكبر قليلًا وأقل توهجًا والبحر الفاني نفسه، والهواء البارد نفسه، وحشد القشريات البرية ذاته يزحف دخولًا وخروجًا بين الأعشاب الضارة الخضراء والصخر الأحمر، وفي سماء الغرب أبصرت خطًّا منحنيًا شاحبًا يرسم ما يبدو كقمر جديد هائل الحجم.
من ثم مضيت في سفري متوقفًا بين الفينة والفينة، قافزًا قفزات كبيرة عبر الزمن تقدر بآلاف الأيام، وقد جذبني غموض مصير الأرض، متأملًا بدهشة عجيبة الشمس وهي تزداد حجمًا وتتوهج بوهج أضعف في سماء الغرب، والحياة وهي تنحسر عن وجه الأرض. وفي النهاية وبعد ثلاثين مليون عام من الآن، أضحت القبة الحمراء الكبيرة الساخنة التي رسمتها الشمس تغطي ما يقرب من عُشر السماء المظلمة، وهنا توقفت في رحلتي مجددًا، فقد اختفى جيش السلطعونات الزاحفة، وبدا الشاطئ الأحمر بلا أثر للحياة عليه خلا نبات حشيشة الكبد الأخضر الداكن المائل إلى الزرقة ونبات الحزاز، وقد رقطته نقاط بيضاء. داهمني برد قارس، وهبطت مرارًا قطع رقيقة من الثلج وهي تدور في الهواء. وبرق الثلج تحت السماء الداكنة على ضوء النجوم. تبينت قمة متموجة من التلال الصغيرة البيضاء المتوردة، وحدّت قطع من الثلج حافة البحر، فيما طفت قطع أخرى إلى نقاط أبعد، لكن ظل القطاع الأكبر من مياه البحر المالحة — التي بدت حمراء قانية في ظل حمرة الغروب الأبدية — غير متجمد.
بحثت حولي عن أثر للحياة الحيوانية، لكنّ هاجسًا ما لا أدرك كنهه أبقاني ملازمًا لمقعد آلة الزمن. غير أنني لم أبصر شيئًا على الأرض أو السماء أو البحر. كان الوحل الأخضر الذي كسا الصخور هو كل ما يشهد على أن الحياة على وجه الأرض لم تفن بعد. برزت بالبحر ضفة رملية ضحلة المياه وانحسر الماء عن الشاطئ، وخُيل لي أنني أرى كيانًا أسود اللون يرفرف جيئة وذهابًا حول هذه الضفة، لكنه توقف عن الحركة عندما نظرت إليه، فقدرت أن عينيّ خدعتاني، وأنه لم يكن إلا صخرة. توهجت النجوم في السماء بوهج قوي وبدا لي أنها لا تتلألأ إلا قليلًا.
لاحظت فجأة أن إطار قرص الشمس المستدير قد اختلف رسمه غربًا، إذ تقعر انحناؤه وتداخل به شيء حجب جزءًا منه، نما شيئًا فشيئًا. ربما مرت علي وهلة وأنا أحدق في هذا الظلام الذي زحف على النهار، ثم أدركت أن كسوفًا شمسيًّا يوشك على البدء. كان القمر أو كوكب عطارد يمضي مارًّا بقرص الشمس. حسبت في البداية بطبيعة الحال أنه القمر، لكن ثمة الكثير من الأسباب التي تدعوني إلى الاعتقاد أن ما رأيته كان في واقع الأمر مرورًا لكوكب داخلي على مقربة شديدة من الأرض.
تزايد الظلام، وبدأت رياح باردة تهب بنفحات قوية منعشة من الشرق، وتزايد عدد قطع الثلج التي حملها الهواء. سمعت عند حافة البحر صوت رقرقة الماء وصفير الريح، لكن بخلاف أصوات الجماد تلك خيم على العالم الصمت. الصمت؟ من الصعب أن أصفه لكم. كل الأصوات البشرية وثغاء الماشية وزقزقة العصافير وطنين الحشرات وأصوات الحركات التي تصنع خلفية لحياتنا انتهت. مع اشتداد الظلام تزايد عدد قطع الثلج التي تهبط وهي تدور في الهواء. تراقصت أمام عينيّ واشتدت برودة الهواء أكثر، وفي النهاية لم تلبث قمم التلال البعيدة البيضاء أن اختفت تحت جنح الظلام. تحول النسيم إلى ريح تئن، وأبصرت الظل الداكن الذي توسط مشهد الكسوف يميل صوبي. لم يمض وقت طويل قبل أن تصبح النجوم الشاحبة هي كل ما يظهر. كل شيء آخر غمره الظلام الدامس، وأظلمت السماء تمامًا.
تملكني الخوف من هذا الظلام الدامس، وأعياني البرد الذي تسلل إلى عظامي والألم الذي شعرت به مع التنفس. ارتجفت وتملكني شعور عارم بالغثيان، ثم برز طرف الشمس بالسماء كقوس ملتهب، فنهضت عن الآلة لأستجمع قواي من جديد، لكنني شعرت بالدوار وبأنني غير قادر على احتمال رحلة العودة. وفيما وقفت شاعرًا بالإعياء والحيرة أبصرت مجددًا الشيء الذي تحرك عند الضفة الرملية فوق ماء البحر الذي اصطبغ بالحمرة، ولم يعد لدي شك في أنه شيء يتحرك. كان مستديرًا، ربما بحجم كرة قدم أو أكبر قليلًا، تدلت لوامسه منه، وبدا أسود اللون على صفحة الماء الأحمر القاني المتموج ووثب وثبات متقطعة في أرجاء المكان. هنا شعرت بأنه سيغشى علي، لكن خوفي الرهيب من التمدد بلا حيلة خلال هذا الشفق المريع في هذا الزمان البعيد حثني على الصمود وأنا أصعد إلى مقعد الآلة من جديد.
الفصل الثاني عشر
من ثم عدت. ظللت لوقت طويل فاقد الشعور بما حولي وأنا على آلة الزمن. استؤنف التعاقب السريع لليل والنهار، وعاد إلى قرص الشمس لونه الذهبي، وعادت إلى السماء زرقتها، وتنفست بمزيد من السهولة، وانبسطت وانكمشت معالم الأرض من حولي، وتراجعت عقارب أقراص عداد الآلة. وأخيرًا أبصرت من جديد ظلال المنازل الشاهدة على الحضارة البشرية الآيلة إلى الزوال، وتبدلت بدورها وزالت لتحل محلها أخرى. وعندما بلغ عقرب عداد ملايين الأيام الصفر، أبطأت سرعة الآلة، وبدأت أتبين معمارنا الجميل المألوف، وعاد عقرب عداد آلاف الأيام إلى نقطة البداية، وتبدل الليل والنهار بسرعة أبطأ فأبطأ وعادت جدران مختبري القديم لتحيط بي من جديد، فأبطأت سرعة الآلة برفق شديد.
لكنني لاحظت أمرًا بسيطًا بدا لي غريبًا. أعتقد أنني أخبرتكم بأنني عندما انطلقت في رحلتي سارت السيدة واتشت في أرجاء الغرفة بسرعة بدت لي كسرعة الصاروخ قبل أن تصل سرعة سفري إلى سرعة كبيرة، لكنني في رحلة عودتي مررت مجددًا بتلك اللحظة التي جالت فيها في أرجاء مختبري. بدا أن جميع تحركاتها عكس حركاتها السابقة. انفتح الباب في نهاية الغرفة وسارت بخفة وهدوء من بداية المختبر وهي توليني ظهرها، ثم اختفت خلف الباب الذي دخلت منه من قبل، قبل تلك اللحظة بدا لي لوهلة أنني رأيت هيليار لكنه مضى بسرعة البرق.
ثم أوقفت آلة الزمن لأجد حولي مختبري القديم المألوف وأدواتي وأجهزتي كما تركتها بالضبط. نهضت عن الآلة وأنا أرتجف بقوة، وجلست على مقعدي مرتعدًا لعدة دقائق، ثم أصبحت أكثر هدوءًا. أحاط بي مختبري القديم من جديد الذي كان كما تركته بالضبط. لعلي نمت هناك وكأن كل شيء كان حلمًا.
غير أن الأمر لم يكن كذلك بالضبط! فقد بدأت الآلة رحلتها من الركن الجنوبي الشرقي لمختبري، لكنها استقرت في الركن الشمالي الغربي في مواجهة الحائط حيث شاهدتموها، وهي المسافة ذاتها من المرج الأخضر الصغير إلى قاعدة تمثال أبي الهول الذي حملت إليه مخلوقات المورلوك آلتي.
توقف عقلي عن العمل لبرهة ونهضت وسرت عبر هذا الرواق وأنا أعرج لأن عقبي ظل يؤلمني، وشعرت بأن جرحه قد تلوث بشدة، وأبصرت جريدة بال مول جازيت اليومية على المنضدة القريبة من الباب ووجدتها بتاريخ اليوم بالفعل، ثم نظرت إلى الساعة فوجدتها قد بلغت قرابة الثامنة، ثم سمعت أصواتكم وصوت قعقعة الصحون، وترددت في الدخول إذ شعرت بالإعياء والتعب، ثم شممت رائحة اللحم الطيب المغذي، وأنتم تعرفون باقي القصة. اغتسلت وتناولت العشاء وها أنا ذا أقص عليكم قصتي.»
سكت المسافر عبر الزمن عن الكلام ثم قال بعد برهة: «أعلم أنكم ستجدون الأمر برمته متعذر التصديق تمامًا. أما أنا فالشيء الوحيد الذي لا أصدقه هو أنني هنا الليلة في هذه الغرفة المألوفة أطالع وجوهكم المألوفة وأحدثكم عن هذه المغامرات العجيبة.»
ثم نظر إلى الطبيب، وتابع كلامه قائلًا: «لا، لا أتوقع أن تصدقوا قصتي. اعتبروها أكذوبة أو نبوءة. لنقل إنني حلمت بها في مختبري. لنفترض أنني كنت أفكر في مصير الجنس البشري إلى أن ابتدعت هذه القصة الخيالية. انظروا إلى إصراري على حقيقتها كلمسة فنية أضفيت إليها لتكون أكثر تشويقًا. ما رأيكم فيها على اعتبار أنها قصة؟»
ثم حمل غليونه وبدأ كعهده في النقر به على قضبان موقد المدفأة. خيمت لحظة من الصمت ثم بدأت الكراسي تطقطق وأخذت الأحذية تحك الأرض، فأبعدت عينيّ عن وجه المسافر عبر الزمن وتأملت مستمعيه. كانوا يجلسون في الظلام وتمر أمامهم بقع ضئيلة ملونة. بدا الطبيب مستغرقًا في تأمل مضيفنا، أما المحرر فقد أنعم النظر من وراء السيجار الذي يدخنه — والذي كان السيجار السادس — فيما فتش الصحفي جيبه باحثًا عن ساعته، وجلس الآخرون بلا حراك.
نهض المحرر متنهدًا وقال وهو يضع يده على كتف المسافر عبر الزمن: «من المؤسف حقًّا أنك لست مؤلف قصص!»
قال المسافر عبر الزمن: «ألا تصدق القصة؟»
«حسنٌ …»
«لم أعتقد أنك ستصدقها.»
ثم التفت المسافر عبر الزمن إلينا وقال: «أين أعواد الثقاب؟» ثم أشعل أحدها وقال وهو يدخن غليونه: «الحقيقة … أنا نفسي أجد صعوبة في تصديقها … لكن …»
ثم تأمل الزهور البيضاء الذابلة على المنضدة الصغيرة وقلب يده التي تحمل الغليون، فلاحظت أنه ينظر إلى ندبات ما على مفاصل أصابعه لم يلتئم جرحها تمامًا.
نهض الطبيب وأتى إلى المصباح وتأمل الزهور، ثم قال: «زهور غريبة.» ومال عالم النفس للأمام لينظر إليها وهو يمد يده ليتأملها.
قال الصحفي: «أؤكد أن الساعة الآن الواحدة إلا الربع. كيف سنعود إلى منازلنا؟»
قال عالم النفس: «ثمة العديد من سيارات الأجرة بالمحطة.»
قال الطبيب: «إنها زهور عجيبة، لكنني قطعًا لا أعلم تصنيفها الطبيعي. هل تسمح لي بأن آخذها؟»
تردد المسافر عبر الزمن ثم قال فجأة: «بالطبع لا.»
سأله الطبيب: «من أين جئت بها حقًّا؟»
وضع المسافر عبر الزمن يده على رأسه وقال وكأنه يحاول أن يتمسك بفكرة حيرته: «وضعتها وينا في جيبي عندما كنت مسافرًا عبر الزمن.» ثم حدق في أرجاء الغرفة وقال: «أقسم أنني أكاد أنسى كل شيء. هذه الغرفة وأنتم وأجواء الحياة اليومية. يصعب علي تذكر كل هذا. هل صنعت آلة زمن أم نموذجًا لها؟ أم أن الأمر برمته كان حلمًا؟ يُقال إن الحياة حلم، حلم ثمين بسيط في بعض الأحيان، لكنني لا أستطيع احتمال حلم آخر لا يصدقه عقل. هذا جنون، ومن أين أتى هذا الحلم؟ … يجب أن ألقي نظرة على هذه الآلة. إن كانت هناك واحدة!»
ثم التقط المصباح بسرعة وحمله، وهو يتوهج بضوء أحمر وسار به عبر الباب إلى الرواق، فتبعناه لنجد بالفعل الآلة تقبع في ضوء الغرفة المرتعش؛ قصيرة وسميكة البناء، قبيحة المظهر، تجنح على أحد جانبيها، من النحاس الأصفر والأبنوس والعاج وكوارتز لامع نصف شفاف متين، إذ مددت يدي وتحسست درابزينها. تلطخ عاجها ورقطته بقع بنية اللون وكسا الأجزاء السفلية منها بعض الأعشاب والطحالب واعوج أحد قضبانها.
وضع المسافر عبر الزمن المصباح على المقعد ومرر يده على الدرابزين التالف، ثم قال: «لا بأس. القصة التي أخبرتكم بها حقيقية. آسف لأنني جلبتكم إلى هنا في هذا البرد.» ثم حمل المصباح وعدنا أدراجنا إلى غرفة التدخين في صمت تام.
دلف معنا إلى الصالة وساعد المحرر على ارتداء معطفه، ثم تأمله الطبيب وأخبره مترددًا أنه يعاني الإرهاق من العمل، فضحك من ذلك ضحكًا شديدًا. أذكر أنه نادى علينا متمنيًا لنا ليلة طيبة وهو يقف عند باب بيته المفتوح.
ركبت سيارة أجرة مع المحرر. رأى الأخير أن القصة «أكذوبة مصطنعة»، أما أنا فلم أستطع أن أحسم موقفي منها. كانت إلى حد بعيد خيالية لا يصدقها عقل، غير أنها سُردت على نحو جاد جدًّا وشديد الإقناع. ظللت مستيقظًا لأغلب الليل أفكر بها وقررت أن أزور المسافر عبر الزمن اليوم التالي مجددًا. لما قصدته كان مختبره خاويًا. حدقت لوهلة في آلة الزمن ومددت يدي ووضعتها على رافعتها، فمالت الآلة التي يبدو عليها الضخامة والمتانة وكأنها غصن هزته الريح. ذهلت بشدة من عدم استقرارها، لكنني تذكرت على نحو عجيب أيام طفولتي عندما كنت أُمنع من التدخل فيما لا يعنيني. عدت عبر الرواق، لألقى المسافر عبر الزمن في غرفة التدخين. كان قادمًا من منزله حاملًا كاميرا صغيرة تحت إبطه وحقيبة ظهر تحت ذراعه الأخرى. ضحك عندما رآني ومد مرفقه ليصافحني ثم قال: «أنا منهمك في العمل على تلك الآلة.»
فسألته: «لكن أليس الأمر خدعة؟ هل تسافر حقًّا عبر الزمن؟»
فأجابني: «صدقًا أسافر حقًّا.» بدا صادقًا وهو ينظر في عينيّ، ثم ساوره التردد وجالت عيناه في أرجاء الغرفة ثم قال: «أعلم لم أتيت، وهذا أمر طيب منك. ثمة بعض المجلات هنا. إن مكثت لتناول الغداء معي، فسأثبت لك بما لا يدع مجالًا للشك سفري عبر الزمن، بعينات وبكل ما أمكن. هل تسمح لي بالمغادرة الآن؟»
وافقت وأنا لا أكاد أفهم ما يرمي إليه، فأومأ برأسه ومضى إلى الرواق، وسمعت باب المختبر يغلق خلفه. جلست على مقعد والتقطت إحدى الصحف اليومية، ثم تساءلت: ما الذي سيفعله قبل موعد الغداء؟ ثم ذكرني فجأة إعلان بالصحيفة بأنني أعطيت وعدًا بأن ألتقي الناشر ريتشاردسون اليوم في الساعة الثانية. نظرت إلى ساعتي وأدركت أنني لا أستطيع أن أفوت هذا الموعد فنهضت وسرت عبر الرواق لأخبر المسافر عبر الزمن بذلك.
لكن عندما أمسكت بمقبض الباب، سمعت صيحة قصيرة عجيبة في نهاية الغرفة ثم صوت فرقعة ودوي مكتوم. دارت حولي زوبعة من الهواء وأنا أفتح الباب، وسمعت بداخل الغرفة صوت زجاج مهشم يسقط على الأرض، واختفى المسافر عبر الزمن. بدا لي أنني أرى طيفًا غير واضح وكأنه لشبح وسط زوبعة من اللون الأصفر والأسود لوهلة. كان شفافًا إلى حد أن المقعد الذي قبع خلفه كان واضحًا تمامًا بفرشه المليء بالرسوم، لكن هذا التوهم اختفى عندما فركت عينيّ، واختفت معه آلة الزمن. كان طرف المختبر الآخر خاويًا تمامًا، خلا بعض الغبار الثائر الذي أخذ يستقر على الأرض واقتحم جزء من ضوء الشمس على ما يبدو الغرفة.
شعرت بدهشة عارمة. كنت أعلم أن شيئًا عجيبًا قد حدث لكنني لم أستطع لوهلة أن أدرك كنهه، وفيما وقفت في المختبر أحدق فيما حولي، فُتح الباب المؤدي إلى الحديقة وبرز من خلفه الخادم.
نظر كل منا إلى الآخر، ثم بدأت الأفكار تتبادر إلى ذهني.
سألت الخادم: «هل قصد السيد … هذا الاتجاه؟»
فأجاب الخادم: «كلا يا سيدي، لم يقصد أحد هذا الاتجاه. لقد توقعت أن أجده هنا.»
وهنا فهمت الأمر. مكثت مع أنني قد أجازف بإحباط ريتشاردسون أنتظر المسافر عبر الزمن والقصة التالية الأغرب التي سيدلي بها والعينات والصور التي سيجلبها معه، لكنني بت أخشى أن أُضطر للانتظار باقي حياتي. اختفى المسافر عبر الزمن منذ ثلاث سنوات، وكما يعلم الجميع الآن فإنه لم يعد قط.
الخاتمة
لا يملك المرء سوى أن يتساءل: هل سيعود المسافر عبر الزمن يومًا ما؟ لعله قفز عبر الأعوام إلى الماضي، وسقط في أيدي برابرة العصور البدائية الحجرية الذين يحتسون الدماء، أو في مهاوي البحر الطباشيري أو بين سحالي العصور الجوراسية المروعة، تلك الزواحف الضخمة المتوحشة. بل لعله يتجول الآن — إن جاز هذا التعبير — على بعض الشعاب المرجانية الصخرية التي تسكنها البليزوصورات أو على مقربة من بحار العصر الترياسي المالحة الموحشة. أم تراه قفز إلى المستقبل، إلى أحد العصور الأقرب التي احتفظ فيها البشر ببشريتهم، حيث اكتُشفت إجابات كل ألغاز زماننا وحلت مشكلاته المزعجة؟ إلى عصر نضوج الإنسانية؛ أنا عن نفسي لا أعتقد أن الأيام اللاحقة التي اتسمت بضعف التجريب وساد فيها التفكك والحروب والصراعات هي حقًّا نهاية المطاف للبشر! هذا هو رأيي. لقد عهدت المسافر عبر الزمن متشائمًا في نظرته إلى تقدم البشرية؛ فقد سبق أن تناقشنا في هذا الشأن قبل صنع آلة الزمن بوقت طويل. كان يرى أن الحضارة البشرية المتنامية ليست إلا ركامًا تافهًا سينهار حتمًا على رءوس صانعيه ويدمرهم في النهاية. وإن صح ذلك، فإننا لا نملك سوى الحياة متجاهلين ذلك. لكن ما يزال المستقبل مظلمًا، وغامضًا، ومجهولًا لي إلى حد بعيد، تتخلله في أجزاء متناثرة منه القليل من النقاط المضيئة التي أضاءت بالذكريات التي رواها المسافر عبر الزمن. وإنني لأجد عزاءً في زهرتين بيضاوين عجيبتين ذبلتا الآن وتسطحتا وصارتا هشتين، لتشهدا على أن الامتنان والعطف المتبادل سيظلان يسكنان قلب الإنسان، حتى عندما يذهب عنه ذكاؤه وقوته.
نبذة عن المؤلف
وُلد هربرت جورج ويلز في ضاحية بروملي بمقاطعة كِنت عام ١٨٦٦. وبعد العمل صبيًّا لدى تاجر أقمشة ومعلمًا أثناء دراسته، حصل على منحة دراسية في كلية العلوم الطبيعية في جنوب كنسينجتون عام ١٨٨٤، حيث درس على يد توماس هنري هكسلي، وحصل على شهادة في الأحياء مع مرتبة الشرف من الدرجة الأولى، واستمر في التدريس، لكن أجبرته إصابة لحقت به على التقاعد. عاش فقيرًا في لندن، وكان يعمل مدرسًا، إلى جانب تجاربه في الصحافة وكتابة القصص، ونشر كتبًا مدرسية في مجال الأحياء والفيسيولوجيا المرضية، لكن رواية «آلة الزمن» (١٨٩٥) كانت نقطة انطلاقه في الأدب. بدأ يؤلف أيضًا كتبًا وكتيبات سياسية واجتماعية إلى جانب مؤلفاته من القصص القصيرة والروايات العلمية. وفي مطلع القرن العشرين ازداد استغلال ويلز للأدب الروائي كمنبر لعرض الأفكار والرؤى عن الحكومة العالمية التي شغلت باله، لكنه تنبأ بأن الرواية نفسها ستتدهور لتحل محلها السير الذاتية النزيهة. وبعد عام ١٩٢٠ تقريبًا تحول الاهتمام النقدي إلى خليفته، ألدوس هكسلي. عززت الحرب العالمية الثانية وفاجعة هيروشيما الفكر المتشائم الذي صاحب ما كان لديه من رؤى وآمال حماسية. ظل ويلز يعمل حتى وفاته عام ١٩٤٦، وألف نحو أربعين كتابًا في العقدين الأخيرين من حياته.